فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الروايات والقصص > روايات و قصص منشورة ومنقولة

روايات و قصص منشورة ومنقولة تحميل روايات و قصص منوعة لمجموعة مميزة من الكتاب و الكاتبات المنشورة إلكترونيا



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم December 16, 2007, 08:27 PM
 
Smile الرواية البوليسية - لخورخي لويس بورخس

الرواية البوليسية - لخورخي لويس بورخس


ترجمها عن الاسبانية: وليد سليمان



لقد ألف “فان وايد بروكس” كتابا يحمل عنوان “ازدهار انجلترا” ((Flowering of England . ويعالج هذا الكتاب حدثا خارقا لا يستطيع تفسيره إلا علم الفلك: ظهور أناس عباقرة في منطقة محددة من الولايات المتحدة الأمريكية طوال النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولدي ميل واضح إلى إنجلترا الجديدة تلك التي ورثت العديد عن انجلترا القديمة ((Old England. وإنه من السهل على الإنسان أن يحرر قائمة لا حصر لها من الأسماء. فيمكننا ذكر إيميلي ديكنسون، وهرمان ملفيل، وثورو، وايمرسون، وويليام جيمس، وهنري جيمس وبالطبع إدغار بو الذي ولد في بوسطن عام 1809 على ما أعتقد- فتواريخي كما تعلمون غير يقينية. أن نتحدث عن الرواية البوليسية، يعني أن نتحدث عن إدغار بو الذي ابتكر هذا الجنس الأدبي؛ و لكن قبل الحديث عن الجنس الأدبي، ينبغي مناقشة مسألة أولية وهي: هل ثمة وجود للأجناس الأدبية أم لا؟
نعلم أن كروتشه قد قال في بعض صفحات كتابه: “الإستيطيقا” الملفت للانتباه- قال ما يلي:”إن التأكيد على أن كتابا ما هو رواية، أو أمثولة أو بحث في الإستيطيقا يعني، إلى حد ما، القول إن غلافه أصفر وإننا سنجده في الرف الثالث على اليسار”. أو بمعنى آخر، هو يلغي الأجناس [الأدبية] لصالح الأفراد. وينبغي أن نضيف إلى هذا، بالطبع، أن هؤلاء الأفراد رغم كونهم حقيقيين، فإننا بتمثلهم إنما نحشرهم ضمن جنس أو آخر. وعندما أتحدث على هذا النحو فإنني أنا نفسي أعمم تعميما قد لا يكون مسموحا به.
أن نفكر هو أن نعمم، ونحن نحتاج إلى تلك النماذج الجاهزة الهامة التي وضعها افلاطون لكي يتسنى لنا الجزم بأمر من الأمور. وإذن، لماذا لا نجزم بوجود أجناس أدبية؟ هنا، سأضيف ملاحظة شخصية: ربما تكون الأجناس الأدبية أقل اختلافا عن النصوص ذاتها منها عن الطريقة التي تقرأ بها النصوص. وتحتاج الظاهرة الإستيطيقية، لكي تتحقق، الى التقاء القارئ والنص. ومن العبث أن نفترض أن كتابا هو أكثر بكثير من كتاب. إنه يبدأ بالوجود عندما يفتحه القارئ. عندئذ تحدث الظاهرة الاستيطيقية التي يمكن أن تذكر بلحظة تصور العمل.
يوجد اليوم نموذج خاص من القراء، وهم قراء الروايات البوليسية. وهؤلاء القراء الذين نجدهم في كل بلدان العالم والذين يعدون بالملايين، أوجدهم إدغار بو. لنفترض لحظة أن هذا النموذج من القراء غير موجود، أو لنفترض شيئا أكثر أهمية: شخص بعيد جدا عنا، فارسي مثلا، أو ماليزي أو ريفي أو طفل، شخص نقول له إن “الكيخوته” رواية بوليسية؛ ولنفترض أن هذا الشخص الإفتراضي كان قد قرأ روايات بوليسية وأنه يبدأ بقراءة هذا الكتاب. فماذا سيقرأ في البداية؟
“في مكان من المانتشا لا أريد أن أتذكر اسمه، كان يعيش، منذ زمن غير بعيد، أحد النبلاء” …. وبالفعل ساورت الشكوك هذا القارئ، لأن قارئ الروايات البوليسية قارئ شكاك يقرأ بحذر فريد.
مثلا، عندما يقرأ: “في مكان من المانتشا” … فإنه يفترض، طبعا، ان الحكاية لا تدور في المانتشا، ثم: ” لا أريد أن أتذكر اسمه” … لماذا لم يشأ ثربانتس أن يتذكره؟ بلا شك لأنه كان هو القاتل، المذنب. ثم…” منذ زمن غير بعيد “… ربما تكون البقية أقل مدعاة للرعب مما قد نتصور.
لقد خلقت الرواية البوليسية نموذجا خاصا من القراء. وهذا ما ننساه عادة عندما نحكم على أدب إدغار بو؛ لأنه إذا كان إدغار بو قد خلق القصة البوليسية، فإنه قد خلق من ثمّ نموذج قراء الروايات البوليسية. لكي نفهم القصة البوليسية، ينبغي علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الإطار العام لحياة إدغار بو. أعتقد أنه كان شاعرا رومانسيا خارجا عن المألوف، وأنه كان أكثر بعدا عن المألوف في مجموع أعماله، من خلال الذكرى التي نحملها عنه، منه في صفحة معينة من صفحاته. وإنه لأكثر خروجا عن المألوف في نثره منه في شعره. ماذا نجد في قصائد إدغار بو؟ إننا نجد ما يسوغ رأي إيمرسون الذي سماه The Jingleman (الرجل الرنان)، رجل المقطع المتكرر أو “الترجيعة”. إنه “تينيسون” صغير، رغم أنه قد ترك لنا أبياتا جميلة جدا_ه. لقد ألقى “بو” بظلال متعددة. وما أكثر الأشياء التي تأتينا من عنده!
يمكننا القول ان هناك رجلان ما كان للأدب الحالي بدونهما أن يكون على ما هو عليه. هذان الرجلان هما أمريكيان عاشا في القرن الماضي: “والت ويتمان”- و منه أتى ما نسميه بالشعر الملتزم، شعر نيرودا مثلا، و غيرها من الأمور الحسنة والسيئة؛ ثم “إدغار بو” الذي منه تفرعت رمزية “بودلير”، تلميذه الذي كان يستحضره كل مساء. ومن “بو” نتج أمران يبدوان شديدي التباين وإن كانا عكس ذلك: إنهما متجاورين. إنها فكرة الأدب باعتباره حدثا فكريا والرواية البوليسية. الفكرة الأولى- اعتبار أن الأدب عملية فكرية وليست روحية- مهمة جدا. أما الفكرة الأخرى فهي ثانوية، رغم أنها ألهمت كتابا كبارا (أفكر في ستيفنسن وديكنز وشسترسون، أفضل ورثة “بو”). هذا الأدب يمكن أن يبدو من الدرجة الثانية وهو في الحقيقة قد وصل إلى مرحلة الأفول؛ فاليوم، قد تجاوز الخيال العلمي هذا الأدب وأخذ مكانه، الخيال العلمي الذي يمكن له أيضا أن يعتبر “ادغار بو” واحدا من آبائه المحتملين.
لنرجع إلى ما كنا نقوله في البداية، حول فكرة أن الشعر هو من ابتكار الفكر. هذا في تناقض مع كل التقاليد السابقة التي كانت تعتبر أن الشعر عملية روحية. لدينا واقعة “الإنجيل” الخارقة، مجموعة نصوص لكتّاب مختلفين، من أزمنة مختلفة، ذات مواضيع متعددة جدا لكن كلها ترجع إلى شخصية لا مرئية: الروح المقدس. و يفترض أن الروح المقدس، الإله أو ذكاء لا نهائي يملي أعمالا متنوعة على كتاب متعددين في بلدان متعددة وفي أزمنة متعددة. لدينا، مثلا محاورة ميتافيزيقية مع “كتاب جوب”، تأريخا مع “كتاب الملوك”، حكايات الآلهة مع سفر التكوين ونبوءات الرسل. كل هذه الأعمال مختلفة لكننا نقرؤها كما لو أن شخصا واحدا كتبها.
ربما من وجهة نظر وحدة الوجود، لا ينبغي علينا أن نأخذ بجدية واقع أن نكون الآن أفرادا مختلفين: نحن أعضاء مختلفين لألوهية متواصلة. بطريقة أخرى، الروح المقدس كتب كل الكتب، مثلما يقرأ كل الكتب ما دام موجودا في كل واحد منا، بدرجات مختلفة،.
لكن لنرجع إلى إدغار بو: انه رجل قد عاش، كما نعلم، حياة تعيسة. لقد مات في الأربعين، ونخره الكحول و السوداوية والعصاب. و ليس لنا أن ندخل في تفاصيل هذا العصاب؛ يكفينا أن نعرف أن “بو” كان تعيسا جدا وأنه عاش والشؤم قدره. ولكي يخلص نفسه منه، أخذ يمارس- على نحو مبالغ فيه ولا شك- قدراته الفكرية. كان “بو” يعتبر نفسه شاعرا رومانسيا عظيما، شاعرا رومانسيا عبقريا، خصوصا عندما لا يكتب شعرا، وانما يكتب النثر. وكذلك الشأن مثلا عندما كتب “مغامرات آرثر غوردن بيم”. لدينا هذا الاسم السكسوني الأول: آرثر، إدغار، والثاني اسكتلندي: غوردون، آلان ثم: بيم، بو، وهي أسماء متعادلة. كان “بو” يعتبر نفسه مفكرا، وكان “بيم” يتبجح بكونه رجل قادر على أن يناقش ويحكم على كل شيء. لقد كتب “بو” هذه القصيدة الشهيرة التي نعرفها جميعنا أكثر مما يجب لأنها ليست من أروع قصائده: “الغراب” . وألقى بعد ذلك محاضرة في بوسطن شرح فيها كيف عثر على موضوعها.
بدأ “بو” باستنتاج فضائل الترجيعة ثم فكر في أصوات اللغة الإنجليزية. لقد قال لنفسه ان الحرفين الأسهل حفظا والأكثر نجاعة في اللغة الإنجليزية هما “O” و “R”. ووجد في الحال عبارة Never more: لا شيء أبدا. هذا كل ما كان لديه في البداية. ثم برزت مشكلة: كان عليه أن يبرر تكرار هذه العبارة لأنه من غير المألوف أن يكرر إنسان، في آخر كل مقطع: (never more) . فقال لنفسه حينئذ انه ليس عليه أن يكون عقلانيا، وهذا حمله على تصور فكرة طائر يتكلم. لقد فكر في ببغاء، ولكن هذا الطائر ليست له القيمة المطلوبة في الشعر؛ عندئذ فكر في غراب. كان لديه إذن غراب يدعى “never more” و يكرر اسمه باستمرار. هذا كل ما كان لدى إدغار بو في البداية.
ثم قال لنفسه: أي شيء يمكن أن يحدث ويكون أكثر الأمور بؤسا وسوداوية؟ لا بد وأن الأمر يتعلق بموت فتاة جميلة. من سيتألم أكثر من غيره لحدث كهذا؟ بالطبع، عاشق هذه الفتاة. وهنا فكر في عاشق فقد للتو حبيبته التي تدعى لينور حتى يكون ثمة تجانس مع (never more) . أي يجب أن يوضع العاشق؟ هنا قال بو لنفسه: الغراب أسود. فأي شيء يبرز الأسود ؟ لا بد وأن يبرز على الأبيض. لنأخذ إذا بياض تمثال نصفي، وهذا التمثال لمن يمكن أن يكون؟ لنأخذ تمثال “بالاس أثينا”، وأين يمكن أن يوضع؟ في مكتبة. ويفسر إدغار بو انه لوحدة القصيدة، يحتاج إلى مكان مغلق.
إذن وضع تمثال مينرفا في مكتبة؛ و هناك كان يوجد العاشق، وحيدا، وسط الكتب. وكان ينتحب لموت حبيبته،more) so lovesick)؛ ثم يدخل الغراب. لماذا يدخل هذا الغراب؟ ما دامت المكتبة مكان هادئ، يجب ابراز اختلافها مع شيء ليس كذلك: لقد تخيل عاصفة، ليلة عاصفة دفعت الغراب للدخول إلى المكتبة.
يسأله الرجل عن اسمه والغراب يجيب Never more ، ثم إن الرجل يطرح عليه أسئلة، وهو يعذب نفسه بمازوشية، يجيب عنها جميعها: (never more, never more, never more) لا شيء أبدا، و يواصل طرح الأسئلة عليه. وفي الأخير، يقول الغراب ما يمكن لنا أن نعتبره التعبير المجازي الأول في القصيد: أنزل منقارك عن فؤادي وألق بصورتك بعيدا عن بابي؛ ويجيبه الغراب (الذي صار رمزا للذاكرة، الذاكرة الأبدية لسوء الحظ): never more)) .
و يعرف الرجل أنه محكوم عليه أن يقضي بقية حياته، حياته الخيالية، في الكلام مع الغراب الذي سيجيبه دائما “لا شيء أبدا”، وفي طرح أسئلة يعرف أجوبتها مسبقا. بتعبير آخر، يريد إدغار بو أن يجعلنا نصدق أنه كتب قصيدة فكرية؛ ولكن يكفي أن ننظر إلى الموضوع بتمعن أكثر حتى تستنتج أن ذلك خطأ. كان بإمكان إدغار بو تحقيق فكرته في أن يكون لاعقلانيا ليس باتخاذ غراب وإنما باتخاذ أبله أو سكير. كنا ستحصل حينئذ على قصيد مختلف تماما وأقل قابلية للفهم.
أعتقد أن بو كان فخورا بذكائه. لقد جعل نفسه يزدوج في شخصية اختار أن تكون بعيدة- تلك التي نعرفها كلنا والتي هي، بحق، صديقتنا رغم أنها لا تسعى إلى أن تكون كذلك: إنه نبيل يدعى: أوغست دوبان، أول مخبر في تاريخ الأدب. إنه نبيل فرنسي، أرستقراطي فقير جدا يسكن في حي معزول يقع في باريس، مع صديق.
لدينا هنا تقليد آخر من تقاليد الرواية البوليسية: يجب أن يتم الكشف عن السر بواسطة الذكاء، بفض سيرورة فكرية. الرجل فائق الذكاء الذي يحل اللغز يسمى هنا “دوبان”، وسوف يسمى بعد ذلك “شرلوك هولمز”، وفي مرة أخرى “الأب براون” وستكون له أسماء أخرى مشهورة. وأول كل هؤلاء، النموذج، أو المثال الأصلي(إن شئنا)، هو “شارل أوغست دوبان” الذي يعيش مع صديق، وهذا الصديق هو الذي يروي الحكاية. وهذا أيضا يدخل ضمن التقليد وسوف يستعمل مجددا بعد فترة طويلة من وفاة إدغار بو من قبل الكتاب الأيرلندي “كونان دويل”. و كونان دويل يستعيد هذا الموضوع، الجذاب في حد ذاته، عن الصداقة بين شخصين مختلفين، والذي يرتبط من بعض النواحي بموضوع الصداقة بين “دون كيخوته وسانتشو بانثا، ولكن هذين الشخصين لن يصلا أبدا إلى صداقة كاملة. و سنجد هذا الموضوع في “كيم”، من خلال الصداقة بين الطفل والراهب الهندوسي، وفي “دون سيغوندو سمبرا”، في الصداقة بين راعي المواشي و الشاب. إنه موضوع يتعدد في الأدب الأرجنتيني، موضوع الصداقة الذي نجده في كتب “غوتيريث” الكثيرة.
يتخيل كونان دويل شخصية بلهاء بعض الشيء، ذات ذكاء أدنى بقليل من ذكاء القارئ ويسميها الدكتور “واطسن”؛ والشخصية الأخرى هزلية الى حد ما مع كونها تبعث الى حد على الاحترام: إنه شرلوك هولمز. ويتدبر كونان دويل أمره بحيث تروى إنجازات شرلوك هولمز من قبل صديقه واطسن الذي لا يكف عن التعجب، والذي يترك ظواهر الأشياء تخدعه، و يترك شرلوك هولمز يتحكم فيه لأنه يحب أن يتحكم فيه.
كل هذه العناصر موجودة بالفعل في القصة البوليسية الأولى التي كتبها إدغار بو من غير أن يعرف انه كان يدشن جنسا أدبيا وعنوانها: “جريمة مزدوجة في شارع مورغ”. ولم يكن إدغار بو يريد أن يكون النوع البوليسي نوعا واقعيا بل نوعا فكريا، أو نوعا فانتاستيكيا ان شئنا، ولكنه جنس فانتاستيكي يقوم على الذكاء و ليس فقط على الخيال. يقوم على الاثنين، بالتأكيد، ولكن خصوصا على الذكاء.
كان بامكانه أن يجعل أحداث جرائمه ومخبريه في نيويورك، ولكن القارئ عندئذ كان يمكن أن يتساءل ان كانت الأمور بالفعل على ذلك النحو، وان كانت الشرطة الأمريكية على ذلك النحو أو على نحو آخر. كان أيسر على إدغار بو، ومخيلته ترتاح أكثر عندما تقع الأحداث في باريس، في حي شبه مهجور يقع في ناحية “سان جرمان دو يري”. ولذلك كان أول مخبر في الرواية البوليسية غريب. أول مخبر يسجله الأدب فرنسي. لماذا فرنسي؟ لأن الكاتب الذي يكتب العمل أمريكي ويحتاج الى شخصية تعيش في مكان آخر. ولكي يجعل شخصياته أكثر مدعاة للتعجب، جعلهم يعيشون لا نحو مختلف عن باقي البشر. في الفجر، يغلقون مصاريع نوافذهم أو يشعلون شموعهم، ومع قدوم المساء يسيرون في شوارع باريس المقفرة بحثا عن هذا “الأزرق اللانهائي”، كما يقول إدغار بو، الذي لا تقدمه إلا مدينة كبيرة نائمة. أن يكون هناك في الوقت نفسه انطباع بالزحام والعزلة، هذا لا يمكن له إلا أن يشحذ الفكر.
أتخيل الصديقين وهما يعبران شوارع باريس المقفرة، في الليل، ويتحادثان- عن ماذا؟ يتحادثان في الفلسفة، ويتناقشان في مواضيع فكرية. ثم تأتي الجريمة، هذه الجريمة التي هي الأولى في الأدب الخيالي: قتل امرأتين. سأترجم the murders ب”جرائم”، جرائم شارع مورغ، فكلمة “جريمة” أقوى من كلمة “قتل”. وهاهي الحكاية: امرأتان قتلتا في حجرة كان يبدو من المستحيل الدخول إليها. وهنا يدشن إدغار بو لغز الغرفة المغلقة بمفتاح. إحدى المرأتين خنقت، والأخرى ذبحت بموس حلاقة. ثمة الكثير من المال، أربعون ألف فرنك مبعثرة على الأرض، كل شيء ملقى على الأرض، كل شيء يوحي بالجنون. يعني أنه عندنا بداية عنيفة، بل رهبية، ثم، في النهاية، يظهر الحل.
ولكن هذا الحل ليس كذلك بالنسبة الينا، لأننا نعرف الموضوع بأكمله قبل قراءة قصة إدغار بو. وهذا بالطبع، ينقص كثيرا من قوتها. (وهو ما يحدث في “الحالة الغريبة للدكتور جيكل والمستر هايد”): نعرف أن الاثنين هما شخص واحد، ولكن وحدهم قراء “ستفنسن”، وهو تلميذ آخر لإدغار بو، من شأنهم أن يعرفوا ذلك. إن كان يحدثنا عن الحالة الغريبة للدكتور جيكل والمستر هايد، فإنه يقدم منذ البداية ثنائية في الأشخاص.) من كان ليفكر، والحال تلك، أن يكون القاتل ، قردا من نوع الأورانغ-أوتانغ ؟
لقد تم حل اللغز بفضل حيلة: شهادة الناس الذين دخلوا الغرفة قبل انكشاف الجريمة. كلهم سمعوا صوتا فيه بحة- زعم أحدهم إنه صوت شخص فرنسي، بل أنه تعرف على بعض الكلمات-، صوت لا ينطق المقاطع، صوت قال عنه الآخرون انه غريب. الأسباني يظن أنه ألماني، والألماني هولندي، والهولندي إيطالي الخ… هذا الصوت هو صوت لاإنساني لقرد. ثم نكتشف الجريمة؛ نكتشفها غير أننا نعرف من البداية حل اللغز.
وهذا ما يقودنا الى انتقاد إدغار بو، عند التفكير في أن حبكة هذه الأحداث هي من الرهافة بحيث تبدو شفافة. وإنها لكذلك بالنسبة الينا نحن الذين نعرفها مسبقا، ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة لقراء القصص البوليسية الأوائل الذين لم تكن لهم خبرتنا بالرواية البوليسية، والذين لم يكن لهم الذهن المدرب من قبل إدغار بو مثلما هو الشأن بالنسبة الينا. أما نحن، عندما نقرأ رواية بوليسية، فاننا نكون من اختراع إدغار بو. الأوائل الذين قرؤوا هذه القصة شعروا بالحماس ثم أتت كل القصص الأخرى.
لقد ترك لنا بو خمسة نماذج من نفس الجنس، احداها: “شيطان الفساد”، وهي الأقل قوة من بين الجميع، ولكن قلدها بعد ذلك “إزرائيل زنغويل” في The Big Bow Murder، وهو نص يستعيد فكرة الجريمة المقترفة في حجرة مغلقة. لدينا هنا شخصية القاتل الذي سنجده مرة أخرى في “سر الغرفة الخضراء” ل”غاستون ليرو”: في الواقع، المخبر هو القاتل في حد ذاته. ثم ستأتي “الرسالة المسروقة” و”القملة الذهبية” اللذان هما من الروائع. في”الرسالة المسروقة”، الموضوع بسيط جدا. فالأمر يتعلق برسالة سرقها وزير، والشرطة تعلم أنها في حوزته. وترسل من يهاجمه مرتين في الشارع. ثم تقوم بتفتيش منزله. و حتى لا يفلت منها شيء، يتم تفتيش الفندق غرفة غرفة. والشرطة مجهزة بمجهر وعدسات مكبرة. وتم تصفح كل كتاب في المكتبة، وتم تفحص التجليد، وتم البحث عن آثار غبار على الأرضية الخشبية. ثم يتدخل دوبان. ويقول ان الشرطة قد سلكت طريقا خاطئا، وانها تفكر مثل طفل يظن أنه ثمة شيء مخبأ في مخبأ ما. الا ان الواقع مختلف تماما. يزور دوبان رجل السياسة الذي هو أحد أصدقائه ويبصر خلف مكتبه، على مرأى الجميع، ظرفا ممزقا. ويفهم أنها الرسالة التي يبحث عنها الجميع. وتتمثل الفكرة في اخفاء شيء على نحو ظاهر، وفي جعل موضوع على درجة من الوضوح بحيث تصبح ملاحظته غير ممكنة. وعلاوة على ذلك، يضع إدغار بو، لكي يجعلنا نحس إلى أية درجة تعتبر الرواية البوليسية جنسا أدبيا فكريا، في بداية كل قصة استطرادات حول التحليل، ومناقشة حول الشطرنج، أو يتحدث عن تفوق لعبة الهويست (Whist) أو لعبة الضامة.
لقد ترك لنا بو اذن هذه القصص الخمس، ثم “سر ماري روجيت” التي هي أغرب قصصه ولكن أقلها أهمية عند القراءة. انها جريمة ارتكبت في نيويورك: لقد تم قتل فتاة تدعى ماري روجيت. لقد كانت بائعة أزهار على ما أعتقد. لقد التقط بو هذه الحادثة من الجرائد. ويجعل أحداث الجريمة تقع في باريس، ويطلق على الفتاة اسم ماري روجيت ثم يقترح الطريقة التي ارتكبت بها الجريمة. وفي الواقع، سيتم التوصل الى القاتل بعد سنوات عديدة وكل شيء سيتطابق مع ما كتبه بو.
لدينا اذن القصة البوليسية الذي يعتبر جنسا أدبيا فكريا. يتم اكتشاف جريمة من قبل شخص يفكر على نحو مجرد وليس من خلال وشاية أو خراقات يرتكبها المجرمون. لقد كان ادغتر بو يعرف ان ما يكتبه ليس واقعيا، ولذلك اتخذ باريس إطارا لأحداثه. ولذلك فان الرجل الذي يفكر ارستقراطي، وليس شرطيا. ولذلك يضع الشرطة في موقف يجعلها تبدو سخيفة. وبتعبير آخر ، ابتكر بو عبقرية الفكر. فماذا حدث بعد وفاة ادغار بو؟ لقد مات ، على ما أعتقد، عام 1849. وقد كتب والت وايتمان، معاصره الآخر الكبير مقالة تأبينية يقول فيها ان “بو كان عازف بيانو لا يحذق إلا الأصوات الخشنة، وانه لم يكن يمثل الديمقراطية الأمريكية”- وهو الأمر الذي لم يحاول بو فعله أبدا. لقد ظلمه وايتمان مثله مثل ايمرسون.
بعض النقاد الأدبيين، اليوم، يبخسونه قدره. ولكني أعتقد أن أعمال بو في مجملها، هي أعمال عبقري، حتى وان كانت قصصه، باستثناء “مغامرات أرثر غوردون بيم”، تشتمل على عيوب. وجميعها، في ما عدا ذلك، تكون شخصية تعيش بعيدا عن الشخصيات التي خلقها، تعيش بعيدا عن أوغست دوبان ، بعيدا عن الجرائم وعن الألغاز التي لم تعد تخيفنا اليوم.
في انجلترا، حيث يتم تناول النوع البوليسي من وجهة النظر النفسية، لدينا أفضل الروايات البوليسية التي كتب: روايات “ويلكي كولينز”، “المرأة المتشحة بالأبيض” و”حجر القمر”. ثم هناك شسترتون، أكبر وريث لبو. لقد قال شسترتون انه لم تكتب قصصا بوليسية تتفوق على قصص بو، ولكن هو نفسه – يبدو لي- يتفوق عليه. لقد كتب بو حكايات فانتاستيكية خالصة. مثلا، “قناع الموت الأحمر”، أو “برميل أمونتيادو”، ثم حكايات تعتمد على التفكير مثل القصص البوليسية الخمس التي تحدثنا عنها. ولكن شسترتون قد فعل شيئا مختلفا، لقد كتب قصصا هي حكايات فانتاستيكية تنتهي مثل روايات بوليسية. سأذكر منها: “الرجل الخفي”، التي تشرت في العام 1905 أو 1908.
هو ذا الموضوع محكي باختصار: إن الأمر يتعلق برجل يصنع رجالا آليين- طهاة، منظفون، خادمات، ميكانيكيون- و يسكن شقة في منزل يقع على هضبة تغطيها الثلوج في لندن، وهو يتلقى تهديدات بالموت- إنه رجل فقير جدا، وهذا مهم جدا لبقية الحكاية. إنه يعيش وحيدا مع خدمه الميكانيكيين، وهو ما يمثل في ذاته شيئا رهيبا. رجل يعيش وحيدا، محاطا بآلات تقلد على نحو مبهم الأشكال الإنسانية. وينتهي بتلقي رسالة يخبر فيها بأنه سيموت بعد الظهر. ينادي أصدقائه الذين يعلمون الشرطة و يترك وحيدا مع آلاته لكن يطلب قبل ذلك من بوابه أن يراقب ما إذا كان شخصا قد يدخل العمارة. و عهد به إلى policemen (رجل الشرطة) وبائع كستناء. لقد وعد الثلاثة بأن يحرسوه. و عندما عاد أصدقائه مع الشرطة، لاحظوا أنه يوجد آثار أقدام على الثلج، تلك التي تذهب إلى المنزل خفيفة و تلك التي تأتي منه أكثر عمقا كما لو كانت تحمل حملا ثقيلا. دخلوا إلى الشقة و اكتشفوا اختفاء صانع الآلات. ثو رأوا رمادا في المدفأة. و هنا يبرز أقوى ما في القصة، الشك في أن الرجل قد دمر من قبل آلاته. و هذا أكثر ما يدهشنا. هذا يدهشنا أكثر ممن معرفة الحقيقة. لقد دخل القاتل إلى المنزل، و قد رآه بائع الكستنة، و policemen (الشرطي) و البواب، لكن هؤلاء لم يتعرفوا عليه لأنه كان ساعي البريد الذي كان يمر كل ظهيرة في نفس الساعة. لقد قتل ضحيته، ووضعه في كيس الرسائل و ذهب، “الأب براون” يراه، و يثرثر معه و ينصت لاعترافه و يعفو عنه، ذلك أنه في قصص “شستركون” لا يوجد لا إيقاف و لا عنف.
اليوم يشهد الجنس البوليسي تراجعا (انحطاطا) في الولايات المتحدة. لقد أصبح جنسا واقعيا، مليئا بالعنف، باعتبار العنف الجنسي. على كل حال نسيت الأصول الفكرية للقصة البوليسية، و اختفت بشكل مطلق. و بقي في انجلترا حيث مازالت تكتب روايات هادئة تقع أحداثها في قرية إنجليزية: هناك، كل شيء يسبح في جو فكري، هادىء، بلا عنف، و لا سفك للدماء.
لقد…. أنا نفس الجنس البوليسي، و لست فخورا جدا بالشيعة.
لقد وضعته في عالم من الرموز ربما لا يناسبه. لقد كتب “الموت والبوصلة”، و بعض القصص البوليسية مع “بيوي كاسارس”، الذي قصصه متفوقة كثيرا على قصصي. لقد كتبنا معا “المسائل الست للدون ايزيدور بارودي”، وهو سجين يحل الألغاز البوليسية من سجنه.
ماذا نستطيع أن نقول في مدح الجنس البوليسي؟ شيء يقيني وبديهي جدا: أدبنا يتجه نحو “الفوضى”. الميل إلى الشعر الحر لأنه أسهل من الشعر التقليدي الذي، والحق يقال، صعب جدا. اننا نميل إلى حذف الشخصيات، الحجج، كل شيء شديد الغموض لا يقام، في زمننا الفوضوي جدا، شيء يتواضح، حافظ على فضائله الكلاسيكية؛ إنها الرواية البوليسية. لا تتصور في الواقع، رواية بوليسية ليست لها بداية، وسط و نهاية. و هته الروايات كتبها كتاب من الدرجة الثانية باستثناء بعضها التي نحن مدينون بها لكتاب كبار مثل “ديكنز”، “ستفنسون” خصوصا، ويلكي كولينز. سأقول لكي أدافع عن الرواية البوليسية، انها لا تحتاج لأن يدافع عنها. انها تقرأ اليوم ببعض الازدراء، ولكنها في المقابل تحافظ على النظام في زمن الفوضى، إنه إنجاز يستحق منا الاعتراف وهو لا يخلو من استحقاق.

منقول للفائدة
__________________
رد مع اقتباس
  #2  
قديم December 2, 2008, 10:33 PM
 
رد: الرواية البوليسية - لخورخي لويس بورخس

شكرا لجهودكم
رد مع اقتباس
  #3  
قديم December 4, 2008, 12:50 AM
 
Star رد: الرواية البوليسية - لخورخي لويس بورخس

شكرا
__________________

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
لخورخي, أنيس, البوليسية, الرواية, توريس

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تحميل الرواية الممنوعه أولاد حارتنا ، نجيب محفوظ ، pdf بو نايف الروايات والقصص العربية 114 June 3, 2018 07:11 PM
الرواية العالمية دورة المذءوب لستيفن كنج الاستاذ سيف كتب الادب العربي و الغربي 3 July 6, 2009 03:36 PM
الرواية التي كتبت بالزنزانة رقم 198- لا - مصطفى امين advocate الروايات والقصص العربية 2 December 15, 2007 08:12 PM
مؤجز اخباري 8/11/2007م TrNeDo قناة الاخبار اليومية 1 November 8, 2007 09:52 PM


الساعة الآن 08:51 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر