فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الروايات والقصص > الروايات والقصص العربية

الروايات والقصص العربية تحميل كتب روائية لأشهر الكتاب و المؤلفين العرب



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم December 16, 2010, 11:42 AM
 
Rose ظل الافعى , د.يوسف زيدان

ظل الافعى
د. يوسف زيدان


التحميل


إلـى مَـىّ .. ابنتـى ، وجدَّتى .
إلمــاحٌ
وقعت أحداثُ هذه الرواية ، جميعُها ، فى الليلة التى يُسفر صباحُها عن يوم الثلاثاء الموافق للتاسع من ذى القعدة سنة 1441 هجرية .. الموافق أيضاً للثلاثين من يونيو سنة 2020 ميلادية ، وهى سنة 1736 القبطية المصرية ، وسنة 2012 القبطية الأثيوبية ، وسنة 1399 الشمسية الفارسية، وسنة 5780 بحسب التأريخ التوراتى البادئ من آدم اليهود .. وقد نشرتها ، عملاً بالحديث الشريف : ألا لا يمنعنَّ رجلاً هيبةُ الناسِ ، أن يقول بحقٍّ إذا عَلِمه (رواه الإمام أحمد فى المسند والترمذى فى السنن ، عن أبى سعيد الخدرى)

- آخرتها إيه يا عبده ، يا غلبان .
قالها فى نفسه هامساً ، ساعة الغروب ، وهو يصعد الدرجة الثالثة من سُلَّم منـزله المكوَّن من طابقين ، فقط . منـزله المتكوِّم بلا هيبة ، القابع بلا حضور متميِّز فى المكان ، ومن حوله استطالت العمارات ، حتى بدا سطحُ المنـزل مثل قاعٍ عميقٍ لبئرٍ لم يحفرها أحد ، ومثل فِنَاءٍ خلفىٍّ للشواهق الثلاثة القبيحة التى أحاطت به بإحكامٍ خانق . حتى النوافذ التى فتحها سكان الشواهق المحيطة ، لتطل على الفراغ المستقر فوق سقف المنـزل ، أُغلقت ، بعد الواقعة المشهورة التى رفعت رأس عبده بين جيرانه الثقلاء ، الجاثمين على روحه . ما علينا من كل ذلك ، فالمهم الآن هو حسم الأمر المعلَّق منذ فترة ، فقد طال الصبرُ حتى تقطَّعت أوصاله .
عند الدرجة العاشرة من السُّلَّم الرخامىِّ ، المسيَّجة حوافه بقضبان صدئة . رأى شقة الدور الأول ، المظلمة، المغلقة منذ وفاة جدته العجوز ، المحطَّمة . قضت هذه المرأة السنوات العشرة الأخيرة من عمرها ، لاتتحدث إلا عن فضائل زوجها ، وعن إنجازاته التى أهمها تشييد هذا المنـزل منتصف القرن الماضى، العشرين . كان المرحوم قد شيَّده وسط فراغٍ رملىٍّ ، جعل المنـزل يبدو آنذاك من بعيدٍ ، كصرحٍ أنيق .. ناءٍ .. متوحِّدٍ بطرازه المعمارى الذى لاشخصية له . ومن حوله دار شريطٌ لايزيد عرضه عن مترين ، إلا من ناحية الواجهة الخارجية . يصل العرض هناك إلى ثلاثة أمتار . الشريط المحيط بالمنـزل ، كان فيما سبق حديقة ، وصارت أرضُه الآن جَرْداءَ قاحلةً كالحقيقة .
تنهَّد عبده لحظةَ أن لمح صدأ القطع النحاسية التى كانت قبل عقودٍ من الزمان ، تزيِّن باب الشقة . تذكر يومىْ وفاة جَـدِّه ، وجدَّته . كلاهما مات فى صحةٍ مقبولةٍ بالنسبة لمن يناهز الثمانين ؟ صحة الجدِّ بالطبع ، كانت أفضل .. أىُّ شئٍ ذلك الذى انطوى بموتهما . سأل نفسه : أتراهما اليوم ينعمان ، معاً، بسكينة الخلود، ويرتعان فى رياض الجنة ؟ جاوب نفسه بما معناه: ربما يرتع الجدُّ، أما الجدَّة فلا يبدو من حياتها المديدة ، الفارغة ، أنها عملت شيئاً تستحق به الخلود والرتع . وما الذى سيخلد منها بالضبط ! وهى التى قضت الأعوام الثلاثين الأخيرة من عمرها ، لاتضحك ولا تبكى . لم يرها طيلة عمره ، خارجةً عن مألوفها ، المحايد، الساكن دوماً. غير أنها انفعلت مرةً، وصرخت فى وجهه بارتجافةٍ شديدةٍِ ، يوم همس فى أذنها بأن جده لم يحسن اختيار موقع هذا المنـزل .
سُلم الدور الثانى ، الأخير ، درجاته أكثر نظافةً ونصوعاً . رخامُ الدرج يزداد وهجُه الأبيض ، كلما ارتقاه .. بدت لعينيه الدرجةُ العالية ، الأخيرة .
لماذا يتعلَّق قلبه بهذه الدرجة الرخامية العريضة ، بالذات ، ويتوجَّس منها ؟ هل لأنها علامة الوصول وقرب الولوج ، أم لأنها علامة الخروج من شقته الرطبة . لم تعد تدخلها الشمس مذ صار المنـزل تحت حصار الجدران الخلفية للعمارات الثلاثة المحيطة به .. لا ، بل لأن هذه الدرجة الرخامية ، هى العلامة النهائية الفارقة . نعم ، هى الفارقة بين الموت والحياة ، هى علامة وجودك يا عبده يا مطحون ! فكلما تعادل عليها مرورك (الصاعد/ الهابط) فأنت حىٌّ .. ويوماً ما ، ستمرُّ على هذه الدرجة صعوداً أو هبوطاً ، ثم لا تعادل الصعود بهبوط ، أو الهبوط بصعود .. فتكون عندئذ قد مت .
حَدَّث نفسه وهو يلتقط أنفاسه : عندما أموت ، هل ستقترن امرأتى الناعمة برجلٍ آخر ؟ هل سترتخى له ؟ هل سيمرُّ بباطن كَفِّه الخشنة على أنحاء جسدها العارى الممدَّد بجواره ؟ .. إييه يا عبده ، يا مخلول . لماذا ترعدك هذه الخواطر والأفكار .. هه .. مشغولٌ بما سيحدث عندما تموت ! إنك الآن ميتٌ وأنت حىٌّ .. تدور كالترس فى الفراغ ، ليلُك كئيبٌ ونهارُك .. لا أحد يهتم بك ، يا مسكين ، مع أنك لم تقصِّر فى شئ .. طيب، الصبر عموماً طيب ومطلوب . قد تنصلح الأمور الليلة ، وتكون آخرتها حلوة .
قبل أن يُولى وجهه نحو باب شقته ، تسمَّرت قدماه على الدرجة الأخيرة ، الفارقة ، وأمال وجهه نحو بئر السلم .. رآه بئراً أخرى ، فارغةً ، كبئرِ الفراغ التى يستقر منـزله بقاعها ، وبئر الفراغ التى انحفرت بداخله خلال الأسابيع الماضية .. بئرٌ ، ثم بئرٌ ، ثم بئرٌ ! فمتى سيخرج من دوامات الآبار المتداخلة ؟
أطال النظر لأسفل ، وقع نظره على الصندوق الخشبى المخصَّص للبريد . لاحَظَ للمرة الأولى ، أن حجمه كبير بالنسبة لأى صندوق مماثل ، وأن موضعه عجيبٌ (أعلى الدرجة الأولى من السلم) .. مَنْ وضعه فى مكانه هذا، ومَنْ صنعه بهذا الحجم : أبوك ؟ جدك ؟ المقاول الذى بنى المنـزل ؟ مَنْ ..
أدهشته فكرة أن يكون وجود الصندوق سابقاً على وجود المنـزل ، وأن المنـزل بطابقيه بُنى خصيصاً لتحيط حوائطه حائلةُ اللون ، بهذه العلبة الخشبية الخطيرة التى صار ينظر إليها مؤخراً ، بارتياب ، وصار مع بدء ورود الرسائل ، يسميها : صندوق المفرقعات ! .. قبل شهرين ، حين قال لامرأته الاسم الجديد للصندوق . لم تردّ ، ابتسمت بكسل ، ثم نظرت بأسىً إلى بعيد ! ماذا لو نزل الآن فنـزع الصندوق من مكانه ، ولو شاء حطَّمه ومحا من الوجود أثره ، أو فَتَّته ثم أشعل فيه النار وراح يرقب احتراقه ، أو خلع جوانبه و واجهته فألحق قلبه بالفراغ المحيط به ، أو ..
انتبه إلى أن صوتها الناعم ككل ما فيها ، يكاد يأتى خفيضاً من داخل الشقة ، من الجانب الأيمن من الصالة الرطبة ، من البقعة الوحيدة الخالية من الأثاث ، ومنها يتفرَّع الممرُّ المؤدى للغرف الثلاثة . نبراتُها الناعمة دافئةٌ ، دافقةٌ ، فى تحنانها العميق غموضٌ وسموٌ . خلع نعليه أمام باب الشقة ، كما يفعل دوماً ، وكما يحبُّ أن يفعل زوارهما القلائل (معظمهم يتجاهل الأمر ويدخل بحذائه ، خاصةً النساء) أباح لنفسه أن يلصق أذنه بالبـاب ، حتى يتسمَّع تلك الأغنية التى تردِّدها امرأته . أهى أغنيةٌ، أم نشيدٌ قديم، أم ترنيمةٌ سحرية ، أم همسُ جنونٍ يتسلل إلى عقلها منذ بدء ورود الرسائل الغامضة ؟ .. ما الذى جرى للمرأة التى أحبها ، وكان يظهر إخلاصه لها . من بعيد سمع كلمات متفرِّقة ، من قولها :
محيطاً بلا نهاية ..
.. وحدى ، أنا
سأبقى ، وأصيرُ ..
أفعى ، عصيَّةً ..
نقر البابَ بوجل، نقرةً خفيفةً خفية . لم يستعمل مفتاحه ، كيلا يفجؤها أو يُفاجأ هو بوقفتها السامقة التى يمكنه أن يتخيَّل روعتها . توقَّف ترنُّمها إذ أَلْفته لدى الباب . رآها آتيةً من خلف زجاج الباب المغبَّش . ها هى تقترب إلى ناحيته ، كالحلم . صار بمقدوره أن يرى رفرفة خصلات شعرها المتهدِّل بنعومته الآسرة ، علـى كتفيها العاريين .. كتفيها ، البضَّين ، البيضاوينِ ، المنحدرينِ بانسيابٍ سحرى نحو مركز الإبط الدافئ، الممتدينِ بلون سحاب الصيف إلى حيثُ التقاءِ النهدين . فى نهديها رقةٌ محيرة . لهما ملمس أوراق الورد ، وفيهما خلاصة الرحيق السماوى ، كله .
فتحت الباب وهى تنظر إلى حيث تتوقَّع أن ترى وجهه . غاصت نظرتُها فى قلب عينيه ، ثم نفذت من هناك إلى دماغه فأثلجتها ، ثم انصبت فى نخاعه الشوكى فبعثت رعدةً خفيفةً غمرت ظهره .. مهلاً ! كيف يمكنها بهذه العفوية ، النظر إليه بهذه العلوية ، وهذا التسامى . مع أنها أقصر منه قليلاً ! وكيف يمكن لعينيها أن ترفعه على هذا النحو ، لأعلى .. فتطيِّره .. وتنذره بالسقوط من شاهق .
- إيه اللِّى سمعته مِنِّك ده ؟ .. وبعدين ، إيه آخرتها معاكى . يا حبيبتى ، كفاية كده . حرام عليكى . أنا بحبك ، ومخلص ..
لم يستطع أن يكمل ، كان ينوى أن يعلو بثورته إلى المنتهى، وبعدها يحطُّ عند حَدِّ التوسُّل ، ثم يرسو على شطِّ الذكريات الحلوة بينها .. فيستردها فى النهاية ، يردُّها إليه من أفق النأى . لكنه لم يستطع أن يكمل . احتقن صوته وارتطمت كلماته بهذا الجدار المنيع ، الذى سرعان ما ارتفع فى عينيها الواسعتين . ارتفع مثل سورٍ ممتدٍ من بدء الخليقة ، إلى آخر زفرةٍ حَرَّى أطلقها وهو فى حضنها المتجرِّد ، إلا من طغيان رغبتها المتأجِّجة الطامحة إلى الإتاحة والمنح . كانت تلك المرة الأخيرة ، قبل سبعة وأربعين يوماً ، قبيل الفجر .
علا الجدارُ المنيعُ بعينيها ، مع احتداد نظرتها . ولما ضمَّت حاجبيها ، ازدادت عيناها غوصاً فيه .. فأسكتته .
- أُدخلْ .
قالتها حازمةً و استدارت مبتعدةً ، فتوغَّلت فى الممرِّ المؤدِّى لغرفة نومها ، المؤدِّى لسريرها ، المؤدِّى للجنة التى طُرد منها قبل سبعٍ وأربعين ليلة .. لاحقها بناظريه مشدوهاً . خصرُها بديع ، الثوبُ السماوىُّ الفضفاضُ ، القصير ، يشفُّ اللونَ الكُحلىَّ لملابسها الداخلية . وما ملابسها الداخلية ، إلا قطعةٌ واحدةٌ ذات جناحين محلِّقين بردفيها ، يمسكهما شريطان لامعان يلتصقان ، بإحكام ، بجانبيها .. النسيجُ الكحلىُّ اللامع ، يمسك بالانسياب اللدن الناصع ، حتى لاينفلت ! ليتها تخلع الثوبَ السماوىَّ المشفَّ ، ليرى ما يضطرم تحته من صراعٍ بين اللامع والناصع ، مع حركة ردفيها الرزينة .. ولابد أن النصوع سيغلب فى النهاية، وتنفلت اللدونة العاجية الشهية من حصارها .
غاص فى نفسه ، هيَّجه التوقُ وفَرَكه الشوقُ .. هو محبوسٌ عنها ، بها . وجسمها محبوسٌ عنه بأشرطةٍ داخليةٍ لامعة ، وقطعةٍ من نسيجٍ كحلىٍّ تكاد تشفُّ ما تحتها . لقد شَفَّه الوجدُ .. فإلى متى سيدوم هذا الحبس ؟
قبل أن تتوارى عن عينيه المشدوهتين ، لمح بيدها وريقات لونها لون الكناريا، اعتقد أولاً أنها واحدة من الرسائل (لكنه سوف يعرف ما فيها بعد ساعات) .. فى يدها الأخرى كتابٌ ، مجلدٌ صغير أنيق .
دَسَّت الوريقات فى الكتاب وهى تغيب فى الممر ، غير عابئةٍ به .. اندفع ليدركها ، متجاهلاً الأطباق والأرغفة المصفوفة أرباعُها بإتقانٍ ، فوق المائدة الدائرية المحصورة بأقصى زاوية الجانب الأيمن من الصالة . لم يلتفت ليعرف نوع الطعام المعدُّ له اليوم . لحق بها فى الغرفة . أراد أن يتكلم .. تاهت منه لفظةُ البدءِ . هدوؤها الوقورُ يقلقه ، مع أنه كان مولعاً بوقارها وهدوئها قبل سنوات . قبل سنوات ، آه ، كانت بيضاءَ ، هادئـةً ، وقوراً .. يوم رآها للمرة الأولى . يوم خفق قلبه للمرة الأولى . يوم نوى للمرة الأولى ، والأخيرة ، أن يتزوَّج .
كانا قد التقيا فى حديقة المبنى الكبير المسمى مجمَّع التدريب الذى أُرسلا إليه ، كُلٌّ من جهته . هو ليدرس لثلاثة أشهـر ، أصولَ توظيفِ الألوانِ البرَّاقة فى تصميمات أغلفة المنتجات الاستهلاكية صغيرة الحجم ! إذ كان لابد من حصوله على دورة التدريب السمجة ، هذه ، ليمكنه استلام وظيفته الجديدة فى قسم الجرافيك بالشركة الدولية المجمعة لإنتاج الوجبات الخفيفة . وكانت هى قد انتظمت فى مركز التدريب ، من قبل مجيئه بسبعة أسابيع ، بالدورة التدريبية عالية المستوى ، لتطوير مهارات الترجمة ومعالجة الألفاظ المشتركة بين عدة لغات، استعداداً لتسلُّم عملها كمترجمة فى الهيئة الدولية المشتركة لضبط النصوص المترجمة من كل اللغات إلى الإنجليزية ، وحَثِّ الكُتَّاب على التأليف بها ! وهى الهيئة المعروفة اختصاراً ، بالأحرف العربية الثلاثة ، التى تبدأ بها كلماتها : هدم .
يومها ، هفا إليها حين مرَّت أمامه . صبا نحو جمالها ، حين دنا . انقلبت دولته ، لما تدانت . ذاب ، لما حيَّته بابتسامة من قاب منزين أو أدنى . تدلَّه ، لما أوحت إليه بالاقتراب أكثر . طار فرحاً ، لما بادلته الكلمات والبسمات والإشارات .. كان هدوؤها ووقارها، من النوع الأبيض الذى يحبه الرجالُ فى النساء . كان كذلك فى ذاك الزمن ، ثم صار اليوم من النوع الرمادى الغامض ، الذى يكرهه الرجال فى النساء ، صار عميقاً .. مقلقاً .
- نواعم ..
ناداها بتمهُّلٍ يناسب مفتتحَ الكلامِ الذى لم يعرف طيلة الأشهر الماضية ، كيف يبوح إليها به . من المستحسن أن يبدأ بمناداتها بهذا الاسم الواصف ، الذى اخترعه لها ليدلِّلها به ظاهريـاً ، لكنه يستشعرُ بروحه كُلَّ حرف فيه . كان قد همس به فى أذنها اليسرى ، عفوياً ، يوم احتضنها عاريةً لأول مرة . كانت النشوة تلفُّها ، بحيث زادتها الكلمة خَدَراً على خدر ، فزاد ذوبانها حتى شَعَرَ أنها تسيل بين ذراعيه . نظر ساعتها فى قلب عينيها ، وكرَّر الكلمة .. نواعم .. فأسبلت رموشها الكثيفة ، وراحت فيما يشبه الغيبوبة . بعد الإفاقة ، سألته لِمَ ناداها بهذا الاسم القديم ، الذى لم يعد يستعمله اليوم أحدٌ ؟ قال ما معناه : لأن كل ما فيك ناعم ، وأنت مجمع النعومة ، وهذا اسمك عنـدى ، للأبد !
جرى ذلك أيام زواجهما ، قبل قرابة سبع سنين . والآن ، ها هو واقفٌ قرب بابها ، وقد صارت نعومتها قاسيةً ، قاصيةً ، نائيةً عنه .. موغلةً فى النأى .
- نَعَمْ !
ردَّت بهدوءٍ عميق ، مُؤَثِّر . فردَّته من غيبته اللذيذة فى ماضيهما المشترك . أراح عينيه على جدائل شعرها المتهدِّلة خصلاتُه القوية ، على كتفيها . انزلقت عيناه نحو استدارة كتفها اليمنى . ماذا لو اقترب منها الآن، ولثم نقطةَ انحدارِ شمسِ الكتف البديع المنساب إلى دفء الإبط . يا أللـه . من أيَّة مادةٍ سماوية خُلقت هذه المرأة البديعة . هل ستزيحه عنها لو اقترب ؟ أم ستتركه يجتاحها ، مدفوعاً بغيِّه نحو غاياته ؟ .. أين غاياته منها ؟ أين ينتهى به مطافُه السابحُ موجاتها المنسابة ، المتوالية . وإذا تركته يبحر فوق نواعمها ، إلى أين سيصل به المطاف ؟ أين هى من شوقه إليها ، واشتياقه ؟ .. الشوقُ يسكن باللقاء ، واشتياقه يهيج بالالتقاء .
- نَعَمْ !
قالتها هذه المرة بنعومةٍ آسرةٍ لاتخلو من سخريةٍ هامسةٍ واشيةٍ بإدراكها حالة اضطرابه . زاده إدراكُها اضطرابه اضطراباً .. اقترب خطوتين خجولتين ، واستعدَّ للانكماش تحت ظلِّها . جثا أمامها على ركبتيه ، ثم افترش الأرض . أمال رأسه برفق ، نحو الوسادة القطنية التى تتكئ عليها . سَكَنَ ، ليَسْكنها . انكمش ، ليخَمْشها . هَبَطَ ، لتُعليه .. دَنَـا ، لتتدلَّى .
ارتخى جفناه حين مرَّرت أنامل كَفِّها اليسرى ، فوق منابت شعره . أخذه الدوارُ . حار سعيُه فى اختيار مدار : هل يكمل ما بدأه .. ينهزم لها فتنساب هى إليه، كما يتمنى أن تفعل الآن ؟ أم ينتفض ، ويثور عليها ثورةً قد تفضى إلى استسلامها له . مضى وقتٌ طويل منذ آخر استسلامٍ . وقتٌ طويل مضى منذ آخر مرة استلم فيها جسمها الذائب بين ذراعيه لينتشى بخَمْرهِ إلى حَدِّ المجون ، إلى حَدِّ النهم اللاأخلاقى ، نهم البدائيين المحرومين . بدت له ليلتها ، باستسلامها العارى من كل شئ ، إلا الرغبة فى المنح ، كخبيئةٍ نادرة صادفت نابشَ قبورٍ تعيس .
رفع كفيه ببطء نحو إبطيها ، ثم قارب بينهما ليحفَّ ثدييها . مدَّتْ يدها اليمنى لتوقفه ، فتعلَّق بكفِّها . سحبه إليه بهدوء ناسكٍ مخلصٍ ، يجثو أمام تمثال إلهٍ قديمٍ مندثر . مَرَّ بباطن كَفِّها على وجهه ، اغتسل بنور أناملهـا ، لامس بشفته السفلى أطراف كفِّها ، فتنهَّدت ، فارتجف حتى كادت دمعةٌ تفيضُ من عينيه .. ناداها .
- نَعَمْ !
لم يستطع المجاوبة . ارتعش قلبه . سكن تماماً ، ثم استجمع وجوده كله ، ليندس بوجهه بين نهديها . التصق بشدة . وَدَّ لو غاص فيها حتى يتلاشى تماماً ، علَّه يولد ثانيةً من رحمها .
مرَّت بكفيها على كتفيه . استسلم لها حين رفعته بأمرٍ خفىٍّ . أترى ، هل مالت هى نحوه حتى صار بحضنها، أم هو الذى ارتقى إليها ؟
صارت تحيط خصره بباطن فخذيها . شفَّ ، وخَفَّ ، وهام . هو جاثٍ على ركبتيه يحيط خصرها بذراعيه ، وهى جالسة على طرف السرير ، وقد انكشف ساقاها وآن سُقياها . ماذا لو انكشفت كلها ، فتأجَّجت وفاضت عينُ مياهها ؟
مَدَّ يده برفق ، فأزاح عن كتفيها الخيطين الممسكين بثوبها السماوىّ الشَّفَّاف . كلما انزاح الثوبُ عن موضع من صدرها ، قبَّله . مسح فيه وجهه . بعد هنيهة ، تركته يهبط بالسحاب السماوىّ الحاجب للشمسين .. لما انكشف صدرُها ، تنهَّد بحُرقـةٍ ، وأراح جبهته عليه .
.. شَعَرَ بالشلاَّل يَسَّاقط ماؤه ، ثم لحظ انتفاضة خلاياها مع حَرِّ أنفاسه ، فازدادت شجاعته . أزاد لهيب قبلاته بحركة طرف لسانه ، ثم هبط بحمى القُبل اللاهبة ، من موضع افتراق الناهدين ، إلى حيث النعومة الخالصة .. هبط بملهباته ، ثم انحدر بها ، فانتهى عند الغاية والمنتهى .
- عَبـُّـودى .
قالتها بنعومة خالصة وقد أسبلت رموشها الرشيقة ، وانسدل شعرها . لفَّها شعورٌ واشٍ بأن خلايا جسمها ، جميعها ، تدعوه . راحت إلى أفقٍ بعيدٍ . سرت فيها موجاتُ دفءٍ متتالية غمرتها من أعلاها إلى أعلاها .
نداؤها السحرى دغدغ روحه . ثَقُلت رأسه فأراحها عند ملتقى ساقيها .. مَرَّت على خاطره المرَّة الأولى التى نادته بهذا الاسم . لما سألها حينها ، قالت إن اسمه الجديد هذا، تدليلٌ لكلمة عبده التى يناديه الناس بها . ثم أضافت بدلالٍ ويُسر : عبدُ مَنْ ؟ أنت عبدى أنا .. عبدى الصغير .. عبُّودى !
ساعتها ابتسم مستخفِّاً بكلامها ، لم يكن يعرف ما خبَّأه الزمانُ له . بعد أيام سألها عن هذه الكلمة ثانيةً ، لما قالتها ثانيةً . فأجابت الإجابة نفسها ، بالسهولة نفسها . فوجم قليلاً ، ثم عبس وتوجَّس . فى المرة الثالثة تكرَّر الأمر ، فثار . طوَّح ذراعيه . قام ، وجلس ، وقام . أراد أن يظهر لها حنقه من جرأتها عليه . طلب منها بحزمٍ وحسمٍ وعزمٍ ، ألا تعود لمناداته بهذه الكلمة أبداً ، ولا تفكِّر فيها بعد ذلك أبداً ، ولا تظن أنه سيقبل ذلك منها ، أبداً ، مهما كان .. لكنها ظلت تناديه عَبُّودى كلما قبلته وقبَّلته وكاد يعتليها .
فى الأشهر الأخيرة ، كانت حين يشتعل بهما الشوقُ ويستقر قاربُه فوق مياهها ، تشعر أن الذى بداخلها ، منه ، إنما هو جزءٌ منها . غريبٌ عاد لداره ، أو هو حجرٌ انخلع من بناءٍ ، ثم أعيد لموضعه . أسمعته فى إحدى الليالى بعد هدأة الأمر ، بعدما خمدت كل الثورات التى تأجَّجت بجسميهما ، وهمدت بينهما حُمى التوغُّلات والتشبُّثات . أسمعته ، وكأنها تقبِّله فى أذنه اليسرى التى يدوِّخه همسُها فيها . أسمعته بصوتٍ ذى بَحَّةٍ وفحيحٍ سحرى ، عبارةً غريبة المعنى : صَحْ ، ما ذكَّر المذكَّر ، هو الذى أنَّث المؤنَّث .
لم يفهم ذلك وقتها . وكان عليه أن ينتظر طويلاً حتى يصله البيان والتبيان ، فيزيد من قلقه ودهشته واغترابه عنها .
- عَبُّــودى .
قالتها ثانية ، وكأنها تنطق بلغةٍ أخرى لا يفهمها إلا هو . قالتها بحروف غير الحروف . العين قريبة من الهاء ، الباء رقَّت كأنها تنهيدة طفل رضيع ، الواو فاضت وتماوجت كمياه عينٍ دافئة ، الدال خفتت حتى اقتربت صوتياً من التاء ، وما كادت الياء تبين لسمعه ، مع أن السكون كان تاماً حولهما .. قالتها ، وقد أخذها الدَّوَارُ لما مَرَّ لسانُه على أرضها ، وأحسَّت بأصابعه المنغرزة فى ظهرها العارى ، تغوص كجذور أشجار قديمة ، فتداعب أطرافُها بذور جنينٍ كامنٍ فيها منذ ألوف السنين .. ازداد التصاقهما . تزلزل باطنها ، فانكشفت . تكشَّفت ، فأدركت . سَرَت ، فأسرَّت لنفسها :
إن ما يأتينى من خارجٍ ، باعثٌ لما هو كامنٌ أصلاً بداخلى . ففى منطقة عميقة مِنِّى ، تكمن النقطة التى بدأ منها الوجود ، النقطة التى خُلق منها الكون .. ماما ، إننى أشعر الآن برغبةٍ عارمةٍ فى الهبوط لقاع المحيط ، أو التمدُّد عاريةً فوق كوكبٍ مهجور ، أو جذب جبلٍ ملئ بالأشجار نحو جسمى العارى الممدود فوق السرير ، الممتد من بدء الكون إلى منتهاه .
راحـت ، كمـا توقَّع هـو ، تعزف بأنفاسها المكتومة بباطنهـا ، مقطوعة التأوُّهات السحرية . المقطوعة التى لا تتكرَّر أبداً نغماتها . راحت تسافر به إلى ما وراء الوراء ، وفَوْق الفوق، وبَعْد البعد . طاح قلبه وانداح ، لما دعته بأمرٍ خفىٍّ أن يتماوجـا . زحف إلى قلب السرير منتشياً . تقلَّبا ، حتى كاد يغرس بخيمتها الوتد . شعر لحظتها أنه ينمحق ، يتناثر فى الكون كذراتٍ لامتناهية الهيمان .
غابت هى ، تماماً .. غامت رؤياها ، انكشف باطنها لـمَّا شعرتْ بقوة المحبة الطاغية ، تجتاحها . توهَّجتْ فى باطنها نقطةُ البدء ، نقطةُ سِرِّ الوجود ، نقطةُ النار المبدعة .. اجتاحت خلاياها ترنيمةُ الإلهة القديمة :
أنا عشتار
النارُ الملتهبةُ التى استعرت فى الجبال
الاسمُ الرابع من أسمائى الخمسين المقدسة ، هو :
نارُ المعركة المحتدمة .
فاجعلنى ، وحدى ، كخاتمٍ على قلبك .. لأن المحبة قويةٌ كالموت .
شعرتْ بالكون كله يمورُ بباطنها ، فأغمضت عينيها وغابت فى أزمنةٍ سحيقة .. شعرت بأمِّها ، اشتاقت إليها ، جَرَفها نحوها التياعٌ لامحدود . نادتها نداءً خفياً :
ماما ، أين أنت الآن أيتها الروح السارية فى العوالم القديمـة ؟ .. ماما .. أخبرينى ، هل الآفاق التى تتقاذفنى الآن ، مع هذا الرجل الذى يكاد ينغرس بأرضى ، هو ما ذكرته فى رسالتك التاسعة ؟ أهذا هو الجنس المقدس الذى كانت كاهنات الرَّبة ، يمارسنه فى المعابد ؟ أترانى فى هذه اللحظة، تلك الأنثى فى ذاتها التى حكيتِ لى عنها ، وما هو إلا واحدٌ من الرجال ، لا أكثر ولا أقل . تعرفين يا ماما ولايعرف هو . أننى عرفت زلزلة الأعماق هذه ، مع غيره . عشتها بكل روعتها ، مرات .. مرةً مع الخبير الذى التقيته فبقيت غارقة فى بحر عشقه طيلة الصيف اللاهب ، سنة تخرُّجى وتوهُّجى واندلاعى . كم كان ماهراً فى التقاط شواردى وأناملى وانفراجة شفتى .. ومرةً مع لمسة الشاب الأشقر الذى انطلقت معه ، أيام زرت ألمانيا فى صيف السنة الأخيرة من دراستى الثانوية . كم كان جميلاً هذا الشاب . آه يا ماما ، ولكنى عرفتُ الآن فقـط ، أن سرَّ الإبحار فى الأنوثة قد يكون بمجداف أى رجل . وعرفت أن النقطة / السِّرَّ ، إنما هى بداخلى أنا . وعرفت الدوار العلوى ، حين سمعتُ صلصلة الجرس بأعماقى . ماما ، إلى مَنْ أرفع نجواى . ولمن سأهمس بأسرارى ، وهذا الرجل الذى فوقى ، تحتى ، وبيننا هاوية عصورٍ سحيقة .. ماما ، إلى أين تأخذيننى ؟ أترانى سأعود يوماً ، مثلما كنتُ قبل إشراق رسائلك فى كهف حياتى . لا ، لم يعد ذلك بإمكانى . ماما ، تلك ليلتى الأخيرة هنا ، وبعدها سأحلِّق نحوى، نحوك . لن أعود لما كنتُ فيه ، ولن تعاودنى شكوكى ..
- ماما ، خدينى .
انتبه (عبودى) حين همست بالكلمتين المفاجئتين . شعر أنهما انفلتا من شفتيها ، ليدلاَّه على تفاهته ، وعلى غيابه التام عنها !
كان الليلُ قد عمَّ سكونُه . رفع عبده رأسه مستغرباً . نظر إليها كطفلٍ حائرٍ ، متسائلاً . فتحت عينيها الواسعتين ، فقفزت نظرته المتسائلة فيهما . تأفَّفت ، أشاحت عنه برأسها المستقرة على خصلات شعرها المفروش فوق الوسادة ، لاحقها بنظراته من جهة اليمين ، إلى الجهة اليسرى حيث أشاحت ثانيةً . حدَّق فيها باستغراب روحٍ هائمةٍ عَلَتْ .. عَلَقَتْ .. ثم انزلقت من فوق سحابة . وَدَّ لو تتلقَّف روحه الحائرة ، بنظرةٍ حالمة تحلِّق به مجدَّداً . لكنها لم تترك له سبيلاً لذلك .
أمام نظرته الطفلية ، المستغربة ، أسبلت جفنيها باستسلام محاربٍ قديمٍ انسحبت روحه ببطء من أطراف أصابعه ، فسقط سيفه من يده .
- تُقصدى إيه بكلامك ، بتكلِّمى مين ؟
لم تكن لديها الرغبة فى الإجابة . لم تكن لديها الرغبة فى أى شئ .. دفعته بباطن كَّفيها ، كى ينـزل عنها . تـشبَّث . توسَّل إليها بانعقادِ حاجبيه وتهدُّلِ شفته ، وبكل بؤس حاله رجاها أن تتركه لبضع دقائق ، كى يُنهى ما بدأ .. ازداد دفعها له ، وقد تكثَّرت حول عينيها خطوط الامتعاض ، فتكسَّرت روحه . ازداد تشبُّثه ، اهتزَّ فوقها وقد ارتجف من عمق رغبته الطامحة إلى إنهاء الارتواء .. لقد كاد الأمرُ يتمُّ ، وينـزاح الـهَمُّ :
- أرجوكِ يا حبيبتى ، دقيقة واحدة ، وخلاص .
نظرت تجاهه بحدَّة . شعر بنظرتها تخرق وجهه ، تحرقه ، تكاد تنتزع فروة رأسه . فارتمى مستلقياً بجوارها، كحطام سفينةٍ قذفتها موجةٌ عاتيةٌ ، نحو رمال شاطئ مهجور .
مرَّت عليهما دقائقُ ، أو دهورٌ . صار هواءُ الغرفة ثقيلاً . وصارا مُستلقيين ، ذاهلين بما هما فيه عن عريهما ، ذهولَ البشر الأوائل .. كلاهما يحدِّق فى سماء الغرفة .. كلاهما يرى ما لايراه الآخر .. كلاهما سادرٌ فى غيِّه ، هائمٌ فى غاياته .
أنَّى سيلتقيان ، بعدما خُولف بين طريقيهما ؟



رسـالــة
آه يا ابنتى الحبيبة .. مالى أشعرُ بك هذه الأيام ، بداخلى ، وكأننى أُوشكُ أن ألدُكِ من جديد . شعورٌ عجيبٌ، غامضٌ ، لم أحسُّه من قبل . ها، لقد رأيت الصور التى أرسلتها لى ، صباح أمس ، عبر الجهاز الجامع . صورٌ جميلة . طبعتها اليوم على ورقٍ كبيرٍ مصقول ، لأشعر بها أكثر . اقتضى ذلك زيارة لأقرب مدينة . تبعد عن موقعى ساعاتٍ ثلاثة ، عَبْرَ طرقٍ وعرة . لكن الأمر كان ، حقاً ، يستحق .
وجهُك فى الصور يبدو شاحباً ، وزوجُك يبدو حائراً ، وأثاثُ بيتك لايبدو منه أىُّ شئٌ . ما هذا الديكور يا ابنتى ! ما هى الصلة بين لون الحوائط ، ولون ما تناثر عليها من لوحات وتمائم وحليات .. وما هذا الأثاث ؟ لابد أن زوجك هو الذى اختاره ، فلا طراز يجمع بين مفرداته . أم أن جَدَّك اشتراه لك ، خالطاً كعادته بين كل تراث الإنسانية . لا يا ابنتى . إذا عمرتِ بيتاً آخر ، فلتجعليه متآلفاً . وليكنْ بيتك مرآةً يتجلَّى على صفحتها ، تناغُمك الداخلى العميق. لا تضعى قطعة أثاث أو لوحة أو حلية جدار ، إلا إذا خفق قلبك أولاً بحبها . فالحبُّ هو الأصل فى إيجاد الأشياء . بالحب أنجبتك . وبالحب أنجبت الأنثى العالم .
أوتعرفين ، كان أبوك يشكِّك فى أصل الحب ! كان يعتقد أنه عاطفةٌ طفرت بين البشر، حين قام نظامُ الأسرة فى مصر القديمة ، حين صار الأمر بين المرأة والرجل قَصْرياً وقَسْرياً . ومع القَصْر والقَسْر ، وصف الناسُ كل اشتهاءٍ غير مُستحب ، بأنه (عاطفة) الحب ! كان يقول ذلك ويكرِّره ، مختالاً باكتشافه هذا المذهب ، متفنِّناً فى تأكيده والإقناع به ، بما لاحصر له من أسانيد يتوهَّمها ! منها أن نوال المحبين مقدمةٌ لانطفاء الحب ، وأن عدم النوال يؤجِّجه . ومنها أن الحب فى كلام الأطباء الحكماء القدماء، هو نوعٌ من المرض النفسى . ومنها أن أشهر قصص الحب ، اشتهرت لأنها اقترنت بالحرمان، لا النوال .. كان أبوك رجلاً طيباً .
لما التقينا أول مرة ، همس ليلتها بأذنى وهو يودِّعنى ، أنه اكتشف زيف مذهبه فى الحب . وباح لى بأنه تأكَّد ، معى ، من أن الأمرَ أعمقُ مما كان يظن . بعد زواجنا بثلاث سنوات ، قال لى صبيحةَ ليلةٍ عاصفةٍ بالعشق ، إنه سيظل يحبنى إلى آخر عمره .. وبعد يومين ، مات ميتتة الفاجعة التى لا معنى لها : حادثةُ سير .
أردتُ أن أضع بين طيَّات كفنه ، خلسةً ، رقائق من جلد أفعى محنَّطة ، كنت أحتفظ بها . حنَّطها أهلُ مصر العليا ، قبيل انتشار المسيحية فى ديارهم . شعرتُ أن ذلك سيجعله ، على نحوٍ ما ، مرتبطاً بالخلود . جدُّك ثار ثورةً لم يبلغ مداها من قبل ، ولا من بعد . قال لى : بل أنت الأفعى ، وأنت الشيطان ! سعدتُ بالوصف الأول ، وتعجَّبت من الوصف الثانى .. لاتستغربى سعادتى ولا تعجُّبى ، فسوف أُحدِّثك اليوم عن الأفعى ، وربما حدثتك فى رسالة أخرى عن الشيطان ، الذى جعله البشر ممسحةً لأخطائهم . ولكن دعينى يا ابنتى أكملُ لك رسالتى فى المساء ، فالسماء اليوم صافية . ولابد أن القمر ، سيكون الليلة أشد سطوعاً . والكلام عن بهاء الأفعى، يزداد وَهَجَاً فى ضوء القمر ..
...
يَوْمَ أُفنِي كُل َّما خَلَقْتُ
ستعودُ الأرضُ محيطاً بلا نهاية ،
مِثْلما كانتْ فى البَدْءِ .
وَحْدى ، أَنا ، سَأبقى
وأَصِيرُ كما كنتُ قبلاً
أَفْعى ، خفيةً عن الأَفْهامِ .
تلك يا حبيبتى ، ترنيمةٌ لإيزيس (إيزُت ، بحسب النطق المصرى القديم) سجَّلها المصريون القدماء ، قبلما تتشوَّه صورةُ الأفعى فى الأذهان . كان ذلك فى الزمن القديم ، الذى اتخذت فيه الربة المقدَّسة الأولى ، رمزاً هو أقرب ما يكون لطبيعتها . كانت الأفعى رمز الرَّبَّات إنانا وعشتار وإيزيس وأرتميس .. بل كانت رمزاً لكل الإلهات على اختلاف اسمائهن ، وعلى تباعد البقاع بين مواطن عبادتهن . وقد صارت الأفعى من بعدهن ، شعاراً لآلهة ذكورية مصطنعة ! لإله الحكمة المزعوم هرمس المثلَّث العظمة ، ولإله الطب عند اليونان إسكليبيوس ولآلهة كثيرة غيرهما . ولا أدرى، كيف تَسنَّى للذكور المؤلَّهين ، أن يتبجَّحوا فيتَّخذوا من الأفعى شعاراً .. وهى كما سترين بعد قليل ، موغلةٌ فى الأنثوية .
وكانت الأفعى دوماً ، شعار كل الملكات العظيمات فى الأزمنة الأولى : سميراميس ، حتشبسوت ، نفرتيتى ، كليوباترا .. وغيرهنَّ من ملكات الأزمنة الأولى التى كانت الإنسانية خلالها ، لاترى بأساً فى أن تحكم النساء . بل ترى أنه من الطبيعى أن تحكم النساء ، وأن يتخذنَّ من الأفعى شعاراً .. وبالفعل ، حكمت النساء ، كثيراً ، فى فجر الحضارات الإنسانية . كن حاكمات وقاضيات فى معظم الحضارات القديمة ، حتى انقضى النصف الأول من حضارة مصر ، ومن حياة سومر .. ثم تغيَّر الحال ، فجاءت اليهودية لتحرِّم على المرأة أن تكون حاكمة أو قاضية ، بعدما دنِّس كتبةُ التوراة بضربةٍ واحدةٍ ، المرأة والأفعى . ونجحت اليهودية فيما كانت تحلم به ، فأُفرغ شعار الربات (والأرباب) والملكات العظيمات، من مضمونه القديم المتوارث لآلاف من السنين .
لماذا اتخذنَّ الأفعى شعاراً ؟ .. لو نستطيع أن نفرِّغ صورتها فى أذهاننا ، من كل أحكامنا الوهمية الموروثة ، المضغوطة فى عقولنا بثِقَل خرافاتٍ وثقافاتٍ توالت فى الأزمنة الأخيرة ، ودعمتها الاعتقادات الساذجة المتينة .. لو استطعنا ، لرأينا الأفعى مجردةً . الأفعى فى ذاتها، بعيداً عن أوهامنا . الأفعى البديعة ، الغامضة ، المليئة بالأسرار والألوان والروعة .
بالمناسبة ، هل تعلمين يا ابنتى أن تسعين بالمائة من الأفاعـى ، غير سامٍ . وأن مائة بالمائة من الأفاعى ، لا تهاجم إلا إنساناً اعتدى عليها ، أو عبث بجُحرها ، أو اقترب من ذريتها .. الأفعى كائنٌ مسالـمٌ فى الأساس ، ينأى بنفسه بعيداً، ويميل دوماً للانزواء . عُنفها مبرَّرٌ بأسبابٍ واضحة. لاتنـزع للهجوم إلا إذا هوجمت . وفى هجومها إنذارٌ ، لا غدر. فهى تنتصب محذِّرةً ، فإن ابتعد عنها مصدرُ الخطر المهدِّد، انسربتْ مبتعدةً . وإن لم يلق إنذارُها صدىً عند المهاجم ، نهشته خاطفـةً ، وهربت !
وجلالُ الأفعى الممزوج بجمالها ، يتجلَّى على أنصع صورة، فى النوع الأكثر قداسةً عند أهل الأزمنة الأولى، النوع الذى نعرفه اليوم بعدة مسميات ، أشهرها اسم الكوبرا . أرأيتِ يوماً ، قوة نظرتها لعدوِّها ؟ وهل تأملتِ وقفتها المهيبة ، البهية ، إذا ما تهيَّأت للهجوم .. هل نظرتِ إليها بعمقٍ ، وقد تمايلت برقَّـةٍ على نغمات الناى الرقراقة ، أمام الهندى النحيل الذى يعزف بروحه موسيقاه . هى لاتسمع موسيقاه ، ولكنها تقرؤها فى جلسته الخاشعة .. فهل يستطيع كائن آخر ، غير الأفعى ، أن يقرأ الموسيقى فى هيئة الأجسام ؟
والأفعى ، تعرف دوماً طريقها .. انتبهى إليها إذا انسربتْ فى مساراتها ، كيف تنسابُ برشاقةٍ ناعمة . وبنعومةٍ رشيقةٍ ، لاتكاد تلامس الأرض ، وهى تدلف إلى حيث تريد . لاتصطدم بشئ فى طريقها ! فهى تعرف جيداً، إلى أين يتجه زحفها .. الزحفُ ، مشيُها ، وهى التى بلا أرجل . مشيُها ، إبحارُها فوق الأسطح ، فوق أمواج الرمال الناعمة ، على أقسى الصخور صلابةً ، بين الأدغال وأغصان الشجر .. الزحفُ . ألا ترين أن الجيوش قد اختارت هذه الكلمة بالذات ، لتعبر عن تنقُّلاتها . يقولون : زحف الجيش . لا (مشى الجيش) أو (طار) . فإذا تقهقر الجيش ، يقولون : انسحب ! والزحف والانسحاب ، يا ابنتى ، هو شكل حركة الأفعى من قبل أن تصير للإنسانية عساكر وجيوش .
والجيوش ، تلك الصناعة الذكورية الرائجة فى الأزمنة الأخيرة . تمارس دوماً عنفها غير المبرَّر ، العنفُ المخمور بنشوات التوسُّع والهيمنة ، ورغبة الرجل النهمة فى الاستيلاء .
وكانت لغةُ الناس من التبجُّح ، بحيث استعارت لمسيرة الجيوش وصف الزحف المأخوذ من حركة الأفعى . الناس يا ابنتى ، لم يعرفوا أن الأفعى أكثر حكمة من تلك الجيوش التى لا عقل لها ، تلك الجيوش التى تعمل دوماً بأمرٍ من خارجها، أمرٍ يأتى ممن يسمونه القائد . والقوادُ قوادٌ يا ابنتى . إنهم الرجال الفُرَّاغ الذين يؤجِّجون حروب العالم ، وإن لم يجدوا الحرب أشعلوها ، ليواجهوا خرابهم الداخلى ، بتخريب العالم . هل تعلمين أن كثيراً من الحضارات الأولى ، المجيدة ، التى عبد أهلُها الربة وقدَّسوا الأفعى ، لم تكن لها جيوش نظامية .. عاشت تلك الحضارات زمناً طويلاً فى سلام ، وأعطت للإنسانية فى الزمن الأنثوى الأول ، كل بذور الحضارة : الزراعة ، الثقافة ، الاستقرار، الحنين إلى الوطن ، الضمير ، الديانة .. السلام ! لم يعتادوا أن يعتدوا على جيرانهم ، لم يجد الآثاريون أثراً لصناعة حربية بين حفرياتهم ، مثلما وجدوا فى المجتمعات الذكورية اللاحقة .. ثم انتهت الأزمنة الأنثوية ، السلمية ، البديعة ، بالإزاحة التدريجية للأنثى ، والانتقال بالمجتمعات إلى السلطة الذكورية الجوفاء ، على النحو الذى حكيته لكِ فى رسالتى السابقة عن تطور روح الحضارات فى سومر وبابل وآشور ، وعن روعة انبثاق الحضارة المصرية القديمة ذات الطابع الأنثوى الأصيل ، الإيزيسى .
نعود للأفعى ، التى لا يقودها إلا روحها وحِسُّها الباطن فيها . فنراها لاتعتدى للاعتداء أو لإظهار البطش ، مثلما يفعل العسكر . لا تقاتل إلا للدفاع، ولا تسعى للتوسُّع مثلما يفعل القواد القواد .. ومع أنها تهضم أى شئ تبتلعه ، مهما كان ، فهى لاتتخم نفسها مثلما يفعل الإنسان .
فتدبَّرى يا ابنتى ، مَنْ الذى من شأنه أن ينظر للآخر ، نظرة الوجل والازدراء والتأفُّف : الإنسان أم الأفعى ؟ .. إن الأفاعى لو كانت لها لغةٌ ، لحفلت آدابها بنصوصٍ فى تحقير البشر ! تحقير حضارة الرجل الحديث ، تحديداً . لأن البشر قديماً، كانوا يعرفون قَدْرَ الأفعى . كانوا يبجلونها باعتبارها رمزاً وتجلياً وصورةً للربَّة الخالقة ، للأنثى المقدَّسة فى كل الحضارات القديمة . كان الناس فى مصر القديمة ، يؤمنون بأن الإله الأكبر (آتوم) يتخذ فى الأرض صورة الأفعى .. وتنبَّهى هنا يا ابنتى ، إلى أن آتوم ذاته ، هو صورةٌ إلهية متأخرةٌ نوعاً ما، ولأنها (متأخرة) فهى ذكورية .. أما الصورة الإلهية المصرية الأصيلة ، الأولى ، المعروفة باسم وازيت فهى صورة الربة الأنثى ، الخالقة التى اتخذت قبلاً ، ومنذ زمن ما قبل الأسرات ، صورة الأفعى المحيطة بالوجود .
أوتعلمين يا ابنتى ، كان أهل الأزمنة القديمة يبنون للأفعى المعابد . والعجيبُ أن أكبر عدد من هذه المعابد، اكتُشف فى أرض فلسطين التى شهدت كتابة أسفار العهد القديم ، التوراة ، أول كتاب طمس صورة الأفعى وجعلها مرتبطة بالشيطان وبالمرأة وبالشر ! وفى مطلع القرن الماضى (سنة 1903) اكتُشف فى فلسطين ، أكبر هيكل مخصص لتقديس الأفعى ، وجد الآثاريون فيه آلاف الأفاعى المحنطة ، وتمثالاً برونزياً ضخماً لأفعى الكوبرا .. هييه ، سأحكى لك واقعةً طريفة ، حدثت معى .
قبل مولدك بأسابيع ، ظل الطبيب المتابع لحملى ، يلحُّ أن تكون الولادة بشقِّ بطنى! الولادة الفاضحة المسماة قيصرية . رفضت ذلك تماماً . رجانى أبوك أن استجيب لرغبة الطبيب ! رجاءٌ عجيب . هذه رغبته ، فأين رغبتى ؟ أفهمته أن الطبيب يرغب فى الفعل الأسهل له ، وإننى أرى فى ذلك كفراً بأهم أفعال الأنثى ، فعل الانبثاق والولادة ..
فى ليلةٍ ماطرة ، جاءنا جدُّك يزهو بأكتافه العالية وعصاه الصولجانية ، فحضر مناقشتنا للأمر . راح ليلتها ، طيلة جلسته ، ينظر إلىَّ شذراً . لم يستطع كتم غيظه ، حين قلتُ ما معناه إن شَقَّ البطن لإخراج الطفل ، هو أشبه بالعثور على جوهرةٍ بنبش الرمال ، وأشبه بالتنقيبِ الأثرىِّ لاستخراج قطعة من تمثال قديم ، وأشبه بخطة ذكورية لسلب المرأة فعلها الأكثر روعة . رَدَّ جَدُّك بحنقٍ مكتومٍ ممرورٍ ، فقال ما مفاده أننى (لابد) أن أرضخ لرأى الطبيب ، وأننى (لابد) أن أستجيب لنصح زوجى، وأننى (لابد) أن احترم رغبة الآخرين ونُصْحِهم ، فلست الوحيدة المعنية بالأمر . مازلتُ أذكر اللحظة التى احتدَّ فيها حوارنا :
- اسمعى كلام زوجك ، هو والد الطفل الذى فى بطنك !
- إنما أنا الوالدة . الرجل لا يلد ، ولا يصح وصفه بالوالد .
أثار رَدِّى أول عاصفةً كبرى من عواصفه التى تتالت بعدهـا ، سبع سنين . وقام جَدُّك من فوره منصرفاً ، بعدما ألقى علينا نظرتين ، واحدةً ملؤها الحقد قذفها فى وجهى ، وأخرى تطفح بالازدراء رماها نحو أبيك .. على مرآة عين أبيـك ، انعكست نظرةُ أبيه ، لتصلنى ملفوفةً بتوسلٍ ورجاء . جلس بجوارى ، وبكل تحنانه المعتاد ، الآسر ، سعى لإقناعى بأن ألد بشَقِّ بطنى . همس إلىَّ طويلاً ، وأنهك الأمر توضيحاً وتفصيلاً . احتج بخوفه علىَّ ، وبأن معظم النساء اليوم يلدن بشَقِّ البطون ، وبأننا صرنا فى نهاية القرن العشرين ولا يجوز أن نفعل فعل القرون الأولى ، وبأننى لو عانيت ألم الولادة ، فسوف يعانى هو لمعاناتى (كيف كان سيعرف هو معاناة الولادة) وأنهى هَمْسَه المستعطفَ ، بأنه لن يطمئن علىَّ ، إلا لو أطعت الطبيب .
- لن ألدَّ ، إلا كما تلدُ الأنثى .
قلتُ ذلك ، فانسحب أبوك من حضرتى متكسِّرَ الأركان، ملفوفاً بالحيرة .. بعد يومين ، استبدلتُ بالطبيب طبيبةً فهمتنى . يوم مولدكِ ، كنت واعيةً تماماً بلحظة إطلالتك الأولى ، لحظةِ اقتران ألم المخاض بنشوة الخلْق والإيجاد . وامتزجت ساعتها معاناةُ انبثاقك من باطنى ، بمعاناة انبثاق الروح فى بدنك . لحظتها بكيتُ ، مثلما بكيتِ .. بكينا معاً . وتحقَّقت بأننا ، أنتِ وأنا ، توحَّدنا مع الأفعى التى تنبثق من جلدها القديم لتتجدَّد حيةً ، عصيةً عن الأفهام .. لقد شعرت وقتها ، يا ابنتى ، أننى إذ ولدتُك هكذا ، فإننى وهبتك أول ارتباط بالأفعى المنبثقة من ذاتهـا ، من جِلْدها القديم ، من وجودها السابق (وجودى أنا) منبعثةً إلى وجودها المتجدِّد .. الدائم .. المرتبط بالخلود : وجودك أنت .
وللأفعى يا ابنتى ، أسماءٌ ومترادفات فى كل اللغات . ومادمنا قد اخترنا اللغة العربية ، أو العربية اختارتنا ؛ فتعالى ننظر فى المترادفات ، لنقترب أكثر من معنى الأفعى .. ذلك المعنى الذى لايمكن لأى لغةٍ أن تحيط به، مهما كانت ! ومهما أحطنا بها ، أو أحاطت بنا .
إن أشهر مترادفات الأفعى العربية ، هو لفظ الحية وهو اللفظ الذى اختاره كل مَنْ ترجموا التوراة إلى نسختها العربية. ربما نعود لتأمُّل النص التوراتى بصدد (الحية) التوراتية بعد قليل . لكن دعينا أولاً نستشرف آفاق لفظ الحية الذى هو اللفظ الأصل فى التسمية العربية . إذ الأفعى فى متون لغة العرب : نوعٌ من الحيَّات ، سميت بذاك لأنها تلتفُّ ولا تبرح مكانها .
تمتاز الحية فى وعى العرب اللغوى، بأنها مشتقة من (الحياة) ومنها سميت أم البشر ، بحسب اعتقادهم : حواء . وللحية والحيا فى العربية معانٍ ، كلها خطيرةٌ ودالة . المعنى الأول، الألصق بالمرأة ، هو أن الحيا فَرْجُ المرأة وفى لسان العرب : الحيا فرج الناقة .. والحىُّ فرج المرأة ! وحية وحواء وحيا ، ألفاظ اقتربت أصولها ومعانيها . هذا هو ما قَدَّروه ، وسجَّلوه بأقلامهم فى المعاجم العربية القديمة .
والحيا أيضاً ، فى اللغة : المطر والخصب . ومعلومٌ يا ابنتى أن المطرَ ماءٌ ، والخصبَ نتاجٌ للأرض التى سُقيت ماءً . الماء المخصِّب ، والأرض المخصَّبة ؛ كلاهما حَيَا .. كلاهما حياة .. كلاهما حواء .. كلاهما الحية .
الحية عكس الميتة .. الحيةُ ضد الفناء .. الحيةُ مرادفةٌ للخلود ، والانبعاث ، وتجدُّد البقاء .. الحية ، أنت وأنا لحظة مولدك، لحظة الميلاد التى تتحقق بها أنوثة الأنثى، على نحو لا مثيل له . والحيةُ ، هى روح الوحىُّ الأنثوىُّ السارى فى النساء ، خافتاً كالفحيح ، منذ فجر الوجود إلى يوم منتهاه .
واعلمى يا ابنتى ، أن ما يؤنِّث الأنثى ، هو أمرٌ أعمقُ من انتفاضة ثدييها عند البلوغ ، أبعدُ من استدارة ردفيها عند الاكتمال، أروعُ من العاصفة المكتومة التى تمور بجسمها عند الشبق ، أبدع من زينتها العشتارية البهية ليلة زفافها .. هذه كلها تمهيداتٌ ، إشراقاتٌ وإلماحات تومئ إلى لحظة التوهُّج العلوية : لحظة الإنجاب . لحظة الانبثاق . لحظة تجلى الوحى الكامن فيها منذ الأزل ، وإلى الأبد .
.. وللحيِّة معانٍ مستترةٌ عن أعين الناس ، وَشَتْ بها اللغة ، وتناساها الناس . الناسُ نسيانٌ . فمن مستتر معانيها، ما يأتى فى متون اللغة عند الإبانة عن لفظ أله .. ولا تندهشى من قول اللغوى الشهير ، ابن منظور ، إن الإلهه هى الحيةُ العظيمة ! وفى بيان مادة لوه يقول فى كتابه المشهور لسان العرب ما نصه : اللاهة هى الحية ، واللات صنمٌ مشهور يكتب بالتاء (اللات) وبالهاء (اللاه) والأخير هو الأصح ، وأصله لاهه وهى الحية !
ومع ذلك ، أهيل غبار النسيان على تلك المعانى الكامنة فى لفظ (الحية) وسارع أهل اللغة إلى طمسها بمعانٍ أُخر، ترتبط فى وعيهم المتأخِّر ، المتخلِّف ، بالأنوثة المستهان بها .. الأنوثة التى أمعنوا فى إزاحتها عن عرش القداسة ، وفى الحطِّ من شأنها بكل السُّبُل . مازلت أذكرْ نوبة الضحك الهيستيرى التى انفجرت منى قبل عشرين سنة، حين قرأت فى لسان العرب تحت مادة (أنث) ما نصه : الأنثى خلافُ الذكر فى كل شئ ، والجمع إناث وأُنُث ، كحمارٍ وحُمُر !
ولكن ، مثلما تنـزوى (الحية / الأنثى) وتستتر أسرارُها بعيداً عن الأعين ، تستتر معادنُ الحكمة وتنـزوى فى أرض الأفهام . وقد عرف التاريخُ ، بعد انقضاء الزمن الأنثوى الجميل، بعضاً من رجالٍ حكماء عرفاء . عرفوا ما للحية ، وما للأنثى ، من معنى أصيلٍ لاتدركه الأبصار والأوهام والظنون . وتحقَّقوا من أن الحية صنوُ الحكمة ، وتوأم الوجود العميق للعالم . ومنذ بدء الخليقة ، لم يخل العالم قط من واحدٍ من هؤلاء العارفين الحكماء الذين أدركوا سِرَّ الحية ، ولمحوا بهاء (الأنثى / الأفعى) .. غير أن بعضهم كتم السر ولم يبح ، وبعضهم باح به رمزاً وتلميحاً ، مثل سيف بن ذى يزن الذى أحاط بسيرته الحضورُ الأنثوىُّ الطاغى ، فرسم الحية على صفحة سيفه البتار . وبعضهم ألمح للأمر من بعيد ، مثلما فعل ذلك الرجل البديع . المتحقِّق فى تصوُّفه بما للمقام الأنثوى من روعة .. الولى الكامل ، العاشقُ البصير بدروب العشق ، المحب حتى الثمالة ، الذى حكى فى كتبه عن الحية المحدقة بجبل قاف ، الشيخ الأكبر والنور الأبهر والمطلع على السر الأخطر (محيى الدين بن عربى ) الذى كتب رسالة فيما لايعول عليه ، فقال : المكان الذى لايؤنَّث ، لايعوَّل عليه !
يا ابنتى ، لقد سطعت شمس النهار ، وكَلَّت يدى .. فاعذرينى . ولسوف أعود للكتابة إليك . ولسوف أعاود زيارتى لك ، عند الفجر ، فى أحلامك .


التعديل الأخير تم بواسطة معرفتي ; November 1, 2016 الساعة 03:03 AM سبب آخر: وضع رابط دائم على مركز تحميل المجلة ومقتطفات من الرواية
رد مع اقتباس
  #2  
قديم December 17, 2010, 09:16 PM
 
رد: ظل الافعى ....د..يوسف زيدان


شكرا لك على الرواية ..

الله يعطيك العافية ..

وفقك الله ..
__________________
رد مع اقتباس
  #3  
قديم December 18, 2010, 02:56 AM
 
رد: ظل الافعى ....د..يوسف زيدان

ولك كل التوفيق......رعاك الله وحماك شكرا لمرورك.
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تحميل رواية النبطي .. د. يوسف زيدان .. حصريا في مجلة الإبتسامة .. النبطي معرفتي الروايات والقصص العربية 294 November 1, 2016 01:34 AM
طلب تحقق ، كتاب (كلمات) للدكتور يوسف زيدان mido0o0o أرشيف طلبات الكتب 1 November 29, 2011 02:36 PM
عزازيل...يوسف زيدان سلمى فاروق الروايات والقصص العربية 2 December 18, 2010 02:54 AM


الساعة الآن 06:07 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر