فيسبوك تويتر RSS


  #1  
قديم December 14, 2017, 02:04 PM
 
Smile وعّاظ القطارات والشحاذون المتجولون بقلم حسن حنفي

وعّاظ القطارات والشحاذون المتجولون
بقلم
حسن حنفي

هى ظاهرة مصرية فريدة. وهى جمع القطار بين شخصيتين متجولتين على طرفى نقيض: الواعظ الدينى والبائع المتجول، أى بين الدين والتسول. فالدين يجلب الرزق. والرزق يحث على الدين. يمر فى القطارات الوعاظ الدينيون بملابسهم الدينية التقليدية، الجبة والقفطان والعمة. ويا حبذا لو أضيفت اللحية، والنظارة السوداء على العينين والسبحة فى اليد. فعمى العين ليس بالضرورة عمى القلب.
والوعظ الدينى لا أحد يسمعه لأن المواطنين ملّوا منه. فهو فى المساجد والقنوات الفضائية والأحاديث الدينية. بل فى التعازى والأفراح. وكل تجمع ممكن أن يروج للدين فيه. فالدين بضاعة شعبية رائجة. وبعض السلفيين، وما أكثرهم هذه الأيام، مازالوا يحبون سماعه. لا أحد يصدقه ولا الواعظ نفسه الذى يعتبر الوعظ تجارة راقية أفضل من السميط واللب والسودانى وحب العزيز وحلوى السيد البدوى. وهى صورة مشوهة للدين. سخر منها الشعب بقوله «خذ من كلام الشيخ ولا تأخذ من أفعاله». فالدين كلام، قول باللسان وليس عملا بالأركان. لا يهدف إلى تغيير الواقع أو إعادة توزيع الدخل بين الأغنياء والفقراء، ومنهم هذا الشحاذ المتجول بين العربات. ويكتفى الوعظ بالدعاء إلى الله لتخفيف الكرب، وحل الأزمات، والنجاة من عذاب النار، وإدخال فسيح الجنات. فيتجاوب معه المحتاجون والخائفون والطامعون فى اغتراب دينى واضح، بعيدا عن العالم الواقعى الذى يحدث التغيير فيه.
ويتبع الشحاذون المتجولون الوعاظ الدينيين عربة بعد عربة وليس فى نفس العربة، حتى لا يتفتت الركاب بين الدين والرزق. وهم فى قطارات المراكز حتى يستطيعوا أن يغيروا القطار بسرعة دون انتظار وقوف القطار السريع بين المحافظات أو القطار الإكسبريس مثلا بين القاهرة والإسكندرية، ولا يأخذون القطار «القشاش» الذى يقف فى كل المدن بل القرى. فركابه معدمون ومعظمهم يركبون بلا تذاكر. ولا يملكون ما يتصدقون به. ولا يوجد فيه مجال للتجول. كما لا يوجد وقت لدى أى راكب كى يسمع ما يطلب. بل يصارع جاره الراكب لإفساح مجال له أو حتى لوقوفه. وكثير منهم على الأبواب وفوق الأسطح. فلا يستطيع أن يصعد إليه أو ينزل منه بسهولة. لا يقبض عليهم. والوقت كله معهم «رايحين جايين» قبل عد الغلة آخر النهار. وقد تكون هناك ورديتان، صباحا ومساء. والركاب محشورون منتظرون إلى سماعه. لا يهم الوقت، بل المطلوب التأثير عليهم. ويدعو لهم الشحاذ المتجول بين العربات مثل الواعظ بسلامة الوصول كى يحنن قلوبهم.
وعلى هذا النحو تصبح الشحاذة دينا، والدين شحاذة. الشحاذة دين أرضى، والدين شحاذة سماوية. تكرار الوعظ والإصرار عليه شحاذة، وتكرار الشحاذة والإصرار عليها دين. والضحايا هم الركاب المحشورون فى مكان وزمان محددين. ويكون ذلك تماما مثل الشحاذة على أبواب المساجد حين خروج المصلين، وعرض بائعى الخضار والفاكهة خضرواتهم مع عطور أهل الجنة.
وشحاذو القطارات أكثر ذكاء، ووعاظ المركبات أكثر ذكاء من شحاذى الطريق العام ووعاظه. فهناك سيدات على الأرصفة، مادات أيديهن حين تقف العربات فى الإشارة. وأخريات مرضعات يحملن أطفالهن فى عز الحر أو برودة الجو، كى تحن القلوب عليهن. وهناك أطفال بأيديهم قطعا من القماش لمسح زجاج العربات فى أقل من بضعة ثوان. وتكون العربات قد سارت بعد أن اخضرت الإشارة. وهناك المرضى والعرجى الذين يزحفون على الأرض بين العربات. ويخاطرون بحياتهم حتى تتوقف العربات، وتفتح النوافذ، وتمد الأيدى بما جاده الله عليهم.
وقد يقال إن ظاهرة الشحاذة والوعظ موجودة فى كل المجتمعات. فالبطالة سبب الشحاذة. والوعظ الدينى سببه الجهل والحاجة، وكأن الدين وظيفة يتم التكسب منها، والشحاذة دين يتم الإيمان به. تحمى من البطالة. وأفضل مثل على ذلك متشردو باريس
les Clochards de Paris الذين ينامون على المقاعد الخشبية للمنتظرين. ولهم أشكالهم الرثة، وشعرهم المنفوش، ولحاههم الطويلة، ولباسهم القذر، وبجوارهم قطعة من الخبز وكأس من النبيذ. وهم باستمرار نائمون. لا يمدون أيديهم. وربما هناك كوز من المعدن بجوار رأسه حتى يقذف المتصدقون بها ما يريدون. ويعتبر الباريسيون هؤلاء «الكلوشار» فلاسفة. لا يقصدون الشحاذة، بل يتأملون فى حال الدنيا. ويحب الباريسيون، شبابا وشيوخا، الحديث معهم لسماع آرائهم فى الحياة. وقد كتب علماء الاجتماع عدة مؤلفات فى هذا الموضوع. والبعض الآخر يفضل الشحاذة، أى طلب التبرع بالفم، بالموسيقى أو الرسم. فبعضهم يعزف الأكورديون بعض الألحان الشعبية. والبعض الآخر يرسم لوحات مقلدا ليوناردو دافنشى أو بيكاسو. فباريس مدينة الفن، والباريسيون خير من يتذوقون الفنون. ولا يوجد منهم من يشحذ أو يعظ فى قطارات المترو أو قطارات السكة الحديد. وهناك فرق بين الشحاذة من أجل إحياء القلب والشحاذة من أجل إماتته، بين شحاذة الكبرياء وشحاذة الذل، الشحاذة عن طريق الفن والشحاذة عن طريق التمثيل. الأولى صادقة. والثانية كاذبة حين يعود الشحاذ آخر النهار كى يعد الغلة ويرصها فوق بعضها البعض. ولا يوجد واعظ دينى أمام كنيسة. فالوعظ داخلها لا خارجها. الوعظ بصدق وليس الوعظ التجارى الكاذب.
لا يكون الوعظ الدينى بالكلام بل بالأعمال، بإعطاء نماذج لسلوك الصدق والإخلاص والوفاء والأمانة والشرف فى مجتمع الرشوة والفساد. والشحاذة ليست مصدرا للرزق. فخيرنا من أكل من عمل يده «وَقُلِ اعْمَلُوا». وكان الأنبياء حرفيين. وكان محمد راعى غنم. ثم تحول إلى قائد أمة.
__________________
الحمد لله في السراء والضراء .. الحمد لله في المنع والعطاء .. الحمد لله في اليسر والبلاء


Save
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مقامات, المتجولون, حسن حنفي, والشحاذون, وعّاظ القطارات

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
طريقة و كيفية حجز الفنادق و الشقق و السيارات و القطارات عن طريق الانترنت Yana السياحة و السفر 0 March 31, 2010 02:56 PM


الساعة الآن 06:33 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر