فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الموسوعة العلمية > معلومات ثقافيه عامه

معلومات ثقافيه عامه نافذتك لعالم من المعلومات الوفيره في مجالات الثقافة و التقنيات والصحة و المعلومات العامه



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم April 1, 2009, 08:21 AM
 
ما هو الزمن؟؟

لا نتناول في هذا البحث مشكلة التوقيت أو التقويم، لكن حديثنا سيتركز على مفهوم الزمن. ولإيضاح الفارق بينهما، نسوق المثال التالي عن التوقيت: من المعروف أن الوحدة الأساسية البنيوية في الكون هي المجرة؛ والمجرة galaxy هي تجمُّعٌ من عدة مئات من آلاف ملايين النجوم. أما النجم فهو الجسم الكوني الذي يطلق طاقته من ذاته بفعل التفاعلات النووية الاندماجية في باطنه. على أن ما يهمنا هنا هي الكيفية التي تموت النجوم وفقًا لها. ففي أحد النماذج ينفجر النجم في نهاية حياته انفجارًا مأساويًّا هائلاً، في ما يُعرَف ب"المتجدِّد الجبار" Supernova، ويضيء كلَّ المجرة التي ينتمي إليها، حتى يصل إشعاعُه إلى أقاصي الكون. إضافة أخرى لا بدَّ منها، تتعلق بواحدة لقياس المسافات في الكون هي السنة الضوئية. إن السنة الضوئية، لا كما قد يوحي المصطلح للوهلة الأولى، هي واحدة لقياس المسافة؛ وهي تساوي المسافة التي يقطعها الضوءُ خلال سنة زمنية كاملة، مرتحلاً بسرعته المعهودة البالغة 300,000 كم/ثا.
نفترض وجود مجرتين على بُعد 60,000,000 سنة ضوئية إحداهما عن الأخرى، وأن انفجارًا لمتجدِّد جبار وقع في المجرة أ. يتفق العلماء من كوكب مُنْتَمٍ لهذه المجرة على اعتبار الانفجار المذكور بداية تقويمهم. بعد 10,000,000 سنة يحدث انفجار مماثل في المجرة ب، يعتبره علماءٌ على كوكب من هذه المجرة بداية التقويم عندهم. يبلغ وميضُ الانفجار المجرة ب بعد انطلاقه من المجرة أ ب60,000,000 سنة. يؤرخ علماء المجرة ب لهذا الحدث على أنه وَقَعَ في السنة 50,000,000، بينما كان علماء المجرة أ قد ثبَّتوا وقوعه في السنة صفر. على نحو مُناظر، يؤرخ علماء المجرة أ انفجار المجرة ب في السنة 70,000,000 بينما كان علماء المجرة ب قد اعتبروه بداية التقويم. نتوصل مما تقدَّم إلى أن مسألة التوقيت والتقويم هي مسألة نسبية صرفة، قد نحسبها ذات طبيعة مطلقة بسبب إيقاعات الحياة اليومية.
تهدينا البداهة إلى حقيقة أن الزمن ليس ظاهرة مستقلة، ولكنه تجريد للحركة والأحداث في معنى من المعاني. تذكر إحدى روايات الخيال العلمي أن حاسبًا إلكترونيًّا حاول، في سياق بحثه عن طبيعة الزمن، دراسة فترة لازمنية، فعمد إلى إيقاف الزمن. لم يخطر في بال الحاسب أن إيقاف الزمن يُفضي إلى توقُّف الحركة وإلى توقُّفه هو، بالتالي، وإلى تجمد العالم بأسره! ولعل إدراكنا المحدود للزمن يُعزى إلى حقيقة كونه لغةً للتعامل مع الأحداث.
إن للتغيرات التي تطرأ على أنماط الحركة أثرًا كبيرًا في السيالة الزمنية. تذكر المخطوطات اليونانية أن كسوفًا كليًّا للشمس حَدَثَ في أثينا يوم 14 كانون الثاني سنة 484 م. وقد أشارت الحسابات الأولية إلى استحالة مرور شريط الكسوف من أثينا؛ لكن عندما أُخِذَ في الاعتبار التغيرُ الذي طرأ على نمط دورة الأرض حول نفسها منذ ذلك التاريخ، تأكدتْ صحةُ المخطوطات المذكورة: ذلك أن الأرض تبطئ في معدِّل دورتها حول نفسها، وأن طول اليوم يزداد على نحو مضطرد.
لقد اعتُمِدَتْ – ولازالت تُعتمَد – ظاهرةُ الحركة في قياس الزمن. فبدءًا من الساعة الرملية وانتهاءً بساعة ليزر الميثان، كانت الحركة – ولازالت – عماد ذلك القياس. إن المتغيِّر الزمني الذي يدخل القوانين الفيزيائية اصطلاحًا هو تجريدٌ مُستمَدٌّ من خصائص حركة معينة، كعدد هزات نواس مرجعي أو موقع نجم على القبة السماوية.
إننا لا نعرف ما هو الزمن على وجه الدقة، لكن المخ الإنساني يستطيع صَوْغَ مجرَّداتٍ في خضمِّ منظومة من المجاهيل. تتجسد شجاعة المفكرين في تبنِّيهم هذه المجرَّدات والانطلاق بها إلى الأمام. ولا يوجد هنا ما يدعو إلى الإحباط؛ إذ إن أهم الأفكار هي تلك التي لا يمكن تعريفها.
ومثلما هي حالة المجرَّدات كذلك هو أمر النماذج. ما من أحد منَّا يملك طريقة لتخلُّل الواقع. فهو، عندما يتعامل مع كلِّ ما في محيطه ويخاطبه، إنما يتعامل مع النماذج العقلية لما في ذلك المحيط ويخاطبها. والعقل، من هذا المنظور، هو كون كامل. لا تختلف النماذج في درجة تجريدها عن المجرَّدات؛ إذ إن بزوغ النموذج ودخوله في العقل لهو تيار زمني في حدِّ ذاته، يرفد السيالة الزمنية الوحيدة الاتجاه والممتدة من الأزل إلى الأبد.
فما الذي يجعلنا أسرى الاتجاه الوحيد للسيالة الزمنية؟ ولماذا لا نستطيع التجول في الزمان بحرية مثلما نفعل في المكان؟
إن في إمكاننا نَمْذَجَةُ الأحداث الكونية في عموميتها، وذلك بنسبة الزمن إلى تغيرات مادية ملحوظة، كتغير الكثافة الوسطية للمادة في الكون أو تبنِّي محاور زمنية مختلفة الاستطالة، وفق ما تفرضه نظرية النسبية Relativity.
ملاحظة لا بدَّ من إيرادها قبل المضيِّ في بحثنا: فتعريف الزمن في الفيزياء يكاد أن يكون أقل تعريفات الزمن عمقًا بالمقارنة مع المناهج الفلسفية المتباينة. تريحنا نسبية أينشتاين – ولو إلى حين – من عناء تصوُّر برهة زمنية مطلقة بالغة الامتداد وَهَبَها استيلاد الكونُ للحياة. ففي النسبية، لكلِّ مرجع مكانُه وزمانُه، والزمان والمكان موجودان بقدر وجود المادة.
تفقد هيمنة وحدةُ الاتجاه في السيالة الزمنية الكثيرَ من مغزاها ضمن أُطُر النسبية، ويندمج المكانُ والزمان في عالم رباعي الأبعاد، يظهر فيه الزمانُ كندٍّ للمكان. على أن الفيزيائيين يعجزون عن تعليل ذلك، ويُحبَطون أيما إحباط حيال تساؤل من النمط التالي: ما الذي يجعل العالم رباعي الأبعاد؟ لماذا لم يكن مبنيًّا، مثلاً، من عشرين بُعدًا؟
تؤكد النسبية أن المُدَد الزمنية تزداد وتتسع إذا كانت سرعةُ المرجع المعتبَر كبيرة. ولما كانت النسبية تُعنى بالحركة النسبية بين مرجعين، فإن المدة الزمنية الخاصة بمرجع معيَّن والمَقيسة في مرجع آخر ستتمدد، شأنها في ذلك شأن مدة المرجع الآخر لدى قياسها في المرجع الأول. إن الزمن سيظهر في نظرية النسبية وكأنه ذو طابع ذاتي.
وهكذا، إذا ازدادت سرعة الجسم امتدَّ آنُه. على أن النسبية لا تسمح بالتسارع حتى سرعة الضوء. وفي النسبية، يشكِّل الضوء حيزًا قائمًا في ذاته، يمتد آنُه إلى الأبد. تستحيل السرعات فوق الضوئية في النسبية، لكن السنوات الأخيرة شهدت كَسْرًا لهذه المصادرة؛ إذ لا يستبعد العلماء المتأخرون وجود قُسَيْمات particles تتحرك بسرعات أعلى من سرعة الضوء. إلا أن الاتساق النسبوي يفرض أن تكون حركة هذه القُسَيْمات نحو الماضي؛ لذا فهي لا تحمل من المعلومات – إن وُجِدَتْ – إلا النزر اليسير.
------
نهاية الجزء الأول
يتبع....
------------------
من محاضرة للمهندس فايز فوق العادة
رئيس الجمعية الجمعية الكونية السورية
رد مع اقتباس
  #2  
قديم April 2, 2009, 07:21 AM
 
رد: ما هو الزمن؟؟

جزاك الله خيرا
تقبل مروري
دمت مبتسم
رد مع اقتباس
  #3  
قديم April 2, 2009, 08:26 AM
 
رد: ما هو الزمن؟؟

الجزء الثاني:
تؤكد النسبية أن المُدَد الزمنية تزداد وتتسع إذا كانت سرعةُ المرجع المعتبَر كبيرة. ولما كانت النسبية تُعنى بالحركة النسبية بين مرجعين، فإن المدة الزمنية الخاصة بمرجع معيَّن والمَقيسة في مرجع آخر ستتمدد، شأنها في ذلك شأن مدة المرجع الآخر لدى قياسها في المرجع الأول. إن الزمن سيظهر في نظرية النسبية وكأنه ذو طابع ذاتي.
وهكذا، إذا ازدادت سرعة الجسم امتدَّ آنُه. على أن النسبية لا تسمح بالتسارع حتى سرعة الضوء. وفي النسبية، يشكِّل الضوء حيزًا قائمًا في ذاته، يمتد آنُه إلى الأبد. تستحيل السرعات فوق الضوئية في النسبية، لكن السنوات الأخيرة شهدت كَسْرًا لهذه المصادرة؛ إذ لا يستبعد العلماء المتأخرون وجود قُسَيْمات particles تتحرك بسرعات أعلى من سرعة الضوء. إلا أن الاتساق النسبوي يفرض أن تكون حركة هذه القُسَيْمات نحو الماضي؛ لذا فهي لا تحمل من المعلومات – إن وُجِدَتْ – إلا النزر اليسير.
غدت "مفارقة التوأمين" المنسوبة إلى أينشتاين في عداد الكلاسيكيات. تتلخص المفارقة بأن أحد التوأمين يغادر الأرض في سرعة كبيرة، ليعود ويجد توأمَه قد تقدَّم عليه في السن. ولما كانت النسبية، كما تقدَّم، تُعنى بالحركة النسبية بين مرجعين، لِمَ لا نعتبر أن التوأم الباقي على الأرض هو الذي تَسارَع وغادر التوأم الأول؛ وبالتالي، سيجد أن ذلك التوأم هو الذي عمَّر أكثر منه. يبدو هذا الأمر صحيحًا للوهلة الأولى، وأن الأمر ينطوي على مفارقة بالفعل. فمادامت الحركة نسبية فإن أيًّا من التوأمين سيحكم أن توأمه الآخر هو الذي غادره. وإن كان على علم بالنسبية، فإنه سيحكم أن التوأم الآخر ذاته سيبقى أكثر شبابًا منه. لكن ما يحدث بالفعل هو أن التوأم الباقي على الأرض هو الذي يشيخ قبل التوأم الآخر. فليس في الأمر أية مفارقة paradox. وما علينا إلا العودة إلى مبدأ كوني أساسي، اعتمده أينشتاين في صوغ نظريته، ألا وهو مبدأ ماخ: تصور ماخ أن الكون كلٌّ موحَّد، وأن محاولة الحركة في جزء من أجزائه تُقابَل بمحاولات كبح من قبل الأجزاء الأخرى فيما دُعِيَ بالعطالة inertia.
وفي صورة أدق، فإن الحركة ليست نسبية تمامًا في مثالنا؛ وكان يقدَّر لها أن تكون كذلك لو احتوى الكونُ التوأمين وحسب، وفيما عداهما كان خاليًا. لقد تَسارَع أحد التوأمين ليس بالنسبة إلى التوأم الأول وحسب، ولكن بالنسبة إلى مجمل المادة في الكون؛ وفي هذا ما فيه من كَسْر للتناظر. فلو تَسارَع أحدهما لبدا الآخر متسارعًا بالنسبة إلى الأول، ولَحافَظَ كلٌّ من التوأمين على شبابه بالنسبة إلى التوأم الآخر. لكن الواقع هو أن الكون يضج بالمادة، وأن أحد التوأمين تَسارَع بالنسبة إلى مادة الكون، ولم يعد التوأمان على قدم المساواة بالنسبة إلى تلك المادة. نذكر، في هذا السياق، أن المرجع الفيزيائي المتسارع بالنسبة إلى مادة الكون ينقل آثار هذه الحالة إلى البشر المرتبطين به. ولا أدل على ذلك مما يعانيه البعض من دوار وصداع لدى تسارُع الطائرة أو القطار الذي يُقِلُّهم. باختصار، إن الدوار سببُه التسارُع بالنسبة إلى مادة الكون.
على أن المفارقات الزمنية في النسبية لا تتوقف عند حدود هذه المفارقة. فالأبحاث المستجدة تأتي على الدوام مؤيدة لفكر أينشتاين. تبيَّن في الأبحاث الأخيرة أن الفراغ يطلق على الدوام نتفًا بالغة الضآلة من الطاقة ويمتصها. هكذا، إذا عَبَرَ ذاك الفراغَ متحركٌ بسرعة منتظمة – منتظمة بالطبع بالنسبة إلى مجمل مادة الكون – فلن يتحسَّس هذه الظاهرة؛ إذ إن الإطلاق والامتصاص المذكورين سيبدوان متوازنين بالنسبة إليه. ينطبق ذلك على مَن يتسارع تسارُعًا صغيرًا بالنسبة إلى مادة الكون في حدود تقريبٍ مقبولة. على أن الأمر يتغير جذريًّا عندما يكبر هذا التسارع؛ إذ ينكسر التوازن بين الامتصاص والإطلاق الآنفي الذكر؛ وإذ ذاك يحدث اختلالٌ في تعامل المتحرك مع فيض الطاقة الكونية من حوله، وتأخذ آثار بطء الزمان طريقها إليه.
يتبدى هذا الاختلال في نطاق محلِّي – أي بالنسبة إلى المتحرك نفسه – بارتفاع في درجات الحرارة. ولا يتعلق هذا الارتفاع بالاحتكاك؛ فالمتحرك المفترَض يمخر عباب الفضاء الكوني، الذي نعتبره هنا فارغًا تمامًا، في حيِّز الحركة، لكن النجوم البعيدة تملأ الفضاء السحيق. وبشكل أدق، إن ظاهرة ارتفاع درجة الحرارة في هذه الحالة هي أشبه بظاهرة تباطؤ الزمن: إنها ليست ميكانيكية أو حتى فيزيائية بالمعنى التجريبي القريب، بل هي قضية ظاهرتية كونية تتعلق بالكون وبالوجود بشكل إجمالي. ومثل هذا الأمر يحدث في الثقوب السوداء Black Holes: فهناك يتباطأ الزمن إلى حدِّ التوقف؛ ذلك أن الجذب الثقالي القوي يكافئ، من وجهة نظر أينشتاين، التسارع الكبير؛ وأيضًا ترتفع الحرارة في جوار الثقب الأسود للسبب ذاته. أما الثقب الأسود فهو تجمُّع مادي هائل في حيِّز بالغ الصغر، قد لا يتجاوز كيلومترات عدة في امتداده، وينجم عن ميتة النجوم الهائلة الكتل.
تمثل النسبية أقصى ما يمكن تحقيقه في نطاق السببية causality. فعلى الرغم من أن النسبية نحَّتْ جانبًا المفهوم المطلق للسيالة الزمنية، لكنها أبقت على مبدأ السببية في صيغة فيزيائية، حين عرَّفتْ بالفعل الفيزيائي بكونه تبادلاً للتأثيرات المادية في سرعة قصوى مسموحة هي سرعة الضوء. يختلف مبدأ السببية عن المبادئ الفيزيائية الأخرى؛ وهذا المبدأ هو خبيء السيالة الزمنية. لذا يمكن لنا القول إن في مبدأ السببية نوعًا من أنواع الميتافيزياء يكسر البنيان الأساسي للقوانين الفيزيائية، من حيث عدم إمكانية العودة بالأحداث إلى الوراء، والاقتصار على استخدام القوانين الفيزيائية للتنبؤ بالمستقبل فقط. ولكن ألا يمكن لنا أن نصوغ القوانين الفيزيائية بعيدًا عن مبدأ السببية بهدف إلقاء نظرة أعمق على الزمن؟ – ذلك أن الزمن يَرِدُ في القوانين الفيزيائية كمتغير مجرَّد.
لا يمثل مبدأ السببية قَدَرًا مطلقًا. ففي الثقوب السوداء يُخرَق مبدأ السببية. ولو اكتُشِفَت القُسَيْمات الأسرع من الضوء tachyons لأضافت إثباتًا جديدًا على إمكان خَرْق ذلك المبدأ. يتَّسق مبدأ السببية مع التناول المحلِّي للعالم. أما الدراسة الشاملة للكون فلا بدَّ فيها من إسقاط السببية؛ ومع إسقاط هذا المبدأ تبرز الحاجة إلى تعريف جديد للزمن. قد نظن، للوهلة الأولى، أن السببية مغروسة في صلب القوانين الفيزيائية؛ لكن الصحيح هو أننا نختار تلقائيًّا ما يتناغم والسببية. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، نذكر أن معادلات ماكسويل في الكهرمغنطيسية لا تفرض حلولاً معينة؛ لكننا ننتقي عادة ما يتَّسق والسببية.
ما هي علاقة السبب بالنتيجة؟ ما الذي يمنع من إعادة تعريف المستقبل في الفيزياء (في القوانين الفيزيائية) باختزاله إلى نمط احتمالي تُضفي الريبةُ عليه طابعَها؟ إذا حاولنا الهبوط إلى عمق علاقة السبب بالنتيجة لما استطعنا أن نقف على سبب لازم وكافٍ لنتيجة معينة. ولعل السبب في أية نتيجة هو أقرب سبب إليها؛ لكن أقرب سبب إلى النتيجة هي النتيجة ذاتها. أما الأسباب الأخرى في السلسلة فتختلف في كفايتها وفق اشتراطات أخرى. هكذا، لا يمكن لنا التحدث عن تيار سببي حاسم، أي تيار زمني حاسم. وتبقى قضية السبب والنتيجة قضية معزولة نسبية. فماذا لو توقف حاسب إلكتروني، لا بسبب انقطاع التيار الكهربائي، بل بسبب حدوث هزة أرضية؟ ألعل الحياة في تفاعلاتها البيوكيميائية قد احتاجت إلى نَهْج السببية، وكان أن تطبَّعنا عليه، كوننا الممثلين الرئيسيين للحياة؟
لقد تغيرتْ صورة العالم من منظور علم جديد ولد مع مطلع القرن الماضي، هو الميكانيكا الكوانتية Quantum Mechanics. تُسقِط الميكانيكا الكوانتية الصفةَ المقرَّرة للعالم، محولة ذلك العالم إلى مجموعة من الأحداث العشوائية الاحتمالية. يختلف الفكران النسبوي والكوانتي فيما يتعلق بالزمن: فالزمن، وفقًا للمدرسة الكوانتية، هو تيار مطلق يمتد من الأزل إلى الأبد؛ أما الميكانيكا الكوانتية فلا تعدم المفارقات الزمنية، كما سنبيِّن بعد قليل. تستبدل الميكانيكا الكوانتية بظواهر الطبيعة توابعَ رياضية مجردة؛ وهذا الاستبدال لا يشكل تقابُلاً، كما قد يخطر ببالنا للوهلة الأولى. فإن دلَّت هذه التوابع على شيء، إنما تدل على احتمال وقوع حدث معين، ولا صلة لها بأسباب ذلك الحدث. تقوم الميكانيكا الكوانتية على مفهوم القياس، ووجود الأحداث فيها مرتهَن لقياسها. أما عن ردِّ الخصائص الفيزيائية المَقيسة إلى الأحداث المدروسة – وبشكل منفصل، عن أداة القياس والراصد – فذلك من باب صياغة المصطلحات لا أكثر.
تتمخض كلُّ عملية قياس في الميكانيكا الكوانتية عن عدد محتمل من النتائج؛ لكننا لا نقع في النهاية إلاَّ على نتيجة واحدة وحسب. وإن كانت عملية القياس مرتبطة بأداة القياس والراصد، فكأننا هنا نضبط جهاز القياس مسبقًا لإجراء قياس معيَّن، وكأننا نتوقع النتيجة مسبقًا. وإذا اعتبرنا عملية القياس سببًا، فالسبب هنا يرتبط بعدة نتائج. وهكذا، ليست علاقة السبب بالنتيجة في الميكانيكا الكوانتية هي علاقة واحد لواحد، بل واحد لعدة. وهكذا تكسر الميكانيكا الكوانتية سلسلتَها الزمنية المُحكمة لدى طرحها هذا التصور.
نتوقف عند التكشُّف التجريبي للحدث في الميكانيكا الكوانتية. لما كان الحدث احتماليًّا في الميكانيكا الكوانتية فقد ننتظر حدوثه وننتظر. فماذا إن لم يقع الحدث؟ هل يعني ذلك انتهاء السيالة الزمنية؟ أليس الحدث هو المَعْلَم الرئيسي – لا بل الوحيد – في مسار السيالة الزمنية؟ إن وقوع الحدث هو نوع من المفاجأة، حتى لو كنَّا قد أعددنا مسبقًا لذلك الوقوع. على أن الأمر لا يتوقف هنا. فقد تمَّتْ البرهنةُ مؤخرًا على أن الكمال مستحيل التحقيق. يُترجَم ذلك، في السياق الفيزيائي، إلى استحالة في تحديد الحدث تحديدًا كاملاً. ولكننا كنَّا قد ألمحنا لتوِّنا إلى حقيقة أن الحدث هو عماد الزمن. تبدأ الميكانيكا الكوانتية، إذن، من سيالة زمنية مطلقةِ الوجود والإيقاعات، لتنتهي إلى زمن يعتمد المفاجأة في تحقُّقه، وتُضفى عليه سمةُ الاحتمال، وقد لا يتحقق على الإطلاق.
بيَّنت الأبحاث المستجدة على قاعدة الميكانيكا الكوانتية أن المادة التي تسوق الأحداث تحقيقًا لمبدأ السببية تكاد أن تكون فراغًا تامًا؛ لا بل إن السيالة الزمنية الكوانتية المطلقة تتكون من فجوات لازمنية في حقيقتها. ولإيضاح ذلك نذكر أن الأتباع المتأخرين للمدرسة الكوانتية يصوِّرون العالم وكأنه مكوَّن من أصناف متباينة من القُسَيْمات. يتبادل أفراد كلِّ صنف التأثيرَ بانتقال قُسَيْمات وسيطة فيما بينها. ما يهمنا هنا هو لقطة من تلك الصورة وحسب. يُدعى صنف من أصناف الجسيمات باللبتونات leptons، وتنتمي الإلكترونات إلى هذا الصنف. أما قُسَيْمات الوساطة فهي ثلاثة قُسَيْمات، تبلغ كتلة أحدها 95 ضعفًا كتلة الإلكترون، بينما تبلغ كتلة كلٍّ من القُسَيْمين الآخرين 85 ضعفًا كتلة الإلكترون. عندما يتبادل لبتونان التأثير، يطلَق أحدُ هذه القُسَيْمات الوسيطة من اللبتون الأول، ليمتصَّه اللبتون الثاني دون أن تنقص كتلة الأول أو تزيد كتلة الثاني. لكن كيف يتأتى لقُسَيْمات خفيفة كاللبتونات أن تتبادل قُسَيْمات الوساطة المذكورة العظيمة الكتل؟ أين تذهب كتل هذه القُسَيْمات لدى تلقف أحد الليبتونات لها؟ وهل تولد كتلها من لاشيء لدى إطلاقها من لبتون آخر؟ واقع الأمر أن القُسَيْمات الوسيطة تستطيع أن تقترض ما تشاء من الطاقة مادامت عملية الإقراض هذه تتم خلال فترة زمنية بالغة القِصَر، أو لِنَقُل، "فجوة زمنية" (تسمى "فترة هايزنبرغ"). يُترجَم قَرْضُ الطاقة هذا إلى كتلة وفق معادلة أينشتاين التاريخية: E = m.c² (الطاقة تساوي الكتلة في جداء مربع سرعة الضوء)؛ وهذه الكتلة هي كتلة القُسَيْم الوسيط. ولكن، لما كان القَرْض لا يتحقق إلا عبر فجوة زمنية، فلا بدَّ أن يسدِّد القُسَيْم الوسيط ما اقترضه من الطاقة؛ ولا يمكن حدوث ذلك إلا بامتصاص أحد الليبتونات له في فترة زمنية بالغة الضآلة مناسبة للفجوة الزمنية. تتميز هذه الفجوة بولادة الطاقة من لاشيء وبخَرْق نواميس الطبيعة الأخرى كلِّها. على أن هذا الخَرْق يتلاشى باضمحلال الفجوة الزمنية.
ألم تسبق البوذية القديمة الميكانيكا الكوانتية في اختزالها السلسلة السببية إلى سلسلة لامادية؟ علينا أن نتذكر أن الزمن في الفيزياء تقليد للدورات الطبيعية ونموذج لها، وأن الطابع الموضوعي للمكان والزمان ينبثق من إقحام المكان والزمان كعنصرين أساسيين في المعادلات الفيزيائية.
------
نهاية الجزء الثاني
يتبع....
-----------------
عن محاضرة للأستاذ فايز فوق العادة
رئيس الجمعية الكونية السورية
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
السمو كيف نصل اليه NIGHT1MOON كتب الادارة و تطوير الذات 7 March 1, 2012 11:04 PM
مشروع الة الزمن ماهر112 بحوث علمية 0 November 24, 2008 10:38 PM
انا و الزمن جيمي gemy الترحيب بالاعضاء الجدد ومناسبات أصدقاء المجلة 0 July 11, 2008 11:23 AM


الساعة الآن 09:49 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر