فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الروايات والقصص > روايات و قصص منشورة ومنقولة

روايات و قصص منشورة ومنقولة تحميل روايات و قصص منوعة لمجموعة مميزة من الكتاب و الكاتبات المنشورة إلكترونيا



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم March 11, 2014, 04:56 PM
 
أجدد مقال أدبي بعنوان مطار شارل ديغول- باريس

يا إلهي كم أكره المطارات !

الحقيقة، أنا لا أحبّ السفر. حياءً، كنتُ أمثل وأدّعي أني من محبّي الترحال، اكتشاف أمكنة جديدة، التعرّف إلى بقاع وثقافات وشعوب أخرى. لو لم ترفسني الحربُ في مؤخرتي لما خرجت، لما غادرت بيروت إلى باريس...

ما عدتُ أذكر بالضبط متى جاءني هذا الكشفُ فرأيتُ كما يرى الرائي في لحظة تجلٍّ، أني لستّ من أهل التجوّل والتجوال. وقد احتاجني الأمر شجاعة لا توصف لكي أتقبّل في نفسي علّتَها هذه، وشجاعة أخرى أكبر منها لكي أجرؤ ذات يوم على الاعتراف بإعاقتي تلك أمام آخرين، فأجاهر بأن السفر ليس هواية لديّ.

الواقع، باستطاعتي الجلوس في مكانٍ بعينه، إذا خاطب قلبي، إذا أنست إليه روحي، مئات السنين. هذا ربما لأني لا أرى من الأمكنة سوى ما يروق لي من التفاصيل. ما يزعجني، أمحوه بسهولة عجيبة، أسهو عنه، أحيّده فيختفي من أمام ناظري. أحفر أنفاقا وهمية، أشيّد ديكورات وهمية، وأسير حيث لا يسير الناس، أرى ما لا يراه الآخرون. لو قمت بعملية حسابية لقلتُ إن نصف حياتي على الأقل مضى وأنا في حالة غياب.

في طفولتي ـ تروي أمّي ـ كنت أمضي ساعات طوال أمام المرآة أخاطب شخصا فيها. ثم غادرتُ المرآة إلى زاوية بين كنبتين في الدار، أختفي فيها إلى أن يفتقدوني فينادون عليّ لأخرج من جحري وأعودَ إلى الحياة. وحين صار ممنوعا عليّ الاختفاء، رحتُ أجلس إلى النافذة أتأمّل أنتينات التلفزيونات التي كانت تنبت بفوضى عجيبة على سطوح البنايات المجاورة، أتنقل فوقها كي أقفز منها إلى السماء... اليوم، أقصى أمنيتي هو أن أشيخ أمام نافذة تطلّ على البعيد، على مدىً مأهول بخضرة شاسعة تحملني إلى الموت بهدوء، أو تحمل الموتَ إليّ بغبطة من جاء لاصطحاب صديق عزيز...

هذا لا يعني أني لا أسافر، بل أني، وبالتحديد مؤخرا، صرتُ كلما دخلت مطارا، شعرتُ بندم عظيم تبعه سؤالٌ يتردد صداه في جنبات نفسي إلى ما لا نهاية: ما حاجتكِ إلى السفر وأنتِ تسافرين في رأسك ما طاب لك ؟ ولأني أعرف خطرَ الاستغراق في مثل تلك الأفكار، تراني أحارب ذاتي وأجبرها على الخروج والتنقل من حين إلى حين. أقول لها سافري، فالسفر يفتح العقول، يوسّع الرئتين، يعمّق النظر. سافري وتفاءلي، فهذا هو ملحُ الحياة ! وإن عاندتْ ومانعتْ وأصرّتْ، شهرتُ سلاحي في الدمار الشامل وقلتُ لها بلؤم قاتلٍ لئيم : ألستِ تعلمين أن كاره السفر والترحال والاكتشاف في عصر العولمة هذا، هو كاره للحداثة، للتنوّع الثقافي، لفكرة القرية الكونية، لمبدأ المواطنة في العالم، لمساواة الأجناس والأعراق، كاره للأجانب والأغراب والسود والعرب واليهود والـ... ؟

هكذا أراني، من حين إلى حين، أحيا وأتصرّف كالآخرين. أوضّب حقيبتي، أقطع تذكرة سفر أو أقبل دعوة إلى مؤتمر أدبي. إلى أن ألج مبنى المطارَ، إلى أن يحضرني "بسّوا" قادما من البرتغال خصيصا لأجلي. إلى أن يغمزني بعينه تحت قبعته الرمادية، يميل برأسه فوق قامته الفارعة النحيلة مبتسما، عاتبا، كأنما يقول لي: إلى أين ؟ قومي، هيا بنا نعود !

نجوى ! أنهر ذاتي مقطبة الجبين. إنسي بسّوا والتفتي إلى الآخرين ! أنظري كم هم سعداء وقد ارتدوا ثياب الأحد وكأنهم مقبلين على أجمل الأعياد ! ما زال أمامنا ساعة ونطير، ستون دقيقة وتدخلين الطائرة وتنتهي كل هذه الأفكار. لن تفعلي بي الفعلة نفسها مرتين. لن تعودي من المطار كما فعلتِ ذات مرة بعد أن أعددتِ مداخلتك وودّعتِ أصدقاءك. لا تقولي لي إنه ذنب الموظفة التي تلكّأت في منحك بطاقة السفر. خمس دقائق، هل تسمّين هذا تلكؤا ! كان السينمائي "م. س." واقفا بجانبك.رآكِ تتراجعين. لم يصدّق. لم يفهم. ظنّها نكتة. إلى أن ودّعته طالبة منه الاعتذار من المنظّمين... تذكري أنك التزمتِ مع أهل فرنكفورت ومع أهل غوته، وأنك ابنة أصل وصاحبة أخلاق ! ثم أنك هناك للكتابة، وباستطاعتك البقاء وحيدة ما شئت... هيا، أغلقي هذا الدفتر اللعين وتذكّري التفاؤل ! إبتسمي وقومي بنا نتفرّج على واجهات المحلات في هذا المطار القبيح...

لا أحب الأمكنة بشكل عام، وإن أحببتُ بعضَها فلأنه من النوع الذي يسمح لي بالغياب، بالذوبان فيه، بالتبخّر والاختفاء. مَنْ كان على ضفّة الحياة، لا تعنيه الأمكنة كثيرا، لأنها، مهما تنوّعت واختلفت وتباينت، تبقى بالنسبة إليه، هو الجالسٌ على الضفة أبدا، المقيم على تخوم الهامش حتى القيامة، واحدة... لا أدري من أين يأتي كسلي هذا أو ما يخفيه. لا أدري إن كان كسلا أم خوفا، أقصد الخوفَ العاطفي من التعلّق بالأشياء. لذا تراني ربما أهرب أكثر مما أسافر، والمعنى أني ارى السفرَ مغادرةً لمكان أكثر منه توجّها إلى آخر...

يخرج صوت "مذيعة المطار" من مكبّرات الصوت: يرجى من السيدة "ن.ب." التوجه فورا إلى الطائرة... تركض "ن.ب." داخل الأنابيب الزجاجية العملاقة المعلّقة في الهواء ويكاد قلبها يقفز من صدرها رغبة باستباقها قبل فوات الأوان !

لوفتانزا" - في الطريق إلى فرنكفورت

أوّل ما لاحظته لدى دخولي الطائرة، لاهثةً سابحةً في عرقي، هو المقاعد الرمادية الجلدية (برافو لوفتانزا) وما عليها، أي الركّاب. أقسم بالعليّ العظيم أنها ليست نكتة وأني لست أبالغ حين أقول إن 90 % منهم على الأقل كانوا آسيويين (أنتِ من آسيا أيضا، لا؟). آسيويون من الشرق الأقصى كي لا أقول من اليابان، ذلك أنه غالبا ما يصعب عليّ التمييز بين الكوريين مثلا واليابانيين. وخطر لي فيما أنا أعبر أسراب الركاب أنهم مجموعة متجانسة أو ما يشبه وفدا، غير أن ظني جاء في غير محله إذ لحظت من ثم أنهم قّلما تخاطبوا أو بدت عليهم أماراتُ ألفة ومودّة وسابق معرفة. ها أنذا إذاً في باص، أعني في طائرة، متوجهةً مع رفاقي من أهل اليابان إلى المدينة نفسها، فما عساها تحويه فرنكفورت هذه مّما يجمعنا على اختلافنا أو يهمّنا، أنا وهم ؟

صوت المضيفة يلغو بالألمانية والفرنسية والإنكليزية. الركاب يتحدثون بلغاتهم المتنوّعة(هنالك 10 % ممن أجهل جنسياتهم مع تقديري أن يكون 7 % منهم ألمان). وأنا أفكّر بالعربية (أعتقد أني الوحيدة). حمداً لله أن التكنولوجيا لم تتوصل بعد إلى قراءة الأفكار، وإلا لكنتُ الآن حتما موضع شبهة أو استغراب أو استنكار: عربية، في طائرة يابانية (!)، وفي هذه الأيام ؟ لا هذا كثيرٌ مما يفوق كل احتمال !

تضحك المرأة التي بجانبي. المقعد الذي بيننا فارغ ـ يا لحظي الرائع أنا التي تكره حتى الموت احتكاك الأجساد بين غرباء ـ وضعتُ فيه حقيبة يدي، سترتي وشالي الأخضر الصغير. أرتديتُ أخضر اليوم. أجل، أخضر للتفاؤل. وأخضر كي يحلو المشوار. تلتفت المرأة إليٌ مجددا. ما زالت تضحك. ما الذي يضحكها هكذا ؟ هنالك ابتسامات تخيفني، ضحك يصيبني بالهلع... عيناها زرقاوان. يكفي أن يكون هناك فراغ صغير بين سنيّها الأماميين لكي تكون ممن يُصيبون بالعين. هذا مايعتبره الناس عندنا دليلا قاطعا على "عين حاسدة شريرة" : "عيون زرق وسنان فرق" ! علامَ تراها تحسدني وهل فيّ ما يستحقّ حسدا ؟ في يدها كتاب. تقرأ وتبتسم وتلتفت إليّ. مثلي أخرجت ورقة وراحت تكتب. هل تعلم أني أكتب عنها وأنها للحظة أخافتني ؟

ها نحن نطير على ارتفاع لا يبدو أنه سيزداد، ارتفاع يبقينا على مقربة من الأرض. أعتقد أنه قصر المسافة: ساعة وعشرون دقيقة ما بين فرنكفورت وباريس. إنها المرة الأولى التي أطير فيها على هذا العلوّ "الإنساني"، والأرض تمضي في الأسفل مفروشة بلوحة تكعيبية عملاقة. أحشر وجهي في زجاج الكوة الصغيرة. يكفي أن أغلق عينيّ قليلا حتى يختفي الإطارُ مع تفاصيل أخرى في الطائرة وحتى يتبدّى لي أني في كرسي طافٍ في السماء وأنا عليه أنظر من عليائي إلى الأرض. كالربّ !

أفكّر أني والأرض ـ في تنوّعات الأخضر على اختلافها يجاورها القرميدي والأصفر الترابي والقمحيّ ـ نليق ببعضنا، وأنهم لو ألقوني الآن من الطائرة، لاندمجتُ تماما في ألوان الطبيعة... تلك هي لعبة التمويه... أقول هذا فإذا بالأرض تكتسي فجأة قماشا مرقّطا كذاك الذي تُصنع منه ثياب أهل الظلمة، أعني بذلات المقاتلين...

ألبط هذه الفكرة ـ تفاؤلا ـ وأميل برأسي يمينا وقد أتت المضيفة الشقراء لنجدتي وهي تسألني بعينيها الزرقاوين: كوفي أور تي ؟

في الأسفل، نهر صغير يتعرّج ويتلوّى كجسد ثعبان، أو كعود فحم تجرّه يدُ طفلٍ على الورق أمام عتبة بيت يعلوه قرميد وتحيط به أشجار. هكذا يرسم الأطفال بيوتهم، حتى ولو كانوا من سكّان الأكواخ أو من المتشرّدين ونزلاء الأرصفة... وذاك رأس حصان مقطوع مقلوب على قفاه... ياه، يد ! لكن، اين الذراع... ها أنا أرى "غرنيكا" عملاقة مبعثرة على الأرض... ألا تكون فكرة هذه اللوحة قد جاءت بيكاسو ذات يوم في الطائرة، وهو في لحظة شوق مُحرِقة إلى بلاد مستحيلة، إلى وطنٍ بعيد ؟


19 سبتمبر 2004

الواحدة والنصف ليلاً


فرنكفورت، ها إني في حضرتك أخيرا !


ولمَ لا أقول: ها أنتِ في حضرتي أخيرا !

ألا يحقّ لي وأنا منذ أشهر أهيَئ نفسي وأستعدّ ؟ أشحذ أسلحتي وأتأهّب وأكرر: ينبغي لي أن أباشر حمية، أن أبيد عدداً محترما من الكيلوغرامات لكي أكوّن في ذهنك الصورة الأقرب إلى روحي. أريد للقائنا أن يكون... لنقل أني لا أريده سلبيا أو مخيّبا أو مؤسفا. إذاً، ها إني أعتذر سلفاً عن مظهرٍ لا يليق بك. فات الأوان ولم أتخلّص من فائضي من الوزن. الانقطاع عن التدخين ذريعتي وما أتناوله من حبوب "كورتيزون". لكن لا بأس، لا ريب أن فيكِ أنتِ أيضاعيوباً تعتذرين عنها ولا أخفيك أني لم أسمع عنكِ ما يبهج القلب أو ما يثير الرغبة في التعرّف إليك أو يبعث الشوقَ إلى لقائك. لنقل إنّ أحدا لم يتغنَّ بوصفك، لا من قريب ولا من بعيد، كما لم يحسدني مخلوقٌ على قدومي للعيش معك لوقت. هذا كي لا أقول إن العكس هو الصحيح.

أعذريني. لكن ما همّ، فأنت أيضا لا بدّ وأنك تتوقعين أن أكون ما لستُه. ربما. حتما. ما أدراني ما خطر في ذهنك مثلا حين حدّثوك عن امرأة قادمة من البعيد، من المكان "المشوّش" من العالم، كاتبة وعربية ومقيمة في باريس ومدعوة للحديث عنك ! أعتقد أنك قطبت حاجبيك مدّعية الاهتمام، فيما كنت تتبسمين في دخيلتك، حشرية أو سخرية... أعرف، ليس الأمر سهلا علينا نحن الاثنتين. لكن دعينا من المجاملات ولنكن صريحتين منذ البداية هكذا نتفادى سوء الفهم وإن لم نتفق، علّنا على الأقلّ نفترق بسلام. أربعة أسابيع كأنها الأبدية نخرج منها عدوّتين حتى الموت أو ربما صديقتين.لا بدّ وأن هناك ما يجمعنا. لا بدّ. يكفيني مثلا أن يجري فيك نهر. لا يمكن لمدينة تجري في عروقها مياه أنهار، إلاّ أن تمتلك روحا. المدن ذوات الأرواح بها دوما سحرٌ ما. أين تختبئ روحك يا فرنكفورت وهل تراها ستنكشف عليّ ؟ يكفيني أيضا أن أتذكّر أنك دُمّرت ذات يومِ وأنه قد أسيء إليك وأنزل بك ذل وهوان ؟ أرأيتِ، هوذا جسرٌ يصل ما بيننا، نقطة مشتركة أولى أرجو أن تليها عشراتُ الجسور...

فرنكفورت، أهلا، تشرّفنا. قد تقدّم الليلُ بنا فدعينا ننام الآن وغدا لنا كلام.


التاسعة والنصف صباحا



ينتظرون مني أن أروي مدينة. لكن، هل نروي مدينة في بضعة

أسابيع ؟ وهل تُروى المدن أصلا ؟ أعني ألا نروي في أغلب الأحيان أنفسَنا فيها، انطباعَنا عنها، أكثر مما نروي المكان؟ هل كنت لأرى فرنكفورت مثلا بالعين نفسها لو قدمتُ إليها وأنا في سنّ العشرين، أو في سن الستين ؟ وما هو يا ترى رأيُ هيراقليت في الموضوع وحكمُ نظريته حول الدخول في مياه النهر ومشكلته المزمنة مع مرور الزمن ؟

هيراقليت يا نجوى دفعة واحدة عند هذا الصباح ؟! رأيي أن تكتفي بسؤال من نوع: ما الذي يمكن أن أضيفه إلى كاتالوغات السياحة ؟ لا شيء في الواقع، إن لم يكن نكتة جهلي بالمكان. باستطاعتي مثلا أن أكتب دليلا بعنوان: تعلّم أن تألف مكانا غريبا، أن تروّض مكانا وحشيا، في عشرة دروس... ألم أقل أني لا آمن للأمكنة وأن طبعها المكيدة والغدر والتعذيب حتى القتل...

مهلا، فلنعد إلى الوراء، نعيد الشريط من أوّله، فالنهار ما زال في بدايته والتفاؤل ملح الحياة...

- لدى وصولي إلى المطار البارحة، استقبلني وجهان بشوشان (سوزان وآن) يتكلّمان الفرنسية (والانكليزية). إذاً لا أستطيع القول إني عانيت (حتى الآن) مشكلة تواصل مع الألمان !

- لدى دخولي غرفة الفندق حيث سأنزل، طالعتني رائحة زهور. أمر جميل دوما أن نُستقبل بباقة ورد، أليس كذلك ؟ خاصة إذا ما رافقت الباقةَ تلك شقةٌ مكوّنةٌ من غرفتين ومطبخ صغير. على عكس ما توقعت، ها أنا في ما يشبه دارا نقيم فيها، وهو ما أشعرني بأمان كنت في أمسّ الحاجة إليه، أنساني لبرهة أن النافذتين ـ البابين اللتين سارعتُ ألصق وجهي بهما، تطلان على شارع عام تحفّه من الجهة المقابلة بنايات تخفّف من وطء وجودها قبالتي أغصانُ شجرة كبيرة تنحني فوق الرصيف الذي لجهتي كأنما لتتفرّج عليّ، أنا نزيلة الطابق الأول في هذا النزل ذي المظهر القديم بأعمدته الرومانية الأربعة التي تزّين المدخل. هذا وقد أنساني شعوري الخاطف بالأمان ايضا الانتباهَ إلى عامود الكهرباء بقناديله الكروية الثلاثة، ينتصب أمام نافذة غرفة النوم ولا يقيني منه سوى ستائر شفافة بيضاء، كأنّ النافذة عين لا أهداب لها، عين لا تنام كعيني التي لا تغفو إن لم تتكدّس فوقها طبقة سميكة من عتمة حالكة، لا بل طبقات.

- الدعوة إلى العشاء كانت لطيفة في مكان لطيف ألطف ما فيه أنه كان مطلا على... النهر ! ناهيك عن العطل "اللطيف" الذي أصاب الآلة الحاسبة التي ينبغي أن توافينا بالحساب، وقد استدعى في ذهني صورة أحمد مظهر "الباش مهندس" (كنتُ قد رأيته ليلة سفري صدفة) واقفا مع ناديا لطفي على شاشة التلفزيون، وهي تسأله بدلال أن يحدّثها عن ألمانيا حيث أمضى شهورا، وهو يقول بجدية بالغة: " التكنولوجيا قوية جدا في ألمانيا " !

- في طريق العودة، لمحتُ القمرَ هلالا معلقا بين برجين من أبراج فرنكفورت، أعني بين ناطحتي سحاب، ولا أدري إن كان هو (أم أنه خلوّ الشوارع في ليلة سبت) ما جعلني أشعر أني في مدينة سوبرمان (نسيت اسمها) وقد غادرها البطلُ الجبّار فخلت من أهلها قبل وقوع الكارثة بلحظات. ما شعرته لا يتلاءم بالضرورة مع ما أخبرتني إياه سوزان حين أطلعتني أننا هنا في حيّ المصارف والأعمال. لكن مع ذلك، تبدو فرنكفورت مدينة فارغة. كأنها في عيد. أو في حِداد...


الرابعة والنصف من بعد الظهيرة



في الحيّ حيث أنزل، لا أثر لناطحات سحاب، بل لمبانٍ واطئة متواضعة، وهي إن علت، فبما لا يتجاوز عدة طوابق. ومع ذلك، لا وجود لحياة. أعني لا وجود لحركة تشي بوجود إنسٍ أو جان، في هذه المربعات الزجاجية التي تصطف أمامي كأنها رسم في واجهات أبنية وهمية ستُرفع ما أن ينتهي التصوير. تصوير ماذا وفي أي فيلم أنا الآن ؟ على الرصيف المقابل، مطعم "بيتزيريّا دا روميو". منذ يومين وهو مقفل. ما به روميو ليغيب عن محلّه يومين كاملين ؟ عساه يكون بخير ! فإن لم تفتح المطاعم في عطلة نهاية الأسبوع، فمتى تراها تفتح وتربّي الزبائن وتربح ؟ حسنا، وإن كان روميو مريضا، فأين هم الناس ؟ إن لم يجبني أحدٌ عن هذا السؤال فورا، فقعتُ، طققتُ، متُُ...

السادسة مساء



والكومبيوتر "حرق ديني" لأنه لا يحكي غير الألمانية و يكتب العربية من اليسار إلى اليمين... التفاؤل ! لا يجب أن أنساه. حسنا. ماذا يفعل شخص متفائل في وضعي ؟ يقوم ويخرج في الحال ؟ حسنا، سأخرج في الحال...

سرتُ في خط مستقيم. هكذا أضمن ألا أضيع. فأنا أضيع "في أرضي" كما يقال، أو "في كوب ماء"... لا، كوب الماء مخصّص للغرق، لا للضيالمساء على وشك الهبوط. أنا أيضا...

أفكّر بالاستلقاء لكثرة ما تحرقني عيناي. فأنا لم أنم جيدا ليل أمس، والنهار بدأ ماطرا، ظهري يؤلمني من الجلوس على هذا الكرسي الغريب، اع، ألا يقال: " يغرق في شبر ماء " ؟ المهم. أسير في خط مستقيم لا أحيد عنه. هكذا أضمن طريق العودة. فأنا مهما كان، ما زلت في يومي الأول، في مدينة غير مسكونة حتى من أهل الجان.

أقطع الطريق وإذا بي في مواجهة طريق أخرى مقفلة بسيارة "بوليزي" ومقصورة على المشاة. أبتسم وآخذها. منذ متى تبتسمين لسيارات الشرطة يا سيدة "ب" ؟ منذ الآن. فهي شرطة ألمانية وهي خضراء ! حسنا. ألتفت إلى الوراء. لقد اختفى الفندق. لكن لا جزع، لا هلع، ما دمت أسير في خط مستقيم. أرفع رأسي فإذا ببناء قديم جميل كبير ينهض على يساري. أقرأ : "بالمن غارتن". هذه فهمتها ومعناها حديقة النخيل ! أحدّق مزيدا، فإذا بها مكوّنة من عدة صالات زجاجية بهيكل من الحديد، تعلو جدرانها عددا محترما من الأمتار. ها هي أشجار النخيل. يا الله ! نخلات داخل قفص عملاق من زجاج. لا بأس، الدفء أفضل من الموت بردا في صقيع الشمال. لكن، ماذا لو نمت شجرة أكثر من أخواتها ؟ ماذا لو كانت أطول قامة وأرادت فوق هذا أن تطال السماء ؟ هل تراها تكسر الزجاج وتخرج رأسها إلى الهواء ؟ لا. أعتقد أنها ستصاب بانحناء، أو أنهم سيقطعونها، فلا تتمادى على الزجاج.

تنتهي الطريق إلى حديقة عامة أخرى، ومن الجهة الخرى، إلى حديقة نباتية أخرى. يكفي. أعود وقد ابترد الهواء وقد بدأت معدتي تطالبني بالعشاء. ينقصني الملح. "إن فسد الملح فبمَ يملّح " ؟ لا يُملّح بشيء ! خاصة وأن الملح من ألدّ أعداء "الكورتيزون". حسنا، إن وجدتُ محلا مفتوحا (أهذا من باب التفاؤل أيضا، أم من باب الغباء ؟)، اشتريتُ ملحا. وإلاّ، فلا.

يقفز من أمامي سنجاب... سنجاب ! بحياتي لم أر سنجابا. يا للروعة. يحمل بين قائمتيه الأماميتين شيئا أخضر مستديرا. إنه كما في الصور المتحركة، لكنه أصغر بكثير...

كشك جرائد وفي داخله شاب. بينغو ! أسأله عن ملح. "نو سالت"، يقول بلكنته الباكستانية خائبا بعد أن هب واقفاّ لاستقبالي متيّقنا أني من السيّاح...



الثانية عشرة ليلا



أدخل الفراش مرغمة. يجب أن أنام. غدا نهار حافل (حقا، بماذا ؟). أضع يدي على هدبيّ أحميهما من ضوء الشارع العام، ثم أنزلق فوق أولى درجات الغياب. تفاجئني ابتسامة وأنا أودّع نفسي على عتبة النوم: اليوم، استبدلتُ الملحَ بعلكة وتعرّفت إلى سنجاب !

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أجمل مقال أدبي بعنوان ولدي رجاء Yaqot روايات و قصص منشورة ومنقولة 0 March 11, 2014 04:51 PM
أجدد مقال أدبى لأحمد أمين Yaqot روايات و قصص منشورة ومنقولة 0 March 11, 2014 04:38 PM
أروع مقال أدبي بعنوان انتهت الحياة Yaqot روايات و قصص منشورة ومنقولة 0 March 11, 2014 04:37 PM
معلومات عامة وهامة عن مطار أورلي باريس Yaqot معلومات ثقافيه عامه 0 December 29, 2013 01:53 PM
معلومات هامة وتاريخية عن مطار شارل ديغول Yaqot معلومات ثقافيه عامه 0 December 29, 2013 01:48 PM


الساعة الآن 11:36 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر