فيسبوك تويتر RSS


  #1  
قديم December 18, 2013, 10:14 PM
 
Smile وأنحازلنبالة الفرسان مقال بقلم د. محمد المخزنجي


وأنحازُ لنبالة الفرسان
بقلم
د. محمد المخزنجي


الأربعاء 11 ديسمبر 2013


لنتصور امرأة وزنها 60 كيلو جراما تحمل فى رحمها جنينا سليما وزنه ما بين 12 ـ 15 كيلو جراما! أى من خُمس إلى رُبع مجمل وزنها ! هذا بالضبط حال أنثى طيور الكيوى، ومن ثم صدق فيها القول بأنها أكثر أنثى يمكن أن تراها مكتظة بالأمومة على نحو بالغ الإيلام، وكل من شاهد صورة أشعة شهيرة لأنثى كيوى قبل وضعها لبيضتها بخمس عشرة ساعة انذهل من هول ما تحمله هذه الأنثى، حتى إن امرأة علقت على تلك الصورة قائلة وهى تنكمش مقشعرة «لقد شعرت برحمى يتقلص من شدة الفزع». بيضة بستة أضعاف حجم البيضة المتناسبة مع حجم أنثى الكيوى التى بحجم دجاجة عادية، والبيضة إلى ذلك تحتوى على أكبر كمية من «الصفار» حتى إن الفرخ يظل يتغذى عليه لمدة أسبوع بعد خروجه منها!
انذهال آخر أصاب كل من شاهد فى أحد متاحف التاريخ الطبيعى هيكلا عظميا حقيقيا لأنثى كيوى، وبداخله بيضة كيوى حقيقية تملأ معظم التجويف البطنى وتكاد تلامس الفقرات والضلوع! وهو انذهال لم ينقشع برغم مرور أكثر من قرن أمضاه علماء الأحياء فى إماطة اللثام عما وراء هذا المنظر العجيب، بل تزايد مع تزايد المعرفة، فأنثى الكيوى فى الأيام الأخيرة من حملها البالغ 24 يوما ومع اكتمال نمو البيضة فى كامل فضاء أحشائها، تضطر للمشى منفرجة الساقين من ثقل ما تحمل، بينما بطنها المنتفخ يحف بالأرض. تحس التهابا يستعر فى جلد بطنها المشدود وتلتمس أيما شىء يُبرِّد نيران هذا الالتهاب، وتهديها حاسة شمها الفائقة إلى بُريكة ماء صغيرة بين الأشجار ليست قريبة، فتتحامل على نفسها حتى تصل إلى اللجة فتدخلها لتُلطِّف بالماء التهاب جلدها، وتستعين به ليحمل معها بالطفو ما يُثقل البطن. تظل راقدة فى الماء حتى تُطفئ بعض ما يُلهبها، وتستعيد شيئا من قواها المُستنزَفة.. تتهيأ للحظة الكُبرى فى سيرة العناء؟!
قرب عش تزاوجها وحيث الحفرة التى هيأها زوجها، تتهاوى راقدة وتحشد كل ما تبقى لديها من قوة وآخر ما حبسته من أنفاس، لتدفع بالهول القابع داخلها حتى يخرج، فيخرج: بيضةً ناصعة البياض أو مشوبة باخضرارٍ رمادى طولها 12 سنتيمترا وعرضها 8 سنتيمترات، ما إن تضعها حتى تشعر بجوع شديد وعطش حارق بعد تحرُّر أمعائها من الانضغاط، وبعد تحرُّر رئتاها تتنفس الصعداء، لكنها خائرة القوى مترنحة، تقف على حافة الموت إن لم تتبلَّغ بالطعام فورا وترتوى بالشراب. هنا يبرز فى المشهد زوجها الذى لم يغب عنها فى مسيرة عنائها لحظة، وإن لم تكشف عنه بؤرة الصورة التى ظلت مُركَّزة على الحامل وحملها الساحق.
طيور الكيوى النيوزيلندية التى حملت هذا الاسم لتشابه شكلها مع ثمار الكيوى صينية الأصل، هى من الكائنات الوفية أحادية التزاوج، فما أن يتآلف ذكر وأنثى حتى يبقيا معا طوال العمر. والذكر فى الأيام الأخيرة العسيرة من حمل أنثاه لا يفارقها أبدا، وإن بدا عاجزا عن فعل ما يخفف عنها. يتحرك حولها قلقا ويواسيها بصوت خافت كالمناجاة، يميل عليها برأسه ليُمسِّد ريش جنبها بهدهدة حذرة، يخشى أن يزعجها وهى شديدة العصبية فى الوقت العصيب. لكنه ما إن تضع بيضتها حتى ينتفض متواضعا نبيلا، ليتلقف البيضة مُحرِّرا شريكة عمره لتأكل وتشرب وتستريح بعد كل ذلك الضنى. يُوسِّد البيضة فى الحفرة التى أعدها ويتطوع كريما، فائق الكرم، بالرقاد عليها حتى تفقس. وتطول فترة الرقاد شهرين ونصف لأن أجساد طيور الكيوى أبرد من أجساد سائر الطيور. وعلى امتداد هذه الفترة الطويلة يكاد لا يُغادر مرقده إلَّا هنيهات فى الليل، يبحث بمنقاره الطويل عما تيسر من طعامٍ غائصٍ فى التربة ليسد به بعض جوعه، ثم يعود مسرعا للرقاد على بيضة فرخ المستقبل.
يخرج الفرخ من البيضة الكبيرة مكتملا ويستطيع الوقوف على قدميه فور خروجه، يظل يتغذى أسبوعا من صفار البيضة الوفير الباقى، ثم ينضم إلى أبويه ليستظل بحدبهما حتى يبلغ أشده. عندئذ يتبدَّى الوجه المُكمِّل لملامح تفانى الأبوين فى سبيل ابنهما، فهما يدفعانه دفعا برفسات أقدامهما القوية ليخرج من العش وهو يقاوم. ثم يستسلم أمام إرادتهما التى لا تلين ليستقل بحياة الرشاد، مبتعدا يبحث عن منطقته الخاصة، وعشه الخاص، ليكرر مأثرة الوالدين.
درسٌ آخر فى الحب الأبوى الأعمق للذرية الغالية، التى استثمر فيها الأبوان من حياتهما أكثر مما يستثمر معظم الكائنات، هما الماضى وهو المستقبل، وهما لن يكونا إلى جواره فى أيام صعبة قادمة، عليه أن يواجه أعباءها وحده !
ما كل هذه العظمة فى التفانى الأبوى، وهذا الحسم العظيم فى التربية الصادقة؟! ساءلت نفسى مدهوشا وأنا أتهيأ لاختتام ملمحة الحياة العجيبة هذه، فاكتشفت أن النهاية تعيدنى إلى البداية، فالابن الشاب الذى يخرج لمواجهة الحياة وحده، يكرر بالغريزة ما ابتداه الأب يوما، يبحث عن نطاقٍ خالٍ يجعله موطنا له، وفى هذا الموطن يتخذ عشا من فجوة فى جذع شجرة كبيرة أو شق بين الصخور أو حفرة يحفرها فى ظلال دغل كثيف، ثم يبحث عن زوجة، وما إن يجدها حتى يعود بها لتُساكنه عشه وتشاركه حياته.
المدهش أن هذا الكيوى ضامر الأجنحة والذى لا قوة لديه إلا قوة الشم وبعض قوة مخالب الأقدام التى ورثها عن أسلافه العماليق فى الأزمنة السحيقة، جهازه التنفسى صغير وضعيف مما يُلزمه بالحذر البالغ حتى لا يبذل جهدا يميته إن تطلب الأمر أنفاسا عميقه متسارعة، لكنه برغم ضعفه الواضح مقارنة مع غيره من ساكنى الغابات والبرارى، يتبدَّى فارسا مغوارا فى حب وطنه، منطقته، ويُبدى بسالة مذهلة فى الدفاع عنها ضد أى دخيل، يقاتل كأنه يرفع شعار النصر أو الموت، فإما أن يطرد الدخيل، أو تخذله رئتاه ليموت وهو يُقاتل!
هكذا تعود بى النهاية إلى بدايات التكوين فى دورة حياة طيور الكيوى، فتُكمل دائرة قانون ينطبق على ذكور هذه الطيور كما رجال البشر: الفارس فى وطنه كريم فى حبه، ذلك الكرم الذى يعنى العدل فى تقاسم الهناء والشقاء مع المحبوب، كما يعنى أنه لا يصح إلا الصحيح فى إعداد الأجيال القادمة لمسؤوليات المستقبل. وبقولٍ آخر: لا خير فيمن لا خير له فى وطنه، لا فى أهل بيته ولا فى الأقارب أو الأباعد.
أنحنى للفروسية فى الوطن، وأُنحاز لنبالة الفرسان.


المصدر

__________________
الحمد لله في السراء والضراء .. الحمد لله في المنع والعطاء .. الحمد لله في اليسر والبلاء


Save
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
وأنحازلنبالة الفرسان ، مقال ، د. محمد المخزنجي

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عن أردوغان مقال انحدار زعيم موهوب بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 5 January 19, 2014 01:41 AM
من المُستفيد؟ بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 0 July 27, 2013 02:30 AM
لُوجوُرِيا بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 0 July 27, 2013 12:43 AM
ارحلا بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 0 July 27, 2013 12:35 AM
مصر بين القنادس بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 0 July 26, 2013 11:05 PM


الساعة الآن 02:26 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر