فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > اقسام الحياة العامه > مقالات الكُتّاب

مقالات الكُتّاب مقالات وكتابات من الجرائد اليوميه و المجلات.



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم July 26, 2013, 11:59 PM
 
Messenger3 حفَّارو الظلام بقلم د. محمد المخزنجي

حفَّارو الظلام بقلم د. محمد المخزنجي

حفَّارو الظلام بقلم د. محمد المخزنجي


حفَّارو الظلام
بقلم
د. محمد المخزنجي


فى شروق السبت 25مايو الماضى نشر الشاعر عبدالرحمن يوسف مقالة لمَّاحة عنوانها «دولة التنظيمات السرية» تساءل فى بدايتها عن «القاسم المشترك الذى يجمع بين جماعة الإخوان المسلمين وجهاز أمن الدولة وأجهزة المخابرات بأنواعها؟»، وبعد أن رصد عددا من هذه القواسم خلص إلى أن «مصر ستظل دولة متخلفة طالما ظلت فيها تنظيمات سرية تتحكم فى جزء من منظومة الحكم (حتى لو بالانتخاب)، وستظل دولة منكوبة طالما ظلت عاجزة عن التعلم من تجاربها الفاشلة، وكل ذلك بسبب تنظيمات سرية لا يستطيع أن يحاسبها أحد».

وكالعادة، لم يسلم عبدالرحمن يوسف من التعليقات الهابطة لبعض منتسبى الجماعة أو مؤيديها، متناسين شجاعة هذا الشاعر المبين الذى هو قطعا أحد الوجوه الناصعة الممهدة لثورة يناير وأحد مخلصى ميدان تحققها، إضافة لكونه أحد وجوه الاجتهاد المتحضر فى فهم معنى الهوية الإسلامية فى عالم متجدد.

كل هذا دعانى لاستعادة شىء مما أكتب عن الكائنات غير البشرية، فى مؤازرة للمحة الشاعر، وبدعوة لتأمل هذه الكائنات فى ظروف مناظرة، لعل يكون فيها درسا يعيه البشر إن جحدوا ما مميزهم الله به من عيش فوق الأرض، حيث الهواء والنور.

حفَّار الظلام

إنه أشهر سكان تحت الأرض مستوطنى بطن التراب الطرى فى البساتين والمزارع والحدائق ومراعى العشب. مخلوق مُيسَّر لما خُلق له من عيش فى الكتمة والعتمة. ما جدوى العينين له؟ فلتنقرضا وتتحولا إلى محض ثقبين مطمورين بالفراء الكثيف لتحجبا بصيص النور إن تسلل إلى خبائه. والأذنان أيضا ما جدواهما فى ذلك الوسط الأصم؟ فلتذبلا ويكسو ما بقى من فتحتيهما جلدٌ فوقه شعرٌ فوقهما تراب على تراب. لكن رحمة التيسير لا تترك هذا المخلوق أعزلَ فى هذا العماء والصمم. بوزه المتطاول المدبب تغطيه آلاف الشعيرات الحسية الدقيقة، تجعله يدرك ما حوله باللمس. أما ما بَعُد عنه فيستشعره بقدرة فذة على التقاط أخفت ذبذبات الحركة فوق الأرض أو تحتها. من أنواعه ما يُسمَّى «الخلد الذهبى» ويعيش فى رمال الصحراء وتبدو حركته السريعة المنسابة تحت سطح الرمال كما لو كان يبحر فيها أو يطير. أما النوع المسمى «نجمى الأنف» فهو يجيد السباحة فى الماء لأنه يحفر أنفاقه تحت قاع المستنقعات والبرك ويستخدم أنفه ذى الإحدى وثلاثين شعبة متحركة فى الشم والتذوق. ينفخ فقاعات لصق أنفه تصيد جزيئات الروائح فيشم ويتذوق بهذه الأنف. ثم يبقى النوع الشائع متفردا بخصيصة الاعتماد على اللمس والجس بأنف يكاد لا يشم وكيان شديد الحساسية للموجات الاهتزازية فى باطن الأرض مهما شحُبت. يُقرِنه البعض بجهاز كشف الذبذبات تحت الأرض GEOPHONE الذى طوره الجيش الأمريكى لاكتشاف دبيب قوات المقاومة الفيتنامية فى شبكة أنفاقها السرية تحت معسكرات المارينز أثناء حربهم هناك. ولعل ابتكار هذا الجهاز كان مُستلهَما من قدرات هذا الكائن؟!

كائن لا يكف عن الحركة والالتهام. يحفر ويأكل. ويحفر ويأكل. فهو بينما يشق طريقه صانعا أنفاقه دون كلل فى الليل كما فى النهار وبمعدل يصل إلى عشرين مترا فى اليوم، تتساقط من سقف وجوانب أنفاقه ديدان الأرض، غذاؤه المفضل الذى يلتهم منه يوميا ما يعادل نصف وزنه وبسرعة تكاد لا ترصدها العين البشرية، ثلاث قضمات فى الثانية الواحدة، وهذه القضمات البارقة ليست كل شيء، فكل قضمة تكون مسبوقة باعتصارٍ خاطفٍ عجيب من كفين أعجب ليخرج التراب من بطون هذه الديدان التى تأكل التربة، فيبقى للحفار منها البروتين ولا تتلبك أمعاؤه. وعندما تكون هناك وفرة من ملكات تخصيب التربة هذه فى مواسم الخريف والشتاء البَليلة، يقوم الحفار الحاذق بأدهش تصنيعٍ غذائى وتخزينٍ احتياطى لمواسم الندرة والجفاف واحتياجات الأنثى طوال فترة الحمل والولادة والإرضاع. تفرز أفواه الخلد لعابا يحتوى على مادة مخدرة تشل حركة الديدان فيقضم رءوسها حتى لا تفسد ثم ينقلها إلى غرف التخزين! وتكون مستودعات غذاء الطوارئ هذه قريبة من غرفٍ أخرى فسيحة بحجم كرة قدم ومبطنة بعشب جاف مجلوب فى الليل من سطح الأرض تسمى غرف «التعشيش».

فى غرف التعشيش لا يبقى الذكر مع الأنثى سوى هنيهات للتزاوج، يغادر بعدها على الفور لتخلو الأنثى إلى نفسها. شهر من الحمل وشهر من الإرضاع بعد ولادة ما يتراوح بين اثنين وستة أفراد من الحفارين الجدد كل عام، يولدون مجردين من الشعر الذى ينمو ويتكاثف بعد ثلاثة أسابيع، وبعد الأسبوع الرابع أو الخامس يشتد عودهم ويكون عليهم أن يخرجوا إلى سطح الأرض ليختار كل منهم بقعة يبدأ منها حفر نفقه الخاص، بعيدا عن الأبوين والإخوة والأقارب، وهو مُهيأ بأقسى قدرات العيش فى انفراد!

فيما تكون أرجل هذا الكائن الخلفية قصيرة وذيله قصيرا تتطاول قودامه وتتفلطح راحاتها وتكتسى بواطنها بجلد سميك أجرد وتبرز من أطرافها ستة أصابع فى كل كف! يعمل الأصبع الزائد المزود بشظية عظمية فى الطرف الخارجى للكف كجاروف وشوكة حقل ومذراة معا، يغوص ويفتت التربة ويُذرِّيها، يُنحِّى الردم جانبا أو ينثره عبر أنفاق رأسية تنفتح على سطح الأرض، فتظهر الكومات التى تكشف عن وجوده تحت الأرض وتتسمى باسمه «تلال الخَلَد «MOLE HILLS»، تدل عليه، وتكشف عن وجوده السرى.

وها هو واحد منها ممسوك فى قبضة صيادٍ بشريٍّ أريب. يتعجب الصياد من غرابة منظر صيده لكنه لا يكرهه. يدرك أنه لا يأكل جذور مزروعاته ولا يسيء إليها بل يفيدها بتهوية باطن التربة بشبكات أنفاقه. لكنه فى مواسم الامطار الغزيرة يصير مؤذيا، إذ تمتلئ أنفاقه بالماء فتخنق بالبلل الزائد جذور النباتات. أما أكثر ما يسوء الصياد من صيده فهو تشويه مسطحات العشب الخضراء المشذبة بكومات التراب المنثور. ولا شعوريا تضغط قبضة الصياد على أسيرها فيتملَّص. تملُّص لا يوحى بمجرد الرغبة فى الإفلات بل ينبئ عن معاناة بالغة كأنه يتعذب فى الهواء الطلق وبهرة النور.

وهو بالفعل يتعذب. فالنور الذى لا يراه يشعل ظلمة بصره الكليل بسوادٍ مُومِضٍ يخيفه. والهواء الطلق الغنى بالأوكسجين فوق طاقة احتماله. دمه مهيأ بنوع من الهيموجلوبين ذى قدرة استثنائية على حمل كثير من ثانى أكسيد الكربون وقليل من الأوكسجين. فهو فى باطن الأرض قادر على إعادة تدوير زفيره لتكفيه أقل كمية من الأوكسجين المتسرب إليه من السطح. لا يؤذيه المزيد من ثانى أوكسيد الكربون بل يُحييه! وفى مأزق اختناقه فى الهواء الطلق يتملص ويعض. يعض الهواء المتذبذب بحركة لا يعرف ما وراءها ويعض أى شيء يقترب منه أو يلمس خطمه. يفتح قوس فمه البشع ويعض فيثير شفقة صاحب القبضة التى تحيط به. يطلقه.

على الأسفلت يبدو الخَلد كما جُرذٍ ضائعٍ غريب وكأنه يركض على سطح صفيح ساخن. يجرى على غير هدى قاطعا جريه بانعطافات مرتبكة. هنا وهنا وهنا. وكلما صادفه نتوء يفتح فمه ويعض. وأخيرا يعبر الأسفلت ويصل إلى المرج فيغوص فى خضرة العشب باحثا عن بقعةٍ من تراب. يحفر بقوادمه المُكَفَّفة ذات الأصابع والمخالب. يحفر، يحفر، يحفر إلى أسفل فى جنون، ناثرا التراب من حوله صانعا بداية نفقه المتجه إلى مُستراحه المظلم الكتيم. تحت الأرض!

• ملحوظة: فى كتاب عجائب المخلوقات، يشير القزوينى إلى أن المخيلة العربية فى تراثها تربط بين حيوان الخلد وانهيار سد مأرب!

• ملحوظة متأخرة: بعد مشاهدة عجائب المؤتمر التكفيرى الأول للتضامن مع أول رئيس إخوانى منتخب، وليس غير ذلك مما زعموا، ثبت أن العض والخمش قرين كل عمى وصمم، ولأنه كذلك، فهو لا يبعث على الذعر، بل يدعو إلى الرثاء.


المصدر





محمد المخزنجي
كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .


حفَّارو الظلام بقلم د. محمد المخزنجي

حفَّارو الظلام بقلم د. محمد المخزنجي

__________________
الحمد لله في السراء والضراء .. الحمد لله في المنع والعطاء .. الحمد لله في اليسر والبلاء


Save
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
حفَّارو الظلام ، د. محمد المخزنجي ، مقالات ، مقالة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
محمد المخزنجي , الآتي , قصص قصيرة , حصريا من معرفتي معرفتي الروايات والقصص العربية 64 December 3, 2017 12:11 AM
نعم لتمرد لا للقتلة بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 0 July 26, 2013 11:38 PM
مصر بين القنادس بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 0 July 26, 2013 11:05 PM
جنوبا وشرقا: رحلات ورؤى لـ محمد المخزنجي محمد الدهشان أرشيف طلبات الكتب 3 January 29, 2013 02:44 AM
اليكي للشاعر محمد المخزنجي محمد المخزنجي شعر و نثر 0 October 26, 2008 12:05 PM


الساعة الآن 05:23 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر