فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الروايات والقصص > روايات و قصص منشورة ومنقولة

روايات و قصص منشورة ومنقولة تحميل روايات و قصص منوعة لمجموعة مميزة من الكتاب و الكاتبات المنشورة إلكترونيا



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #13  
قديم February 10, 2009, 03:49 PM
 
رد: لكل يلي قاعدين يدورو على رواية انت لي .....ادخلو (كاملة)

الحلقة 49
.
.
.
.

تقترب الساعة من السابعة والنصف ووليد لم يظهر بعد! سأتأخر عن الجامعة... ألا
يزال نائما حتى هذه الساعة؟؟
كان لا بد لي من الذهاب إلى غرفة المعشية – حيث ينام – وطرُقِ الباب...
نحن لا نكلم بعضنا منذ أيام... في الواقع العلاقة بيننا شبه منقطعة منذ
زمن... وبعد موضوع الفنان عارف هذا الأخير... لم نعد نتبادل غير التحية...
لكن أنا أرضى من وليد بأي شيء... حتى لو قرر أن يتجاهلني تماما... سأقبل...
أريد فقط أن يبقيني تحت جناحه... وأن يسمح لي بأن أراه ولو مرة واحدة كل
يوم...
واليوم سيأخذني إلى الطبيب حتى تنزع جبيرة رجلي أخيرا... وأستعيد كامل
حركتي... أخيرا...
طرقت الباب مرارا ولم يجبني. كان الوقت يداهمني لذلك لم أتردد كثيرا قبل فتح
الباب... والمفاجأة كانت أنه لم يكن في الداخل!
بحثت عنه في المطبخ والغرف المجاورة ولم أجده. شعرت بالقلق... ورجحت أن يكون
في الطابق العلوي. لم تكن الخادمة قد استيقظت بعد... اتصلت بغرفته العلوية
عبر الهاتف الداخلي وما من مجيب... ازداد قلقي... فاتصلت بهاتفه المحمول...
وأخيرا تلقيت ردا:
"نعم رغد"
قالها بسرعة وكأنه على عجلة من أمره أو مشغول... سألته مستغربة:
"أين أنت؟؟"
فأجاب:
"في الجوار... سأصل بعد قليل"
ولكن! إلى أين ذهبت في هذا الصباح الباكر؟؟ وكيف غادرت وتركتني!؟؟
قلت:
"حسنا"
وأنهيت المكالمة وجلست أنتظره في المطبخ. جاء بعد قليل وكان يحمل معه كيسا
يحوي أقراص الخبز وفطائر وأطعمة أخرى, فاستنتجت أنه كان في المخبز.
قاد وليد السيارة بسرعة كبيرة نحو الجامعة, على غير العادة... وتلقى ثلاثة
اتصالات هاتفيه أثناء الطريق... وكان ظاهرا من كلامه... أن هناك ما يقلقه...
لم أجرؤ على سؤاله... فالتواصل بيننا مؤخرا كان مجمدا... ذهبت إلى جامعتي
وقضيت نهاري بين زميلاتي بشكل اعتيادي... دون أن يخطر ببالي... أنه سيكون
النهار الأخير...
بعد انتهاء المحاضرات, جلسنا أنا ومرح عند المواقف ننتظر وصول سيارة وليد
كالعادة... فهو من كان يوصلنا يوميا ذهابا وإيابا إلى ومن الجامعة. مرت بضع
دقائق ولم تظهر السيارة... ووجدت مرح في الانتظار فرصة لتطرح علي السؤال
التالي:
"هل من جديد... عن موضوعنا؟؟"
تعني موضوع عرض الزواج!
آه يا مرح! وهل هذا وقته؟؟
لم أشأ أن أكون فظة... وأخبرها مباشرة بأن تنسى الموضوع نهائيا... خصوصا وأن
هناك طلب رسمي من عائلتها مقدم رسميا إلى وليد... ولي أمري.. والذي يجب أن
يتولى بنفسه الرد الرسمي على الطلب, لم أشأ أن أحرجها وأحرج نفسي لذا قلت
متظاهرة بالمرح:
"انتظروا رد أبي!"
لكنني لم أتخلص منها إذ سألت من جديد:
"ماذا عن رأيك أنت؟؟ هل توافقين على الفكرة مبدئيا؟؟"
واحترت بم أجيب؟!
ربما فسرت مرح حيرتي بأنها قبول وخجل... فها هي تبتسم بسرور!
أظهرت الجد على ملامح وجهي وقلت:
"مرح... هناك شيء لم أطلعك عليه من قبل"
فاتسعت ابتسامتها وقالت بفضول مندفع ممزوج بالمزح:
"ما هو؟؟ أخبريني!سرك في بئر!"
آه! يبدو أنه من الصعب أن تأخذ مرح الأمور بجد حقيقي!
قلت وأنا مستمرة في نبرة الجد:
"لقد... كنت مخطوبة في السابق"
اتسعت حدقتا مرح بشدة... وحملقت بي غير مصدقة, فقلت مؤكدة:
"نعم... ولعدة سنوات!"
قالت بعد ذلك وفمها مفغور:
"أحقا!! لا أصدق! كيف!؟؟ متى؟؟ أين؟؟ من؟؟"
انتظرت حتى تستفيق من أثر المفاجأة ثم قلت:
"بلى صدقي"
فقالت مباشرة:
"متى رغد!؟"
أجبت:
"منذ سنين... كنت صغيرة...و... لقد انفصلت عنه... قبل شهور"
لم تخف مرح دهشتها الشديدة...
أستغرب من نفسي!!
كيف أذكر هذا الموضوع وكأنه موقف عابر وانتهى... بينما كان في الواقع حدثا
استمر لأربع سنين؟؟!!
أربع سنين عشتها مخطوبة لسامر... وأنا لا أعرف ما هي حقيقة مشاعري نحوه...
أصلا... لم أكن أعرف أن هناك أنواع من الشعور... لم أذق منها سوى طعما
واحدا... إلى أن ظهر وليد في حياتي من جديد... وأذاقني أصنافا أخرى...
سألت مرح:
"من كان؟؟"
فنظرت إليها نظرة قوية... ثم أبعدت بصري عنها وطأطأت رأسي... وبعد تردد قصير
أجبت:
"ابن عمي"
حينها هتفت مرح بدهشة وهي ترفع يدها إلى فمها:
"المليونير!!! وليد شاكر!!؟؟"
التفت إليها بسرعة وقد لسعني تعليقها بقوة فأجبت بتوتر:
"لا... لا..."
ثم زممت شفتي وأضفت:
"شقيقه الأصغر"
فقالت مرح وقد بدا وكأنها آخذة في الاستيعاب:
"هكذا... إذن!"
ثم صمتت قليلا... وعادت تسأل:
"و... لماذا انفصلتما؟؟"
وعند هذا الحد كان يجب أن نتوقف... قلت وأنا أفتح حقيبتي وأستخرج هاتفي
وأتظاهر بعدم الاكتراث:
"لا نصيب"
واتصلت مباشرة بوليد... أسأله عن سبب تأخره...
وأدهشني وحيرني حين أجاب:
"أنا آسف يا رغد. لا أستطيع الحضور الآن. مشغول جدا. عودي مع صديقتك"

**********

كنت ساعتها أبذل كل الجهود الممكنة والمستحيلة من أجل تسهيل أمر ترحيل أخي
إلى الخارج في أي لحظة تصل يدي إليه... اتخذت عشرات التدابير... ووضعت عدة
خطط وبدائل خطط... استعدادا للعملية...
لم يعد لدي شك في أن أخي بالفعل متورط مع تلك المنظمة... ولم أعد بحاجة إلى
دليل إضافي بعد ما وجدت في الصندوق...
لا وقت لدي كي أستوعب وأحلل... أنا هنا فقط لأعمل وأعمل... بشتى الطرق...
لأعثر عليه وأخرجه من البلد قبل أن تسبقني السلطات إليه...
ولشخص مثلي... عاش في السجن ثمانية أعوام... ورافق مجرمي أمن البلد... وعاصر
مصارعهم أمام عينيه, لا أحد بحاجة لأن يشرح لي... ما الذي يمكن أن يلاقيه
أخي... لو تم اعتقاله...
عدت إلى المنزل عند الخامسة... في أشد أشد حالات الإعياء والتعب...
عند وصولي استقبلتني رغد بوجه قلق... وسألتني مباشرة:
"تأخرت وليد..."
وسرعان ما لاحظت أثر الإعياء صارخا على وجهي... فقالت هلعة:
"ماذا هناك..."
فركت عيني اللتين لم تذوقا للنوم طعما منذ البارحة ثم قلت:
"متعب من العمل... سأخلد للنوم"
وخطوت خطوة باتجاه غرفة المعيشة, فاستوقفتني رغد قائلة:
"موعدي مع الطبيب"
فتذكرت... أن اليوم... هو موعد نزع جبيرة رغد... وهو أمر ألغاه من ذاكرتي ما
حل مكانه بكل قوة...
التفت إليها وقلت:
"لا وقت لدينا"
فنظرت إلي بحيرة واستغراب وحزن... عندها اقتربت منها خطوة وقلت:
"رغد... اجمعي أهم أشياءك في حقيبة... جهزيها في أسرع وقت اليوم"
بدا الذعر على وجه صغيرتي ورفعت يدها نحو عنقها وقالت متوجسة خيفة:
"ستعيدني إلى خالتي؟؟... كلا أرجوك"
فحملقت فيها قارئا مخاوفها وتوسلاتها ثم قلت:
"ليس هذا... قد نضطر إلى سفر طارئ وحرج في أية لحظة... استعدي"
وتابعت سيري إلى غرفة المعيشة تاركا إياها في حيرتها... واستلقيت على الكنبة
وغرقت في النوم بسرعة...
"وليد... سامر هنا"
فتحت عيني... واستفقت لأكتشف أنني لا زلت نائما على الكنبة... وأرى رغد تقف
أمامي...
لكن... مهلا... ماذا كانت تقول؟؟ ماذا كنت أحلم؟؟ ماذا سمعت؟؟ ماذا هيئ لي؟؟
استويت جالسا وأنا لا أزال بين النوم والصحوة... ونظرت إلى ساعة يدي...
فرأيتها تشير إلى الثامنة مساء...
أوه... الصلاة...
قلت:
"لماذا لم توقظيني عند المغرب؟"
كان شيئا من القلق علو وجهها... وسمعتها تقول:
"لم أكن أعلم أنك لا تزال نائما... أحسست بحركة في المنزل فبحثت عنك...
ووجدتك نائما هنا... سألت الخادمة فأخبرتني بأنها رأت السيد الأصغر يصعد
السلم... أتيت لأوقظك وأخبرك بهذا"
لخمس ثوان بقيت محملقا فيها أستوعب ما قالته... ثم... وبسرعة البرق... قفزت
من مكاني وركضت طائرا نحو الطابق العلوي...
أقبلت باندفاع نحو غرفة شقيقي وكان الباب مغلقا... ففتحته بسرعة واقتحمت
الغرفة...
وكم كاد قلبي أن ينفجر من البهجة... حين رأيت شقيقي سامر... يقف أمام عيني...
"الحمد لله"
انسكبت الجملة من لساني وطرت نحو شقيقي وطوقته بذراعي وضممته إلى صدري...
"حمدا لك يا رب... حمدا لك يا رب"
ألف حمد لك يا رب... فقد رددت إلي شقيقي سالما... حيا... معافى... الآن
أستطيع أن أخبئه... أن أحميه بحفظك... وأبعده عن الخطر...
أزحت ذراعي عن أخي ونظرت إلى عينيه... فرأيت الشك... والاتهام ينبعثان
منهما... وانتبهت حينها إلى الصندوق الذي كان سامر يخبئ فيه السلاح... موضوعا
ومفتوحا على السرير...
كلانا نظر إلى الصندوق... ثم إلى بعضنا البعض... ونظرتنا تبلغ إحداها
الأخرى... بما استنتجت...
أخيرا نطق سامر قائلا:
"أين هو؟؟"
يقصد المسدس.. والذي أخذته أنا من صندوقه ذلك اليوم, وأخفيته...
لم أجب... فكرر سامر وبنبرة أغلظ وأشد:
"أين هو؟؟"
حدقت به برهة ثم قلت:
"تخلصت منه"


بدأ وجه شقيقي يضطرب... تغيرت ألوانه وتبدلت سحنته... وزفر بنفاذ صبر وعاد
يكرر:
"وليد... أخبرني أين وضعته؟؟ ولماذا سمحت لنفسك باقتحام غرفتي والعبث
بأشيائي؟؟"
قلت محاولا امتصاص غضبه وأنا أمسك بذراعه:
"دعنا نجلس ونتحدث"
غير أن أخي سحب ذراعه من يدي وهتف بعصبية:
"أعده إلي يا وليد الآن... لا وقت عندي"
فنظرت إليه بعطف وقلت:
"لا وقت... لماذا؟؟ ما أنت فاعل؟؟"
فرد باقتضاب:
"ليس من شأنك... ولا تقحم نفسك في ما لا يخصك"
فرددت مباشرة معترضا:
"لا يخصني؟؟ أنت شقيقي يا سامر... شقيقي الوحيد وكل ما يتعلق بك يخصني
ويعنيني"
قال سامر بعصبية وصبر نافذ:
"وليد لو سمحت... لا داعي لتضييع الوقت في الكلام... أعد السلاح إلي في الحال
ودعني أذهب"
وكلمة (أذهب) هذه هزت جسدي من شعر رأسه إلى أظافر قدميه... ثم هززت رأسي بــ
(كلا) فما كان من أخي إلا أن تجاوزني وسار مندفعا نحو الباب وهو يقول:
"سأفتش عنه بنفسي"
وانطلق نحو غرفة نومي... دخلها وباشر بتقليب الأشياء وبعثرة كل ما تقع يده
عليه, بحثا عن المسدس...
وقفت عند الباب أراقبه... وأنا لا أصدق أنها الحقيقة... أخي أنا... عضو في
منظمة للمتمردين... يشارك في تنفيذ عمليات إجرامية؟؟ أخي أنا... يملك
سلاحا... ويغتال البشر...؟؟
"أين أخفيته يا وليد تبا لك!"
قال ذلك بعد أن اشتط به الغضب ويأس من العثور على ضالته... فقلت: "لا تتعب
نفسك... إنه ليس هنا"
التفت إلي والشرر يتطاير من عينيه وزمجر:
"إذن... لن تدلني على مكانه؟؟"
فأجبت بحزم مع مرارة:
"أبدا"
وما كان من شقيقي إلا أن ألقي ما كان في يده وسار منطلقا إلى خارج الغرفة
وباتجاه السلم...
تبعته وأنا أقول:
"إلى أين ستذهب؟؟ إنه ليس في المنزل"
فسمعته يرد:
"إذن... سأترك لك أنت المنزل"
انفجرت القنابل في رأسي... ركضت خلفه وأنا أهتف:
"انتظر... انتظر"
قفزت الدرجات قفزا حتى أدركته عند أواخرها وأطبقت بيدي على ذراعه... قلت:
"لن أدعك تخرج"
سامر حاول تحرير ذراعه من قبضتي فشددت أكثر... فصرخ في وجهي:
"اتركني"
غير أنني شددته أكثر وأعقته عن التقدم...
حينها سدد ركلة بركبته إلى معدتي مباشرة... وفرط الألم أصابني بشلل مفاجئ...
فتمكن من الإفلات من قبضتي وهرول مبتعدا...
لحقت به بسرعة وأدركته عند الممر فأمسكت به وجذبته وأنا أهتف:
"لن أدعك تذهب يا سامر... لن ادعك"
ودارت بيننا معركة عنيفة... أشد شراسة وضراوة من تلك التي أشعلناها ليلة
زيارة (عارف المنذر) لنا...
كنت أضربه وأنا أتألم... أمزق ملابسه وأنا أتمزق... أدميه وأنا أنزف...
يستحيل أن أتركك تخرج يا سامر... وإن اضطررت لكسر ساقيك فسأفعل... لكنني لن
أدعك تقع في أيدي السلطات... لن أدعهم يلمسوا منك ولا شعرة واحدة...

*********

وقفت أشاهد عراك ابني عمي الجنوني مذعورة... ألصق جسدي بالجدار خشية أن
تنالني صفعة طائشة من أي من قبضتيهما!
كلما ضرب أحدهما الآخر أطلقت صيحة ذعر وأخفيت عيني خلف راحة يدي.. وانتفض
جسمي. كان سامر يحاول التوجه إلى المدخل.. إلى الباب.. لكن وليد كان يجره في
الاتجاه المعاكس وهو يصرخ:
"لن أسمح لك بالذهاب... لن أدعهم يمسكون بك... لن أسلمك للموت بهذا الشكل
أبدا"
وسامر يحاول التحرر من يده وهو يصرخ:
"اتركني... لا شأن لك بي..."
فيرد وليد:
"سيقبضون عليك ألا تفهم؟؟ سيلقون بك في السجن إلى أن يعدموك بأبشع وسيلة..
أنا لن أسمح لهم بالوصول إليك"
ويحتدم العراك بين الشقيقين وأرى اللون الأحمر يشق جداول وبركا على
جسديهما...
يضرب سامر ساق وليد بقوة فيجثو أرضا... ويحاول سامر الفرار فتقبض يدا وليد
على رجله ويشده بعنف فيفقد توازنه ويقع أرضا... يطبق وليد على رجلي سامر
ويجره في الممر عنوة... يحاول سامر النهوض ويفشل.. يصرخ:
"اتركني... ابتعد"
ويوجه ركلة بقدمه نحو وليد فتصيب أنفه مباشرة... لكن وليد لم يطلق سراح سامر
من قبضته بل جره وهو يحك جسده بالأرض... ويحاول سامر غرس أظافره في الرخام
الأملس دون جدوى... فيصرخ بصوت أقوى وأعنف:
"اتركني أيها الوحش"
ووليد مستمر في جر أخيه إلى أن أدخله مجلس الضيوف... لم أعد من مكاني أستطيع
رؤيتهما لكن صراخهما كان يدوي في كل المنزل... وسمعت أيضا صوت المزيد من
الركلات والضربات والآهات المتوجعة القوية... والتي جعلتني أرجح أن كسرا ما
قد أصاب عظام منهما...
لم أشعر إلا ودموع الرعب تنسكب فائضة من عيني...
لقد... سبق وأن عاصرت عراكا بينهما,ولكن ما يحدث الآن... يفوق حد الجنون...
"رغد"
فجأة انتفض جسمي على صرخة أحد يهتف مناد باسمي...
"رغد... تعالي بسرعة"
حتى أنني لقوة الزمجرة لم أعرف صاحبها...
"رغد أسرعي"
أمسكت بعكازي وهرولت نحو المجلس تاركة قلبي معلقا على الجدار الذي كنت أستند
إليه... فور وصولي إلى فتحة الباب وقع بصري على وليد يلوي ذراع سامر وهو
يلصقه بالجدار بينما يحاول سامر التملص ويسدد رفسات عشوائية نحو رجلي وليد...
"أغلقي الباب بالمفتاح"
قال ذلك وليد, فنظرت إليه غير مستوعبة... ماذا يقول..؟؟
فصرخ:
"هيا بسرعة.."
ارتجفت من صرخته ونظرت إلى الباب ورأيت المفتاح مغروسا في ثقبه...
صرخ وليد:
"أقفليه بسرعة هيا"
وفي نفس الوقت صرخ سامر:
"إياك يا رغد"
فصرخ وليد صرخة مجلجلة:
"تحركي"
انصعت بعدها لأمره بلا إدراك, وأغلقت الباب وأقفلته...
وقفت خلف الباب المقفل واضعة يدي على صدري... وأنا أحملق في المفتاح... ولم
يعطني العراك الذي هز الباب أمام مرآي, أي فرصة للتفكير واستيعاب ما يجري...
ابتعدت عن الباب وأنا أتوقع أن يقلع في أية لحظة... كان جسد أيا منهما يرتطم
به المرة بعد الأخرى... ثم أخذت قبضتا أحدهما تدكه دكا...
"افتحي يا رغد"
لقد كان سامر...
"إياك أن تفتحي... ابقي مكانك"
صوت وليد...
وتداخلت الأصوات الصارخة الثائرة المجنونة... افتحي لا تفتحي... حتى شعرت
بالدوار وخررت على الأرض...
انطلق البكاء المكبوت من صدري أخيرا وأخذت أصرخ:
"ماذا يحدث... ما الذي تفعلانه؟؟ ماذا حل بكما؟؟"
وأنا لا أفهم شيئا...
ثم سمعت ضربات قوية على الباب أوشكت على اختراقه من شدتها... وصراخ سامر
يهتف:
"افتحي الباب يا رغد"
يليه صوت وليد:
"لا تستمعي إليه يا رغد... إذا خرج فسوف يقتلونه... إياك يا رغد..."
التفت إلى الباب وهتفت:
"من يقتلون من؟؟"
فجاءني رد وليد:
"الشرطة تطلبه... سيجدونه حتما... أنا سأنقذه قبل أن يصلوا إليه..."
أنا... لا أفهم شيئا... لا أفهم شيئا...
"رغد"
ناداني وليد:
"رغد أتسمعين؟؟"
أجبت:
"نعم"
قال:
"أحضري هاتفي المحمول بسرعة"
لم أعقب... فقال:
"هل تسمعينني يا رغد؟؟"
قلت:
"ما الذي يجري؟؟ أنا لا أفهم؟؟"
فقال:
"أحضري هاتفي... ولا تفتحي الباب إلا حين أطلب أنا ذلك... بسرعة يا رغد"
ونهضت, وامتثلت لأمر وليد وجلبت هاتفه من غرفة المعيشة. وقفت عند الباب وقلت:
"الهاتف"
فسمعته يخاطب سامر:
"دعني أنقذك يا سامر... أنا أعرف سبيلا لذلك... لا تعترضني أرجوك"
لكن الظاهر أن سامر انكب مجددا على وليد وتعاركا ثانيا...
"ما الذي تريده مني؟؟ لماذا لا تتركني وشأني؟؟"
قال سامر, فأجاب وليد:
"لن أتركك وشأنك يا سامر... إنهم سيقبضون عليك ويقتلونك ألا تفهم؟؟"
فقال سامر:
"وما الذي يهمك أنت؟؟ هذه حياتي أنا"
فيرد وليد بصوت شجي متألم:
"كيف تقول ذلك؟؟ إنك أخي الوحيد... كل من تبقى لي من عائلتي... أنا لا أقبل
أن يصيبك أي ضرر"
فرد سامر:
"منافق"
فجاء صوت وليد يرد بألم أشد:
"أنا يا سامر؟؟"
فيقول سامر:
"أنت أصلا لم تكترث لي ولمشاعري... أي أخوة وأي نفاق"
وحل صمت مفاجئ... بعد طول جلبة وضجيج... ثم سمعت وليد يقول:
"أكترث لك ولكل ما يعنيك يا سامر... ألا ترى ما أنا فيه؟؟ ألا ترى؟؟ ألا تعرف
ما حل بي منذ عرفت؟؟"
ثم أضاف:
"دعني أجري اتصالاتي وأتصرف بسرعة قبل فوات الأوان"
فقال سامر:


"وفر جهودك... لقد فات الأوان... أنا لا يهمني أي شيء... لا الحياة ولا
الموت"
فرد وليد:
"لم يفت الأوان... سأعمل على إخراجك من البلد ومن كل بد"
ثم تغيرت نبرته إلى الرجاء وقال:
"ابق مكانك... أرجوك أنا مرهق... لا طاقة لي بالمزيد"
ثم اقترب صوته... صار عند الباب مباشرة... خاطبني أنا قائلا:
"رغد افتحي الباب"
وبقيت لثوان مترددة... وسألت:
"هل أفتح؟؟"
فأجاب:
"نعم افتحي"
بحذر أدرت المفتاح في ثقبه... ثم رأيت قبضة الباب تدور... والباب ينفتح ويظهر
منه وليد... بمظهر فظيع ومرعب...
تحرك وليد بسرعة إلى الخارج وصد محاولة سامر للحاق به وأغلق الباب وأقفله
فورا...
أخذ سامر يضرب على الباب بيديه ورجليه وهو يصرخ طالبا منا فتحه ووليد واقف
على الناحية الأخرى يقول:
"لن أفتحه يا سامر... أرجوك لا تعقد علي الأمر... انتظر حتى أؤمن فرارك...
أرجوك ثق بي"
صرخ سامر:
"جبان... ستدفع ثمن هذا..."
ولم يجب وليد...
رأيته يطأطئ رأسه... ثم يمسح براحته على وجهه ثم يرفه رأسه متأوها ويمسد على
ذراعه... ثم يستدير إلي...
هل أصف لكم كيف كان؟؟
يفوق الوصف...
الملابس... ممزقة... ملطخة بالدماء... العنق... مخطط بالخدوش الدامية...
الشعر مبعثر في كل الاتجاهات... كعش هجره عصفوره قبل أن يكمله... الوجه متورم
شديد الاحمرار... متغير الملامح... يحملق الناظر فيه بضع دقائق... ليعرف
صاحبه... وشارعان متوازيان من الرواسب المالحة... يمتدان من المقلتين شاقين
الوجنتين... ينتهي أحدهما إلى غابة من الشعر الأسود... والآخر يصب كنهر ناضب
في بركة من الدماء الغزيرة...تنبع من أنفه...
وليد... قلبي!!!




.................................................. ...............


مد وليد يده باتجاهي... ومن فرط ذهولي بفظاعة منظره... لم أفهم ما يعني...
هل... هل يريد أن... أشد على يده وأربت عليه؟؟
أم... يريد أن... أنظف جراحه وأضمدها؟؟
أم... يريد أن يستند إلي... نعم... فهو في حالة فظيعة... وربما لا يستطيع
السير بمفرده...
لما أحس وليد ضياعي, قال:
"الهاتف"
هنا ضرب سامر الباب وصرخ:
"افتحوا الباب... دعوني أخرج من هنا"
تناول وليد الهاتف من يدي, ثم نزع المفتاح من ثقبه, ونظر إلي وقال:
"إياك يا رغد... أن تفتحي له... إياك"
وربما لاحظ تيهي... وعدم استيعابي لشيء... فقال مؤكدا ومحذرا:
"حياته بين أيدينا... إياك وفتح الباب مهما حصل... أتفهمين؟؟"
أفهم؟؟ أفهم ماذا يا وليد؟؟
هززت رأسي كيفما اتفق... وحاولت أن أنطق بسؤال, غير أن وليد كان قد باشر
بالاتصال الهاتفي... وابتعد عني... واختفى...
بعد ذلك بأربعين دقيقة وفيما كنت أجلس في غرفتي في حيرتي وهلعي أتاني وظاهر
عليه أنه استحم ونظف جروحه وبدل ملابسه وأخبرني بأنه سيخرج في مشاوير مهمة
وسيعيد الخادمة إلى مكتب التخديم... وسألني إن كنت قد جهزت حقيبة السفر
وانزعج عندما أجبته بالنفي...
"لا وقت أمامنا يا رغد... اجمعي أهم أشياءك واستعدي للسفر الطارئ خلال يومين
أو ثلاثة"
تفاقم القلق على وجهي وسألت:
"ألن توضح لي ما يحصل؟؟"
فأجاب إجابة مقتضبة وهو يستدير ويغادر:
"تورط في عمليات شغب خطيرة... السلطات ستقبض عليه... أريد أن أفر به من البلد
وبعدها نوضح الأمور"
توقف وليد واستدار إلي ونظر إلي نظرة جد وتحذير:
"لا تفتحي الباب يا رغد... إياك"
أطال النظرة إلي, ثم غادر... تاركا إياي في ذهول ما بعده ذهول...
بعد ذلك بفترة قصيرة... خرجت من غرفتي وتسللت بحذر نحو غرفة المجلس... اقتربت
من الباب, وألصقت أذني به مسترقة السمع لأي حركة أو صوت يصدران من الداخل...
كان الهدوء التام يغمر الغرفة بحيث لا تصدق أنها كانت تعج بالصراخ كالبركان
قبل فترة...
همست بصوت خفيف:
"سامر"
ولم أجد جوابا, فطرقت الباب طرقا خفيفا وأنا أنادي:
"سامر... هل تسمعني؟؟"
جاء صوت سامر يجيب:
"رغد"
ثم أحسست بحركة... سمعت سامر بعدها يقول وقد اقترب صوته من الباب:
"أين وليد يا رغد؟؟"
أجبت:
"خرج من المنزل"
فسأل:
"إلى أين ذهب؟؟"
قلت:
"قال أن لديه مشاوير ضرورية ليقطعها"
صمت سامر... فقلت:
"كيف إصاباتك؟؟"
فأنا لا أستبعد أن يكون عظم منه قد كسر... بعد العراك الوحشي مع وليد. لم يجب
سامر فالتزمت الصمت قليلا ثم سألت:
"ماذا يحدث يا سامر؟؟ أخبرني"
ولكنه لم يجب. فواصلت:
"أرجوك قل لي... ما الذي فعلته ويعرض حياتك للخطر؟؟ ولماذا؟؟ أنا لا أصدق..."
قال سامر فجأة:
"رغد افتحي الباب"
ابتعدت عن الباب, وكأنني أخشى أن أنصاع للأمر بمجرد قربي منه... ولم أعقب...
فقال سامر بنبرة رجاء شديد:
"أرجوك يا رغد... افتحي الباب... هناك من ينتظرني... الأمر مهم جدا"
فتشجعت وسألت:
"أي أمر؟؟"
فسكت سامر برهة ثم أجاب:
"لا أستطيع أخبارك... افتحي الباب ودعيني أخرج قبل عودة وليد... إنه لا يعرف
شيئا ولا يفهم الحقيقة"
أعدت ذات السؤال:
"أي حقيقة؟؟"
فقال بنفاذ صبر:
"لا أستطيع أن أشرح لك الآن... يجب أن أخرج وإلا فإن كارثة ستحل بأصدقائي...
أرجوك يا رغد... افتحيه ودعيني ألحق بالأوان قبل فواته"
تراجعت للوراء خطوة وأنا أهز رأسي رفضا... وكأنني أحذر نفسي وأنذرها من مغبة
الانصياع...
سمعت سامر يطرق على الباب وهو يقول:
"أين أنت يا رغد... أرجوك... افتحيه"
فقلت:
"لا أستطيع"
قال:
"لماذا؟؟"
فأجبت:
"وليد..."
وقبل أن أتم الجملة قاطعني قائلا بحنق:
"وليد لا يعرف الحقيقة... إنه سيندم كثيرا حينما يكتشفها... لا وقت لأوضح لك
يا رغد... أرجوك افتحيه وخلصيني"
قلت:
"انتظر حتى يأتي وليد وبين له الحقيقة... ثم... ثم إن المفتاح معه هو"
فقال:
"ستجدين مجموعة المفاتيح الاحتياطية في درج مكتبه كما يتركها عادة... هاتي
المجموعة وفتشي عن المفتاح المناسب. بسرعة يا رغد... أرجوك"
قلت وأنا أبعد يدي خلف ظهري:
"لا أستطيع يا سامر... وليد حذرني"
فإذا به يقول فجأة:
"طبعا ستطيعينه هو"
فوجئت من كلامه, وسحبت يدي نحو صدري ثم قلت مبررة:
"لأنه... قال... إن هذا خطر على حياتك"
فرد سامر بعصبية:
"غير صحيح... إنه مخطئ... بقائي هنا خطر على حياتي وحياة أصدقائي"
ثم أضاف:
"أنت تشاركين في تعريض حياتنا للخطر... هل هذا يرضيك؟؟"
قلت:
"لا"
فقال:
"إذن افتحي الباب... وأنا أضمن لك بأننا سنكون بخير وممتنين لك على إنقاذنا"
"أحقا؟؟"
"أجل يا رغد... هيا الآن افتحيه... وأنا سأتصل بوليد وأشرح له كل شيء... عجلي
أرجوك"
احترت في أمري... فسامر يبدو صادقا جدا فيما يقول... وكان يقنعني بأنني أعرض
حياته للخطر بإبقائه حبيسا... لكن نظرات وليد المهددة... وهو يخاطبني قبل
خروجه مباشرة تجعلني أتردد... وأبتعد عن الباب...
"رغد... الآن"
قال سامر... غير أنني أجبت حاسمة الأمر:
"لا أستطيع يا سامر... سامحني"
وسمعت على أثرها ضربة قوية تصدع الباب لها...
عدت إلى غرفتي وبدأت أحاول جمع أهم حاجياتي في حقيبة صغيرة... وبعد نصف ساعة
سمعت ضربا على باب غرفة المجلس, وصوت سامر يناديني...
توجهت إليه مسرعة وقلت:
"نعم سامر أنا هنا"
فقال:
"رغد هل لي ببعض الماء من فضلك؟؟"
ولما لاحظ صمتي قال بنبرة رجاء:
"أكاد أموت عطشا... اجلبي لي قارورة كبيرة رجاء"
قلت بتردد:
"لكن..."
فقال بنبرة أشد رجاء... تذوب لها الصخور الصلبة:
"لكن ماذا يا رغد؟؟ سألتك بالله... حلقي تجرّح من شدة الجفاف... تكاد دمائي
تتخثر في عروقها... أرجوك ولو كأسا واحدا"
انفطر قلبي لكلامه... لم أتحمل... ألقيت بثقل جسدي على الباب وقلت بنبرة توشك
على البكاء:
"لا تخدعني يا سامر... أرجوك"
فقال:
"أخدعك؟؟ أقول لك إنني أكاد أموت عطشا... تبخرت سوائل جسمي في العراك مع ابن
عمك... ألا ترحمين بحالي؟؟"
وللألم المرير الذي أحسسته, عزمت على أن أقدم له الماء... ولكنني ما كدت
أبتعد بضع خطوات حتى سمعت صوت جرس المنزل يقرع...
كان قرعا متواصلا مربكا... شعرت بالخوف, وعدت أدراجي إلى الباب أخاطب سامر:




"جرس الباب يقرع"
قال:
"أسمعه"
قلت:
"من يكون؟؟ ولماذا يقرع بهذا الشكل؟؟"
فقال سامر:
"تجاهليه... إياك وأن تجيبيه"
وزادت الجملة فزعي... فقلت:
"من هذا؟؟ لا أشعر بالطمأنينة... أنا خائفة"
فقال:
"اسمعي يا رغد... اتصلي بوليد وأخبريه عن هذا وقولي له أن يتوخى الحذر"
فقلت وقلقي يتفاقم:
"هل تعرف من يكون؟؟"
فأجاب:
"لا ولكن الحذر واجب"
توقف القرع وأنا أتصل بوليد...
أخبرته فحذرني من الإجابة على أي طارق وأمرني بأن أبقى ساكنة لحين عودته.
سألني عن سامر فأخبرته بأنه يشعر بالعطش ويطلب الماء فنهاني عن تصديقه وأكد
علي بألا أقترب من الباب نهائيا, وأخبرني بأنه سيعود بعد قليل...
وهذا القليل استمر قرابة الساعة... ولم تكن كأي ساعة...
جلست قرب عتبات متصلة بالممر المؤدي إلى غرفة المجلس... في منتصف المسافة ما
بين باب المدخل الرئيسي للمنزل وباب المجلس... وألصقت أذنا على كلا
البابين...
الأذن اليمنى كانت تسمع سامر وهو يسأل بمرارة:
"أين الماء يا رغد؟؟"
والأذن اليسرى تترقب عودة وليد... وأخيرا التقطت هذه الأذن صوت باب المدخل
يفتح...
هببت واقفة ويممت أنظاري شطر المدخل... متلهفة لرؤية وليد يدخل... فيسكن
قلبي...
إن مجرد الإحساس بوجوده فيما حولي... يشعرني بالطمأنينة والأمان... "لم تقفين
هنا؟؟"
سألني بقلق وهو ربما يلحظ التعبيرات المتلهفة على وجهي, قلت:
"تأخرت"
فقال:
"توخيت المزيد من الحذر..."
فقلت بشيء من الاندفاع:
"سامر عطشان... عجل إليه بالماء أرجوك"
ورأيت عضلات فكه تنقبض ثم عقب:
"لعن الله الظالمين"
وسار مباشرة إلى المطبخ, وحمل قارورة ماء وكأسا فارغا واتجه بهما إلى غرفة
المجلس...
"سامر... جلبت لك الماء"
قال وليد بعد أن طرق الباب واستخرج المفتاح من جيبه... ثم أضاف:
"أرجوك... لنتصرف كراشدين"
وبعد تردد قصير, فتح الباب ودخل...

**********

رأيت شقيقي جالسا على أحد المقاعد... مبعثر الشعر والملابس, وعليه إمارات
الإعياء... وتصبغ ألوان الطيف وجهه المجروح... اقتربت منه وأنا أحمل القارورة
الماء وكأسا... ملأته بالماء ثم قربته إليه وقلت:
"تفضل"
رمقني أخي بنظرة حادة... وبدا كأنه متردد... ثم حرك يده باتجاه الكأس.
تناول الكأس مني, وألقى علي نظرة, ثم... إذا به يسكب محتواه فجأة نحو وجهي...
وقف بسرعة وألقى بالكأس وهرول نحو الباب. وضعت القارورة جانبا وركضت خلفه
مسرعا وأمسكت به وجررته إلى الداخل, ثم دفعت به بقوة نحو المقعد وجريت نحو
الباب وخرجت وأقفلته على الفور.
سمعت صوت أخي يصرخ:
"افتح يا وليد... أنا لست حيوانا لتحبسني هكذا"
فرددت بانفعال:
"ستبقى حبيسا هنا يا سامر إلى حين موعد السفر. لن أسمح لأي مخلوق بأن يصل
إليك. أتسمعني؟؟ سأخرجك من البلد بعد الغد"
فصرخ سامر:
"ومن قال لك أنني أريد أن أخرج؟؟"
فقلت بعصبية:
"ستخرج يا سامر. ستفعل ما أطلبه منك حرفيا.. أفهمت؟؟ أنا دبرت كل شيء... لا
فكرة لديك عما فعلته وما بذلته لأجل ترحيلك... مهما صرخت ومهما قاومت ومهما
تعاركت.. ستفعل ما أريده أنا... شئت أم أبيت ستنفذ خطتي"
هاج سامر من جديد, وأخذ يضرب الباب حتى خشيت أن ينجح في اقتلاعه... التفت إلى
رغد فرأيتها تنظر إلي نظرات ذعر واتهام...
لا أنقصك الآن يا رغد... أرجوك...
ابتعدت عن الممر وقلبي يعتصر لحالة شقيقي... ذهبت إلى مكتبي لأخذ بعض الأشياء
ثم صعدت إلى الطابق العلوي لأعد حقيبة سفري...
كانت الأشياء مبعثرة في غرفة نومي... فقد قلبها أخي رأسا على عقب وهو يفتش عن
السلاح...
استخرجت حقيبة سفر صغيرة وبدأت أجمع فيها أهم الحاجيات... وفي ذات الوقت
أحاول إعادة النظام إلى الغرفة ولو قليلا...
فجأة... رأيت شيئا لم أكن أتمنى أن أراه آنذاك... شيئا أسطواني الشكل...
مرميا مع مجموعة من الأشياء المبعثرة على الأرض...
صندوق أماني رغد!
وصدقوني... لم أنتبه ليدي وهي تضعه في الحقيبة خطأ... كنت شاردا... ولم أكتشف
ذلك إلا لاحقا...
بعد أن انتهيت من إعداد تلك الحقيبة, أقفلت باب غرفتي ثم ذهبت لتفقد غرفة
سامر... وأخذت منها هاتفه وحقيبته اليدوية والتي كانت تحتوي وثائق مهمة,
وأشياء أخرى... ثم أقفلتها وبقية الغرف, وحملت الحقيبتين إلى الطابق السفلي,
ثم ذهبت إلى رغد واستلمت منها حقيبتها, ونقلت الحقائب الثلاث إلى السيارة
المركونة في المرآب... عندما عدت للداخل وجدت رغد تقف في انتظاري, وطبعا ألف
علامة استفهام تدور حولها... لكنها لم تسألني عن شيء... ربما من هول
الموقف... ألقت علي نظرة... وعادت أدراجها إلى غرفتها.
يدرك كلانا أن المأزق خطير وأنه ليس بالوقت المناسب للكلام...
اقتربت من باب غرفة المجلس, تحسسته... وداهمني ألم فظيع في معدتي... فانسحبت
إلى غرفة المعيشة وابتلعت قرصين من دوائي لم يأتيا بمفعول يذكر وبقيت أتلوى
على المقعد لوقت طويل...
الساعة الرابعة فجرا يرن منبه هاتفي المحمول, يوقظني لتأدية الصلاة...
أنهيت صلاتي وتلاوتي لآيات الذكر الحكيم ودعائي للرب الرحيم... ثم ذهبت إلى
المطبخ ولا شيء يشغل تفكيري غير أخي...
وضعت بعض الطعام والماء على صينية, وتوجهت بها إلى غرفة المجلس...
كان نائما بكل هدوء على الأرض, وقد توسد إحدى الوسائد التابعة للمقعد...
وتلحف بأخرى... رق قلبي له... أردت أن أربت عليه بحنان... لكني ربت بقوة أشد
قليلا لأوقظه للصلاة...
استيقظ سامر وأخذ ينظر إلى ما حوله بهلع... يبدو أن تربيتي كان أقوى مما
تصورت... قلت مطمئنا إياه:
"بسم الله... لا تفزع... إنه وقت الصلاة"
نظر إلي أخي ولم يكلمني... ثم نهض وجعل يمدد أطرافه بإعياء... وتوجه إلى دورة
المياه التابعة للغرفة. أسرعت وجلبت سجادتي وفرشتها على الأرض... خرج أخي بعد
قليل وقال:
"أريد أن أستحم"
ترددت قليلا... ثم خرجت وأقفلت الباب وعدت مجددا أحمل إليه ملابس نظيفة...
وبقيت في الغرفة إلى أن أنهى حمامه وأدى صلاته... وعيني ترقبه من كل
الزوايا...
قلت:
"تقبل الله"
فأجاب دون أن ينظر إلي:
"منا ومنكم"
ثم رأيته يضطجع على المقعد... قلت:
"جلبت لك بعض الطعام... أرجوك تناول شيئا"
ولم يلتفت أخي إلي...
قلت:
"سننطلق قبل طلوع فجر الغد... أخبرني إن كنت تحتاج شيئا لنأخذه معنا"
ولم يرد...
اقتربت منه وتحدثت إليه بكل عطف... بقلب يحمل كل الحب والقلق... إذ قلت:
"أخي... يا نور عيني... أنا لن أسألك لماذا فعلت هذا... ولا يهمني أن أعرف أي
تفاصيل... إنني أريد فقط أن تنجو بحياتك وتبتعد عن الخطر بأسرع ما يمكن"
وتابعت:
"إنني عشت تجربة السجن... وقد كان معي في زنزانتي مجرمو سياسة وأمن بلد...
ورأيت كيف عاملتهم السلطات وكيف عذبتهم أشد التعذيب وقتلتهم أمام ناظري"
قال أخي أخيرا:
"نحن لسنا مجرمين"
تفحصت رده ثم قلت:
"السلطات تعتبركم مجرمين. تصف كل من يعارضها علنا ويثير الشغب والفوضى بأي
شكل من الأشكال تحت اسم مجرمي أمن"
التفت إلي أخي وكأنه يبدي إلي شيئا من الاهتمام لكلامي أخيرا... فتابعت:
"كانوا يعذبوننا أشد التعذيب... حتى أنا ورغم أنني لا أنتمي لتلك المجموعة,
نلت نصيبي من الضرب المبرح المتوحش... لحبسي في الزنزانة الخطأ"
وأضفت وأنا أكشف عن صدري وظهري:
"انظر... كل هذا... وأكثر..."
مشيرا إلى الندب التي خلفتها يد التعذيب على جسدي... ثم أشرت إلى أنفي
وتابعت:
"حتى أنفي كسروه كما ترى..."
وتابعت:
"وصديقي... والد أروى... عذبوه شر تعذيب حتى قضى نحبه وهو على ذراعي..."
وتخيلت صورة نديم... في آخر لقطة له قبل أن يسلم الروح... وانتفض جسدي وامتقع
وجهي وعصرت عيني لأمحو الصورة الفظيعة...
قلت:
"بعد كل هذا... كيف تظن بأنني سأسمح لهم بأن يقبضوا عليك؟؟ أبدا... أبدا"
هنا جلس أخي ورد منفعلا:
"أنا لا يهمني الموت ولا التعذيب..."
ارتعدت من رده... وسألت:
"ما الذي يهمك إذن؟؟"
فقال:
"لا شيء... لاشيء يهمني في هذه الدنيا التعيسة... لا شيء"
وصمت قليلا ثم أضاف:
"لا شيء... بعد كل من فقدت... انتهى كل معنى للحياة في نظري... فأهلا
بالموت..."
وجذب نفسا ثم تابع:
"لكنني لن أموت قبل أن أنتقم منهم"
تضاعف هلعي وسألت:
"ممن؟؟"


فأجاب بعصبية:
"من الأوغاد الخونة الغدارين... الذين قتلوا والديّ..."
فحملقت به مندهشا, فإذا به يقول:
"هل تظن أنهما قتلا برصاص العدو؟؟"
تفاقم تحديقي به, وأضاف:
"بل هي السلطات الخائنة... التي لم تبذل جهدا لتحمي مواطنيها... وسمحت
للمعركة أن تنشب عند الحدود وبالتحديد عند الشارع الذي كانت تعبره حوافل
المدنيين الأبرياء العُزّل..."
ووقف أخي من شدة انفعاله وهتف وهو يضغط على قبضته:
"جعلوا من الحجيج الآمنين مسرحا لجرائمهم النكراء... لن أسامحهم أبدا
وسأجعلهم يدفعون الثمن"
ثم رأيته يحني رأسه ويخفي عينيه خلف يده... ويصمت برهة... ثم يبكي...
"سامر"
ناديته بنبرة ضعيفة حانية... فأزاح يده عن عينيه وقال يخاطبني وسط الدموع:
"أنت لم تر كيف كان جسداهما... لم تر شيئا... الجبين الذي كنت أعكف عليه
تقبيلا وإجلال... مثقوب برصاصة اخترقت رأس أبي... والصدر الذي لطالما
احتضننا... وفيه تربينا ومنه تغذينا... صدر أمي... منبع العواطف والمحبة
والأمان... ممزق إلى أشلاء... حتى قلبها كان يتدلى خارجا منه...
آآآآآآآآآه.... كيف لي أن أنسى هذا آآآآآآآآه"
وجثا أخي على الأرض وهوى بجبينه عليها وراح يبكي بصوت عال منفلت متألم...
ويضرب الأرض بقبضته منهارا...
لم أقو على تحمل ما سمعت... أطلقت آهة ألم من صدري وسالت دموعي أنا الآخر...
كان سامر يضرب الأرض وهو يهتف:
"يا أبي... يا أمي"
ومع هتافه يتشقق قلبي وينطحن...
كنت ألاحظ منذ وفاتهما رحمهما الله, أن سامر كان أطولنا حزنا... وأكثرنا
تذكرا لهما وتألما على الذكرى... لقد كانا أقرب إليه مني وكان أقرب إليهما
مني... بحكم الفترة الزمنية الطويلة التي قضيتها في السجن بعيدا عنهما
ومحروما منهما...
مددت يدي إلى كتفي أخي وشددت عليهما... إلى أن توقف عن البكاء والتفت إلي...
ثم بدأ الشرر يتطاير من عينيه وقال:
"أو تظن أنني سأهرب... دون أن أنتقم؟؟"
قلت:
"تنتقم ممن؟؟"
قال:
"من أي شيء يتعلق بالسلطات... إنهم هم المسؤولون عن مقتل والديّ... وبهذه
الطريقة البشعة"
وهب واقفا فشددت عليه أكثر فقال:
"دعني أطفئ النار المتأججة في صدري"
فقلت:
"وهل سيعيدهما للحياة... أن ترتكب أي عمل جنوني؟؟"
فقال:
"لكنّ غليلي سيشفى قليلا"
فقلت:
"وتدفع حياتك أو حريتك ثمنا؟؟ سامر إنهم لن يعتقوك"
فقال:
"لا أهاب الموت.. لا يهمني... وليس في حياتي ما يستحق العيش من أجله"
شعرت بالمرارة من جملته... فقلت مستدرا عطفه:
"كيف تقول هذا؟؟ سامر أنت لا تزال شابا صغيرا... لديك شبابك وصحتك... وعملك
ومستقبلك... وعائلتك... كيف تضحي بكل هذا؟؟"
فأجاب وهو يرمقني بنظرة حادة...
"أي عائلة؟؟ الوالدان... قتلا... الشقيقة... رحلت بعيدا... الخطيبة...
هجرتني... والشقيق..."
وأمال زاوية فمه بسخرية وأضاف:
"منافق.. متبلد.. لا يشعر.. لا يفهم... ولا يكترث..."
وأضاف:
"من بعد؟"
جرحني ما قاله عني... أبعدت يدي عنه ونظرت إلى الأرض برهة... ثم أعدت بصري
إليه وقلت:
"بل أنا أحس يا سامر... أنت أخي... دماؤك هي دمائي... أكترث لك كثيرا... وإلا
لما حبستك هنا وفعلت المستحيل من أجل سفرك"
قال سامر:
"ثم ماذا؟؟"
فقلت:
"ثم ماذا؟؟؟"
وأجبت على السؤال:
"ثم تبدأ حياتك من جديد في الخارج... المهم أن تخرج من الخطر الآن... وبعدها
سأفعل من أجلك أي شيء"
فنظر إلي نظرة تشكك... ثم إذا به يسأل:
"هل ستعيد إلي والديّ؟؟"
وانتظر ردة فعلي التي لم تكن أكثر من النظرات الحائرة... ثم تابع:
"أم... هل ستعيد إلي خطيبتي؟؟"
هنا تصلب جسمي... وتجمدت نظراتي وفقدت القدرة على تحريكها...
ظل أخي يحملق بي وكأنه ينتظر الجواب... وطال الانتظار...
ابتسم أخي ابتسامة ساخرة واهية بالكاد لامست طرف شفتيه... ثم أولاني ظهره
وجلس على المقعد معلنا نهاية الحوار...
انسحبت من الغرفة وأقفلت الباب... واستندت عليه وأغمضت عيني بمرارة...
فهمت.. أن موضوع عارف المنذر... هو الشرارة التي فجرت برميل الوقود...
هي رغد...
هل هذا هو الثمن الذي تطلبه لقاء حياتك يا سامر...؟؟
أتريد أن تخطف قلبي مني من جديد؟؟
أتريد أن أتنازل لك عن... أول وأكبر وأهم وأعظم حلم في حياتي؟؟
المخلوقة التي هي جزء لا يتجزأ مني... التي هي أنا... بروحي بقلبي بتفكيري
بمشاعري بكياني بماضيّ بحاضري بكل معاني الأنا فيّ...
إنها ذاتي... كيف أكون... بدون ذات؟؟!!
آه... يا رب...
عندما فتحت عيني... خيل إلي أنني رأيت شبح رغد يقف في نهاية الممر... هل
الإضاءة ليست كافية... أم أن غشاوة علت عينيّ من هول ما أنا فيه؟؟ أم... أم
أنها خرجت من شريط أحلامي وظهرت أمامي كالطيف العابر..؟؟
أغمضت عيني مجددا... محاولا ابتلاع جرعة الشبح القوية هذه... التي ظهرت لي في
أتعس لحظات حياتي... وعندما فتحت عيني من جديد... لم أر شيئا...
الحادية عشرة صباحا... استيقظت على رنين هاتفي المحمول الموضوع على المنضدة
إلى جانبي... في غرفة المعيشة...
مددت يدي والتقطت الهاتف وأجبت مباشرة:
"نعم؟"
فسمعت صوت الطرف الآخر... والذي لم يكن سوى أبي حسام, والذي كنت على اتصال به
أولا بأول أبلغه ويبلغني بكل جديد... وكنت قد أبلغته عن عودة أخي وحبسي له في
المنزل...
"مرحبا وليد... اسمعني جيدا..."
وبدا من نبرة صوته أهمية وخطورة ما سيقوله, وسرعان ما أفصح:
"الشرطة في طريقها لتفتيش منزلكم... تصرف بسرعة"
نهضت فجأة... فتبعثرت قصاصات صورة رغد التي كانت نائمة على صدري منذ الفجر..
سألت وقد اجتاحني الفزع والقلق فجأة:
"ماذا؟؟"
فكرر أبو حسام:
"الآن يا وليد... أنا أراهم أمامي في الطريق المؤدي إلى منزلكم. اخف الأمانة
بسرعة داخل المنزل... في الحال... في الحال"
قفزت بسرعة من مقعدي وركضت نحو غرفة المجلس... فتحت الباب وولجتها باندفاع
وأنا أهتف:
"سامر بسرعة... الشرطة قادمة"
كان أخي نائما ولكنه سرعان ما انتبه على صوتي... أمسكت بذراعه وأنا أشده
وأقول:
"تعال... يجب أن تختبئ في مكان آخر"
سامر سحب ذراعه من بين يدي وهو يقول:
"حُلّ عني"
فهتفت بعصبية:
"أقول لك الشرطة قادمة... ألا تفهم؟؟"
فأجاب ببرود:
"لا يهمني ذلك. سأسلم نفسي وننتهي من هذه المهزلة"
قلت صارخا:
"يبدو أنك لا تريد أن تفهم"
ثم أطبقت على ذراعه وجررته معي إلى خارج الغرفة أسير متخبطا لا أعرف أين
أخبئه... ظهرت رغد في الصورة أمام باب المطبخ ورأت المنظر فهلعت وسألت:
"ماذا هناك؟؟"
فقلت وأنا أجر أخي رغما عنه نحو المطبخ:
"الشرطة... يجب أن نخبئه... لن أسمح لهم بأخذه ولو اضطررت لقتلهم جميعا"
سرت على غير هدى... مرسلا نظراتي لكل ما حولي... مفتشا عن مخبأ...
خرجت من الباب الخلفي للمطبخ... وسحبت أخي رغم مقاومته إلى الحديقة الخلفية
المهجورة...
نظرت يمنة ويسرة... ولم أجد أمامي سوى قطع من الأثاث القديم الذي أخرجناه
للفناء عندما أتينا للعيش في المنزل, أنا ورغد وأروى والخالة, رحمها الله...
وهناك... على مقربة من أدوات الشواء القديمة... التي أحرقت أخي ذات مرة...
كانت مجموعة من قطع السجاد الملفوفة والمكومة على بعضها... كنا قد سحبناها
إلى هذا المكان في ذلك الوقت...
لم تخطر إي فكرة في بالي... أصلا كان دماغي مشلولا عن التفكير... أريد فقط أن
أخفي هذا الشقيق عن أعين الشرطة إلى أن أسفره للخارج...
دفعته حتى وقع أرضا... وجلست عليه حتى لأعيقه عن الحركة ومددت يدي إلى إحدى
قطع السجاد الملفوفة ودفعتها لتنفتح...
سحبت أخي إلى طرف السجادة وجعلت ألفه بها كما تلف الحشوة بالورق... وهو يصرخ:
"ما الذي تفعله يا مجنون؟؟"
إلى أن أخفيته تماما في جوف اللفافة. سحبتها بعد ذلك بكل طاقات عضلات جسمي...
وركنتها إلى جانب كومة اللفائف الأخرى... ثم أهلت عليها التراب لتبدو وكأنها
مركونة هنا منذ سنين...
"إياك أن تصدر أي صوت يا سامر... لا تضع جهودي هباء... وإذا حاولت شيئا
فسأستخدم سلاحك وأقتلهم جميعا... هل تسمع؟؟ لن أسمح لهم بأن يصلوا إليك أبدا"
وعمدت إلى الرمال أخفي أثار أقدامنا عنهم... ثم قربت وجهي من فتحة اللفافة
وقلت:
"تحمل قليلا... سأخرجك فور ذهابهم... أرجوك اصمد وأنا سأحقق كل ما تتمناه...
دعنا نسافر وافعل بعدها ما تريد... أرجوك يا سامر... أنا أرجوك"
وقمت مهرولا إلى الداخل...
كانت رغد واقفة عند باب المطبخ الخارجي تراقبنا مفزوعة, وكان جرس المنزل يقرع
قرعا متواصلا.
سحبت الفتاة إلى الداخل وأقفلت باب المطبخ وقلت:
"إياك وفعل أي شيء يكشفنا يا رغد... أرجوك... حياة أخي رهن تصرفنا"
أسرعت إلى غرفة مكتبي... والتقطت سلاح أخي الذي كنت أخبئه هناك, وأخفيته في
ملابسي...
جذبت نفسا عميقا ثم توجهت إلى باب المنزل الرئيسي ثم إلى الفناء الخارجي ثم
إلى البوابة الرئيسية وفتحتها...



.................................................. ..........


كنت في المطبخ أتناول فطوري بهدوء... إلى أن سمعت صوت باب يفتح ووقع خطوات
تجري بارتباك على الأرض... قفز إلى ذهني الظن بأن
سامر قد خرج من الغرفة بطريقة ما ويحاول الفرار... وسمعت صوت وليد بعدها
يهتف:
"سامر بسرعة... الشرطة قادمة"
انتفضت ذعرا ووقف متكئة كليا على عكازي كعجوز طاعنة في السن... ثم جررت رجلي
جرا نحو الباب... ورأيت وليد يقبل باتجاهي وهو يجر سامر قسرا... فسألت بفزع:
"ماذا هناك؟؟"
فرد باضطراب شديد:
"الشرطة... يجب أن نخبئه... لن أسمح لهم بأخذه ولو اضطررت لقتلهم جميعا"
أخرج وليد سامر إلى الفناء الخلفي ودفنه في جوف قطعة سجاد ملفوفة... مغمورة
بالرمال والغبار...
إنه سيختنق إن بقي هكذا لبضع دقائق... بدون أدنى شك...
كانت عيناي معلقتين على لفافة السجاد وفوهي مفغور من الخوف والفزع... ولم
أشعر إلا ويد وليد تسحبني إلى داخل المطبخ... ثم إذا به يختفي... لبضع
ثوان... ثم يعود ومعه رفقة...
رأيت وليد يقبل نحو فتحة باب المطبخ ويطرقه بيده ويتحدث إلي بينما عيناه
تراقبان شخصا آخر:
"بعد إذنك يا ابنة عمي... لدينا زوار"
ثم يدخل إلى المطبخ ويتبعه شرطي يرتدي الزي العسكري... شعرت بالقشعريرة تهز
بدني ورأيت نظرة خاطفة أرسلها وليد إلي مليئة بالتحذير...
عبر الشرطي في المطبخ وهو يدوس بحذائه على الأرضية... وسار نحو المخزن
وتفقده... ثم اتجه نحو الباب الخارجي وأمسك بقبضته وأدارها...
كنت حينها أتصبب عرقا وأكتم أنفاسي... وأقف مختبئة خلف وليد...
سمعت الشرطي يسأل:
"أين المفتاح؟؟"
فأجاب وليد:
"مفقود منذ زمن"
فسأل الشرطي:
"ماذا يوجد خلف الباب؟"
فأجاب وليد:
"الفناء الخلفي للمنزل"
فسار الشرطي متراجعا نحو باب المطبخ الداخلي... وغادره...
استدار وليد إلي ولم ينبس ببنت شفة... وبقينا نركز سمعنا على حركة رجال
الشرطة وهم يفتشون في أرجاء المنزل...
أقبل أحدهم بعد ذلك إلينا وسأل:
"الغرف في الطابق العلوي مقفلة... أين المفاتيح؟؟"
فرد وليد:
"أجل... إننا لا نستخدم معظمها لذلك نبقيها مقفلة"
فكرر الشرطي:
"أين المفاتيح؟؟"
فقال وليد:
"سأجلبها لكم"
ثم التفت إلي وقال:
"تعالي معي"
وسرنا جنبا إلى جنب إلى غرفة مكتب وليد... حيث استخرج المفاتيح وسلمها للشرطي
فقال الأخير:
"رافقنا للأعلى"
فقال وليد:
"الفتاة مصابة كما ترى..."
مشيرا إلى عكازي. فسلم الشرطي المفاتيح لرفقائه وأمرهم بتفتيش جميع الغرف...
وبقي هو واثنان من أتباعه معنا في المكتب...
قال الشرطي:
"إذن... هل تقيمان بمفردكما هنا؟؟"
فأجاب وليد:
"تقيم معنا خادمة بشكل متقطع. وزوجتي مسافرة للحداد على والدتها المتوفاة
مؤخرا"
سأل الشرطي:
"لمن ملكية هذا المنزل؟؟"
فقال وليد:
"ملكية مشتركة بيني وبين أخوتي وابنة عمي"
فقال الشرطي:
"والسيد سامر آل شاكر... ألا يقيم هنا؟؟"
فأجاب وليد:
"كلا.. إنه يقطن الشمال منذ سنين"
واستمر الشرطي بطرح عدة أسئلة, أجاب عنها وليد بتماسك مصطنع... إلى أن أقبل
رجال الشرطة وقالوا:
"لا أحد في الطابق العلوي"
فقال الشرطي القائد:
"فتشوا الفناء"
وهنا أحسست بيد وليد تنتفض... ولو لم يكن الشرطي ينظر نحو أتباعه لحظتها
للاحظ ما لاحظت... واكتشف سرنا...
أخذت أبتهل إلى الله في أعماقي أن يعمي أبصارهم عن مكان سامر... دعوته بكل
جوارحي وأنا متأكدة من أن وليد يلهج بالدعاء مثلي...
يا رب إننا لا نملك إلا قلوبنا لتتضرع إليك... لا تخيّب رجائنا المتعلق بوجهك
الكريم...
غادر الشرطي القائد المكتب لاحقا بأتباعه... التفتُ إلى وليد والذعر يملأ
وجهي فنظر إلي نظرة حمراء مرعبة... وقد تحول بياض عينيه إلى بحر من الدماء
المغلية... ثم رأيت يده تتحرك نحو أحد جيوبه... ويخرج منه... مسدسا!!!
شهقت فزعا فوضع وليد يده الأخرى على فمي يكتم شهقتي... وقال:
"سأقتلهم إن لمسوه يا رغد"
حاولت أن أتنفس ولم أستطع... احتقنت الدماء في وجهي واحتبس الهواء في صدري...
كدت أقع مغشية من الذهول والفزع... سمعنا وقع أقدام تقترب... فخبأ وليد
المسدس خلف ظهره واقترب من باب المكتب... ووقف على أهبة الاستعداد لأن يصوب
المسدس نحو رجال الشرطة...
أقبل الشرطي القائد وخلفه بعض من أتباعه, ووقف إزاء وليد ثم قال:
"إذا جاء إلى هنا أو عرفتم له طريقا فمن الخير له ولكم أن تبلغونا. إنه مجرد
مشتبه به وليس متهم. سنطلق سراحه بعد استجواب دقيق وينتهي كل شيء"
ثم أشار إلى جنوده بالانصراف, وغادروا الجميع المنزل...

********

التفت إلى رغد غير مصدق بأن الشرطة قد غادرت بالفعل... دون أخي... كنت أريد
أن أسمع منها تأكيدا للأمر حتى أصدقه... غير أني رأيتها فجأة تنحني على
المقعد وتتنفس بقوة وتئن...
أعدت المسدس إلى جيبي وأسرعت إليها وانحنيت إلى جانبها بقلق شديد وقلت:
"رغد أأنت بخير؟؟"
فقال وهي تلتهم الهواء التهاما:
"سأختنق... أكاد أختنق"
وكان جسدها يرتعش من الذعر ووجها يسبح في بحيرة من العرق...
شددت على يديها وأنا أقول:
"أرجوك تشجعي... بسم الله عليك... تماسكي صغيرتي"
وإذا بيديها تطبقان على ذراعي ووجها يندفن في ثنايا كم قميصي وهي تصيح
منهارة:
"أنا لا أتحمل هذا... سأموت من الخوف..."
حاولت أن أهدئها قليلا ثم نهضت واقفا وابتعدت فصرخت:
"إلى أين تذهب؟؟"
فأجبت:
"إلى سامر"
وهرولت مسرعا تتبعني نداءاتها:
"لا تتركني وحدي...!"
من بين كومة السجاد... حركت اللفافة التي تغلف شقيقي... فتحتها بسرعة
واستخرجت أخي من جوفها... أمسكت بكتفيه... ثم جعلت أنفض التراب عن وجهه وشعره
وأنا أخاطبه:
"نجونا يا عزيزي... لقد رحلوا"
نظر إلي سامر نظرة حزينة موجعة... فقلت:
"سامحني يا عزيزي... لم أكن أريد أن أفعل بك هذا... سامحني"
ثم طوقته بذراعي وجذبته إلى صدري وعانقته عناقا حميما...
بعد ذلك أخذته إلى داخل المطبخ وقدمت إليه الماء فشرب كمية كبيرة... لا تقل
عن الكمية التي أفرغتها في جوفي بسرعة...
قلت بعدها:
"لم يعد البيت آمنا لك... سآخذك إلى مكان آخر حتى يحين موعد الرحيل"
جلس أخي على أحد المقاعد الموزعة على الطاولة, ووضع رأسه على الطاولة
باستسلام وتأوه...
قلت وأنا أتحرك نحو الباب الداخلي للمطبخ:
"سأرى كيف يمكنني إخراجك الآن وإلى أين آخذك"
وقبل أن أخرج من المطبخ سمعته ينادي:
"وليد"
التفت إليه فرأيته ينظر إلي وقد علت قسمات وجهه شتى التعبيرات...
"لماذا... تفعل هذا لي؟؟"
سألني وعيناه تكاد تنزفان دمعا من فرط ما هو فيه... فقلت:
"كيف تسأل يا سامر؟؟ إنك أخي الوحيد... أنا ليس لي في الدنيا شقيق وقريب
غيرك..."
فقال سامر:
"لكنني..."
ولم تسعفه الكلمات... فقلت:
"أنا... لن أرى شقيقي الوحيد... ما تبقى لي من أبوي... ومن الدنيا... يتعرض
للخطر وأقف متفرجا... مهما كان حجم ما اقترفته... أنا لن أسمح لمخلوق بإيذائك
يا سامر... أرجوك... دعني أنفذ خطتي... ثق بي..."
وذهبت مسرعا إلى غرفة المعيشة, حيث كنت قد تركت هاتفي المحمول...
اتصلت بأبي حسام, فأخبرني بأنه كان لا يزال يحوم على مقربة من المنزل, وأن
الشرطة قد غادرت ولا شيء يثير الشبهات حول المنزل... فطلبت منه المجيء وفور
وصوله أدخلته إلى المنزل فسألني:
"أين سامر؟؟"
فأخذته إلى المطبخ, حيث كان سامر يجلس, وكذلك كانت رغد...
الدهشة علت وجهيّ سامر ورغد لدى رؤية أبي حسام... والأخير توجه مباشرة نحو
سامر وشدّ على كتفه وهو يقول:
"الحمد لله... انك لا تزال بخير"
سامر نظر إلي بحيرة وقلق, فقلت:
"إنه يعرف كل شيء... وهو هنا لمساعدتنا"
وأبو حسام للعلم يعمل في إحدى الدوائر العسكرية, عملا مكتبيا.
التفتُ إليه وقلت:
"سآخذ سامر إلى مكان آخر... أرجوك أبق مع رغد حتى أعود... ولا تفتح الباب لأي
طارق... سأعود بأقصى سرعة"
"ماذا؟؟"
كان هذا صوت رغد تهتف بفزع وهي تهب واقفة وأمارات الخوف جاثمة على وجهها, ثم
تقول:
"لن تتركني وحدي هنا"
فقلت:
"أبو حسام سيكون معك"
فهتفت:
"لن تتركني وحدي في هذا المكان... لا يمكنني البقاء هنا أكاد أموت ذعرا...
أرجوك وليد خذني معك"
قلت محاولا طمأنتها وتهدئتها قدر الإمكان:
"يا رغد... المشوار الذي سنقطعه أكثر خطورة... أنت هنا بأمان أكثر... قد
يداهمنا رجال الشرطة أو قد يحصل أي شيء في طريقنا, كيف تريدين مني أن
أصطحبك؟"
تحدث أبو حسام موجها الخطاب لرغد:

"لا وقت لنضيعه في الكلام, يجب أن نخرج سامر من هنا فورا"
ثم التفت إلي وقال:
"هيا يا وليد... عجّل..."
تبادلت النظرات مع أخي وأبي حسام ثم عدت إلى رغد... وحال منظرها الفظيع دون
نطقي بأي تعليق. فقال أبو حسام مستعجلا:
"الآن يا وليد"
مسحت قطيرات العرق المتجمعة على وجهي وعنقي ثم قلت موجها خطابي إلى رغد:
"ابقي لحين عودتي... لن أتأخر"
أغمضت رغد عينيها ذعرا... لكنني لم أستطع غير المضي قدما...
التفتُ إلى شقيقي الجالس على المقعد وقلت:
"هيا بنا... توكلنا على الله"
لم يتحرك سامر بادئ ذي بدء... ظهر هادئا مستسلما يائسا... وكأن الأمر لا
يعنيه أو أنه فاقد الأمل في النجاة...
نظر أبو حسام إلى سامر وقال محثا إياه على النهوض:
"هيا يا بني"
وهو يشد على كتفيه. وقف سامر وعيناه تدوران فيما بيننا وأعيننا معلقة عليه...
ثم نطق أخيرا:
"إلى أين؟؟"
يسأل عن المخبأ الذي خططت لنقله إليه, فأجبت:
"مصنع والدي"
حملق الجميع بي لبرهة... تعلوهم الدهشة.
مصنع والدي, دمر أثناء غزو العدو على المدينة قبل سنوات... وهو الآن مهجور
وخرب ولا تتنازل حتى وحوش البرية للإقامة فيه. يقع المصنع عند أطراف المدينة
في مكان ناء... يستغرق الوصول إليها زمنا... خصوصا وأن الشوارع بقيت على
حالها مدمرة ومتقطعة...
أخيرا التفت أبو حسام إلى سامر وقال:
"توكلا على الله"
وسار أخي وهو يقترب مني... حيث كنت الأقرب إلى الباب. وعندما صار أمامي...
مددت يدي إلى ذراعه وقلت:
"سامر... ثق بي... اعتمد علي... أعدك بأن تغادر البلد سالما بإذن الله... لقد
رتبت لكل شيء... النقود تسهل كل صعب..."
نظر إلي أخي والهم يعشش على عينيه... نظرة هزتني من الأعماق... فشددت على
ذرعه بقوة وقلت:
"أرجوك... تشجع... وعدني بأنك لن تضيع جهودي عبثا... عدني بأن تلتزم بما
أقوله لك... ولا تحاول شيئا آخر... أرجوك عدني"
أحس أخي الرجاء الشديد في نبرة صوتي, وأخيرا نطق:
"أعدك... وليد"
فابتسمت مشجعا... وشددت على ذراعه أكثر... ثم استخرجت من أحد جيوبي السلاح
الذي كنت أخفيه...
قدمته نحو أخي, وهو ينظر إلي مندهشا... فقلت:
"استخدمه إذا اضطررت..."
أخذ سامر مسدسه من يدي... وهو يحملق بي غير مصدق... ثم خبأه في أحد جيوبه, ثم
عانقني عناقا أخويا حميما...
حملنا معنا هاتفي وهاتف سامر, والذي كنت قد احتفظت به عندي, وقبل المغادرة
التفت إلى رغد... والعم أبي حسام, وقلت:
"أمانتك لحين عودتي..."
وأشحت بوجهي قبل أن يحدث منظر رغد في قلبي ثقبا جديدا...
أخيرا دخلنا أحد المباني... المبنى الذي كان يحوي مقصفا للعمال وغرفة
استراحة... كان المبنى الأقل تضررا والذي لا يزال سقفه يقف على جدرانه.
المكان كان موحشا جدا... لا يثير في النفس إلا الذعر...
لم تكن هناك أي إنارة عدا بصيص بسيط يتسلل عبر نافذة صغيرة قرب السقف...
"سيكون هذا جيدا"
قلت ذلك وأنا أنفض الغبار والأتربة عن أريكة مجاورة وأدعو أخي للجلوس, فرد:
"ما هو الجيد؟؟"
وقد غمره الاستياء والنفور الشديدين من المكان... بقي أخي واقفا ينظر إلى ما
حوله بازدراء... جلت ببصري في الغرفة ولم أستطع إقناع نفسي بغير شعور أخي...
الازدراء...
قلت مشجعا:
"لبضع ساعات... تُحتمل"
وأشرت إليه أن يجلس, لكنه لم يفعل...
أخي منذ صغره, اعتاد العيش في النعيم. منزلنا الكبير في الجنوب... ومنزلنا
الراقي في الشمال... وشقته الفاخرة... أذكر أنه عندما زارني في المزرعة ورأى
الغرفة المتواضعة التي كنت أقيم فيها والمنزل البسيط, شعر بالنفور
والازدراء...
قلت:
"هذا لا شيء... مقارنة بالزنزانة"
وأنا أتذكر الزنزانة الفظيعة التي أضعت بين جدرانها القذرة ثمان سنوات من
عمري...
نظر سامر إلي باستسلام, ثم جلس على الأريكة كارها. لو لم يكن لدي ما أنجزه
للضرورة القصوى, لكنت بقيت برفقته... كيف لي أن أترك أخي في مكان مهجور ومرعب
وقذر كهذا؟؟
قلت وأنا أستعد للمغادرة:
"سأنهي ما لدي وأعود إليك..."
وأضفت:
"كن حذرا... ابق عينيك وأذنيك يقظتين و هاتفني إن حصل شيء على الفور"
أرسل أخي إلي نظرة قرأت فيها توسلا... بألا أغيب عنه... فرددت على رسالته
بنظرة تقول: (انتظرني...)
وهكذا, غادرت مصنع أبي المهجور... تاركا في قلبه شقيقي الوحيد... وحيدا...
اتصلت بعد ذلك بالمنزل أطمئن على رغد وأبي حسام وأطمئنها علينا... وتوجهت
بعدها لاستلام الوثائق الضرورية التي تلزمنا للسفر... وأنجزت مهاما أخرى...
لن تصدقوا ما اضطررت لفعله من أجل إنقاذ أخي... لم أكن لأتصور نفسي سألجأ إلى
هذا... يوما من الأيام...
عدت بعد ذلك إلى المنزل... بمجرد دخولي للداخل, وقع بصري على رغد...
كانت تجلس في الممر... على الأرضية الرخامية... مستندة إلى الجدار... ومادّة
رجليها إلى الأمام... وعكازها مرمي إلى جانبها الأيسر وهاتفها إلى جانبها
الأيمن... ووجها مغمور في سحابة داكنة من الهلع والاضطراب... حينما رأتني مدت
يدها نحوي ونادتني بلهفة:
"و... ليد"
كان صوتها ضعيفا واهنا... سلبه الخوف والفزع المقدرة على التماسك... تقدمت
نحوها وجلست إلى جانبها... أسندت رأسي إلى الجدار... ومددت رجلي إلى
الأمام... مثل وضعها... وأغمضت عيني...
كنت أريد أن ألتقط بعض الأنفاس... أحسست بيدها تتشبث بذراعي... التفت
إليها... وغاصت عيناي في بحر خوفها...
قلت:
"قبل بزوغ الفجر...تبدأ رحلتنا يا رغد"
رغد تحدت ببقايا صوتها قائلة:
"إلى... أين؟؟"
فأجبت:
"برا إلى البلدة المجاورة... ثم جوا إلى الخارج... إلى دانة"
وشعرت بيدها ترتجف... فقلت:
"فقط... لنعبر الحدود بسلام... ادعي يا رغد..."
أغمضت رغد عينيها وكأنها تلح بدعواتها القلبية... إلى الله... فأعدت رأسي إلى
الجدار وأغمضت عينيّ ولهج قلبي بالدعاء...
بعد قليل تحدثت رغد قائلة:
"لا أكاد أصدق شيئا يا وليد... لا أستطيع أن أستوعب ما يجري... أهو كابوس..؟؟
أرجوك قل لي بأنه كابوس"
فتحت عينيّ... والتفت إليها... ثم قلت:
"أتمنى لو أنه كان كابوسا يا رغد... ليته كان كابوسا... آه"
سألت وهي غير مصدقة:
"لماذا...؟؟ سامر!! أنا لا أصدق... إنه لا يمكن أن يفعل شيئا... إنه هادئ
ومسالم جدا... ماذا فعل؟؟ ولماذا؟؟"
حملقتُ في رغد... وتأوهت بمرارة... وكان صدري على وشك أن ينفث أدخنة كثيفة من
الآهات المتألمة... لا بداية لها ولا نهاية, غير أن أبا حسام أقبل نحونا
قادما من مجلس الضيوف... ثم سألني:
"كيف سارت الأمور؟؟"
فالتفت إليه وأجبته:
"كما ينبغي حتى الآن... المهم الحدود.."
سمعت رغد تقول بقلق:
"ماذا إن أمسكت بنا الشرطة؟؟ ماذا سيفعلون بنا؟؟"
عضضت على أسناني توترا... ونظرت إليها وأنا لا أجد جوابا... إلا أن أقول:
"لا سمح الله... سنكون في مأزق كبير جدا..."
وجوابي زاد من ارتجاف يدها حتى انتقلت خلجاتها إلى ذراعي وهزتني...
تقدم أبو حسام, وجلس على عتبات السلم المجاورة لنا... ثم قال:
"هل يجب أن... تأخذها معكما؟؟"
فجأة انفلتت أصابع رغد وانفتحت قبضتها عن ذراعي... وما كدت ألتفت إليها حتى
انطلقت قائلة بانفعال:
"طبعا سأذهب معكما"
وكأنها تخشى أنني سأقول غير ذلك.
أبو حسام قال:
"تعرف يا وليد أن في الأمر مخاطرة... أخرجه أولا... ثم عد وخذها أو أفعل ما
تشاء"
كنت لا أزال أحدق في رغد... والتي ما كاد أبو حسام ينهي جملته حتى هتفت
وعينها تكادان تقفزان من محجريها من شدة تحديقها بي:
"سأذهب معكما"
فقلت مطمئنا وأنا أرى الهلع يجتاح وجه الفتاة:
"لا تقلقي. فأنا لا أفكر في تركك والسفر إلى خارج البلد"
وسمعت أبا حسام يقول:
"ولكن يا وليد... أليس من الآمن لها أن تبقى عند خالتها؟؟ فقط اضمن خروج سامر
بالسلامة واطمئن على نجاته ثم تعال وفكر فيما ستفعله"
قلت:
"لا أستطيع السفر وترك صغيرتي هنا. لن يرتاح لي بال... لا ينقصني هم آخر..."
والتفت إلى رغد.. فإذا ببعض الارتياح يمحو آثار الهلع الأخيرة... لكنه كان
ارتياحا قصيرا سرعان ما أربكه كما أربكني رنين هاتفي...
حبست أنفاسي ونظرت إلى شاشة الهاتف بهلع... متوقعا أن يكون هذا سامر... أو
أحد الأشخاص الذين أتعامل معهم لتهريبه... أو حتى الشرطة... وعندما رأيت اسم
(المزرعة) يظهر على الشاشة أطلقت نفسي المحبوس بقوة...
"نعم مرحبا"
"مرحبا يا وليد يا بني... كيف حالك؟"
لقد كان عمي إلياس. أجبت بعجل دون أن ألقي بالا عليه:
"بخير"
فسألني عن أحوال ابنة عمي وأحوال العمل وحتى أحوال الطقس, فرددت مقتضبا:
"بخير, أهناك شيء؟؟"
وأحس عمي من ردي ونبرتي أن لدي مشكلة. فسألني:
"ما الأمر يا بني؟؟"
فأجبت بضيق:
"آسف. أنا مشغول الآن"
فقال:
"حسنا. هلا اتصلت بي بعدها؟؟"
فجذبت نفسا ورددت:
"أنا مشغول جدا يا عم"
امتزج القلق بنبرة عمي وهو يسأل:
"أأنت على ما يرام؟؟"
فأجبت:
"أجل ولكن لدي مشاكل حرجة"
فقال:
"إذن... لن تأتي اليوم أيضا؟؟"
لقد كان يوم الخميس.. وكان يفترض بي السفر للمزرعة لحل مشكلتي مع أروى
الأسبوع الماضي, وأجّلت السفر بسبب سفر أخي المفاجئ, واضطراري للبقاء مع
رغد... والآن أرجئه إلى أجل غير مسمى بسبب الورطة الحرجة التي نمر بها...
قلت:
"لا يمكن..."
وأضفت:
"عمي... سأغيب لفترة غير محددة"
صمت عمي برهة,لا بد وانه تضايق من ردي... في حين أنه ما فتئ يتصل بي ويطلب
حضوري من أجل أروى...
سمعته بعد البرهة يقول:
"ولكن أروى..."
ولم أسمع ما قاله بعدها... إذ أن هاتفي قد استقبل اتصال آخر... وفور إلقائي
بنظرة سريعة على الشاشة أجبت المكالمة الثانية بلهفة:
"نعم سامر هل أنت بخير؟؟"
وقلبي ينزلق من صدري كما تنزلق قطرات العرق من جبيني...
رد سامر قائلا:
"نعم وليد... ألن تأتي؟ المكان موحش هنا جدا"
ازدردت ريقي ثم قلت:
"هل سمعت شيئا؟؟ هل حدث شيء؟؟"
فقال:
"رأيت أفعى من حولي... الشمس توشك على المغيب ولن أستطيع رؤية حتى يدي بعد
قليل... اجلب لي مصباحا"
علقت:
"تقول أفعى؟؟"
فقال:
"نعم. ومن يدري؟ ربما يوجد عقارب أو ما شابه... والجو حار وخانق"
قلت:
"إذن الزم الطابق العلوي. ولو فوق السطح... أنا قادم إليك الآن"
فرد:
"نعم أرجوك"
قلت:
"توخ الحذر... يحفظك الله"
وأنهيت المكالمة وهببت واقفا فهبت رغد مستندة إلى عكازها ووقف أبو حسام
تباعا... قلت:
"سأعود إليه"
فهتفت رغد:
"لا تتركني مجددا أرجوك"
فقلت مخاطبا إياها:
"سآخذ إليه بعض الطعام والماء ومصباحا يدويا... وأبقى لمؤانسته بعض الوقت
فالمكان هناك شديد الوحشة"
قالت رغد:
"وأنا؟؟"
نقلت بصري بين رغد وأبي حسام وكدت أنطق بجملتي التالية إلا أن أبا حسام سبقني
قائلا:
"دعني أذهب أنا هذه المرة... وابق أنت مع ابنة عمك"
وركزت نظري عليه يعلوني التردد... فقال:
"هات ما يحتاجه... سأبقى برفقته حتى تأتيان فجرا"
فقلت:
"و... لكن... يا عم..."
ولم أكن أعرف ما أريد قوله... وتولّى أبو حسام دفة الكلام وقال:
"قضاء ليلة كاملة وحيدا في مكان مهجور ومنقطع عن العالم فيما الشرطة تبحث عنك
هو ليس بالأمر المتحمل... لا يجب أن نتركه بلا رفيق. سأبقى معه في انتظار
مجيئكما صباحا"
وهكذا اتفقنا على أن يذهب أبو حسام حاملا الحاجيات إلى سامر ويبقى برفقته تلك
الليلة...
كنت أعرف حتى الآن... أنها لن تكون مجرد ليلة عادية... بل ستكون... ليلة رعب
وقلق وأرق متواصل... وأنني وإن كنت سأقضيها في منزلي جسديا, فسأقضيها مع سامر
روحيا وقلبيا... وأنني لن أعرف للنوم طعما ولا للبال راحة وسأبقى أترقب ساعة
بعد ساعة... أذان الفجر... الذي ستعقبه رحلة الفرار...
هكذا كنت أتوقع لتلك الليلة أن تكون... من أسوأ ليالي عمري... لكنني, ورغم كل
توقعاتي وتوجساتي... وجدتها قد اجتاحت كل الحدود... وأتت أشد وأقسى من أن
تخطر لي على بال... على الإطلاق...
ليلة الرعب الأعظم في حياتي تلك... الأفظع والأبشع والأشنع على الإطلاق...
قضيتها... مع... وفقط مع... صغيرتي البريئة... شريكة المواقف الفظيعة...
والحوادث المريعة...فتاتي الحبيبة رغد...










باقي حلقة وحدة


استنووووووووووووني

رد مع اقتباس
  #14  
قديم February 12, 2009, 08:42 PM
 
رد: لكل يلي قاعدين يدورو على رواية انت لي .....ادخلو (كاملة)

الحلقة 50
الجزء الاول




طلبت من رغد أن تأوي على الفراش باكرا... لأننا سنرحل باكرا بُعيد صلاة الفجر
مباشرة. كانت رغد مصرة على البقاء ساهرة على جانبي في غرفة المعيشة... مترقبة
معي أي جديد... لكنني ألححت عليها بالذهاب على غرفتها ونيل حصتها من النوم...
فما ينتظرنا في الصباح شاق وطويل...
كنت أشعر بالأسى لحال الصغيرة... فهي وجدت نفسها فجأة مضطرة للسفر ومعرضّة
للخطر والإرباك... وهي مجرد فتاة صغيرة لا ذنب لها فيما يحصل ولا طاقة لها
بتحمله...
للحظة استسغت فكرة أبي حسام في أن يصطحبها معه إلى الشمال... حيت تجد
الاستقرار والأمان في بيت خالتها ومع أقاربها... لكنني خشيت أن يحصل معي ومع
سامر أي شيء... يمنع عودتي إليها ويقطع اتصالي بها... كنت بين ألسنة النيران
تحيط بي من كل جانب... ولم يكن لدي متسع من الوقت لإعادة التفكير وتغيير مجرى
الخطة...المهم الآن أن أضمن سلامة سامر, وبعده... سأعيد النظر في كل شيء...
كنت جالسا على أحد المقاعد في غرفة المعيشة... أعيد إلى محفظتي القصاصات التي
بعثرتها صباح اليوم... قصاصات صورة رغد... وأرتب النقود وخلافها في حقيبة
اليد الصغيرة وأنا شارد التفكير... فيما أنا كذلك, قُرع جرس المنزل...
هببت واقفا فجأة... متوجسا خيفة...
قُرع الجرس مجددا... قرعا فوضويا... قرع قلبي معه... أسرعت إلى الهاتف
الداخلي وسألت عن الطارق.
"المباحث. لدينا أمر بتفتيش المنزل. افتح الباب"
تلاحقت أنفاسي هلعا... الشرطة من جديد؟؟
لم أكن أريد أن أفتح الباب... لكن... كان لابد لي من ذلك... فتحت القفل الآلي
للبوابة الخارجية وسرت نحو الباب الداخلي وما كدت أفتحه إلا وفوجئت بحشد كبير
من العساكر يندفعون بقوة نحو الداخل... مصوبين فوهات أسلحتهم نحوي وفي كل
اتجاه...
كانوا يرتدون زيا مختلفا عما رأيت مسبقا... مما حدا بي إلى الاستنتاج أنهم
ليسوا عساكر مدنيين...
أخذني الفزع ولم أجسر على أي تصرف... وإذا بقائدهم يحدق بي ثم يشير إلى
العساكر آمرا:
"ليس الهدف, انتشروا"
أخذ الجنود يتدفقون إلى الداخل... فهتفت وأنا أراهم ينفذون الأمر دون اعتبار
لي:
"انتظروا... أنتم... كيف تقتحمون علينا المنزل... ما هذا؟؟"
والحشد يستمر بالتوغل غير آبه بكلامي.
التفتُ إلى القائد فإذا به يقول:
"لا تعترضنا. لدينا أوامر رسمية بتفتيش المنزل واعتقال المشبوهين"
فالتفت إلى العساكر ورأيت بعضهم يندفعون عبر الردهة إلى الممر الأيمن...فلحقت
بهم بسرعة وركضت أسبقهم نحو غرفة رغد ووقفت عند بابها...
توزع العساكر فرقا في كل الاتجاهات... إلى اليمين في اتجاه المطبخ وغرفة
المائدة... إلى الشمال في اتجاه المجلس وغرف الضيوف... إلى الدرج... إلى
الطابق العلوي... انتشروا انتشار الجراد على الحقول... يدوسون بأحذيتهم
العسكرية على أرضية وسجاد المنزل النظيف مخلفين آثارا قذرة كقذارة
تصرفاتهم...
اقتربت فرقة منهم مني يريدون اقتحام الغرفة خلفي...
صرخت بهم:
"ما هذه الهمجية؟؟ ألا تراعون أن للبيوت حرمات؟؟"
رد أحدهم بوقاحة:
"لا تكثر الكلام. دعنا ننجز مهمتنا"
فقلت بغضب:
"هل تقبل بأن يقتحم أحد عليك بيتك بهذا الشكل؟؟"
حينها أقبل قائدهم ووقف أمامي واستخرج من جيبه ثلاث صور لثلاثة أشخاص... لمحت
أخي من بينهم... وكانت الصورة قديمة له قبل إجراء عملية التجميل لعينه
اليمنى..., ثم قال:
"نحن نبحث عن هؤلاء... أتعرفهم؟؟"
أجبت:
"لا يوجد في هذا المنزل من تريدون... لقد فتشتم أرجاءه كاملة هذا الصباح
فماذا تريدون بعد؟؟"
وعوضا عن الشعور بالخجل من همجية عساكره, قال قائدهم:
"فتشوا الغرفة"
يقصد غرفة رغد التي أقف أنا عند بابها حائلا دون تقدمهم.
صرخت وأنا أنشر ذراعيّ سادا المعبر:
"إياكم والاقتراب... هذه غرفة فتاة ولا أسمح لكم بدخولها"
فقال القائد مصرا:
"فتشوها"
اقترب أحد العساكر مني فدفعته بيدي وأنا أهتف:
"قلت لكم لن تدخلوها... أليس لديكم أي اعتبار للحرمات؟؟ ابتعدوا"
فجأة... إذا بجميع العساكر من حولي يشهرون أسلحتهم في وجهي... وإذا بقائدهم
يأمرهم:
"ابتعدوا"
ولم أر إلا سواعد غليظة قاسية تنقض علي محاولة جري بعيدا عن الباب...
حاولت أن أقاومهم... ضربت... ركلت... صرخت:
"رغد"
ثلاثة منهم أطبقوا على أطرافي وجروني إلى الأمام... وآخر تسلل من خلفي وأطبق
على مقبض الباب وفتحه...
صرخت بكل حنجرتي:
"رغد... رغد"
وحررت إحدى يدي وأطبقت على الجندي الذي فتح الباب وسحبته من قميصه إلى الوراء
بقوة... نظرت إلى الداخل فرأيت رغد تهب جالسة على سريرها وتنظر نحو الباب
وتنطلق صرخاتها المفزوعة فورا...
هتفت:
"رغد"
ثم جررت بقية أطرافي بكل ما أوتيت من قوة من بين قبضات الثلاثة الآخرين وركضت
مسرعا إليها...
كانت رغد تطلق الصرخة تلو الصرخة من فرط الفزع... قدمت إليها بسرعة وأحطتها
بلحافها وطوقتها بذراعي وجذبتها إلي وأنا أهتف:
"أنا هنا يا رغد... هنا معك... أنا معك"
وهي مستمرة في نوبة الصراخ المفزوعة لا تكاد من شدّة فزعها أن تسمعني...
الغرفة كانت خافتة الأضواء... تستمد نورها من مصباح النوم المجاور للسرير...
اقتحمها جنود الأمن... بل جنود الرعب والفزع... وأخذوا يجوبون في أرجائها
ويفتشون الدواليب... والستائر...
صرخت فيهم بأعلى صوتي:
"أيها الأوغاد... أيها الحقيرون... أيها الهمجيون الأراذل"
لكن صراخي لم يكن يهزّ في مشاعرهم المتبلدة أي شيء...
اقترب أحدهم منا... قاصدا تفتيش أسفل السرير فانفلتت أعصابي أشدّها... ونظرت
من حولي فرأيت الهاتف الثابت موضوعا على المنضدة المجاورة... أطبقت عليه ثم
رفعته ورميت به بقوة باتجاه الجندي فأصبته...
التفتت أعين بقية العساكر إليّ... ولم أر إلا حشدا غوغائيا متوحشا يهرع
باتجاهي كي يهاجموني...
تركت رغد من بين يدي وهببت نحوهم أحول دون تقدمهم وأنتقم لانتهاك حرمة
منزلي...
ضربت... ركلت... ولكمت... بثورة... بشراسة... بكل ما أوتيت من قوة... أو ما
تبقى في جسدي من قوة بعد كل ما ألم به مؤخرا...
عددهم كان عشرة أو أكثر... كانوا مسلحين... أجسادهم ضخمة وقوية... تدربت على
القتال العنيف... الفتاك...
أذاقوني فنونا لم أذقها أيام سجني... انقضوا علي انقضاض قطيع من الذئاب
الجائعة على فريسة واحدة... قبل أن تنتهي الضربة تلقفني ضربة أخرى... وقبل أن
أشعر بالألم في موضع, يصاب موضع آخر... وقبل أن أحرك أي جزء من جسمي, تجثوا
علي أجسادهم الثقيلة فتشلني تماما...
أظنهم كسروا جمجمتي... ربما سحقوا دماغي... لأنني لا أستطيع أن أتذكر ما
حصل... لم أعد أستطيع التذكر... لم أعد أستطيع الرؤية... لم أعد أستطيع
التنفس... ولم أعد أستطيع سماع... صراخ رغد...

**********

أما أنا... فقد كنت أسمع صوت الضرب... وصوت وليد يصرخ متألما... وكنت أصرخ...
وأصرخ... وأصرخ...
حسبت أنني مع صرختي الأخيرة... خرجت روحي مفارقة جسدي...
أبعدت اللحاف عن وجهي... هل لي بنظرة أخيرة على وليد؟؟ أين وليد؟؟ أين وليد؟؟
كان هناك... تحت كومة ضخمة من الأجساد البشرية... الوحشية... غارقا في
الدماء...
لقد رأيته... يمد يده نحوي... يحاول أن يزحف باتجاهي... لم يكن ينظر إلي...
كانت الدماء تغرق عينيه...لكنه يعرف أنني هنا... أنا هنا وليد... تعال
إليّ... وليد أسرِع إلي... ابتعدوا عنه... أيها الأوغاد ابتعدوا عن وليد...
أمسكت بعكازي... ووقفت... لا أعرف كيف... وسرت خطوتين... فوليد لم يكن بأبعد
من ذلك...
رفعت عكازي... وهويت به على رأس أحد الأشرار... هل أصبته؟؟ أم أخطأته؟؟ لا
أدري... لكن العكاز لم يعد في يدي... لم أعد أستطيع أن أقف... كنت سأقع على
حافة السرير, لكن شيئا ما قد ضربني وأوقعني أرضا...
صرخت...
"آآآآآآآآه..."
وسمعت صوت وليد يرد على صرختي:
"رغد"
صوته جاء أشبه بصدى مرتد عن بئر عميق...
اقترب الوحش الذي ضربته مني... ورفع قدمه ورفسني بقوة... رفسة ربما كسرت
العظم الذي ما كاد ينجبر في يدي اليمنى... وأنا أطلق الصرخات... فزعا
وألما...
"وليد... وليد...وليد"
تحركت يد وليد من تحت كومة الوحوش... ثم ظهر جسده وهو يستل من بين قيودهم
بصعوبة... يقاوم هذا ويدفع هذا ويضرب ذاك... وهو يصرخ:
"ابتعدوا عنها أيها القذرون"
ويزحف على ركبتيه... حتى وصل إلى الوحش الذي ضربني وأطبق على ساقه وجذبها
وأوقعه أرضا... وأسرع إليّ...
تشبثت به بقوة... وأنا أرتجف كالزلزال من الذعر... أبحث عن نقطة أمان بين
يديه... كانت يداه تحاول أن تحتوياني... يقربني ويبعدني وهو يهتف باسمي
مكررا:
"رغد... رغد..."
فجأة... رأيت عصا تحلق في الأعلى... ثم تحط بقوة على رأس وليد...
صرخت... وصرخ وليد... وأفلتٌ من بين يديه... ورأيت رأسه يهوي أرضا... ثم إذا
به يبتعد عني... كانوا يسحبونه بعيدا...
صرخت... ومددت يدي نحوه وأمسكت بيده وأنا أناديه بفزع ما ضاهاه فزع... ورأيت
يده تتحرك وتمسك بيدي... ثم تنفلت منها... وليد لم يكن ينظر نحوي... لم يكن
يراني... لأنهم كانوا يقلبونه صدرا على ظهر... ويمينا على شمال... كانوا
يمسكون برأسه... ويوشكون على كسر عنقه... كانوا يريدون أن يقطعوا نحره بحافة
ذقنه... كانوا يحاولون خلع مفاصله وفصل أطرافه عن جسمه... رأيتهم... يدوسون
على ذراعه الممدودة نحوي... ويركلون رأسه كما تركل كرة القدم...
وعصيهم كانت تنهال على ظهره وصدره بالضرب... وكأنهم يفتتون صخرة صلبة... تسد
عليهم الطريق...
أولئك... لم يكونوا مخلوقات من هذا الكوكب... لم يكونوا يدركون... من هذا
الذي يهمون بقتله... لا يعرفون أن هذا... هذا هو... وليد... وليد قلبي... كل
حياتي...
أردت أن أنهض وأهب للذود عنه... لأفعل أي شيء... لأصد عنه ضرباتهم... بحثت عن
عكازي... الذي طالما تحمل ثقلي طيلة الشهور الماضية وصار كجزء مني... أتعرفون
أين وجدته؟؟؟


يطير في الهواء... ثم ينقض على ظهر وليد... يفصم فقراته...
صرخ وليد...
صرخت... وصرخت... وصرخت... وليد سمع صراخي فرفع رأسه يبحث عن الاتجاه... لم
تعد أذناه تميزان اتجاه الأصوات... لقد زحف في الاتجاه الخاطئ... فزحفت نحوه
أجر رجلي المجبرة جرا...
أخيرا أمسكت بيده... فشد علي... ورفع ذراعه وحاول أن يطوقني... المجرمون
كانوا مستمرين في ضربه بالعصي... كانوا يرفسونه بأحذيتهم... ويدوسون عليه...
لوحت بيدي وأنا أحاول إبعادهم عنه وأنا أهتف:
"كفى... أرجوكم كفى... كفى..."
لكن أحدهم... ركل بطن وليد بشراسة... وليد تأوه بشدة... وخرجت نافورة من الدم
من فمه... ثم رفع رأسه وناداني... وأخيرا هوى بصدره نحو الأرض...
أحد الوحوش... أشهر مسدسه وصوب فوهته مباشرة إلى رأس وليد...
فزعت... ذهلت... انتفضت... صرخت بقوة:
"لا... لا... لاااااااااااا"
أطبقت على رأس وليد وضممته بين ذراعي...
نظرت إلى صاحب المسدس وصرخت:
"أرجوك لا... أرجوك لا... أرجوك لا"
وهو يهدد:
"ابتعدي"
فوضعت رأسي على رأس وليد... ولففته بذراعي أحول دون أن يفجروه...
"أرجوك لا... أرجوك لا... لا تقتله... لا...لا...لا..."
سمعت صوت أحدهم يقول:
"يكفي هنا. لم نؤمر بالقتل.انصراف"
أبعد صاحب المسدس مسدسه عن وليد... وسدد الرفسة الأخيرة إلى ظهره... فأطلق
وليد أنة ضعيفة شبه ميتة... وفي ثوان... اختفى أنينه... واختفى صوت الجنود
وصوت عصيهم... ولم أعد أسمع في المكان غير أنفاسي...
كنت آنذاك متصلبة على وضعي... وأنا أمسك برأس وليد وأدرعه بذراعي... وأضع
رأسي عليه... وأغمض عيني بقوة... لأضمن عدم مشاهدة ما سيفعله الأوغاد به...
مر بعض الوقت... والهدوء مستمر من حولي... فيما الأعاصير القوية مستمرة في
صدري... وفيما ذراعاي متيبستان حول رأس وليد... حتى فقدت القدرة على
تحريكهما...
وبعد أن طال الهدوء... تشجعت وفتحت عيني بحذر... وجلت ببصري فيما حولي... ولم
أر للوحوش أثرا... رفعت رأسي ومسحت بأنظاري كل أرجاء الغرفة... ولم أجد معي
فيها غير وليد...
لقد انصرفوا...
كان وليد قربي مباشرة... مكبا على وجهه... وقد نزع قميصه ومزقت ملابسه...
وتزاحمت الجروح والكدمات على جسمه... وكأنها تتنافس فيما بينها للنيل منه...
وقد أغرقت الدماء ثيابه وما حوله...
كان رأسه لا يزال بين يدي... كاملا... متماسكا... لم يفجر... لكنه كان مبللا
بمزيج من العرق والدم... وأشعر بالبلل يتخلل أصابعي مقطرا من شعره...
أدرته يمينا فيسارا... لأتأكد من أن ثقبا لا يخترقه أو أن رصاصة لا تنغرس
فيه... فإذا بي أرى عينيه تسبحان في شلال من الدماء المتدفقة من جرح غائر في
ناصيته...
وكان شلال آخر أشد غزارة يتدفق باندفاع من أنفه... وكأنه يفر هاربا من وحش
الكهف الأسطوري... هذا... عدا النافورة العنيفة... التي تفجرت من فمه قبل
قليل...
لم أكن أرى وجه وليد... حقيقة... لم أكن أرى غير طوفان من الدم الجارف يتدفق
من كل مكان... ويصب في كل مكان...
صرخت:
"وليد... وليد..."
رأيته يحرك رأسه ويحاول فتح عينيه... غير أن الدماء كانت تغمرهما... سحبت
لحافي المفروش على سريري بسرعة... وجعلت أمسح الدماء عن عينيه... وأنا أصرخ
وأبكي بذعر:
"افتح عينيك... وليد أرجوك... انظر إلي"
فتح وليد عينيه ونظر إلي ونطق بأول حروف اسمي... ثم رفع ذراعه اليمنى وألقاها
حول ظهري...
كان... لا يزال حيا...
بعد ذلك حاول أن يستند على يده الأخرى لينهض... لكنه ما إن رفع رأسه عن الأرض
بضع بوصات حتى أطلق صرخة ألم وخر أرضا من جديد...
أظن... أن ذراعه اليسرى قد انفصلت عن جسده... فهو لم يستطع الارتكاز عليها...
لا بد وأنهم خلعوا كتفه أو كسروا عظام يده... كان يتألم بشدة... بشدة... وليد
قلبي يصرخ متألما... آآآآآآه... وليد... وليد...
اقتربت من رأسه وأحطته بذراعي مجددا وصرخت:
"أنت حي...؟؟ وليد... كلمني أرجوك..."
وشعرت به يتحرك... يحاول النهوض... ويعجز من فرط إعيائه... ثم حرك رأسه ونظر
باتجاه الباب وتكلم...
"رغد... الباب"
وفهمت منه أنه كان يريد أن ينهض ليقفل الباب... فتشبثت به أكثر وقلت بفزع:
"لا تتركني"
حرك وليد يده اليمنى وأمسك بيدي وقال:
"الباب... اقفليه... رغد... بسرعة"
وشعرت به يشد على يدي بضعف... فأبعدت رأسي عن رأسه وسمحت لعينيه بالنظر إلى
عينيّ... وما إن رآني حتى قال:
"الباب... بسرعة... لا أقوى على النهوض"
لم أكن أملك من الشجاعة ما يكفي لأن أبتعد عنه شبرا واحدا... وليس بي من قوة
تعينني على الحراك حتى لو رغبت... وعوضا عن ذلك... شددت عليه أكثر وقلت:
"لا أقدر... خائفة"
فحرك وليد يده ومسح على رأسي وقال:
"أرجوك... أسرعي"
نظرت إليه فرأيته ينظر نحو الباب...
تلفتُ من حولي... بحثا عن عكازي... كان ملقى في الطرف الآخر من الغرفة أبعد
علي من الباب... حررت رأس وليد وأومأت إليه بنعم, ثم... زحفت على يدي وأنا
أجر رجلي المجبرة... شبرا شبرا... إلى أن وصلت إلى الباب فأغلقته ومددت يدي
للأعلى وما إن أمسكت بالمفتاح حتى أقفلته وخررت على الأرض ألتقط أنفاسي...
كانت أنفاسي تخرج من صدري مصحوبة بأنين قوي... كنت أرتجف من الذعر وجسمي
ينتفض بشدة... ويتعرق بغزارة... وكأنني قمت بمجهود كبير...
سمعت صوت وليد يناديني:
"رغد"
التفت إليه فوجدته وقد انقلب على ظهره ورفع رأسه وأسنده على قاعدة السرير...
ومد يمناه نحوي... ثم قال:
"تعالي"
لملمت فتات الطاقة المتبقية في أرجاء جسدي المشلول من الفزع... وزحفت عائدة
إلى وليد... كان مشوارا طويلا... امتد بين المشرق والمغرب... استهلك مني كل
عضلاتي وكل قوتي... وما زلت أزحف وأزحف... إلى أن صرت قربه... رميت برأسي في
حضنه وغرست أظافري فيه...
لقد كنت أريد أن أفتح قفصه الصدري وأحتمي خلف ضلوعه... أظنني اخترقت ضلوعه
فعلا... لا بد أنني داخل قلبي الآن... لأنني أسمعه ينبض بقوة... بسرعة...
بثورة...
وكأنني أشعر بدمائه تبللني... وكأنني أشعر بأنفاسه تعصف بي... وكأنني أشعر
بذراعيه تغلفانني...
دعوني أسترد أنفاسي... وأستجمع قواي... دعوني أسترخي وأغيب عن الوعي... دعوني
أستعيد الأمان والسكون... داخل صدر وليد...
بعد فترة... أحسست بشيء يحاول إبعادي عن وليد... فتشبثت به بقوة أكبر...
وصحت:
"لا"
وسمعت وليد يناديني... فقلت:
"أرجوك... دعني"
وبكيت بحرارة... وأنا أغوص بين ضلوعه... أعمق وأعمق...
وشيئا فشيئا... بدأت خفقات قلب وليد تتباطأ... وبدأت أنفاسه تهدأ... وبدأت
ذراعه ترتخي من حولي... فتحت عيني... ورفعت رأسي قليلا ونظرت إليه... كان
يغمض عينيه ويتنفس بانتظام... وصوت الهواء يصفر عند عبوره في أنفه المحتقن
بالدماء... كانت الدماء المتخثرة ترسم على وجهه العريض خريطة متداخلة معقدة
الملامح...
جلست ونطقت باسمه:
"وليد"
ولم يرد... لقد نام من شدة الإعياء... أو ربما فقد وعيه... لكنني عندما ربّتُ
على وجنته انعقد حاجباه لثوان ثم استرخيا...
كان رأسه لا يزال مسندا إلى قاعدة السرير في وضع مؤلم... مددت يدي وسحبت إحدى
وسائدي ووضعتها على الأرض... وحركت رأس وليد بحذر وأسندته إليها... ثم سحبت
البطانية وغطيته بها...
وبقيت جالسة بجواره... أراقب أنفاسه وأي حركة تصدر عنه... وأنا أدقق السمع
حتى خُيّل لي أنني سمعت صوتا ما من خارج الغرفة... فنظرت إلى الباب بفزع...
ثم انحنيت قرب وليد وأمسكت بيده وشددتها إلي... طالبة الأمان...

************

تنبهت على صوت شيء مزعج... صوت يتكرر بانتظام... مرة بعد أخرى... كان صوت
منبه...
أغمضت عيني بقوة... فأنا أسعر بحاجة مُلحّة لمتابعة السيارة... أشعر بأنني
أستيقظ من أعماق أعماق نومي... ولا أريد أن أنهض...
لكن الرنين المتكرر المزعج أجبرني على فتح عيني والانتباه لما حولي...
اكتشفت... أنني كنت أنام على الأرض... في غرفة رغد... فتذكرت هجوم العساكر
وانتقل دماغي فجأة من أعماق النوم إلى قمة اليقظة...
حاولت أن أهبّ جالسا فشعرت بشيء ما يربط يدي ويعيقني هن النهوض وداهمتني آلام
حادة في جسدي كله... أعادتني إلى وضع الاضطجاع مرغما... التفت ببصري إلى
اليسار... فوجدت رغد نائمة وهي في وضع الجلوس... ملاصقة لي... وقد استندت إلى
سريرها وضمت يدي اليسرى بين يديها...
كان المنبه يتوقف عن الرنين قليلا ثم يعاود... ولكن رغد لم تنتبه عليه... ومع
هذا... فإنني ما إن سحبت يدي حتى استيقظت ورفعت رأسها مفزوعة...
التقت نظراتنا... أنا الممدد على الأرض...بِخوْرِ قِوى... وهي الجالسة بقربي
بفزع...
"وليد"
كانت هي أول من تكلم... بلهفة وقلق وهي تنحني نحوي وتحملق بعينيّ...
استخدمت يديّ الاثنتين لأنهض عن وضعي المضطجع... بكل ضعف... كعجوز طاعن في
السن... مدقوق العظام مترهل البنية... واهن العضلات... كانت الآلام تقرص كل
أجزاء جسمي قرصا... وكان أنفي شبه مسدود... بقطع الدم المتخثر في جوفه...
وكان عنقي يؤلمني بشدة... وأنا عاجز عن تحريكه في أي اتجاه...
أخيرا أحسست بيد رغد تمسك بي... فأرغمت عنقي على الالتفات إليها ومددت يدي
أشد على يدها وقلت:
"هل أنت بخير؟؟ هل تأذيت صغيرتي؟؟"
ورأيت الدموع تتجمع في عينيها بمرارة... فانهرت أكثر مما أنا منهار وأطلقت
صوتي كالنحيب قائلا:
"آسف... سامحيني..."
فأي خزي وأي عار...أشد من أن يعتدى على حرماتك بشكل أو بآخر... وأنت ترى
وتعجز عن الدفاع؟؟
طأطأت بصري عنها خجلا... لكنها اندفعت إلي كالسهم المصوب... إلى القلب...
رن المنبه من جديد... وكان إلى الجانب الآخر من السرير... فقامت رغد وزحفت
على سريرها إليه وأوقفته.
قلت:
"كم الساعة؟؟"
فأجابت:



"الثالثة وأربعون دقيقة"
فاضطربت دقات قلبي قلقا... وأنا أتخيل سامر...
وقفت وأنا أستند إلى السرير... ولكنني سرعان ما أحسست بالكون يظلم من حولي
فجلست عليه وهويت منكبا برأسي فوقه...
رغد هتفت بفزع وهي تنحني نحوي:
"وليد..."
فأجبت:
"دوار... انتظري قليلا"
وقد كانت الغرفة تدور من حولي... وقلبي يخفق بقوة... والهواء لا يكفي لملء
صدري... أما يداي فقد كانتا ترتعشان... وما كنت قادرا على التحكم بهما...
استمر هذا الشعور بضع دقائق... ثم زال تدريجيا... ولكنه عاودني بصورة أخف
عندما رفعت رأسي من جديد...
أظن... أنني نزفت دما كثيرا... ولهذا أشعر بالدوار والاختناق...
سمعت رغد تقول:
"أرجوك ابق مضطجعا"
فالتفت إليها بإعياء وقلت:
"يجب أن ننهض... سامر ينتظرنا"
رغد قالت منفعلة:
"أنت جريح... لديك إصابات كثيرة... لا يمكنك التحرك"
فقلت:
"سامر..."
والتفت ناحية الهاتف الثابت ورأيته مرميا على الأرض... ثم التفت إلى رغد
وقلت:
"هاتفك"
وكان هاتفها المحمول موضوعا إلى جانب المنبه. ناولتني إياه فاتصلت بشقيقي
ملهوفا للاطمئنان عليه...
"نعم رغد"
رد أخي... فقلت بصوت هامس:
"هذا أنا وليد... هل أنت والعم بخير؟؟"
"نعم. ننتظركما"
واطمأن قلبي على أخي فأنهيت المكالمة بسرعة ووضعت الهاتف على السرير... ووقفت
ببطء وحذر... محاولا الاعتماد على رجليّ... اللتين كانتا تستصرخان من
الألم... وعندما خطوت خطوة واحدة... تفاقم الألم في ظهري وشعرت بأن فقراته
تكاد تتفكك وتتبعثر...
أطلقت أنة ألم من أعماق حنجرتي... وتصلبت في مكاني لا أقوى إلا على جذب
الأنفاس...
رغد وقفت على رجليها... السليمة والمجبرة... وأمسكت بيدي وطلبت مني أن أجلس.
"يجب أن نذهب يا رغد... لا وقت لدينا"
قلت, فردت معترضة:
"كيف وأنت بهذه الحال؟ لماذا لا تخبره بما حصل؟"
فهتفت بسرعة:
"كلا... لا"
قالت:
"ولكن..."
فقلت مؤكدا:
"إن علم سامر بما حصل فسوف يأتي... أنا متأكد أنهم يراقبون المنزل الآن..."
شهقت رغد خوفا... ثم سألت:
"إذن... كيف سنخرج؟؟"
فقلت:
"سأتفقد الأمر"
تلفتت رغد من حولها بحثا عن عكازها... وعندما رأته... ذهبت سائرة على جبيرتها
وتناولته... ثم قدمت إلي وسارت ملاصقة لي... نسير ببطء وحذر... إلى أن فتحنا
الباب وخرجنا من الغرفة...
كان البيت يخيم عليه السكون... استنتجنا أنه لا أحد في داخله على الأقل...
توجهت إلى باب المدخل وأوصدته... وعدت إلى رغد وقلت:
"لا احد هنا. سيُرفع الأذان الآن... سنخرج بعد الصلاة مباشرة... سأصعد للأعلى
وأنظر من الشرفة"
قالت رغد بسرعة:
"ماذا؟؟ كيف ستصعد الدرجات وليد؟؟ أنت مصاب... ولا أريد أن أبقى وحدي هنا
أرجوك"
قلت:
"تعالي... سأرافقك إلى غرفتك. ألزميها حتى آتيك"
كانت رغد تهز رأسها معترضة, متوسلة ألا أتركها وحدها... لكنني كنت أريد تفقد
الشارع من الشرفة لأتأكد من أن الشرطة ليست في الجوار...
وعلى هذا أعتدها كارهة إلى غرفتها وأقفلت عليها الباب وحملت المفتاح معي,
وتركتها لتستبدل ملابسها وتصلي... وصعدت الدرج خطوة خطوة... أكابد المشقة
والألم... إلى الطابق العلوي...
لقد كنت أسير مستندا على كل شيء... السياج... الجدران... الأثاث... كنت مرهقا
جدا... وآلام جسمي تكاد تقتلني...
ذهبت إلى الشرفة ألقيت بنظرة على الخارج... فرأيت الضباب يغمر الأجواء...
ويحول دون رؤية شيء...
توجهت بعدها إلى غرفتي... والتي ترك رجال الشرطة بابها مفتوحا على مصراعيه,
كما فعلوا ببقية أبواب غرف المنزل لدى تفتيشهم لها يوم الأمس...
كنت أريد أن أستحم وألبس ملابس نظيفة وأؤدي الصلاة... وكم هالني المنظر
الفظيع المزري لوجهي حين رأيته في المرآة...
أنهيت استحمامي وضمّدت ما أمكن من جروحي على عجل, واضطررت لارتداء قبعة
لإخفاء جرح ناصيتي... وبعد الصلاة ذهبت لألقي نظرة مرة أخرى من الشرفة... كان
الضباب كثيفا... لكنني سمعت أو ربما توهمت سماع صوت صفارة سيارة شرطة يشتد
ويقترب...
أصبت بالهلع... فهرولت مسرعا نحو الدرج وأنا أهتف:
"رغد"
هبطت السلالم بأسرع ما أمكنني... أتعثر بخطواتي... غير آبه بأوجاع رجلي...
شبه متزحلق على قدمي... وتوجهت نحو غرفة المعيشة... ومنها أخذت الحقيبة
اليدوية الحاوية للنقود والحاجيات الأخرى... وكذلك هاتفي وهرولت إلى غرفة
رغد...
لم أطرق الباب... بل هتفت باسمها وأنا أدخل المفتاح في ثقبه وأقبض على المقبض
ثم أديره وأدفع بالباب بسرعة وأندفع إلى الداخل...
كانت رغد تلبس رداء الصلاة... وتجلس على الكرسي في اتجاه القبلة... وفي يدها
مسبحة... فهي بطبيعة الحال لم تكن تستطيع السجود على الأرض بسبب الجبيرة...
"رغد... هيا بسرعة... أظنهم عائدون"
قلت هذا وأنا أندفع نحوها بسرعة... وأمسك بيدها وأحثها على النهوض...
وقفت رغد على رجليها والهلع يجتاحها... وقالت بفزع:
"ماذا؟؟"
قلت:
"الشرطة قادمة... لنخرج بسرعة"


.................................................. ............


أشرت إلى عكازي المرمي على الأرض وهتفت:
"عكازي"
فانحنى وليد وناولني إياه وهو يقول:
"بسرعة... بسرعة..."
ارتديت خفي المنزلي والذي كنت قد خلعته قبل الصلاة وتركته بجواري, ثم سرت
خطوتين في الاتجاه المعاكس... نحو عباءتي... فسأل وليد:
"إلى أين؟؟"
قلت مشيرة إلى الشماعة:
"عباءتي"
فأسرع هو إليها وجذبها والوشاح من على الشماعة... وأقبل نحوي وناولني
إياهما... أخذتهما على عجل ومن شدة ارتباكي أوقعت عكازي... وبدأت بارتدائهما
فوق حجابي كيفما اتفق, وفي ذات اللحظة... سمعت صوت صفارة سيارة شرطة يزعق من
خارج المنزل... هنا.. لم أشعر إلا برجليّ تطير فجأة عن الأرض... وإذا بوليد
يهرول نحو المخرج الخلفي للمنزل... حيث المرآب... وهو يحملني... على كتفه...
"عكازي!!"
هتفت ونحن نبتعد... لكن وليد لم يستجب... وسار منحني الظهر مترنحا يوشك على
الوقوع بي, حتى وصلنا على الباب الخلفي فأقفله بسرعة وكاد ينزلق وهو يهبط
العتبات...
أنزلني عن باب السيارة وفتحه ودفع بي إلى الداخل وأغلق الباب وجزء من ذيل
عباءتي وطرف وشاحي يتدليان إلى الخارج...
ثم توجه بسرعة إلى الباب الآخر... وهو لا يزال محدودب الظهر مترنح الخطى...
ففتحه ورمي بحقيبة كان يحملها إلى الداخل وقفز على المقعد وشغل السيارة وفتح
بوابة المرآب واندفع خارجا بالسيارة بسرعة...
كل هذا في ثوان لم تكن كافية لأن أستوعب ما يجري...
وفوق ما أنا فيه فوجئت بأن الجو كان مغطى بضباب كثيف جدا... لم أكن معه
أستطيع رؤية شيء في الشارع...
استمر وليد بالقيادة بسرعة لا تتناسب والضباب الكثيف... كان ينعطف يمينا
ويسارا فجأة كلما ظهر شيء في طريقنا ولولا لطف من الله لانتهى المطاف بنا إلى
حادث فظيع...
عندما ابتعدنا عن قلب المدينة إلى الشارع البري قال لي:
"اتصلي بسامر"
فقلت:
"هاتفي بقي في المنزل"
فأشار إلى الحقيبة التي جلبها معه وقال:
"هاتفي هنا"
فتحت الحقيبة فوجدت فيها مجموعة من الأوراق...وجوازات سفر... وتذاكر رحلات
جوية... ورزم من الأوراق المالية...
ووجدت كذلك الهاتف...
كان على الشاشة ثلاث اتصالات فائتة, كلها كانت من سامر.
اتصلت به وما إن رد حتى سحب وليد الهاتف مني وخاطب سامر قائلا:
"نحن في الطريق إليك... ابق مختبئا على مقربة من البوابة وسلاحك في يدك...
سأتصل حين نصل"
ثم قال:
"لا أعرف فالضباب شديد ولا أستطيع أن أسرع أكثر من ذلك..."
وأنهى مكالمته ثم التفت إلي وسأل:
"هل أنت بخير؟؟"
كنت أحاول أن أسحب عباءتي العالقة تحت الباب دون جدوى, خفف وليد السرعة وقال:
"افتحي الباب"
وسحبتها أخيرا... ولففت وشاحي حول رأسي...
لم تكن الشمس قد أشرقت بعد... والطريق يخيم عليه الهدوء... ووصلنا إلى جزء
وعر منه ارتجت السيارة أيما ارتجاج وهي تعبره...
كنت أحاول النظر إلى الخلف خشية أن تكون سيارات الشرطة في تعقبنا, لكن الرؤية
كانت مستحيلة ولم أسمع أي صفّارة...
وصلنا بعد ذلك إلى المخبأ الذي كان سامر وعمي أبو حسام يحتميان فيه. أوقف
وليد السيارة وتناول الهاتف واتصل بسامر وقال:
"السيارة أمام البوابة... تعال فورا"
ومن بين الضباب رأيت سامر وأبا حسام يظهران أمامنا...
سامر فتح الباب الخلفي وركب السيارة بسرعة... وأبو حسام أقبل نحو النافذة إلى
جانب وليد وهو يهتف:
"انطلقوا على بركة الله"
وليد قال وهو يدوس على كابح السيارة:
"أشكرك يا عم... لن أنسى صنيعك هذا"
فأشار أبو حسام وهو يهتف:
"اذهبوا هيا... يحفظكم الله"
وانطلق وليد بالسيارة وأبو حسام أخذ يلوح لنا وهو يقول:
"انتبهوا لأنفسكم يا أولادي... اتصلوا وطمئنوني عليكم... في أمان الله"
وكما ظهر وسط الضباب, اختفى وسط الضباب...


وليد التفت إلى سامر الجالس في الوراء وسأل:
"هل أنت بخير؟؟"
فرد سامر مندهشا:
"ماذا جرى لوجهك وليد؟؟"
فاستدار وليد إلى الأمام وركز النظر في الطريق...
عندها التفت أنا إلى سامر ونطقت:
"هاجمونا وضربوه حد الموت... العساكر الوحوش..."
ذهل سامر وحدق بي ثم بوليد بأوسع عينين...
فتابعت:
"ماذا كنا سنفعل لو أنهم قتلوه؟؟ ماذا كان سيحدث لي لو أنهم أطلقوا الرصاصة
على رأسه كما كانوا يعزمون؟؟"
وسمعت صوت وليد يناديني زاجرا:
"رغد"
فالتفت إليه ورأيت في عينيه نظرة انزعاج... فقلت وأنا أمسك بطرف وشاحي في يدي
وأقول:
"أيرضي أحد ما أنا فيه؟؟ ما الذي فعلته لأمر بكل هذا؟؟ إلى متى سأعيش هذا
التشرد؟؟ أنا تعبت... تعبت"
وطأطأت رأسي ودفنته بين ثنايا الوشاح وجعلت أبكي بحرقة...
حل صمت طويل علينا... وانشغل كل منا بأفكاره الخاصة... إلى أن أحسست بسرعة
السيارة تخف تدريجيا... ثم تتوقف.
نظرت إلى وليد فرأيته ملتفتا إلى سامر يخاطبه قائلا:
"تول القيادة... أنا مرهق"
ثم سمعت صوت الباب الخلفي ينفتح وينزل سامر... التفت وليد إلي وقال:
"اذهبي للخلف"
وخرجنا جميعا من السيارة لتبديل مقاعدنا. وقبل أن يركبا, منحاني فرصة لنزع
حجاب الصلاة الأبيض وارتداء الوشاح والعباءة الأسودين... كنت ألقي بنظرة
عليهما... وأرى وليد يقف محني الظهر... مستندا إلى السيارة... والتعب جلي
عليه... أخذت أراقبه عبر زجاج النافذة دون أن ينتبه... وعندما ركب السيارة
بادرت بسؤاله:
"هل أنت بخير وليد؟؟"
فأجاب وهو يسند رأسه إلى مسند السيارة:
"سأكون كذلك"
وسمعت سامر يقول:
"أنا آسف يا أخي"
فيرد وليد:
"لا عليك... انطلق بسرعة... يجب أن نصل في الموعد المحدد"
سار سامر بسرعة أبطأ من سرعة وليد... وعلل ذلك بعد اتضاح الرؤية أمامه...
وبعد فترة بدأ الضباب ينقشع حتى زال تماما... قبل أن نصل على الحدود.
أظن أن وليد قد غفا لبعض الوقت من شدة إعيائه... وعندما اقتربنا من أول نقاط
التفتيش عند الحدود سمعت سامر يخاطبه قائلا:
"وليد...وصلنا"
وكان صوت سامر مغلفا بالخوف والقلق... وليد تحرك من مقعده ثم أخذ يستخرج بعض
الأوراق من جيوب سيارته فيما قلوبنا تخفق بشدة وأعيينا مفتوحة أوسعها متربصة
بأي شخص يظهر في الصورة...
تناول وليد حقيبته اليدوية واستخرج الجوازات... وخاطب سامر بينما كان يوقف
السيارة:
"أنا سأنزل لإتمام الإجراءات المطلوبة. وأنت ابق ملازما رغد. إياك والخروج
لأي سبب. وإذا ما واجهت مشكلة لا قدر الله... فسأعطيك إشارة... وانطلق
بالسيارة بأقصى سرعة ولا تأبه لشيء"
حملقنا في وليد بذعر ونحن نزدرد ريقنا متوجسين خيفة... قال سامر:
"ماذا؟؟"
فقال وليد:
"افعل ما قلته لك. إذا أحسست بالخطر فسأعطيك إشارة للهرب... وإن أعترضك أي
شيء فاقتله... وأنا سأتكفل بالباقي"
ولم يترك لنا الموظف فرصة للاستيعاب, إذ به لوح بيده مشيرا إلينا... فنزل
وليد من السيارة وقبل أن ينصرف قرب وجهه من النافذة وهو يقول:
"لا تنس ذلك"
وألقى علي نظرة... ثم انصرف إلى الموظف.
أخذت الوساوس تتلاقفني يمينا ويسارا... وأخذت أتضرع إلى الله من أعماق قلبي
وبكل إلحاح... أن يسهل الأمر علينا ويخرجنا معا من دائرة الخطر سالمين...
رأيت سامر يمسك بشيء بين يديه وسرعان ما تبين لي أنه مسدس... فتفاقم الفزع في
نفسي وكدت أخرّ مغشية من شدة الخوف...
مرة الدقائق التالية كالقرون... ونحن ننتظر عودة وليد وأعيننا محملقة عبر
النوافذ في الاتجاه الذي سار فيه. وبعد هول الانتظار ظهر وليد أخيرا يتقدم
نحونا يحفه اثنان من رجال الأمن, يرتدون زيا عسكريا. لدى رؤيتي لهم انفجر
قلبي بقنبلة من النبضات الصارخة المدوية... كنت أشعر بها تصطدم بأسفل قدمي
وربما تهز السيارة...
سامر بسرعة خبأ مسدسه تحت المقعد وتظاهر بأنه يستخرج أحد الأقراص المدمجة,
وشغل المسجل... وأذكر أن القرص كان يبتهل ابتهالا خاشعا... كان وليد كثيرا ما
يشغله أثناء مشاوير ذهابي وإيابي من الجامعة برفقة مرح.
وصل وليد ورجلا الأمن, وأشار أحدهما إلى سامر بأن يفتح حقيبة السيارة
الخلفية... بينما طلب الآخر منه أن يفتح النافذة... وعندما فتحها ألقى بنظرة
علينا ثم على جوازات السفر التي كانت في يده... وطلب من سامر أن يبرز بعض
الوثائق الخاصة بالسيارة... ثم انصرف... وتبعه الرجل الآخر...
وليد اقترب من النافذة فتشبثت به أعيننا, قال:
"سأنهي الإجراءات وأعود... تسير الأمور بشكل جيد"
فجذبت نفسا عميقا... علّ ذلك يهدئ من سرعة خفقان قلبي ولو الشيء القليل...
وانصرف وليد, ثم عاد بعد قليل... وركب السيارة وقال:
"انطلق"
لم نصدق آذاننا لا أنا ولا سامر... لذا... بقينا متسمرين... ولم تتحرك
السيارة... فنظر وليد إلى سامر وقال:
"هيا"
فسأل سامر:
"انتهى كل شيء؟؟"
فأجاب وليد:
"ليس بعد... لكننا تخطينا أول العقبات..."
وجملته الأخيرة أجهضت بذرة الطمأنينة التي ما كادت تنبت في قلبي... وتجاوزنا
عقبتين أخريين, وخرجنا من حدود بلدنا... ودخلنا حدود البلدة المجاورة...
وهناك طلب منا رجال الأمن الخروج من السيارة لتفتيشها...
تبادل وليد وسامر نظرة وإن خفيت عن رجال الأمن فهي لم تخف عني... سامر حاول
أن يستخرج المسدس متظاهرا بأنه يعدل من وضعية مقعده... غير أن يده لم تطله...
ربما فهم وليد حركة سامر... وكان رجال الأمن من حولنا... فأطل وليد عبر
نافذته وقال:
"الفتاة لا تستطيع النهوض إذ أن رجلها مجبرة"
في محاولة للإفلات من التفتيش, غير أن أحد رجال الأمن قال:
"فليساعدها أحدكما على ذلك"
ولم يجد وليد بدا من أن يلتفت إلي ويقول:
"سأساعدك"
وكانت عيناه مضطربتين وقطرة من العرق سالت على جبينه نصف المخبأ تحت قبعته.
خرج وليد من السيارة وفتح الباب المجاور لي ومد يديه... وعندما خرجت من
السيارة ووقفت على رجلي... راح يتلفت يمينا وشمالا بحثا عن مقعد... ووجدنا
مقاعد حجرية على بضعة أمتار فقال:
"سأرفعك"
ثم التفت إلى سامر وقال:
"تعال معنا"
ولكن وليد وبعد أن سار بي خطوتين لا غير أحس بالتعب وهتف:
"أخي"
وسرعان ما رأيت ذراعيّ سامر تمتد وتحملني...
وصلنا إلى المقاعد فأجلسني سامر على أحدها وجلس وليد قربي مباشرة... وسمعناه
يتنفس بقوة...
سامر سأل:
"أأنت على ما يرام؟؟"
فأومأ وليد بنعم وإن كان مظهره يثبت عكس ذلك... وأرسل أنظاره إلى رجال الأمن
وهم يفتشون السيارة...
جلس سامر إلى الجانب الآخر مني وإذا بوليد يسأل:
"أهو معك؟؟"
فيجيب سامر:
"في السيارة"
فيرد وليد:
"تبا! أين تركته؟؟"
فيجيب سامر:
"تحت المقعد... لن يصعب عليهم العثور عليه"
فيقول وليد:
"أحمق... لماذا لم تخبئه جيدا أو حتى ترمي به من النافذة قبل وصولنا إلى هنا"
فيقول سامر:
"ألست من طلب مني إحضاره معي؟؟ لم يتسع المجال للتخلص منه"
فيعقب وليد:
"سيورطنا هذا المشؤوم... تبا.. من أين حصلت على مصيبة كهذه؟"
وما كاد ينهي جملته حتى رأينا رجال الأمن يكتشفون وجود سلاح مخبأ في قلب
السيارة...
اشرأبت أعناقنا وجحظت أعيينا وجفت حلوقنا... ونحن نرى أحد رجال الأمن يقبل
نحونا قابضا على السلاح بمنديل... كان ابنا عمي جالسين إلى جانبي ولما اقترب
رجل الأمن وقفا واقتربا من بعضهما وسدا المرأى من أمامي... وسمعت صوت وليد
يهمس:
"دعني أتصرف. لا تتفوه بشيء. لازم رغد"
ثم سمعت صوت رجل الأمن وقد صار على مقربة يسأل:
"لمن هذا الشيء؟؟"
مرت لحظة صامتة حسبت أنني فقدت السمع من طولها... ثم إذا بي أسمع:
"إنه... لي"
أتدرون صوت من كان؟؟
صوت وليد...
أو ربما... توهمت ذلك... إذ أنني مع هوسي بوليد... وفي حالتي هذه التي لا
مثيل لها... أصبحت أتوهم كل شيء...
عاد صوت رجل الأمن يسأل:
"هل لديك تصريح رسمي بحمله وإدخاله إلى هنا؟؟"
"لم أجلب معي التصريح"
هذا صوت وليد... أنا واثقة من أنه صوت وليد.. لا يمكنني أن أخطئه... وليد
قلبي!
"تعال معي لو سمحت"
قال ذلك رجل الأمن, ثم رأيت وليد يبتعد عني خطوة, ثم يلتفت إلى سامر ويقول:
"ابق مع رغد. إياك أن تبتعد عنها لأي سبب مهما كان"
فيرد سامر:
"وليد! ما الذي..."
ويقاطعه وليد قائلا:
"لازم الصمت. فقط ضع الفتاة نصب عينيك... أتفهمني؟"
ومال وليد بجسده قليلا لينظر إلي... ولم أستطع لحظتها حتى أن أتأوه... ورأيته
يبتعد خطوة بعد خطوة... إلى أن توارى عن أنظاري...
حينها فقط أطلقت صيحة مكبوتة:
"وليد!!"
ومددت يدي إلى الأمام محاولة الإمساك بظله... لكنه تلاشى...
مرت نحو ساعة... ونحن عند المقاعد, أنا جالسة... وسامر يجلس تارة ويقف
أخرى... في توتر فظيع...
بعد ذلك... أقبل إلينا أحد رجال الأمن وطلب منا مرافقته.
سأل سامر:
"أين شقيقي؟؟"
فأجاب الرجل:
"سيحوّل إلى لجنة التحقيق"
فزعت وشهقت رغما عني... نظر الاثنان إلي ثم إلى بعضهما البعض... وقال سامر:
"تحقيق؟؟"
فأجاب رجل الأمن:
"نعم. فهو يحمل سلاحا ويعبر به الحدود دون ترخيص"
قال سامر:
"ماذا ستفعلون به؟؟"
أجاب:
"سيخضع للتحقيق... لا أعرف تحديدا. المهم... هلاّ رافقتماني الآن؟؟"
سأل سامر:
"نرافقك إلى أين؟؟"
فأجاب:
"للتفتيش الشخصي أولا, وبعد التفتيش, سننقلكما إلى أقرب نقطة بعد الحدود ومن
هناك تابعا طريقكما إلى المدينة في سيارة أجرة إذ أننا سنحتجز سيارتكم عندنا
لحين انتهاء التحقيق وإجراء اللازم"
التفت سامر إلي... وكان وجهه مكفهرا محتقنا بالدماء... ولم يقل شيئا... أما
أنا فقلت وأنا أحرك رأسي اعتراضا وتهديدا:
"أنا لن أبرح مكاني حتى يعود وليد"
فهم سامر قصدي, وخاطب رجل الأمن سائلا:
"أين شقيقي الآن؟ أريد أن أراه"
فأشار الرجل بيده إلى المبنى الذي اختفى وليد خلف جدرانه, فقال سامر:
"خذني إليه من فضلك أولا..."
فقال الرجل:
"لا بأس, تفضل"
عندها مددت يدي وأمسكت بمعطف سامر... أذكره بأنني هنا...
التفت سامر إلي ثم إلى الرجل وسأله:
"هل لديكم كرسي متحرك؟ الفتاة لا تستطيع المشي"
فرد الرجل:
"لا, للأسف"
وعندما نظر سامر إلي أعدت أقول:
"أنا لن أتحرك من مكاني قبل مجيء وليد"
فقال:
"دعيني أراه أولا وأعرف ما أفعل.."
واستخرج هاتفه من جيبه واتصل بوليد...فسمعنا صوت رنين هاتف على مقربة وعندما
التفتنا إلى الصوت رأينا وليد يظهر وبرفقته شرطي, يسيران متقدمين إلينا...
وقفت من شدة هلعي على رجليّ... وكنت أرتدي خفا منزليا على قدمي اليمنى, بينما
الأخرى مجبرة... وأحسست بحرارة الأرض تتخلل خفي وتلهب قدمي, حينما صار وليد
أمامنا راح ينقل بصره بيننا ثم قال:
"اذهبا مع رجال الأمن. سيوصلونكما إلى أطراف المدينة. وبعد ذلك استغلا أي
سيارة أجرة واتجها إلى المطار. التذاكر وكل ما تحتاجانه في حقيبتي اليدوية"
فقلنا معا:
"وأنت؟؟"
فقال بصوت خافت لا يتعدى بعدنا:
"سأسوى المسألة هنا وألحق بكما"
أنا قلت مندفعة:
"لن نذهب لأي مكان من دونك"
فأومأ لي وليد بنظرة من عينيه ثم قال:
"لا وقت لنضيعه في الكلام. الطائرة ستقلع بعد ساعتين. يجب أن تدركاها وترحلا
بسلام"
ثم أخفت صوته وقال:
"أي تأخير سيبقيه في دائرة الخطر... عجلا"
هتفت:
"ولكن"
فقاطعني زاجرا:
"بدون لكن... أتفهمين؟؟"
وحدق بي لثوان... بنظرة زاجرة حادة...
ثم التفت إلى سامر وقال:
"انتبها لنفسيكما جيدا..."
ونطق سامر بنبرة حزينة توشك على البكاء:
"أخي..."
فرفع وليد يديه وحط بهما على كتفي سامر... كأنه يستند عليه, لا يسانده... ثم
تنهد تنهيدة ألم مريرة... ربما لأن ذراعه شبه مخلوعة جريحة... أو ربما لشدة
صعوبة المأزق الذي كنا فيه... قطب حاجبيه ثم أرخاهما وقال:
"اهتم برغد... إنها أمانتك أنت الآن..."
ثم نقل بصره فيما بيننا وقال أخيرا:
"في أمان الله"
لا أذكر... تفاصيل ما حدث بعد ذلك... لا أذكر... إلا وأنا في سيارة... أنظر
عبر زجاج النافذة... ووليد في الخارج... يقف بين رجال الأمن... يلوّح إليّ...
والسيارة تبتعد... وتبتعد... وتبتعد... ويتلاشى وليد... كما يتلاشى السراب...
فجأة... بين عشية وضحاها... بل بين لحظة واللحظة التي تليها... تحولت حياتي
إلى شيء خال من وليد!
يختفي من حياتي فيما أنا أراقبه... وهو يبتعد... دون أن أملك القدرة على فعل
شيء...
ابتعدت السيارة كثيرا... وعيني لا تزال تحدق عبر النافذة... تفتش عنه!...
وصورته الأخيرة... هو يلوح لي بيده... مودعا... هي الصورة الأكثر إيلاما...
التي اختزنتها محفورة في ذاكرتي... كأقسى لقطة وداع فرّقتني عن وليد قلبي...
من بين كل لحظات الفراق الأخرى في حياتي... على الإطلاق...
أصابتني حالة ذهول... فقدت القدرة على الكلام... القدرة على التفكير...
القدرة على التصرف... وانقدت لما كان سامر يطلبه مني دون أن اعرف ما هو...
لم أستفق من حالة التيه... إلا عندما وجدت نفسي أهبط من الطائرة إلى مطار
الوصول... وأفتش عن وليد بين المسافرين...
رأيت كل الناس... كل الأجناس... من كل العالم... كل البشر الذين خلقهم
الله... كلهم من حولي... إلا وليد!
لم أر منه إلا لقطة أخيرة... وهو يلوح لي مودعا... وعيناي تشيعانه... عبر
زجاج النافذة...
لم أشعر بنفسي إلا وأنا أصرخ في المطار كالمجنونة:
"أعيدوني إلى وليد"


.................................................. ..........

.................................................. ...........


اللقاء بداي كان حميما وملتهبا جدا... امتزجت فيه دموع الشوق بدموع الذكريات
الأليمة... بدموع القلق... لكن أكثر الدموع طغيانا كانت تلك التي فجرتها رغد
حزنا وخوفا على وليد. سقتني كؤوس القلق والندم جرعة على مدى الفترة المفجعة
التي تلت وصولنا إلى هذه البلد. فقدنا الاتصال بوليد... حتى أننا لم نطمئنه
إلى أننا وصلنا بسلام... وما فتئنا نحاول الاتصال به بكل الأرقام وفي كل
الأماكن الممكنة دون جدوى. لم نعرف إن كان لا يزال في البلدة المجاورة
لبلدتنا أم أنهم قد رحّلوه إلى بلدنا... أم إلى مكان آخر...
وإن كان في قبضة الشرطة أم أنهم قد أخلو سبيله... اتصلنا حتى بالمنزل
والمزرعة والمصنع.. بلا جدوى.. وتولى عمي أبو حسام مهمة تقصي أخباره في البلد
واستخدم كل الطرق, دون نتيجة حتى الآن.
أخشى ما كنا نخشاه... هو أن تكون السلطات قد زجت به في السجن أو فعلت به
شيئا... وأنا لن أسامح نفسي أبد على ما قد يكون شقيقي قد تعرض إليه بسببي.
وليد قدّم من أجلي تضحية كبيرة... ضحى بنفسه من أجل إنقاذي وفضلني على
نفسه... وتحمل وزري نيابة عني...
أنا أيضا... مستعد الآن لأن أضحي بكل شيء... من أجل ظهوره وعودته إلينا
سالما.
أقمنا في منزل دانة وعائلتها. وهو منزل كبير مؤلف من عدة أجنحة, كان يسكنه
أمير أو ما شابه قبل أن يشتريه نوّار... زوج دانة... لاعب الكرة الشهير...
والمليونير...
ولأنني عدمت خيارا آخر, فقد اضطررت للمبيت هنا مؤقتا لحين مجيء أخي أو إيجاد
حل بديل.
نوّار وعائلته رحبوا بنا وخصّصوا لنا غرفتي نوم في أحد الأجنحة وضيّفونا
بسخاء. واعتمدت على النقود التي تركها وليد في حقيبته لشراء الضروريات.
آه أجل...
لا بد وأنكم تتساءلون عن رغد... وما حل بها بعد وليد...أول ليلة قضتها في هذا
المكان كانت أفظع من الوصف. كانت في حالة ذعر متواصل واضطرت دانة للمبيت إلى
جانبها في الغرفة. كانت تصف لنا كيف هاجم رجال المباحث وليد وأوشكوا على
قتله... وكانت تعتقد بأنه الآن في قبضتهم وأنهم سيقتلونه... كانت ستموت بهذا
الاعتقاد... واضطررت لاحقا لأن أتفق مع عمي أبي حسام على أن يخبرها بأن وليد
بخير ولا يزال محبوسا تحت التحقيق وأنه سيلحق بنا فور خروجه. ارتابت في كلام
أبي حسام أولا ولكنها صدقته في النهاية حتى ولو من باب التعلق ببصيص الأمل...
صرنا لا نجرؤ على ذكر اسمه على مسمعها... خشية أن تفلت الحقيقة من ألسننا
سهوا... وتعود للهستريا المرضية تلك... وبقينا نتظاهر بالاطمئنان والتفاؤل
فيما أفئدتنا يمزقها القلق... والبحث ولاتصالات جارية... ساعة بعد ساعة ويوما
بعد يوم...
"انظر سامر... هل هكذا زاوية أنفه؟.. ألا تبدو أقل حدة؟؟"
تسألني وهي واقفة أمام لوحة جديدة ترسمها لوليد... وهو يلوح بيده... وتقارنها
بصورته...
كانت الساعة التاسعة ليلا... هكذا قضت ساعات الأمس واليوم... تكرر رسم وجوه
أمي وأبي ووليد... من الصور الفوتوغرافية التي كانت بحوزة دانة... الصور التي
تم التقاطها لنا ليلة زواجها... وأخرى التقطت لوالدي الراحلين... عندما ذهب
العريسان لزيارتهما قبل هجرتهما إلى هذه البلدة...
أجبت:
"ألم تتعبي من الوقوف؟ أريحي رجليك قليلا... لا تزالين في فترة النقاهة"
وقد نُزعت جبيرة رجلها اليسرى مؤخرا, فقالت وهي محملقة في اللوحة:
"رجلاي اعتادتا الكسل طيلة الشهور الماضية. آن الأوان لتنشيطها"
وأخذت تتأمل اللوحة ثم قالت:
"لا...! لم أتقن رسم الأنف..."
وإذا بها تزيل اللوحة التي قضت ساعات في رسمها وتضعها جانبا... وتضع لوحة
بيضاء جديدة استعداد للرسم من جديد...
نزعتُ اللوحة من العمود ووضعتها جانبا... ونظرت إلى رغد بحزم... فنظرت إلي
وهي تعبس بانزعاج...
قلت لها:
"يكفي يا رغد... إلى متى ستظلين ترسمين هكذا؟"
فتبدلت تعبيرات وجهها ثم قالت:
"إلى أن... تظهر الأصول... ولا أحتاج إلى الصور"
ثم رمت بالفرشاة والألوان من يدها وسارت مسرعة إلى سريرها وأكبت على وجهها
فوق الوسائد وأخذت تبكي...
التفتُ إلى دانة... التي كانت تجلس على المقعد أمام المرآة... تتابعنا من
خلالها... وهززت رأسي أسفا وحزنا على رغد.
هممت بالاقتراب منها والتحدث إليها, غير أن دانة أشارت إلي بألا أفعل... فلذت
بالصمت وبقيت أسمع صوت نحيبها المرير... وقامت دانة فاقتربت منها وحاولت
تشجيعها ببعض الكلمات... فخرجتُ من الغرفة ووقفت قرب الباب بين رغبتين
متعارضتين في البقاء إلى جوارها والابتعاد عنها.
وبعد قليل رأيت دانة تخرج من غرفة رغد وتغلق الباب من بعدها... وتنظر إلي
والحزن يطلي وجهها بلون رمادي معتم.
فسألتها:
"ماذا قالت؟؟"
فأجابتني بحزن بليغ:
"سألتني عن كنت أملك أيضا...صورة لوالديها الحقيقيين... عمي وزوجته... رحمهما
الله!"



××××××××××××××××××××××××××
ولم يكن قد سبق لرغد وأن طلبت شيئا كهذا ولم تكن تبوح بحنينها لوالديها أو
تعبر عن أي مشاعر تكنها لهما... منذ كانت طفلة صغيرة... على الأقل هذا ما
اعتقده...
أضافت دانة بأسى:
"لو أننا نعلم أين وليد الآن... إلى متى سنظل نجهل مصيره؟؟"
أشرت إليها أن تخفض صوتها... لئلا يصل إلى مسامع رغد وصمتٌ لبرهة ثم قلت
هامسا وأنا أعقد العزم:
"سأذهب للبحث عنه بنفسي"
عندها تلاشت العتمة الرمادية عن وجه دانة وحل التوهج الأحمر على وجنتيها
وقالت:
"تذهب أنت؟؟ لا! مستحيل"
فقلت:
"لا بد من ذلك يا دانة"
فإذا بها تمسك بذراعي وتهز رأسها اعتراضا وتقول منفعلة:
"كلا... لن أدعك تذهب يا سامر... الآن لدي أخ واحد موجود, هل تريد أن أفقدكما
أنتما الاثنين؟؟"
فقلت:
"ولكن يا دانة"
ولم تدع لي المجال لإتمام الجملة بل أسندت رأسها إلى كتفي وقالت:
"لا تفكر يا سامر... أنا ما كدت أصدق... أنك معي الآن... ما أحوجنا... أنا
ورغد إليك... أنت من تبقى لنا من العائلة... أرجوك لا تفكر في الذهاب"
علاقتي بشقيقتي دانة كانت قوية جدا منذ الصغر... كنا صديقين حميمين... وكنت
أعتبرها أقرب الناس إلي... وكانت الوحيدة التي أبث لها بهمومي وأشكو إليها
مخاوفي.
والآن... بعد اجتماعنا من جديد عقب كل ذلك الفراق, استعادت علاقتنا حرارتها
ومتانتها... وأخبرتها بتفاصيل ما حصل معي ومع المنظمة... والشرطة... وبكل ما
مر بي منذ ليلة زواجها وحتى الآن... بل وحتى عن العملية التي أُكريت لجفني...
وعملية الاغتيال الفاشلة التي شاركت فيها... والمؤامرات التي حكناها وكنا على
وشك تنفيذها...
وحالة اليأس التي اعترتني لدى فقد أحبتي... ورغبتي في الانتقام لمقتل
والديّ... تفاصيل كثيرة ومريرة... أعارتني لسماعها الأذن الصاغية.. والصدر
الرحب.. والقلب الحنون.. كعادتها دوما... ما ضاعف شعوري بالندم والخجل من
أفعالي...
مسحت على رأسها مؤازرا... فنظرت إلي ببعض الرضا ثم قالت:
"كما أنني لا أستطيع تحمل مسؤولية رغد... تعرف أنه لا طاقة لي بمزاجها في
الوضع الطبيعي, فكيف بها وهي في هذه الحال؟؟"
شردت قليلا.. وتذكرت شقيقي في يوم فرارنا... وهو يوصني برغد ويحذرني من
الابتعاد عنها مهما حصل... وغزت ابتسامة ساخرة واهية زاوية فمي اليمنى...
لاحظتها دانة فسألت:
"ما الأمر؟؟"
فأجبت:
"تذكرت وليد... وهو يوصيني على رغد... كأنه كان يعرف... أنه لن يواصل الطريق
معنا"
وشردت برهة ثم تابعت:
"كانت آخر كلماته لي: (إنها أمانتك أنت الآن) ..."
وأسندت رأسي إلى الجدار ونظرت للأعلى وخاطبت وليد الغائب في سري:
(هذه الأمانة... لا تريدني أنا يا وليد... بل تريدك أنت)
ثم صفعت برأسي في الجدار بمرارة...
عدت أدراجي إلى غرفة نومي... وما إن دخلتها, حتى سمعت صوت هاتفي يرن...أسرعت
إليه متمنيا أن يحمل الاتصال خبرا جيدا... كان المتصل هو سيف الحازم... صديق
وليد المقرب... يخبرني وللعجب والدهشة... أنه مع وليد الآن... في البلدة
المجاورة لبلدتنا... في إحدى المستشفيات...

************

منذ أن تلقيت اتصاله يوم الجمعة هرعت إلى وليد... أنا مع والدي مسافرين برا
إلى المدينة المجاورة. وليد كان معتقلا لدى سلطات البلدة لتورطه بقضية حمل
سلاح بدون ترخيص. لم نحصل منه على تفاصيل عبر الهاتف ولدى وصولنا فوجئنا بمن
يبلغنا بأنه قد نقل تحت الحراسة إلى إحدى المستشفيات نتيجة تدهور وضعه الصحي
المفاجئ...
مفاجآت وليد هذه لا تنتهي ولم تكن لتخطر لأحد على بال...
تولى والدي-وهو محام كبير كما تعرفون- أمر القضية وحصلنا على إذن رسمي
بزيارته داخل المستشفى يوم الاثنين. قابلنا الأطباء وسألناهم عن وضعه قبل
زيارته فأخبرونا بأنه كان لديه نزيف حاد في معدته وتمزق في جدارها والتهاب
شديد في أنسجة البطن... وأنهم اضطروا لإدخاله إلى غرفة العمليات وإجراء عملية
عاجلة له... وإعطائه كمية كبيرة من الدماء...
تعلمون أن وليد يشكو منذ زمن من قرحة في المعدة ويظهر أنها اشتدت وتمزقت
ونزفت بغزارة...
هذا تفسير معقول...
لكن الغير معقول والغير مصدق... هو ما قالوه أيضا... أنهم وجدوا علامات على
جسده تشير إلى أنه تعرض للضرب أو التعذيب الشديد قبل ساعات من فحصه...
أما الأشد غرابة فهي ورطة السلاح... وهذا السفر المفاجئ لوليد... والغموض
الشديد الذي يغلف القضية...
دخلنا غرفة وليد يسبقنا فضلونا للاطمئنان عليه ومعرفة التفاصيل... لكن ما إن
وقعت أعيينا عليه حتى أطبقت على فمي كي لا أطلق شهقة قوية تثير بلبلة من
حولي... وحملقت فيه مذهولا... وكذلك فعل والدي.
اقتربنا من سريره بخطى مترددة... إذ أننا لم نتيقن من كون هذا المريض هو
بالفعل وليد... وأن القضية كلها ليست تشابه أسماء أو سوء فهم...
رباه... أحقا هذا وليد؟؟
اللهم نسألك اللطف والرحمة...
كان مغمض العينين, ربما نائم... ربما فاقد الوعي... أو ربما أسوأ من ذلك.
جسمه ملفوف بالضماد في عدة مواضع والعديد من الأجهزة موصلة به. جهاز يراقب
نبض القلب, جهاز يكشف مستوى الأوكسجين, جهاز يقيس ضغط الدم... وقارورة دم
معلقة قربه... تقطر دما متدفقا عبر الأنابيب إلى وريده... كان يبدو مزريا...
وكانت هناك ممرضة قابعة بجواره تراقب شاشات الأجهزة وأخرى تقف في الجانب
الآخر وتعمل على تنظيف ما ظهر لنا أنه جرح في البطن. الغرفة تعبق برائحة
الأدوية والمطهرات... ويدوي فيها طنين الأجهزة كأنه صفارة إنذار بالخطر...
اهتز قلبنا لدى مشاهدة المنظر وتبادلنا نظرات الاستغراب والأسف.
عندما نزعت الممرضة الضمادات عن الجرح رأينا حركة تصدر من الجسم الممدد على
السرير تحت اسم صديقي وليد... قفزت أعيننا نحو عينيه ولكنه لم يفتحهما... بل
حرك يده على السرير وكأنه يعتصر ألما...
قالت الممرضة:
"اصبر قليلا"
ثم نظرت الممرضة الأخرى إلى ساعة يدها وقالت:
"إنه موعد المسكن على أية حال"
وحقنت دواء ما عبر أنبوب المصل المغروس في ذراع وليد. أثناء جريان الدواء إلى
وريد وليد كانت تعبيرات الألم ترسم على وجهه تجاعيد عابسة حزينة... اقترنت
بانقباض يده واعتصار عينيه... على إثر هذا لم أتمالك نفسي وأقبلت نحوه بهلع
وهتفت:
"وليد... وليد..."
رأيت وليد يفتح عينيه... ثم يحاول تحريك رأسه ببطء يمينا ويسارا يفتش عن مصدر
الصوت... فمددت يدي إلى يده وشددت عليها وقلت:
"وليد... صديقي... أنا هنا... سيف"
التفت وليد إلي, وبدا أنه غير مصدق, أو مشوش الرؤية... وأحسست بأصابعه تحاول
أن تشد علي.. إلا أنها سرعان ما ارتخت وسرعان ما أسدلت عينيه الجفون وغطت
الرؤية. وعندما ناديته بعدها لم يجبني.
وسمعت الممرضة تقول:
"أعطيته للتو الدواء المخدر"
فالتفتُ إليها وسألت في ذات الوقت الذي سأل والدي:
"هل هو بخير؟؟"
فأجابت:
"يتحسن. غير أنه لا يزال بحاجة إلى المخدر للسيطرة على الألم"
بعدها ذهب والدي لمتابعة القضية وبقيت بجوار وليد أراقبه بتمعن واعد الثواني
متزامنة مع قطرات الدم المتدفقة من القارورة... متناغمة مع طنين الأجهزة
ومؤشر دقات قلب وليد... وأنا شديد الحيرة والقلق والتشويش... إلى أن استفاق
وليد أخيرا بعد نحو ساعتين... فاقتربت منه وشددت على يده برفق وقلت:
"سلامتك... يا عزيزي... ماذا حل بك؟؟"
نظر وليد نحوي وشد بضعف على يدي وأومأ متجاوبا معي... ثم نطق والقلق يغطي
تعبيرات وجهه:
"سيف... الهاتف"
وفهمت منه أنه يريد استخدام الهاتف... استخرجت هاتفي وفيما أنا أمده نحوه
سمعت الممرضة تقاطعنا قائلة:
"ممنوع... لا للهواتف المحمولة هنا"
تلفت من حولي ولم أجد جهاز هاتف ثابت فسألت:
"إذن كيف يمكننا الاتصال؟؟"
فقالت:
"خارج المبنى"
عدت إلى وليد والذي اشتد القلق على وجهه وسألت:
"بمن تريدني أن أتصل؟؟ بزوجتك؟"
فأومأ برأسه نفيا ثم قال:
"سامر... رغد..."
حل والدي المسألة بطريقة ما وأُطلق سراح وليد رسميا بعد ثلاثة أسابيع أخرى...
وكان لا يزال ملازما سرير المستشفى وبحاجة للرعاية الطبية, وكنا أنا ووالدي
نتنقل بين البلدتين لعيادته من وقت لآخر... وكنت أقوم بدور المرسال بينه وبين
شقيقه.. غير أنه وفور صدور أمر الإفراج عنه أصر على مغادرة المستشفى مخالفا
أمر الأطباء... ورافقته بنفسي إلى مكتب الطيران حيث حجز مقعدا على متن أول
طائرة تغادر البلدة متجها إلى عائلته...
وليد أخبرنا أنا ووالدي عن مشكلة تورط شقيقه في الشغب... وعن تعرضه للضرب من
قبل السلطات... واتضحت لنا الأمور الغامضة... غير أنه حذرنا من تسريب أي
معلومات لأي كان أو لأي مكان... وبالأخص للمصنع وموظفيه...
ولذلك فإنني لدى تلقي اتصال من أسامة يسأل فيه عن وليد الغائب فجأة منذ
أيام... زعمت أنه اضطر للسفر إلى شقيقته لظروف عائلية خاصة...
للعلم فإن حالة وليد الصحية لا تزال متدهورة ومعظم الأطعمة محظورة عليه...
وهناك شيء أخر سأخبركم به أيضا... وليد طلب من أبي أن يباشر إجراءات التنازل
عن الوصاية على ابنة عمه اليتيمة القاصر لصالح شقيقه الوحيد... سامر!

***********

تلقيت مكالمة من المحامي يونس المنذر الذي يعمل مع وليد في المصنع, يسألني
فيه عن وليد... ثم أبلغني بأنه مختف منذ أيام!
وأبلغني أيضا... بأن ابنة أخيه والتي تدرس مع رغد في الجامعة أكدت أن رغد
عاودت الحضور إلى الجامعة لبضعة أيام ثم اختفت أيضا وفٌقد الاتصال بها...
وأنهم حاولوا الاتصال مرارا بوليد عبر هاتفه المحمول وعبر هاتف المنزل وحتى
هاتف رغد دون جدوى... وكذلك زاروا منزل وليد أكثر من مرة في أوقات مختلفة وما
من أحد...
أشعرني ذلك بقلق شديد وحاولت الاتصال به بنفسي ولم أفلح. كان خالي قد كلمه
آخر مرة يوم الخميس... وحسب قول خالي, كان وليد متوترا وقال أنه مشغول وقطع
المكالمة فجأة. تفاقم القلق في نفسي كثيرا... وبلغ ذروته حين أخبرني المحامي
في اتصال لاحق بأنه لاحظ اختفاء مبالغ كبيرة من رصيد وليد الخاص, ورصيد
المصنع, وتغيّر مجرى قلقي ومخاوفي حين علمنا بعد ذلك أنه سافر.
كان أبو فادي صديق وليد هو من أبلغنا بهذا الخبر وأكدته عائلة أم حسام, خالة
رغد... قالوا... أنهم علموا أنه سافر مع أخيه وابنة عمه إلى الخارج لأمر
طارئ... لكنهم قالوا أنهم يجهلون أي تفاصيل...
كنت أنتظر من وليد الحضور إليّ من أجل إعادة النظر في مشكلتنا الخاصة والتي
هي أكبر وأهم من أن يماطل في حلها... فكيف تتوقعون

مني أن أفكر... لدى علمي بأنه قد تركني فيما أنا فيه... وسافر مع عائلته دون
أي كلمة؟؟ وكأنني شيء جانبي في حياته أو على الهامش...
تفاقم إحساسي بالغيظ وخيبة الأمل من وليد... وفاق إحساسي السابق بالقلق...
فتوقفت عن محاولة الاتصال به... وصممت على ألا أكلمه... حتى أقابله وجها
لوجه... المقابلة الحاسمة...





.................................................. ........


كعادتي كل يوم... أقضي الساعات في الرسم... إذ إنه لاشيء أمامي غيره...
لم أكن أرغب في مجالسة دانة وسامر أو التحدث معهما... لم أرغب في التواصل مع
خالتي ونهلة وطمأنتهما على أحوالي... لم أبادر بمهاتفة مرح أو أي زميلة في
الجامعة وإعلامها بما حصل معي...
لا شيء يثير اهتمامي... ويشغل تفكيري... غير وليد...
لم أكن أرى غير عينيه... في نظرته الأخيرة لي... عبر زجاج نافذة السيارة...
وهو يلوح لي مودعا...
والصورة الأخيرة التي طبعتها في مخيلتي... ترجمتها بفرشاتي فصارت نصب عيني...
كدت قد تعلقت بأمل شبه ميت... بأنه بخير... وسيظهر... هكذا كان سامر وعمي أبو
حسام يرددان كلما سألتهما... إلى أن اتصل بسامر أبو فادي, صديق وليد الحميم
وأكد أنه مع وليد في تلك البلدة وأن أباه المحامي يعمل جاهدا على حل قضيته.
وصار سامر على اتصال يومي به... ينقل إلينا الأخبار أولا بأول... ويطمئننا
إلى أن وليد بخير... وسيُطلق سراحه قريبا...
الحمد لله...
الساعة التاسعة والنصف مساء... ولا أزال واقفة أمام لوحتي الجديدة... أدمج
ألوانها بحذر... متمنية أن أنجح هذه المرة في تصوير ملامح وقسمات وجه وليد...
تماما كما هي في الحقيقة... وتماما كما كانت لحظة أن ودعني ويده تلوح في
الهواء...
لحظة فظيعة... فظيعة جدا!
أشعر بتعب... فأنا منهكة في الرسم منذ ساعات... هذا إلى أنني مصابة بالزكام
الحاد نتيجة الجو البارد في هذه البلدة... وتداهمني نوبات متكررة من السعال
الشديد...
يُطرق الباب, فأجبت بتملل:
"من هناك؟؟"
وأنا أعرف أن الطارق لن يكون غير واحد من اثنين... سامر... و دانة... وهما لم
يأتيا ويربكا تركيزي- كعادتهما منذ ساعات...
وعلى أثر التكلم تنتابني نوبة سعال قوية...
"هل تأذنين لي بالدخول؟"
سمعت صوت سامر يتحدث... فوضعت لوح ألواني جانبا باستياء... وتناولت وشاحي
واتجهت إلى المرآة وأنا لا أزال أسعل...
هنا سمعت صوت مقبض الباب يُدار وفوجئت به يفتح...
كيف تجرؤ!
التفت إلى الباب بسرعة وأنا أهتف بصوتي المبحوح:
"انتظر سامر"
فإذا بي أرى دانة تطل برأسها من فتحة الباب ثم تتسلل إلى الداخل...
نظرت إليها باستغراب... وأصابني القلق لدى رؤيتي سيلين من الدموع على وجنتيها
وتعبيرات متداخلة قوية منقوشة على وجهها... ثم إذا بها تقول:
"الآن...؟؟"
وتلتفت إلى الناحية الأخرى وتقول:
"تفضل"
وتفتح الباب على مصراعيه...
كان موليا ظهره للباب... ثم تنحنح بخشونة... واستدار ليلقي نظرة على داخل
الغرفة... وتقع عيناه على عيني... ويتهلل وجهه ويبتسم ويقول:
"صغيرتي!"
لا أصدق...
لا أصدق...
لا أصدق... لا أصدق...
شهقت... رفعت يدي إلى فمي... كتمت سعالي... تراجعت إلى الوراء بخطوات
مبعثرة... أهز رأسي... ثم أؤرجح يدي... ثم أترنح على قدمي... ثم أتسمر في
موضعي... ثم أطلق زفرة صارخة قوية:
"وليد!!!"

***********

كانت تقف على قدميها الاثنتين... أجل, فالجبيرة قد نُزعت عن رجلها اليسرى...
وصارت تمشي بحرية...
لكنني لحظت العرج البسيط في مشيتها من أول خطوات سارتها أمامي... وسمعت بحة
قوية في صوتها وهي تناديني...
يا لصغيرتي الحبيبة... يا لرغد...
إنني لا أكاد أصدق... أنني عدت لأراها من جديد...
لقد حسبت... القدر يلعب معي لعبته الجديدة... وأنتهي مرميا في السجن محروما
من الحرية... من نور الشمس والهواء... ومن أهلي وأحبابي...
ما سجدت لله شاكرا... لن أستطيع أن أبلغ جزءا من ألف جزء... من واجب الشكر
والامتنان للرحمن...
اللهم لك الحمد والشكر... بعدد ما تشاء وما ترضى... إلى ما تشاء وما ترضى...
فيما بعد... جلست على أحد المقاعد... وأحاط بي شقيقي من الجانبين, ووقفت
الصغيرة أمامنا... فضممت أخوي إلي بحرارة... مرددا (الحمد لله) وداعيا ربي
بأن يحفظ لي أخوي وابنة عمي... ويبقي لي عائلتي سالمة وبعيدة عن كل
المخاطر...
المأزق الذي مررت به... محنة سامر هذه... شيّبت شعري وجعلتني أقفز إلى سن
الشيخوخة... وأصبح كعجوز على فراش المرض يعد أواخر أيامه... ويلملم أفراد
عائلته من حوله... ليودعهم...
ولأنه كان اجتماعي الأول بدانة بعد فراق طويل... منذ ليلة عرسها تلك... فإن
مئات المشاعر لمئات الأسباب والأحداث تفجرت ليلتها... وأغرقتها في بحور عميقة
لا بداية لها ولا نهاية...
وطبعا لم تكن المناسبة تمر دون أن نذكر والديّ رحمهما الله, ونقلّب المواجع
على فقدهما... وقد كانت دانة هي آخر من رآهما قبل وفاتهما... عندما زارتهما
هي وعريسها بعد زواجهما مباشرة, وقبل انتقالهما للعيش في هذه البلد...
يا للذكريات...
هدأت عواصف مشاعرنا المختلفة أخيرا... وبدأ الجميع يسألني عن تفاصيل ما حصل
معي خلال الأيام الماضية... فأوجزت لهم الأحداث وطمأنتهم إلى سير الأمور على
خير... واطمأننت بدوري عليهم وشعرت لأول مرة... بعد عناء طويل وانشغال
كبير... براحة البال...
وأنا أرى سامر... ورغد... وكذلك دانة من حولي... لم أكن لأتمنى من هذه الدنيا
إلا سلامتهم... شددت على يد سامر ونحن نحدق في بعضنا البعض... وكانت النظرات
أبلغ وأفصح من أي كلمات...
الحمد لله...
ولأنني كنت مرهقا من عناء السفر الطويل... ولا أزال في فترة النقاهة... فقد
أردت أن أخلد للنوم والراحة... أخذتني دانة إلى إحدى الغرف... في زاوية بعيدة
بعض الشيء عن الجناح الذي يقيم فيه سامر ورغد... وتركني الجميع هناك لأستحم
ثم آوي إلى الفراش...
بعدما أنهيت استحمامي وفيما أنا أستخرج أدويتي من الحقيبة لأتناولها سمعت
طرقا على الباب.
"تفضل"
كانت شقيقتي دانة... تحمل معها بطانيات وألحفة.
"تدثر جيدا... لئلا تصاب بنزلة برد مثل رغد"
قالت وهي تضعها على السرير فابتسمت وقلت:
"شكرا"
"أتحتاج أي شيء؟؟ ألا أجلب لك طعاما؟"
سألت فأجبت:
"كلا شكرا. هل لي ببعض الماء فقط؟؟"
"بالتأكيد"
وهمّت بالانصراف فأضفت:
"ومصحف من فضلك"
فابتسمت وحانت منها التفاتة إلى المنضدة التي وضعت عليها الأدوية ثم نظرت إلي
باستنكار وقالت وهي ترفع سبابتها:
"التدخين ممنوع!"
فضحكن ضحكة خفيفة وقلت:
"هذه أدوية معدتي! أقلعت والحمد لله"
وفيما بعد جلست على السرير ملتحفا بالبطانية... أتلو آيات من الذكر الحكيم...
وأحمد الله مرارا وتكرارا في سريرتي... وما إن مضت بضع دقائق حتى عاد الطرق
على الباب...
"نعم تفضل"
متوقعا أن تكون دانة... غير أنها كانت رغد...
بدا عليها التردد وعي تفتح الباب ببطء وتطل من فتحته... ثم تخطو خطوة أو
اثنتين إلى الداخل... بمجرد أن وقعت عيناي على عينيها عرفت أن لديها الكثير
لتقوله... لكنّ تعبيرات وجهها اضطربت وقالت:
"اعتذر على الإزعاج... فقط أردت أن... أسألك إن كنت بحاجة إلى شيء"
أنا؟!... أنا محتاج إلى كل شيء يا رغد!
أجبت:
"شكرا صغيرتي... لا شيء للآن"
فشتت أنظارها في أرجاء الغرفة ثم سألت بخجل:
"هل شُفيت إصاباتك؟؟"
تعني ولا شك... الهجوم الوحشي الذي تعرضنا له تلك الليلة... وهي ليلة أشعر
بالخجل والعار كلما تذكرتها... غضضت بصري وأجبت محاولا التظاهر بالعفوية
والمرح:
"نعم... كما ترين"
ولما رفعت بصري إليها رأيتها تبتسم ثم تقول:
"حسنا... تصبح على خير"
ثم سعلت لبضع ثوان وهي تتراجع للخلف... فقلت:
"سلامتك"
فاتسعت ابتسامتها... وتابعت سيرها إلى الوراء وهي ممسكة بمقبض الباب تغلقه
ببطء إلى أن بقيت فتحة صغيرة بالكاد تسمح برؤية نصف وجهها فإذا بي أسمعها
تقول:
"أنا سعيدة بعودتك سالما... كدت أموت خوفا عليك... سعيدة جدا"
وتغلق الباب!
في اليوم التالي اجتمعنا أنا وشقيقاي ورغد ونوّار حول مائدة الغداء... وحتى
لو لم أشاركهم طعامهم, شاركتهم الدفء العائلي والإحساس بالانتماء... والجو
الأسري الرائع الذي كثيرا ما أفتقده...
وفي وقت القيلولة... جلست مع أخي سامر في غرفته أسأله عن تفاصيل ما حصل معه
ومع رغد بعد افتراقنا... وأناقش معه الخطط المستقبلية... دار بيننا حديث
طويل... كنت من خلاله... أريد أن أستشف وضعه النفسي... وأعرف إلى أي مدى
ارتفعت معنوياته واستعاد رباطة جأشه...
وبالطبع, تحاشيت تماما ذكر موضوع المنظمة... بل إنّي قد عاهدت نفسي ألا أكترث
لما فعل أخي ولا لكيف فعل, لا حساب ولا عتاب ولا استجواب, إن هو نجا وخرج من
المأزق الخطير سالما... وما دام أخي معي الآن... وأراه أمامي بخير... فلا
يهمني النبش في الماضي...
"لم تحدق بي؟!"
سأل سامر وقد لاحظ شرودي وأنا انظر إليه... فابتسمت وقلت:
"آسف... كنت أفكر... كيف سنعثر على منزل مناسب لنشتريه..."
فقال:
"في الحقيقة كنت قد استفسرت من نوّار مسبقا... عمه يقيم في هذه البلدة منذ
عشرين عاما ويستطيع مساعدتنا في تدبر أمر المنزل"
قلت:
"جيد. إذن سنسعى لذلك من الآن إذ أنه من المحرج مبيتنا هنا"
حتى ولو كانت عائلة نوّار ترحب بنا بشدة...
قال سامر:
"نشتري شقة مناسبة في مكان قريب من هذا المنزل"
قلت:
"أو منزلا مستقلا... صغيرا ويناسب وضعنا الراهن"
قال سامر وهو يركز النظر إليّ:
"إذن... هل... ستستقر هنا؟؟"


وهو أمر لم أكن أريد التطرق إليه الآن... وأفكاري غير مرتبة... وجسمي منهك...
وأعرف أنه موضوع إن فُتح سيجر خلفه مواضيع لا طاقة لنا بها هذه الساعة, لذا
تظاهرت بالنعاس وتثاءبت وقلت وأنا أقف:
"سأفكر لاحقا... أشعر بالنعاس... سأقيل قليلا"
وغادرت الغرفة.
ذهبت إلى الغرفة التي خصصتها دانة لي, واضطجعت على السرير... وتدثرت بكل
الألحفة والبطانيات المفروشة فوقه, ناشدا الدفء الذي حصلت عليه... في هذا
الجو البارد... في هذه البلدة الغريبة... في هذه الغرفة النائية... كان مصدره
المحفظة التي تنام تحت وسادتي...
أشلاء صورة رغد...





.................................................. ..........



تغمرني سعادة لا توصف... وأنا أواصل دمج الألوان في لوحة وليد الأخيرة...
وأتذكر وجوده من حولي... وأطلق زفرات الارتياح...
تناولنا الفطور والغداء معا هذا اليوم... صحيح أن وليد لم يشاركنا الأكل بسبب
معدته, لكنه شاركنا الجلوس حول المائدة والأحاديث المختلفة... وعلمت أنه كان
راقدا في المستشفى منذ فارقنا وحتى وافانا بسبب نزيف قرحة معدته... وأنه خضع
لعملية جراحية لعلاجها وهي حقيقة أخفاها سامر عني طيلة الوقت...
وليد قلبي بدا مريضا بالفعل... شاحب اللون وفاقد الحيوية ومنطفئ البريق الذي
كان يشع من عينيه... لكن الأهم أنه معنا الآن... وفي أمان...
عند العصر سمعت صوت دانة تناديني من خلف الباب:
"رغد تعالي لتناول الكعك معنا... نحن في الصالة"
فرددت بسرور ومباشرة:
"قادمة"
وتركت فرشاتي وانطلقت تسبقني سعادتي إلى الصالة, حيث كان أبناء عمي الثلاثة
يجلسون... اقتربت منهم واتخذت مجلسي بجوار دانة, واخترت أكبر قطعة من
الكعك... وبدأت في تناولها باستمتاع...
دانة ماهرة في صنع الكعك كما تعلمون... أما أنا فماهرة في التهامه!
راقبت وليد خلسة فلاحظت أنه يكتفي بشرب الماء من الكأس الموضوع أمامه, ولا
يلمس الكعك...
قلت:
"إنها لذيذة وخفيفة وليد"
فأجاب وهو يبتسم:
"لا شك عندي... لكن معدتي لن تتحمل"
قالت دانة:
"جرب قضمة واحدة صغيرة... هيا وليد... من أجلي"
فكرر وليد اعتذاره وقال:
"إن اشتعلت هذه فلا شيء يطفئها"
وهو يشير إلى معدته, أحسست بالألم والقلق لأجله... وأنا متأكدة أن ما هيّج
قرحته وسبب نزيفها هو الضرب الوحشي الذي تلقاه على أيدي وأرجل العساكر
الوحوش... تلك الليلة...
تذكر تلك الليلة... جعل يدي ترتجف, وتُوقعُ الشوكة من بين أصابعي...

نظرت على وليد وشعرت وكأنه قرأ الذكريات التي مرت في مخيلتي... فقلت لا
شعوريا بصوت هامس:
"الحمد لله... أنك هنا الآن"
وكأن أحدا لم يسمع ما قلت, فسألت دانة:
"عفوا؟؟"
فانحنيت لالتقاط شوكتي وأنا أقول مغيرة الموضوع:
"ما رأيك في المنزل وليد...؟ أليس رائعا؟؟ دانة تتصرف كملكة فيه!"
فنظرت دانة إلي بتباه وقالت مداعبة:
"أنا بالفعل ملكة هنا! كل هذا تحت تصرفي!"
فقال وليد مبتسما:
"هنيئا لك"
فقالت دانة:
"وأنتم كذلك... اطلبوا ما تشاؤون"
فقال سامر بعد أن ابتلع آخر قطعة في فمه:
"لا عدمناك... يكفينا هذا الجناح مؤقتا إلى أن نشتري منزلا أو شقة"
والتفتَ إلى وليد يطلب تأكيد كلامه, فقال الأخير:
"نعم. وسنعمل على ذلك عاجلا"
فقالت دانة مستاءة:
"هراء! تبحثون عن منزل ولدينا كل هذا؟؟"
فرد وليد:
"بارك الله فيكم... ولكن لا بد من منزل مستقل... إن عاجلا أم آجلا"
فقالت دانة مخاطبة إياه بحنق:
"وكأن منزلنا لا يتسع لكم! سآمر الخدم بتنظيف وإعداد كل الغرف التابعة لهذا
الجناح وننقل غرفة نومك إلى أي غرفة تختارها يا وليد... سيكون هذا الجناح
منزلكم"
فقال وليد:
"أرجوك... لا تتكبدوا العناء... الجناح هكذا يفي بالغرض لحين شراء مسكن مستقل
ينتقلان إليه... أنا هنا مؤقتا على كل حال"
الجملة أربكتني وجعلتني أحملق في وليد... ثم أسأله:
"ماذا تعني؟؟"
وتنقلت بأنظاري إلى سامر و دانة, ورأيتهما يحملقان في وليد أيضا...
وليد لم يتكلم لأنه شعر بأن الأعين تتربص به... بل بدا مرتبكا وكأن الجملة قد
انفلتت من لسانه دون قصد ولم يستطع استدراكها... أعدت سؤالي:
"ماذا تعني... وليد؟؟"
فإذا به يتأتئ ويمسح على جبينه ثم يرد أخيرا:
"آه... أعني... أنني سأعود إلى الوطن عاجلا..."
شهقت وترددت بأنظاري بين وليد وسامر و دانة ثم قلت وغير مصدقة:
" تمزح وليد... ألست تمزح؟؟!!"
فابتسم بقلة حيلة وقال:
"لا أمزح! أعني أنني... أنا هنا... لأطمئن عليكم ثلاثتكم وها قد اطمأننت ولا
بد من العودة"
أخذ التوتر يتفاقم على وجهي ولاحظ الجميع ذلك... ثم قلت والكلمة لا تكاد تخرج
من ثغري:
"و... وأنا...؟؟"
فتبادل الجميع النظرات... ثم تسلطت أعيينا على وليد الذي لم ينطق مباشرة...
كان مترددا غير أنه في النهاية قال:
"ستبقين هنا يا رغد"
لما لاحظ سامر الهلع يجتاح قسمات وجهي قال مخاطبا وليد ومحاولا تلطيف وقع
النبأ:
"لكن... لن تسافر بهذه السرعة... تعني بعد بضعة أسابيع؟..."
فالتفتَ إليه وليد وقال:
"بضعة أيام لا أكثر... تعرفون... لدي زوجة في انتظاري"
عند هذا الحد... وشعرت برغبة مفاجئة في التقيؤ... فوقفت بسرعة وأنا أسد فمي
بيدي وهرولت إلى دورة المياه...
عندما خرجت من الحمام –أكرمكم الله- وجدت دانة تقف في الجوار في قلق...
وسألتني:
"أأنت بخير؟؟"
ولم أجب.
فأضافت:
"هل كانت الكعكة سيئة أو ماذا؟؟"
التفتُ إليها وقلت:
"ألم تسمعي ما قال؟ يريد العودة إلى الوطن... بعد كل الذي تكبدنا من أجل
الفرار... إنه يريد العودة إلى الخطر"
بدا على دانة تفهم مشاعري... ثم قالت:
"لم يقرر... بل يفكر"
قلت بعصبية:
"كيف يفكر في العودة إلى الجحيم؟؟ ألم يكفه ما فعلوا به؟؟ ألا يكفي هذا؟؟"
وذهبت منزعجة إلى غرفتي... و انعزلت فيها لبعض الوقت.

************

"ما كان يجب أن تذكر هذا الآن"
قال سامر يخاطبني بشيء من اللوم... وأنا أدرك أنني فاجأت الجميع بما قلت..
فلم أعلّق. فتابع هو:
"تذكر عودتك العاجلة إلى الوطن... وإلى زوجتك... وأنت بالكاد وصلت البارحة!؟
إنها... كانت قلقة عليك حد المرض"
مشيرا إلى رغد
صمتٌ قليلا ثم قلت:
"ولكن... في الحقيقة هذا ما يجب أن يحصل عاجلا"
نظر إليّ أخي نظرة لم أفهم معناها, أو بالأحرى... لم أرد أن أفهمها... ثم إذا
به يقول:
"إذن... إذن... لن تقيم معنا ها هنا؟؟"
وهذا السؤال كان يشغل بال شقيقي منذ الصباح أو ربما منذ زمن... وأعرف ما
خلفه...
قلت:
"وأترك زوجتي... وعملي... هناك؟؟!"
أراد سامر قول شيء لكنه تردد... أنا أعرف ما الذي تريد الوصول إليه يا
سامر... لكن أرجوك... دعني أسترخي ليوم آخر... ولا تشغل بالي وتشعل النار في
داخلي الآن...
أخيرا قال سامر:
"و... والمنزل؟؟ هل سنقيم فيه أنا ورغد بمفردنا؟؟"
وكأنه يستل خنجرا من صدري... آه... كم أتألم...
عضضت على أسناني لأمتص بعض الألم... ثم قلت محاولا الهروب:
"لكل حدث حديث... ننتظر شراء المنزل أولا"
وكانت محاولة فاشلة... إذ إن سامر عاد يسأل:
"وإذا حصلنا على المنزل غدا...؟؟ فهل.."
ولم يتم السؤال...
مسحت على وجهي مضطربا ونظرت يمينا ويسارا باحثا عن مهرب... ثم عدت إلى أخي
فرأيته ينظر إليّ باهتمام وقلق... ينتظر ردي...
مددت يدي وربت على كتفيه بعطف... وقلت والدماء تحتقن في وجهي: "لا تستعجل...
تريث قليلا... ودعنا نلتقط بعض الأنفاس... أنا مرهق جدا..."
وما كان من أخي إلا أن أومأ تفهما وأغلق الحوار...
وفي المساء... على مائدة العشاء... والتي التففنا حولها نحن الثلاثة, أنا
وشقيقي وابنة عمي... تحركت أيدينا بالملاعق, بينما أفواهنا صامتة عن
الكلام... كان الوجوم مخيما على وجه رغد... الذي صار كتابا متقلب الحروف
والرموز... يشغلني فكُ طلاسمه...
وفيما أنا أتناول حسائي البارد ببطء وأرسل النظرات إليها بين الفينة
والأخرى,كانت هي محملقة في طبقها تتحاشى النظر باتجاهي...
أما سامر... فكان يتظاهر بالاهتمام بالمباراة التي تعرض على التلفاز والتي
يشارك فيها نوّار...
"الحمد لله"
قالتها رغد ووقفت هامّة بالمغادرة... وأطباقها بالكاد لُمست...
قلت:
"إلى أين؟؟ لم تنهي عشاءك"
قالت دون أن تنظر إلي:
"اكتفيت"
فقلت:
"اجلسي يا رغد... وأتمّي عشاءك"
هنا نظرت إليّ... نظرة حزينة مؤلمة...فيها العتاب واللوم... والرجاء واليأس
سوية...
همست:
"رغد..."

فإذا بها تطلق الكلام الذي كانت تكبته في صدرها منذ ساعات دفعة واحدة:
"كيف تفكر في العودة للخطر يا وليد؟؟ نحن ما كدنا نصدق أننا نجونا... ما كدنا
نطمئن على سلامة بعضنا البعض... أتريد أن تعرض نفسك للهلاك من جديد؟؟"
ولم تعطني فرصة للإجابة بل قالت بصوت شديد الرجاء:
"أرجوك وليد... لا تذهب... أرجوك"
تأوهت وقلت:
"لا بد لي من الذهاب يا رغد... لا بد"
ورأيتها تعض على شفتها السفلى ثم تقول:
"يمكنك إحضارها إلى هنا... ونستقر عن الخطر والحرب"
تعني أروى...
قلت:
"صعب جدا... أروى لن يعجبها ذلك... ثم إن المنزل والمزرعة والمصنع... وكل شيء
هناك..."
فأومأت برأسها اعتراضا فأضفت:
"إنهم لا يلاحقونني أنا... لا تخشي علي... صغيرتي"
فانفجرت قائلة:
"كيف لا أخشى عليك؟؟ لقد رأيت ما فعلوه بك بأم عينيّ... هل تريد أن تيتمني
للمرة الثالثة بعد؟؟ أنت لا تعمل حسابا لي"
وانصرفت مسرعة إلى غرفتها...
انتظرت لحظة... في حيرة من أمري... ثم وقفت وقلت مخاطبا أخي:
"سأتحدث معها"
ولم يبد أخي أي ردة فعل...
لحقتُ بالصغيرة وحصلت على إذنها بدخول الغرفة... وما إن دخلت حتى وقعت عيناي
على مجموعة من اللوحات إلى جانب بعضها البعض... عند الجدار المقابل للباب...
صورة لوالدي وأخرى لوالدتي رحمهما الله... وصورة لي أنا... وأنا رافعٌ يدي...
موضوعة على عمود الرسم...
لدى رؤية صورتي والديّ لم أتمالك نفسي... وسرتُ باتجاهها وحملقت فيهما
وانتابني الأسى والمرارة...
خاطبتهما سرا... ألا تخرجان من اللوحتين... وتريان ما نحن فيه... وتحلان
مشكلتنا؟؟ أنا وشقيقي نحب فتاة واحدة تعني لكلينا كل شيء وعلى أحدنا أن يُميت
قلبه ليُحيي الآخر... أنا يا أمي ويا أبي... أفضّل اللحاق بكما على أن يمس
شقيقي أي أذى... سامحاني لأنني كنت أنانيا جدا... لم أتفهم مشاعره ولم
أقدّرها... حسبت أن رغد شيء يخصني أنا وأنه هو من سرقها مني...
والتفتُ نحو رغد والتي كانت مطأطئة بصرها بحزن نحو الأرض.. فخاطبتها في سري
بلهفة... ألست شيئا يخصني أنا يا رغد؟؟ ألست فتاتي أنا؟؟ ألست لي؟؟ ألن تكوني
لي؟؟ ألا يجب أن تكوني لي أنا؟؟
ربما أحست رغد بنظراتي المسلطة عليها أو استبطأت كلامي... أو حتى سمعت خطابي
السري في نفسي... فإذا بها تلتفتُ إلي وترمقني بنظرة أرسلتني إلى عالم التيه
والضياع...
ثم إذا بتعبيرات الرجاء الشديد بل التوسل تزحف إلى قسمات وجهها الحزين وتخرج
من لسانها بقول:
"أرجوك وليد.. تخلّ عن الفكرة.. ودعنا نعيش هنا معا بسلام.. أنا تعبتُ من
الحرب والتشرد واليتم والضياع والصراع.. ألا تفعل هذا من أجلي؟؟"
تفطر قلبي لكلامها ونزف كثيرا... إنك تطلبين المستحيل يا رغد...
اقتربت منها وقلت مغدقا عطفي وحناني ومتحججا بمسؤولياتي:
"يا رغد... يا صغيرتي العزيزة... ومن يتولى الأمور هناك في الوطن؟؟ لديّ
مسؤوليات جدية وكبيرة في انتظاري"
فقالت:
"وأنا؟ ألست جزءا جديا من مسؤوليتك أنت؟؟ كيف تتركني وحدي وتذهب عني؟؟"
قلت:
"كيف تقولين وحدك؟؟ أتركك مع دانة وسامر"
فأجابت منفعلة:
"لكنك أنت الوصي علي... المسؤول عني شرعيا... ويفترض أن تبقيني معك وتبقى
معي... أليس كذلك؟ أليس هذا من واجبك؟"
لم أجب مباشرة... ثم قلت:
"بلى... و... كذلك... أنا المسؤول عن أروى... ومن واجبي العودة إليها"
وكنت أتوقع أن يزعجها ذكر أروى... بل كنت أتعمد أن أذكرها حتى أستفيق أنا من
حالة التيه في بحر رغد, وأعود إلى الواقع وأقطع الحبال المتشدقة بسفينة
رغد... نعم كنت أتوقع أن تنزعج رغد من ذكر أروى –كعادتها- لكنني لم أتوقع أن
تأتي ردة فعلها بهذا الشكل...
صرخت منفعلة منفلتة:
"إذن عُد إليها... هيا عُد... لا شك أنك متلهف لعينيها الزرقاوين وشعرها
الحريري الأشقر... من يتنازل عن الحسناء الثرية؟؟ هنيئا لك بمن اخترت..
اذهب!"
وأشاحت بوجهها عني... وعندما ناديتها هتفت زاجرة:
"اذهب الآن"
وما كان مني إلا أن غادرت الغرفة.
عندما عدت إلى حيث كنا نتناول العشاء قبل قليل... لم أجد أخي هناك... بحثت
عنه في غرفته وفي الجوار ولم أجده... ووجدت هاتفه موضوعا على سريره... سألت
عنه دانة فأخبرتني أنها لم تره مذ كنا نتناول الكعك عصرا...
قضيت الساعتين التاليتين واقفا على أطراف أعصابي المشدودة... حتى إذا ما ظهر
أخيرا... قادما من الخارج... قدمتُ نحوه وبادرت بالسؤال:
"إلى أين ذهبت؟؟"
ظهر الانزعاج من السؤال على وجه أخي وقال:
"عفوا؟؟"
فتراجعت وقلت مخففا سؤالي:
"أعني... في هذا الطقس البارد؟؟"
فرد سامر:
"تمشيت في الجوار..."
وبعد برهة صامتة قلت وأنا أهم بالانصراف:
"سأخلد للنوم"
استوقفني سامر بسؤاله:
"ماذا أحرزت مع رغد؟"
فشددت على قبضتي... ثم قلت:
"لا شيء..."
وتابعت:
"لا تقدر مسؤولياتي الأخرى... تتوقع مني أن... أتفرغ لرعايتها"
رأيت ابتسامة شبه ساخرة على زاوية فمه اليمنى... ثم حل الجد مكانها وإذا بأخي
يقول:
"إنها... متعلقة بك"
تدفقت الدماء إلى وجهي... ورأيت أخي ينظر إلى عينيّ ينتظر تعليقا... فأبعد
نظري عنه, ثم قلت:
"... أعرف..."
فقال:
"إذن..؟؟"
فالتفت إليه وقرأت في عينيه جدية واهتماما بالغين... ولم أعرف بم أقابلهما...
فقال أخي وقد اصطبغ صوته بالانزعاج:
"لم لا ترد؟ لقد جئت بي من آخر العالم إلى هنا ووضعتها نصب عيني... أعدتني
إلى ما كنت على وشك الخلاص منه... وها أنت تريد أن ترحل وتتركني في نفس
الدوامة... فهلا حللت قضيتي مع رغد أولا؟؟"
تضاعف ضخ الدماء الحارة إلى وجهي... واشتعلت النار التي لا تكاد تهدأ في
معدتي... وبدأ العرق يتصبب مني رغم برودة الجو...
قلت أخيرا:
"صبرا يا سامر... أعطنا فترة نقاهة مما حصل مؤخرا... رويدك"
ورأيت أخي يمد سبابته اليمنى نحو وجهي ويضيّق عينيه ويضغط على أسنانه وهو
يقول مهددا:
"لا تتلاعب بي يا وليد"
فأفلتت أعصابي من سيطرتي وقلت حانقا:
"وماذا تريد مني أن أفعل الآن؟؟ أرغم الفتاة على العودة إليك؟؟ أليس لديك
اعتبارا لمشاعرها هي وإرادتها ورغبتها هي؟؟"
فرد مباشرة:
"أنا أكثر منك معرفة... بمشاعرها هي.. وإرادتها هي.. ورغبتها هي.. وأنت..
أنت.. يجب عليك أن تتدخل لوضع حد لهذا.. يجب أن تُفهمها ما لا تريد هي أن
تفهمه.. يجب أن تجعلها تستيقظ من أحلامها المستحيلة التي لا تسبب لها إلا
الأذى وتتوقف عن هدر مشاعرها على الشخص الخطأ"
فوجئت بكلام أخي للحد الذي لزمني زمن طويل حتى أستفيق من طور المفاجأة...
ولما استفقت, كان أخي قد انصرف...
ذهبت إلى غرفتي... وجلست على سريري... واستخرجت قصاصات صورة رغد من محفظتي
المخبأة تحت الوسادة... وجمعتها... ونظرت إلى وجه رغد... وتأوهت...
هل آن الأوان... لأن ينتهي كل شيء يا رغد؟؟؟
هل يعقل... أنني سأضطر للتخلي عنك... بعد كل هذا؟؟
إنه يساومني على حياته يا رغد... هل سأضحي بك من أجله؟؟ هل سأفعل ذلك يا
رغد؟؟ هل سأجرؤ؟؟
هل أنا أستطيع ذلك؟؟
وضممت الصورة إلى صدري وعصرتها بقبضتي وهتفت...:
"لا أستطيع... لا أستطيع..."


















الحلقة 50 عبارة عن 3اجزاء















رد مع اقتباس
  #15  
قديم February 14, 2009, 01:56 PM
 
رد: لكل يلي قاعدين يدورو على رواية انت لي .....ادخلو (كاملة)

الحلقة 50

الجزء الثاني



تركني وليد في حالة يرثى لها بعد خبر عزمه العودة إلى الوطن... إلى حيث الحرب
والاعتداء والخوف والهلاك... إلى حيث الشقراء.. تنتظره... أنا يا وليد مستعدة
للقبول بأي شيء مهما كان مقابل أن تبقيني إلى جانبك وتحت رعايتك أنت...
وفيما أنا غارقة في أفكاري جاءتني دانة تتفقدني..
"كيف أنت؟ يقولون أنك مضربة عن الطعام!"
وكل ما حصل هو أنني لم أتم عشائي البارحة ولم أتناول فطوري هذا الصباح.
قلت:
"من يقول ذلك؟"
أجابت:
"وليد! فهو قلق من أن يداهمك الإغماء بسبب الجوع! وأرسلني لتفقدك"
دغدغتني العبارة, لإحساسي بأن وليد يهتم بي...
قلت:
"أين هو الآن؟"
أجابت:
"خرج مع نوّار قبل قليل... ذاهبين إلى مكتب الطيران"
فوجئت بالجملة وشهقت وقلت:
"تعنين لشراء تذكرة السفر؟؟"
فأومأت بنعم, فجُنّ جنوني وصرّحتُ منفعلة:
"لن يغير موقفه... إذن سأذهب معه.."
والتفت نحو الهاتف وأتممت:
"سأتصل به وأطلب منه شراء تذكرة لي أنا أيضا"
وخطوت خطوتين نحو الهاتف حين استوقفتني دانة مادة يدها وممسكة بذراعي...
التفتُ إليها فوجدت الجد والحزم ينبعان من عينيها, ثم قالت:
"انتظري يا رغد... هل تظنين بأنه سيأخذك معه حقا؟"
اكفهرت ملامح وجهي وقلت مصرة:
"طبعا سيأخذني معه... أليس الوصي علي؟ ألست تحت عهدته؟"
فقالت بنبرة جادة:
"لقد... تنازل عن الوصاية لسامر"
حملقت فيها غير مستوعبة الجملة الأخيرة... فسألت:
"عفوا... ماذا قلت؟؟"
فقالت:
"كما سمعت... رغد"
فررت برأسي يُمنة ويسرة... كأنني أنفضه مما توهمت أذناي سماعه.. ثم هتفت:
"تكذبين!"
فنظرت إلي دانة متأثرة بتعبيرات الذهول الطارئة على وجهي ومن ثم تحولت جديتها
إلى شفقة وأسى... وقالت:
"أخبرني بذلك بنفسه قبل قليل... قال أنه وكّل المحامي أبا سيف لإنجاز
الإجراءات الرسمية أثناء مكوثه في المستشفى خلال الفترة الماضية"
رفعت يدي إلى صدري محاولة السيطرة على الطوفان الهمجي المتدفق من قلبي أثر
الصدمة... وهززت رأسي غير مصدقة أن وليد قد فعلها... مستحيل... مستحيل..
"مستحيل"
أطلقت الصيحة وتابعت خطاي نحو الهاتف أريد الاتصال به والتأكد من الخبر على
لسانه, غير أن دانة سحبت سماعة الهاتف من يدي وأجبرتني على النظر إليها
والسماع إلى ما أرادت قوله..
"رغد! ماذا ستفعلين؟ هل ستطلبين منه إعادتك إلى كفالته؟ لا تعصبي الأمور يا
رغد ودعيه يتصرف التصرف السليم والأنسب لظروفنا"
فهتفت منفعلة:
"الأنسب لظروف من؟ أنا لا ذنب لي في أن سامر يهدده الخطر إن عاد إلى الوطن.
لا أريد البقاء هنا.. أريد العودة مع وليد والبقاء معه"
فسألت دانة منفعلة:
"إلى متى؟؟"
فقلت:
"إلى الأبد"
فإذا بدانة تمسك بيدي وتشد عليها وتقول:
"وليد لا يريدك أن تذهبي معه.. لم لا تفهمين ذلك؟ سيعود إلى خطيبته وربما
يتزوجان قريبا.. لقد أعادك إلى سامر لتبقي مع سامر.. إنه أكثر شخص يحتاجك
ويحبك يا رغد... إنه يمر بأزمة حرجة... لماذا لا تفكرين به؟"
سحبت يدي من بين أصابعها وابتعدت عنها وأنا أهتف بانهيار:
"أنا لا أريد العودة إلى سامر... لا تفعلوا هذا بي... لا تعيدوا الكرة...
سأذهب مع وليد..."

************

كان لابد من حسم الأمور وبشكل نهائي حتى يحدد كل منا موقعه. كنت أفكر في
الطريقة التي سأخاطب بها وليد هذا اليوم... وأطلب منه وضع النقط على الحروف
وختم الصفحة.
كان الوقت ضحى وكنت جالسا في غرفتي أهيئ نفسي للمواجهة المرتقبة فأتتني
شقيقتي دانة.
"صباح الخير سامر! ألم تنهض بعد؟؟"
"صباح الخير"
"تأخرت! رفعت أطباق الفطور"
سألتُ مباشرة:
"هل استيقظ وليد؟"
أجابت:
"نعم... وهو مع نوّار في مكتب الطيران الآن"
اضطربت تعبيرات وجهي وشردت بعيدا... ولما لاحظت دانة سألتني عما ألمّ بي, فما
كان مني إلا أن أطلعتها على ما يدور في رأسي منذ الأمس... منذ أن أعلن وليد
عن عزمه على العودة إلى الوطن... أخبرتها وبكل صراحة بأنني في حال رحيل أخي
فسوف لن أتمكن من العيش مع رغد في مكان واحد وتولّي المسؤولية عليها, إلا إذا
عاد رباطنا الزوجي الشرعي إلى سابق عهده... وإلا... فإن عليه اصطحابها معه
وتخليصي من هذه الدوامة الفارغة. كنت صريحا جدا فقد اكتفيت من الهراء... ولن
أستمر في لعب هذا الدور الأحمق...
"فإما أن يأخذها معه للأبد... أو يتركها معي وللأبد"
قلت ذلك منفعلا... ثم نظرت إلى دانة فرأيت على وجهها الأسى والقلق.. وكأنها
تفكر في أمر ما..
"ما الأمر؟"
سألتها قلقا, فأجابت:
"آه... لقد... كنت مع رغد قبل قليل"
ففهمت أن لديها ما تقوله... فقلت:
"ماذا قالت؟؟"
فأجابت مترددة:
"تركتها تعد حقيبتها... مصرة على العودة إلى الوطن... مع وليد"
عن نفسي كنت أتوقع هذا... لم يفاجئني موقف رغد... لكنني أريد أن أحسم الوضع
نهائيا مع وليد...
"إذن... سأطلب من وليد شراء تذكرة لها وأخذها معه, وننتهي"
وضربت الحائط من غيظي... وصحت:
"إنها لا تريده إلا هو... فليأخذها معه ويريحنا... أنا تعبت من هذا..."
كنت مجروحا من إصرار رغد على موقفها... ولا مبالاتها بي...
قالت دانة:
"لا تنفعل... دعه يعود... وسأتحدث أنا معه أنا أولا... لقد نقل الوصاية إليك
كما أخبرني.. لن يأخذها معه.. سيقنعها بالبقاء معنا"
فقلت:
"وما الجدوى إن كانت ستبقى معنا وبالها معلق معه؟ ألم تري حالتها قبل حضوره؟
لا أريد أن يوليني المسؤولية على فتاة شبه حية... فليأخذها وليخلصني من هذا
العذاب"
مدت دانة يدها وربتت على كتفي وقالت:
"هون عليك يا أخي"
فقلت منفعلا:
"أنا تعبت.. لقد كنت على وشك وضع نهاية لكل هذا.. هو من اعترض طريقي وجلبني
إلى هنا.. هل سيتحمل هو عذاباتي؟"
صمتنا برهة.. ثم إذا بدانة تسأل:
"هل.. يعرف هو أنها..."
فأجبت مقاطعا:
"طبعا يعرف... وعليه هو أن يواجهها بحزم ويوقظها مما هي فيه.. إلى متى
سيتركها تتعلق به وتجري متخبطة خلفه.. بينما هو متزوج ومشغول بزوجته؟"
قالت دانة متسائلة:
"هل... يحبها؟؟"
فاستغربت السؤال الدخيل وقلت:
"وما أدراني..؟!.. المهم أنه متزوج ومشغول بزوجته.. وليس شاغرا من أجل مشاعر
رغد.."
قالت دانة موضحة:
"أعني... ماذا عن مشاعره هو؟؟"
فنظرت إليها باستغراب... وقلت مستفهما:
"مشاعره هو؟؟"
ورأيت نظرة ارتياب غريبة على عينيها أوحت إلي بأنها تلمح إلى شيء... فسألتها:
"ماذا تعنين بمشاعره هو؟؟"
فقالت مترددة:
"أعني... بما يشعر هو... نحو رغد"
فحملقت فيها تجتاحني الحيرة والدهشة... وقابلتني بنظرة جدية وكأنها تعتزم قول
شيء مهم... وأخيرا قالت:
"سامر... سأخبرك بما قالته لي أمي رحمها الله... عندما زرتها بعد ليلة
زفافي..."
أثار كلامها اهتمامي الشديد وسألتها بفضول:
"ماذا... قالت...؟؟"
فأجابت بنبرة جدية جعلتني أصغي بكل اهتمام وتركيز:
"عندما أخبرتها... عن قرار رغد المفاجئ بالانفصال عنك... وعن حالتها المتقلبة
الغريبة تلك... بعيد سفر والديّ للحج... وعن بعض التفاصيل التي حصلت... قالت
أن ذلك ما كانت تخشاه... وأنها... كانت قد لاحظت تغيّرات على رغد... بعد عودة
وليد"
صمتت أختي لترى مدى تأثير الكلام علي حتى الآن... فحثثتها على المتابعة
بلهفة:
"وبعد؟؟"
فتابعت:
"أنا بالفعل... لاحظت عليها تغيرات مزاجية كثيرة في تلك الفترة... لكنني لم
أتوقع للحظة أن يكون السبب... هو وليد"
نعم وليد! وليد الذي ظهر فجأة... واستحوذ على قلب رغد... وأبعدها عني...
واسترسلت:
"كما لم أكن أبدا لأتوقع... أن..."
وصمتت مترددة وكأنها تخشى قول الجملة التالية. شجعتها وقلت:
"ماذا؟؟ أكملي؟؟"
قالت:
"لما أخبرتها عن ارتباط وليد المفاجئ بالفتاة بالمزرعة... حزنت وتألمت
كثيرا... وأخبرتني أن وليد... كان أيضا يحب رغد كثيرا في صغره... كلنا نعرف
ذلك... لكن... ما لم نكن نعرفه... هو أنه... حسب كلامها وحسبما تيقنت هي
منه... أنه... حتى بعد عودته من السفر.. أعني من السجن.. كان لا يزال يحبها..
ويحلم بها.. وقد صُدم بزواجكما..."
حملقت في دانة بذهول... غير قادر على استيعاب ما تقول... بقيت مطرقا رأسي
مذهول العقل منفغر الفاه... ثم نطقت مندهشا:
"م... م... ماذا تقولين؟؟!!"
فأجابت والمزيد من القلق يظهر على وجهها:
"ربما لم يكن يجدر بي قول هذا ولكن.."

ولم تتم...
فنظرت إليها بتشتت... واتسعت حدقتاي بدهشة بالغة... وقفزت إلى ذاكرتي فجأة
كلمات أم حسام لي ذلك اليوم...
فإذا بلساني ينطق دون وعي مني:
"هذا... م.... مستحيل!"
وإذا بدانة تقول:
"هذا ما قالته أمي... إنه كان لا يزال يحبها... وأنها وجدت صورة قديمة لرغد
عنده ذات مرة"

******


كنت في الصباح.. قد ذهبت مع نوّار إلى مكتب الطيران واشتريت تذكرة سفر وأكدت
رحلتي... والتي ستكون مباشرة إلى شمال الوطن.
حاولت الاتصال بالمزرعة وبهاتف أروى دون جدوى. لكنني اتصلت بالسيد أسامة
واعتذرت له عن اختفائي المفاجئ وذكرت له أنني سأعود قريبا. كما اتصلت بسيف
وطمأنته على أخباري...
وبعد عودتي للمنزل وفيما أنا أعبر الممر المؤدي إلى غرفة نومي رأيت سامر يقف
في منتصف الطريق...
كان جليا عليه أنه واقف ينتظرني لأمر مهم... وأنا أعرف ما هو الأمر...
"مرحبا سامر... متى استيقظت؟؟"
سألته بمرونة فرد باقتضاب مباشرة:
"أريد أن أتحدث معك"
كان يبدو منفعلا... التوتر يخط تجاعيد متشابكة على قسمات وجهه...
قلت وأنا أسبقه إلى الغرفة وأفتح الباب:
"تفضل"
دخلنا الغرفة وتركنا الباب مفتوحا... دعوت أخي للجلوس لكنه وقف قرب الباب
مستعجلا على الحديث فوقفت أمامه وسألت:
"خير؟؟"
نظر إلي سامر بنظر تمزج الحزن واللهفة... والغضب والقهر... ثم قال:
"وليد... سأسلك سؤالا... وأرجوك... أرجوك... أن تجيب عليه بمنتى الصراحة"
نبرته أصابتني بالقلق... فقلت:
"ماذا هناك؟؟"
فركز سامر نظرة إلي وقال:
"أجبني بكل صراحة يا وليد"
فقلت وقد تضخم قلقي من جدية نظرته:
"اسأل؟؟ لقد أقلقتني"
فإذا بسامر يزم شفتيه ثم ينبس قائلا:
"كيف تشعر... نحو رغد؟؟"
فاجأني السؤال... أذهلني... عصف بقدرتي على الاستيعاب... أو ربما لم أسمع
جيدا... ماذا سأل أخي؟؟
قلت:
"عفوا؟؟"
فقال أخي وقد زاد توتره واحتدت نبرته:
"أقول كيف تشعر نحو رغد؟؟"
وكان يحملق بي بشدة راصدا كل انفعالات وجهي وتغيرات لونه... تكاد نظراته تسلخ
جلدي لتقرأ ما هو أعمق منه... وفجأة إذا به يقول:
"أحقا... كنت... تحبها؟؟"
ولم أشعر إلا بالدماء تفور في وجهي فجأة... وتصبغه بلون شديد الاحمرار... حتى
أنني خشيت أن تتصبب قطرات الدم من جبيني مصحوبة بزخات العرق...
لساني ألجمته المفاجأة... وعيناي قيدتهما عينا أخي وهما تتربصان بردي... كان
أخي يكاد يلتهمني بنظراته ورأيته يعضض على شفته السفلى توترا... ويكاد يصرخ
منفعلا...
عصرت لساني حتى خرجت الكلمات التالية منه عنوة:
"ما... ماذا تعني يا سامر! ما هذا السؤال؟؟"
وما كان من أخي إلا أن ركل الباب الذي نقف قربه بعنف وكرر سؤاله بعصبية:
"فهمتني يا وليد... وسؤالي واضح جدا... قل لي هل فعلا كنت تحب رغد؟؟ هل أنت
تحبها الآن؟؟ أخبرني قبل أن أجن.."
وللحالة الرهيبة التي اعترت أخي... خشيت أن يحصل أي شيء... فقلت محاولا كبت
مشاعري والتظاهر بالمرح:
"نعم أحبها!"
فرمقني أخي بنظرة حادة قاطعتها بقولي:
"أحبها مثل ابنتي تماما! أنا من تولى تربيتها مع والدينا"
محاولا أن يظهر ردي مرحا ومقنعا قدر الإمكان... أخي... نظر إلي بارتياب... ثم
قال:
"هل هذا كل شيء؟؟ أجبني بصراحة"
فتظاهرت بالابتسام وقلت:
"طبعا هذا كل شيء!! سامر.. ما بالك تطرح سؤالا مضحكا كهذا!؟"
فأخذ يحدق بي... ثم يشتت أنظاره حولي... ثم يقول:
"لكن... دانة تقول... أن أمي أخبرتها قبل وفاتها... أنك... كنت تحب رغد منذ
الصغر.. وتتمنى الزواج بها"
فكرت بسرعة... بسرعة... في تعبير يطمس الحقيقة في الحال... ولم أجد إلا
الضحك... أخفي خلفه الألم المرير...
أطلقت ضحكة قوية... بل كانت قهقهة مجلجلة... ربما وصلت إلى أعماق الذكريات
النائمة في قلبي وأيقظتها...
ضحكت وأنا أواري الدموع خلف طبقات من المشاعر الزائفة...
ولما انتهيت من نوبة الضحك المفتعلة قلت بسخرية مفتعلة:
"أضحكتني يا سامر! ماذا دهاك!؟ أنا أفكر في رغد هكذا!؟ هل سمعت عن أب يتمنى
الزواج من ابنته!! أي سخافة هذه!!"
وقهقهت من جديد... لأنفض عن أخي أي غبار متبقٍ من الحقيقة... حتى أنني من شدة
ضحكي بللت رموشي...
نظرت إلى أخي مفتعلا المرح... فرأيت الارتياب يتسرب خارجا من عينيه ويتسلل
الارتياح إليهما... يبدو أنني أديت دوري بمهارة... وأقنعته بما قلت... أحسنت
يا وليد!
كيف أطاعك لسانك على ذلك!؟!؟!
نظر أخي إلى الأرض, ثم إلي... وقال:
"هل هذه هي الحقيقة البحتة؟؟"
فقلت مباشرة مؤكدا:
"بربك يا سامر! لقد ساهمت في تربيتها وتربية دانة... ألا تذكر؟؟ كلاهما مثل
ابنتيّ تماما"
ظهرت الحيرة والتردد على وجه أخي... ثم قال مستسلما:
"آسف... دانة أربكتني"
وسكت برهة ثم أضاف:
"أنا أيضا بدا كلامها لي غير معقول... لا بد وأنه كان سوء فهم"
وعاد يكرر:
"آسف وليد"
فابتسمت وقلت:
"لا عليك"
لا عليك! فأنا معتاد على تلقي طعنات من شتى الأنواع والمصادر... إلى قلبي...
أصبحت لديه مناعة ضد الخناجر... لا عليك!
صمتنا قليلا ثم إذا به يقول:
"الآن... يجب أن تتحدث إليها بشكل حاسم... وتُفهمها بأنك تحبها وتقدم لها
الرعاية والنصيحة كأب... وأن تقنعها بأن بقاءها هنا... معي ومع دانة... هو
خير لها من العودة معك.. فهي تحزم أمتعتها للحاق بك"
شددت على قبضتي... وقلت:
"أحقا؟؟ ومن قال لها أنني سآخذها معي أصلا؟؟"
فقال أخي:
"هي تفكر هكذا... تريد أن تلحق بك أينما ذهبت"
ابتلعت المرارة في حلقي وقلت:
"أنا لم أعد وصيا عليها.. إنها تحت مسؤوليتك أنت الآن"
فقال راجيا:
"أرجوك.. أفهما هذا.. أخبرها بأن تتوقف عن عنادها وصدها لي.. إنها ليست بحاجة
لمن يؤكد لها مقدار حبي لها.. أنا سأضعها في عينيّ.. قل لها ذلك يا وليد
أرجوك"
كنت أشد على قبضتي.. أكاد أقطع أوتار يدي بأظافري لشدة ما ضغطت...
حاضر يا سامر.. سأفعل ما تطلبه.. أرجوك أنت... يكفي هذا... انصرف الآن...
قلت بصوت لم يخرج من حنجرتي:
"حاضر... سأفعل..."
ثم جذبت نفسا طويلا أجدد به الهواء المخنوق في صدري وأضفت بنبرة راجية:
"سأتحدث معها.. لكن... سامر.. أرجوك أنت... دعها تأخذ وقتها مهما طال.. في
التأقلم مع الوضع الجديد.. لا تستعجلها ولا تلح عليها.. خصوصا الآن.."
فنظر سامر إلي نظرة عميقة وأومأ بالموفقة...
خرجت بعدها من غرفتي راغبا في الابتعاد عن أنظار وكلام سامر متظاهرا بعزمي
الذهاب إلى رغد والتحدث معها... بينما كنت في الحقيقة أفتش عن صحراء شاسعة
أطلق فيها صرخاتي أو جبال شامخة أدكها بقبضتي... وللمفاجأة... لأسخف مفاجأة
في أسوأ توقيت... رأيتها هي رغد ذاتها... تقف في الخارج على مقربة...
"رغد!!.."
رمقتني بنظرة مخيفة... ورأيت وجهها يكفهر ويصفر... ورأسها يفتر يمينا
وشمالا... ثم إذا بها تولي هاربة إلى الجناح الآخر....


.................................................. .........





كنت ذاهبة لأتحدث معه وأطلب منه بل أتوسل إليه... أن يصطحبني معه إلى
الوطن... كنت سأبوح له بمشاعري... ورغبتي في البقاء معه هو... أينما كان.. لم
أكن لآبه بالشقراء... لن يهمني وجودها ما دمت مع وليد... لن أكترث للخطر...
لن أكترث للحرب... لن أكترث للرعب... كنت مستعدة للتنازل عن أي شيء... والرضا
بأي شيء... وفعل أي شيء... مقابل أن أظل برفقة وليد... أنعم برعايته وأحظى
برؤيته... وأستسقي من فيض حنانه وعطفه اللذين لطالما غمرني بهما منذ
الطفولة...
ولما اقتربت من غرفته... سمعته يتحدث ويضحك... كان الباب مفتوحا... وكان في
الداخل يتكلم مع شخص ما... توقفت وهممت بالانصراف... فإذا بي أسمع صوته يقول:
("أضحكتني يا سامر! ماذا دهاك!؟ أنا أفكر في رغد هكذا!؟ هل سمعت عن أب يتمنى
الزواج من ابنته!! أي سخافة هذه!!")
كان يسخر من مشاعري... ويستخف بحبي...
سمعته يضحك... ويذكر اسمي... ويقول بأنني كابنته تماما...
وليد قلبي... يسخر مني...!
بعد كل ذلك الحب الكبير... المشاعر الصادقة الخالصة.. التي أكننتها له كل ذلك
الوقت.. بعد كل أحلامي وآمالي المتعلقة به هو.. هو وهو فقط... ألقاع يضحك
ساخرا مني!
أنا يا وليد تفعل هذا بي...؟؟؟
أحسست بإهانة كبيرة... وحرج شديد غائر... وخذلان هائل... من أقرب وأحب الناس
إلي...
جرحني ما سمعت الجرح الأكبر والأعمق والأشد عنفا وإيلاما في حياتي...
لم أستطع بعد سماع ذلك مقاومة فضولي... وبقيت أنصت إلى ضحكات وليد قلبي...
الساخرة مني... وقلبي ينصفع... ويتزلزل... وينهار... والدهشة تسلبني المقدرة
على الانسحاب...
كم كنت ملهوفة عليه... لكن... بعد موقفه الساخر مني... وبعد تنازله عني بهذه
البساطة وكأنني قطعة أثاث بالية... لم أعد أرغب في رؤية وجهه... وسوف لن
أتحدث معه ثانية... ولن أسمح له بالدخول مهما طرق...
لن أذهب معه... لن أودعه... لن أكترث به... ولن أفكر فيه بعد الآن...
لن أسامحك يا وليد... أبدا... أبدا...



أخيرا توقف الطرق... انصرف وليد... ولم أعد أشعر بوجوده خلف الباب... أشحت
بوجهي إلى الناحية الأخرى...
لمحت اللوحة التي قضيت الساعات الطويلة... في الأيام الماضية... أُودِعُها كل
طاقاتي ومواهبي لأرسمها مطابقة للواقع... لوجه وليد... حبيبي وليد... وهو
ينظر إلي ويلوح بيده...
لم أطق رؤيتها والنظر إلى عينيه... ضحكاته لا تزال ترن في رأسي... قمت إلى
اللوحة... ولطختها باللون الأسود... حتى جعلتها قطعة من الليل الذي لا
ينتهي... وأوقعتها أرضا...
وبعثرت كل اللوحات التي رسمتها لوليد ولأبي ولأمي... ورميت بالصور
الفوتوغرافية بعيدا وصفعت لوح الألوان بالجدار... ثم ارتميت على سريري أخلط
بكائي بسعالي... وأنفاسي بآهاتي... وكلماتي بصرخاتي...
أنا... من اليوم فصاعدا...
"أكرهك يا وليد!"

**********

لما يئست من فتحها الباب, ابتعدت عن غرفة رغد وفتشت عن دانة. وصلت إليها عبر
الهاتف المحمول, كانت في جناحها الخاص فطلبت أن نتقابل بمنأى عن الآخرين
فدعتني إلى غرفة خاصة في جناحها.
كنت مشوشا إثر ما قاله أخي أولا... ثم هروب رغد مني وتلك النظرة القاتلة التي
رمتني بها ثانيا...
أحسّت شقيقتي باضطرابي فسألتني مباشرة:
"هل تحدث سامر معك؟"
مما جعلني أيقن أنها تدرك ما جئت لأجله, فاختصرتُ الطريق وقلت مباشرة:
"ما ذلك الجنون الذي قلته لسامر يا دانة؟؟"
دانة نظرت إلي مطولا ولم تبادر بالإجابة.. لكنها فهمت ما أعنيه, فقلت بصوت
جاد:
"اسمعيني يا دانة... ما كان يجدر بك نقل كلام كهذا إلى سامر... إنه يمر بظروف
نفسية صعبة... أنت لا تعرفين شيئا عن الصعوبات التي واجهتها من أجل ترحيله عن
الوطن... ليست لديك أدنى فكرة عن الأمور الفظيعة التي اضطررت للقيام بها كي
أنقذه"
أخذت دانة تصغي إلي بجل الاهتمام, فتابعت:
"لا أريد أن يضيع كل هذا هباء... أنا لا تهمني تلك الأمور... إنما يهمني
سلامة أخي وأمانه... ولست مستعدا لفقده... أو خوض مغامرة مشابهة... تتعرض
حياته فيها للخطر... هل تفهمين؟"
وبدا عليها الارتياب والحيرة فقلت بتفصيل أدق:
"سامر ارتكب حماقة كبيرة بانضمامه إلى المنظمة المشاغبة في الوطن.. كان قاب
قوسين أو أدنى من الهلاك الحتمي... لو يعود للوطن وتطاله أيدي السلطات أو
الأيدي الخفية للمنظمة.. فسيعدم فورا... أنا أريده أن يستقر هنا معك... وينسى
الماضي... ويبدأ حياته من جديد"
فتفوهت دانة أخيرا بين سؤال وإقرار:
"ومع رغد؟!"
عضضت على أسناني وشددت قبضتي... ثم قلت:
"إنه لن يجرؤ.. على المجازفة بحياته.. وهي تحت مسؤوليته.. سيحافظ على نفسه
جيدا.. كي يحافظ عليها"
فنظرت إلي دانة نظرة مريرة ثم قالت:
"لكنها.. أعدت حقيبتها.. للسفر معك أنت"
أطلت النظر في عينيها ثم قلت:
"لن آخذها معي... مهما حاولت هذا أمر مفروغ منه"
ثم وقفت وقلت:
"أريدك أن تأتي معي الآن وتخبريها بأنني أرغب في حديث مهم معها"
فوقفت وهي تقول:
" وسامر؟؟"
فقلت محذرا:
"سامر اتركيه وشأنه.. ولا تحشي رأسه بأشياء خطيرة كهذه... من شأنها أن تعيدنا
إلى الصفر"
واستدرت لأنصرف فإذا بي أسمعها تقول:
"إذن ما أخبرتني به أمي صحيح؟؟"
تسمرت في مكاني برهة.. ثم قلت:
"لا أعرف بماذا أخبرتك بالضبط ولا يهمني أن أعرف. فقط احتفظي بكلامها بعيدا
عن سامر تماما"
وإذا بي أحس بشيء يمسك بذراعي.. ثم إذا بدانة تظهر أمام مرآي وتحدق في عيني
بحرارة وتقول:
"أخبرني أنا... أعدك ألا أطلع سامر على شيء.. أدركت فداحة خطئي بإخباره.. هل
حقا كنت تحب رغد وترغب في الزواج منها منذ صغرك؟؟"
تملكني الحنق من طرح السؤال الأشد إيلاما في حياتي.. وإجبار لساني على خيانة
قلبي.. فقلت غاضبا:
"سخافة.. أحذرك... إياك أن تكرري قول شيء كهذا على مسامع سامر أو رغد.."
حملقت دانة بي كأنها تحاول قراءة ما يدور بخلدي... عيناها كانتا شبيهتين
يعيني أمي... ما جعلني أشعر بحنين شديد إلى الغالية الفقيدة... خصوصا هذه
اللحظة... وأنا أكتشف أنها كانت تفهمني وتفهم حقيقة مشاعري... في الوقت الذي
كنت أشعر فيه... بأن الدنيا كلها قد تخلت عني.. ولم يعد أحد يكترث لي...
"وليد.. لماذا أنت غامض؟ لماذا لا أستطيع فهمك.. لماذا لا تصارحني.. مثل
سامر؟ أنت أخي أيضا.. وأحبك كما أحبه.. وأتمنى أن تبقى معنا.. وأن تعيش سعيدا
ومرتاحا"
لمست عطفا وحنانا فائقين في كلمات شقيقتي... مشاعر صادقة دافئة... لطالما
استمت لأحظى بمثلها منذ سنين.. لم أجد من يمدني بعوض عنها غير أروى.. التي
تجمدت علاقتي بها منذ زمن... مذ عرفت أنني قتلت عمار..
مددت يدي وشددت على يدي شقيقتي ممتنا... على لحظة العطف هذه.. وقلت:
"سعادتي وراحتي.. في أن تكونوا أنتم الثلاثة... بخير وفي أمان"
وعبثا حاولت دانة إقناع رغد بالسماح لي بالحديث معها... وانتهى ذلك اليوم..
واليومين التاليين, ورغد منزوية على نفسها في غرفتها... ترفض مقابلتي
نهائيا...
وحل يوم الرحيل...
أنا الآن... أعد حقيبة سفري الصغيرة, التي جلبتها معي من الوطن... موشكا على
المغادرة...
سأرحل.. وأترك عائلتي هنا.. قلبي هنا.. كل المشاعر.. وبقايا الأحلام
المستحيلة.. سأحمل جروحي بعيدا.. إلى مكان أبرد من الثلج.. وأدفنها تحت
الجليد..
أخيرا... آن الأوان.. لكلمة الوداع..
أخيرا... يا وليد...
كل لعبة قدر.. وأنت بخير!
فيما أنا أدخل يدي في جوف الحقيبة, أمسكت بشيء ما... كان يتربع في قعرها.. شيء
ذهلت حالما استخرجته ورأيته أمام عيني...
أتعرفون ما كان؟؟
صندوق أماني رغد!!!
يا للمفاجأة!!
أخذت أقلب في الصندوق محاولا التأكد منه.. إنه هو... وهل أتوه عنه!؟
ضحكت في نفسي!... بل أطلقت ضحكات لا أضمن لكم أنها لم تصل إلى مسامع أحد...
يا للمسكين! كيف لا يزال هذا الصندوق حيا...؟! هل لحق بي كل هذه المسافة...
من شرق الأرض إلى غربها..؟؟ هل حملته معي دون أن أنتبه؟؟ أما زال هذا الصندوق
مصرا على تذكيري بالأماني الخرافية الوهمية المستحيلة... التي حلمت بها ذات
يوم؟؟
لقد عرفت...
شاءت الأقدار أن أجلبك معي... ولو بدون قصد... حتى أعيدك لصاحبتك.. قبل
الوداع... الذي لن يكون هناك لقاء بعده..
أبدا.. لن تتحمل هذه المضخة التي تنبض في صدري منذ تخلقي في رحم أمي... أن
تستمر في العمل لحظة واحدة... بعد أن تختفي رغد والأمل الواهم الذي تعلقت به
منذ صغري... بأن تصبح لي...
أبقيت الصندوق بين يدي... أمام عيني... وأخذت أسترجع شريط الذكريات القديمة..
عندما جاءت طفلة صغيرة تحمل كتابها المدرسي وتطلب مني أن أصنع لها صندوقا
مماثلا لذلك المصور في الكتاب.. ثم إذا بتلك الطفلة... تكتب أمنيتها
الأولى... وتدسها بكتمان... في جوف الصندوق..
أنا مستعد.. لأن تستل روحي بعد دقيقة وأنتقل إلى العالم الآخر فورا.. مقابل
أن تظهر الطفلة أمامي مجددا... لدقيقة واحدة.. واحدة فقط... أضمها إلى
صدري... وأمسح على شعرها الحريري... وأقبل جبينها الناعم...
يا حبيبتي... يا رغد
دقيقة واحدة فقط...
الشوق المنجرف إليها جعلني أستخرج قصاصات صورتها القديمة.. وألملمها على
سريري.. وأحدق فيها.. كدت أغرق في الوقت الضائع.. في الوقت الذي يجب فيه أن
أستفيق.. أن أثبت أحسم الأمر... أن أتماسك لئلا أغرق السفينة بانهياري..
وداعا.. يا رغد..
لم أشعر إلا وأصابعي تطبق على القصاصات... تضمها إلى صدري قصاصة قصاصة.. ثم
تطويها... وتدفنها داخل الصندوق..هناك.. حيث مقبرة الأماني الميتة.. التي لن
تعود للحياة... ولم أعِ.. إلا وصورة رغد.. الصورة التي نامت تحت وسائدي أو
فوق صدري... لتسع أو عشر سنين.. مئات الليالي وآلاف الساعات... قد اختفت من
أمامي.. نهائيا..
وحانت لحظة المواجهة الأخيرة...
كنت سأذهب إلى المطار مع نوّار بعد قليل... وكان سامر و دانة سيرافقاننا..
أما رغد.. حبيبتي رغد.. ودعوني أقول حبيبتي قدر ما أشاء.. لأنني لن ألفظها
بلساني يوما.. ولن أقولها في سري بعد هذا اليوم...
أقول أن حبيبتي رغد قد رفضت حتى أن تخرج من غرفتها لحظة.. لتودعني..
كانت آخر مرة رأيتها فيها صباح ذلك اليوم... عندما صادفتها قرب غرفتي... تنظر
إلي النظرة الصفراء.. وتولي هاربة.. أظنها كانت قادمة إلي تريد التحدث معي
وأظنها سمعتني أتحدث إلى سامر وأوصيه بها.. فتراجعت.. ثم رفضت أن تقابلني..
لم أستطع الخروج دون أن ألقي النظرة الأخيرة... لا يمكنني ذلك.. إنني لن
أراها ولن أرى حتى صورتها بعد الآن... دعوني أقابلها ولو للحظة... للحظة
ختامية.. نهائية...
لا أصعب من هذه الكلمة... لا أصعب من هذه اللحظة... لا أصعب من أن تحاول وصف
ما لا يمكن وصفه... بأي شكل...
طلبت من شقيقيّ انتظاري في الصالة... وحملت صندوق الأماني وذهبت إلى غرفة
رغد... طرقت الباب وسألتها الإذن بالدخول فلم تأذن لي... رجوتها وألححت عليها
مرارا... حتى أني... أقسمت عليها وسألتها بالله أن تسمح لي بحديث أخير... وما
كادت تسمح...
وأخيرا.. فتحت الباب...
كانت تجلس على سريرها مولية ظهرها إلي... لم تلتفت نحوي لتمنحني نظرة
الوداع...
ناديتها فلم ترد علي... فتوغلت داخل الغرفة مقتربا منها أكثر...
عند ذلك انتبهت للوحات المصفوفة على الجدار... صورة أمي... صورة أبي... وصورة
تخفي معالمها تحت سحابة من السواد... لم يكن من الصعب أن أعرف أنها صورتي
أنا...
نظرت إلى رغد ولم أعرف ما أقول.. من أين أبدأ... وكيف أتكلم...
لطالما كانت رغد تعبر عن مشاعرها بالرسم.. أما أنا فبأي شيء سأعبر عن مشاعري
الآن يا رغد..؟؟
أخيرا استجمعت شجاعتي وقلت:
"هل هذا السواد.. ما يحمله قلبك نحوي يا رغد؟؟"
لم ترد..
قلت:
"لا أريدك أن تكرهيني يا رغد.. صدقيني.. أما مضطر جدا.. لفعل هذا"
لم تتجاوب..

اقتربت منها أكثر وسألت:
"ألا تصدقينني يا رغد؟؟"
وأيضا لم تتجاوب... شعرت بالألم الشديد لتجاهلها لي.. في آخر اللحظات التي
تجمعنا.. على الإطلاق..
انصهر صوتي وأنا أقول بخيبة شديدة:
"ألن تودعيني يا رغد؟؟.. سأذهب الآن... وقد... لا نلتقي ثانية..."
عندئذ... سمعت آهة تصدر من حنجرتها بمرارة... تلاها سعال مكبوت... ثم شهقات
وزفرات شجية... كانت صغيرتي تبكي... وتخفي عني وجهها ودموعها... وكأنها لا
تعلم بأنني أحس بها تقطر من قلبي قبل أن تسيل على خديها...
قلت متألما...:
"رغد... صغيرتي... يتمنى المرء منا أشياء كثيرة ولكن... ظروف الحياة لا تسمح
بتحقيق كل أمانينا..."
وراقبتها فلم أر منها أي تفاعل...
واصلت:
"أنا... حاولت بكل جهودي... أن أوفر لك أفضل حياة.. أردت أن.. تكوني سعيدة
ومرتاحة.. ومطمئنة إلى حاضرك ومستقبلك.. حاولت أن أكون.. وصيا وأبا جيدا.. لم
أبخل عليك بشيء وإن كنت قد فعلت.. فأرجوك أن تسامحيني.."
فأطلقت رغد آهة بكاء قوية تذوب لها الحجارة... كيف لي أن أتحمل..؟؟
كانت لا تزال موشحة بوجهها عني.. مصرة على حرماني من النظرة الأخيرة..
توسلت إليها:
"رغد... انظري إلي"
لكنها لم تفعل...
"انظري إلي أرجوك"
لم تستجب, بل على العكس... رفعت كفيها وأخفت وجهها خلفهما.. لم يعد لدي أمل
في أن أراها... تنهدت ورجعت خطوة للوراء... وتأملتها برهة... ثم قلت:
"سامر و دانة سيواصلان رعايتك.. وربما أفضل مني.. وأفضل من خالتك أو أي شخص
كنت تتمنين أن.. يهتم بك"
هنا نطقت رغد فجأة قائلة:
"أنا لا أريد لأحد أن يهتم بي.. أنا لست طفلة كما تظنون.. ومن الآن فصاعدا
سأتولى أنا الاهتمام بنفسي.. واتخاذ قراراتي.. وإذا حاول أحد التدخل بشؤوني..
أو فرض نفسه عليّ.. فسوف أوقفه عند حده"
وكان صوتها متألما.. وكلامها مهددا... قلت:
"لا أحد يفرض نفسه عليك يا رغد... لا أحد يجبرك على شيء..."
وأضفت:
"لكن... أحيانا... نجد أنفسنا نقدم التضحيات طوعا من أجل الأشخاص الذين نعزهم
كثيرا... والذين يستحقون التضحية... وكم كنا لنشعر بأشد الندم... لو بخلنا
عليهم..."
ولم تعلق... فقلت:
"أتفهمينني يا رغد؟؟"
انتظرت منها أن ترد علي... أن تلتفت لي... لكنها كانت أقسى من أن تمنحني
الفرصة الأخيرة...
تراجعت إلى الوراء... خطوة تلو خطوة... وقفت عند الباب... وعيناي متشبثتان
بها.. تكادان تقتلعان من مكانيهما.. وتبقيان هناك..
"وداعا... صغيرتي"
أخيرا نطقت... وأغلقت فمي... وأغمضت عينيّ... أبتلع المرارة الشديدة التي
خلفتها الجملة الأخيرة.. وأمتص الدموع الحارقة التي كانت تغلي تحت جفوني...
فتحت عينيّ... ونظرت إلى صندوق الأماني الذي كان في يدي... وانعصر قلبي
ألما...
وداعا أيها الصندوق...
كنت لي رفيقا شديد الغموض والكتمان... طوال السنين...
لقد حافظت على أسرارك منذ صنعتك بيدي... فهل ستكتم أمانيّ وأحلامي...
وحبيبتي.. في جوفك... إلى الأبد؟؟
وضعت الصندوق بهدوء على المنضدة المجاورة للباب.
وأخيرا... أغلقت الباب... ببطء... ببطء شديد... إلى أن اختفت الفتحة...
وانقطع حبل الرؤية الممتد من عيني... إلى رغد...
وفيما نحن نهبط السلالم أنا وسامر و دانة... خارجين من هذا الجناح في طريقنا
إلى البوابة... وأنا مستمر في ترديد وتأكيد وصاياي لأخي... ولأختي... إذا
بصوت ينادي بانفعال فيوقفنا:
"وليد"
التفتنا إلى الوراء... إلى الأعلى... إلى حيث كانت رغد تقف... وتنظر إلي...
لم تصدق عيناي أنهما تريانها... ما أسرع ما حلقتا إليها والتصقتا بعينيها...
أهذه أنت رغد... أجئت لوداعي؟؟ هل رأفت بحالي أخيرا؟؟...
"خذ"
هتفت رغد... وهي ترمي باتجاهي بشيء ما... يرتطم بصدري... ثم يقع أمام
رجليّ...
أردت أن أنظر إلى ذلك الشيء... لكن عيناي رفضتا الانفكاك عن رغد...
وإذا بها تهتف:
"احتفظ به أنت... فأنا لم أعد طفلة لأحتفظ بشيء تافه وغبي كهذا"
وبسرعة البرق اختفت رغد...
لكن عينيّ ظلتا تحملقان في المكان الذي كانت تقف فيه... تفتشان عنها... أين
اختفت فجأة؟؟ أين ذهبت؟؟
انتبهت من ذهولي وحملقتي على صوت دانة تقول:
"ما هذا؟"
التفت إليها فإذا بها تنظر باتجاه قدمي... طأطأت رأسي ونظرت... فهل تعلمون
ماذا رأيت؟؟
نعم... لقد حزرتم...
صندوق الأماني!!

***************

"وليد!!"
اندهشت كثيرا عندما رأيته يقف أمامي... وبعد كل تلك المدة الطويلة التي غابها
عني... عجبا! ألا يزال يذكرني؟؟
مد يده ليصافحني... فلم أمد يدي إليه... تصافحني يا وليد؟؟ بعد كل هذا
الغياب... هذا التجاهل والهروب مني... تعود وتصافحني؟؟
"أروى!... ألن تسلمي عليّ؟؟"
سألني ويده لا تزال معلقة تنتظر مصافحتي... وخالي يقف جوارنا وعلى وجهه
التوسل... لكنني لم أقبل...
أشحت بوجهي عنه وقلت:
"ما الذي أعادك؟؟"
سمعت خالي يهتف رادعا:
"أروى!"
فالتفت إليه وإلى وليد وقلت:
"وصلت متأخرا جدا..."
وليد طأطأ برأسه ليرني اعتذاره ومدى ندمه... وتكلم قائلا:
"مررت بأزمة حرجة جدا يا أروى... سأشرح لك"
فقلت:
"لست مضطرا..."
فعاد خالي يردعني... فقلت وقد أفلتت أعصابي:
"كل هذه المدة يا خالي وهو غير موجود... يسافر ويرحل... ويغيب كل هذا
الزمن... دون خبر... دون كلمة.. متجاهلا لي.. متناسيا وجود زوجة في حياته...
وتريد مني أن أستقبله بترحيب؟؟"
قال خالي:
"يهديك الله يا ابنتي نسمع منه ما حصل أولا"
فما كان مني إلا أن انسحبت من المكان وخرجت إلى قلب المزرعة.
بعد مرور فترة... جاء خالي إلي وطلب مني الذهاب معه للتحدث مع وليد فأبيت.
أخبرني بأن وليد شرح له الظروف الحرجة التي مر بها وأنها كانت بالفعل خطيرة,
ورجاني أن أصغي إلى وليد وأسمع منه مبرراته. وافقت من أجل خالي الذي كان قلقا
بشأن علاقتي مع وليد... والتي أعتبرها أنا... انتهت منذ زمن...
في المنزل... تركنا خالي بمفردنا وذهب ليصنع القهوة... وليد بدأ الحديث
بالسؤال:
"كيف أنت يا أروى"
وحقيقة استفزني ذلك السؤال كثيرا... كيف تتوقع أن أكون وزوجي قد هجرني منذ
فترة طويلة وأنا في أوج حزني على أمي الراحلة؟؟
لذا قلت بجفاء:
"أرجوك وليد... لا داعي لأي كلام جانبي... أخبرني فقط بما أخبرت به خالي
واختصر ما أمكن"
نظر إلى وليد نظرة حزينة جدا تفطر القلب...
انتبهت الآن فقط... إلى أن شكله قد تغير... كأنه كبر عشرين عاما... كان شاحبا
ذابلا منحني القامة... يبدو مريضا ومرهقا جدا... وكان شعر رأسه وذقنه طويل
وغير مرتب.. عيناه كانتا غائرتين وجفونه مسودّة... شكله كان مقلقا..
قال:
"حسنا يا أروى... أنا لن أضغط عليك في شيء. لقد أخذتِ كفايتك من الوقت للنظر
وإعادة النظر والتفكير والتقرير... سأكون تحت أمرك فيما ستقررين مهما كان...
فقط اسمعي مني مبرراتي... وموقفي..."
قلت والاهتمام يغزوني:
"تفضل"
وبدأ وليد يقص علي ما حصل مع شقيقه ومعه.. ما اضطر لفعله وكيف تصرف وإلى من
لجأ وكيف سارت الأمور معه منذ اللحظة التي فارقني بها تلك الليلة, ليلة أن
حضّرت له عشاء مصالحة فتركني وذهب إلى أخيه... وإلى أن عاد إلي هذه اللحظة...
أحداث بدت أقرب إلى الأفلام منها إلى الواقع... عنف.. ذعر.. شرطة.. مطاردة..
هروب.. مرض.. مستشفى.. أحداث رهيبة اقشعر لها بدني.. وذاب لها قلبي وانصهرت
مشاعري.. أمور فاقت أبعد توقعاتي واستصعب عقلي استيعابها دفعة واحدة...
كان وليد يتوقف من حين لآخر.. يلتقط أنفاسه.. ويشرب جرعة من كأس الماء البارد
الذي طلبه من خالي.. ورغم أنني طلبت من الاختصار منذ البداية, إلا أنه ذكر
الكثير من التفاصيل بل وحتى بعض الأيام والتواريخ والساعات.. وتفاصيل المبالغ
المالية التي سحبها من المصرف وكيف وأين صرفها.. وأسماء بعض الأطباء الذين
أشرفوا على علاجه وأسماء بعض الأدوية.
كنت أصغي إلى كل ذلك دون أن أقاطعه.. كنت أتجاوب معه عبر الانفعالات التي
تطرأ على وجهي كلما ذكر شيئا مثيرا.. وحقيقة كان كل ما ذكره مثيرا ومربكا..
"ثم ماذا؟"
سألته بتشوق عندما رأيته يتوقف عن الكلام أخيرا وقد انتهى من سرد كل
الأحداث... فأجاب:
"ثم استغليت سيارة أجرة وجئت مباشرة من المطار إلى هنا.."
سألت راغبة في المزيد من التأكد.. فقد يكون قد أغفل عن ذكر شيء هو لدي أهم من
التفاصيل التي ذكرها:
"جئت بمفردك؟"
فأشار من حولي وقال:
"كما ترين.."
فصمت برهة أفكر وأتأمل.. ثم سألت:
"ثم ماذا؟؟"
فنظر إلي وقال:
"يعتمد عليك"
أتصدقون هذا؟؟
وليد الآن معي... بمفرده.. ترك محبوبته المدللة في آخر العالم وعاد إلي..! هل
هذا صحيح؟؟ هل تخلى عنها من أجلي؟؟ هل تركها هناك.. وعاد ليبقى معي أنا؟؟






باقي جزء واحد فقط









باقي يوم ونخلصها كلها



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
لكم, ادخلو, انت, حلى, يدورو, رواية, قاعدين, كاملة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رواية بنات الرياض ، للكاتبة رجاء الصانع ، نسخة كاملة للتحميل بو راكان الروايات والقصص العربية 136 April 29, 2018 05:42 PM
رواية ((أنت لي )) كاملة في ملف واحد....الرواية المطلوبة في جميع المواقع....ماذا تنتظر؟ tamahome روايات و قصص منشورة ومنقولة 52 May 21, 2013 11:01 AM
رواية ( ذاكرة الجسد ) .رواية رائعة للكاتبه أحلام مستغانمي ...كاملة !! قلب حائر روايات و قصص منشورة ومنقولة 101 August 13, 2010 04:31 PM
رواية سنة أولى حب - للكاتب مصطفى أمين&&&& كاملة في رابط واحد tamahome كتب الادب العربي و الغربي 5 February 28, 2009 09:08 PM


الساعة الآن 03:46 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر