فيسبوك تويتر RSS


  #1  
قديم October 16, 2017, 03:51 PM
 
Smile الثأر من الظالمين بقلم الأديب والدبلوماسي عز الدين شكري فشير

الثأر من الظالمين
بقلم الأديب والدبلوماسي
عز الدين شكري فشير

لم يكن الأمير عبدالقادر الجزائرى قائدا لحركة مقاومة مسلحة رومانسية أو يائسة، بل كان زعيما حقيقيا لدولة متكاملة الأركان. أقام هذه الدولة تدريجيا وهو يقاوم الفرنسيين ابتداء من عام 1832، ومد سيطرته على مساحات متزايدة عبر السنين، من خلال القتال والتفاوض، حتى امتدت إلى ثلثى أراضى الجزائر، وتقلصت سيطرة المستعمرين الفرنسيين إلى الثلث، واضطرت فرنسا، بعد هزائم متتالية أمام قوات الأمير عبدالقادر، إلى توقيع معاهدتين للاعتراف المتبادل معه فى 1834 ثم فى 1837. قسّم الأمير عبدالقادر دولته إلى ولايات، مزودة بإدارة مدنية تتولى مهام الدولة الأساسية: حماية الناس من التهديد الخارجى ومن الفوضى، تطبيق القانون والعدالة، توفير مناخ يسمح للناس بالإنتاج والتجارة، وجمع الضرائب لتوفير المال اللازم لاستمرار الدولة وإدارتها وجيشها.
لكن بحلول عام 1839 تغيرت الظروف فى فرنسا، وعندما اصطدم الطرفان- حول مَن له السيادة على مدينة قسنطينة- قرر الفرنسيون دفع المواجهة إلى آخر مدى. تبنى الجنرال «بيجوه»، الذى وقّع مع الأمير عبدالقادر اتفاقية 1837، استراتيجية «الأرض المحروقة» والعنف الوحشى دون تفرقة بين المقاتلين والمدنيين، بما فى ذلك الشيوخ والنساء والأطفال، بل على العكس، جعل الجنرال الفرنسى من استهداف المدنيين، وبالذات النساء والأطفال، وسيلة منهجية للضغط على الجزائريين كى ينفضوا من حول أميرهم عبدالقادر. أحرق الجنود الفرنسيون المحاصيل، وقتلوا المواشى، وسمّموا الآبار، ودمروا البنية التحتية، وقتلوا كل مَن اعترض سبيلهم. وكانت تعليمات «بيجوه» لجنوده واضحة: ألا يحتفظوا بأسرى. والتزم الجنود بالتعليمات، فقتلوا بدم بارد مَن استسلم من رجال الأمير عبدالقادر.
مع تزايد الضغط الفرنسى ووحشيته، بدأ الناس فى الانفضاض من حول الأمير عبدالقادر. ولتخفيف الضغط عن المدنيين، جمع الأمير عائلات المقاتلين فى معسكر واحد لحمايتهم من الغارات الفرنسية، عُرف باسم «الزملة». ورغم حجمها الهائل، الذى تجاوز ستين ألف شخص، نجح عبدالقادر فى حماية «الزملة» لأعوام طويلة، من خلال تحريكها من مكان لآخر. لكن الفرنسيين عثروا عليها فى مايو 1843 وهجموا عليها بوحشية لا نظير لها، بينما كان الأمير ورجاله خارجها، فقتلوا أكثر من ستة آلاف امرأة وطفل وشيخ فى يوم واحد. أصابت المذبحة «عبدالقادر» ورجاله فى الصميم، فغادروا الجزائر إلى المغرب فى نوفمبر من نفس العام، واستمر الضغط الفرنسى بلا هوادة حتى اضطر الأمير الجزائرى ومَن بقى معه للاستسلام فى ديسمبر 1847. أرسله الفرنسيون مع عائلته إلى باريس، حيث سُجن لمدة خمسة عشر عاما، ثم نُفى إلى دمشق حتى مات بها فى 1883. بسط الفرنسيون سيطرتهم على كامل التراب الجزائرى لأكثر من مائة عام. استوطنوها وأعطوا لأنفسهم فيها حقوقا، أنكروها على أهل البلاد الأصليين، الذين أخضعوهم لقانون خاص بهم، فى تفرقة عنصرية تتنافى مع كل ما يتشدقون به من مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.
فهل يحق للعرب أو المسلمين اليوم الثأر من الظلم الفادح والوحشية التى مارستها الدولة الفرنسية «علينا» فى «بلادنا»؟، هل يحق لنا القِصاص من إيمانويل ماكرون بما فعله سلفه، الملك لوى فيليب، أو القِصاص من الفرنسيين السائرين فى شوارع باريس والجالسين على مقاهيها عن ممارسات فرنسا الوحشية فى الجزائر وتونس والمغرب ولبنان وسوريا- بالإضافة طبعا إلى مشاركتها فى «سايكس بيكو» والعدوان الثلاثى على مصر؟.
طيب.
لم يكن الأمير محمد بن سعود مجرد حاكم لبلدة الدرعية، بل مؤسس لدولة جديدة ستوحد الجزيرة العربية لأول مرة منذ عهد النبوة. وحين التقى بشيخ شاب يُدعى محمد بن عبدالوهاب، مطرودا من بلدة «العيينة»، التى أراد أهلها قتله بسبب دعوته السلفية المتشددة، أدرك «ابن سعود» أنه وجد شريكا فى سعيه لبناء هذه الدولة، التى ستقوم على السيف والقرآن معا. فى البداية لم تهتم الدولة العثمانية بـ«ابن سعود» ولا بشيخه السلفى. لكن حين امتد سلطانهما إلى مكة والمدينة، وصارا قادرين على التحكم فى قوافل الحج، أدرك السطان وجوب التدخل. طلب من والى العراق التدخل، لكن الوهابيين هزموه (وهاجموا كربلاء فى 1802، حيث حطموا ضريح الإمام على، وقتلوا أكثر من ألفين من المدنيين العزل)، فطلب السلطان من «محمد على» التعامل مع الموقف. ورغم تمكن طوسون باشا، ابن محمد على، من انتزاع مكة والمدينة من يد السعوديين الوهابيين فى 1813، فإنه لم ينجح فى القضاء عليهم واضطر لتوقيع معاهدة هدنة معهم فى 1815. وبعد وفاته بالقاهرة فى نفس العام، أرسل محمد على ابنه الآخر، بطل العروبة القومى الأول، إبراهيم باشا، لإنهاء المهمة.
لم يأْلُ إبراهيم باشا جهدا فى محاربة السعوديين الوهابيين، وقاتلهم بضراوة منقطعة النظير عبر الجزيرة العربية، بما فيها صحراء نجد. ورغم أهوال هذه الحرب فإنه لم يتوقف أو يتوانى حتى حاصرهم فى عاصمتهم «الدرعية». لم يستسلم السعوديون الوهابيون، بل صمدوا. لكن إبراهيم باشا وجيشه لم يتراجعوا، واستمروا فى حصار البلدة لمدة ستة أشهر، قطع فيها إبراهيم باشا إمدادات الطعام والمياه عن الدرعية حتى أهلك سكانها جوعا وعطشا، واضطر «ابن سعود» للاستسلام. دمر إبراهيم باشا الدرعية بمَن فيها عن آخرها. ثم أعدم كبار القادة والشيوخ السعوديين الوهابيين، وأرسل بالأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى اسطنبول، حيث حاكمهما السلطان محمود الثانى، وأدانهما.
وهكذا، تم القضاء على الدولة السعودية الأولى، وعُين إبراهيم باشا واليا على الحجاز، مجدِّدا سيطرة الأتراك العثمانيين على الحرمين الشريفين وأهلهما لما يقرب من مائة عام أخرى.
فهل يحق للسعوديين اليوم الثأر من الظلم الفادح والوحشية التى مارستها «الدولة المصرية» (أو التركية) «عليهم» فى «بلادهم»؟، هل يحق لهم القِصاص من الرئيس السيسى (أو أردوجان) بما فعله سلفه، مؤسس مصر الحديثة (أو السلطان محمود الثانى)، أو القِصاص من المصريين (أو الأتراك) السائرين فى شوارع القاهرة (أو اسطنبول) والجالسين على مقاهيها عن ممارسات مصر (أو تركيا) الوحشية فى نجد والحجاز؟.
وهل يحق للعراقيين اليوم الثأر من الظلم الفادح والوحشية التى مارستها «الدولة السعودية» «عليهم» فى «بلادهم»؟، هل يحق لهم القِصاص من الملك سلمان بما فعله سلفه، مؤسس الدولة السعودية، أو القِصاص من السعوديين السائرين فى شوارع الرياض والجالسين على مقاهيها عن ممارسات السعودية الوحشية فى كربلاء؟.
أم أن لنا ما ليس لغيرنا وليس علينا ما عليهم؟.
__________________
الحمد لله في السراء والضراء .. الحمد لله في المنع والعطاء .. الحمد لله في اليسر والبلاء


Save
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثأر من الظالمين ، بقلم الأديب ،الدبلوماسي ،عز الدين شكري فشير

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تحميل رواية باب الخروج لعز الدين شكري فشير ، pdf مقدسي و لطيف الروايات والقصص العربية 9 January 22, 2018 01:34 PM
عالم سمسم بقلم الأديب والدبلوماسي عز الدين شكري فشير معرفتي مقالات الكُتّاب 0 October 16, 2017 03:47 PM
ست فرق ضالة وفرقة ناجية بقلم الأديب والدبلوماسي عز الدين شكري فشير معرفتي مقالات الكُتّاب 0 October 16, 2017 03:43 PM
سقوط الأندلس بقلم الأديب والدبلوماسي عز الدين شكري فشير معرفتي مقالات الكُتّاب 0 October 16, 2017 03:33 PM


الساعة الآن 05:22 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر