فيسبوك تويتر RSS


  #1  
قديم March 27, 2010, 08:21 AM
 
وسطية الإسلام للباحث وصفي أبو زيد




الباحث الموسوعي في علوم الشريعةالأستاذ الجليل وصفي أبوزيد يقدم لنا باقة ممتعة ووجبة شهية حول وسيطة الإسلام فهيا نمتع أنفسنا بقراءتها

وصفي عاشور أبو زيد


[email protected]






20 يوليو, 2009

الإسراء والمعراج حوار




الإسراء والمعراج .. إن بعد العسر يسراً

(حوار لموقع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت)



تكمن أهمية رحلة الإسراء والمعراج كونها مرحلة فارقة في تاريخ الدعوة الإسلامية، فرضت فيها أهم فريضة من فرائض الإسلام ألا وهي الصلاة، ظهر من خلالها التصديق والتكذيب للدعوة الإسلامية، وكذلك إمامة الأمة الإسلامية للأمم الأخرى وريادتها من إمامة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) للأنبياء في المسجد الأقصى، وارتباط المسجد الأقصى بعقيدة المسلمين، وغيرها الكثير والكثير من العلامات والدلالات..

يسعدنا أن يكون معنا في هذا اللقاء الباحث الشرعي بالمركز العالمي للوسطية بدولة الكويت الأستاذ وصفي عاشور أبو زيد ؛لنقف معه عدة وقفات حول رحلة الإسراء والمعراج ...



1. بداية .. لنا أن نقول إن الإسراء والمعراج هدية الله تعالى لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – وأمته مقابل الصبر أمام الفتن والإيذاء. فكيف ذلك ؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،،
فإن رحلة الإسراء والمعراج على ما في تحديد زمنها من خلاف تمثل ثمرة جهاد طويل وصبر جميل، كما تتجسد فيه قمة معاني الرعاية الربانية، والعناية الإلهية.
ذلك، أن العناية الربانية لا تأتي من فراغ، وإنما ينبغي أن يقوم من أرادها وكلنا يريدها بواجبين:
الأول: واجب تربوي، وهو مع النفس حيث علاقة المسلم بربه، وعنايته بنفسه؛ علاجا لأمراضها تخلية وتحلية ثم تجلية.
والثاني: واجب دعوي، وهو القيام بدعوة الناس إلى ما علمه من علم وخير، ويحاول القيام بواجب البلاغ على طريقة: "بلغوا عني ولو آية"، ويأخذ كل الوسائل والسبل المتاحة لتبليغ كلمة الله تعالى.
ولقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بالواجبين خير قيام، وفي الواجب الدعوي ظل يدعو ويبلغ حتى ضاقت عليه أخلاق أهل مكة، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حتى ألجئ إلى حائط ابني ربيعة ودعا دعاءه الشهير.
وهنا تتدخل العناية الربانية ثمرة وجائزة له صلى الله عليه وسلم على القيام بما أمر به، وتبليغ ما كلف به، وعلى أنه لم يترك سببا ولا سبيلا إلا سلكه لتبليغ دعوة الله تعالى.
وفي هذا درس للدعاة والعاملين للإسلام في هذا العصر، وفي كل عصر، وهو أنهم إن قاموا بالواجب التربوي نحو أنفسهم، وبالواجب الدعوي نحو مجتمعاتهم، فلابد أن تتنزل عليهم العناية الربانية، وهذا موجود في قصص القرآن وبخاصة قصص الأنبياء صلوات الله عليهم.

2. جاءت حدوده رحلة الإسراء والمعراج الجغرافية بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى والسماوات العلى .. فماذا يعني ذلك لنا كمسلمين ؟
إن البدء من المسجد يعني لنا كمسلمين الكثير والكثير، من ذلك:
1 أن المسجد له من البركة والقدسية والطهارة ما يجعل المسلم يبدأ أعماله منه، فالمسجد منطلقه، والمسجد منتهاه، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بدأ معركة أو بدأ سفرا أو عاد من سفر كان منطلقه من المسجد.
2 أن المسجد الأقصى قيمته عظيمة في نفوس المسلمين، ويكفي أن الله تعالى قرن ذكره بالمسجد الحرام الذي يصلي إليه المسلمون كل يوم خمس مرات، فكان من الممكن أن يصعد الله بنبيه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى الملأ الأعلى، وإنما كانت الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليؤكد مكانة هذا المسجد عند الأمة، وليشير إلى أن من فرط في المسجد الأقصى يوشك أن يفرط في المسجد الحرام.
3 ومن ذلك أيضا ما ذكره العلامة محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره، قال: وفائدة ذكر مبدأ الإسراء ونهايته بقوله: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] أمران:
أحدهما: التنصيص على قطع المسافة العظيمة في جزء ليلة، لأن كلا من الظرف وهو {لَيلاً} ومن المجرورين {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] قد تعلق بفعل {أسرى} ، فهو تعلق يقتضي المقارنة، ليعلم أنه من قبيل المعجزات.
4 وثانيهما: الإيماء إلى أن الله تعالى يجعل هذا الإسراء رمزا إلى أن الإسلام جمع ما جاءت به شرائع التوحيد والحنيفية من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الصادر من المسجد الحرام إلى ما تفرع عنه من الشرائع التي كان مقرها بيت المقدس ثم إلى خاتمتها التي ظهرت من مكة أيضا، فقد قدرت الحنيفية من المسجد الحرام وتفرعت في المسجد الأقصى. ثم عادت إلى المسجد الحرام كما عاد الإسراء إلى مكة لأن كل سرى يعقبه تأويب. وبذلك حصل رد العجز على الصدر.

3. إذن ماذا ترون من وجهة نظركم تجاه المقدسات الإسلامية المسلوبة ، وواجبنا نحوها ،على كل المستويات: الفردية والأسرية والرسمية ؟ .
لا يخفى على كل مسلم في كل مكان ما يجري من مكائد ومخططات خطيرة تستهدف المسجد الأقصى، وتستهدف الوجود الفلسطيني في تلك البقعة المباركة التي بارك الله حولها، وتتلخص واجباتنا نحو هذه القضية في عدة أمور:
أولا: أن نعرف الناس بالقضية، ونكشف لهم عن أهمية القضية، وخطورة ما يقوم به الصهاينة هناك، مستعرضين تاريخها ومستعينين بما كتب فيها من أمثال كتابات الشيخ القرضاوي والشيخ جمال عبد الهادي، وغيرهما ممن تحدث في القضية.
ثانيا: إحياء روح الجهاد في نفوس الأمة، عبر بيان أهمية الجهاد وضرورته، وأنه لن تعاد لنا مقدساتنا عبر المفاوضات وخيار السلام الأوحد المزعوم، وتهيئتهم لذلك اليوم الذي وعد فيه النبي صلى الله عليه وسلم بقتال اليهود، فقال فيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة: " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود. فيقتلهم المسلمون. حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر. فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبدالله! هذا يهودي خلفي. فتعال فاقتله. إلا الغرقد. فإنه من شجر اليهود".
ولن يكون مثمرا أن يقوم الأفراد بدورهم ثم لا تقوم الأسر والمجتمعات والمؤسسات الرسمية، أو يقوم هذا كله بدوره ثم تقف المؤسسات والحكومات كما نشاهده اليوم عقبة كأداء أمام نجدة المقدسات والمسلمين هناك، بل يجب أن يكون الجميع متعاونا، وقد قال الشاعر:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وأود أن أشير إلى أمر آخر، وهو أن حرمة المسلم وصيانة دمائه أعظم عند الله من المسجد الأقصى بل المسجد الحرام، وما يتعرض له المسلمون في فلسطين من حصار وإغلاق للمعابر وعدم إغاثتهم ونجدتهم بل بالتصدي لمن يقومون بالنجدة ومن يطالبون برفع الحصار لهو من العار الذي سيسجله التاريخ على من يقوم به، وإنه لأعظم إثما عند الله، وأكبر سخطا عند الناس أن نفرط في نجدة إخواننا، أو أن نشارك في التآمر عليهم والمكر بهم بل الشماتة فيهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

4. بين التصديق والتكذيب.. ماذا تمثل رحلة الإسراء والمعراج لنا كمسلمين كجزء مهم من جوانب العقيدة ؟
كلنا يعلم موقف المشركين من خبر الإسراء؛ حيث كذبوا تكذيبا مطلقا، وأنكروا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قطع ما بين مكة والشام في دقائق، وهم يقطعونها في شهر ذهابا وشهر إيابا، وذلك توجهوا إلى أبي بكر رضى الله عنه فقالوا: يا أبا بكر هل لك في صاحبك يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ثم رجع في ليلته، فقال أبو بكر: إن كان قاله فقد صدق وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا، نصدقه على خبر السماء.
ولهذا سمي أبو بكر بالصديق، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كَبْوَة، وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عَتّم عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه".
وفي هذا ما يجعل المسلم أكثر يقينا وأعظم إيمانا بما صح مجيئه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما".

5. وأخيراً .. كيف ترون إمامة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – للأنبياء من قبله في بيت المقدس ؟
إمامة النبي للأنبياء في بيت المقدس لها دلالات متنوعة:
أولا: ما سبق قوله من أن الرسالة المحمدية جمعت كل الرسالات.
ثانيا: أن محمد بن عبد الله هو خير الأنبياء وإمامهم وسيدهم؛ ولذلك فهو وأمته الشهداء يوم القيامة على أن الرسل جميعا بلغوا.
ثالثا: أن الرسالة الإسلامية هي الرسالة الخاتمة والشاملة والخاتمة، التي امتدت طولا حتى شملت أماد الزمن، وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم، و امتدت عمقاً حتى استوعبت شؤون الدنيا و الآخرة.
حادث الإسراء والمعراج فيه من الفوائد والدروس والعبر والدلالات ما يمكن أن نحيي به الأمة، فأهيب بإخواني الدعاة والخطباء أن يستثمروا هذا الحدث استثمارا أمثل، يعود بالخير على الفرد والمجتمع والأمة، وهكذا كل مناسباتنا التي نحياها على مدار العام.





وفي الختام نشكر باسمكم الباحث الشرعي بالمركز العالمي للوسطية بدولة الكويت الأستاذ وصفي عاشور أبو زيد ؛على هذه الوقفات حول رحلة الإسراء والمعراج ، ونسأل الله القدير أن يرزقنا صلاةً في المسجد الأقصى، وأن يستخدمنا لدعوته حتى يرده إلى حظيرة الإسلام وأن يطهره من دنس اليهود الغاصبين ، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام وسلم تسليماً كثيراً .




https://www.islam.gov.kw/site/meet_consult/details.php?data_id=236


بقلم وصفي عاشور وصفي أبو زيد في 10:42 ص 0 التعليقات







24 يونيو, 2009

وسطيةُ الإسلامِ وأمتِه في ضَوْء الفقهِ الحضاري




وسطيةُ الإسلامِ وأمتِه في ضَوْء الفقهِ الحضاري


وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@************


من الحقائق التي لا يماري فيها عالم عادل، أن بين الإسلام والحضارة التي أقامها في مواطن أمته ومنطلقات إشعاعه، من التفاعل والتلازم، ما لا يوجد له مثيل بين أي دين آخر، وحضارة عايشت ظهوره وامتداده.

حول هذا المعنى يصدر الكتاب السابع عشر من سلسلة الأمة الوسط التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بالكويت، لمؤلفه الكبير الأديب والمفكر عمر بهاء الدين الأميري، الذي يتساءل في مقدمته عن السر الكامن في الإسلام؟ وما تلك الطاقة التي تجعل فيه بثاً حضارياً فذًا أكثر من سواه، بحيث نجده حقًا روح الحضارة الإسلامية، وباعث حياتها وعامل انتشارها ومدد ازدهارها؟

“وسطية الإسلام" تجلت في عقيدته أولا فلم تشرد بها الروحيات في تجريدها المغرق، ولا أثقلتها الماديات في كثافة مفرطة عطلت معناها السلوك الحضاري يوجب إخراج الفقه من حيِّز البحث النظري وتكوين الملكة والخبرة الشخصية إلى حيز الإفادة العلمية

والسر في هذا كما يقول شاعر الإنسانية المؤمنة أن قاعدة الإسلام الأولى – الأزلية الأبدية- هي الاعتقاد الراسخ بالله الحق، الخالق الأحد الصمد، الحي الباقي الذي لا يحور – لا في ذاته ولا في صفاته – مهما تغير الزمان وتبدل المكان، مع اتباع مستلزمات هذا الاعتقاد من قواعد وشرائع أمهات، ومن مناهج وفعاليات.

إن حضارة تؤسَّس على هذه القاعدة الراسخة، تتكامل بقيمتها وتنطلق من معطياتها لجديرة بأن تأخذ بيد إنسانها وتشد أزره، ليحمل الأمانة، ويؤدي الرسالة، ويعمر الأرض. وما من شك في أن الأمة الإسلامية تمر بمخاض كبير في هذا العصر سيتولد عنه وعد الله تعالى بنشر الدين والتمكين له، وإن كل عمل فكري إيماني أو جهادي حركي يسهم في تحقيق هذا الوعد الإلهي، لمن شأنه أن يدرج الإنسان المسلم على صراط الله المستقيم، ليتلاقى مع إخوانه الآخرين على صعيد واحد من السعي ابتغاءً ومضاءً إلى أن يتحقق وعد الله العليم الحكيم.

الفقه الحضاري

في ضوء من هدي هذا الفقه الحضاري يعالج الأميري وسطية الإسلام وأمته؛ وقد عرف الأميري الحضارة في البداية لغة واصطلاحا، فالحاضرة في اللغة ضد البادية، أما في الاصطلاح: فهي عند بعضهم: مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي في الحضر، وهي عند آخرين: الحصيلة الشاملة للمدنية وللثقافة، فهي مجموعة الحياة في صورها وأنماطها المادية والمعنوية.

ويعرفها ابن خلدون في كلمتين مختصرتين، فالحضارة عنده هي "غاية العمران"، وهذا الفهم والبيان في زمانه، سَبْق - بل فتح- لا مراء فيه، ولكن مفهوم الحضارة في عصرنا قد امتد إلى ألوان من المعنى هي أبعد وأوسع مما رآه ابن خلدون في عصره وفي بيئته العربية، وفي انتقالها الاجتماعي والسياسي والمدني، من البادية إلى الحضر، فلفظ الحضارة في مفهومه العام والحديث المعاصر بصفة خاصة، قد أصبح أكثر اتساعًا مما يدل عليه اللفظ في مفهومه اللغوي والتقليدي.

وقد تنوعت وتباينت آراء العلماء المعاصرين في تعريف الحضارة ليس هذا موضع إيرادها ، لكن أديبنا عرفها تعريفا مستخلصا من التصور الإنساني بأنها: " ليست قوة مستقلة تحكمها قوانينها الداخلية الخاصة بها، والمستقلة عن الإنسان تمامًا؛ بل على العكس، فالحضارة مأخوذة عن سلوك الإنسان وخاضعة لتغيير الإنسان، وإذ لم تكُ الحضارة طبيعية بل هي من صنع الإنسان، كان الفرد حرًّا في تغييرها". وأما الحضارة الإسلامية فيعرفها بأنها: "هي الكيان الإنساني العام الذي أقامته الأمة الإسلامية ولا تزال على هدي دينها، في منطلقات وجودها وإشعاعها" .

ومن هنا تفترق الحضارة الإسلامية عن سواها؛ لأن إنسان الإسلام الذي أقامها ومارسها، مندمج بالإسلام، صادر عنه، عامل على إقامته في الحياة، فهو حر فعال، ولكن في الانطلاق من قواعد الإسلام وتصوراته الحضارية الربانية، وتبعًا لذلك لا يستطيع الفقيه الحضاري المسلم أن يوافق على حصر اصطلاح الحضارة للدلالة على المنجزات المادية والصناعية، وهكذا تكون الحضارة في فهمه: كياناً إنسانياً عاماً، ذا شخصية اعتبارية معنوية.

ويستعرض الأميري الآيات التي احتوت على مادة: "ف. ق. ه" في القرآن الكريم ، ويتأمل فيها، ويقرر أنه إذا كان استعمال "الفقه" في الآيات يشمل أحيانًا معاني عديدة، فذلك من قبيل الاشتراك اللفظي الشائع في لغة العرب، ولكن دلالته تبقى متقاربة على كل حال، والذي يهمنا منه هو تركيز دلالته على معنى الوعي العميق الجامع النابع من القلب وما يرمز إليه، وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسم كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، فلا ينفك القرآن المجيد، والحديث الشريف يدعونا إليه من التفكر.. والتدبر.. والنظر.. واستخلاص العبر، ويربط به الإيمان بالله وخشيته واتباع هداه كنتيجة منطقية لمقدمات طبيعية.

الفقه في الدين هو الفقه الحضاري

ويقرر الأميري أن "الدين" في قاموس العربية واستعمال القرآن الكريم، ليس ما يعبر عنه باللغات الأجنبية ب "Religion” بل هو أوسع من ذلك وأجمع وأشمل وأحكم بكثير؛ إنه "الدستور" حسب مصطلحات العصر.. وعندما يعمم ويمتد عن حدود الزمان والمكان، كما في قوله سبحانه: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ"، فهو الدستور العام للوجود الإنساني.
ثم يقول: "وهكذا أصبح «الفقه الحضاري » لديَّ كما أسلفت القول: اصطلاحًا جديدًا لمنهج سديد في البحث والعلم والفهم والسلوك، يوفر الضمانات اللازمة لمعرفة الحقيقة الجلية، وممارسة الحياة السوية".

عناصر الفقه الحضاري: وإذا كان الفقه الحضاري عند الأميري عبارة عن دستور عام للوجود الإنساني، فقد وضع له عناصر أربعة تبرز جوانب هذا الفقه وتحدد معالمه:
أولها: الاستيعاب الحضاري: الاستيعاب لصفة الدراسة الحضارية بشكل عام، هل هي وصفية أم تاريخية أم تقويمية، ثم للقضايا والقيم والأفكار المطروحة للبحث والنظر من كل الجوانب؛ من حيث أصلها وأجواؤها وملابساتها وتفرعاتها وسائر الخيوط المترابطة بها، من قريب أو بعيد؛ وذلك لاستيفاء الدرس، ورُشْد التخطيط في الحال، وسلامة التصرف في المآل... وهذا الجانب هو المهم والأعم للاستيعاب الحضاري.

ثانيها: النظر الحضاري: ويمكن اعتباره خصوصًا من عموم الاستيعاب؛ لتعميقه ولتسديده وترشيده والجمع فيه بين الشمولية والدقة؛ لإمداد المعني بالأمر بضمانات الصحة والصواب بالنسبة للدارسات النظرية، وبالحكم الراجح للإمكانات الفعلية، والتقدير الدقيق للمتطلبات الوافية بالنسبة للقضايا العملية.

وثالثها: الإدراك الحضاري: وهو حصيلة العنصرين السابقين: الاستيعاب والنظر، ويكون لوضع القضية المدروسة في سلمها الصحيح، ومرتبتها اللازمة؛ أهمية.. ومنزلة.. وجدوى.. وإمكان في مجالات العمل.

ورابع العناصر وآخرها: السلوك الحضاري: وهو إخراج الفقه الحضاري من حيِّز البحث النظري، وتكوين الملكة والخبرة الشخصية إلى حيز الإفادة العلمية، فرديًّا وجماعيًّا وممارسة في الحياة؛ فيكون السلوك الحضاري في صواب وسلامة التفكير، وفي سداد وجدوى العمل..

الإسلام في ضوء الفقه الحضاري

ويتناول الأميري هنا الإسلام بوصفه دستورا للحياة الإنسانية الواعية الهادية؛ فالشعور الديني في الإنسان هو المنبع الأول لهداه، وأفكاره الأخلاقية، وتصوراته الإنسانية، وفعاليته الحضارية، وإن تحقق الكمال الفعلي للخلق لا يكون إلا باتباع المخلوقات هدى خالقها؛ امتثالا لأمره، وإذعانًا وطاعة له، وقد أصبح الإسلام في ضوء الفقه الحضاري علمًا على دينه العالمي الممتد، دستورًا عامًا شاملاً، ومنهجًا ربانيًّا هاديًا، مستوعباً الحياة:

* عقيدته، وشعاره الوحدانية
* نبيه ورسوله وإمامه محمد صلى الله عليه وسلم
* أصله ووحيه من عند الله.
* مدونته: القرآن المجيد.
* رعيله الأول المسئول: مؤمنو العرب.
* شعبه وجماهيره: المسلمون كافة. * ساحة دعوته وهدايته: العالم أجمع.
* مسلّماته العقائدية: الحقيقة الصادقة للأديان السماوية كلها.
* وجهته الحقيقية: وجه الله جل وعلا.
* قبلته: الكعبة المشرفة في المسجد الحرام.
* تحيته: السلام. * فطرته الأم: الكرامة الإنسانية.
* ميزانه في الأكرمية: التقوى.
* أخلاقه: بين العدل والفضل مع المخلوقات كافة.
* هتافه: الله أكبر، ولله الحمد، والعزة لله.

وله أسسه ومنطلقاته وتصوراته ومناهجه في الإدارة والاقتصاد والفلسفة، وسائر مجالات الفكر ومرافق الحياة، ومنطلقات العمران.

وسطية دين الإسلام

يقرر الأميري أن كل دين تتكون بنيته من: "عقيدة – وشريعة – وسلوك"، وقد تجلت "وسطية الإسلام" في عقيدته أولا، فلم تشرد بها الروحيات في تجريدها المغرق، ولا أثقلتها الماديات في كثافة مفرطة عطلت معناها، وهي وسط في الأخلاق الاجتماعية، لا ينأى بها تطرف عن الانفتاح على الناس، ولا تشذ ولا تشتد في معاملة الآخرين، وتجعل العدل أدنى مراتب التعامل الإنساني، وأما الفضل فلا حدود له..

معالم وسيطة الإسلام

ويستعرض الأميري معالم هذه الوسيطة وأنواعها كما تصدرت بها الأمة الإسلامية وكانت جديرة بها كما يلي:

وسطية حضارية: فهي وسطية حضارية، وهكذا تكون "وسطية" الإسلام ابتداء "وسطية حضارية"، وشهادة أمته على الناس دنيوية، قبل أن تنتهي أخروية.

وسطية في المكان وآثارها: وهي وسطية في المكان، فهي وسط في موقعها الجغرافي المهم؛ حيث كانت مهبط الوحي وأرض الإسلام، ومهد الأمة الإسلامية الأولى؛ وهي الوسط بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، وهي مركز الوصل بين أفريقيا وآسيا وطرف ممتد من أوربا، وهي الرباط البري بين الطرق المائية، ومن هذه البيئة الوسط انتشر الإسلام شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا بالبر والبحر على حدٍّ سواء.

وسطية في الزمان: ولم يأت الإسلام القمة في آخر عمر الأرض، ونهاية الزمان؛ حيث يتقاصر مدى الانطلاق الحضاري، ولا أهمل عقيدة الرسالات السالفة، بل جلاَّها على حقيقتها الواحدة، وعمد إلى نفس هذه الحقيقة الأم الكبرى "الوحدانية"، فوطَّدها على أساس إلهي ثابت.

وسطية النظام الاقتصادي: لقد سرت وسطية الإسلام بالفعل إلى نظامه الاقتصادي، فأقامته على أساس إنساني مثالي؛ من العلم والعمل، والبحث والسعي، والتنافس في الخير والتعاون عليه، مع الصدق والتسامح والرحمة في التعامل والتبادل.

انطلق الإسلام في إقامة نظامه الاقتصادي من نفس المنطلق الذي تصدر عنه كل جوانب كيانه وقواعد بنيانه، لقد احترم حق الملكية الفردية شريطة مشروعيتها في الأصل، وسلامة ممارستها، بحيث لا تمس حقوق الأفراد، ولا تتعارض مع مصلحة الجماعة، واعتمد الإسلام التجارة الحرة في غير الضرر والحرام، وندد بمن يكنز المال دون أداء حقه، وهدده ونادى: بأن "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون "، وجعل فيه فوق حق بيت المال بالزكاة، حق الإمام، بأن يأخذ في حالات العسرة العامة، أو الخطر المحدق بالأمة أو الضرورات الاجتماعية، كل ما يحتاجه الأمر من أموال الناس، ولكن بالعدل وبالعقل، ومن كلٍّ حسب قدرته.

وقد كانت وسطية "الإسلام القمة" الثابتة على القصد مع خصائصه الحضارية الفذة، العامل الأكبر في منحه القدرة، وحمله مسؤولية التصدي لمشوهي الأديان السماوية ولأصحاب العقائد والمذاهب الوثنية أو الوضعية، السابقة والقائمة واللاحقة.

وسطية الإسلام في ضوء الفقه الحضاري

وينهي الأميري كتابه بالحديث عن وسطية الإسلام في ضوء الفقه الحضاري، ويقرر أن زبدة القول كله عن وسطية الإسلام في ضوء الفقه الحضاري: أننا إذا استوعبنا أمرها استيعابًا حضاريًّا شاملاً، ثم نظرنا في جزئياتها ودرسناها جزئية جزئية لأدركنا أنها تشمل الحياة في كل جوانبها ومعانيها، وأنها تترك آثارها في نفسية المسلم الحق، فيستشعر دائمًا العزة بالله من جانب، والتواضع له ولعباده، والمسؤولية أمامه من جانب آخر، وبالتالي فهي تترك آثارها في الأمة الإسلامية جمعاء، رفعة ودماثة، وحملاً للأمانة بشكل يمكِّن لحضارتها من الانتشار والازدهار، فضلا عما كونته هذه الوسطية للأمة الإسلامية من محورية في البشرية كافة، استقطبت المواهب والكفاءات والخبرات، وجزت عنها أكرم الجزاء، ووظفتها للنفع الإنساني العام.

وهكذا نالت مزيتها، وحازت جدارتها الفذة التي ترتبت عليها وانبثقت عنها صدارتُها في الوجود الإنساني ومسؤوليتها عن ريادة البشرية، وبذل عطاء الإسلام هداية ودراية، ونعمة ورحمة للعالمين.


بقلم وصفي عاشور وصفي أبو زيد في 04:00 ص 2 التعليقات





التعصب مدمر الحضارات




سلسلة الأمة الوسط (16)
التعصب مدمر الحضارات


وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@************


"التعصب الفكري داء فكري على مر العصور والأزمان إذا لم يشخص التشخيص الصحيح ومن ثم معرفة أسبابه وعلاجه سيؤدي ذلك إلى تقطيع المجتمع بمقراض خبيث اسمه "التعصب" والذي يعني اصطلاحاً: الانحراف عن الجادة المنتجة في الحياة".
بهذه العبارة افتتحت الأستاذة نسيبة المطوع كتابها عن: "التعصب مدمر الحضارات"، وهو الكتاب السادس عشر في سلسلة كتاب الأمة الوسط التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بالكويت، والتي تحدثت فيه عن المعنى اللغوي والاصطلاحي للتعصب، ثم أنواعه وأبعاده النفسية والاجتماعية، وأخيراً الحلول الناجعة للخروج من دوائره.

المعنى اللغوي والاصطلاحي
عرفت الكاتبة الوسطية لغة واصطلاحا في البداية كوجه مقابل للتعصب أو الإفراط والتفريط عموما، ثم قررت أن كلمة "تعصب" تعني اختلالاً فكرياً يليه اختلال وجداني يتحمس للاختلال الأول ليتبعه اختلال سلوكي تراه العين المجردة وتقيس مضارَّه المرئية الإنسانيةُ جمعاء على صاحبه وعلى دوائره.

أنواع التعصب
ثم بينت الداعية الكويتية المعروفة أنواع التعصب وحصرتها في خمسة أنواع:

أولا: التعصب القبلي:
وهو هوى القبيلة الأهوج الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه: "نتن"؛ لأنه يدمر الحيادية الفكرية ويدمر القدرة على العدل في القضاء الفكري بل يسيطر على القرار العقلي ليتبع أهواء القبيلة ومصالحها الخاصة دون الأخذ بالاعتبار الإنسان الآخر وعلاقتنا البشرية معه ومسئوليتنا تجاه بعضنا البعض كأناس متجاورين فوق الأرض.

ثانيا: التعصب القومي:
وهو هوى القومية الأسود الذي يمثل وباءً قاتلاً للمؤمن وللمحيطين به؛ حيث يرتفع هوى القومية بالشعب إلى مواقع غير حقيقية تجر العالم إلى الظلم والتفكك، فها هو هتلر ماثل أمام التاريخ نموذجا مثاليا للتعصب القومي؛ حيث أخذ بيد بلاده إلى الهاوية مع كل ما كانت تملك أرضه والساكنون عليها من قوة ومميزات وإمكانات حضارية، وكذلك كثير من غارات الدول على بعضها البعض ظلماً عبر التاريخ كان أحد مسبباتها الأساسية للجور والظلم هو العصبية القومية المدمرة لكل عدل على الأرض.

ثالثا: التعصب الفكري:
والنوع الثالث من أنواع التعصب كما تذكره الأستاذة نسيبة هو التعصب الفكري، الذي هو ضيق أفق وهوى ذهني يجعل المتعصب لا يري إلا فكره ويلغي أي فكر آخر على الوجود، وحضارتنا الفكرية القائمة إلى يوم القيامة هي الضدية الأكيدة للتعصب الفكري بل هي السماحة العقلية والوجدانية والسلوكية التي تستوعب العالم أجمع باختلاف فكره واختلاف معطياته واختلاف تنشئته وبيئته، فالتعصب الفكري يعني البخل الفكري وعدم السماح لزيارة الآخرين لعقولنا مما قد يؤدي عند كثير من الجهلاء إلى فرض الإرهاب الاتصالي في الحوار أضف إلى ذلك عدم احترام الرأي الأخر.
ولنا في رسول الله صلى عليه وسلم أسوة حسنة عندما سأله أحد الشباب أمام الصحابة أن يأذن له بالزنا؛ حيث نقل الرسول صلي الله عليه وسلم الحوار إلى ذاتية السائل من دوائر إنسانية متمثلة بالأم والأخت والعمة والخالة، فكان عقله مفتوحاً للنصح، على عكس ما بدأ به من حال حواري.
وتؤكد المؤلفة من هنا أنه لزام على المربي في المحضن الأول المنزل، والمحضن الثاني المدرسة أن يغرس في لاوعي المتربي أهمية احترام الرأي الآخر وفكره المختلف معه.
وتلخص الداعية المعروفة المبادئ التي لابد من غرسها في الطفل حتى نحميه من التعصب الفكري فيما يلي:
أ- ثوابت الكتاب والسنة في الأمة. ‌ب- أهمية احترام الرأي الآخر. ‌ج- تنمية القدرة الذاتية على العمل مع من نختلف معهم. ‌د- الحب المسئول قاعدة نبوية بين أعضاء الأمة وبين الأمة والعالم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" حديث. ‌ه- "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" آية. ‌و- الشفقة على المخطئ وإبدال مشاعر الانتقام بمشاعر العطف على جهله ومحاولة مساعدته. ‌ز- هناك فرق بين المعلومة وبين طريقة إيصال المعلومة. ‌ح- الإيصال الفكري فن ومهارة على ساكن الأرض الذي يبتغي صناعة علاقة سليمة مع أخيه الإنسان أن يتعلمه ويتدرب عليه.

رابعا: التعصب التربوي:
وأما النوع الرابع من أنواع التعصب فهو التعصب التربوي، وهو تعصب بيئي لما نشأ عليه المتربي من أعراف ومباحات تمنع من التطور والمرونة مع معطيات الجيل الجديد.
وتؤكد المطوع أن هذا لا يعني أننا نسمح بالتقلب الأخلاقي تبعاً للواقع العالمي الميداني، وإنما نقول إن التوازن التربوي المطلوب ينطلق من ثوابت الدين الحق آخذاً بالاعتبار متغيرات العالم في مساحتي المستحب والمباح مع دراسة مواكبه لفقه الواقع، فحضارتنا عبر التاريخ ماثلة أمام العين تثبت المرونة الانطلاقية التي تميز بها الدين الحق حيث استقام عابر الدنيا بآليته الذاتية ومن ثم آليته السلوكية، فحقق التربية اللازمة للإنسان المتحضر الذي أنتج حضارته تبعاً لذلك، ومن هذا المنطلق الفكري نقول إن الإسلام هيأ التربية الحضارية المتزنة لتابعه فكراً ووجداناً وسلوكاً الملائمة لحضارته الدائمة، ما دام قد قدم التربية (أخلاق + علم) كمقدمة لتحقيق حضارته، وعلى ذلك فالتعصب التربوي الجامد الذي لا يعترف بتغييرات الواقع يعد عائقا دون التربية المتزنة الضرورية كنقطة بداية على الصراط المستقيم.

خامسا: التعصب الهوائي:
أما النوع الأخير من الأنواع التي ذكرتها المؤلفة من أنواع التعصب فهو التعصب الهوائي، الذي يمثل الهوى كما تقول المطوع مرضاً قلبياً ينطلق من القلب ليعشق العيش في العقل مستعمراً إياه وساعياً لحبسه في سجن الهوى، وأخذ مقاليد الحكم في مملكة العقل لإصدار قرارات هوائية في غير صالح صاحب المملكة بل في صالح أعدائه من نفس أمارة بالسوء (لا تأمر إلا بالشر) وشيطان وصديق سوء ودنيا مذمومة.
فالتعصب الهوائي هو تعصب "للمزاج" الكلمة التي كثيراً ما نسمعها من الصغار والكبار، والتي ترشدنا ببساطة أننا أمام إنسان ضعيف قد تحكّم هواه في عقله ومن ثم في قراره، وهو عبد مملوك لا يملك الحكم في سلطان ذاته بل هو إمعة عبد مسجون لا يقدر أن يطلق عقله ليقوم بوظيفته التكليفية في الحياة من معرفة عواقب الأمور وإصدار القرارات النافعة له ولغيره.
البعد النفسي للتعصب
وتبين المطوع أن المتعصب يتعرض لأي نوع من أنواع التعصب إلى اختلال نفسي بسبب عدم استقامة فكره ومن ثم مشاعره وسلوكياته، فهو قد انحرف بنوع عصبيته إلى أحد طرفي الإفراط أو التفريط، بل في كثير من الأحيان ينحرف بعصبيته من أن يكون عاطلاً عن الإنتاج إلى إنسان ذي عزيمة فولاذية في إنتاج ما يضره من نوايا وأفكار وأقوال وأفعال لينقل بإنتاجه من المعدل الصفري إلى المعدل السالب، فالمتعصب مختل نفسياً بلا جدال ، حيث انحرف من الاستقامة الداخلية في ذاته وانحرف عن الاستقامة الميدانية في حياته، ويحتاج منا جميعاً إلى مساعدة سريعة ممثلة بالوجبات العلمية الصحيحة لذلك المختل حتى لا يؤثر على تركيبة المجتمع الذي يفترض أن تكون منسجمة ومتكاملة لأداء دورها الإنتاجي بشكله الأمثل.
البعد الاجتماعي للتعصب
وهناك بعد آخر للتعصب تبينه الأستاذة نسيبة وهو البعد الاجتماعي، فالمجتمع المنتج هو من امتلك القدرة على العمل كفريق منسجم متكامل يشد بعضه بعضاً حباً مسئولاً وتناغماً في القدرات حسب مواهب كل عضو، فيأتي التعصب بأنواعه مجتهداً ليفكك أواصر المجتمع ويدمر قدرته الذاتية على العمل كفريق متكامل في القدرات، بل يفتح الأبواب لدخول أمراض القلوب الفتاكة إلى ذوات الأعضاء ليلعب التعصب بأنواعه كمقراض يقرض العلاقات والطاقات المشتركة في مشروع الحياة الجميل، ويبدأ المتعصب غروراً وكبراً وعجباً معتقداً أنه يرتقي بذاته فوق الجميع ليساعدهم، ولا يدري المسكين أنه وقع في مستنقع العصبية النتن محاولاً أن يجر مجتمعه إلى واقعه المرير، والطامة الكبرى أنه يجهل واقعه ويرى المستنقع جنة محاولاً بحسن نواياه الجاهلة أن يقنع زملاءه بذلك، ولا يدري أن العلم جاء قبل العمل كقاعدة قرآنية حياتية فوق الأرض. قال الله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك}.



الحلول الناجعة للخروج من دائرة التعصب
وفي نهاية بحثها تقدم الداعية نسيبة المطوع معالم للعلاج الناجع وقسمات للحلول المعالجة لهذه الآفة المدمرة، ومن هذه الحلول ما يأتي:
1. نشر العلم: فالجهل أكبر عدو يواجه الإنسان في حياته حتى مع توفر النوايا الطيبة، فالمنحرفون فكرياً في العالم تعصباً أكثرهم امتلكوا حسن النوايا لذويهم، ولكن جهلهم سحب طاقاتهم وطاقات من اتبعوهم إلى درك الهاوية، ومن المهم أن نوصّل للشباب الأسئلة التالية: ‌أ- ما هي مهمتك في الحياة ؟ ‌ب- ما هو هدفك من الحياة ؟ ‌ج- كيف تحقق هدفك ؟ ‌د- أين موقعك من هدفك ؟ ‌ه- ما هي وجهتك الآنية ؟
فإذا أيقن المتعلم أنه في مشروع حياة فوق الأرض مهمته فيها أن يعمر ذاته ويعمر العالم بنشر الخير أينما حل وأينما ارتحل.
2. أهمية الحوار كمهارة اتصالية: فمع وجود العلم الصحيح والنوايا الجميلة الافتقار إلى فن الإيصال الفكري بين الناس وخصوصاً المتحابين منهم، فنحن غالباً ما نختلف مع أحبائنا، نمارس معهم إرهاباً اتصالياً بالقسر والجبر، والرشيد من فرق بين المعلومة وطريقة نقلها مؤمناً بأننا لا نملك عقول الآخرين ولكن نملك فقط الطرق على باب العقول وبلياقة تناسب صاحب الدار ولذلك كان لزاماً على كل إنسان يريد أن يمارس دوره الحضاري فوق الأرض وأن يتعلم مهارة الاتصال الفكري مراعياً فنون الحوار المعروفة.
3. استخدام أحدث الوسائل في نشر العلم: فإذا اقتنعنا أن العلم فريضة قبل العمل علينا أن نحترم ما وصل إليه عصرنا الزمني من تقنيات عجيبة وجديدة لنشر العلم، وإلا أصبح عقل الشباب المقصود تعليمه أعرج الفكر ، فإذا أردنا أن ننشر العلم لابد لنا من مراعاة مصادر نشر العلم الحالية التي تحيط بالشباب في عصره الحالي، ونعمل جاهدين على تكامل المعلومة في عقله من جميع المصادر التي ترسل إليه العلم، ونخطط في إرسال المعلومات في شكل تكاملي منسجم بحيث ينضج عقل الشباب وهو يتغذى على وجبات صحية من العلم تكمل بعضها البعض في نظام صحي لفكر الشاب .
وتختتم الداعية الكويتية الأستاذة نسيبة المطوع بكلمات مهمة حين تقول: "أولادنا أمانة في رقابنا، وعلى كل فرد أن يدلو بدلوه بنية ودعاء وبذل للأسباب في شكل تكاملي مدروس لنعين شبابنا – بعد عون الله تعالي – ليستقيموا في عقولهم وقلوبهم وسلوكهم على الصراط المستقيم تحقيقاً لهدف إرضاء الله تعالى والنجاح بالدارين بمشيئة الله تعالى، مدركين أن فن الحوار مهارة من الواجب تعلمها حتى نستطيع أن ننقل ما نريد لمن نريد".


بقلم وصفي عاشور وصفي أبو زيد في 03:58 ص 0 التعليقات





التعددية الفكرية والحوار في المجتمع المسلم




سلسلة الأمة الوسط (15)
التعددية الفكرية والحوار في المجتمع المسلم


وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@************


دعا الإسلام أتباعه إلى الحوار بالحسنى، ومجادلة الآخرين بالأدب، فقال الله تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " سورة النحل: 125) وقال الله عز وجل: "وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " ( سورة العنكبوت: 46) .
حول هذا الموضوع يصدر الكتاب الخامس عشر من سلسلة الأمة الوسط التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بالكويت ، بعنوان: "التعددية الفكرية والحوار في المجتمع المسلم" لصاحبه الدكتور محمد عبد الغفار الشريف.

الخلاف سنة ربانية
ويعتبر الخلاف كما يذكر المؤلف سنة ربانية أوجدها الله تعالى مع الخلق يقول تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ( سورة هود: 188).
قال الشاطبي -رحمه الله-: فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبدا، مع أنه قد خلقهم للاختلاف، وهو قول جماعة من المفسرين، فالضمير في (خلقهم) عائد على الناس، فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم، وليس المراد هنا الاختلاف في الصور والألوان والأشكال فقط، إنما المراد الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى في الدنيا والآخرة.

منهج الحوار في الإسلام

أولا: الانطلاق من القضايا المشتركة
ويقرر الدكتور الشريف أن الإسلام حاول بشتى الوسائل الانطلاق في حواره مع الآخر من أرضية مشتركة يتفقان عليها، يقول تعالى: " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ " (سورة آل عمران: 64).
وهو ما أكده الأستاذ الإمام محمد عبده -رحمه الله- حين قال: "المعنى أننا نحن وإياكم على اعتقاد أن العالم من صنع إله واحد، والتصرف فيه واحد، وهو خالقه ومدبره، وهو الذي يعرّفنا على ألسنة أنبيائه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه؛ فتعالوا بنا نتفق على إقامة هذه الأصول المتفق عليها ورفض الشبهات التي تعرض لها، حتى إذا سلّمنا أن فيما جاءكم من نبأ المسيح شيئا فيه لفظ ابن الله خرّجناه جميعا على وجه لا ينقض الأصل الثابت العام الذي اتفق عليه الأنبياء، فإن سلّمنا أن المسيح قال إنه ابن الله، قلنا: هل فسر هذا القول بأنه إله يُعبد؟ وهل دعا إلى عبادته وعبادة أمه أم كان يدعو إلى عبادة الله وحده؟ لا شك أنكم متفقون معنا على أنه كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له بالتصريح الذي لا يقبل التأول".
ولم ينهج هذا النهج مع أهل الكتاب فقط، بل مع كل الأديان السماوية وغيرها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وقال أيضا (صلى الله عليه وسلم): "شهدت حلف المطيّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أني لي حمر النعم وأني أنكثه". قال المناوي رحمه الله: "أي ما يسرني أن يكون لي الإبل الحمر، وهي أعز أموال العرب وأكرمها وأعظمها والحال أني انقضه، وأصل ذلك: اجتمع بنو هاشم وزهرة وتيم في در ابن جدعان في الجاهلية، وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم فسموا المطيبين".

ثانيا: تجنب استثارة مشاعر العداء
ومن المعالم المنهجية للحوار في الإسلام أن نتجنب استفزاز الآخرين، واستشارة مشاعر العداء فيهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا يقولن أحدكم إني خير من يونس". وجاء في حديث آخر للبخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بينما يهودي يعرض سلعته، أعطي بها شيئا كرهه، فقال: لا، والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار، فقام فلطم وجهه وقال: تقول والذي اصطفى موسى على البشر والنبي (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرنا؟ فذهب إليه، فقال: أبا القاسم، إن لي ذمة وعهدا فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال: لم لطمت وجهه؟ فذكره، فغضب النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى رئي في وجهه، ثم قال: لا تفضلوا بين أولياء الله؛ فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصقعة يوم الطور، أم بعث قبلي، ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى".
وإنما نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك:
• ليعلّم أمته الأدب والتواضع، وحسن التعامل مع الناس، وإن تعلق التخاصم بأمر من أمور العقيدة.
• لأن مثل هذا التفضيل يؤدي إلى الجور، وانتقاص الآخرين قدرهم، وقد يكون فيهم أصحاب فضل ودرجة، مثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
• لما في التفضيل والمقارنة من استثارة الآخرين، وإثارة عصبيتهم، وفي ذلك ما فيه من إثارة الفتن.
بل نرى الإسلام لا يرتضي لأتباعه أن يتعدّوا بالسب على آلهة المشركين، يقول الله تعالى: " وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ " (سورة الأنعام: 108). فقد نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة المؤمنين عن سب أوثان المشركين؛ لأن ذلك يؤدي إلى استثارة عصبيتهم؛ فيسبوا الله بغير علم، وينفروا من دعاة التوحيد.

ثالثا: الحوار العقلي والعلمي
والمعلم الثالث لمنهج الحوار في الإسلام كما يبينها الدكتور محمد عبد الغفار الشريف هو الحوار العلمي، يقول الله تعالى: " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " ( سورة النحل: 25) .
ولمّا دعا القرآن الكريم الناس إلى التوحيد لجأ في دعوته إلى الحجج العقلية والدلائل العلمية، يقول تعالى: "أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ] ( سورة الأنبياء: 21- 22) .
فالله تعالى جمع في الآية السابقة بين البرهان العقلي المتفق عليه والبرهان العلمي المشاهد، فهو يخاطب المشركين بما يلي:
• هل يستطيع إلهكم إحياء الموتى؟ وهو استفهام إنكاري مبني على معلومات ضرورية.
• انظروا إلى الكون هل ترون فيه اختلافا أو فسادا في نظامه؟ وهو لفت لأنظارهم للتفكر في ملكوت الأرض. ألا يدلكم ذلك على وحدانية الله تعالى؟
ويؤكد الشريف أن القرآن الكريم أكثر من دعوة أتباعه للاستفادة من كتاب الكون المنظور، كما يستفيدون من كتاب الله المسطور، بل دعاهم إلى الاستفادة من الدروس التاريخية للاعتبار بعاقبة الظلمة والمتكبرين، وضرب لهم أمثلة عملية من أصحاب السلطة كفرعون والنمرود وغيرهما، ومن أصحاب المال والجاه كقارون والوليد بن المغيرة وغيرهما؛ حتى تكون هذه الدروس عظة وعبرة لهم على مر الأيام.

رابعا: التعاون في المتفق عليه
ولكون الاختلاف أمرا طبيعيا بل مقصودا يبين الدكتور محمد عبد الغفار الشريف أنه لا بد من التلاقي والتعارف والتعاون يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". ( سورة الحجرات: 13) - ولذلك سعى نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام منذ أن كوّن دولته في المدينة المنورة إلى التعاون مع سكان المدينة من اليهود، وكتب معهم معاهدة نصت على أمور معروفة، أما ما حصل بعد ذلك من إيقاع العقوبة باليهود فإنما جاء جراء ما ارتكبوه من مخالفة للعهد بينهم وبين المسلمين.
وحدد القرآن معيارا للتعاون "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" ( سورة المائدة: 2) فالتعاون يكون في سبيل الخير والرشاد، ولا تكون في العدوان والظلم والمعاصي.

خامسا: التسامح في المختلف فيه
وهو معلم مكمل لسابقه انطلاقا من القاعدة الذهبية التي قررها الإمام محمد رشيد رضا: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".
وإن أكبر دليل على تسامح الإسلام مع أصحاب الديانات الأخرى، قوله تعالى في محكم تنزيله: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" ( سورة البقرة: 256) .
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان مسلما، فقال للنبي (صلى الله عليه وسلم): ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصراينة؟ فأنزل الله الآية.
وفي بعض التفاسير أنه حاول إكراههما فاختصموا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار، وأنا أنظر؟!.
يقول رشيد رضا في المنار: هذا هو حكم الإسلام، واضح جلي في أنه لا يجوز حمل الناس على اعتناق ما لا يؤمنون به، لأن الدين إذعان النفس، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه، وإنما بالبيان والبرهان؛ لذا قل تعالى بعد نفي الإكراه: "قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ".
فالإسلام يحترم الديانات الأخرى، حتى لو كانوا ممن تحت سلطة المسلمين، وعلى هذا الأساس عاملوا الذميين. وأنقل هنا ما كتبه آدم متز المستشرق الألماني في كتابه القيم "الحضارة الإسلامية".

سادسا: نبذ العنف
أما المعلم الأخير الذي يذكره الدكتور محمد عبد الغفار الشريف في منهج الحوار في الإسلام فهو نبذ العنف؛ حيث يقول الله تعالى مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". ( سورة آل عمران: 159) .
وقد قعّد رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم)هذا الأمر بقوله وعمله، فقال: "إن الله رفيق يحب الرفق، يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه". رواه مسلم.
كما تمثل ذلك في سيرته العملية، التي نقلت إلينا بالتواتر، من ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها: "استأذن رهط من اليهود على النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: السام (الموت) عليك فقلت: بل عليكم السام واللعنة. فقال: يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، فقلت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: قلت وعليكم". رواه البخاري.
وعلى هذا فإنه من الظلم الكبير ما ينسب زورا وظلما إلى الإسلام من أنه يدعو أتباعه إلى الإرهاب، والاعتداء على الدماء والأعراض والأموال، بل الإسلام يدعو أهله إلى خلاف ذلك، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". رواه البخاري. بل أكثر من ذلك دعا الإسلام على الإحسان إلى الحيوان الأعجم.
ويؤكد الشريف أن نبذ العنف لا يختص به الإسلام وحده، بل جاءت جميع الرسالات السماوية بالحب والتعاون، والرحمة والصلة، ولكن مما يؤسف له أن نجد الكثير من أتباع الديانات ينحرفون عن تطبيق مبادئ أديانهم السامية لأسباب كثيرة، وهو ما يؤكد أن أكثر التطرف الديني يعود إلى الجهل بمبادئ الدين وأحكامه.


بقلم وصفي عاشور وصفي أبو زيد في 03:56 ص 0 التعليقات





كلمة في جمع الكلمة




سلسلة الأمة الوسط (14)
كلمة في جمع الكلمة


وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@************


"كلمة في جمع الكلمة" لصاحبة الأستاذ الدكتور سلمان بن فهد العودة، العالم السعودي والمفكر المعروف، هو الكتاب الرابع عشر في سلسلة كتاب الأمة الوسط التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بالكويت.
وهو يصدر في وقت تعاني منه الأمة من آلام التفرق والتشرذم، والضعف والهوان والوهن، ففقدت الأمة مقومات ظهورها، وانتفت عنها خصيصة الشهود الحضاري التي هي من أخص خصائصها، فلم تعد مسئولة عن العالم ولا شاهدة عليه بل مشهودا عليها متحكما في شئونها ومقدراتها.

الفرق بين الاختلاف والتفرق
وفي البداية يوضح الدكتور العودة الفرق بين الاختلاف والتفرق، فالله سبحانه وتعالى في تنزيله نهى عن التفرق مطلقاً؛ ولهذا فكل تفرق فهو مذموم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن التفرق بالأجساد.
فالتفرق مذموم في الأحوال، والأقوال، والمذاهب، والمواقف، والأبدان؛ إذا كان تفرقاً مبنياً على غير سبب؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) (آل عمران: من الآية105).
أما الاختلاف فليس مذموماً بالإطلاق، فمنه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى في الآية بعدها: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: من الآية105)، فالاختلاف المذموم هو الاختلاف في الكتاب، والاختلاف على الكتاب واتباع الهوى، وهو أن يختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وإلا فقد يكون اختلافاً محموداً، ومن أمثلة الاختلاف المحمود اختلاف التنوع.
ثم يقرر المفكر الإسلامي أن التنوع سنة ربانية قامت الحياة على أساسها؛ فالله سبحانه وتعالى خلق من كل شيء زوجين، وجعل التنوع في أشكال الناس ومظاهرهم وألوانهم وأصواتهم، وفي مخلوقاته سبحانه وتعالى وفيما يراه الإنسان من حوله، فهذا التنوع جزءٌ من ثراء الحياة الإنسانية، وجزء من التجدد والطرافة فيها.
ومن الأمور الهامة التي تحافظ على الحد الأدنى للوحدة وجمع الكلمة هي الأخوة التي هي شرط الإيمان، وقد ذكرها في القرآن كثيرا، وفصلتها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن تتفاوت هذه الأخوة في درجاتها، فليس حق آحاد الناس أو حق شخص مضيّع أو مفرّط كحق شيخك العالم الجليل صافي المشرب والمذهب، صادق السريرة، صالح القول والعمل المؤثّر عليك.

تقسيم الناس إلى ملتزمين وغير ملتزمين
في معظم أو كل المجتمعات الإسلامية؛ تسمع بهذا التقسيم المشهور، القسم الأول: أناس ملتزمون. القسم الثاني: أناس غير ملتزمين، وهذه القسمة شاعت وذاعت، حتى أصبحنا نجد كثيراً من الشباب قد يتصل بك أو يقابلك فيقول لك: أنا شخص غير ملتزم، ولكني أحب الخير، ومحافظ على الصلوات، فتتعجب لذلك.
وينبغي أن نحدد أولا المعيار للالتزام، هل نقصد بالالتزام: فهل الالتزام أن يكون مظهر الإنسان متفقاً ومنسجماً مع سنة النبي وهديه فقط؟ أو نقصد بالالتزام التمسك بالدين؟
هناك نوعان من الناس:
الأول إنسان مفرط في مظهره وعنده معصية ظاهرة، لكنه قد يكون من جهة أخرى ملتزماً.
والثاني: إنسان عنده التزام في هديه الظاهر وسمته الخارجي؛ في ملابسه في شكله في شعره في هيئته، ولكن هل يمنع هذا أن يكون عنده نقائص داخلية وعيوب خفية.
ومن ناحية أخرى فإن لهذه القسمة إلى ملتزم وغير ملتزم تبعات، فربما تقتضي عندنا نوعاً من الانفصال بين الناس بعضهم البعض وتفريقهم إلى فرق وأحزاب وجماعات؛ فإذا كنت أنا غير ملتزم بهذا الاعتبار الذي ذكرناه قبل قليل فأنا محتاج إلى أولئك الملتزمين؛ لأستفيد منهم، وأنهل من علمهم، وأقتدي بأخلاقهم، وأقتبس من مشكاتهم، والملتزم- أيضاً- محتاج إلى أن يسوِّق بضاعته ودعوته التي يريد بها وجه الله عند من يسميهم بغير الملتزمين، وعلى هذا فهي مجموعات داخل هذا المجتمع يحتاج بعضها إلى بعض.
ويبين العودة أن هناك مؤثرات خارجية -من الخطورة بمكان- على كثير من شبابنا، بل لها تأثير قد يكون أقوى نتيجة وأعمق أثراً من تأثير أب عاجز أو أم فاقدة للسيطرة أو الضبط لأبنائها، فمن هذه المؤثرات الأرصفة، الاستراحات، المنتديات، المدارس، القنوات الفضائية، مواقع الإنترنت، المجلات، السفريات، العلاقات الخاصة والمجموعات، وغير ذلك، ولا يشك عاقل في أن هذه المؤثرات تؤتي ثماراً مرة في غياب وعي المسئولين عن الشباب من والدَيْن ومربين وموجهين، وفي كثير من الأحيان يستطيع الزملاء في المدارس- ومن في نفس سن أبنائنا- أن يؤثروا عليهم تأثيراً بعيداً عميقاً إذا حانت لهم الفرصة في ظل أب عاجز وأمّ خرجت عندها ضوابط التربية عن طوقها.

ألوان التفرق
هناك ألوان ونماذج من تفرق الأمة الإسلامية ماضياً وحاضراً ذكرها الشيخ سلمان، على النحو التالي
أولاً: الانتساب للمذاهب الفقهية حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي وأوزاعي وظاهري إلى غير ذلك، فهذا الانتساب هو نوع من التفرق إذا ترتب عليه تعصب.
ثانياً: الانتساب لجماعة أو مجموعة أو حزب أو حركة من حركات الدعوة في العالم الإسلامي، إننا كثيراً ما نسمع من يقول مثلاً هذا من الإخوان، وهذا من السلفيين، وهذا من التبليغ، وهذا من هذه الفئة، وذاك من تلك، وأحياناً تلاحظ ولعاً وانهماكاً واندماجاً في التصنيف والتعديل والتجريح بشكل عجيب، حتى أصبح هذا فناً يُدرس وعلماً يُلقى.
إن التعاون على البر والتقوى مطلوب ومرغب فيه، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من دين الله عز وجل واجتماع المسلم مع إخوانه، والتّشاور معهم، وتنسيق المواقف، والاستفادة منهم كل ذلك طيب ولا حرج فيه، وكل هذه المعاني تعني مزيداً من الصلة والتلاحم والترابط بين المؤمنين، لكن لا تعني مجافاة من قد يكون له اجتهاد آخر، أو يسكن في بلد معين، أو يكون في واجب، أو فرض كفائي آخر يقوم به، فهذه المعاني التي ذكرتها ينبغي ألا تتحول إلى حواجز بين المؤمنين، وألا نحاكم الناس أو نحاسبهم أو نصنّفهم على أساس القائمة.
ثالثاً: التعصب للقبيلة، وهذا أمر عريق عند العرب، ونجد اليوم التعصب القبلي يضرب بجرانه في كثير من البلاد والمجتمعات الإسلامية، ليس ثمت مشكلة أن يعرّف الإنسان نفسه بأنه من قبيلة كذا وكذا، لكن المشكلة أن يتحول هذا إلى ولاء وبراء، بحيث تجد أن فزعة هذا الإنسان، وقيامه، ومحبته وبغضه وجهده ينصرف إلى من يوافقه في هذا الانتساب.
رابعاً: الانتساب لمنطقة أو إقليم أو شعب من الشعوب أو جنسية من الجنسيات، فهذا نجديّ، وهذا حجازيّ، وهذا غربيّ وهذا شرقيّ، وهذا خليجيّ، وهذا شاميّ، وهذا مصريّ، وهذا عراقيّ، وهذا كذا، وهذا كذا، فهذه الانتسابات إذا كانت مجرد تعريف فلا تضر، وقد كان الصحابة ومَن بعدهم يتعرفون بمثل هذه الأشياء.
وبعد سرد هذه الألوان من التفرق يقول الشيخ: لم يبق أمامنا نحن المسلمين ونحن نعيش في هذا العالم المضطرب، ونواجه هذه التحديات الصعبة التي أصبحت تستهدف ديننا وإيماننا وعقائدنا، ووحدتنا وإخاءنا، وخيراتنا وثرواتنا، وحاضرنا ومستقبلنا، وأجيالنا الحاضرة وأجيالنا القادمة،لم يبق لنا إلا أن نلتزم بضرورة المنهج الشرعي النبوي في التعامل مع الخلاف، الشرع الذي أقر الخلاف، واعترف به كجزء من الطبيعة البشرية، إلا أنه وضع مفردات في منهج التعامل مع هذا الخلاف.

مهمات في منهج التعامل
وبعد هذا التوضيح يضع الدكتور العودة معالم للتعامل مع هذا التنوع ، أهمها ما يلي:
أولاً: المجادلة بين المتخالفين بالتي هي أحسن، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:من الآية125)، (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت: من الآية46)؛ فإذا كان القرآن الكريم يرشدنا إلى مجادلة اليهود والنصارى بالتي هي أحسن، فكيف بمجادلة من يتفقون معك في أصل الدين وأصل الانتماء، ولكن قد يختلفون معك في اجتهاد أو رأي أو موقف أو حتى مصلحة دنيوية، أو موقف دنيوي، وهنا تأتي قضية المجادلة بالتي هي أحسن تبدأ من علاقة الإنسان مع زوجته، مع طفله في المنزل، مع شريكه في العمل، مع رئيسه، مع مرؤوسه، وتنتهي بالحوار العام مع جميع فئات الأمة وطوائفها.
ثانياً: التفريق بين الشأن الشخصي والموضوع العلمي؛ فحينما تبحث مسألة علمية، فقهيةً أو دعويةً أو ما أشبه ذلك عليك ألا تدخل فيها القضية الشخصية مع الشخص الذي تتحدث معه أو تحاوره.
ثالثاً: عدم الدخول في قضية أو مسألة لا يد للإنسان فيها ولا يدرك الإنسان أبعادها، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36).

من آداب المجادلة بالتي هي أحسن
وتحت هذا العنوان يكتب العودة بعض الآداب في الجدال بالتي هي أحسن، ومنها:
أولا: الحرص على التي هي أحسن كما سبق القول.
ثانياً: أن تنصف الآخرين من نفسك، فحينما نحاول أن نزن حسنات الآخرين وسيئاتهم تجدنا في الغالب نضع إصبعنا على طرف الكفة؛ لترجح هنا أو هناك بحسب ميلنا أو هوانا، ومعنى الإنصاف من نفسك: هو الجري على سنن الاعتدال والاستقامة على طريقه الحق وأن تضع نفسك في موضع الطرف الآخر؛ فتعامله كما لو كنت أنت في مكانه، وبالتجربة والمعايشة للناس في هذه القضية، ربما لا تستطيع أن تظفر بإنسان يوصف بأنه منصف من نفسه، لكن بعض الناس مسرف، وبعض الناس متوسط أو معتدل.
ثالثاً: الالتزام بنظام الخُلق الإسلامي من حسن الأدب، وحسن الحديث مع الآخرين، وحسن الاستماع، وحسن الظن بهم، والتماس المعاذير، والرفق، والصبر، والصفح.
وهنا لدينا مستويات:
المستوى الأول: أن لا يبدأ الإنسان أخاه بشيء من الشر؛ فإن البادئ أظلم. فكونك تبدأه بذلك تكون استثرته.
المستوى الثاني: هو أنه إذا بُدئ بشيء من ذلك؛ فعليه ألا يرد، وهذا مستوى راقٍ، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيم) (فصلت:35).

تسعة أسباب لكظم الغيظ
ولما كان كظم الغيظ من صفات المتقين كما ذكر القرآن، وله أثره في جمع الكلمة والتعايش مع الآخرين، كان موضوعا من الأهمية بمكان استحق أن يبين العودة أسبابه، وقد ذكر تسعة أسباب له على النحو التالي:
أولاً: الرحمة بالمخطئ والشفقة عليه، واللين معه والرفق به.
ثانياً: من الأسباب التي تدفع أو تهدئ الغضب سعة الصدر وحسن الثقة؛ مما يحمل الإنسان على العفو.
ثالثاً: شرف النفس وعلو الهمة، بحيث يترفع الإنسان عن السباب، ويسمو بنفسه فوق هذا المقام.
رابعاً: طلب الثواب عند الله.
خامساً: استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة المخطئ.
سادسًا: التدرب على الصبر والسماحة فهي من الإيمان.
سابعاً: قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم، وهذا لا شك أنه من الحزم.
ثامناً: رعاية المصلحة.
تاسعاً: حفظ المعروف السابق والجميل السالف.

اختلاف الاجتهاد بين العلماء والدعاة
ومن الاختلاف المقبول الذي يتطرق إليه هنا الشيخ سلمان هو الاختلاف بين العلماء والدعاة، وعن أسباب هذا الاختلاف يذكر العودة أربعة أسباب هي:
السبب الأول من أسباب الاختلاف هو الاختلاف في التكوين الفطري والنفسي والجبلي في المزاج الذي ركب منه هذا الإنسان.
السبب الثاني هو الاختلاف في التحصيل، أي: قدر ما حصله هذا الإنسان من المعرفة، والعلم، والفهم، والإدراك.
السبب الثالث هو الاختلاف في الظرف الذي يعيشه هذا الإنسان، فقد يعيش شخص ظرفاً معيناً يختلف عن الآخر، بحسب تغير الأحوال، والظروف، والمجتمعات، والسلم والحرب، والقوة والضعف، والصحة والمرض، وغير ذلك.
السبب الرابع الهوى الخفي، وقل من يسلم منه، حتى ذكر الإمام ابن تيمية - رحمه الله- أنه قد وقع فيه كثير من الأكابر من أهل الفضل والعلم، ومن السابقين من الأئمة والعلماء.
ويرى العودة أن هذا الاختلاف أمر طبعي لا حيلة فيه، بل من المصلحة بقاؤه، والله سبحانه وتعالى يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)(التين:4)، فهذا جزء من خلقة الإنسان، فالناس مختلفون في البصمة (عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه)(القيامة:4)، مختلفون في حدقة العين، مختلفون في العقل والنظر في الأمور ومجرياتها وفي التفكير، مختلفون في نبرة الصوت، فكل إنسان له نبرة، وبصمة، وحدقة مختلفة عن غيره، لكن حين نراعي آداب الخلاف وطبيعته، وندرك ما تعانيه أمتنا من تفرق في الكلمة وحاجتها إلى الوحدة والتضام، عندها ستبدأ أمتنا تستعيد قوتها وتسترد عافيتها، وما ذلك على الله بعزيز.


بقلم وصفي عاشور وصفي أبو زيد في 03:54 ص 0 التعليقات





كلمات في الوسطية الإسلامية ومعالمها




كلماتفي الوسطية الإسلامية و معالمها


وصفي عاشور أبو زيد
باحث مصري في العلوم الشرعية



ضمن سلسة "كتاب الأمة الوسط" التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بالكويت صدر كتاب جديد للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي بعنوان: "كلمات في الوسطية الإسلامية و معالمها" .

مفهوم الوسطية والمصدر الحقيقي للتوازن
عرف الشيخ الوسطية بأنها التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين؛ بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه، ومثال الأطراف المتقابلة أو المتضادة: الربانية والإنسانية، الروحية والمادية، الأخروية والدنيوية، الوحي والعقل، الماضوية والمستقبلية، الفردية والجماعية، الواقعية والمثالية، الثبات والتغير، وما شابهها، على أن يكون هناك توازن بينها فيُفسَح لكل طرف منها مجاله، ويُعطَى حقه بالقسط أو بالقسطاس المستقيم، بلا وَكْس ولا شطط، ولا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار، وهذا بالطبع مما يعجز عنه الإنسان بعقله المحدود، وعلمه القاصر، فضلا عن تأثير ميوله، ونزعاته الشخصية، والأُسرية والحزبية، والإقليمية والعنصرية، وغلبتها عليه من حيث يشعر أو لا يشعر، ومن هنا فإن القادر على إعطاء كل شيء في الوجود -ماديا كان أو معنويا- حقه بحساب وميزان هو الله؛ الذي خلق كل شيء فقدَّره تقديرا، وأحاط بكل شيء خبرا، وأحصى كل شيء عددا، ووسع كل شيء رحمة وعلما.

مزايا الوسطية وفوائدها
ويقرر الشيخ القرضاوي أن من مزايا الوسطية وفوائدها أنها أليق بالرسالة الخاتمة والخالدة، فقد يجوز في رسالة مرحلية محدودة الزمان والإطار أن تعالج التطرف في قضية ما بتطرف مضاد، فإذا كان هناك مبالغة في الدعوة إلى الواقعية قوِّمت بمبالغة مقابلة في الدعوة إلى المثالية، وكذلك النظرة بين النزعة المادية في اليهودية، والنزعة الروحية في النصرانية، ومن هنا كان لا بد من العودة إلى الحد الوسط، وإلى الصراط السوي؛ فتعتدل كفتا الميزان. وهذا ما جاءت به رسالة الإسلام بوصفها رسالة عالمية خالدة.
ومن معاني الوسطية وميزاتها بما يميزها عن غيرها من الأمم أنها تعني العدل والاستقامة، وهي دليل الخيرية كما أنها تمثل الأمان، وهي دليل القوة ومركز الوحدة، ويتناول الشيخ هذه المعاني بشكل مبسط يبين فيه وجه الوسطية مع هذه المعاني مما يميز الأمة المسلمة عن غيرها من الأمم.

مظاهر وسطية الإسلام
ويبين الشيخ القرضاوي أن للوسطية في الإسلام مظاهر متعددة في مجالات متنوعة، فالوسطية الإسلامية كامنة في الاعتقاد، والعبادات والشعائر، والأخلاق، والتشريع.
ففي مجال الاعتقاد نجد الإسلام وسطا بين الخرافيين الذين يصدقون بكل شيء، ويؤمنون بغير برهان، وبين الماديين الذين ينكرون كل ما وراء الحس، كما أنه وسط بين الملاحدة الذين لا يؤمنون بإله قط، وبين الذين يعددون الآلهة، حتى عبدوا الأبقار، وألَّهوا الأوثان والأحجار! وهو وسط بين الذين يقدسون الأنبياء حتى رفعوهم إلى مرتبة الألوهية أو البنوة للإله... وبين الذين كذبوهم واتهموهم، وصبوا عليهم كؤوس العذاب، وهو وسط بين الذين يؤلِّهون الإنسان، وبين الذين جعلوه أسير جبرية اقتصادية أو اجتماعية أو دينية.
وفي مجال العبادات والشعائر نجد الإسلام وسطا بين الأديان والنِّحَل التي ألغت الجانب (الرباني) -جانب العبادة والتنسك والتأله- من فلسفتها وواجباتها؛ كالبوذية التي اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي الإنساني وحده.. وبين الأديان والنِّحل التي طلبت من أتباعها التفرغ للعبادة والانقطاع عن الحياة والإنتاج؛ كالرهبانية المسيحية، فالإسلام يطلب من المسلم أداء شعائر محدودة، ثم يطلقه بعد ذلك ساعيا منتجا، يمشي في مناكب الأرض، ويأكل من رزق الله.
وفي مجال الأخلاق نجد الإسلام وسطا بين غلاة المثاليين الذين تخيلوا الإنسان ملاكا أو شبه ملاك، وبين غُلاة الواقعيين الذين حسبوه حيوانا أو كالحيوان، فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق مُركب: فيه العقل، وفيه الشهوة. فيه غريزة الحيوان، وروحانية الملاك، وهو وسط في النظرة إلى الحياة بين الذين أنكروا الآخرة، واعتبروا هذه الحياة الدنيا هي البداية والنهاية وبين الذين رفضوا هذا الحياة، وألغوا اعتبارها من وجودهم، واعتبروها شرا يجب مقاومته، والفرار منه؛ فحرَّموا على أنفسهم طيباتها وزينتها.
وفي مجال التشريع نجد الإسلام وسطا في التحليل والتحريم بين اليهودية التي أسرفت في التحريم، وكثرت فيها المُحرَّمات، مما حرَّمه إسرائيل على نفسه، ومما حرَّمه الله على اليهود، جزاء بغيهم وظلمهم، وبين المسيحية التي أسرفت في الإباحة، حتى أحلت الأشياء المنصوص على تحريمها في التوراة، فالإسلام قد أحلَّ وحرَّم، ولكنه لم يجعل التحليل ولا التحريم من حق بشر؛ بل من حق الله وحده، ولم يُحرم إلا الخبيث الضار، كما لم يُحل إلا الطيب النافع.
ومن المظاهر الفريدة في وسطية الإسلام أنه وازن بين الفردية والجماعية، بعكس التيارات الفلسفية والفكرية التي جاء بعضها ليطلق حرية الإنسان في كل شيء، والمذاهب الأخرى التي جاءت لتجعل خصوصيات الفرد مشاعا للمجتع كله.

صلة الشيخ بالوسطية
وتحت عنوان: "صلتي بالوسطية" يتتبع الشيخ القرضاوي صلته بها منذ قديم مبينا أن الله تعالى أكرمه بتبني هذا التيار الوسطي من قديم، ولم يكن ذلك اعتباطا، ولا تقليدا لأحد، أو اتباعا لهوى، ولكن لما قام عنده من الدلائل الناصعة، والبراهين القاطعة على أن هذا المنهج هو الذي يُعبِّر عن حقيقة الإسلام.. فلا يعني به إسلام بلد من البلدان، ولا فرقة من الفرق، ولا مذهب من المذاهب، ولا جماعة من الجماعات، ولا عصر من العصور، إنما يقصد به الإسلام الأول قبل أن تشوبه الشوائب، وتلحق به الزوائد والمبتدعات، وتُكدِّر صفاءه الخلافات المفرِّقة للأمة، ويصيبه رذاذٌ من نِحل الأمم التي دخلت فيه، وتلتصق به أفكار دخيلة عليه، وثقافات غريبة عنه.
وقد ظهر ذلك عند الشيخ منذ أكثر من خمسين عاما في كتابه: "الحلال والحرام في الإسلام" الذي أورد في مقدمته كلاما طيبا يبين فيه انقسام الناس إلى فريقين: فريق مقلد للغرب حذو القذة بالقذة، يقلده في كل شيء ويأخذ عنه كل شيء، وافق الإسلام أم لم يوافقه، وفريق آخر جمد على آراء معينة في مسائل الحلال والحرام، تبعا لنص أو عبارة في كتاب، وظنَّ ذلك هو الإسلام؛ فلم يتزحزح عن رأيه قيد شعرة، ولم يحاول أن يمتحن أدلة مذهبه أو رأيه، ويزنها بأدلة الآخرين، ويستخلص الحق بعد الموازنة والتمحيص .
وزاد تأكيده لهذا المنهج وتركيزه عليه ما لمسه من الضرورة إليه منذ طلع فجر الصحوة الإسلامية المعاصرة منذ أوائل السبعينات من القرن العشرين؛ أي منذ أكثر من أربعين سنة من الزمان.

الوسطية هي حبل النجاة
وإذا كان الأمر كذلك فإن الوسطية هي حبل النجاة ، وسفينة الإنقاذ اليوم لأمتنا العربية والإسلامية من التيه والضياع -بل الهلاك والدمار- الذي يُهدد حاضرها ومستقبلها؛ ذلك أن معظم قضاياها الفكرية والعملية الكبرى تضيع فيها الحقيقة بين طرفين متباعدين: طرف الغلو أو التطرف أو التشدد أو الإفراط، والطرف الآخر هو طرف التسيب والتفريط والتقصير والإضاعة.
لهذا كان لزاما على ورثة الأنبياء من العلماء -الذين يحملون عِلْم النبوة، وميراث الرسالة، أن ينفوا عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين- أن يتبنوا منهج الوسطية، ويبينوه للناس، ويدافعوا عنه، ويُجَلّوا مزاياه.

معالم الوسطية
وحتى لا يدَّعي هذا المنهج (الوسطية) مَن لا يفقهه ولا يعيه، ولا يخوض أحد بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير كان لزاما على الشيخ أن يضع للقارئ المسلم معالم أو ملامح أو ضوابط؛ تحدد الأصول الفكرية والشرعية لهذا التيار أو هذا المنهج، لتكون منارات تهدي من أراد الاهتداء بهذا المنهج، والسير في ضوئه على نور وبينة، وقد سطر منها ثلاثين معلما، ذكرها بشيء من التفصيل ونحن هنا نذكرها باختصار على النحو التالي:
1- الفهم الشمولي التكاملي للإسلام. 2- الإيمان بمرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، للتشريع والتوجيه. 3- ترسيخ المعاني والقيم الربانية. 4- فهم التكاليف والأعمال فهما متوازنا، يضعها في مراتبها الشرعية، وينزل كل تكليف منزلته. 5- تأكيد الدعوة إلى تجديد (الفقه القرآني والنبوي). 6- التركيز على القيم الأخلاقية التي عنى بها الإسلام. 7- تجديد الدين من داخله، وإحياء مبدأ الاجتهاد. 8- الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر. 9- تبني منهج التيسير والتخفيف في الفقه والفتوى. 10- تطوير مناهج الدعوة إلى الإسلام للمسلمين ولغير المسلمين مع تبني منهج التبشير في الدعوة، ليتكامل مع التيسير في الفتوى. 11- التدرج الحكيم: في الدعوة والتعليم والإفتاء والتغيير. 12- تأكيد الدعوة إلى المزج بين الروحانية والمادية، بين الربانية والإنسانية، بين العقل والوجدان. 13- الدعوة إلى السلام مع كل من بسط يده للسلام، مع التمسك بفرضية الجهاد في سبيل الله للدفاع عن حرمة الدين والمقدسات، وعن المستضعفين في الأرض. 14- توعية الأمة بأن الجهاد مفروض عليها فرض عين لتحرير أرضها من كل سلطان أجنبي. 15- الاعتراف بحقوق الأقليات الدينية ومعاملتهم بما أوجبه لهم الإسلام. 16- احترام العقل والتفكير، والدعوة إلى النظر والتدبر. 17- الدعوة إلى المبادئ والقيم الإنسانية والاجتماعية، مثل: العدل والشورى والحرية والكرامة، وحقوق الإنسان. 18- توكيد ما جاء به الإسلام من إعطاء المرأة حقوقها ومكانتها وكرامتها. 19- العناية بأمر الأسرة، باعتبارها الدعامة الأولى لقيام المجتمع الصالح. 20- احترام حق الشعوب في اختيار حكامها من الأقوياء الأمناء، دون تزييف لإرادتها. 21- تقوية اقتصاد الأمة، والعمل على تكاملها فيما بينها، حتى تكتفي اكتفاء ذاتيا. 22- الإيمان بوجود الأمة الإسلامية وخلودها، والإيمان بفرضية وحدتها، وبالأخوة الدينية بين أبنائها، على اختلاف مدارسها ومذاهبها. 23- تحسين الظن بكل من شهد الشهادتين، وصلى إلى القبلة، ولم يصدر منه ما يخالفها بيقين. 24- العناية بالأقليات الإسلامية في العالم، باعتبارها جزءا من الأمة المسلمة، وعلى الأمة أن تعينهم على أن يعيشوا بإسلامهم في مجتمعاتهم. 25- الإيمان بالتعددية الدينية والعرقية واللغوية والثقافية والسياسية، وضرورة التعايش بين الحضارات، والتلاقح بين الثقافات. 26-العناية بعمارة الأرض، وتحقيق التنمية المتكاملة، مادية وبشرية، ورعاية البيئة بكل مكوناتها. 27- حث دعاة الإصلاح والتغيير على مقاومة التخلف والفساد. 28- العمل على تجميع كل القوى العاملة لنصرة الإسلام في صف واحد، والاختلاف والتعدد بين العاملين لا يضر إذا كان اختلاف تنوع وتخصص لا اختلاف صراع وتناقض. 29- الإشادة بما قدمته أمتنا من منجزات تاريخية بهرت العالم، ومن فتوحات في زمن قياسي، وعدم الاكتفاء بالتغني بأمجاده، بل واجبنا هو استلهام الماضي، والارتقاء بالحاضر واستشراف المستقبل. 30- الانتفاع بأفضل ما في تراثنا الرحب المتنوع: من ضبط الفقهاء، وتأصيل الأصوليين، وحفظ المحدثين، وعقلانية المتكلمين، وروحانية المتصوفين، ورواية المؤرخين، ورقة الأدباء والشعراء، وتأمل الحكماء، وتجارب العلماء، مع العلم بأن هذا التراث كله غير معصوم، فهو قابل للنقد والمراجعة والمناقشة والترجيح أو التضعيف. ولكن الأمة في مجموعها لا تجتمع على ضلالة.


بقلم وصفي عاشور وصفي أبو زيد في 03:53 ص 0 التعليقات





كيف نختلف




سلسلة الأمة الوسط (12)
كيف نختلف؟



وصفي عاشور أبو زيد
Wasfy75@************

"كيف نختلف؟" لصاحبه المفكر الداعية الدكتور سلمان بن فهد العودة، هو الكتاب الثاني عشر من سلسلة الأمة الوسط التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بدولة الكويت متبنيا فيها الرؤية الوسطية في القضايا الفكرية بجوانبها المختلفة.
يفتتح الشيخ سلمان كتابه بأن أمة من الأمم لا تمتلك ما تملكه أمة الإسلام من تراث ضخم، فهي تملك القرآن الكريم أعظم كتاب في تاريخ البشرية، وتمتلك حديث النبي وسنته أفضل الهدي وأكمله، كما أنها صاحبة تاريخ طويل مليء بالعبرة والعظة التي ترشدنا إلى أهمية الاتحاد وجمع الكلمة.

أدب الخلاف بين التنظير والتطبيق
وكثيرا ما نسطر كتبا في أدب الخلاف، ونحسن فيها التنظير، لكن حين ننظر إلى واقعنا وسلوكنا نجدنا بعيدين بعدا كبيرا عن هذا التنظير الأدبي، فنجن بحاجة إلى من يحول هذا التنظير إلى سلوك عملي في تعاملنا وسلوكنا. ومن هنا يؤكد العودة على ضرورة تربية النشء على أدب الخلاف وتقرير مناهج خاصة بهذا الفرع الخلقي في مناهج التدريس في المدارس والجامعات وغيرها.
فالحوار يحتاج إليه الحاكم ليحفظ رعيته، ويحتاج إليه المعلم ليحفظ طلابه، ويحتاج إليه الأب تحببا إلى أولاده، والزوج حرصا على علاقة الزوجية وحفظ الأسرة فليس بالضرورة أن يخرج التلميذ نسخة مكررة من أستاذه، ولا الابن نسخة من أبيه، ولا الزوج يكره زوجته على طباعه أو أخلاقه، فمقاصد الحوار ثمر شخصية مستقلة لها رؤاها وآراؤها واستقلالها عن شخصية الآخر في ضوء مراعاة آداب الخلاف وانتهاج آلياته المثمرة ووسائله الناجحة.

ساحات الحوار
وانطلاقا لطبيعة الخلاف وآداب الحوار يؤكد العودة أن ساحات الحوار أصبحت متعددة ومتنوعة، وأصبح الفضاء المفتوح الذي أثمرته الفضائيات ومواقع الإنترنت وساحات الحوار فيه، والتعليقات غير المتناهية على المقالات والأبحاث مفعما بطرائق الخلاف وتنوع درجات مراعاة الآداب والمنهجية المطلوبة في إجرائه.
وكذلك مجالس الناس أصبحت اليوم عامرة بالمتناقضات، ولم يعد مجديا تسفيه الآخرين مهما تكن ضحالة أفكارهم، بل لابد من الاستماع إليهم، ومنحهم الأهمية ومقارعة الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة.
وفي هذا الجو المفتوح أدركت الحكومات أن أسلوب المنع والحظر لم يعد مجديا، وأن الحل الوحيد هو النزول إلى الميدان، وانتهاج الحوار وسيلة ومقابلة الأفكار منهجا للوصول بالمجتمعات إلى بر الأمان.

سلبيات الحوار الإلكتروني
لكن أصبح هناك تجاهل كبير لدائرة المتفق عليه، وعمل واسع على دائرة المختلف فيه، وترتب على ذلك سلبيات كثيرة في هذا الحوار الإلكتروني، ومن هذه السلبيات:
تغليب جانب العدائية على جانب التلاقي والاتفاق بمجرد أن نختلف في أمر ولو من الأمور الجزئية.
الخلط بين الموضوع والشخص في نقاش قضية من القضايا ، فلا نستطيع مناقشة الفكرة مع الاحتفاظ بالتقدير الكامل لصاحبها مما يحول الساحات إلى محيط للفضائح والتراشق واتهام للنيات.
تدني لغة الحوار، فتجد السب والشتم والتجريح واستخدام بعض الألفاظ النابية بعيدا عن الحجة والبرهان والهدوء والموضوعية.
القعقعة اللفظية، التي يوهم صاحبها بها أنه أتى بما لم يأت به أحد، وأنجز انتصارات عظيمة على غيره، فإذا المقال إطاحة بالآخرين ممن يختلفون معه دون تحقيق علمي أو إحاطة بالموضوع من جميع جوانبه.
الأحادية، وهو سياسة ما أريكم إلا ما أرى، ورأي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب.
التسطيح والتبسيط، بمعنى أن الأشياء العميقة التي يشق علينا فهمها نعدها مخالفة للحق والسنة، بينما الأشياء السطحية نتناطح فيها وتنتفخ فيها أوداجنا بنوع من الصفاقة والإحراج، فنتهم غيرنا باتهامات نكراء عبر أحكام لا تنبغي على الخلق إلا من الله تعالى، والمصيبة الكبيرة أنها قد تكون في حق إمام أو عالم أو داعية، وهذا كله على مرأى من أمتنا، بل على مرأى ومسمع من أعداء أمتنا الذين يتابعون بدقة ما نكتب وما ننطق.

الخلاف ليس شرا
ويؤكد د. العودة أن الخلاف سنة ربانية في الخلق، فقد شاءت إرادة الله أن يختلف الناس في الألوان والأشكال واللغات والطباع والميول والعقول والأفهام، ومن هنا فإن الكون وبقاء الحياة لا يكون بتحقيق رغبة فئة خاصة من الناس على حساب الآخرين، وإلا لكانت كل فئة تريد أن تقضي على أختها، وكل أمة تريد نقيض ما تريده الأمة الأخرى.
لكن الشرع وضع لنا أسسا وآدابا وأخلاقا لاستيعاب هذا التنوع والاختلاف لما فيه صلاح الحياة وعمارة الأرض حتى أمر الإسلام بالإحسان إلى الحيوانات العجماوات، بل الجمادات، فضلا عن شرعه الإحسان في المعاملة بين الزوجين، والإحسان في الدعوة، وتأليف القلوب وتحبيب الخير والإيمان إلى الناس كافة.
فلابد من الاختلاف بين الناس، وقد اختلف أصحاب النبي والتابعون والأئمة والعلماء والدعاة، بل اختلف الأنبياء كما اختلف موسى وهارون، وموسى والخضر، لكن لم يمنعهم جميعا هذا الخلاف من التواصل والتعاون على البر والتقوى؛ فالناس يختلفون لاختلاف عقولهم وأفكارهم، واختلاف طباعهم ونفسياتهم، واختلاف درجة تجردهم وإخلاصهم، واختلاف حجم المعلومات الموجودة عندهم.

أخلاقيات الخلاف
وما دام الخلاف سنة من السنن، ومكرمة من مكارم هذا الدين فلابد له من أخلاقيات تضبط مساره حتى يؤتي ثماره، وقد ذكر الشيخ العودة ثلاثة آداب في بعضها عناصر أخرى وتفصيل حسن:
عدم التثريب بين المختلفين، بمعنى ألا يشعر الإنسان أنه أتقى من الآخر أو أكثر إخلاصا منه، أو أصدق إيمان، أو أوسع علما، فأفهام الرجال تتفاوت، وليست وحيا يتعبد به، كما أن المدارسا لحركية ليست هي الإسلام، وإن كانت ترجع إلى الإسلام وتنطلق منه.
الإنصاف، وهو خلق عزيز يقتضي أن تنزل الآخرين منزلة نفسك في المواقف، وقد ذكر الشيخ الجليل لهذا الخلق قواعد، منها: أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا باليقين، وأن الخطأ في الحكم بالإيمان أهون من الخطأ في الحكم بالكفر، وأنه لا تأثيم ولا هجران في مسائل الاجتهاد، ويجب التحفظ عن تكفير فرد بعينه أو لعنه، والأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر، وتسلط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات.
استعمال الرفق والصبر والمداراة واحتمال الأذى، وعدم الانتقام والتشفي والانتصار للنفس، ومقابلة السيئة بالحسنة، فالكلمة الطيبة والابتسامة الصادقة والإحسان إلى الآخرين بالقول والفعل من أسباب زوال العداوة وتقارب القلوب.
عدم التعصب للمذهب أو للطريقة أو الشيخ أو الجماعة أو الطائفة أو الحزب، وقد يكون التعصب والغلو والمبالغة أحيانا لأقوام هم أشد ما يكونون بعدا وكراهية لهذا الأمر، ولكنهم قد يبتلون بمن يتعصب لهم أو يغلو فيهم.
ومع كل هذه الآداب يذكر مفكرنا الكبير أمثلة من التاريخ والواقع المعاصر تشهد لها وتؤيدها، كما يورد نقولا عن العلماء وتجارب في القديم والحديث تؤصل معنيها وتعمق دلالاتها.

إدارة الخلاف
فإذا كان للخلاف آداب وأخلاق يجب التزامها، فلابد من إدارته عبر ضوابط وقواعد، وهو علم أصبح يدرس اليوم، وتمتلئ رفوف المكتبات بالمطبوع والمترجم والقديم والجديد من مصنفاته، وذكر الشيخ أهم رؤوس هذه الضوابط:
الاعتصام بالكتاب والسنة.
الحوار، ولا يكون إلا بين مختلفين، سواء داخل الدين، أو بين دين وآخر.
الشورى، وهو مما أمر الله به، وترسيخه على كل المستويات: الأسرة، المجتمع، الدولة، ومشاركة الناس في رسم مصيرهم ومستقبلهم هو من الضرورات التي لا مناص منها اليوم.
تفعيل دائرة المتفق عليه، وهي قاعدة المنار الذهبية: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه". ونحن لا نتكلم عن أعدائنا في الأصول بهذه القاعدة لكن نتكلم داخل داخل دائرة أتباع القرآن وأتباع السنة.
تشجيع الاجتهاد وتوفير المناخ الملائم لخصوبة العقول ونموها وإبداعها، فإن جو الحرية الشرعية هو المكان الذي تزدهر فيه الأفكار الصحيحة، أما المصادرة والتضييق فهو الذي يميت الفكر ويقتل الإبداع، وما أبعد الفرق بين الإبداع والابتداع.
تشجيع النقد البناء والمراجعة الهادفة للأوضاع، سواء كانت أوضاعا سياسية تتعلق بالدول، أم أوضاعا اجتماعية تتعلق بالموروثات عند الناس، أم أوضاعا دعوية تتعلق بمقررات الدعاة وأنماط عملهم وأساليبهم، فمراجعة هذه الأساليب والطرائ والأوضاع بهدوء وتجرد وتدرج يأخذ بأيدينا إلى طريق النجاح والفلاح.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من سمات المؤمنين كما جاء في القرآن والسنة، وله ضوابطه المعروفة، منها: لا إنكار في مختلف فيه، ولا ينكر مقلد على مقلد، ومراعاة فقه المصالح والمفاسد ، ومراعاة التدرج في الإنكار وغير ذلك.
الوضوح والمكاشفة وعدم التعتيم أو التقليل من شأن الخلاف، فلابد من الاعتراف بالاختلاف ووجوده حتى يتم ضبطه وتوجيهه وجهته الصحيحة التي نجني من ورائها ثماره المرجوة.
الفهم الصحيح وتجاوز مشكلات الاتصال، فإن كثيرا من الخلافات ربما تكون بسبب إشاعة مغرضة، أو قول لم يثبت منه لصاحبه، أو بسبب انطباع سيئ لم يكن مبنيا على علم صحيح، فما أحوج المختلفين أن يفهم بعضهم بعضا بعيدا عن ردود الأفعال وخرص الظنون.

حديث افتراق الأمة
وينهي الشيخ الدكتور سلمان العودة كتابه بإلقاء الضوء على حديث له أبعاده المهمة في هذه القضية، ولفهمه الفهم السليم ووضعه في إطاره الصحيح أثر كبير في عدم إشاعة الفرقة بين المسلمين، ألا وهو الحديث المشهور عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِى مَا أَتَى عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً لَكَانَ فِى أُمَّتِى مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِى إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِى النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا وَمَنْ هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِى".
وهو حديث لا يكاد يتكلم أحد عن الاختلاف والفرقة إلا ذكره، وقد ضعفه بعضهم وقواه آخرون لكن أدلة المصححين له أقوى، لكن ينبغي أن نذكر بأشياء:
أن النبي عليه السلام نفسه قرر أن هذه الأمة أمة مرحومة.
أن هذه الأمة هي أفضل الأمم عند الله تعالى.
أن النبي حكم لهذه الأمة أن نصف من يدخلون الجنة من أتباعه عليه السلام.
أن الله تعالى عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهت عليه.
أن الله تعالى رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت على أمم قبلها.
واستشكال جمع من أهل العلم كثرة الفر في هذه الأمة يرد عليه بطول عمر الأمة، وأن تفرقها أهون شرا من تفرق غيرها.
وليس معنى افتراق الأمة إلى هذه الفرق أن كلها كفار أو مشركون، ولكنهم مسلمون مؤمنون، وقد يكون فيهم المنافق والكافر، لكن فيهم الكثير من أهل الإيمان والإسلام، وإن كان عندهم نوع من الاختلاف ونوع من التقصير، وهذا ما رجحه ابن تيمية والشاطبي، وغيرهم.















رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
دور الإعلام في إبراز رحمة الإسلام للباحث محمد عباس محمد عرابي محمس عربي بحوث علمية 2 April 7, 2010 09:21 PM
دور الجمعيلت الإسلامية في إبراز رحمة الإسلام للباحث محمد عباس محمد عرابي محمس عربي بحوث علمية 0 February 10, 2010 07:52 AM
هنا نزفي sukaina شعر و نثر 1 December 11, 2007 11:28 PM


الساعة الآن 09:36 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر