فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > اقسام الحياة العامه > النصح و التوعيه

النصح و التوعيه مقالات , إرشادات , نصح , توعيه , فتاوي , احاديث , احكام فقهيه



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم July 27, 2012, 06:46 AM
 
فال رسول الله: «سبق المفردون»، قالوا: يا رسول الله، من المفردون؟ قال: ,,, الحديث


بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله القائل : }وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا{ والصلاة والسلام على الهادي البشير، القائل: «سبق المفردون»، قالوا: يا رسول الله، من المفردون؟ قال: }وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ{ وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد:
فإن أفضل ما ينطق به اللسان ويتحرك به الجنان : ذكر الله سبحانه وتعالى، من التسبيح والتحميد والتهليل وتلاوة كتابه العظيم، والصلاة والسلام على نبيه الكريم r، مع الإكثار من دعائه سبحانه وتعالى، إذا صاحب ذلك الإيمان الصادق والإخلاص، وحضور القلب حيث يستحضر الذاكر والداعي عظمة الله وقدرته.
أخي المسلم أختي المسلمة: إن المادة المختصرة التي بين يديك هي من كلام الإمام الرباني ابن قيم الجوزية، من عمله الفذ المسمى «الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب» الذي هو غزير المنفعة وبليغ العبارة ولطيف الإشارة إلى الأعمال القلبية والمعاني الإيمانية – أحببت اختصاره على فضل الذكر وفوائده، وذلك من باب قول النبي r : «الدين النصيحة» قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابة ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، ومن باب قول النبي r: «لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ومن باب قوله الرسول r: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله».
أسأل المولى تبارك وتعالى أن ينفع بهذا الكلم الطيب، كما أسأله سبحانه أن يجزي هذا الإمام الكبير عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
***
بيان فضل الذكر
قال r: «وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً، حتى إذا أتى إلى حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله».
فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة، لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهجاً بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده، فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله تعالى وتصاغر، وانقمع، حتى يكون كالوصع ([1]) وكالذباب، ولهذا سمي }الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ{، أي : يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله تعالى خنس، أي: كف وانقبض.
وقال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس.
وفي «مسند الإمام أحمد» عن معاذ ابن جبل قال : قال رسول الله r «ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل»
وقال معاذ: قال رسول الله r : «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «ذكر الله عز وجل»([2]).
في «صحيح مسلم»، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله r، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله r يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له : جمدان، فقال : «سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون». قيل : وما المفردون يارسول الله؟ قال «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات»([3]).
وفي «السنن» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله r : «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمارٍ، وكان عليهم حسرة»([4]).
وفي رواية الترمذي: «ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم»([5]).
وفي «صحيح مسلم» عن الأغر أبي مسلم قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد، أنهما شهدا على رسول الله r أنه قال: «لا يقعد قوم في مجلس يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده»([6]).
وفي «الترمذي» عن عبد الله بن بسر أن رجلاً قال : يا رسول الله، إن أبواب الخير كثيرة، ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تُكثر علىّ فأنسى. وفي روايه : إن شرائع الإسلام قد كثرت على، وأنا قد كبرت، فأخبرني بشيء أتشبث به. قال : «لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى»([7]).
وفي (صحيح البخاري)، عن أبي موسى، عن النبي r قال : «مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه. مثل الحي والميت» ([8]).
وفي (الصحيح) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r : «يقول الله تبارك وتعالى : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً، تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي، أتيته هرولة»([9]).
وفي (الترمذي) عن أنس، أن رسول الله r قال : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا : يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: «حلق الذكر»([10]).
وفي (الترمذي) أيضا عن النبي r، عن الله عز وجل أنه يقول : «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مُلاق قِرْنه».
وهذا الحديث هو فصل الخطاب في التفصيل بين الذاكر والمجاهد، فإن الذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد والمجاهد الغافل، والذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عن الله تعالى:
فأفضل الذاكرين المجاهدون، وأفضل المجاهدين الذاكرون.
قال الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{[الأنفال:45]. فأمرهم بالذكر الكثير والجهاد معاً، ليكونوا على رجاء من الفلاح، وقد قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا{[الأحزاب].
وقال تعالى: }وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ{[الأحزاب:35] أي: كثيراً.
وقال تعالى: }فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا{[البقرة:200].
ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفه عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله.
وذكر عن معاذ بن جبل يرفعه أيضا: «ليس تحسر أهل الجنة إلا على ساعةٍ مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها»([11]).
وقال رسول الله r : «كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمرا بمعروف، أو نهيا عن منكر، أو ذكرا لله عز وجل»([12]).
وعن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله r : أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل»([13]).
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه : لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل.
وذكر البيهقي مرفوعا من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي r أنه كان يقول : «لكل شيء صِقالة، وإن صقالة القلوب ذكر الله عز وجل، وما شيء أنجى من عذاب الله عز وجل ومن ذكر الله عز وجل» قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: «ولو أن يضرب بسيفه حتى ينقطع»([14]).
ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك الذكر صدئ، فإذا ذكره جلاه. وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر، فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته، كان الصدأ متراكباً على قلبه، وصدؤه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب، لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى بالباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم، فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه.
فإذا تراكم الصدأ واسودّ، وركبه الران، فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقاً، ولا ينكر باطلاً. وهذا أعظم عقوبات القلب.
وأصل ذلك من الغفلة، واتباع الهوى، فإنها يطمسان نور القلب ويعميان بصره.
قال تعالى: }وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا{[الكهف:28].
فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر، أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة، وأمره فرط، لم يُقتد به، ولم يتبعه فإنه يقوده إلى الهلاك.
***
فوائد الذكر
الفائدة (1) : أنه يَطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.
الفائدة (2) : أنه يرضي الرحمن عز وجل.
الفائدة (3) : أنه يزيل الهمّ والغمّ عن القلب.
الفائدة (4) : أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.
الفائدة (5) : أنه يقوي القلب والبدن.
الفائدة (6) : أنه ينور الوجه والقلب.
الفائدة (7) : أنه يجلب الرزق.
الفائدة (8) : أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة.
الفائدة (9) : أنه يُورثه المحبة التي هي روح الإسلام، وقطب رحي الدين، ومدار السعادة والنجاة، وقد جعل الله لكل شيء سبباً، وجعل سبب المحبة دوام الذكر، فمن أراد أن ينال محبة الله عز وجل، فليلهج بذكره فإنه الدرس والمذاكرة كما أنه باب العلم، فالذكر باب المحبة، وشارعها الأعظم، وصراطها الأقوم.
الفائدة (10) : أنه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعدة إلى الوصول إلى البيت.
الفائدة (11) : أنه يورثه الإنابة، وهي الرجوع إلى الله عز وجل، فمتى أكثر الرجوع إليه بذكره، أورثه ذلك رجوعه بقلبه إليه في كل أحواله، فيبقى الله عز وجل مفزعه وملجأه، وملاذه ومعاذه، وقبلة قلبه، ومهربة عند النوازل والبلايا.
الفائدة (12) : أنه يورثه القرب منه، فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه، وعلى قدر غفلته يكون بعده منه.
الفائدة (13) : أنه يفتح له باباً عظيماً من أبواب المعرفة، وكلما أكثر من الذكر ازداد من المعرفة.
الفائدة (14) : أنه يورثه لربه عز وجل وإجلاله، لشدة استيلائه على قلبه، وحضوره مع الله تعالى، بخلاف الغافل، فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه.
الفائدة (15) : أنه يورثه ذكر الله تعالى له، كما قال تعالى: }فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ{[البقرة:152] ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفي بها فضلا وشرفاً.
وقال r فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم».
الفائدة (16) :أنه يورث حياة القلب. وسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول : الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟
الفائدة (17) : أنه قوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته.
وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلى وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد هذا الغداء سقطت قوتي، أو كلاما قريبا من هذا. وقال لي مرة : لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر، أو كلاماً هذا معناه.
الفائدة (18) : أنه يورث جلاء القلب من صدئه.
الفائدة (19) : أنه يحط الخطايا ويذهبها، فإنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات.
الفائدة (20) : أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى، فإن الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشة لا تزول إلا بالذكر.
الفائدة (21) : أن ما يذكر به العبد ربه عز وجل من جلاله وتسبيحه وتحميده، يذكر بصاحبه عند الشدة، فقد روى الإمام أحمد في (المسند) عن النبي r أنه قال : «إن ما تذكرون من جلال الله عز وجل من التهليل والتكبير والتحميد يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرون بصاحبهن، أفلا يحب أحدكم أن يكون له ما يذكر به»([15])؟ هذا الحديث أو معناه.
الفائدة (22) : أن العبد إذا تعرف إلى الله تعالى بذكره في الرخاء، عرفه في الشدة.
الفائدة (23) : أنه منجاة من عذاب الله تعالى، كما قال معاذ رضي الله عنه. ويروي مرفوعاً : «ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله عز وجل من ذكر الله تعالى»([16]).
الفائدة (24) : أنه سبب نزول السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكر، كما أخبر به النبي r.
الفائدة (25) : أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والباطل، فإن العبد لابد له من أن يتكلم، فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذكر أوامره، تكلم بهذه المحرمات أو بعضها، ولا سبيل إلى السلامة منها البتة إلا بذكر الله تعالى.
الفائدة (26) : أن مجالس الذكر الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليتخير العبد أعجبهما إليه، وأولاهما به، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة.
الفائدة (27) : أنه يسعد الذاكر بذكره، ويسعد به جليسه، وهذا هو المبارك أين ما كان، والغافل واللاغي يشقى بلغوه وغفلته، ويشقى به مجالسه.
الفائدة (28) : أنه يؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة، فإن كان مجلس لا يذكر العبد فيه ربه تعالى كان عليه حسرة وترة يوم القيامة.
الفائدة (29) : أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه، والناس في حر الشمس قد صهرتهم في الموقف، وهذا الذاكر مستظل بظل عرش الرحمن عز وجل.
الفائدة (30) : أن الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين.
الفائدة (31) : أنه أيسر العبادات، وهو من أجلها وأفضلها، فإن حركة اللسان أخف الجوارح وأيسرها، ولو تحرك عضو من الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة، بل لا يمكنه ذلك.
الفائدة (32) : أنه غراس الجنة. قال رسول الله r : «لقيت ليلة أسرى بي إبراهيم الخليل عليه السلام فقال: يا محمد أقرئ أمتك [مني] السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»([17]).
ومن حديث أبي الزبير، عن جابر عن النبي r قال «من قال : سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة»([18]).
الفائدة (33) : أن العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال.
قال r: «من قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه، ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر»([19]).
وقال رسول الله r : «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس»([20]).
وفي (الترمذي) : «من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة»([21]).
الفائدة (34) : أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإن نسيان الرب سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها، قال تعالى: }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{[الحشر:19].
وإذا نسي العبد نفسه، أعرض عن مصالحها ونسيها، واشتغل عنها، فهلكت وفسدت ولابد، كمن له زرع أو بستان أو ماشية أو غير ذلك مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه، فأهمله ونسيه، واشتغل عنه بغيره، وضيع مصالحه، فإنه يفسد ولابد.
ولو لم يكن في فوائد الذكر وإدامته إلا هذه الفائدة وحدها، لكفى بها، فمن نسي الله تعالى أنساه نفسه في الدنيا، ونسيه في العذاب يوم القيامة، قال تعالى : }وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى{ [طه:124-125]. أي تنسى في العذاب كما نسيت آياتنا، فلم تذكرها ولم تعمل بما فيها.
ولو لم يكن إلا ما يجازى به المحسن: من انشراح صدره وانفساح قلبه وسروره، ولذته بمعاملة ربه عز وجل، وطاعته، وذكره، ونعيم روحه بمحبته وذكره، وفرحه بربه سبحانه وتعالى أعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه.
وما يجازي به المسيء : من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته، وحزازاته، وغمه وهمه، وحزنه، وخوفه، وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حسن وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق : عقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة.
والإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضى به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته: ثواب عاجل، وجنة، وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه ألبتة.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره، أو نحو هذا.
وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
فمحبة الله تعالى، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولى على هموم العبد وعزيمته وإرادته، هو جنة الدنية، والنعيم لا يشبه نعيم، وهو قرة عين المحبين، وحياة العارفين.
وإنما تقر أعين الناس بهم على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
الفائدة (35) : أن الذكر يُسيّر العبد وهو قاعد على فراشه، وفي سوقه، وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذته، ومعاشه وقيامه وقعوده، واضطجاعه وسفره وإقامته، فليس في الأعمال شيء يعم الأوقات والأحوال مثله، حتى إنه يسير العبد وهو نائم على فراشه، فيسبق القائم مع الغفلة، فيصبح هذا النائم وقد قطع الركب وهو مستلق على فراشه، ويصبح ذلك القائم الغافل في ساقة الركب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
الفائدة (36) : أن الذكر نور للذاكر في الدنيا، ونور له في قبره، ونور له في معاده، يسعى بين يديه على الصراط، فما استنارت القلوب والقبور بمثل ذلك الله تعالى:
قال الله تعالى: }أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا{[الأنعام:122].
فالأول هو المؤمن استنار بالإيمان بالله ومحبته ومعرفته وذكره والآخر هو الغافل عن الله تعالى، المعرض عن ذكره ومحبته، والشأن كل الشأن، والفلاح كل الفلاح، في النور، والشقاء كل الشقاء في فواته.
ولهذا كان النبي r يبالغ في سؤال ربه تبارك وتعالى حين يسأله أن يجعله في لحمه، وعظامه، وعصبه، وشعره، وبشره , وسمعه، وبصره، ومن فوقه، ومن تحته، وعن يمينه، وعن شماله، وخلفه , وأمامه، حتى يقول : «واجعلني نوراً» فسأل ربه تبارك وتعالى أن يجعل النور في ذراته الظاهرة والباطنة، وأن يجعله محيطا به من جميع جهاته، وأن يجعل ذاته وملته نوراً.
فدين الله عز وجل نور، وكتابه نور، ورسوله نور، وداره التي أعدها لأوليائه نور يتلألأ، وهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض، ومن أسمائه النور، وأشرقت الظلمات لنوره وجهه.
وقد ضرب سبحانه وتعالى النور في قلب عبده مثلاً لا يعقله إلا العالمون، فقال سبحانه وتعالى: }اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{[النور].
قال أبي بن كعب: مثل نوره في قلب المسلم، وهذا هو النور الذي أودعه في قلبه من معرفته ومحبته والإيمان به وذكره، وهو نوره الذي أنزله إليهم، فأحياهم به، وجعلهم يمشون به بين الناس، وأصله في قلوبهم، ثم تقوى مادته، فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم، بل وثيابهم ودورهم، يبصره من هو من جنسهم، وسائر الخلق له منكرون، فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور، وصار بإيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه، وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا، فمنهم من نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجم، وآخر كالسراج، وآخر يعطي نوراً على إبهام قدمه، يضيء مرة، ويطفأ مرة، إذا كانت هذه حال نوره في الدنيا فأعطي على الجسر بمقدار ذلك , بل هو نفس نوره ظهر له عياناً، ولما لم يكن لمنافق نور ثابت في الدنيا، بل كان نوره ظاهراً، لا باطناً، أعطي نوراً ظاهراً مآله إلى الظلمة والذهاب.
والمقصود : أن الله عز وجل لا يصعد إليه من الأعمال والأقوال والأرواح إلا ما كان منها نوراً، وأعظم الخلق نوراً أقربهم إليه وأكرمهم عليه.
فإذا أشرقت على القلب أنوار هذه الصفات، اضمحل عندها كل نور، وكذلك الذكر ينور القلب والوجه والأعضاء، وهو نور العبد في دنياه، وفي البرزخ، وفي القيامة.
العبد، تخرج أعماله وأقواله، ولها نور وبرهان، حتى إن من المؤمنين من يكون نور أعماله إذا صعدت إلى الله تبارك وتعالى كنور الشمس، وهكذا نور روحه إذا قدم بها على الله عز وجل، وهكذا يكون نوره الساعي بين يديه على الصراط، وهكذا يكون نور وجهه في القيامة، والله تعالى المستعان وعليه الاتكال.
الفائدة (37) : أن الذكر رأس الأمور، وطريق عامة الطائفة، ومنشور الولاية، فمن فتح له فيه فقد فتح له باب الدخول على الله عز وجل، فليتطهر وليدخل على ربه عز وجل يجد عنده كل ما يريد، فإن وجد ربه عز وجل وجد كل شيء، وإن فاته ربه عز وجل فاته كل شيء.
الفائدة (38) : أن في القلب خلة وفاقة لا يسدهما شيء ألبتة إلا ذكر الله عز وجل، فإذا صار الذكر شعار القلب، بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة واللسان تبع له، فهذا هو الذكر الذي يسد الخلة، ويغني الفاقة، فيكون صاحبه غنيا بلا مال، عزيزاً بلا عشيرة، مهيباً بلا سلطان، فإذا كان غافلا عن ذكر الله عز وجل، فهو بضد ذلك , فقير مع كثرة جدته، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته.
الفائدة (39) : أن الذكر يجمع المتفرق، ويفرق المجتمع، ويقرب البعيد، ويبعد القريب، فيجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته، وهمومه وعزومه، والعذاب كل العذاب في تفرقتها وتشتتها عليه، وانفراطها له.
والحياة والنعيم في اجتماع قلبه وهمه، وعزمه وإرادته، ويفرق ما اجتمع عليه من الهموم، والغموم، والأحزان، والحسرات على فوت حظوظه ومطالبه، ويفرق أيضاً ما اجتمع عليه من ذنوبه وخطاياه وأوزاره، حتى تتساقط عنه وتتلاشى وتضمحل، ويفرق أيضا ما اجتمع على حربه من جند الشيطان، فإن إبليس لا يزال يبعث له سرية بعد سرية، وكلما كان أقوى طلبا لله سبحانه وتعالى، وأشد تعلقا به وإرادة له، كانت السرية أكثف وأكثر وأعظم شوكة، بحسب ما عند العبد من مواد الخير والإرادة، ولا سبيل إلى تفريق هذا الجمع إلا بدوام الذكر.
وأما تقريبه البعيد، فإنه يقرب إليه الآخرة التي يبعدها منه الشيطان والأمل، فلا يزال يلهج بالذكر حتى كأنه قد دخلها وحصرها، فحينئذ تصغر في عينه الدنيا، وتعظم في قلبه الآخرة.
ويبعد القريب إليه وهي الدنيا التي هي أدنى إليه من الآخرة، فإن الآخرة متى قربت من قلبه بعدت منه الدنيا، كلما قرب من هذه مرحلة بعد من هذه مرحلة، ولا سبيل إلى هذا إلا بدوام الذكر، والله المستعان.
الفائدة (40) : أن الذكر ينبه القلب من نومه، ويوقظه من سنته، والقلب إذا كان نائما فاتته الأرباح والمتاجر، وكان الغالب عليه الخسران، فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر، وأحيا بقية عمره، واستدرك ما فاته، ولا تحصل يقظته إلا بالذكر، فإن الغفلة نوم ثقيل.
الفائدة (41) : أن الذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر وكلما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها، كان أعظم لثمرتها، فالذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد، وهو أصل كل مقام، وقاعدته التي ينبني ذلك المقام عليها، كما يقوم السقف على حائطه، وذلك أن العبد إن لم يستيقظ، لم يمكنه قطع منازل السير، ولا يستيقظ إلا بالذكر كما تقدم، فالغفلة نوم القلب أو موته.
الفائدة (42) : أن الذاكر قريب من مذكوره، ومذكوره معه، وهذه المعية معية خاصة غير معية العلم والإحاطة العامة، فهي معية بالقرب والولاية والمحبة والنصر والتوفيق، كقوله تعالى : }إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا{[النحل:128] }إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{[البقرة:249] }وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{[العنكبوت:69] }لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا{[التوبة:40] وللذاكر من هذه المعية نصيب وافر، كما في الحديث الإلهي : «أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه» ([22]).
الفائدة (43) : أن الذكر يعدل عتق الرقاب، ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله عز وجل، ويعدل الضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل، وقد تقدم أن «من قال في يوم مائة مرة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي...»الحديث ([23]).
وقيل لأبي الدرداء: إن رجلا أعتق مائة نسمة قال: إن مائة نسمة من مال رجل كثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل.
وقال ابن مسعود: لأن أسبح الله تعالى تسبيحات أحب إلى من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله عز وجل.
وقد تقدم حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله r : «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الورق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم»؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال : «ذكر الله». رواه ابن ماجة والترمذي، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ([24]).
الفائدة (44) : أن الذكر رأس الشكر، فما شكر الله تعالى من لم يذكره.
قلت: قالت عائشة : كان رسول الله r يذكر الله تعالى على كل أحيانه([25]).
ولم تستثن حالة من حالة، وهذا يدل على أنه كان يذكر ربه تعالى في كل حال طهارته وجنابته. وأما في حال التخلي فلم يكن يشاهده أحد يحكي عنه، ولكن شرع لأمته من الأذكار قبل التخلي وبعده ما يدل على مزيد الاعتناء بالذكر، وأنه لا يخل به عند قضاء الحاجة وبعدها، وكذلك شرع لأمته من الذكر عند الجماع أن يقول أحدهم : «بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا»([26]).
وقال النبي r لمعاذ : «والله يا معاذ إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» ([27]).
فجمع بين الذكر والشكر، كما جمع سبحانه وتعالى بينهما في قوله تعالى: }فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ{[البقرة:152] فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح.
الفائدة (45) : أن أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطباً بذكره، فإنه اتقاه في أمره ونهيه، وجعل ذكره شعاره، فالتقوى أوجبت له دخول الجنة والنجاة من النار، وهذا هو الثواب والأجر.
والذكر يوجب له القرب من الله عز وجل والزلفي لديه، وهذه هي المنزلة.
فائدة: عمال الآخرة على قسمين: منهم من يعمل على الأجر والثواب ومنهم من يعمل على المنزلة والدرجة.
فهو ينافس غيره في الوسيلة والمنزلة عند الله تعالى، ويسابق إلى القرب منه، وقد ذكر الله تعالى النوعين في سورة الحديد في قول الله تعالى: }إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ{ [الحديد:18] فهؤلاء أصحاب الأجور والثواب، ثم قال: }وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ{[الحديد:19] فهؤلاء أصحاب المنزلة والقرب، ثم قال: }وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ{[الحديد:19]، فقيل: هذا عطف على الخير من }الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ{[النور:62] أخبر عنهم بأنهم هم الصديقون، وأنهم الشهداء الذين يشهدون على الأمم، ثم أخبر عنهم بخبر آخر، أن لهم أجراً، وهو قوله تعالى: }لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ{فيكون قد أخبر عنهم بأربعة أمور:
أنهم صديقون، وشهداء. فهذه هي المرتبة والمنزلة. قيل : تم الكلام عند قوله تعالى: }الصِّدِّيقُونَ{ ثم ذكر بعد ذلك حال الشهداء فقال: }وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ{، فيكون قد ذكر المتصدقون أهل البر والإحسان، ثم المؤمنين الذين قد رسخ الإيمان في قلوبهم وامتلؤوا منه، فهم الصدّيقون، وهم أهل العلم والعمل، والأولون أهل البر والإحسان ولكن هؤلاء أكمل صدّيقيّة منهم.
ثم ذكر سبحانه الشهداء، وأنه تعالى يجري عليهم رزقهم ونورهم، لأنهم لما بذلوا أنفسهم لله تعالى أثابهم الله تعالى عليها، أن جعلهم أحياء عنده يرزقون، فيُجري عليهم رزقهم ونورهم، فهؤلاء السعداء.
ثم ذكر الأشقياء فقال: }وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ{[المائدة:10].
والمقصود: أنه سبحانه وتعالى ذكر أصحاب الأجور والمراتب، وهذان الأمران هما اللذان وعدهما فرعون السحرة إن غلبوا موسى عليه الصلاة والسلام، فقالوا: }أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ{[الشعراء:41-42]والمنزلة عندي والقرب مني.
فالعمال عملوا على الأجور، والعارفون عملوا على المراتب والمنزلة والزلفى عند الله، وأعمال هؤلاء القلبية أكثر من أعمال أولئك، وأعمال أولئك البدنية قد تكون أكثر من أعمال هؤلاء.
الفائدة (46) :أن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى:
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي، قال : أذبه بالذكر. وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة، اشتدت به القسوة، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل.
الفائدة (47) : أن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه، فالقلوب مريضة، وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله تعالى.
الفائدة (48) : أن الذكر أصل موالاة الله عز وجل ورأسها، والغفلة أصل معاداته ورأسها، فإن العبد لا يزال يذكر ربه عز وجل حتى يحبه فيواليه، ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه فيعاديه.
فهذه المعاداة سببها الغفلة، ولا تزال بالعبد حتى يكره ذكر الله ويكره من يذكره، فحينئذ يتخذه عدوا كما اتخذ الذاكر وليا.
الفائدة (49) : أنه ما استجلبت نعم الله عز وجل، واستدفعت نقمه بمثل ذكر الله تعالى، فالذكر جلاب للنعم، دافع للنقم، قال سبحانه وتعالى: }إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا{، وفي القراءة الأخرى: }إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ{ [الحج:38] فدفعه ودفاعه عنهم بحسب قوة إيمانهم وكماله، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله تعالى، فمن كان أكمل إيمانا، وأكثر ذكرا، كان دفع الله تعالى عنه ودفاعه أعظم، ومن نقص نقص ذكرا بذكر، ونسيانا بنسيان، وقال سبحانه وتعالى: }وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ{[إبراهيم:7].
قال بعض السلف رحمة الله عليهم: ما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن ذكرك.
الفائدة (50) : أن الذكر يوجب صلاة الله عز وجل وملائكته على الذاكر، ومن صلى الله تعالى عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح، وفاز كل الفوز، قال سبحانه وتعالى : }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا{[الأحزاب:41-43].
فهذه الصلاة منه تبارك وتعالى ومن ملائكته، إنما هي على الذاكرين له كثيرا، وهذه الصلاة منه ومن الملائكة هي سبب الإخراج لهم من الظلمات إلى النور، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله تبارك وتعالى وملائكته، وأخرجوهم من الظلمات إلى النور، فأي خير لم يحصل لهم بذلك؟ وأي شيء لم يندفع عنهم؟ فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حرموا من خيره وفضله، وبالله التوفيق.
الفائدة (51) : أن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا، فليستوطن مجالس الذكر، فإنها رياض الجنة.
الفائدة (52) أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، فليس من مجالس الدنيا لهم مجلس إلا مجلس يذكر الله تعالى فيه، كما أخرجا في (الصحيحين) من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة([28]).
فمجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس الغفلة مجالس الشياطين وكل مضاف إلى شكله وأشباهه، وكل امرئ يصير إلى ما يناسبه.
الفائدة (53) : أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته، كما روى مسلم في (صحيحه) عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال : ما أجلسكم؟ قالوا جلسنا نذكر الله تعالى. قال : الله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله r خرج على حلقة من أصحابه، فقال: «ما أجلسكم؟»
قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا. قال : «الله ما أجلسكم إلا ذاك» قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال : «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة».
فهذه المباهاة من الرب تبارك وتعالى دليل على شرف الذكر عنده، ومحبته به، وأن له مزية على غيره من الأعمال.
الفائدة (54) : أن مدمن الذكر يدخل الجنة وهو يضحك، عن أبي الدرداء قال : «الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله عز وجل يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك».
الفائدة (55) : أن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر الله تعالى، والمقصود بها تحصيل ذكر الله تعالى.
قال سبحانه وتعالى: }وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي{[طه:14].
وعن عائشة عن النبي r قال : «إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى»([29]).
وقال سبحانه: }اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ{[العنكبوت:45].
فقيل: المعنى: إنكم في الصلاة تذكرون الله، وهو ذاكر من ذكره، ولذكر الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه، وهذا يروى عن ابن عباس، وسلمان، وأبي الدرداء، وابن مسعود رضي الله عنهم.
وكان شيخ الإسلام أبو العباس قدس الله روحه يقول: الصحيح: أن معنى الآية : أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر، فإنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، هي مشتملة على ذكر الله تعالى، ولما فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر.
الفائدة (56) : أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكراً لله عز وجل، فأفضل الصوام، أكثرهم ذكراً لله عز وجل في صومهم، وأفضل المتصدقين، أكثرهم ذكرا لله عز وجل، وهكذا سائر الأعمال.
وقال عبيد بن عمير: إن أعظمكم هذا الليل أن تكابدوه، وبخلتم بالمال أن تنفقوه، وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه، فأكثروا من ذكر الله عز وجل.
الفائدة (57) : أن إدامة الذكر تنوب عن التطوعات، وتقوم مقامها، سواء كانت بدنية، أو مالية، أو بدنيه مالية، كحج التطوع.
وقد جاء ذلك صريحا في حديث أبي هريرة : أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله r فقالوا : يا رسول الله، ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم، يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون. فقال: «ألا أعملكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا أحد يكون أفضل منكم إلا من صنع ما صنعتم؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : «تسبحون، وتحمدون، وتكبرون خلف كل صلاة...» الحديث متفق عليه ([30]).
فجعل الذكر عوضا لهم عما فاتهم من الحج والعمرة والجهاد، وأخبر أنهم يسبقونهم بهذا الذكر، فلما سمع أهل الدثور بذلك عملوا به، فازدادوا – إلى صدقاتهم وعبادتهم بمالهم – التعبد بهذا الذكر، فحازوا الفضيلتين، فنافسهم الفقراء، وأخبروا رسول الله r بأنهم قد شاركوهم في ذلك، فانفردوا عنهم بما لا قدرة لهم عليهم، فقال : }ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ{.
الفائدة (58) : أن ذكر الله عز وجل من أكبر العون على طاعته، فإنه يحببها إلى العبد، ويسهلها عليه، ويلذذها له، ويجعلها قرة عينه فيها، ونعيمه وسروره بها، بحيث لا يجد لها من الكلفة والمشقة والثقل ما يجد الغافل، والتجربة شاهدة بذلك .
الفائدة (59) : أن ذكر الله عز وجل يسهل الصعب، وييسر العسير، ويخفف المشاق، فما ذكر الله عز وجل على صعب إلا هان، ولا على عسير إلا تيسر، ولا مشقة إلا خفت، ولا شدة إلا زالت، ولا كربة إلا انفرجت، فذكر الله تعالى هو الفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، والفرج بعد الغم والهم، توضحه.
الفائدة (60) : أن ذكر الله عز وجل يذهب عن القلب مخاوفه كلها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن، فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله عز وجل، إذ بحسب ذكره يجد الأمن ويزول خوفه، حتى كأن المخاوف التي يجدها أماناً له، والغافل خائف مع أمنه حتى كأن ما هو فيه من الأمن كله مخاوف، ومن له أدنى حسن وقد جرب هذا وهذا. والله المستعان.
الفائدة (61) : أن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يطق فعله بدونه.
وقد علم النبي r ابنته فاطمة وعليا رضي الله تعالى عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا أربعاً وثلاثين، لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك وقال : «إنه خير لكما من خادم» ([31]).
فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في بدنه مغنية عن خادم.
وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه، وإقدامه وكتابته، أمراً عجيباً، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه بالناسخ في جمعة وأثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمراً عظيماً.
الفائدة (62) : أن عمال الآخرة كلهم في مضمار السباق، والذاكرون هم أسبقهم في ذلك المضمار، ولكن القترة والغبار يمنع من رؤية سبقهم، فإذا انجلى الغبار وانكشف، رآهم الناس وقد حازوا قصب السبق.
الفائدة (63) : أن الذكر سبب لتصديق الرب عز وجل عبده، فإنه أخبر عن الله تعالى بأوصاف كماله ونعوت جلاله، فإذا أخبر بها العبد صدقه ربه، ومن صدّقه الله تعالى، لم يحشر مع الكاذبين، ورجي له أن يحشر مع الصادقين.
روى أبو إسحاق عن الأغر أبي مسلم، أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله r أنه قال «إذا قال العبد : لا إله إلا الله والله أكبر، قال : يقول الله تبارك وتعالى : صدق عبدي، لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال : لا إله إلا الله وحده، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال : صدق عبدي، لا إله إلا أنا، لا شريك لي، وإذا قال : لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال : صدق عبدي، لا إله إلا أنا، لي الملك ولي الحمد، وإذا قال : لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال : صدق عبدي لا إله إلا أنا، ولا حول ولا قوة إلا بي» قال أبو إسحاق : ثم قال الأغر شيئا لم أفهمه، قلت لأبي جعفر : ما قال؟ قال : «من رزقهن عند موته لم تمسه النار»([32]).
الفائدة (64) :أن دور الجنة تبني بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر، أمسكت الملائكة عن البناء. فإذا أخذ في الذكر أخذوا في البناء.
وكما أن بناءها بالذكر، فغراس بساتينها بالذكر، كما تقدم في حديث النبي r عن إبراهيم الخليل عليه السلام : «أن الجنة طيبة التربة، عذبه الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» فالذكر غراسها وبناؤها.
الفائدة (65) : أن الذكر سد بين العبد وبين جهنم، فإذا كانت له إلى جهنم طريق من عمل من الأعمال، كان الذكر سداً في تلك الطرق ن فإذا كان ذكراً دئماً كاملاً، كان سدا محكماً لا منفذ فيه، وإلا فبحسبه.
الفائدة (66) : أن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب، كما روى حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أجد في كتاب الله المنزل : أن العبد إذا قال : «الْحَمْدُ لِلَّهِ» قالت الملائكة : «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»، قالت الملائكة : «اللهم اغفر لعبدك»وإذا قال: «سبحان الله»، قالت الملائكة : «وبحمده» وإذا قال : «سبحان الله وبحمده» قالت الملائكة : «اللهم اغفر لعبدك» وإذا قال: «لا إله إلا الله» قالت الملائكة : «والله أكبر»، وإذا قال: «لا إله إلا الله والله أكبر» قالت الملائكة : «اللهم اغفر لعبدك».
الفائدة (67) : إن الجبال والقفار تتباهى، وتستبشر بمن يذكر الله عز وجل عليها.
قال ابن مسعود: إن الجبل لينادي الجبل باسمه: أمر بك اليوم أحد يذكر الله عز وجل؟ فإذا قال: نعم، استبشر.
الفائدة (68) : أن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق، فإن المنافقين قليلو الذكر لله عز وجل.
قال الله عز وجل في المنافقين: }وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا{[النساء:142].
وقال كعب: من أكثر ذكر الله عز وجل برئ من النفاق.
ولهذا – والله أعلم- ختم الله تعالى سورة المنافقين بقوله تعالى : }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{[الحشر:9] فإن في ذلك تحذيراً من فتنة المنافقين الذين غفلوا عن ذكر الله عز وجل، فوقعوا في النفاق.
الفائدة (69) : أن للذكر من بين الأعمال لذة لا تشبهها شيء، فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر، والنعيم الذي يحصل لقلبه لكفي به، ولهذا سميت مجالس الذكر : رياض الجنة.
قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل، فليس شيء من الأعمال أخف مؤونة منه، ولا أعظم لذة، ولا أكثر فرحة وابتهاجاً للقلب.
الفائدة (70) : أنه يكسو الوجه نضرة في الدنيا، ونوراً في الآخرة، فالذاكرون أنضر الناس وجوها في الدنيا، وأنورهم في الآخرة.
الفائدة (71) : أن في دوام الذكر في الطريق، والبيت، والحضر، والسفر، والبقاع، تكثيرا لشهود العبد يوم القيامة، فإن البقعة، والدار، والجبل، والأرض، تشهد للذاكر يوم القيامة.
عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله r هذه الآية : }يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا{، قال: «أتدرون ما أخبارها»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول : عمل يوم كذا كذا وكذا»([33]). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
الفائدة (72) : أن في الاشتغال بالذكر اشتغالاً عن الكلام الباطل من الغيبة، والنميمة، واللغو، ومدح الناس، وذمهم، وغير ذلك، فإن اللسان لا يسكت ألبتة.
فإما لسان ذاكر، وإما لسان لاغ، ولابد من أحدهما، فهي النفس إن لم تشغلها بالحق، شغلتك بالباطل، وهو القلب، إن لم تسكنه محبة الله عز وجل، سكنته محبة المخلوقين ولابد، وهو اللسان، إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو، وهو عليك ولابد، فاختر لنفسك الخطتين، وأنزلها في إحدى المنزلتين.
الفائدة (73) : وهي التي بدأنا بذكرها، وأشرنا إليها إشارة، فنذكرها هاهنا مبسوطة لعظيم الفائدة بها، وحاجة كل أحد، بل ضرورته إليها، وهي أن الشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه، فما ظنك برجل قد احتوشه أعداؤه المحنقون عليه غيظاً، وأحاطوا به , وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشر والأذين ولا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله عز وجل.
وكذلك الشيطان لا يحرز العباد أنفسهم منه إلا بذكر الله عز وجل، وفي الترمذي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله r: «من قال – يعني إذا خرج من بيته – بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له كُفيت وهُديت ووُقيت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر : كيف لك برجل قد هُدى وكُفي ووُقي»([34])؟
وقد تقدم قوله r : «من قال في يوم مائة مرة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كانت له حرزاً من الشيطان حتى يمسي».
وفي (صحيح البخاري) عن محمد بن سرين، عن أبي هريرة، قال: ولاني رسول الله r زكاة رمضان أن احتفظ بها، فأتاني آتٍ، فجعل يحثوا الطعام، فأخذته، فقال: دعني فإني لا أعود.. فذكر الحديث، وقال : فقال له في الثالثة : أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخلي سبيله، فأصبح، فأخبر النبي r بقوله، فقال «صدقك، وهو كذوب».
وفي (الصحيحين): من حديث سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس قال: قال رسول الله r : «أما لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فيولد بينهما ولد لا يضره شيطان أبداً».
وقد ثبت في (الصحيحين) أن الشيطان يهرب من الأذان.
قال r : «إن الشيطان إذا نودي بالصلاة، ولي وله حُصاص»([35])، وفي رواية : «إذا سمع النداء ولي وله ضُراط، حتى لا يسمع التأذين...» الحديث([36]).
***
أنواع الذكر
الذكر نوعان:
أحدهما: ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به تبارك وتعالى، وهذا أيضا نوعان:
أحدهما: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، وهذا النوع هو المذكور في الأحاديث، نحو : «سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا لله، والله أكبر»، «سبحان الله وبحمده» و «لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»، ونحو ذلك. فأفضل هذا النوع، أجمعه للثناء، وأعمه، نحو «سبحان الله عدد خلقه»، فهذا أفضل من مجرد «سبحان الله»وقولك : «الحمد لله عدد ما خلق في السماء، وعدد ما خلق في الأرض، وعدد ما بينهما، وعدد ما هو خالق» أفضل من مجرد قولك «الحمد لله».
وهذا في حديث جويرية، أن النبي r قال لها : «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنته: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، سبحان الله رضي نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته»([37]) رواه مسلم.
النوع الثاني: الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته، نحو قولك : الله عز وجل يسمع أصوات عباده، ويرى حركاتهم، ولا تخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وهو على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد، راحلته الواجد ([38]) ونحو ذلك.
وأفضل هذا النوع: الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به عليه رسول الله r من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، وهذا النوع أيضا ثلاثة أنواع : حمد، وثناء، ومجد.
فالحمد لله الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى، مع محبته والرضي به، فلا يكون المحب الساكت حامداً، ولا المثنى بلا محبة حامداً حتى تجتمع له المحبة والثناء، فإن كرر المحامد شيئاً بعد شيء كانت ثناء، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجداً.
وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول الفاتحة، «فإذا قال العبد» }الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ قال الله : حمدني عبدي، وإذا قال: }الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{، قال : أثنى علي عبدي، وإذا قال: }مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ{ قال : مجدني عبدي»
*النوع الثاني من الذكر: ذكر أمره ونهيه وأحكامه.
وهو أيضا نوعان:
أحدهما: ذكره بذلك إخباراً عنه بأنه أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط كذا، ورضي كذا.
والثاني: ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه، فذكر أمره ونهيه شيء، وذكره عند أمره ونهيه شيء آخر، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فذكره أفضل الذكر وأجله وأعظمه فائدة. فهذا الذكر من الفقه الأكبر، وما دونه أفضل الذكر إذا صحت فيه النية.
ومن ذكره سبحانه وتعالى: ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه، ومواقع فضله على عبيده، وهذا أيضا من أجل أنواع الذكر.
فهذه خمسة أنواع:
وهي تكون بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر، بالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية. وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة الثالثة.
فأفضل الذكر: ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده، لأن ذكر القلب يثمر المعرفة ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويزع عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئاً من هذه الآثار، وإن أثمر شيئا منها، فثمرة ضعيفة.
***
الذكر والدعاء
الذكر أفضل من الدعاء، لأن الذكر ثناء على الله عز وجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟
ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله تعالى، والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته، كما في حديث فضالة بن عبيد، أن رسول الله r سمع رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله تعالى، ولم يصل على النبي r، فقال رسول الله r : «لقد عجل هذا» ثم دعاه فقال له أو لغيره : «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه عز وجل والثناء عليه، ثم يصلي على النبي r، ثم يدعو بعد بما شاء»([39]).
وهكذا دعاء ذي النون عليه السلام الذي قال فيه النبي r : «دعوة أخي ذي النون، ما دعا بها مكروب إلا فرج كربته: }لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ{» وفي الترمذي : «دعوة أخي ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت }لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ{فإنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له»([40]).
وهكذا عامة الأدعية النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام.
ومنه قوله r: في دعاء الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم»([41]).
ومنه حديث بريدة الأسلمي، أن رسول الله r سمع رجلاً يدعو وهو يقول: «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد»، فقال : «والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى»([42]).
وروى أبو داود، والنسائي من حديث أنس أنه كان مع النبي r جالسا ورجل يصلي ثم دعا : «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم» فقال النبي r : «لقد دعا باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»([43]).
فأخبر النبي r أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه هذا الثناء والذكر، وأنه اسم الله الأعظم، فكان ذكر الله عز وجل والثناء عليه أنجح ما طلب به العبد حوائجه.
وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء، أنه يجعل الدعاء مستجاباً. فالدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء، أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته، وافتقاره واعترافه، كان أبلغ في الإجابة وأفضل، فإنه يكون قد توسل المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرض بل صرح بشده حاجته وضرورته وفقره ومسكنته، فهذا المقتضي منه، وأوصاف المسؤول مقتضى من الله، فاجتمع المقتضي من السائل، والمقتضي من المسؤول في الدعاء، وكان أبلغ وألطف موقعاً، وأتم معرفة وعبودية.
وأنت ترى في الشاهد – ولله المثل الأعلى – أن الرجل إذا توسل إلى من يريد معروفه بكرمه وجوده وبره، وذكر حاجته هو، وفقره ومسكنته،كان أعطف لقلب المسؤول، وأقرب لقضاء حاجته.
فإذا قال له: أنت جودك قد سارت به الركبان، وفضلك كالشمس لا تنكر، ونحو ذلك، وقد بلغت بي الحاجة والضرورة مبلغاً لا صبر معه، ونحو ذلك، كان أبلغ في قضاء حاجته من أن يقول ابتداء : أعطني كذا وكذا.
فإذا عرفت هذا، فتأمل قول موسى r في دعائه : }رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ{[القصص:24] وقول ذي النون r في دعائه }لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ{[الأنبياء:87]، وقول أبينا آدم r : }قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ{[الأعراف:23].
وفي (الصحيحين) : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : يارسول الله! علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»([44]).
فجمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر، بين الاعتراف بحاله، والتوسل إلى ربه عز وجل بفضله وجوده، وأنه المنفرد.
بغفران الذنوب، ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معاً، فهكذا أدب الدعاء وآداب العبودية.
***

قراءة القرآن أفضل من الذكر،
والذكر أفضل من الدعاء
هذا من حيث النظر إلى كل منهما مجرداً.
وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه، فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسميع والتحميد في محلهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك : «رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني»بين السجدتين أفضل من القراءة، وكذلك الذكر عقب السلام من الصلاة – ذكر التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد – أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن، والقول كما يقول أفضل من القراءة، وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله تعالى على خلقه، لكن لكل مقام مقام، متى فات مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره، أختلت الحكمة، وفاتت المصلحة المطلوبة منه.
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا إن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن، مثاله : أن يتفكر في ذنوبه، فيحدث ذلك له توبة واستغفار، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه.
وكذلك أيضا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء لها، اجتمع قلبه كله على الله تعالى، وأحدث له تضرعا وخشوعاً وابتهالا، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرا.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه.
فللعين موضع، وللرجل موضع، وللماء موضع، وللحم موضع، وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي، والله تعالى الموفق.
وهكذا الصابون والأشنان، أنفع للثوب في وقت، والتجمير وماء الورد وكيه أنفع له في وقت.
وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يوماً: سئل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد، التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقياً، فالبخور وماء الورد أنفع له، وإن كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له، فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟
ومن هذا الباب : أن سورة }قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث، والطلاق، والخلع، والعدد ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص.
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، كانت أفضل من كل القراءة والذكر والدعاء بمفرده، لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
فهذا أصل نافع جداً، يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها، لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها، فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها وإن كان ذلك وقته، فتفوته مصلحته بالكلية، لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثواباً وأعظم أجراً.
وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها، ومقاصدها، وفقه في إعطاء كل عمل منها حقه، وتنزيله في مرتبته، وتفويته لما هو أهم منه، أو تفويت ما هو أولى منه وأفضل، لإمكان تداركه، فالاشتغال به أولى – وهذا كترك القراءة لرد السلام، وتشميت العاطس – وإن كان القرآن أفضل، لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعود إلى الفاضل، بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة فاتته مصلحة رد السلام وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت. والله تعالى الموفق.
***


([1]) الوصع: طائر أصغر من العصفور.
([2]) رواه أحمد (5/239) و (صحيح الجامع) برقم (2629).
([3]) رواه مسلم (2676).
([4]) رواه أبو داود (4855) ، (الأحاديث الصحيحة).(74).
([5]) رواه الترمذي (3377) ، (الأحاديث الصحيحة). (74).
([6]) رواه مسلم (2700).
([7]) رواه الترمذي (3372)..
([8]) رواه البخاري (6407) ومسلم (779)..
([9]) رواه البخاري (6502) ومسلم (2675).
([10]) رواه الترمذي (3505) وأحمد (3/150)..
([11]) الترغيب والترهيب (2/401).
([12]) رواه الترمذي (2414) وابن ماجة (3974).
([13]) رواه ابن حبان (2318).
([14]) الترغيب والترهيب (2/395_96 3 ).
([15]) رواه أحمد (4/268 ، 271) وابن ماجة (3809).
([16]) رواه أحمد (5/239).
([17]) رواه الترمذي (3458) وفي (الأحاديث الصحيحة) (105). .
([18]) رواه الترمذي (3460) (الأحاديث الصحيحة) (64).
([19]) رواه البخاري (3293) ومسلم (2691).
([20]) رواه مسلم (2695).
([21]) رواه الترمذي (3424) وابن ماجة (2235).
([22]) البخاري تعليقا (13/499) واحمد (2/540) وابن ماجة (3792). .
([23]) تقدم تخريجه .
([24]) تقدم تخريجه.
([25]) رواه مسلم (373).
([26]) رواه البخاري (141)، ومسلم (1434).
([27]) رواه أبو داود (1522).
([28]) رواه مسلم (2701).
([29]) رواه أبو داود (1888).
([30]) رواه البخاري (843) ومسلم (595).
([31]) رواه البخاري (3113) ومسلم (2727).
([32]) رواه ابن ماجة (3794) والنسائي في (عمل اليوم والليلة) (30-32). .
([33]) رواه الترمذي (2559).
([34]) رواه الترمذي (3422)، وأبو داود (5095).
([35]) أي ضراط : وقيل : الحصاص : شدة العدو.
([36]) رواه البخاري (608) ومسلم (389).
([37]) رواه مسلم (2726).
([38]) أي إذا وجدها.
([39]) رواه أبو داود (1481) والترمذي (3473 و 3475).
([40]) رواه الترمذي (3500) والنسائي في (عمل اليوم والليلة) (656).
([41]) رواه البخاري (6345-6346) ومسلم (2730)..
([42]) رواه أبو داود (1493) والترمذي (3471).
([43]) رواه أبو داود (1495).
([44]) رواه البخاري (834) ومسلم (2705).
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من روائع سنن رسول الله في الصحة , تطبيق سنة رسول الله لتحيا بصحة أفضل امبراطورة الابتسامة مقالات طبية - الصحة العامة 12 December 24, 2011 03:17 PM
عبادات يسيرة أجورها كبيره قال الرسول(سبق المفردون قالو وما المفردون يارسول الله...... عيسى سالم سدحان النصح و التوعيه 2 December 20, 2010 11:58 AM
هل تريد ان تعرف صحة الحديث من ضعفه وهل نريد ان لا تكون من الكاذبين على رسول الله الان ادخل ولد المحيط النصح و التوعيه 3 December 21, 2009 04:26 PM
قالوا في رسول الله صدقي محمد النصح و التوعيه 0 August 1, 2008 01:56 PM
قالوا عن رسول الله خالد اشرف مقالات حادّه , مواضيع نقاش 5 February 3, 2008 11:44 PM


الساعة الآن 07:35 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر