فيسبوك تويتر RSS


  #1  
قديم November 4, 2010, 09:53 PM
 
Thumbs Up التسمية الغربية للجنس العربي عدائية (لنصحح تاريخنا العربي المجيد)


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



...مقال مشوق يوضح التحريف الغربي للتاريخ القاديم بما يخص الأصل المشترك للبلدان العربية الحالية و محاولته التقليل من شأن حضارتنا المميزة المنافسة بتسميتنا تسميات عنصرية و محاولة التفريق بيننا...



... التسمية الغربية للجنس العربي عدائية...


(بقلم: محمد الأسعد)




حضارة العرب من البونيقيين إلى الكنعانيين:



كتب القديس أوغسطين في القرن الخامس الميلادي، أي بعد ستة قرون تقريباً مرت على تدمير “قرطاجنة” ومسحها عن الخريطة، “إذا سألت أحد سكان هذا البلد عن هويته، سيقول لك بلسانه البونيقي إنه كنعاني..”.

اللسان البونيقي الذي يشير إليه أوغسطين هو التسمية الرومانية للغة الكنعانية، أي لغة “قرطاجنة”، فقد دأب الرومان على تسمية الكنعانيين الذين استوطنوا شواطئ البحر الأبيض المتوسط الغربية بدءاً من القرن الثالث عشر بالبونيقيين ترجمة لكلمة الفينيقيين اليونانية. وما زالت التسمية اليونانية شائعة حتى اليوم على رغم أن من يشار إليهم بهذه التسمية لم يستخدموها إطلاقاً حتى بعد أن أصبحت بلادهم على ساحل المتوسط الشرقي تحت الهيمنة اليونانية بدءاً من العام 332 ق.م، وأصبحت بلادهم على ساحل إفريقيا الشمالي تحت الهيمنة الرومانية بدءاً من العام 140 ق. م.

مع أننا أصبحنا في السنوات الأخيرة على حظ وافر من المعرفة بالكنعانيين العرب الذين اكتشفت مدنهم الدارسة مثل “أقرت” (AQRT) التي تصوّت خطأ “أوغاريت”، و”إبلة” و”قرطاجنة”، و ”قطن” تحت لارنكا القبرصية، و ”قرطاجنة الجديدة” في إسبانيا، و”العالية” في سردينيا الإيطالية..

إلا أن الباحثين الغربيين ومن تبعهم من العرب غفلةً ما زالوا يستخدمون تسمية “الفينيقيين”. وإذا كان الباحث الغربي في متابعته لهذا التقليد إنما يعبر عن ولائه لتراثه الغربي، فإن الباحث العربي لا حجة له؛ إنه مطالب على الأقل بموالاة تراثه الذي يحتفظ بالتسميات الصحيحة، هذه التسميات التي يدل عليها علم الآثار في العصر الراهن، وهو ما يجعل ولاءه ذا نسب بالعلم وأصحابه.

هذا الولاء ليس مسألةً إجرائية في البحث والدراسة، بل هو مسألة منهجية لمقاربة تاريخ الوطن العربي ثقافياً، ورسم حدوده الجغرافية/ السياسية على محوري الزمان والمكان.

فمن اللافت للنظر أن إقرار الدارسين بالهوية العربية للكنعانيين الذين حولوا البحر البيض المتوسط إلى بحيرة عربية في الألف الأول ق.م، ما زالوا يضعون صدعاً ثقافياً وسياسياً وقومياً بين مرحلتين في تاريخ وطننا:

- المرحلة التي يطلقون عليها مرحلة “الساميين” والتي انتهت حسب تقدير “فيليب حتي” بسقوط بابل (538 ق.م)،

- والمرحلة “العربية” التي بدأت مع الموجة الإسلامية في القرن السابع الميلادي.

وبين هاتين المرحلتين يقع الشق الفاصل، حيث كان سقوط بابل “نهايةً للإمبراطوريات السامية وبدايةً للإمبراطوريات الهندو/ أوروبية (فارسية ويونانية ورومانية) في المنطقة حتى ظهور العرب الذين لم يكن لهم شأن يذكر في التاريخ قبل القرن السابع الميلادي على حد تعبير حتي.


استعادة هوية وليس تعريباً:


في مثل هذا التقدير التباس يقع في جانبين: الأول أن من يطلق عليهم حتي “تسمية” الساميين “هم موجات القبائل العربية التي أنشأت ما يسمى الإمبراطوريات السامية (الأكدية - بابلية وآشورية - ودويلات عمورية وإرمية وكنعانية)، والثاني أن قيام الإمبراطوريات الهندو/ أوروبية في المنطقة كان سيطرة قوى من خارج المنطقة، ولهذا السبب ظلت البنية السكانية ثقافة وعمراناً ولغة عربية الطابع، فلم تستطع هذه السيطرة القضاء على اللغة الإرمية في شرقي المتوسط ولا على الكنعانية في ساحل إفريقيا الشمالي.

وحقيقة ما حدث مع الظهور الثاني للعرب في القرن السابع الميلادي هو استعادة هوية وليس تعريباً كما هو شائع في الكثير من الدراسات التاريخية، والعربية منها بخاصة.


لقد ظهرت في السنوات الأخيرة من القرن العشرين دلائل تنقض الشائع من القول عن بداوة الموجات العربية التي غمرت منطقة الهلال الخصيب وامتدت على سواحل البحر الأبيض المتوسط حتى أعمدة هرقل (جبل طارق)، سواء ما تعلق منها بقيام ثقافة مبكرة في شرقي وجنوبي الجزيرة العربية تقدمت إلى الشمال، أو ما تعلق منها بكون هذه الجزيرة بسواحلها الشرقية والجنوبية والغربية وطرقها الداخلية كانت عقدة مواصلات العوالم القديمة بين حوضي المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، وهو الأمر الذي ظل متصلاً منذ بضعة ألوف السنين قبل الميلاد حتى القرن السادس عشر الميلادي، أي حتى دخول الأساطيل الغربية وتخريب هذا الشريان الحيوي الحضاري، ومحاصرة وعزل الجزيرة العربية عن محيطها. ونعني بالجزيرة هنا وصف لسان اليمن الهمداني في كتابه “وصف جزيرة العرب” لحدودها لا وصف الباحثين الغربيين.

والواقع أن ما احتفظت به الآداب الكلاسيكية (يونانية ورومانية) من ذكريات عن الجزيرة العربية كان شهادة متأخرة عن وجود حضاري يمتد عميقاً في الزمن إلى الوقت الذي لم تكن قد ظهرت فيه هذه الآداب.

فقبل أن تكون نصوص “هيرودوتس” و ”سترابون”، كانت هناك ألواح سومر وأكد ونقوش اليمن التي تظهر صورة لوضعية العرب في الجزيرة وحولها تناقض الشائع من القول عن عزلة الجزيرة وبداوتها الأزلية، وتقترح صورةً مختلفة عن قدم التحضر العربي الذي تخفيه تسميات الأكديين والبابليين والآشوريين.. إلخ.

وسنجد أن هذا التحضر الذي امتد شمالاً وغرباً قد رسم جغرافية - سياسية للثقافة العربية هي ذاتها الجغرافية - السياسية التي عاد التحضر العربي إلى رسمها في المرحلة الإسلامية. ولم يكن الأمر مصادفةً أن يجد العرب المسلمون اللغة الإرمية ما زالت قائمة حين فتحوا شرقي المتوسط، وأن الكنعانية ما زالت قائمة حين فتحوا شمالي إفريقيا. ولم يكن الأمر مصادفةً أيضاً أن تذوب هذه اللهجات في العربية الأم في زمن قياسي يدهش الكثيرين ولا يجدون له تعليلاً بسبب ضغط المسلمات غير العلمية التي يأخذون بها.


الفينيقيون في الملاحم:


نقد التسمية إذن يقودنا إلى نقد كامل للصورة المطروحة الآن، الصورة التي ترسم للعربي جذراً في الرمال لا يمتد إلى أبعد من حدود القرن السابع الميلادي، فتعزله عن أصوله القديمة بأن تفرض عليه أو تلصق به تسمية “السامي”، وتلصق بقبائله وشعوبه (القبيلة والشعب نظامان اجتماعيان قاما في الجزيرة العربية شمالاً وجنوباً) تسمية “الساميين”. من المؤكد بالطبع أن هذه الكيانات الحضارية لم تهبط من السماء على أرض العرب، ولم تختف فجأةً تحت موجات الغزو الفارسي واليوناني والروماني ليظهر من ثم جنس جديد اسمه الجنس العربي.

يقول الباحث البريطاني دونالد هاردن: “ظهرت كلمة “فينيقي” لأول مرة في الملاحم الهوميرية (مفردها Phoenix وجمعها Phoenixes)، وكانت تشير إلى اللون الأحمر الداكن أو الأرجواني أو الأسمر، ثم أطلقت على التمر وعلى ذوي البشرة السمراء من سكان سواحل شرقي المتوسط، ومن المعتقد أن اسم الطائر الأسطوري الفينيق (phoenix) مشتق من مصدر آخر”.

أما الاسم الروماني “بونيقي” الذي أطلقه الرومان على القرطاجنيين ومن استوطن منهم السواحل الغربية للمتوسط وصولاً إلى إسبانيا، فهو الترجمة اللاتينية للتسمية اليونانية، ولم يستخدم لا الكتاب اليونان ولا الرومان اسم “كنعاني” في أي شكل من الأشكال، كما لم يستخدم اليونان أسماء الآلهة الكنعانية إلا مترجمة إلى معناها في اليونانية، ويظهر هذا في إطلاق اسم “أفروديت” أي السيدة الغريبة على عشتار، وفي إطلاق اسم “ساتيرن” على معبد بعل حمون حين سجل يوناني أخبار رحلة “حنو” القرطاجني.

أصحاب هذه التسمية التي اخترعها لهم اليونان ثم الرومان حافظوا على اسمهم الخاص في شرقي المتوسط وغربه على حد سواء. ويفسر الصراع المتواصل بين الكنعانيين واليونان ثم صراعهم مع الرومان سبب مثل هذه التسمية. وتشير هذه التسمية من جانبها إلى امتداد الصراع إلى اللغة والأيديولوجيا أيضاً. إطلاق الأسماء والصفات كما نلاحظ قديماً وحديثاً ليس فعلاً بريئاً دائماً، وبخاصة حين يكون موضوعه شعباً موضوعاً على قائمة الأعداء.

ولنا في التسمية الرومانية “البرابرة” التي تطلق على من هم غير رومان، والتسمية العربية “الأعاجم” التي تطلق على غير الناطقين بالعربية، وفي التسميات الشائعة مثل “القراصنة” و”المخربين” التي تطلق على من يقاوم هيمنة الدول الغربية على الشواطئ والمدن، أدلة على ما نذهب إليه. وحين نقرأ ما كتبته الأمم الأخرى عن الكنعانيين، وبخاصة اليونان والرومان، نكتشف كيف يشوه الصراع اللغة والفكر، وكيف يظل التشويه ماثلاً في اللغة لأحقاب طويلة حتى بعد زوال الصراع وأسبابه. إن اللغة ليست مرآة تعكس الوجود بقدر ما هي تمثيل له يخضع للرغبات والأهواء. وهذا هو سر الكتابات المبالغة في عدائها التي نجدها في المصادر الغربية للكنعانيين العرب، باستثناء شهادات نادرة “تشهد لهم بالتمكن في السلم والحرب، والإبداع في الفنون كتابةً وأدباً، والامتياز في الملاحة والحروب البحرية وفي إدارة أعمال الإمبراطورية”.

ليس غريباً إذن القول إن الباحث الغربي يرث مع ولائه لتراثه الثقافي ما عكسه هذا التراث من صراع وانحياز، وهو ما نلمسه وراء ما يطلق عليها نزعة “المركزية الأوروبية”، أي الانطلاق من أن أوروبا هي مركز العالم، وبالتالي لا يمتلك شيء وجوداً أو اسماً إذا لم ينسب إليها، أو إذا هي لم تسمه. ولم يأت هذا بسبب مواقف في السياسة المعاصرة فقط، بل وبسبب هذا المشهد التاريخي الحافل بالصراع وتداول الأيام بين الشعوب طول الستة آلاف عام الأخيرة، وتحديداً منذ انتهاء العصر المطير في المناطق المعتدلة وانحسار الجليد عن المناطق الشمالية، فقد كان هذا إيذاناً باكتظاظ البحر المتوسط بالأجناس والثقافات والسفن، وتحوله إلى شريان حيوي لا بد لكل توسعي من جعل السيطرة على موانئه هدفاً إستراتيجياً.


الكنعانيون بين الرومان واليونان:


من هذا المنطلق ربما ظل اليونان، والرومان من بعدهم، يستخدمون كلمة “فينيقي” و ”بونيقي” بإصرار انسجاماً مع مواقفهم المعادية تجاه المنافسين الكنعانيين. ونعتقد أن هذه التسمية التي حافظوا على استخدامها كانت تحمل دلالةً معينة في لغتهم، قد تكون دلالة احتقار أو ازدراء للحط من مكانة الكنعانيين. وهذا ما يوحي به إصرار ذلك الكنعاني على تأكيد هويته بعد ستة قرون من تدمير قرطاجنة وانحسار المد العربي أمام هجوم الإمبراطوريات الهندو/ أوروبية من الشرق والغرب.

و ما زلنا نرى الناس حتى عصرنا الراهن يطلقون الألقاب والصفات بعضهم على بعض ساخرين أو معادين أو ممجدين على حد سواء، وكذلك تفعل أجهزة الدول الإعلامية في حروبها حين تحاول طمس الحقيقة بما فيها التسمية الصحيحة لشعب من الشعوب أو قوة من قواه. ولعل في الأمر أثراً من آثار العقلية الأسطورية التي تربط بين الشيء واسمه الذي يدل عليه، ففي هذه العقلية يعني ذكر الاسم الحقيقي حضوره المادي الملموس وليس المعنوي فقط، وأفضل طريقة لتجنب هذا الحضور الذي قد يكون مؤلماً هي إخفاؤه أو استخدام اسم زائف يشير إليه ولكنه يمنعه من الوجود.


ما نرجحه إذن هو أن إطلاق اسم “الأحمر” أو “الأرجواني” أو “الأسمر” على الشعب الكنعاني لا يختلف في دوافعه عن إطلاق اسم “السوداء” على شعوب القارة الإفريقية، واسم “الصفراء” على شعوب شرقي آسيا في الزمن الراهن، وتجاهل أن هذه الشعوب تمتلك أسماء وحضوراً، وهي ليست مجرد لون أسود أو أصفر: إنها دوافع صراعية الطابع وعدوانية في جوهرها.


نحن نعرف أن الكنعانيين، وقبل أن يفجر الرومان الصراع ضدهم طامعين في أهراء القمح والمناجم والعبيد، واجهوا اليونان ونفوذهم في البحر المتوسط متحالفين مع شعب “أتروريا” القديم في إيطاليا، شعب “رسنو” أو “الأتروسك” كما هو شائع، وهو شعب ظهر ككيان حضاري (زراعي وصناعي وبحري) حوالي 900 ق.م لمدة خمسة قرون، وهو الذي ورث الرومان منجزاته وعواصمه وهندسة طرقه. فبعد إنشاء قرطاجنة (حوالي القرن الثامن ق.م) بدأ ازدهارها يواجه الضغوط اليونانية حين اتجهت غرباً وشمالاً.

ومن نتائج هذه الضغوط خاض أسطول كنعاني- أتروسكي مشترك معركة بحرية ضد اليونان بالقرب من “العالية” في سردينيا. وشارك الكنعانيون الفرس معركتهم مع اليونان في “سلاميس”. وامتدت المراكز الكنعانية على طول ساحل إفريقيا الشمالي، ومن هناك انطلقت رحلات “حنو” و”حملكو” حول إفريقيا ونحو بحر الشمال، ولتبدأ مرحلة ازدهار أمسك فيها الكنعانيون بشريان التجارة عبر المتوسط وما بعده، وليخوضوا فيما بعد صراع المائة وثماني عشرة سنة ضد روما.


مستوطنات كنعانية شرق إفريقيا:


إذا كان من المؤكد أن اسم “فينيقي” لم يستخدم خارج إطار كتابات اليونان والرومان، فمن المؤكد أيضاً أن هذه الكلمة لا أثر لها في أي نص من نصوص الحضارات العربية القديمة أو الحضارات المجاورة لها في فارس والهند وآسيا الصغرى. هناك تسمية لهم لدى قبيلة “الزولو” التي تنتمي إلى شعب “البانتو” المنتشر في شرقي إفريقيا وجنوبها.

فوفق رواية طبيب ساحر من أطباء الزولو جاءت في كتاب له نشر في سبعينات القرن الماضي تحت عنوان “شعبي”، توجد أدلة مستقاة من رسوم الكهوف ومما يحتفظ به سحرة القبائل من دروع وسيوف ومن الروايات الشفهية المتداولة تشير إلى أن الكنعانيين وصلوا إلى شرقي إفريقيا وأقاموا مستوطنات لاستثمار مناجم الذهب، وأطلق عليهم السكان المحليون اسم “مال تي” أي القادمين من “تي”، وتتطابق هذه الرواية جزئياً مع الرحلة الفرعونية في عهد الفرعون “نكو” (609- 593 ق.م) حول سواحل إفريقيا الشرقية بسفن قادها الكنعانيون.


إذن أين نجد كلمة الكنعانيين؟


إننا نجدها بالطبع في الترجمة “السبعونية” للتوراة، ولكن الوثائق التاريخية هي التي يمكن الركون إليها وليس هذا النص الذي تشوب ترجمته وفك طلاسم لغته العبرية القديمة التباسات لا حصر لها. ومن هذه الوثائق السجلات الفرعونية التي ترجع إلى 3000 عام ق.م، والتي تحدثت عن رحلات تجارية بين أرض رتنو (مصر القديمة) وجبيل الكنعانية.

إلا أن ما يؤكد أقدم استخدام لاسم الكنعانيين هو ألواح تل العمارنة المصرية التي ترجع إلى القرن الرابع عشر ق.م. في هذه الألواح أن سكان كنعان كانوا يطلقون على أنفسهم بالأكدية اسم “كناهو” kinahu أو كنعانو (Kinanu).

وإذا كان من المعروف تاريخياً أن الكنعانيين سكنوا شواطئ المتوسط الشرقية، فإن مسألة أصلهم لم تعد غامضة. لقد طرح عليهم هيرودوتس المؤرخ اليوناني الشهير سؤاله عن أصلهم ومن أين جاؤوا، فكان جوابهم كما قال إنهم جاؤوا من سواحل البحر الأرتيري، أي البحر المحيط بالجزيرة العربية.

ومع أن هذه الرواية ثابتة منذ زمن طويل، إلا أنه لم يبدأ التحقق منها إلا في القرن العشرين بعد المكتشفات الأثرية المكثفة والمتواصلة منذ القرن التاسع عشر وبخاصة في شرقي الجزيرة وجنوبيها، وبعد إزاحة الستار عن موجات الهجرات التي كانت تنطلق من الجزيرة العربية نحو الشمال والغرب.

ويعتقد الباحثون الآن أن الهجرة الرئيسية هي التي جلبت الأكديين إلى مابين النهرين في حوالي 2350 ق.م، ثم تلتها هجرة ثالثة جاءت بالعموريين مع نهاية الألف الثالث ق.م، وجاءت الهجرة الرابعة بالإرميين (المعروفين وفق التصويت العبري باسم الآراميين الذي أخذ به الباحثون الغربيون ضلالةً). وانتشرت هذه الموجات في الشمال المعروف باسم الهلال الخصيب.


التسمية الغربية العدائية:


صحيح أن الباحثين الغربيين، وتابعهم العالم، أطلقوا في البداية على هذه الموجات اسم “الشعوب السامية”، ولكن الدراسات المستفيضة للهجات هذه “الشعوب” وعقائدها كشفت عن وحدة لغوية وثقافية وجغرافية دعت الكثيرين إلى التخلي عن مصطلح الساميين بعد أن أصبح خالياً من المعنى، واقتراح أسماء أخرى مثل اسم “الشعوب الجزيرية” نسبة إلى الجزيرة العربية المهد أو اسم “العربية” نسبة إلى اللغة الواحدة والمهد وإن اختلفت اللهجات. وفي الخمسينات كشفت التنقيبات في سواحل الخليج العربي الشرقية عن مدن العصر المطير وأنماط العمارة والأسماء والمصنوعات ذات الصلة بالمراكز الحضارية الشمالية في وادي الرافدين سبقتها وتزامنت معها.


إذن يمكننا القول إن الإصرار على استخدام الاسم “فينيقي” و ”فينقيين” أي ذوي الجلد الأسمر يخلو من أي معنى ثقافي أو سلالي إلا في سياقين متصلين بطريقة أو بأخرى هما سياق الاستخدام اليوناني والروماني، وهو سياق دافعه العداء والتنافس كما لاحظنا، وسياق الاستخدام الغربي المعاصر الذي تبنى التسمية ذاتها مواصلة لتراث العداء للعربي وانسجاماً مع نزعة اعتبار التسمية فعلاً من أفعال الهيمنة على الآخر وفرض سلطة صاحب التسمية بغض النظر عن كونها دقيقة أو غير دقيقة.

يضاف إلى هذا أن أمثال هذه التسميات المصطنعة تحاول إفقاد العربي الراهن أي صلة بهذا الماضي الحضاري لأسلافه، وقطع الاستمرارية الحضارية بين شعب الأمس وشعب اليوم.

والملاحظ أنه رغم الدلائل المتكاثرة التي أصبحت من البديهيات لدى عدد كبير من علماء اللغات والآثار، فإن تفسير هذه الدلائل وإعطائها مصطلحاً مناسباً في اللغة العلمية ما زال يتعثر تعثراً غريباً وغير مفهوم، والجامع المشترك بين كل من يصرون على اعتناق معتقدات القرن التاسع عشر وتبجيلها وكأنها من المقدسات هو الهرب من تسمية “العربي” و ”العربية”.

ونذكر في هذا الصدد أن أي اكتشاف لوجود حضاري في المنطقة العربية، وبخاصة اكتشافات العصر المطير في الجزيرة العربية تتبعها تساؤلات غريبة عن المكان الذي جاء منه أصحاب هذه المكتشفات، وكأن كل ما له صلة بالتحضر لا بد أن يكون مجلوباً من أماكن أخرى، بينما يفرض المنطق البدء من فرضية أن هذه الآثار هي آثار أصحاب هذه الأرض وسكانها لا العكس.


استشراق في علم الآثار:


إن اللغة الواحدة والعقائد المتماثلة الأصول وطرز البناء، منذ البواكير المسماة “بواكير السامية” حتى العصر الراهن لتدل دلالة واضحة على وجود شعب تعددت أقطاره ولهجاته، ومع ذلك فإن ما يبذله عدد من علماء الآثار وشارحو دلالة مكتشفاتهم يكاد يكون عملاً معاكساً بل ومضللاً لأدلة هذه الآثار، وهي الظاهرة التي أطلقنا عليها منذ أوائل التسعينات اسم “الاستشراق في علم الآثار”. فهم يطلقون على القبائل تسمية “الشعوب”، وحين ترد في ألواح المسند تسمية “شعب” دلالة على وجود تنظيم حضري متميز عن التنظيم القبلي تترجم بكلمة “قبيلة”، ويطلقون على اللهجات تسمية “اللغات” رغم إدراكهم بأن اختلاف طريقة تصويت الكلمات بين عدة مناطق لا يعني وجود عدة “لغات”.


والغريب أن هؤلاء ما إن يعلموا باكتشاف مدينة أو قرية حتى يسارعوا إلى إعطائها اسم “حضارة” مستقلة، وهو ما لا يفعلونه في مناطق أخرى من العالم يحاولون فيها تجميع أدلة على وحدة حضارية قدر الإمكان بين مناطق متباعدة، وكأن الأرض العربية ذات الطبيعة المنبسطة في غالبيتها ليست سوى شظايا، في كل قطعة منها حضارة منفصلة عما يجاورها، وشعب منفصل لغة وثقافة ومساراً.

إن هذا السيناريو التاريخي الذي تعرض ويتعرض للتقطيع والتجزئة يحتاج تجميعاً وتركيباً وفق منهج مختلف عن مناهج الباحثين الغربيين، منهج يأخذ في اعتباره الانطلاق من المحيط الأوسع، أي من الافتراض المحقق تاريخياً بأن ثمة حاضنة جغرافية - اقتصادية - ثقافية لهذه “الحضارات”، حضارات المدن والقرى العربية، وثمة إطار واحد يجمعها منذ أقدم الأزمان. وإلى أن يثبت العكس، وهو ما لم يثبت حتى الآن، فلا بديل عن هذا النهج أمام الباحث.


حضارات تزدهر وتتصارع:


طوال القرون العشرة التي سبقت ميلاد السيد المسيح عليه السلام لم تهدأ أمواج البحر الأبيض المتوسط تحت وطأة السفن العابرة باتجاه الشرق تارة واتجاه الغرب تارة أخرى: سفن التجارة والدبلوماسية والحرب على حد سواء.

فالأساطيل تنهب المدن الساحلية وتشتبك في مياهها مع أساطيل أخرى، والوفود تتحرك بين هذه المملكة وتلك، والتجار يتنقلون بين الموانئ ويغامرون وصولاً إلى أبعد نقطة معروفة، والشعوب تهاجر من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى. وفي هذه القرون ازدهرت حضارة أتروريا وكنعان واليونان في حوض المتوسط، ودخلت في صراعات دامية للسيطرة على الموانئ والطرق البحرية، وفي أواخر هذه القرون جاءت “روما” لتضع بيدها الثقيلة النهاية المحزنة لهذه الحضارات بعد أن هضمت الأتروسك وأسقطت “قرطاجنة” العربية بعد صراع مرير استمر ما يقارب 120 عاماً، ثم هيمنت على العالم الهليني.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع



الساعة الآن 01:33 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر