فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > اقسام الحياة العامه > مقالات الكُتّاب

مقالات الكُتّاب مقالات وكتابات من الجرائد اليوميه و المجلات.



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم July 26, 2013, 11:38 PM
 
نعم لتمرد لا للقتلة بقلم د. محمد المخزنجي

نعم لتمرد لا للقتلة بقلم د. محمد المخزنجي

نعم لتمرد لا للقتلة بقلم د. محمد المخزنجي

نعم لتمرد لا للقتلة

بقلم
د. محمد المخزنجي


فى السجون العمومية التى دخلتها متهما سياسيا، مكثت كثيرا أتأمل القتلة من النزلاء الذين لم يُعدَموا لأسباب قانونية. وخرجت من تأملى المتكرر والطويل لكثيرين منهم، بأنهم لم يغادروا أبدا ربقة لحظة القتل، وأنهم محبوسون فى ندم يلفهم بشرنقة غير مرئية، لكنها شديدة الوضوح.
فهم يمضون فى عزلة برغم عيشهم فى زحام السجون، وما إن تُفتَح أبواب الزنزانات لهم، حتى ينخرطوا فى مشية صرت أكتشف أصحابها من بين عشرات الرائحين والغادين فى ردهة العنبر الطويلة، فهم يهرولون منفردين كأن شيئا ما يطاردهم، أياديهم معقودة خلف ظهورهم ورءوسهم مُطأطئة، فرادى بشكل موحش، ومنعزلين برغم زحام العنبر وضجيجه.

فى سجن المنصورة العمومى، حيث سُجنت كواحد من طلاب الجامعة المتهمين بالتحريض على انتفاضة يناير 1977، تصادف أن كان مأمور السجن رجلا نبيلا وبالغ التحضر منحنى زنزانة لتكون عيادة لخدمة نزلاء العنبر بعد انصراف طبيب السجن عند الظهيرة، والتقيت فى هذه الفترة عديدين من القتلة، وكانت اعترافاتهم مقرونة دائما بنبرة متألمة حتى لو كانوا يُكِنُّون حقدا لم يغادرهم على قتلاهم، علما بأننى لم أكن أستدرجهم أبدا لهذه الاعترافات، بل لعلهم هم من كانوا يستدرجون اللحظة للبوح بما اقترفوا أمام شخص اطمأنوا إليه أو وثقوا فيه، نوع من الرغبة فى التخفُّف ولو للحظات مما يثقل صدورهم، ندم هيهات أن يُشفى.

وفى غرفة بعنبر الجنائيين فى قسم الحريم بمستشفى العباسية، رأيت المرأة التى قطَّعت زوجها بعد قتله ووزعت أجزاءه فى أكياس نثرتها فى صناديق قمامة وأركان شوارع مدينتها الساحلية، كان وجهها السمين الممتقع المبطط ميت التعابير تماما، وكلامها لا ينم عن شىء من الندم على ما فعلت أو الرضا عنه، كانت خليطا من البلادة والذهول الراكد، مجنونة بنوع ساحق من الجنون.

وفى مستشفى المعمورة، صاحبنى مريض فصامى رفيع المستوى المهنى والتعليمى، اعترف لى بأنه قتل، لكن لحظة اعترافه برغم فصامه العميق لم تدم غير برهة خاطفة، هرب منها بتنهيدة حارقة والتفاتة يفر بها إلى الدنيا خارج نافذة الغرفة التى كنا فيها.

وفى سجن طب نفسى، أبيض كله، مخصص لمرتكبى الجرائم من المرضى العقليين، يشغل بقعة خفية فى الغابة التى تعلو قمتها مستشفى بافلوف، رأيت مرتكبى جرائم قتل متسلسل راح ضحيتها فى إحدى الحالات أكثر من سبعة قتلى فى ليلة واحدة، كان القاتل المريض ينتزع حياتهم تباعا ودون سابق معرفة، فقد كان يركب قطارا كلما توقف فى محطة يهبط منه ليقتل ما يتيسر له، رجلا أو امرأة أو طفلا، ويعود هادئا وباردا وخاويا إلى القطار الذى نزل منه أو يصعد إلى قطار يليه، لمحطة قتل جديد. كان شابا وسيما وبادى الوداعة، لكنه ميت انفعاليا، فاقد البصيرة تماما، ومن ثم فاقد الندم.

القتل إثم كبير كبير كبير، ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا لا شك، لأنه انتزع حياة لا حق لأحد أن ينتزعها إلا خالقها، لهذا مهما ادعى القاتل من تماسك فإنه بقتله إنسانا يكون هو نفسه قد تحول إلى قتيل فى الحياة، إما قتيل بتبلد وذهول الجنون، أو قتيل فى قيعان الأسى والندامة والأسف، إلَّا ذلك الصنف من القاتل المتجول الآن فى هذه اللحظة المصرية الخَرِبة، الذى يزهو بعتامته بين الشاشات وعلى الأرض، وهو المتهم بارتكاب جريمة قتل أكثر من مائة مصرى، نصفهم جنود شرطة بؤساء يدَّعى أنه قتلهم لأنهم كانوا يقاتلون جماعته الإرهابية التى أدانت إرهابها بنفسها فيما يسمى «المراجعات» ونبذ العنف.

أما نصف المائة من المدنيين الذين قتلهم فهو لم يستطع تبرير قتلهم، لهذا منحهم صك «الشهادة»، وكأنه يُنعم عليهم بمنحة القتل!

هذا القاتل المتجول المزهو لا يزال بجرائم قتله، يعتبر جرائمه «اجتهادا»، بما يعنى أنه يؤجَر على اجتهاده، مرتين إن أصاب ومرة إن أخطأ! وفى مواجهة حملة «تمرد» المُطالِبة سلميا بسحب الثقة من رئيس لم يثبت على امتداد عام كامل من تسنمه سدة الحكم إلا أنه ينحدر بمصر من سيئ إلى أسوأ، أمنيا واقتصاديا وسياسيا، وأيا ما يكون وراء سوء أدائه، يظل مسئولا عما وصلت إليه البلاد من انحدار، وتيه، وتمزق اجتماعى وسياسى، ويكون طبيعيا أن يطالب الناس إما بتقويمه أو بذهابه عن الحكم.

وهو مطلب يكاد يستقطب الأغلبية المطلقة من المصريين، وفى مواجهة هذه الحملة السلمية، راحت تتصاعد أصوات من لم يعرفوا غير الإرهاب طريقا لفرض سوء تأويلاتهم للدين الحنيف على الحياة والناس، وبرز من هذا الجانب ذلك القاتل المُختال بظلمة تاريخه، بل صار رأس حربة الدفاع العدوانى عن ذلك الحكم، برفع لواء القتل الذى وضح أنه لم يعرف سبيلا غيره.

افتعل ذلك القاتل حملة مضادة لتمرُّد لم يَعْدَم فيها أتباعا يلتفون حوله، تعبيرا عن كراهة تسكن أغوار نفوسهم التى تبحث عن عدوٍّ للتنفيس عن عدوانية كوامنهم، ورفعوا شعارا يفضح جنوح تفكيرهم ومُضمَر نواياهم، قبضة ترسم علامة نصر وتحدد خطوطها رسوم دقيقة لرشاشات وبنادق ومدافع، فى إيماء واضح الدلالة عن نيتهم أو رغبتهم فى رفع السلاح وإطلاق النار فى مواجهة التحركات السلمية لرافضى أداء النظام الفاشل والمُمَزِّق لنسيج الأمة.

لقد كان لى موقف ثابت منذ سنين هو الإعراض عن التوقيع على البيانات السياسية لقناعتى بأنها وسيلة كسول لإثبات الحضور لا الفعالية، خاصة فى واقع عرفنا فيه سلطات لا تُصغى لصوت شعب ولا لصرخة أمة، متخذة أسلوب «قولوا ما تريدون ونحن نفعل ما نريد» فى النظام السابق، و«موتوا بغيظكم. جلدنا ثخين» فى النظام اللاحق.

وقد مكثت مُصِرَّا على هذا الإعراض عن توقيع البيانات حتى أيام مضت، لكننى عندما أرى قاتلا يقود مشاريع قتلة للخروج إلى مقتلة فى مواجهة حركة سلمية تجمع توقيعات بلا ضغوط ولا إغراءات، وقد وضح تلبيتها لرغبة ملايين المصريين، فإننى أتخلى عن إعراضى، وأوقع بنعم، ألف نعم، على استمارة تمرد.

ذلك القاتل الطليق المزهو بعتمته، والناضح بحقد أسود على البشر غير ذاته ومن معه، والذى لم نسمع له صوتا إلا مقرونا بالتهديد بالعنف والحض على الكراهية، يجعلنى أتحيز دون مواربة ولا تردد للمطالب السلمية بالتغيير، لأن الواقع فى حاجة فعلية للتغيير، وأوضح ما يجب تغييره هو ذلك الأداء الإخوانى الفاشل فى الحكم، المُفتِّت لوحدة الأمة وتوافق أبنائها، والمسئول الأول عن الاستقطاب الذميم فيها.

مُدمِّر مؤسساتها الوطنية لصالح التمكين غير العادل لغير الأكفاء من الجماعة والسائرين فى ركابها، ومُفشى العدوانية والتكريس للعنف فى الحياة السياسية المصرية، وليس أدل على ذلك الإفشاء من سكوته على تخرُّصات هذا القاتل المتجول، بل تنسيقه الكتيم وترحيبه اللئيم بتوظيف أمثاله فى تكتيكات سياسية انتهازية خطيرة على الأمة، لا بعد نظر وطنى فيها، ولا متانة أخلاقية، ولا نقاء دينى.

نعم لتمرد، ضد الخوف والكذب والفشل والاتجار بالدين والتهديد بالعنف، نعم لتمرد، تطلعا إلى دستور سوى يمثل كل أطياف الأمة، ودولة قانون ذات هيبة داخلية ومنعة خارجية، وتنمية لا يمكن أن تكون إلا بتوافق عام وحقوق مواطنة منصفة للجميع. نعم للحراك السياسى السلمى، ولا لإرهاب عَبَدة التسلط واحتكار السلطة. وفى حاضر مستقبله مهدد بهيمنة القتلة الخُيلائيين، لا يبقى شىء نخاف منه أو نخاف عليه. ولا حول ولا قوة إلا بالله.


المصدر





محمد المخزنجي
كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .


نعم لتمرد لا للقتلة بقلم د. محمد المخزنجي

نعم لتمرد لا للقتلة بقلم د. محمد المخزنجي

__________________
الحمد لله في السراء والضراء .. الحمد لله في المنع والعطاء .. الحمد لله في اليسر والبلاء


Save
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
نعم لتمرد لا للقتلة ، د. محمد المخزنجي ، مقالات ، مقالة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
محمد المخزنجي , الآتي , قصص قصيرة , حصريا من معرفتي معرفتي الروايات والقصص العربية 64 December 3, 2017 12:11 AM
لحظات غرق جزيرة الحوت - محمد المخزنجي - حصريا من معرفتي معرفتي الروايات والقصص العربية 13 February 11, 2014 11:18 AM
مصر بين القنادس بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 0 July 26, 2013 11:05 PM
جنوبا وشرقا: رحلات ورؤى لـ محمد المخزنجي محمد الدهشان أرشيف طلبات الكتب 3 January 29, 2013 02:44 AM
اليكي للشاعر محمد المخزنجي محمد المخزنجي شعر و نثر 0 October 26, 2008 12:05 PM


الساعة الآن 10:38 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر