|
روايات و قصص منشورة ومنقولة تحميل روايات و قصص منوعة لمجموعة مميزة من الكتاب و الكاتبات المنشورة إلكترونيا |
|
LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||
|
||
| | العصفور والريح | |
-1 - </STRONG> حين شممت الرائحة وسمعت الزعيق، كانت يداي معقودتين خلف ظهري، وقدماي الشاردتان حرتين على مهل، ولا تبصران ما أمامهما بوضوح وعيناي الزرقاوين غائرتين، تجولان في الآفاق أو تكنسان الطريق، والدموع تلهث فيهما، بينما تلتهب الشجون في حلقي الجاف. </STRONG> كان الجو صافياً، هادئاً، وفي السماء التي كانت تطفو فوق الجبال والأشجار العالية، غيوم قطنية مبعثرة تسبح بكسل، وشمس الظهيرة في ذروتها. تلهب سياطها الذهبية رأسي الحاسر وجسدي المتعب. </STRONG> خنقني الدخان الكريه وأيقظني الصراخ الداوي، من شرودي رفعت بصري لأتبين مصدرهما فبوغتّ بصوت محرك سيارة يهدر في أذنيّ! </STRONG> ذعرت وساورني الاضطراب وتلفتّ، فإذا بباص المارسيدس على بعد خطوة مني، حتى ليكاد يلامسني! رأيت فروة سلطان الممتدة من مقصورة القيادة. وأبصرت يده البلهاء تلوح محيية، ثم طالعني وجهه المستغرب: </STRONG> -ما بك يا كاكاحمه؟ </STRONG> فاجأني، فهززت يدي نافياً وجودي شيء. وحركت رأسي معتذراً عن عدم انتباهي. </STRONG> -أنت تبكي! </STRONG> لم أهتم لما قاله. انحرفت عن مساري. ابتعدت عن وسط الطريق، فاسحاً المجال لسيارة "عثمان المخرف" كي تتابع سيرها وهممت أحث الخطى في الممر الجبلي الضيق. رافضاً أي نوع من المساعدة. </STRONG> لم أبال بنداءات السائق، ومساعده، ولم أصغ لصيحات الركاب وتوسلاتهم، أو أستجيب لدعواتهم لي بالصعود. لم أعر أذناً لكل همساتهم وتعليقاتهم وكدت ابتعد عنهم لولا "سلسلة الأفكار "تذكرتها فراحت أنظاري تفتش بينهم تجتاح الكراسي بنهم، تتطلع بلهفة، بحثاً عن "السلماني" دون غيره وإذا مسني اليأس سألت سلطان لأبعد شكوكه: -ألم يأتي عيسى؟ </STRONG> -لا... ماذا تريد منه؟ هل وجدت له وظيفة؟ </STRONG> لم أكن راغباً في محادثة أحد، ومع ذلك تحمست لسؤاله: </STRONG> -ألم تلد زهرة؟ </STRONG> -هذا أسبوعها الأخير، إن شاء الله. محمد وأمه يلازمانها كالظل. رد بصوت خشن يخالطه الأمل. وصاح مع أكثر من شخص: </STRONG> -اركب تعال اصعد... لا تعاند. الطريق طويل.. ماذا بك؟ ماذا يدور في رأسك؟ </STRONG> لم أرد، تابعت السير. لم أكن مستعداً لكشف أوراقي، وفضح ما آل وسيؤول إليه مصيري ومسقبلي. </STRONG> صحيح، إنها ريح عاتية هذه التي تمر عليّ والتي حولت الأحلام في نبضي إلى جناحين، إلا أنها بالتأكيد ريح موسمية. ستتلاشى حتماً بإرادتي، وبفضل اللّه القدير... فكل شيء جائز عنده... كل شيء.. لذا سأقف بوجهها كجدار صلب. وسأتجلد أمام الآخرين، لأظهر بمظهر القوي تماماً، كجبل لا تهزه العواصف. فلقد تحسنت صحتي بعض الشيء، وبدأ شعري الذهبي ينمو... والفضل "لأزرق برلين". </STRONG> وصحيح أيضاً، أنني خبرت الحياة، وآن لي أن أعرف الشجى وأترنم بألحان الأسى، لكني لن أفعل. لن أستسلم، وسأقاوم. فالصمود واجب مفروض. وكل جهد يهوي مقابل ما سأعمله. </STRONG> قال الطبيب: اصبر، وابتعد عن الإجهاد والتوتر. كيف أصبر وقد تحدد مصيري؟! يا إلهي، أضاع الشباب حقاً؟ أبداً العد التنازلي؟ ثم كيف لا أجهد نفسي وأعمالي القادمة لن ينجزها إلاّ الجهد والمثابرة؟ يا إلهي، بالأمس كنت فتياً فمتى لحقت بي دودة الهرم بهذه الشراهة، فنزعت مني كل تفاؤلاتي وأبقت لي أفكاراً غائمة تتصارع في مخيلتي؟ لا أعرف كيف أميزها، أو بأيها أبدأ...! </STRONG> عليّ أن أسرع الخطى، لأصل سالماً قبل أن تخور قواي وأقع. وقبل أن يعاودني الصداع، فيلازمني طويلاً ويؤخرني.. أصل لأبدأ من جديد.. لن أدع" ما حصل" يفسد طموحي وآمالي، وسأبذل كل ما لديّ من طاقة لتنفيذ ما عزمت عليه. سأعمل، فبالعمل وحده أحقق إنسانيتي وأشعر بالراحة.. العمل سيخفف عذاباتي.. لولا أمي ما عدت. إنها مصدر كل معاناتي. ما توقعت أبداً أن أعود هكذا خالي الوفاض، دون نجاح يذكر. "فالعميد" هرب إلى تركيا و"إلهام" التي كنت آمل أن يؤويني صدرها بضعة أيام، تزوجت! ما أشد الخيبة وما أقسى المرارة! خاب أملي بها وتفاقمت مرارتي، حال معرفتي بالنبأ... قصدتها، واضعاً في خيالي أن التجئ عندها إلى حين نيل المرام وتحقيق الهدف، باعتبارها الملجأ الوحيد، الذي يمكن أن أحتمي به وأستدفئ بظله، وأرتوي بحنانه على مغالبة ما ألمّ بي، بل وأصارع الدهر! </STRONG> ظلت السيارة ولدقائق، تسير بمحاذاتي ببطء متناه، كسلحفاة عجوز، مما أزعجني وزاد من انزعاجي إلحاح سلطان والركاب! وعلى الرغم من أن عقلي كان بعيداً عنهم، سارحاً في ملكوت السموات، ولم انتبه بالضبط لما كانوا يقولونهن إلاّ أني خمنتهم يحثونني على مرافقتهم، ربما عطفاً وشفقة. ظناً منهم بأني تعبت والسير أرهقني. وكأنهم لا يعرفون منْ أنا! عجباً، أتراهم نسوا بطولاتي الرياضية؟ أشرت إليهم شاكراً، وتصرفاتهم العجيبة تثير دهشتي! تساءلت مع نفسي بألم وأنا أشهد إصرارهم: ما الذي يريدونه؟ ما الذي يتصورونه؟ أيعتقدونني جننت؟ لا.. وألف لا.. فأنا بكامل وعيي، وعقلي يزن عقولهم مجتمعة.. أعرف جيداً ما أفعله وما سأفعله... أمامي ثلاثة كيلومترات حتى أصل قريتي بعد أن قطعت خمسة بالتمام. وما دام الإنهاك لم يهد مفاصلي بعد، فساواصل السير بعزيمة، ودونما كلل... وعلى بركة اللّه. </STRONG> ليعتقدوا بما يشاؤون، فما عادت تهمني كل أعتقاداتهم. ماعاد يهمني أسار الركب أم ركب الأمير... عدت إليهم إنساناً آخر ولينتظروا "فكاكاحمة عاد... عاد" صرخت في أعماقي وتابعت سيري. وحين دب اليأس في أوصالهم، ونخزهم عجزهم عن إقناعي بالصعود معهم، تركوني. ومضت سيارتهم في طريقها، تتهاوى في سيرها كحمار أرهقته الأحمال... بينما أخذني حملي بعيداً وحلّق بي عالياً. </STRONG> كان حرياً "بالخبر الصاعق" أن يدفع بي إلى القبر، في الحال. لكن "أوراق الجمولي" أعادت لي الأمل، ووهبتني الحياة من جديد ها هي على قلبي ملفوفة بكيس نايلون خشية من العرق المتصبب من جسدي... "أخ لو حصلت عليها من قبل... أخ..."! </STRONG> أطلقت زفرة حرى. وعضضت أصابعي حسرة. فلو وقعت هذه الأوراق في يدي قبل الآن، وفي ظروف أحسن، لكانت فائدتها أكثر بالتاكيد. ومع ذلك سأستثمرها سأبدأ "بالسلماني" لن أدعه يهنأ بثروته. فبعد أن "باع حصيلة الموسم بربح وفير" وجب أن أستعيد حقي.. سأخرق موتى موتاه.. و"سعدو الخائن" لن يفلت مني. أخذ حصته فليعطني حصتي... ما كنت أعرف أن الأوراق تتكلم! تنطق! إنما "المال يتكلم" فتلك حقيقة لاغبار عليها، كحقيقة أن الفقر وحش شرس، لا يقاوم وأنا سأجعل الدنانير بين يديّ.. وتغني... فلينتظرا... لينتظر الجميع.. فكاكاحمه عاد... عاد. </STRONG> طوال الأيام القصيرة الماضية انبثقت الأفكار في داخلي! تدفقت بصورة غريبة، كشلال بارد، فأطفأت نيران القلب والروح المتأججة. كنت أعد مشاريعي، أرتبها، أزيد عليها وأنقص منها، ثم أقلع عنها نهائياً! كل ما أفكر به في الليل يمحوه النهار ببساطة! وكل ما أخطط له في الصباح، كنت أتخلى عنه في المساء... ولم أستقر على رأي أبداً، بسبب اضطرابي وتشوش ذهني... ولأن هدفي كان التسلية فقط، وقضاء الوقت. فحسب ما قاله "مجيد": على الإنسان أن يملأ روحه بشيء ما، وإذا لم يفعل وباتت الروح خاوية، فالقلب سيجتر دمه بنهم شديد... واليوم، تغير كل شيء وما عاد هناك تسلية، ولا حاجة لقضاء الوقت... بت في موقع المسؤولية، وباتت أمامي مشاريع جديدة، محددة، لا زيادة فيها ولا نقصان، ولا يمكن الاقلاع عنها ومحوها من الذاكرة... مسؤوليات لا يحق لي التخلي عنها.. أبداً.. أبداً. </STRONG> كل شيء كان واضحاً لنا، لكن الدليل.. تقديم البرهان أعجزنا... السلماني الكلب، لن يفلت هذه المرة.. لا.. لن يفلت... نذالته وخسته هما وراء موت أبي... طمعه في أرضنا وتهديده لنا ورفضنا عرضه لبيعها له وتشبثنا بها، دفعته إلى حرق محاصيلنا. ولكثرة الديون المترتبة عليه اضطر أبي للعمل عند المخرف، سائقاً لسيارة الأجرة الصغيرة، لكن الأمر لم يدم سوى أشهر. انقلبت في حادث أليم وطارت روحه إلى السماء وعندئذ برز لنا السلماني بأوراقه! إدعى أن أبي باعه الأرض قبل مدة واستلم المبلغ كاملاً عرض لنا ورقة البيع والشراء ممهورة "ببصمة أبي" ومذيلة بشهادة حمودة الأعور وسعدو وزوج خالتي المحامي! صدقنا مرغمين... غير أن الحيرة لازمتنا... الحيرة في النقود! فمتى أخذها أبي وأين صرفها؟! أقسمت أمي بأنها لم تسمع عن البيع شيئاً ولم تر فلساً واحداً! صدقنا إدعاء السلماني، لجهلنا وسذاجتنا... لكن أوراق الجمولي كشفت لي الحقيقة... </STRONG> تذكرت مصاب أبي والفاجعة التي حلت بنا. فراودني حلم الانتقام القديم من السلماني الذي أكل حقنا وطردنا من الأرض. ولا شيء تكره نفسي في الدنيا كلها مثله، لنذالته، ومثل هذا الطريق الطويل، المتعرج، بالتواءاته القاتلة. التي ضيعت العشرات وعلى رأسهم المرحوم أبي... </STRONG> كرهت الطريق ولطالما تمنيته رجلاً لأقتله. ولطالما فكرت في وسيلة أتفادى بها المرور عبره، ولم أجد. ووجدت الآن الفرصة متاحة للتفكير... </STRONG> جالت في ذهني أفكار جديدة، فأتعبتني، وبلبلت حالي... وفجأة برزت واحدة منها، كشعاع منير، انطلق محلقاً في الأعالي. وحوله لاحت نجوم خماسية مضيئة! تسمرّت في مكاني. تجاهلت كل مشاريعي وسلسلة الأفكار. واندفعت صوب مشروع جديد.. أهمّ وأكثر فائدة. طرأ على غير توقع! ولأني أكثر الجميع معرفة بقريتي، أعرف كل شيء عن أحوالها، ناسها وبيوتها، أزقتها وشوارعها أعشابها وأشجارها، حصياتها وصخورها، أوديتها ومنحدراتها ومرتفعاتها، عاينت المكان تفحصت الأرجاء ثم صعدت إلى أقرب تل. </STRONG> من قمته ألقيت نظرة على الجبل والتلال المجاورة وفكرت: لماذا لا نشرع في إكمال الطريق؟ منذ عشر سنوات ونحن ننتظر الحكومة! فإلى متى سنبقى في الانتظار؟ يكفيها إنها قررت إقامته وفتحت لنا النفق قبل أن توقف أعمالها بسبب القتال... لو أزلنا هذه التلال وبترابها ردمنا الهوّة، لغدا الطريق سهلاً وقصيراً... بالتأكيد... </STRONG> طابت لي الفكرة واستسهلتها ولأني عدت لأعمل، نسيت تعبي. وبقيت أخطط وأرسم أتخيل فأحضر، أحكم فأردم... حتى ضج دماغي وتشبع خيالي... فتابعت المسيرة وكلي عزم وإصرار على ضرورة التخطيط بعقل، كي لا أتسرع ولا أندم، فالسرعة والندم أخ وأخت ثم أن واجب الإنسان أن يفكر جيداً قبل الإقدام على عمل ما... وعليّ أيضاً أن أستشير المختار والملاّ، فهناك دائماً أصوات متعقلة وسط الفوضى والضلال... </STRONG> بعد ثلاث ساعات وصلت قريتي. التي تتوضع بمهابة على حافة سهل أربيل الجميل، الذي تختزن أعماقه أسرار وتفاصيل غريبة لا تصدق، وتشرف على أرضه الواسعة، المشهورة بطيب هوائها وبمياهها الرقراقة العذبة، التي تنبع من الأعالي وتنحدر مع الصخور لتشكل جداول ما أروعها، وتطل على الطريق العام... </STRONG> لاحت مئذنة المسجد شامخة. وبانت أغصان الأشجار المتعانقة. وظهرت البيوت الحجرية العتيقة، متناثرة على امتداد المساحة الخضراء المترامية الأطراف. </STRONG> لفحتني وأنا أدخل أول منعطف، عذوبة الهواء، ورطب وجهي بنسيم ما بعد الظهيرة العليل، فدمعت عيناي وانتعش قلبي بنسيمات الخريف، الناعمة، الرقيقة، الباردة. </STRONG> في بداية الشارع المؤدي إلى ساحة القرية والذي كان مظللاً بأشجار اللوز قبل حرقها أيام الحرب وجدت الصبي راضي بن سعدو يسرح بالبقرة عزيزة. </STRONG> دهش لرؤيتي سائراً على قدميّ سلم عليّ فمازحته وسألته: </STRONG> -قل لي يا راضي، هل السلماني في القرية؟ </STRONG> -لا.. منذ شهر وهو في أربيل. وأبي ذهب إلى عمك ليقص شعره... ألمني جوابه، وفتّ في عضدي. لأن كل مشاريعي ستتأجل... </STRONG> تركته ومضيت، فألتقيت بعد قليل بموسى عائداً من جولته اليومية، يقود قطيع الخراف والماعز -أهلاً كاكاحمه... أهلاً... الحمد للّه على السلامة. </STRONG> بادرني مرحباً بوجهه الطويل المبتسم، وحاجبيه المتصلبين. </STRONG> كان يمسك بعصاه المعقوفة، ويشد وسطه بزنار جلدي ويستر رأسه بقطعة قماش. رددت التحية وسألته: </STRONG> -ألم يأت عيسى؟ </STRONG> -عيسى في بغداد... ماذا تريد منه؟ أصدر أمر تعيينه؟ تركته ومضيت قدماً، مخترقاً الساحة حيث كان الأطفال يلعبون كرة قدم. اشتعلت الذاكرة فجأة فوقفت . تذكرت ملاعب طفولتي... الأصدقاء... وبرز شبح أحمد ابن المختار برفقة عمتي بتول وأخي رحيم، فبكيت.. وأصبح طيف أحمد أكثر حضوراً وهو يأخذ بيدي ويقودني....! </STRONG> سرت بعد دقائق، فوجدت بانتظاري جمعاً حاشداً يقف عند مشارف البيوت وعلى عتباتها، وبقرب مقهى نصار، بحيث ازدحم بهم الممر الترابي الضيق. </STRONG> استقبلني بعضهم بترحاب بالغ. وأمطرني آخرون بالقبل، وبأسئلتهم اللحوحة المستغربة: </STRONG> -مضت خمسة أيام على غيابك! أين كنت؟ ماذا قال لك الطبيب؟ لم أنبس بحرف، مما زاد في استغرابهم. اكتفيت بالتطلع إلى وجوههم الصفراء المرتعبة، بحثاً عن وجه أمي. وحين لم أره بينهم تقدمت متثاقلاً، فأفسحوا لي لأمضي بعيداً. </STRONG> تركتهم في حيرة. ومررت على دكان عمي حسن لأحلق رأسي. لكني لم أدخل لرؤيتي سعدو جالساً بين يديه. سلّمت وابتعدت قاصداً دارنا. أحسست من خلال نظراته ونظرات زبونة القلقة أن هناك أمراً غير طبيعي، لم يخامرني شك في سلامة عقلي، بل خفت على أمي وتلبّسني الذعر... </STRONG> على امتداد الدرب احتشد الصبيان يتفرجون عليّ، بينما يتقافز الدجاج قربهم بحثاً عن طعام! مما زاد في ذعري، الذي سرعان ما تلاشى. </STRONG> فعلى العتبة العريضة وجدت أمي تفترش سجادة صلاتها الصوفية تتربع، تسد الباب بجسدها القصير النحيف. المغزل الرفيع يدور بيدها وكيس الصوف ملقى جنبها كخروف صغير! </STRONG> رأتني فنهضت، أخذتني بالأحضان وشرعت تبكي بدا وجهها الجميل يكتظ بالحزن والأسرار. تشع فيه عينان ثابتتا النظرات، تقرأ فيهما تأريخياً طويلاً من المعاناة والشقاء. </STRONG> بدل أن أمسح دموعها المتقاطرة، وقفت أمامها كالصنم، بانتظار أن تتزحزح وتفسح لي المجال لأدخل وأستريح، وأستبدل ملابسي بعد أن بللني العرق إلا أنها لم تفعل! حتى أنها لم تدعني أتفوه بكلمة. كنت غاضباً ومتوتراً وتمنيت لوانها تتركني وشأني، ولا تبدي كثير أهمية لعودتي، وتستمر في غزلها دون أن توليني أي اهتمام... ظهر سرورها برؤيتي واضحاً، فآلمتني... وذاب ما بي من غضب وتوتر، وتلاشى. واستلهمت الشجاعة من عينيها اللتين تفحصتا في بروية وحنان، واستفسرنا بهلع ومن خلال الدموع عما حصل لي في أربيل، وَلمَ عدت هكذا بسرعة ... فقلت: أنا بخير.يا أمي... بخير... </STRONG> داخلها الاطمئنان فاستبشرت أساريرها. أنتشيت بدوري حالما رأيتها تبسط كفيها رافعة بصرها إلى السماء تشكر اللّه. </STRONG> -لم أتأخر.. لم أرغب في البقاء أكثر من هذا. </STRONG> أظهرت استغرابها. فأردفت. </STRONG> -فكرت بك يا أمي... بوحدتك.. </STRONG> أعياني التعب، وفترت قواي خفت أن أتهاوى مجبوراً متهالكاً فسمعتها تستفسر بلهفة: </STRONG> -هل وجدت عملاً؟ هل حصلت على مال؟ أجلبت معك شيئاً من خالتك؟ </STRONG> -لا يوجد في جيبي فلس واحد. </STRONG> غاظها ردي. شعرت بخيبة حقيقية فعادت تستفسر: </STRONG> -عجيت! ولم عدت إذن؟ </STRONG> -جلبت معي هذه الأوراق.. عدت من أجلها.. </STRONG> تسمر فكها عجباً للحظات. غير أن الشفتين اليابستين ارتعشتا قليلاً وتساءلتا بمرح: </STRONG> -أوراق! أتطعمنا أوراقك هذه؟ </STRONG> -نعم... وسأتزوج بها... </STRONG> بهتت، تطلعت إليّ بعينين ذاهلتين. وتحركت شفتاها من جديد وانفرج بالتالي ثغرها، لتنطلق منها ضحكة مدوية.. </STRONG> قهقهت حتى ترقرق دمعها! ثم أعقبت بتوضيح ساخر: </STRONG> -تتزوج؟ مليحة الجرباء رفضت تزويجك ابنتها! </STRONG> سكتّ، فاستمرت بسخريتها المريرة. تركتني وتمددت على السجادة دلالة الغيظ، وباغتتني بسؤالها القاتل: </STRONG> -فمن تقبل بإفلاسك وبسواد...؟ </STRONG> -هدهد. </STRONG> أجبتها، فجنت! لم تصدق. رأيتها تقفز قاعدة وتهبد بيدها فوق صدرها. وفي غمره غيظها تساءلت بقرف وضيق: </STRONG> -هداية العمياء؟! </STRONG> ألمني ما سمعت ولم أشأ الدخول معها في نقاش عميق، وعقيم فهي أمي وأنا مرهق والكلام لا يسد جوعاً، قلت بحزم: </STRONG> -هي بذاتها... وسأتزوجها بعد غد... </STRONG> أذهلتها... حدقت فيّ بعجب، راحت لثوان تنظر إليّ نظرات ملؤها الوجل والريبة. وحين لحظت جديتي عادت لتتأكد: </STRONG> -هداية!! هداية العمياء؟! بماذا ستنفعك. وتنفعنا؟ كدت أصرخ بوجهها "إن ابنك مكره لا بطل" لكني عدلت: </STRONG> -استغفري ربك يا أمي... أنت تكفرين! ألم تعلميني بوجوب شكر الخالق وتحذريني بألاّ نعيب على المنقوش. وحاشا للّه أن نعيب على خلقته، جلت حكمته! ما ذنب المسكينة هدهد، إذا فقدت بصرها في ضربة حاقد؟ وكلنا معرضون لأن نصبح مثلها... تصوري موقفك، لو جاءت الضربة على رأسك؟ </STRONG> صفنت تستوعب المعنى، ولأنها تعرف مدى إصراري، وتشبثي بكلمتي، تراجعت عن سخريتها وغيظها، وأعلنت بصدق: </STRONG> -لا يا بني... لا... إنني أمزح... أنت سيد العقل، والمال ليس كل شيء في الحياة.. سأكلم الحاج صالح بنفسي... فشذى لن تجد أفضل منك... وهي تنتظر موافقتك.. سأكلمها بعيداً عن عمتك... رقص قلبي لذكرياتي مع شذى، كأنه معلق على جناحي طائر. </STRONG> -لا تتعبي نفسك... فانا لا أريد شذى.. لا تكلميني عنها ثانية... ثم أنت تعرفين عمتي جيداً، إنها طامعة في بيتنا... وهي لا تحبنا لن ترتاح لي، ولن تتركني أرتاح... هذا إذا وافقت.. </STRONG> -صدقت... مليحة، لئيمة حقودة، وغيور... وعادة البدن لا يغيرها إلا الكفن... </STRONG> لم تبدأ أمي كامل استسلامها، وإن نطقت بكلمة حق بسبب كراهيتها لعمتي. </STRONG> حين تركت المستشفى أيقنت أن هدهد، هي الفتاة الوحيدة القادرة على انتزاع الكمد القاتل من قلبي، وإزالة الغمامة السوداء من نفسي، أو تخفيف وهجها على الأقل. </STRONG> -ماذا جرى يا بني؟! ماذا بك؟ أين عقلك؟ </STRONG> -تركته عند أختك الكاذبة. وأخذت هذه الأوراق بدله. </STRONG> -خالتك مريم! ماذا حدث بينكما؟ ألم تكن عندها؟ </STRONG> -لم تبقني في بيتها ساعة واحدة! سحبتني بأمر الجمولي الحرامي إلى المستشفى... وتركتني هناك وحيداً ككلب أجرب!! </STRONG> -لماذا؟! ما الذي حصل؟ </STRONG> -لماذا! كأنك لا تعرفين أخلاق أختك وزجها؟ </STRONG> ما أردت الذهاب معها لولا عنادك. أنت سبب كل ما حصل لي... </STRONG> صمتت يلفها الندم، كمن يسترجع الذكريات ويتحقق من صحة المعلومات التي تلقاها. </STRONG> -وكيف جئت إلى هنا؟ </STRONG> -جئت مشياً.. سرت على قدمي، الطريق كله... </STRONG> -لا بدّ أنك هربت... ماذا قال لك الطبيب؟ </STRONG> أصمت منكسراً... فتكمل بحنان ولهفة: </STRONG> -اخبرني.. </STRONG> -قال لي: وسواس... تزوج يا كاكاحمه فتتخلص من وساوسك... </STRONG> -تتزوج! من أين؟ أتظن الزواج لعب أطفال؟ وها أنت تعود حافياً "لا من قدام ولا من ورا غير الهوا" ضحكت... وصفقت باستهزاء... فآمتعضت وأوضحت لها: </STRONG> -لا ياأمي... لا تقولي هذا... لا تنسي حكمة أبي "من عامود إلى عامود يفرجها الرب المعبود". </STRONG> -آمنت باللّه.. لكن.. </STRONG> -جئت يا أمي لآخذ حقي... وسترين... كيف سآخذه. </STRONG> أخبرتها بثاني المشاريع ففغرت فمها مستغربة: </STRONG> -إنه شرع ربنا، ولا يمكنني التفريط به، سأخذه فأطمئني. </STRONG> -تأخذه ممن كان يعرف اللّه ويخشاه... لا من السلماني! </STRONG> -سأفقأ عينيه، ثم أتزوج. </STRONG> وكأنها لم تستسغ حديثي سارعت تسأل: </STRONG> -وماذا نقول لعبد اللّه المختار؟ كيف ستواجهه؟ </STRONG> إنه يحبك يا بني... </STRONG> -وما دخل المختار يا أمي؟! أنا لن أتزوج خطيبته! </STRONG> -كن عاقلاً وأجل الموضوع. لم تنته أربعينية الحاجة.. </STRONG> ولا أظنه سيوافق على زواجك.. </STRONG> -يا أمي، مختارنا أعقل مما تتصورينه. أمه عجوز، ماتت بعد أوانها بخمسين عاماً. </STRONG> -عجوز!! أنت لا تحبها. وربما ماتت بسببك أنت... لقد آذيتها كثيراً.. </STRONG> ضحكت.. أدركت قصد أمي، غرضها الواضح، سعيها لعرقلة زواجي. فهي لم تكن في يوم ما على وفاق مع العجوز المتوفاة. </STRONG> تذكرت شعيرات شارب المرحومة. ولحيتها الناتئة ببشاعة والتي كانت تغريني على أذيتها بكل السبل. وتدفعني إلى اقتلاعها بيدي نتفاً كنت أتسلل خفية إلى مطرحها، أثناء غفوتها. وانتزع الشعيرات انتزاعاً، غير مبال بصراخها وبالألم الذي أسببه لها.. وآخرها قبل ثلاثة أشهر، حين جئت في آخر إجازة عسكرية. </STRONG> قبل تسريحي من الجيش... تذكرتها وتذكرت جلادة المختار... ومرقت أمامي صورة أحمد، الذي ذبحه. ليحافظ على شرفه، وليبقي رأسه مرفوعاً...! </STRONG> لم أجد الرغبة في الخوض بما لا أحب. ولم أكن مستعداً لكشف أوراقي وفضح أسراري لأحد، حتى لأمي. انتهى كل شيء... انتهى حسب توقعاتي... انتهت أيام النعيم والشقاء، ولم يبق إلا مسك الختام، والحمد للّه الذي لا يحمد على مكروه سواه. </STRONG> ثم أن ما جرى لي يخصني وحدي، وحالتي لا تسمح لي بمزيد الكلام والتوضيح. فأنا متعب وجائع. مشيت مسافة طويلة ووجب أن أخلد إلى الراحة. أستريح وأهدأ، فمشواري القادم أطول... مشوار العمل والجهد.. عدت لأعمل لا لأتحدث وأضيع وقتي... أمي تريد قتل ساعاتها الطوال في اللغو والثرثرة. كأرامل قريتنا الشابات، الجميلات. وأنا لا وقت عندي.. لا وقت. </STRONG> أزحتها جانباً ودخلت. اتجهت إلى غرفتي، فواجهتني لوحة الميداليات. القديفة الحمراء المزركشة المؤطرة. وتحتها انتصب رف الكؤوس... كدليل ساطع على بطولاتي. وحولها توزعت عشرات الصور التذكارية، صور المسابقات والمهرجانات الرياضية وفي الوسط علقت صورتي الكبيرة في إطار من خشب. حفرت في جانبيه أغصان وورود ملونة.. بقايا ذكريات بادت وأيام قضت. تحسرت على الشباب... وندمت لأني لم أحسن التصرف. </STRONG> دسست الملف تحت الفراش، غطيته جيداً. وأبدلت ملابسي ثم استلقيت على سريري، أنفس عن كربي وأتنفس الصعداء. جالت عيناي في أرجاء الغرفة الصغيرة. لم يكن هناك ما هو غريب خزانة ملابسي، سريري، مشجب، منضدة وضع عليها راديو أبي الكبير العاطل، وساعة دائرية لا تعمل. كان لها جرس تنبيه أخرسته ذات يوم بضربة كف. وعلى الأرض بساط صوفي حاكته أمي قبل زفافها، وتقويم قديم ملون. </STRONG> لحقت بي أمي مع مغزلها. جلست عند رأسي تسأل وتستفسر. وتوقعت أن تستمر أسئلتها. وخفت أن تستدرجني وتكشف ما بي. كما خفت أن يزل لساني دون إرادة مني، فيبوح لها بما يؤذيها ويجرح فؤادها. وربما يزيد في آلامي.. وأنا الذي أقسمت على الصمت ما دام أحد لم يعرف شيئاً بعد... </STRONG> |