|
LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||
|
||
ظل الافعى , د.يوسف زيدان
إلـى مَـىّ .. ابنتـى ، وجدَّتى . إلمــاحٌ وقعت أحداثُ هذه الرواية ، جميعُها ، فى الليلة التى يُسفر صباحُها عن يوم الثلاثاء الموافق للتاسع من ذى القعدة سنة 1441 هجرية .. الموافق أيضاً للثلاثين من يونيو سنة 2020 ميلادية ، وهى سنة 1736 القبطية المصرية ، وسنة 2012 القبطية الأثيوبية ، وسنة 1399 الشمسية الفارسية، وسنة 5780 بحسب التأريخ التوراتى البادئ من آدم اليهود .. وقد نشرتها ، عملاً بالحديث الشريف : ألا لا يمنعنَّ رجلاً هيبةُ الناسِ ، أن يقول بحقٍّ إذا عَلِمه (رواه الإمام أحمد فى المسند والترمذى فى السنن ، عن أبى سعيد الخدرى) - آخرتها إيه يا عبده ، يا غلبان . قالها فى نفسه هامساً ، ساعة الغروب ، وهو يصعد الدرجة الثالثة من سُلَّم منـزله المكوَّن من طابقين ، فقط . منـزله المتكوِّم بلا هيبة ، القابع بلا حضور متميِّز فى المكان ، ومن حوله استطالت العمارات ، حتى بدا سطحُ المنـزل مثل قاعٍ عميقٍ لبئرٍ لم يحفرها أحد ، ومثل فِنَاءٍ خلفىٍّ للشواهق الثلاثة القبيحة التى أحاطت به بإحكامٍ خانق . حتى النوافذ التى فتحها سكان الشواهق المحيطة ، لتطل على الفراغ المستقر فوق سقف المنـزل ، أُغلقت ، بعد الواقعة المشهورة التى رفعت رأس عبده بين جيرانه الثقلاء ، الجاثمين على روحه . ما علينا من كل ذلك ، فالمهم الآن هو حسم الأمر المعلَّق منذ فترة ، فقد طال الصبرُ حتى تقطَّعت أوصاله . عند الدرجة العاشرة من السُّلَّم الرخامىِّ ، المسيَّجة حوافه بقضبان صدئة . رأى شقة الدور الأول ، المظلمة، المغلقة منذ وفاة جدته العجوز ، المحطَّمة . قضت هذه المرأة السنوات العشرة الأخيرة من عمرها ، لاتتحدث إلا عن فضائل زوجها ، وعن إنجازاته التى أهمها تشييد هذا المنـزل منتصف القرن الماضى، العشرين . كان المرحوم قد شيَّده وسط فراغٍ رملىٍّ ، جعل المنـزل يبدو آنذاك من بعيدٍ ، كصرحٍ أنيق .. ناءٍ .. متوحِّدٍ بطرازه المعمارى الذى لاشخصية له . ومن حوله دار شريطٌ لايزيد عرضه عن مترين ، إلا من ناحية الواجهة الخارجية . يصل العرض هناك إلى ثلاثة أمتار . الشريط المحيط بالمنـزل ، كان فيما سبق حديقة ، وصارت أرضُه الآن جَرْداءَ قاحلةً كالحقيقة . تنهَّد عبده لحظةَ أن لمح صدأ القطع النحاسية التى كانت قبل عقودٍ من الزمان ، تزيِّن باب الشقة . تذكر يومىْ وفاة جَـدِّه ، وجدَّته . كلاهما مات فى صحةٍ مقبولةٍ بالنسبة لمن يناهز الثمانين ؟ صحة الجدِّ بالطبع ، كانت أفضل .. أىُّ شئٍ ذلك الذى انطوى بموتهما . سأل نفسه : أتراهما اليوم ينعمان ، معاً، بسكينة الخلود، ويرتعان فى رياض الجنة ؟ جاوب نفسه بما معناه: ربما يرتع الجدُّ، أما الجدَّة فلا يبدو من حياتها المديدة ، الفارغة ، أنها عملت شيئاً تستحق به الخلود والرتع . وما الذى سيخلد منها بالضبط ! وهى التى قضت الأعوام الثلاثين الأخيرة من عمرها ، لاتضحك ولا تبكى . لم يرها طيلة عمره ، خارجةً عن مألوفها ، المحايد، الساكن دوماً. غير أنها انفعلت مرةً، وصرخت فى وجهه بارتجافةٍ شديدةٍِ ، يوم همس فى أذنها بأن جده لم يحسن اختيار موقع هذا المنـزل . سُلم الدور الثانى ، الأخير ، درجاته أكثر نظافةً ونصوعاً . رخامُ الدرج يزداد وهجُه الأبيض ، كلما ارتقاه .. بدت لعينيه الدرجةُ العالية ، الأخيرة . لماذا يتعلَّق قلبه بهذه الدرجة الرخامية العريضة ، بالذات ، ويتوجَّس منها ؟ هل لأنها علامة الوصول وقرب الولوج ، أم لأنها علامة الخروج من شقته الرطبة . لم تعد تدخلها الشمس مذ صار المنـزل تحت حصار الجدران الخلفية للعمارات الثلاثة المحيطة به .. لا ، بل لأن هذه الدرجة الرخامية ، هى العلامة النهائية الفارقة . نعم ، هى الفارقة بين الموت والحياة ، هى علامة وجودك يا عبده يا مطحون ! فكلما تعادل عليها مرورك (الصاعد/ الهابط) فأنت حىٌّ .. ويوماً ما ، ستمرُّ على هذه الدرجة صعوداً أو هبوطاً ، ثم لا تعادل الصعود بهبوط ، أو الهبوط بصعود .. فتكون عندئذ قد مت . حَدَّث نفسه وهو يلتقط أنفاسه : عندما أموت ، هل ستقترن امرأتى الناعمة برجلٍ آخر ؟ هل سترتخى له ؟ هل سيمرُّ بباطن كَفِّه الخشنة على أنحاء جسدها العارى الممدَّد بجواره ؟ .. إييه يا عبده ، يا مخلول . لماذا ترعدك هذه الخواطر والأفكار .. هه .. مشغولٌ بما سيحدث عندما تموت ! إنك الآن ميتٌ وأنت حىٌّ .. تدور كالترس فى الفراغ ، ليلُك كئيبٌ ونهارُك .. لا أحد يهتم بك ، يا مسكين ، مع أنك لم تقصِّر فى شئ .. طيب، الصبر عموماً طيب ومطلوب . قد تنصلح الأمور الليلة ، وتكون آخرتها حلوة . قبل أن يُولى وجهه نحو باب شقته ، تسمَّرت قدماه على الدرجة الأخيرة ، الفارقة ، وأمال وجهه نحو بئر السلم .. رآه بئراً أخرى ، فارغةً ، كبئرِ الفراغ التى يستقر منـزله بقاعها ، وبئر الفراغ التى انحفرت بداخله خلال الأسابيع الماضية .. بئرٌ ، ثم بئرٌ ، ثم بئرٌ ! فمتى سيخرج من دوامات الآبار المتداخلة ؟ أطال النظر لأسفل ، وقع نظره على الصندوق الخشبى المخصَّص للبريد . لاحَظَ للمرة الأولى ، أن حجمه كبير بالنسبة لأى صندوق مماثل ، وأن موضعه عجيبٌ (أعلى الدرجة الأولى من السلم) .. مَنْ وضعه فى مكانه هذا، ومَنْ صنعه بهذا الحجم : أبوك ؟ جدك ؟ المقاول الذى بنى المنـزل ؟ مَنْ .. أدهشته فكرة أن يكون وجود الصندوق سابقاً على وجود المنـزل ، وأن المنـزل بطابقيه بُنى خصيصاً لتحيط حوائطه حائلةُ اللون ، بهذه العلبة الخشبية الخطيرة التى صار ينظر إليها مؤخراً ، بارتياب ، وصار مع بدء ورود الرسائل ، يسميها : صندوق المفرقعات ! .. قبل شهرين ، حين قال لامرأته الاسم الجديد للصندوق . لم تردّ ، ابتسمت بكسل ، ثم نظرت بأسىً إلى بعيد ! ماذا لو نزل الآن فنـزع الصندوق من مكانه ، ولو شاء حطَّمه ومحا من الوجود أثره ، أو فَتَّته ثم أشعل فيه النار وراح يرقب احتراقه ، أو خلع جوانبه و واجهته فألحق قلبه بالفراغ المحيط به ، أو .. انتبه إلى أن صوتها الناعم ككل ما فيها ، يكاد يأتى خفيضاً من داخل الشقة ، من الجانب الأيمن من الصالة الرطبة ، من البقعة الوحيدة الخالية من الأثاث ، ومنها يتفرَّع الممرُّ المؤدى للغرف الثلاثة . نبراتُها الناعمة دافئةٌ ، دافقةٌ ، فى تحنانها العميق غموضٌ وسموٌ . خلع نعليه أمام باب الشقة ، كما يفعل دوماً ، وكما يحبُّ أن يفعل زوارهما القلائل (معظمهم يتجاهل الأمر ويدخل بحذائه ، خاصةً النساء) أباح لنفسه أن يلصق أذنه بالبـاب ، حتى يتسمَّع تلك الأغنية التى تردِّدها امرأته . أهى أغنيةٌ، أم نشيدٌ قديم، أم ترنيمةٌ سحرية ، أم همسُ جنونٍ يتسلل إلى عقلها منذ بدء ورود الرسائل الغامضة ؟ .. ما الذى جرى للمرأة التى أحبها ، وكان يظهر إخلاصه لها . من بعيد سمع كلمات متفرِّقة ، من قولها : محيطاً بلا نهاية .. .. وحدى ، أنا سأبقى ، وأصيرُ .. أفعى ، عصيَّةً .. نقر البابَ بوجل، نقرةً خفيفةً خفية . لم يستعمل مفتاحه ، كيلا يفجؤها أو يُفاجأ هو بوقفتها السامقة التى يمكنه أن يتخيَّل روعتها . توقَّف ترنُّمها إذ أَلْفته لدى الباب . رآها آتيةً من خلف زجاج الباب المغبَّش . ها هى تقترب إلى ناحيته ، كالحلم . صار بمقدوره أن يرى رفرفة خصلات شعرها المتهدِّل بنعومته الآسرة ، علـى كتفيها العاريين .. كتفيها ، البضَّين ، البيضاوينِ ، المنحدرينِ بانسيابٍ سحرى نحو مركز الإبط الدافئ، الممتدينِ بلون سحاب الصيف إلى حيثُ التقاءِ النهدين . فى نهديها رقةٌ محيرة . لهما ملمس أوراق الورد ، وفيهما خلاصة الرحيق السماوى ، كله . فتحت الباب وهى تنظر إلى حيث تتوقَّع أن ترى وجهه . غاصت نظرتُها فى قلب عينيه ، ثم نفذت من هناك إلى دماغه فأثلجتها ، ثم انصبت فى نخاعه الشوكى فبعثت رعدةً خفيفةً غمرت ظهره .. مهلاً ! كيف يمكنها بهذه العفوية ، النظر إليه بهذه العلوية ، وهذا التسامى . مع أنها أقصر منه قليلاً ! وكيف يمكن لعينيها أن ترفعه على هذا النحو ، لأعلى .. فتطيِّره .. وتنذره بالسقوط من شاهق . - إيه اللِّى سمعته مِنِّك ده ؟ .. وبعدين ، إيه آخرتها معاكى . يا حبيبتى ، كفاية كده . حرام عليكى . أنا بحبك ، ومخلص .. لم يستطع أن يكمل ، كان ينوى أن يعلو بثورته إلى المنتهى، وبعدها يحطُّ عند حَدِّ التوسُّل ، ثم يرسو على شطِّ الذكريات الحلوة بينها .. فيستردها فى النهاية ، يردُّها إليه من أفق النأى . لكنه لم يستطع أن يكمل . احتقن صوته وارتطمت كلماته بهذا الجدار المنيع ، الذى سرعان ما ارتفع فى عينيها الواسعتين . ارتفع مثل سورٍ ممتدٍ من بدء الخليقة ، إلى آخر زفرةٍ حَرَّى أطلقها وهو فى حضنها المتجرِّد ، إلا من طغيان رغبتها المتأجِّجة الطامحة إلى الإتاحة والمنح . كانت تلك المرة الأخيرة ، قبل سبعة وأربعين يوماً ، قبيل الفجر . علا الجدارُ المنيعُ بعينيها ، مع احتداد نظرتها . ولما ضمَّت حاجبيها ، ازدادت عيناها غوصاً فيه .. فأسكتته . - أُدخلْ . قالتها حازمةً و استدارت مبتعدةً ، فتوغَّلت فى الممرِّ المؤدِّى لغرفة نومها ، المؤدِّى لسريرها ، المؤدِّى للجنة التى طُرد منها قبل سبعٍ وأربعين ليلة .. لاحقها بناظريه مشدوهاً . خصرُها بديع ، الثوبُ السماوىُّ الفضفاضُ ، القصير ، يشفُّ اللونَ الكُحلىَّ لملابسها الداخلية . وما ملابسها الداخلية ، إلا قطعةٌ واحدةٌ ذات جناحين محلِّقين بردفيها ، يمسكهما شريطان لامعان يلتصقان ، بإحكام ، بجانبيها .. النسيجُ الكحلىُّ اللامع ، يمسك بالانسياب اللدن الناصع ، حتى لاينفلت ! ليتها تخلع الثوبَ السماوىَّ المشفَّ ، ليرى ما يضطرم تحته من صراعٍ بين اللامع والناصع ، مع حركة ردفيها الرزينة .. ولابد أن النصوع سيغلب فى النهاية، وتنفلت اللدونة العاجية الشهية من حصارها . غاص فى نفسه ، هيَّجه التوقُ وفَرَكه الشوقُ .. هو محبوسٌ عنها ، بها . وجسمها محبوسٌ عنه بأشرطةٍ داخليةٍ لامعة ، وقطعةٍ من نسيجٍ كحلىٍّ تكاد تشفُّ ما تحتها . لقد شَفَّه الوجدُ .. فإلى متى سيدوم هذا الحبس ؟ قبل أن تتوارى عن عينيه المشدوهتين ، لمح بيدها وريقات لونها لون الكناريا، اعتقد أولاً أنها واحدة من الرسائل (لكنه سوف يعرف ما فيها بعد ساعات) .. فى يدها الأخرى كتابٌ ، مجلدٌ صغير أنيق . دَسَّت الوريقات فى الكتاب وهى تغيب فى الممر ، غير عابئةٍ به .. اندفع ليدركها ، متجاهلاً الأطباق والأرغفة المصفوفة أرباعُها بإتقانٍ ، فوق المائدة الدائرية المحصورة بأقصى زاوية الجانب الأيمن من الصالة . لم يلتفت ليعرف نوع الطعام المعدُّ له اليوم . لحق بها فى الغرفة . أراد أن يتكلم .. تاهت منه لفظةُ البدءِ . هدوؤها الوقورُ يقلقه ، مع أنه كان مولعاً بوقارها وهدوئها قبل سنوات . قبل سنوات ، آه ، كانت بيضاءَ ، هادئـةً ، وقوراً .. يوم رآها للمرة الأولى . يوم خفق قلبه للمرة الأولى . يوم نوى للمرة الأولى ، والأخيرة ، أن يتزوَّج . كانا قد التقيا فى حديقة المبنى الكبير المسمى مجمَّع التدريب الذى أُرسلا إليه ، كُلٌّ من جهته . هو ليدرس لثلاثة أشهـر ، أصولَ توظيفِ الألوانِ البرَّاقة فى تصميمات أغلفة المنتجات الاستهلاكية صغيرة الحجم ! إذ كان لابد من حصوله على دورة التدريب السمجة ، هذه ، ليمكنه استلام وظيفته الجديدة فى قسم الجرافيك بالشركة الدولية المجمعة لإنتاج الوجبات الخفيفة . وكانت هى قد انتظمت فى مركز التدريب ، من قبل مجيئه بسبعة أسابيع ، بالدورة التدريبية عالية المستوى ، لتطوير مهارات الترجمة ومعالجة الألفاظ المشتركة بين عدة لغات، استعداداً لتسلُّم عملها كمترجمة فى الهيئة الدولية المشتركة لضبط النصوص المترجمة من كل اللغات إلى الإنجليزية ، وحَثِّ الكُتَّاب على التأليف بها ! وهى الهيئة المعروفة اختصاراً ، بالأحرف العربية الثلاثة ، التى تبدأ بها كلماتها : هدم . يومها ، هفا إليها حين مرَّت أمامه . صبا نحو جمالها ، حين دنا . انقلبت دولته ، لما تدانت . ذاب ، لما حيَّته بابتسامة من قاب منزين أو أدنى . تدلَّه ، لما أوحت إليه بالاقتراب أكثر . طار فرحاً ، لما بادلته الكلمات والبسمات والإشارات .. كان هدوؤها ووقارها، من النوع الأبيض الذى يحبه الرجالُ فى النساء . كان كذلك فى ذاك الزمن ، ثم صار اليوم من النوع الرمادى الغامض ، الذى يكرهه الرجال فى النساء ، صار عميقاً .. مقلقاً . - نواعم .. ناداها بتمهُّلٍ يناسب مفتتحَ الكلامِ الذى لم يعرف طيلة الأشهر الماضية ، كيف يبوح إليها به . من المستحسن أن يبدأ بمناداتها بهذا الاسم الواصف ، الذى اخترعه لها ليدلِّلها به ظاهريـاً ، لكنه يستشعرُ بروحه كُلَّ حرف فيه . كان قد همس به فى أذنها اليسرى ، عفوياً ، يوم احتضنها عاريةً لأول مرة . كانت النشوة تلفُّها ، بحيث زادتها الكلمة خَدَراً على خدر ، فزاد ذوبانها حتى شَعَرَ أنها تسيل بين ذراعيه . نظر ساعتها فى قلب عينيها ، وكرَّر الكلمة .. نواعم .. فأسبلت رموشها الكثيفة ، وراحت فيما يشبه الغيبوبة . بعد الإفاقة ، سألته لِمَ ناداها بهذا الاسم القديم ، الذى لم يعد يستعمله اليوم أحدٌ ؟ قال ما معناه : لأن كل ما فيك ناعم ، وأنت مجمع النعومة ، وهذا اسمك عنـدى ، للأبد ! جرى ذلك أيام زواجهما ، قبل قرابة سبع سنين . والآن ، ها هو واقفٌ قرب بابها ، وقد صارت نعومتها قاسيةً ، قاصيةً ، نائيةً عنه .. موغلةً فى النأى . - نَعَمْ ! ردَّت بهدوءٍ عميق ، مُؤَثِّر . فردَّته من غيبته اللذيذة فى ماضيهما المشترك . أراح عينيه على جدائل شعرها المتهدِّلة خصلاتُه القوية ، على كتفيها . انزلقت عيناه نحو استدارة كتفها اليمنى . ماذا لو اقترب منها الآن، ولثم نقطةَ انحدارِ شمسِ الكتف البديع المنساب إلى دفء الإبط . يا أللـه . من أيَّة مادةٍ سماوية خُلقت هذه المرأة البديعة . هل ستزيحه عنها لو اقترب ؟ أم ستتركه يجتاحها ، مدفوعاً بغيِّه نحو غاياته ؟ .. أين غاياته منها ؟ أين ينتهى به مطافُه السابحُ موجاتها المنسابة ، المتوالية . وإذا تركته يبحر فوق نواعمها ، إلى أين سيصل به المطاف ؟ أين هى من شوقه إليها ، واشتياقه ؟ .. الشوقُ يسكن باللقاء ، واشتياقه يهيج بالالتقاء . - نَعَمْ ! قالتها هذه المرة بنعومةٍ آسرةٍ لاتخلو من سخريةٍ هامسةٍ واشيةٍ بإدراكها حالة اضطرابه . زاده إدراكُها اضطرابه اضطراباً .. اقترب خطوتين خجولتين ، واستعدَّ للانكماش تحت ظلِّها . جثا أمامها على ركبتيه ، ثم افترش الأرض . أمال رأسه برفق ، نحو الوسادة القطنية التى تتكئ عليها . سَكَنَ ، ليَسْكنها . انكمش ، ليخَمْشها . هَبَطَ ، لتُعليه .. دَنَـا ، لتتدلَّى . ارتخى جفناه حين مرَّرت أنامل كَفِّها اليسرى ، فوق منابت شعره . أخذه الدوارُ . حار سعيُه فى اختيار مدار : هل يكمل ما بدأه .. ينهزم لها فتنساب هى إليه، كما يتمنى أن تفعل الآن ؟ أم ينتفض ، ويثور عليها ثورةً قد تفضى إلى استسلامها له . مضى وقتٌ طويل منذ آخر استسلامٍ . وقتٌ طويل مضى منذ آخر مرة استلم فيها جسمها الذائب بين ذراعيه لينتشى بخَمْرهِ إلى حَدِّ المجون ، إلى حَدِّ النهم اللاأخلاقى ، نهم البدائيين المحرومين . بدت له ليلتها ، باستسلامها العارى من كل شئ ، إلا الرغبة فى المنح ، كخبيئةٍ نادرة صادفت نابشَ قبورٍ تعيس . رفع كفيه ببطء نحو إبطيها ، ثم قارب بينهما ليحفَّ ثدييها . مدَّتْ يدها اليمنى لتوقفه ، فتعلَّق بكفِّها . سحبه إليه بهدوء ناسكٍ مخلصٍ ، يجثو أمام تمثال إلهٍ قديمٍ مندثر . مَرَّ بباطن كَفِّها على وجهه ، اغتسل بنور أناملهـا ، لامس بشفته السفلى أطراف كفِّها ، فتنهَّدت ، فارتجف حتى كادت دمعةٌ تفيضُ من عينيه .. ناداها . - نَعَمْ ! لم يستطع المجاوبة . ارتعش قلبه . سكن تماماً ، ثم استجمع وجوده كله ، ليندس بوجهه بين نهديها . التصق بشدة . وَدَّ لو غاص فيها حتى يتلاشى تماماً ، علَّه يولد ثانيةً من رحمها . مرَّت بكفيها على كتفيه . استسلم لها حين رفعته بأمرٍ خفىٍّ . أترى ، هل مالت هى نحوه حتى صار بحضنها، أم هو الذى ارتقى إليها ؟ صارت تحيط خصره بباطن فخذيها . شفَّ ، وخَفَّ ، وهام . هو جاثٍ على ركبتيه يحيط خصرها بذراعيه ، وهى جالسة على طرف السرير ، وقد انكشف ساقاها وآن سُقياها . ماذا لو انكشفت كلها ، فتأجَّجت وفاضت عينُ مياهها ؟ مَدَّ يده برفق ، فأزاح عن كتفيها الخيطين الممسكين بثوبها السماوىّ الشَّفَّاف . كلما انزاح الثوبُ عن موضع من صدرها ، قبَّله . مسح فيه وجهه . بعد هنيهة ، تركته يهبط بالسحاب السماوىّ الحاجب للشمسين .. لما انكشف صدرُها ، تنهَّد بحُرقـةٍ ، وأراح جبهته عليه . .. شَعَرَ بالشلاَّل يَسَّاقط ماؤه ، ثم لحظ انتفاضة خلاياها مع حَرِّ أنفاسه ، فازدادت شجاعته . أزاد لهيب قبلاته بحركة طرف لسانه ، ثم هبط بحمى القُبل اللاهبة ، من موضع افتراق الناهدين ، إلى حيث النعومة الخالصة .. هبط بملهباته ، ثم انحدر بها ، فانتهى عند الغاية والمنتهى . - عَبـُّـودى . قالتها بنعومة خالصة وقد أسبلت رموشها الرشيقة ، وانسدل شعرها . لفَّها شعورٌ واشٍ بأن خلايا جسمها ، جميعها ، تدعوه . راحت إلى أفقٍ بعيدٍ . سرت فيها موجاتُ دفءٍ متتالية غمرتها من أعلاها إلى أعلاها . نداؤها السحرى دغدغ روحه . ثَقُلت رأسه فأراحها عند ملتقى ساقيها .. مَرَّت على خاطره المرَّة الأولى التى نادته بهذا الاسم . لما سألها حينها ، قالت إن اسمه الجديد هذا، تدليلٌ لكلمة عبده التى يناديه الناس بها . ثم أضافت بدلالٍ ويُسر : عبدُ مَنْ ؟ أنت عبدى أنا .. عبدى الصغير .. عبُّودى ! ساعتها ابتسم مستخفِّاً بكلامها ، لم يكن يعرف ما خبَّأه الزمانُ له . بعد أيام سألها عن هذه الكلمة ثانيةً ، لما قالتها ثانيةً . فأجابت الإجابة نفسها ، بالسهولة نفسها . فوجم قليلاً ، ثم عبس وتوجَّس . فى المرة الثالثة تكرَّر الأمر ، فثار . طوَّح ذراعيه . قام ، وجلس ، وقام . أراد أن يظهر لها حنقه من جرأتها عليه . طلب منها بحزمٍ وحسمٍ وعزمٍ ، ألا تعود لمناداته بهذه الكلمة أبداً ، ولا تفكِّر فيها بعد ذلك أبداً ، ولا تظن أنه سيقبل ذلك منها ، أبداً ، مهما كان .. لكنها ظلت تناديه عَبُّودى كلما قبلته وقبَّلته وكاد يعتليها . فى الأشهر الأخيرة ، كانت حين يشتعل بهما الشوقُ ويستقر قاربُه فوق مياهها ، تشعر أن الذى بداخلها ، منه ، إنما هو جزءٌ منها . غريبٌ عاد لداره ، أو هو حجرٌ انخلع من بناءٍ ، ثم أعيد لموضعه . أسمعته فى إحدى الليالى بعد هدأة الأمر ، بعدما خمدت كل الثورات التى تأجَّجت بجسميهما ، وهمدت بينهما حُمى التوغُّلات والتشبُّثات . أسمعته ، وكأنها تقبِّله فى أذنه اليسرى التى يدوِّخه همسُها فيها . أسمعته بصوتٍ ذى بَحَّةٍ وفحيحٍ سحرى ، عبارةً غريبة المعنى : صَحْ ، ما ذكَّر المذكَّر ، هو الذى أنَّث المؤنَّث . لم يفهم ذلك وقتها . وكان عليه أن ينتظر طويلاً حتى يصله البيان والتبيان ، فيزيد من قلقه ودهشته واغترابه عنها . - عَبُّــودى . قالتها ثانية ، وكأنها تنطق بلغةٍ أخرى لا يفهمها إلا هو . قالتها بحروف غير الحروف . العين قريبة من الهاء ، الباء رقَّت كأنها تنهيدة طفل رضيع ، الواو فاضت وتماوجت كمياه عينٍ دافئة ، الدال خفتت حتى اقتربت صوتياً من التاء ، وما كادت الياء تبين لسمعه ، مع أن السكون كان تاماً حولهما .. قالتها ، وقد أخذها الدَّوَارُ لما مَرَّ لسانُه على أرضها ، وأحسَّت بأصابعه المنغرزة فى ظهرها العارى ، تغوص كجذور أشجار قديمة ، فتداعب أطرافُها بذور جنينٍ كامنٍ فيها منذ ألوف السنين .. ازداد التصاقهما . تزلزل باطنها ، فانكشفت . تكشَّفت ، فأدركت . سَرَت ، فأسرَّت لنفسها : إن ما يأتينى من خارجٍ ، باعثٌ لما هو كامنٌ أصلاً بداخلى . ففى منطقة عميقة مِنِّى ، تكمن النقطة التى بدأ منها الوجود ، النقطة التى خُلق منها الكون .. ماما ، إننى أشعر الآن برغبةٍ عارمةٍ فى الهبوط لقاع المحيط ، أو التمدُّد عاريةً فوق كوكبٍ مهجور ، أو جذب جبلٍ ملئ بالأشجار نحو جسمى العارى الممدود فوق السرير ، الممتد من بدء الكون إلى منتهاه . راحـت ، كمـا توقَّع هـو ، تعزف بأنفاسها المكتومة بباطنهـا ، مقطوعة التأوُّهات السحرية . المقطوعة التى لا تتكرَّر أبداً نغماتها . راحت تسافر به إلى ما وراء الوراء ، وفَوْق الفوق، وبَعْد البعد . طاح قلبه وانداح ، لما دعته بأمرٍ خفىٍّ أن يتماوجـا . زحف إلى قلب السرير منتشياً . تقلَّبا ، حتى كاد يغرس بخيمتها الوتد . شعر لحظتها أنه ينمحق ، يتناثر فى الكون كذراتٍ لامتناهية الهيمان . غابت هى ، تماماً .. غامت رؤياها ، انكشف باطنها لـمَّا شعرتْ بقوة المحبة الطاغية ، تجتاحها . توهَّجتْ فى باطنها نقطةُ البدء ، نقطةُ سِرِّ الوجود ، نقطةُ النار المبدعة .. اجتاحت خلاياها ترنيمةُ الإلهة القديمة : أنا عشتار النارُ الملتهبةُ التى استعرت فى الجبال الاسمُ الرابع من أسمائى الخمسين المقدسة ، هو : نارُ المعركة المحتدمة . فاجعلنى ، وحدى ، كخاتمٍ على قلبك .. لأن المحبة قويةٌ كالموت . شعرتْ بالكون كله يمورُ بباطنها ، فأغمضت عينيها وغابت فى أزمنةٍ سحيقة .. شعرت بأمِّها ، اشتاقت إليها ، جَرَفها نحوها التياعٌ لامحدود . نادتها نداءً خفياً : ماما ، أين أنت الآن أيتها الروح السارية فى العوالم القديمـة ؟ .. ماما .. أخبرينى ، هل الآفاق التى تتقاذفنى الآن ، مع هذا الرجل الذى يكاد ينغرس بأرضى ، هو ما ذكرته فى رسالتك التاسعة ؟ أهذا هو الجنس المقدس الذى كانت كاهنات الرَّبة ، يمارسنه فى المعابد ؟ أترانى فى هذه اللحظة، تلك الأنثى فى ذاتها التى حكيتِ لى عنها ، وما هو إلا واحدٌ من الرجال ، لا أكثر ولا أقل . تعرفين يا ماما ولايعرف هو . أننى عرفت زلزلة الأعماق هذه ، مع غيره . عشتها بكل روعتها ، مرات .. مرةً مع الخبير الذى التقيته فبقيت غارقة فى بحر عشقه طيلة الصيف اللاهب ، سنة تخرُّجى وتوهُّجى واندلاعى . كم كان ماهراً فى التقاط شواردى وأناملى وانفراجة شفتى .. ومرةً مع لمسة الشاب الأشقر الذى انطلقت معه ، أيام زرت ألمانيا فى صيف السنة الأخيرة من دراستى الثانوية . كم كان جميلاً هذا الشاب . آه يا ماما ، ولكنى عرفتُ الآن فقـط ، أن سرَّ الإبحار فى الأنوثة قد يكون بمجداف أى رجل . وعرفت أن النقطة / السِّرَّ ، إنما هى بداخلى أنا . وعرفت الدوار العلوى ، حين سمعتُ صلصلة الجرس بأعماقى . ماما ، إلى مَنْ أرفع نجواى . ولمن سأهمس بأسرارى ، وهذا الرجل الذى فوقى ، تحتى ، وبيننا هاوية عصورٍ سحيقة .. ماما ، إلى أين تأخذيننى ؟ أترانى سأعود يوماً ، مثلما كنتُ قبل إشراق رسائلك فى كهف حياتى . لا ، لم يعد ذلك بإمكانى . ماما ، تلك ليلتى الأخيرة هنا ، وبعدها سأحلِّق نحوى، نحوك . لن أعود لما كنتُ فيه ، ولن تعاودنى شكوكى .. - ماما ، خدينى . انتبه (عبودى) حين همست بالكلمتين المفاجئتين . شعر أنهما انفلتا من شفتيها ، ليدلاَّه على تفاهته ، وعلى غيابه التام عنها ! كان الليلُ قد عمَّ سكونُه . رفع عبده رأسه مستغرباً . نظر إليها كطفلٍ حائرٍ ، متسائلاً . فتحت عينيها الواسعتين ، فقفزت نظرته المتسائلة فيهما . تأفَّفت ، أشاحت عنه برأسها المستقرة على خصلات شعرها المفروش فوق الوسادة ، لاحقها بنظراته من جهة اليمين ، إلى الجهة اليسرى حيث أشاحت ثانيةً . حدَّق فيها باستغراب روحٍ هائمةٍ عَلَتْ .. عَلَقَتْ .. ثم انزلقت من فوق سحابة . وَدَّ لو تتلقَّف روحه الحائرة ، بنظرةٍ حالمة تحلِّق به مجدَّداً . لكنها لم تترك له سبيلاً لذلك . أمام نظرته الطفلية ، المستغربة ، أسبلت جفنيها باستسلام محاربٍ قديمٍ انسحبت روحه ببطء من أطراف أصابعه ، فسقط سيفه من يده . - تُقصدى إيه بكلامك ، بتكلِّمى مين ؟ لم تكن لديها الرغبة فى الإجابة . لم تكن لديها الرغبة فى أى شئ .. دفعته بباطن كَّفيها ، كى ينـزل عنها . تـشبَّث . توسَّل إليها بانعقادِ حاجبيه وتهدُّلِ شفته ، وبكل بؤس حاله رجاها أن تتركه لبضع دقائق ، كى يُنهى ما بدأ .. ازداد دفعها له ، وقد تكثَّرت حول عينيها خطوط الامتعاض ، فتكسَّرت روحه . ازداد تشبُّثه ، اهتزَّ فوقها وقد ارتجف من عمق رغبته الطامحة إلى إنهاء الارتواء .. لقد كاد الأمرُ يتمُّ ، وينـزاح الـهَمُّ : - أرجوكِ يا حبيبتى ، دقيقة واحدة ، وخلاص . نظرت تجاهه بحدَّة . شعر بنظرتها تخرق وجهه ، تحرقه ، تكاد تنتزع فروة رأسه . فارتمى مستلقياً بجوارها، كحطام سفينةٍ قذفتها موجةٌ عاتيةٌ ، نحو رمال شاطئ مهجور . مرَّت عليهما دقائقُ ، أو دهورٌ . صار هواءُ الغرفة ثقيلاً . وصارا مُستلقيين ، ذاهلين بما هما فيه عن عريهما ، ذهولَ البشر الأوائل .. كلاهما يحدِّق فى سماء الغرفة .. كلاهما يرى ما لايراه الآخر .. كلاهما سادرٌ فى غيِّه ، هائمٌ فى غاياته . أنَّى سيلتقيان ، بعدما خُولف بين طريقيهما ؟ رسـالــة آه يا ابنتى الحبيبة .. مالى أشعرُ بك هذه الأيام ، بداخلى ، وكأننى أُوشكُ أن ألدُكِ من جديد . شعورٌ عجيبٌ، غامضٌ ، لم أحسُّه من قبل . ها، لقد رأيت الصور التى أرسلتها لى ، صباح أمس ، عبر الجهاز الجامع . صورٌ جميلة . طبعتها اليوم على ورقٍ كبيرٍ مصقول ، لأشعر بها أكثر . اقتضى ذلك زيارة لأقرب مدينة . تبعد عن موقعى ساعاتٍ ثلاثة ، عَبْرَ طرقٍ وعرة . لكن الأمر كان ، حقاً ، يستحق . وجهُك فى الصور يبدو شاحباً ، وزوجُك يبدو حائراً ، وأثاثُ بيتك لايبدو منه أىُّ شئٌ . ما هذا الديكور يا ابنتى ! ما هى الصلة بين لون الحوائط ، ولون ما تناثر عليها من لوحات وتمائم وحليات .. وما هذا الأثاث ؟ لابد أن زوجك هو الذى اختاره ، فلا طراز يجمع بين مفرداته . أم أن جَدَّك اشتراه لك ، خالطاً كعادته بين كل تراث الإنسانية . لا يا ابنتى . إذا عمرتِ بيتاً آخر ، فلتجعليه متآلفاً . وليكنْ بيتك مرآةً يتجلَّى على صفحتها ، تناغُمك الداخلى العميق. لا تضعى قطعة أثاث أو لوحة أو حلية جدار ، إلا إذا خفق قلبك أولاً بحبها . فالحبُّ هو الأصل فى إيجاد الأشياء . بالحب أنجبتك . وبالحب أنجبت الأنثى العالم . أوتعرفين ، كان أبوك يشكِّك فى أصل الحب ! كان يعتقد أنه عاطفةٌ طفرت بين البشر، حين قام نظامُ الأسرة فى مصر القديمة ، حين صار الأمر بين المرأة والرجل قَصْرياً وقَسْرياً . ومع القَصْر والقَسْر ، وصف الناسُ كل اشتهاءٍ غير مُستحب ، بأنه (عاطفة) الحب ! كان يقول ذلك ويكرِّره ، مختالاً باكتشافه هذا المذهب ، متفنِّناً فى تأكيده والإقناع به ، بما لاحصر له من أسانيد يتوهَّمها ! منها أن نوال المحبين مقدمةٌ لانطفاء الحب ، وأن عدم النوال يؤجِّجه . ومنها أن الحب فى كلام الأطباء الحكماء القدماء، هو نوعٌ من المرض النفسى . ومنها أن أشهر قصص الحب ، اشتهرت لأنها اقترنت بالحرمان، لا النوال .. كان أبوك رجلاً طيباً . لما التقينا أول مرة ، همس ليلتها بأذنى وهو يودِّعنى ، أنه اكتشف زيف مذهبه فى الحب . وباح لى بأنه تأكَّد ، معى ، من أن الأمرَ أعمقُ مما كان يظن . بعد زواجنا بثلاث سنوات ، قال لى صبيحةَ ليلةٍ عاصفةٍ بالعشق ، إنه سيظل يحبنى إلى آخر عمره .. وبعد يومين ، مات ميتتة الفاجعة التى لا معنى لها : حادثةُ سير . أردتُ أن أضع بين طيَّات كفنه ، خلسةً ، رقائق من جلد أفعى محنَّطة ، كنت أحتفظ بها . حنَّطها أهلُ مصر العليا ، قبيل انتشار المسيحية فى ديارهم . شعرتُ أن ذلك سيجعله ، على نحوٍ ما ، مرتبطاً بالخلود . جدُّك ثار ثورةً لم يبلغ مداها من قبل ، ولا من بعد . قال لى : بل أنت الأفعى ، وأنت الشيطان ! سعدتُ بالوصف الأول ، وتعجَّبت من الوصف الثانى .. لاتستغربى سعادتى ولا تعجُّبى ، فسوف أُحدِّثك اليوم عن الأفعى ، وربما حدثتك فى رسالة أخرى عن الشيطان ، الذى جعله البشر ممسحةً لأخطائهم . ولكن دعينى يا ابنتى أكملُ لك رسالتى فى المساء ، فالسماء اليوم صافية . ولابد أن القمر ، سيكون الليلة أشد سطوعاً . والكلام عن بهاء الأفعى، يزداد وَهَجَاً فى ضوء القمر .. ... يَوْمَ أُفنِي كُل َّما خَلَقْتُ ستعودُ الأرضُ محيطاً بلا نهاية ، مِثْلما كانتْ فى البَدْءِ . وَحْدى ، أَنا ، سَأبقى وأَصِيرُ كما كنتُ قبلاً أَفْعى ، خفيةً عن الأَفْهامِ . تلك يا حبيبتى ، ترنيمةٌ لإيزيس (إيزُت ، بحسب النطق المصرى القديم) سجَّلها المصريون القدماء ، قبلما تتشوَّه صورةُ الأفعى فى الأذهان . كان ذلك فى الزمن القديم ، الذى اتخذت فيه الربة المقدَّسة الأولى ، رمزاً هو أقرب ما يكون لطبيعتها . كانت الأفعى رمز الرَّبَّات إنانا وعشتار وإيزيس وأرتميس .. بل كانت رمزاً لكل الإلهات على اختلاف اسمائهن ، وعلى تباعد البقاع بين مواطن عبادتهن . وقد صارت الأفعى من بعدهن ، شعاراً لآلهة ذكورية مصطنعة ! لإله الحكمة المزعوم هرمس المثلَّث العظمة ، ولإله الطب عند اليونان إسكليبيوس ولآلهة كثيرة غيرهما . ولا أدرى، كيف تَسنَّى للذكور المؤلَّهين ، أن يتبجَّحوا فيتَّخذوا من الأفعى شعاراً .. وهى كما سترين بعد قليل ، موغلةٌ فى الأنثوية . وكانت الأفعى دوماً ، شعار كل الملكات العظيمات فى الأزمنة الأولى : سميراميس ، حتشبسوت ، نفرتيتى ، كليوباترا .. وغيرهنَّ من ملكات الأزمنة الأولى التى كانت الإنسانية خلالها ، لاترى بأساً فى أن تحكم النساء . بل ترى أنه من الطبيعى أن تحكم النساء ، وأن يتخذنَّ من الأفعى شعاراً .. وبالفعل ، حكمت النساء ، كثيراً ، فى فجر الحضارات الإنسانية . كن حاكمات وقاضيات فى معظم الحضارات القديمة ، حتى انقضى النصف الأول من حضارة مصر ، ومن حياة سومر .. ثم تغيَّر الحال ، فجاءت اليهودية لتحرِّم على المرأة أن تكون حاكمة أو قاضية ، بعدما دنِّس كتبةُ التوراة بضربةٍ واحدةٍ ، المرأة والأفعى . ونجحت اليهودية فيما كانت تحلم به ، فأُفرغ شعار الربات (والأرباب) والملكات العظيمات، من مضمونه القديم المتوارث لآلاف من السنين . لماذا اتخذنَّ الأفعى شعاراً ؟ .. لو نستطيع أن نفرِّغ صورتها فى أذهاننا ، من كل أحكامنا الوهمية الموروثة ، المضغوطة فى عقولنا بثِقَل خرافاتٍ وثقافاتٍ توالت فى الأزمنة الأخيرة ، ودعمتها الاعتقادات الساذجة المتينة .. لو استطعنا ، لرأينا الأفعى مجردةً . الأفعى فى ذاتها، بعيداً عن أوهامنا . الأفعى البديعة ، الغامضة ، المليئة بالأسرار والألوان والروعة . بالمناسبة ، هل تعلمين يا ابنتى أن تسعين بالمائة من الأفاعـى ، غير سامٍ . وأن مائة بالمائة من الأفاعى ، لا تهاجم إلا إنساناً اعتدى عليها ، أو عبث بجُحرها ، أو اقترب من ذريتها .. الأفعى كائنٌ مسالـمٌ فى الأساس ، ينأى بنفسه بعيداً، ويميل دوماً للانزواء . عُنفها مبرَّرٌ بأسبابٍ واضحة. لاتنـزع للهجوم إلا إذا هوجمت . وفى هجومها إنذارٌ ، لا غدر. فهى تنتصب محذِّرةً ، فإن ابتعد عنها مصدرُ الخطر المهدِّد، انسربتْ مبتعدةً . وإن لم يلق إنذارُها صدىً عند المهاجم ، نهشته خاطفـةً ، وهربت ! وجلالُ الأفعى الممزوج بجمالها ، يتجلَّى على أنصع صورة، فى النوع الأكثر قداسةً عند أهل الأزمنة الأولى، النوع الذى نعرفه اليوم بعدة مسميات ، أشهرها اسم الكوبرا . أرأيتِ يوماً ، قوة نظرتها لعدوِّها ؟ وهل تأملتِ وقفتها المهيبة ، البهية ، إذا ما تهيَّأت للهجوم .. هل نظرتِ إليها بعمقٍ ، وقد تمايلت برقَّـةٍ على نغمات الناى الرقراقة ، أمام الهندى النحيل الذى يعزف بروحه موسيقاه . هى لاتسمع موسيقاه ، ولكنها تقرؤها فى جلسته الخاشعة .. فهل يستطيع كائن آخر ، غير الأفعى ، أن يقرأ الموسيقى فى هيئة الأجسام ؟ والأفعى ، تعرف دوماً طريقها .. انتبهى إليها إذا انسربتْ فى مساراتها ، كيف تنسابُ برشاقةٍ ناعمة . وبنعومةٍ رشيقةٍ ، لاتكاد تلامس الأرض ، وهى تدلف إلى حيث تريد . لاتصطدم بشئ فى طريقها ! فهى تعرف جيداً، إلى أين يتجه زحفها .. الزحفُ ، مشيُها ، وهى التى بلا أرجل . مشيُها ، إبحارُها فوق الأسطح ، فوق أمواج الرمال الناعمة ، على أقسى الصخور صلابةً ، بين الأدغال وأغصان الشجر .. الزحفُ . ألا ترين أن الجيوش قد اختارت هذه الكلمة بالذات ، لتعبر عن تنقُّلاتها . يقولون : زحف الجيش . لا (مشى الجيش) أو (طار) . فإذا تقهقر الجيش ، يقولون : انسحب ! والزحف والانسحاب ، يا ابنتى ، هو شكل حركة الأفعى من قبل أن تصير للإنسانية عساكر وجيوش . والجيوش ، تلك الصناعة الذكورية الرائجة فى الأزمنة الأخيرة . تمارس دوماً عنفها غير المبرَّر ، العنفُ المخمور بنشوات التوسُّع والهيمنة ، ورغبة الرجل النهمة فى الاستيلاء . وكانت لغةُ الناس من التبجُّح ، بحيث استعارت لمسيرة الجيوش وصف الزحف المأخوذ من حركة الأفعى . الناس يا ابنتى ، لم يعرفوا أن الأفعى أكثر حكمة من تلك الجيوش التى لا عقل لها ، تلك الجيوش التى تعمل دوماً بأمرٍ من خارجها، أمرٍ يأتى ممن يسمونه القائد . والقوادُ قوادٌ يا ابنتى . إنهم الرجال الفُرَّاغ الذين يؤجِّجون حروب العالم ، وإن لم يجدوا الحرب أشعلوها ، ليواجهوا خرابهم الداخلى ، بتخريب العالم . هل تعلمين أن كثيراً من الحضارات الأولى ، المجيدة ، التى عبد أهلُها الربة وقدَّسوا الأفعى ، لم تكن لها جيوش نظامية .. عاشت تلك الحضارات زمناً طويلاً فى سلام ، وأعطت للإنسانية فى الزمن الأنثوى الأول ، كل بذور الحضارة : الزراعة ، الثقافة ، الاستقرار، الحنين إلى الوطن ، الضمير ، الديانة .. السلام ! لم يعتادوا أن يعتدوا على جيرانهم ، لم يجد الآثاريون أثراً لصناعة حربية بين حفرياتهم ، مثلما وجدوا فى المجتمعات الذكورية اللاحقة .. ثم انتهت الأزمنة الأنثوية ، السلمية ، البديعة ، بالإزاحة التدريجية للأنثى ، والانتقال بالمجتمعات إلى السلطة الذكورية الجوفاء ، على النحو الذى حكيته لكِ فى رسالتى السابقة عن تطور روح الحضارات فى سومر وبابل وآشور ، وعن روعة انبثاق الحضارة المصرية القديمة ذات الطابع الأنثوى الأصيل ، الإيزيسى . نعود للأفعى ، التى لا يقودها إلا روحها وحِسُّها الباطن فيها . فنراها لاتعتدى للاعتداء أو لإظهار البطش ، مثلما يفعل العسكر . لا تقاتل إلا للدفاع، ولا تسعى للتوسُّع مثلما يفعل القواد القواد .. ومع أنها تهضم أى شئ تبتلعه ، مهما كان ، فهى لاتتخم نفسها مثلما يفعل الإنسان . فتدبَّرى يا ابنتى ، مَنْ الذى من شأنه أن ينظر للآخر ، نظرة الوجل والازدراء والتأفُّف : الإنسان أم الأفعى ؟ .. إن الأفاعى لو كانت لها لغةٌ ، لحفلت آدابها بنصوصٍ فى تحقير البشر ! تحقير حضارة الرجل الحديث ، تحديداً . لأن البشر قديماً، كانوا يعرفون قَدْرَ الأفعى . كانوا يبجلونها باعتبارها رمزاً وتجلياً وصورةً للربَّة الخالقة ، للأنثى المقدَّسة فى كل الحضارات القديمة . كان الناس فى مصر القديمة ، يؤمنون بأن الإله الأكبر (آتوم) يتخذ فى الأرض صورة الأفعى .. وتنبَّهى هنا يا ابنتى ، إلى أن آتوم ذاته ، هو صورةٌ إلهية متأخرةٌ نوعاً ما، ولأنها (متأخرة) فهى ذكورية .. أما الصورة الإلهية المصرية الأصيلة ، الأولى ، المعروفة باسم وازيت فهى صورة الربة الأنثى ، الخالقة التى اتخذت قبلاً ، ومنذ زمن ما قبل الأسرات ، صورة الأفعى المحيطة بالوجود . أوتعلمين يا ابنتى ، كان أهل الأزمنة القديمة يبنون للأفعى المعابد . والعجيبُ أن أكبر عدد من هذه المعابد، اكتُشف فى أرض فلسطين التى شهدت كتابة أسفار العهد القديم ، التوراة ، أول كتاب طمس صورة الأفعى وجعلها مرتبطة بالشيطان وبالمرأة وبالشر ! وفى مطلع القرن الماضى (سنة 1903) اكتُشف فى فلسطين ، أكبر هيكل مخصص لتقديس الأفعى ، وجد الآثاريون فيه آلاف الأفاعى المحنطة ، وتمثالاً برونزياً ضخماً لأفعى الكوبرا .. هييه ، سأحكى لك واقعةً طريفة ، حدثت معى . قبل مولدك بأسابيع ، ظل الطبيب المتابع لحملى ، يلحُّ أن تكون الولادة بشقِّ بطنى! الولادة الفاضحة المسماة قيصرية . رفضت ذلك تماماً . رجانى أبوك أن استجيب لرغبة الطبيب ! رجاءٌ عجيب . هذه رغبته ، فأين رغبتى ؟ أفهمته أن الطبيب يرغب فى الفعل الأسهل له ، وإننى أرى فى ذلك كفراً بأهم أفعال الأنثى ، فعل الانبثاق والولادة .. فى ليلةٍ ماطرة ، جاءنا جدُّك يزهو بأكتافه العالية وعصاه الصولجانية ، فحضر مناقشتنا للأمر . راح ليلتها ، طيلة جلسته ، ينظر إلىَّ شذراً . لم يستطع كتم غيظه ، حين قلتُ ما معناه إن شَقَّ البطن لإخراج الطفل ، هو أشبه بالعثور على جوهرةٍ بنبش الرمال ، وأشبه بالتنقيبِ الأثرىِّ لاستخراج قطعة من تمثال قديم ، وأشبه بخطة ذكورية لسلب المرأة فعلها الأكثر روعة . رَدَّ جَدُّك بحنقٍ مكتومٍ ممرورٍ ، فقال ما مفاده أننى (لابد) أن أرضخ لرأى الطبيب ، وأننى (لابد) أن أستجيب لنصح زوجى، وأننى (لابد) أن احترم رغبة الآخرين ونُصْحِهم ، فلست الوحيدة المعنية بالأمر . مازلتُ أذكر اللحظة التى احتدَّ فيها حوارنا : - اسمعى كلام زوجك ، هو والد الطفل الذى فى بطنك ! - إنما أنا الوالدة . الرجل لا يلد ، ولا يصح وصفه بالوالد . أثار رَدِّى أول عاصفةً كبرى من عواصفه التى تتالت بعدهـا ، سبع سنين . وقام جَدُّك من فوره منصرفاً ، بعدما ألقى علينا نظرتين ، واحدةً ملؤها الحقد قذفها فى وجهى ، وأخرى تطفح بالازدراء رماها نحو أبيك .. على مرآة عين أبيـك ، انعكست نظرةُ أبيه ، لتصلنى ملفوفةً بتوسلٍ ورجاء . جلس بجوارى ، وبكل تحنانه المعتاد ، الآسر ، سعى لإقناعى بأن ألد بشَقِّ بطنى . همس إلىَّ طويلاً ، وأنهك الأمر توضيحاً وتفصيلاً . احتج بخوفه علىَّ ، وبأن معظم النساء اليوم يلدن بشَقِّ البطون ، وبأننا صرنا فى نهاية القرن العشرين ولا يجوز أن نفعل فعل القرون الأولى ، وبأننى لو عانيت ألم الولادة ، فسوف يعانى هو لمعاناتى (كيف كان سيعرف هو معاناة الولادة) وأنهى هَمْسَه المستعطفَ ، بأنه لن يطمئن علىَّ ، إلا لو أطعت الطبيب . - لن ألدَّ ، إلا كما تلدُ الأنثى . قلتُ ذلك ، فانسحب أبوك من حضرتى متكسِّرَ الأركان، ملفوفاً بالحيرة .. بعد يومين ، استبدلتُ بالطبيب طبيبةً فهمتنى . يوم مولدكِ ، كنت واعيةً تماماً بلحظة إطلالتك الأولى ، لحظةِ اقتران ألم المخاض بنشوة الخلْق والإيجاد . وامتزجت ساعتها معاناةُ انبثاقك من باطنى ، بمعاناة انبثاق الروح فى بدنك . لحظتها بكيتُ ، مثلما بكيتِ .. بكينا معاً . وتحقَّقت بأننا ، أنتِ وأنا ، توحَّدنا مع الأفعى التى تنبثق من جلدها القديم لتتجدَّد حيةً ، عصيةً عن الأفهام .. لقد شعرت وقتها ، يا ابنتى ، أننى إذ ولدتُك هكذا ، فإننى وهبتك أول ارتباط بالأفعى المنبثقة من ذاتهـا ، من جِلْدها القديم ، من وجودها السابق (وجودى أنا) منبعثةً إلى وجودها المتجدِّد .. الدائم .. المرتبط بالخلود : وجودك أنت . وللأفعى يا ابنتى ، أسماءٌ ومترادفات فى كل اللغات . ومادمنا قد اخترنا اللغة العربية ، أو العربية اختارتنا ؛ فتعالى ننظر فى المترادفات ، لنقترب أكثر من معنى الأفعى .. ذلك المعنى الذى لايمكن لأى لغةٍ أن تحيط به، مهما كانت ! ومهما أحطنا بها ، أو أحاطت بنا . إن أشهر مترادفات الأفعى العربية ، هو لفظ الحية وهو اللفظ الذى اختاره كل مَنْ ترجموا التوراة إلى نسختها العربية. ربما نعود لتأمُّل النص التوراتى بصدد (الحية) التوراتية بعد قليل . لكن دعينا أولاً نستشرف آفاق لفظ الحية الذى هو اللفظ الأصل فى التسمية العربية . إذ الأفعى فى متون لغة العرب : نوعٌ من الحيَّات ، سميت بذاك لأنها تلتفُّ ولا تبرح مكانها . تمتاز الحية فى وعى العرب اللغوى، بأنها مشتقة من (الحياة) ومنها سميت أم البشر ، بحسب اعتقادهم : حواء . وللحية والحيا فى العربية معانٍ ، كلها خطيرةٌ ودالة . المعنى الأول، الألصق بالمرأة ، هو أن الحيا فَرْجُ المرأة وفى لسان العرب : الحيا فرج الناقة .. والحىُّ فرج المرأة ! وحية وحواء وحيا ، ألفاظ اقتربت أصولها ومعانيها . هذا هو ما قَدَّروه ، وسجَّلوه بأقلامهم فى المعاجم العربية القديمة . والحيا أيضاً ، فى اللغة : المطر والخصب . ومعلومٌ يا ابنتى أن المطرَ ماءٌ ، والخصبَ نتاجٌ للأرض التى سُقيت ماءً . الماء المخصِّب ، والأرض المخصَّبة ؛ كلاهما حَيَا .. كلاهما حياة .. كلاهما حواء .. كلاهما الحية . الحية عكس الميتة .. الحيةُ ضد الفناء .. الحيةُ مرادفةٌ للخلود ، والانبعاث ، وتجدُّد البقاء .. الحية ، أنت وأنا لحظة مولدك، لحظة الميلاد التى تتحقق بها أنوثة الأنثى، على نحو لا مثيل له . والحيةُ ، هى روح الوحىُّ الأنثوىُّ السارى فى النساء ، خافتاً كالفحيح ، منذ فجر الوجود إلى يوم منتهاه . واعلمى يا ابنتى ، أن ما يؤنِّث الأنثى ، هو أمرٌ أعمقُ من انتفاضة ثدييها عند البلوغ ، أبعدُ من استدارة ردفيها عند الاكتمال، أروعُ من العاصفة المكتومة التى تمور بجسمها عند الشبق ، أبدع من زينتها العشتارية البهية ليلة زفافها .. هذه كلها تمهيداتٌ ، إشراقاتٌ وإلماحات تومئ إلى لحظة التوهُّج العلوية : لحظة الإنجاب . لحظة الانبثاق . لحظة تجلى الوحى الكامن فيها منذ الأزل ، وإلى الأبد . .. وللحيِّة معانٍ مستترةٌ عن أعين الناس ، وَشَتْ بها اللغة ، وتناساها الناس . الناسُ نسيانٌ . فمن مستتر معانيها، ما يأتى فى متون اللغة عند الإبانة عن لفظ أله .. ولا تندهشى من قول اللغوى الشهير ، ابن منظور ، إن الإلهه هى الحيةُ العظيمة ! وفى بيان مادة لوه يقول فى كتابه المشهور لسان العرب ما نصه : اللاهة هى الحية ، واللات صنمٌ مشهور يكتب بالتاء (اللات) وبالهاء (اللاه) والأخير هو الأصح ، وأصله لاهه وهى الحية ! ومع ذلك ، أهيل غبار النسيان على تلك المعانى الكامنة فى لفظ (الحية) وسارع أهل اللغة إلى طمسها بمعانٍ أُخر، ترتبط فى وعيهم المتأخِّر ، المتخلِّف ، بالأنوثة المستهان بها .. الأنوثة التى أمعنوا فى إزاحتها عن عرش القداسة ، وفى الحطِّ من شأنها بكل السُّبُل . مازلت أذكرْ نوبة الضحك الهيستيرى التى انفجرت منى قبل عشرين سنة، حين قرأت فى لسان العرب تحت مادة (أنث) ما نصه : الأنثى خلافُ الذكر فى كل شئ ، والجمع إناث وأُنُث ، كحمارٍ وحُمُر ! ولكن ، مثلما تنـزوى (الحية / الأنثى) وتستتر أسرارُها بعيداً عن الأعين ، تستتر معادنُ الحكمة وتنـزوى فى أرض الأفهام . وقد عرف التاريخُ ، بعد انقضاء الزمن الأنثوى الجميل، بعضاً من رجالٍ حكماء عرفاء . عرفوا ما للحية ، وما للأنثى ، من معنى أصيلٍ لاتدركه الأبصار والأوهام والظنون . وتحقَّقوا من أن الحية صنوُ الحكمة ، وتوأم الوجود العميق للعالم . ومنذ بدء الخليقة ، لم يخل العالم قط من واحدٍ من هؤلاء العارفين الحكماء الذين أدركوا سِرَّ الحية ، ولمحوا بهاء (الأنثى / الأفعى) .. غير أن بعضهم كتم السر ولم يبح ، وبعضهم باح به رمزاً وتلميحاً ، مثل سيف بن ذى يزن الذى أحاط بسيرته الحضورُ الأنثوىُّ الطاغى ، فرسم الحية على صفحة سيفه البتار . وبعضهم ألمح للأمر من بعيد ، مثلما فعل ذلك الرجل البديع . المتحقِّق فى تصوُّفه بما للمقام الأنثوى من روعة .. الولى الكامل ، العاشقُ البصير بدروب العشق ، المحب حتى الثمالة ، الذى حكى فى كتبه عن الحية المحدقة بجبل قاف ، الشيخ الأكبر والنور الأبهر والمطلع على السر الأخطر (محيى الدين بن عربى ) الذى كتب رسالة فيما لايعول عليه ، فقال : المكان الذى لايؤنَّث ، لايعوَّل عليه ! يا ابنتى ، لقد سطعت شمس النهار ، وكَلَّت يدى .. فاعذرينى . ولسوف أعود للكتابة إليك . ولسوف أعاود زيارتى لك ، عند الفجر ، فى أحلامك .
التعديل الأخير تم بواسطة معرفتي ; November 1, 2016 الساعة 03:03 AM سبب آخر: وضع رابط دائم على مركز تحميل المجلة ومقتطفات من الرواية |
#2
|
||
|
||
رد: ظل الافعى ....د..يوسف زيدان
شكرا لك على الرواية .. الله يعطيك العافية .. وفقك الله ..
__________________
|
#3
|
||
|
||
رد: ظل الافعى ....د..يوسف زيدان
ولك كل التوفيق......رعاك الله وحماك شكرا لمرورك.
|
مواقع النشر (المفضلة) |
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
تحميل رواية النبطي .. د. يوسف زيدان .. حصريا في مجلة الإبتسامة .. النبطي | معرفتي | الروايات والقصص العربية | 294 | November 1, 2016 01:34 AM |
طلب تحقق ، كتاب (كلمات) للدكتور يوسف زيدان | mido0o0o | أرشيف طلبات الكتب | 1 | November 29, 2011 02:36 PM |
عزازيل...يوسف زيدان | سلمى فاروق | الروايات والقصص العربية | 2 | December 18, 2010 02:54 AM |