فيسبوك تويتر RSS


  #1  
قديم June 6, 2008, 03:11 AM
 
من صفات العابدين .. العزة وعلو النفس

من صفات العابدين.. العزة وعلو النفس




حمدًا لله، وصلاةً وسلامًا على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فلقد ذكرنا في حلقات سابقة أن العابد لله تعالى يتميز بصفات يُعرف بها دون غيره من الناس، وذكرنا أربعًا من هذه الصفات، واليوم يتواصل الحديث حول بعض هذه الصفات الأخرى للعابدين ومنها:

العزة وعلو النفس
ذلك أن العابد لله تعالى ليس بالمستغَل المستعبَد الذليل المستكين، ولكنه عالي النفس غير وضيع؛ فهو هادئ ولكنه أقوى من الزوابع العاصفة، متواضع ولكنه أعزُّ من الشم الرواسي، عالي النفس ولكنه يخفض جناحه لإخوانه المؤمنين؛ ينطبق عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾ (المائدة).

يقول ابن القيم: "لما كان الذلُّ منهم ذلَّ رحمةٍ وعطفٍ وشفقةٍ وإخباتٍ عدَّاه بأداة علَى؛ تضمينًا لمعاني هذه الأفعال، فإنه لم يُرِد به ذلَّ الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذلُّ اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول؛ فالمؤمن ذلول، كما في الحديث: "المؤمن كالجمل الذلول"، والمنافق والفاسق ذليل، وأربعة يعشقهم الذل أشدّ العشق: الكذاب، والنمام، والبخيل، والجبار" وقوله: ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ هو من عزة القوة والمنعة والغلبة، قال عطاء رضي الله عنه: للمؤمنين كالوالد لولده، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته.

وهو، أي العابد، كما قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: من الآية 29)؛ فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:"لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في ديوان الجبارين، فيصيبه ما أصابهم"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر على الصبيان فيسلم عليهم، وكانت الأمة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت، وكان إذا أكل لعق أصابعه الثلاث، وكان يكون في بيته في خدمة أهله، ولم يكن ينتقم لنفسه قط، وكان يخصف نعله، ويرقِّع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء، وكان هيِّن المؤنة، ليِّن الخلق، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بسَّامًا، متواضعًا من غير ذلة، جوادًا من غير سرف، رقيق القلب، رحيمًا بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، ليِّن الجانب لهم، وقال: "ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن)، وقال: "لو دعيت إلى ذراع، أو كراع، لأجبت، ولو أُهدي إليَّ ذراع أو كراع لقبلت" (رواه البخاري)، وكان يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف.

فالعابد لله تعالى ليس مستعبَدًا ذليلاً، بل هو عزيز، لأنه من خير أمة أخرجت للناس، وله أن يفخر بأنه مسلم من أمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110)﴾ (آل عمران)، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾ (فصلت).

فالعابد لا يُستعبد ولا يُستذل؛ لأنه عبد لله تعالى وحده، فكيف يكون عبدًا لغيره؟ فهذا من حيث العقل غير مقبول؛ حيث إنه لا يمكن أن يكون عبدًا لسيدَين في وقت واحد، فهو إما أن يكون عبدًا لربه، وإما أن يكون عبدًا لعبد من عبيده، فإذا اختار أن يكون عبدًا لعبد من عبيد الله، كان الذل والهوان حليفه، وإذا اختار عبودية ربه، كان العز حليفه، ومن هنا، فإن العابد لله تعالى يحقُّ له أن يفتخر بعبوديته لله وانتمائه لدين الله ودعوته وطريق رسوله صلى الله عليه وسلم.

والعابد لله تعالى لا يطأطئ رأسه لأحد إلا الله، ولا ينحني إلا لخالقه سبحانه.. قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ (آل عمران: من الآية 195)، فالعابد لله تعالى بالإسلام عزيز وبغيره ذليل، وهو بالله قويٌّ وبغيره ضعيف، وهو بالله غنيٌّ وبغيره فقير، وانظروا إلى عمر رضي الله عنه وهو يعلمنا هذه المعاني العظيمة: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام ومعه أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة (طين) وعمر على ناقة؛ فنزل عنها وخلع خفَّيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة؛ فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟ تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك (رأوك)!! فقال عمر: أوه! لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً (أي عبرة) لأمة محمد صلى الله عليه سلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزَّ بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله (صحيح)، وفي رواية له: يا أمير المؤمنين.. تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه، فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نبتغي العزَّ بغيره.

والعابد لله تعالى عزيز غير ذليل؛ لأنه يعمل مع الله تعالى، وقيمة العبد إنما تكون من قيمة سيده؛ لذلك نرى المنافقين يخضعون للكافرين ويركعون لهم، حتى ينالوا رضاهم، فيكتسبون العزة منهم، أما المؤمن العابد لله تعالى فإنما يخضع لربه، لينال رضاه ويرتفع قدره، والنتيجة هي أن المنافقين لم يحصلوا على عزة في الدنيا، ولم ينجوا من عذاب الله في الآخرة، أما المؤمنون العابدون فإنهم يحصلون على العزة في الدنيا ورضا الله في الآخرة.

والواقع يؤكد ذلك، فهاهم الحكام يقبِّلون الأيدي والأقدام من أجل أن يرضى عنهم السادة اللئام، فما زادهم هذا إلا ذلاًّ وعارًا، وهاهم أهل الحق، العابدون لربهم، يعتصمون بكتابه، ويهتدون بهدي نبيه، ويعتزون بأنهم عبيد لله تعالى، فأخاف الله منهم عدوَّهم وألقى الرعب منهم في قلوب الظالمين، واقرأوا إن شئتم قول الله تعالى: ﴿بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)﴾ (النساء)، وقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)﴾ (فاطر)، وقوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)﴾ (المنافقون).

يقول الشهيد سيد قطب: "ويضم الله سبحانه رسوله والمؤمنين إلى جانبه، ويضفي عليهم من عزته، وهو تكريمٌ هائلٌ لا يكرِّمه إلا الله! وأيّ تكريم بعد أن يوقف الله سبحانه رسوله والمؤمنين معه إلى جواره، ويقول: ها نحن أولاء! هذا لواء الأعزاء، وهذا هو الصف العزيز!.

وصدق الله، فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن.. العزة المستمدة من عزته تعالى.. العزة التي لا تهون ولا تُهِن، ولا تنحني ولا تلين، ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان، فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة.

والعابد لله تعالى لا يرضى لنفسه الذل والهوان، لأنه واثق في وعد الله تعالى، مؤمن بما في كتابه الكريم، فلقد نهى الله المؤمنين عن الشعور بالضعف والهوان أمام عدوهم، وأخبرهم بأنهم الأعلون، كما قال تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾ (آل عمران).

ويعلق الشهيد سيد قطب على هذه الآية فيقول: لا تهنوا (من الوهَن والضعف) ولا تحزنوا (لما أصابكم ولما فاتكم) وأنتم الأعلون (عقيدتكم أعلى)؛ فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه، أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى، فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى، فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، الهداة لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن النهج، ضالون عن الطريق، ومكانكم في الأرض أعلى، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون، فإن كنتم مؤمنين حقًّا فأنتم الأعلون، وإن كنتم مؤمنين حقًّا فلا تهنوا ولا تحزنوا؛ فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص، وقال تعالى: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)﴾ (محمد)..

أنتم الأعلون، فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم.. أنتم الأعلون اعتقادًا وتصورًا للحياة.. وأنتم الأعلون ارتباطًا وصلةً بالعلي الأعلى.. وأنتم الأعلون منهجًا وهدفًا وغايةً.. وأنتم الأعلون شعورًا وخلقًا وسلوكًا.. ثم أنتم الأعلون قوةً ومكانًا ونصرةً؛ فمعكم القوة الكبرى:﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾، فلستم وحدكم، إنكم في صحبة العلي الجبار القادر القهار، وهو لكم نصيرٌ حاضرٌ معكم، يدافع عنكم، فعلامَ يهون ويضعف ويدعو إلى السلم من يقرر الله سبحانه له أنه الأعلى وأنه معه وأنه لن يفقد شيئًا من عمله، فهو مكرم منصور مأجور؟!!

أيها المسلمون.. لقد حباكم الله سبحانه وتعالى بالإسلام، واختاره لكم دينًا، وجعلكم من خير أمة أخرجت للناس، وجعلكم شهداء على الأمم من قبلكم؛ فطوبى لكم إنْ سِرتم على منهج ربكم، وهنيئًا لكم إن اعتصمتم بكتاب خالقكم، فاعتزُّوا بأنفسكم، ولا تضعفوا أمام عدوِّكم، وكونوا مع الصادقين.

أسأل الله تعالى أن يعزَّنا في الدارين، وأن يحشرنا مع الأنبياء والشهداء والصالحين، إنه سبحانه وتعالى نعم المولى ونعم النصير.
__________________
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
العابدين, العزة, النفس, صفات, نعلن

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ما هو علم النفس ؟؟؟؟؟ أدخل هتعرف وكمان مبادئ علم النفس زهرة العلا علم النفس 32 January 22, 2013 09:11 AM
كتاب فضل أهل البيت وعلو مكانتهم عند أهل السنة والجماعة simorafik النصح و التوعيه 4 October 1, 2010 08:24 AM
4 صفات من صفات قوم لوط .. انتشرت في هذه الأمة !! روح الفؤاد النصح و التوعيه 15 April 13, 2010 02:58 PM
مدارس علم النفس الأولى : المدرسة البنائية في علم النفس حليم علم النفس 6 February 18, 2008 04:11 AM


الساعة الآن 04:24 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر