فيسبوك تويتر RSS


  #1  
قديم December 11, 2008, 02:07 PM
 
آهٍ يا عراق...!


جلستْ وحيدةً بالدار تُحِيط بها الغربة، مع أنها في دارها ومدينتها، تنهش اللوعة أحشاءها؛ قُتِل زوجها خطيب مسجد الصديق، والتحق ابنها الأكبر بالمقاومة، وقال مودِّعًا: يعزّ عليَّ يا أمي فراقك؛ فإن بَقِيتُ سجنني الأمريكان أو قتلوني، أو كان ذلك على يد بني وطني كما قُتِل أبي، لا مفرَّ لي ولا خيار. ابنها الصغير عمر أخذوه هو الآخر وكان يلعب مع الصبيان بالشارع، صرَخَت حينها: كيف لصبي أعزل لم يبلغ اثني عشر عامًا أن يهدِّد جيوش أمريكا؟
أول أمس بعد انتصاف الليل طرقوا الباب، لم تفتح لهم، فهدّدوا بكسره، فتحت لهم، اقتحم عليها شبان مُلَثَّمون، سبّوا ولعنوا وهدّدوا إن لم تدلَّ على ابنها، عَرَفَتْهُم من أصواتهم وعيونهم، وكيف لا تعرفهم وقد دخلوا هذا البيت أطفالًا وشبابًا وأكلوا على مائدة واحدة مع ابنها الذي يطاردونه اليوم، كانت ترعى "علي الصدر" وأخاه "باقرًا" مثلهم مثل أبنائها، واليوم يدخلون عليها بالسلاح.. ينتهكون حرمة البيت بعد منتصف الليل.. وهم يعلمون أنه خالٍ من الرجال، كيف يُرَوِّعون أمَّهم، أم تراهم يَكْفُرون ويُنْكِرُون إرضاعها إياهم لَمَّا شحَّ اللبن في ثدي أمِّهم فاطمة، سبحان مقلِّب القلوب.. سبحان مقلِّب الأزمان!!
أمرٌ وإنذارٌ وُجِّها لها بأن تغادر البيت خلال ثلاث.. وإلا قطعوا عنها الماء والكهرباء.. ولكن.. كيف ترحل عن هذا الحيّ الذي وُلِدَت فيه؟ وكيف تنسلخ من البيت الذي تزوَّجت فيه وشهد مولد أبنائها جميعًا، وظلّت تَرْقُبُهم وهم يكبرون فيه يومًا بعد يوم، وساعةً بعد ساعة.. ها هنا تكاد تشمّ روائحهم، وها هنا تستمع إلى أحاديثهم وضحكاتهم.. محالٌ وألفُ محال أن تترك روحها وترحل ماذا بقي لها في الحياة لتحرص عليه أو تخشى وتحزن لفقده، أيّ شيء بعد رحيل الزوج وضياع الأبناء، هي كالنخلة تمتدّ جذورها في أعماق هذا البيت تمتصّ ذكريات الماضي الجميل، تحيا عليه ولئن نزعت عنه ماتت، أرأيت نخلة عجوزًا تُنْزَع من أرضها لتُزْرع في أرض غريبة؟! ستموت توًّا، أنَّى لها أن تعيش لا لن تعيش، لا لن ترحل.. سُحقًا لحياة الذلِّ والهوان والكآبة.
عند انتصاف الليل سمعت طرقات الباب إذًا فقد جاءوا في موعدهم.. أبدًا لم تَخَفْ.. بَيْد أن انقباضة هائلة اعتصرت قلبها، مضت بالشمعة وفتحت الباب لم تجد أحدًا سوى لفافة كبيرة على عتبة الدار سمِعَت أنينه فانسحق قلبها كشفت الغطاء عن وليدها عمر.. حملته في لَهْفة إلى الداخل فحَصَت كل موضع في جسده فما خلا شبرٌ من جرح ينزف.

- ماذا جَنَيْت يا ولدي لكي يفعلوا بك كل ذلك؟
أصابها الهَلَع لم تدرِ ما تفعل أي الجراح تضمِّد؟ وأي الدماء تمسح؟ وإلى أين تذهب به؟ وطائرات الأمريكان دمّرت مستشفى الحي فأمست رُكامًا، وهاجر الأطباء فرارًا من القتل.. أمَّا مستشفى الكاظم فلا تأمن الذهاب إليها بعد ما حدث من فتنة بين أهل العراق.. لم يَعُد لديها سوى الماء والسكر طعامًا ودواء له، ما في البيت سواهما، غسلت جراحه بالماء وجعلت تقطر الماء المحَلَّى بالسكر في فمه وتتلو عليه آيات القرآن.
ظلّت ترقبه في لهفة وقلق تمنت لو تعطيه عمرها كلّه لينهض سالمًا على قدمَيْه بل نظرة من عينيه أو ابتسامة على شفتيه أو كلمة من لسانه تعدل عمرها كله، فوَّضت أمرها إلى الله وظلّت ساهرة تنظر في وجهه.
قُبَيل الفجر نظر إليها فرجَعت إليها روحها الشاردة أوشكت أن تضمَّه إلى صدرها لكنها تذكرت جسده المُثْخَن بالجراح، غمرت وجهه بالقبلات تروي ظمأها إليه، أول كلمة قالها: أمّي، كأنها تسمعه وتسمعها لأول مرة في حياتها.. أجمل وأعذب كلمة عانقت أذنها.

- لا تخف..أنا بجانبك.. أنت بخير.
فاضت دموعها فكفْكَفتها بمنديلها وكظمت نَوْبة بكاء جاشَت بصدرها أراد الكلام فوضعت أصبعها على شفتَيْه إشفاقًا أن يجهد نفسه بالكلام لكنََه أبى.
- أمِّي لم أفعل شيئًا فقط كنت ألعب مع الصبيان!!
- أعرف يا ولدي.. أعرف.
بدا واهِن الصوت وشعرت أنه عازم على الكلام فوافقته كارهة.
- أمي اختطفني الأمريكان من الشارع وأخذوني إلى السجن سألوني عن أخي وعن المقاومة قلت لهم: لا أعرف أقسمت لهم بالله لا أعرف لم يصدِّقوني لم يتوقفوا عن ضربي وتعذيبي وضعت أصبعها على فمه ليتوقف.
- استرح بُنَيَّ، ثُمَّ سنتحدث في الصباح.
- فكّوا العصابة عن عيني يا أمي ورأيت المهندس ماجد.
- ماجد؟!
- ماجد بن الصائغ شمعون زميل أخي بكلية الهندسة، رأيته يا أمي يرتدي لباس الضباط الأمريكان قلت له: قل لهم: إنني لا أعرف شيئًا، صرخ في وجهي قال: ستتكلم يا ابن... أنا ضابط السجن هنا.
لمّا شتم أبي غضبت ولا أذكر ما ردّدت به عليه لكنهم سرعان ما صعقوني بالكهرباء فأُغْمِيَ عليَّ فغمروني بالماء البارد حتى أفقت.

قال لي ماجد شمعون:
- ترى ما أخبار عمتك دكتورة الفيزياء؟
- قُتِلت الشهر الماضي على باب الجامعة.
- أعرف.. أعلم أنها قُتِلت بثلاثين رصاصة.
- قالها يا أمي ثُمّ ضحك ضحكة طويلة.
أغمض عمر عينيه فظنت أنه نام وبعد بُرْهة عاود الحديث.
- بالله عليك يا ولدي اسكت.. نَمْ واسترح لا تجهد نفسك بالكلام.
- أتعلمين أمي من وجدت هناك.. عمّي مقتدى الحكيم ناظر المدرسة الحسينية الذي سافر إلى أمريكا منذ سنوات.
- يا الله وهل اعتقلوه هو أيضًا؟
- كلا يا أمي كلا. لقد كان معهم مع الأمريكان يساعدهم ساومني بالطعام وأنا جائع ووعدني بالخروج من السجن وأن يعطيني كل يوم دولارًا على أن أكون جاسوسًا لهم فلما أبيت أرجعني إلى الجنود تارة أخرى كي يواصلوا ضربي. أعرفتِ يا أمي؟
- نعم والله لقد عرفتهم يا بني.
أغمض عينيه مع انطفاء نور الشمعة وساد الظلام، اعتصرت قلبها الهواجس فوضعت أذنها على قلبه فلم تسمع شيئًا لقد مات.. ساعتئذٍ كان بها أكبر من الحزن وأعظم من الألم وأكبر من الغضب.. عاصفة وزلزال وبركان. أكبر من أن تبكي أو تصرخ ومع ذلك خرجت صرخة رغمًا عنها ولم تدرِ لمَا لم تقل: آه يا ولدي .. بل قالت: آهٍ يا عراق!!
__________________
كُن صديقاً للحياه وإجعلِ الإيمانَ رايه

وإمضي حُراً في ثبات إنها كُل الحكايه
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
آهٍ, عراق

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قصة الاب عراق وولديه سنة وشيعة قمر الرافدين روايات و قصص منشورة ومنقولة 1 February 3, 2011 10:31 PM
عراق الجديد\بواسطه اسماعيل العراقي asmail شعر و نثر 5 September 1, 2010 03:41 AM
قصيدة آه ٍ عراق سالار شعر و نثر 0 July 17, 2008 12:46 PM
عراق اني ايوب يوسف الترحيب بالاعضاء الجدد ومناسبات أصدقاء المجلة 8 February 29, 2008 09:17 AM


الساعة الآن 03:54 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر