فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الموسوعة العلمية > بحوث علمية

بحوث علمية بحوث علمية , مدرسية , مقالات عروض بوربوينت , تحضير ,دروس و ملخصات



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم February 10, 2010, 08:04 AM
 
التطبيقات التربويم للمعرفة إختيار الباحث محمدعباس محمد عرابي

تطبيقاتها في التربية الإسلامية: المعرفة اليقينية بين الحس والعقل
بقلم : د . أحمد محمد الدغشي
إذا كان الحس مصدرًا من مصادر المعرفة وطريقة من طرائقها فإن أصحاب المذهب العقلي لا يوافقون على ذلك، بل يعدّون الحواس خدَّاعة كذَّابة مخطئة. إذ لو كانت معارفنا قائمة بالفعل على الحسّ لكانت المعرفة مستحيلة، ذلك أن الإدراك والتجربة يخبراننا عن التعلق بحال واحدة من أحوال الشيء، دون تناول جميع أحواله، وأن الحواس أقرب إلى عدو المعرفة منها إلى خادمها. بل لقد غلا بعضهم في معارضة الحسيين إلى الحدّ الذي ادعى فيه أنه لا يصل شيء إلى النفس من الخارج، كما لا يمكن للنفس أن تبتكر شيئًا إذا لم يكن الأصل فيها العقل (1).
ولتحرير النزاع حول هذا الأمر يحسن بنا أن نتناوله ابتداء من التعريف.
تعريف العقل
العقل لغة: الحِجْر والنّهي، ضد الحُمق، والجمع عقول. وهو مصدر، وإن كان سيبويه يعتبره صفةً، لأن المصدر لا يأتي على وزن مفعول ألبتة. وسميّ العقل عقلًا لأنه يعقل صاحبه عن التورّط في المهالك، أي يحبسهُ (2). أو لأنه يعقل به حقائق الأشياء (3).
والعقل هو القوة المتهيئة لقبول العلم، ويطلق على العلم الذي يستفيده الإنسان عن طريق العقل(4).
وفي الاصطلاح الفلسفي: ورد تعريف العقل لدى الفلاسفة بمعنى من المعاني التالية:
- أداة التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ.
- أسمى صور العمليات الذهنية بعامة، والبرهنة والاستدلال بوجه خاص.
- المبادئ اليقينية التي يلتقي عندها العقلاء جميعًا (5).
وجمهور الفلاسفة يطلق العقل على ثلاثة أوجه هي:
- هيئة محمودة للإنسان في كلامه واختياره، وحركاته وسكناته.
- معان مجتمعة في الذهن تكون مقدمات فتستنبط بها الأغراض والمصالح.
- قوة تدرك صفات الأشياء من حسنها وقبحها، أو كمالها ونقصانها (6).
إن هذه المعاني هي التي أفرزت ما عُرف لدى الغرب بالمذهب العقلي(Intellectualisme) أو العقليين (Rationalists)، وهو عبارة عن القول «بأن كل ما هو موجود فهو مردود إلى مبادئ عقلية. وهو مذهب ديكارت، واسبينوزا، وليبنز، وفولف وهيجل... » (7).
ويقوم هذا الاتجاه على الاعتقاد بأن قوة الفطرة هي الأصل الذي يصدر عنه كل علم حقيقي، بوصفها القوة العاقلة في الإنسان. أو أنها على الأخص مصدر أهم صفتين للعلم الحقيقي وهما: صفة الضرورة، والصدق المطلق(8).
وفي القرآن: يتميز التعبير عن العقل بمفردات متنوعة، فقد عبّر عنه بالنُّهى، وبالحجر، وباللب، والبصيرة إلى غير ذلك من الصيغ، ولكن استخدامه للفظي القلب والفؤاد أكثر ما يلفت النظر. ومع أن اللغويين يعدّون القلب هو العقل والعقل هو القلب، وأن المعقول ما تعقله بقلبك(9)؛ فإن ثمة نزاعًا حول معنى الفؤاد من حيث الخصوصية هل هي له أم للقلب؟ (10).
ويرد القلب في القرآن بمعنى من المعاني الثلاثة التالية:
أولها: العقل وذلك في مثل قوله تعالى: }إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب{ (ق: 37 ).
الثاني: بمعنى الرأي والتدبير، وذلك في مثل قوله تعالى: }تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى{ (الحشر: 14).
الثالث: بمعنى حقيقة القلب الذي في الصدر، وذلك في مثل قوله تعالى: }... ولكن تعمى القلوب التي في الصدور{ (الحج: 46 )(11).
وهذا المعنى الثالث إنما يشير إلى الجانب الوظيفي للعقل.فكما «أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين التي في الرأس، فالبصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب. قال تعالى: }بل الإنسان على نفسه بصيرة{ (القيامة: 14)، أي له بنفسه معرفة تامة»(12). أي أن العقل يستخدم في القرآن باعتباره موضعًا للعلم والمعرفة }وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا، وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده، ولوا على أدبارهم نفورًا{ (الإسراء: 46).
}أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها{ (محمد: 24)(13). ووفق هذا المعنى فإن القلب في نظر القرآن أداة من أدوات المعرفة، حيث يعتمد القرآن على مخاطبة القلب في معظم رسالته (14).
ومثل هذا الاستنتاج مما قد يُشْكِل استيعابه بالنظر إلى الشائع من كون العقل وظيفته الإرادة، في حين أن القلب وظيفته العاطفة. ولكن اهتمام القرآن الواضح بالقلب إلى حد احتوائه (122)آيةً تتحدث عنه بجوانبه المختلفة، بحيث تتعدد صوره، فتارة نشعر أننا أمام صورة العقل ذاته، وتارة نشعر أننا أمام العاطفة والمشاعر الوجدانية، وثالثة نشعر أننا أمام الجانبين معًا: جانب العقل وجانب العاطفة وهكذا(15). ذلك كله مما يساعد على إزالة ذلك الإشكال المفترض.
ونتيجة لذكر القلب في القرآن بوصفه اسم جنس مفردًا ومجموعًا،بخلاف العقل الذي ورد مفردًا مشتقًا من اسم جنسه، فإن ذلك دفع ببعض الباحثين لاستخلاص أن ليس هناك شيء مجسّم في جسم الإنسان، لذاتٍ اسمه العقل. أما القلب فإن هناك شيئًا لذاتٍ اسمه القلب وهو تلك المضغة القائمة في الصدر. الأمر الذي يدعونا للفصل التام بين كل من العقل والقلب، لنصل إلى أن القلب من الألفاظ المشتركة في معانيها، وإن من جملة تلك المعاني (العقل). أما القلب (المضغة) ذو الذات المحسوسة فشيء آخر(16).
ولكن الإمام الغزالي مع تمييزه بين القلب العضوي والقلب الرحماني لا يجزم بانفصال هذا الأخير تمامًا عن الأول فقال «....لفظ القلب وهو يطلق لمعنيين: أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص، وفي باطنه تجويف .... والمعنى الثاني: هو لطيفة ربانية روحية لها بالقلب الجسماني تعلّق. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان. وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاتب والمطالب، ولها علاقة مع القلب الجسماني.....»(17).
وعنده - أي الغزالي - أن العقل اسم يطلق بالاشتراك لمعانٍ أربعة مختلفة هي:
المعنى الأول: قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله (القلب الجسماني).
المعنى الثاني: قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم، فيكون هو لطيفة القلب (الروح الجسماني).
المعنى الثالث: قد يطلق ويراد به صفة العالم (النفس الشهوانية).
المعنى الرابع: قد يطلق ويراد به محل الإدراك أي المدرَك (العلوم).
وقد يضاف معنى خامس وهو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان، والألفاظ الأربعة بجملتها تتوارد عليها (18).
وبالنسبة للأفئدة فإنها جمع فؤاد، وأصله في القلب. ويطلق كثيرًا على العقل، وهو المراد في قوله تعالى: }والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون{ (النحل: 78)(19) وهذا المعنى جارٍ مجرى الاستخدام المعنوي للقلب، حينما يكون أداةً لفقه حقائق الأمور، والتوصُّل عن طريقه إلى أصدق المعارف.ولذلك فإن الكافرين حرموا من هذه الوظيفة: }لهم قلوب لا يفقهون بها{ (الأعراف: 179)(20).
وجماع القول -في نهاية الحديث عن تعريف العقل -أن العقل في اللغة وفي القرآن الكريم قوة مدركة في الإنسان، تميزه عن سواه من الكائنات، وتجعل منه مخلوقًا مسؤولًا عن أعماله، على أساس قدرته على الإدراك والتمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والحسن والقبيح. وأن القرآن يطلق ألفاظ القلب أو الفؤاد أو اللب أو النُّهى على الأداة أو الآلة التي تقوم بوظيفة العقل، أو الربط وإيجاد العلاقة بين الأسباب والنتائج (21).
وهذا ما ينعكس على التربية الإسلامية في نظرتها إلى الإنسان من حيث كونه متلقي المعرفة والطرف الأول فيها، والمعْنِي بها دون سواه نظرًا إلى تلك الميزات فيه، وأهمها العقل: مناط تكليفه، ومحور حركاته المسؤولة، وفيصل التفرقة بينه وبين غيره من الكائنات.
أقسام العقل
يرى بعض العلماء أن العقل قسمان:
الأول غريزي: وهو قوة متهيئة لقبول العلوم، ووجوده في الطفل كوجود النخلة في النواة، والسنبلة في الحبة.
الثاني مستفاد: وهو الذي تتقوى به تلك القوة الغريزية في القسم الأول(22).
ونسب إلى علي - رضي الله عنه - قوله:
العقل عقلان
مطبوع ومسموع
كما لا ينفع ضوء الشمس
وضوء العين ممنوع(23)
والعقل المسموع هو المكتسِب للمعرفة، وهو المشار إليه في قوله تعالى: }وما يعقلها إلا العالمون{ (العنكبوت: 43).
وكل موضع ذم الله فيه الكفار بعدم العقل فإشارة إلى العقل المسموع، وكل موضع رفع فيه التكليف عن العبد فإشارة إلى المطبوع، كقوله تعالى: }مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون{ (البقرة:171)(24).
وإلى هذا المعنى يشير ابن تيمية (ت: 722ه) حين فصل في العقل فاعتبر العقل الغريزي بمعنى العلم الحاصل بالغريزة، والعقل المستفاد بمعنى المكتسب للعلم فيسارع إلى العمل بما علم(25).
وشرح الحارث المحاسبي معنى الغريزة هنا فقال: «وضعها الله سبحانه في أكثر خلقه، لم يطلع عليها العباد، بعضهم من بعض، ولا أطلعوا عليها من أنفسهم برؤية ولا ذوق، ولا طعم، وإنما عرفهم الله سبحانه وتعالى إياه بالعقل منهم، فبذلك العقل عرفوه، وشهدوا عليه بالعقل الذي عرفوه به من أنفسهم بمعرفة ما ينفعهم، ومعرفة ما يضرهم»(26).
وفي موضع لاحق جمع بين العقلين الغريزي المطبوع، والمستفاد المسموع بقوله: «أو لم تسمع إلى ما وصف الله تعالى به ملائكته، إذ سألهم أن يخبروا بأسماء الأشياء فقالوا: }لا علم لنا{ (البقرة: 32)، فأمر آدم عليه السلام فأخبرهم بها، لأنه علّمه الأسماء، فلم يعرف عاقل أسماء الأشياء إلا بالتعليم منه، وهو طفل بما يسمع ويرى، فعرف بعقله الأشياء، وفصَّل بين معانيه» (27).
والعقل الغريزي أو المطبوع يتضمن تعلمًا ذاتيًا يحصل عليه المتعلم بذاته، أي من غير موجِّهات خارجية في مراحل التعلم قبل الأساسية - على وجه الخصوص، في حين يتضمن العقل المسموع جوانب الكسب والتفاعل بعد سن المراهقة وهي مرحلة المسؤولية والجزاء والحساب عن أي فكر أو سلوك يتقلّده الفرد.
فلسفة العقل في القرآن
لعل أولى الملاحظ المهمة لفلسفة العقل في القرآن تلك الأهمية التي يوليها القرآن للعقل، ثم توضيح طبيعة عمله ثم الإشارة إلى أبرز خصائصه ولنبدأ ذلك بالأهمية التي هي الأبرز والأوسع في القرآن الكريم، كما هي في هذه الدراسة تبعًا لذلك:
أهمية العقل
يحظى العقل باهتمام بالغ في القرآن الكريم، فهو وإن لم يأت بذكر اسمه أو مصدره لكن عملياته العليا محط اهتمام لا يخفى على دارسٍ لآياته. وتتجلى مظاهر تلك الأهمية من خلال تلك النصوص البيِّنة وهذه النصوص تختلف صيغها -كما سنرى - إلا أن ما يستحق التوقف هنا ما أشار إليه أحد الباحثين في تتبعه لآيات العقل،إذ توصّل إلى أن مادة (عقل) وتصاريفها وردت في(49)آيةً، ومادة (اللب)وردت في (16) آية، وكذلك جاءت مادة (الفؤاد) في (16) آية،في حين تكررت مادة (الفكر) في (18)آية (28).
وإذا أدركنا ذلك فلا غرابة أن يعتبر القرآن العقل مناط استخلاف الله الإنسان في الأرض، وسرّ تكريمه على سائر المخلوقات. ومن هذا المنطلق جاءت دعوة القرآن الإنسان لارتياد عالم الآفاق واكتشاف نواميسه، كي تتواءم حياة الإنسان مع مسيرة الكون(29).
وفي هذا يرى الحارث المحاسبي أن من أكبر نعم الله على الإنسان «العقل» ومعرفة البيان، إذ هو حجّة لازمة له }ويحيَى من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينّة{ (الأنفال: 42).
وقوله }وأما ثمود فهديناهم{ (فصلت: 17). يعني بيّنا لهم ما يعقلونه بعقولهم، إن تدبروا ذلك(30). وعلى هذا حقّ لنا أن نصف الإنسان بالكائن المتعلّم.
ويظهر أن هذا الاهتمام بالعقل في القرآن من وراء اهتمام علماء الكلام بالعقل إلى الدرجة التي حدّدوا فيها طريقة العقل كأداة مخصِصة للعلم بمعناه الاصطلاحي وهو المطابقة للواقع، أي المفيد لليقين، وغير المحتمل للنقيض، لكونه يستند إلى العلوم الضرورية المفيدة لليقين(31). كما عدوّا النظر العقلي طريق معرفة الله تعالى، مستندين في ذلك إلى جملة من النصوص القرآنية(32).
وإن شئنا التفصيل في الحديث عن أهمية العقل في القرآن فإن بوسعنا بلورة ذلك في مظهرين رئيسين هما:
المظهر الأول: الأساليب العقلية المستخدمة في القرآن.
المظهر الثاني: الحث المتنوع على إعمال العقل في مواقف وقضايا كثيرة أشار إليها القرآن.
ولنبدأ أولًا ب:
أولاً: مظهرالأساليب العقلية
هناك نماذج عدّة للأساليب العقلية التي يستخدمها القرآن الكريم للوصول إلى إبلاغ المدعو، والعمل على إقناعه بالفكرة المراد الوصول إليها.
ولكون هذه الدراسة غير معنيّة باستقصاء جميع تلك الأساليب، وإنما الاقتصار منها على ما يحقق الغرض التربوي المتصل بنظرية المعرفة في القرآن، فإن جملة من الأساليب ذات العلاقة بالنظرية يمكن إيرادها فيما يلي على النحو التالي:
- المحاكمة العقلية:
وفيها يعمد القرآن إلى عرض كلام الخصم، ثم يكرّ عليه بالردّ المفحم البليغ، ثم ينتقل إلى شبهة أخرى ليقدّمها على لسان الخصم أيضًا، لكنه ما يلبث أن يعود عليها بالنقض، وهكذا فلا مناص من أن يجد الخصم نفسه محاصرًا من كل اتجاه، عاجزًا عن الدفاع، حيث وقع في أسر البيان القرآني. ذلك كله من غير شعور منه بمصادرة حجّته. ويظهر أنّ من أبرز نماذج هذا الأسلوب قوله تعالى:
}وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا{ (الإسراء: 49 - 51 ).
}أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللّه وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ{(33) (الصافات: 151 - 157).
والمتضمن التربوي هنا موجَّه نحو مصممي المناهج ليضمِّنوا حجج الآخر واعتراضاته عنصر المحتوى، ويتولى عنصر الطرائق تفنيدها والردّ عليها بعد ذلك، مسترشدًا بأسلوب المحاكمة العقلية هذا. وبصورة أكثر دقة ينبغي أن تعاد صياغة الكتب الدراسية بحيث لا تقترح المعلومات والحقائق والنظريات في صورة تقريرية وإنما في صيغة مناقشة ونقد ومعرفة (ما وراء) ما يقدّمه المحتوى للمتعلمين.
- الاستدلال بطريق الأولى:
وهنا يقدّم القرآن نماذج من المخلوقات العظيمة البديعة، وفيها من مظاهر القدرة والإبداع ما هو أشد لفتًا للانتباه والإعجاب من خلق الإنسان، ثم يطرح سؤالًا مقارنًا بينه وبين خلق الإنسان فكأن الجواب يرد تلقائيًا ليقرر أن خلق السماوات والأرض - مثلًا - أكبر من خلق الإنسان وأعظم. وبناء على ذلك تتقرر حقيقة أن الذي خلق السماوات لن يعجزه خلق الإنسان بعد فنائه، بل ذلك أقرب إلى تصديق العقل، وأهون عنده -من الخلق في المرة الأولى -ولله المثل الأعلى - ويظهر أن أبرز نماذج هذا الأسلوب:
}أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا{ (الإسراء 99).
}لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{ (غافر:57).
}وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ (الروم: 27).
وهذا يشمل أساليب القياس العقلي للظاهرة المراد دراستها وفق المنهج المقارن، فتقدم الظاهرتين مدروستين من شتى جوانبهما، ليتبين الفرق بينهما عن طريق مقارنة أو قياس الثانية المتنازع حولها على الأولى المتفق عليها، فتنتج أمامنا جوانب العظمة والإبداع في الثانية بما يفوق الأولى، فنصل إلى النتيجة العقلية بطريق الأولى. ومعلوم عند التربويين أن أزمة التربية العقلية المعروفة في بلادنا العربية والإسلامية تتمثل في تعطيل عقل المتعلم بسبب إقصاء المهارات العقلية المتقدمة عن حياته التعليمية، والاكتفاء بالمهارات الدنيا:الحفظ والتذكر.
- الاستدلال بآيات الآفاق:
ويلاحظ ذلك في كثير من مظاهر الكون الطبيعي، والهدف منه استنفار قوى العقل وعملياته العليا، كي تصل إلى حقيقة خالق الوجود، فيسارع الإنسان إلى القيام بدوره في الاستخلاف في ضوء هداية الخالق وتوجيهاته بما يحقق الفلسفة التربوية المؤمنة، ومن ذلك }أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ{ (الأنبياء: 30).
}وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ{ (العنكبوت:61 - 63).
}وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ (فصلت: 39).
إن ذاك يجعل من ميدان الآفاق مختبرًا ضخمًا لتطبيق الأهداف التعليمية المتنوعة:المعرفية والوجدانية والمهارية في إطار الفلسفة التربوية المؤمنة، وتقويم مدى تحققها من خلاله، فيما يتصل بالدراسات الطبيعية والكونية.
- الاستدلال بآيات الأنفس:
ويهدف القرآن من وراء ذلك إلى استنفار العقل وعملياته العليا لمعرفة حقيقة الإنسان ومصيره في ضوء إرشادات الخلق وهدايته سبحانه، ومن هذه الآيات:
}وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ{ (يس:68).
}أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدُىً
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى{ (القيامة: 36-40).
وعلاوة على الفلسفة المؤمنة التي تنضح بها هذه الآيات فإن الاستدلال بآيات الأنفس كالاستدلال بآيات الآفاق، من حيث إن النفس الإنسانية أشبه بمختبر هائل لتطبيق الأهداف التعليمية المختلفة، وتقويم تحققها من خلالها، ولكن فيما يتصل بالدراسات الإنسانية والاجتماعية ومنها التربوية.
- الاستدلال بالأنفس والآفاق معًا:
ويهدف القرآن من وراء ذلك إلى استنفار قوى العقل وعملياته العليا للبحث في ميداني الآفاق والأنفس معًا، وفي هذا جاء قوله تعالى:
}إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ الله مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ{ (الجاثية:3-6).
}أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ{ (الأعراف:185).
- الاستجواب العقلي:
وفي هذا الأسلوب يعمد القرآن إلى طرح السؤال والمسارعة إلى تقديم الجواب على لسان الخصم، ثم يعقب ذلك استثارة القوى العقلية، بأساليب متنوعة تتناسب ومستويات العقل الإنساني جميعها، وفي ضوء ذلك يتم تقرير الحقيقة الإلهية، ومن ذلك:
}وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ{ (الزخرف: 9 - 11).
}قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ{ (المؤمنون:84-89).
وهذا ينمّي في المتعلم اتجاه التربية على التساؤل الهادف إلى استثارة القوى العقلية أو مهارات التعلم لدى كل من المعلّم والمتعلّم، كي يحدث التفاعل الإيجابي إزاء النظام التعليمي برُمته من قبل المعلّم، وإزاء عناصر الموقف التعليمي لدى المتعلّم.
- اختبار الفرضيات العقلية:
ويعني أن القرآن إذ يقدّم حقائق الوحي، فإنه يتيح للعقل الإنساني اختبارها، كما لو كانت فرضيات قابلة للاختبار العقلي. وهنا يوصي القرآن العقل بالقيام لطلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا، لأن الاجتماع عادة ما يشوش الفكر(34):
}قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ{ (سبأ: 46).
وفي هذا معالجة نفسية لآفة الاغترار الذاتي، أو الاقتصار على جملة معارف الآباء، فإن الذين وصموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون ما قالوا ذلك إلا بتأثير العزة بالإثم، ولكن هذا الإرشاد لأن يخلو كل منهم بنفسه، أو بقرين له لا يُخفي عليه سرًّا يجعل من عملية التفكير على هذا النحو إزالة للغشاوة التي حجبت عينيه عن الرؤية، وساعتها سيدرك الحق ويقرِّبه، ويتم تلاشي ذلك الاغترار والاعتزاز بالإثم (35).
- ضرب الأمثلة:
ويضرب القرآن الكريم الأمثلة العقلية، وذلك للمقارنة بين الأضداد (التوحيد والشرك - الهداية والضلال - الحق والباطل) بهدف إعمال العقل للوصول إلى الحقيقة التي يقتضيها سياق الآيات:
}وما يستوي الأعمى والبصير، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا المسيء، قليلًا ما تتذكرون{ (غافر: 58).
}مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء، وهو العزيز الحكيم. وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون{ (العنكبوت: 41 - 43).
ولخص القرآن أسلوبه في ضرب الأمثلة، والهدف العقلي من وراء ذلك فقال: }ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون{ (الزمر: 27).
ويتضمن هذا الإفادة من أسلوب ضرب الأمثلة باعتبارها من الأساليب المعتمدة في منهج التربية الإسلامية، وطرائق تدريسها.
- التمانع العقلي:
والمقصود بهذا الأسلوب امتناع تصديق العقل بقبول المتناقضين لامتناع ذلك بالاستبعاد العقلي. ومن ذلك استحالة أن يقبل العقل بوجود إلهين لاستحالة استقامة الكون، بوصفهما ندّين متنازعين في إرادتيهما والتوجيهات الصادرة عن كل واحد منهما في تسيير شؤون الكون والإنسان. وإلى هذا المعنى تشير الآيتان التاليتان:
}ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، إذًا لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض{ (المؤمنون: 91).
}أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا{ (الأنبياء:21-22).
وأسلوب التمانع العقلي معتبر في تدريس العقيدة على وجه الخصوص.
ثانيًا: مظهر الحث المتنوع لإعمال العقل:
وهنا تتجلى أهمية العقل في القرآن من زاوية أخرى فيها قدر من الاتصال مع المظهر السابق مظهر الأساليب العقلية من حيث إن هذا المظهر لا يخرج في أساسه عن جملة الأساليب العقلية، بيد أن فيه قدرًا من الانفصال عنها، من حيث طالع الحث والحض بمختلف الصيغ، وذلك ما يميزه بوضوح، من بين هذه الصيغ:
- استنفار العقل البرهاني:وذلك للبحث عن حجّته من غير التفات إلى الأماني والظنون المرجوحة مما يؤكد اهتمام القرآن بتكوين العقلية العلمية، إذ إن البرهان إحدى النتائج المباشرة لعملياته العقلية العليا. وهذ ما يبرز في مخاطبته أهل الكتاب حين تحكَّم بعضهم: }وقالوا لن يدخل الجنة إلاّ من كان هودًا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتو برهانكم إن كنتم صادقين{ (البقرة: 111).
ولا اعتبار للمحاججة من غير برهان مبنى على علم يسوِّغه العقل: }يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون{ (آل عمران: 65-66).
ولا يقبل القرآن المناقشة في أي مسألة للعقل فيها مجال - بما في ذلك قضية الوحدانية - ما دام سلطان البرهان غائبًا عنها، أو أن ثمة إعراضًا عنه: }أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون{ (الأنبياء: 24).
ولا حجة عقلية ألبتة لدى المشركين: }قالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون{ (يونس: 68).
ذلك كله يعني أن المخاطبة بإظهار الحجة أوالبرهان إشارة إلى أن العقل حجة وسند وذلك بدلالة الالتزام(36).
والمدلول التربوي لهذا المظهر يتمثل في أن التربية الإسلامية تقوم على البرهان والحجة لا التقليد ومجرد الظن.
- الحث على النظر العقلي: وذلك من أجلى مظاهر اهتمام القرآن بالعقل. فإن نسقًا متضافرًا من الآيات يدعو إلى السير في الأرض، مع استصحاب حال الأمم الغابرة للنظر في سِيَرِها، وكيف تعاملت مع دعوات السماء؟ ثم ماذا آل إليه مصيرها. والهدف من ذلك استلهام أحداث التاريخ، لتغدوا محطات مضيئة للواقع، ومعْبَرًا متينًا للمستقبل. كما أننا سنلاحظ أن هذه الدعوة من القرآن للعقل قائمة على النظر في آيات الآفاق والأنفس، وما يستتبع ذلك من النظر العلمي، والدعوة إلى تفسير التاريخ، بهدف تجسيد معاني استخلاف الإنسان على الأرض، ونقتصر من تلك الآيات على قولة تعالى: }قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين{. (آل عمران: 137).
وقوله: }أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون{ (الروم: 9).
وقوله: }قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قومٍ لا يؤمنون{ (يونس:101).
إن هذه الآيات وأضرابها تحمل حثًّا على النظر العقلي، وليس من المنطقي أن يكون النظر فيها لا يعدو الحضّ على النظر المجرّد، إذ إن مجرّد النظر لا يطول حقائق الأشياء، مما يتطلب الاستعانة بأجهزة وأدوات تحقق معنى النظر الحقيقي كالمكبرات المجهرية، والمراصد، والتحليل المخبري، والبحث التاريخي والتنقيب الأثري، ودراسة تطور الأحياء... إلخ (37).
ومن جهة أخرى فإن النظر المراد في هذه الآيات يتناول النظر الحسّي بطريق الأولى، ولكن الوقوف عنده وحده لا يفي بالغرض، ودلالته هنا أقرب إلى العقلي(38)، وإن كان بعض المفسِّرين المحدَثين سعى لوضع ضابط اجتهادي للحال التي يكون المقصود بالنظر فيها مجرّد الرؤية البصرية، والحالة التي تشمل النظر العقلي إلى جانبها، كابن عاشور الذي يرى أن كل ما «له حال فهو المراد بالنظر العقلي، بتركيبه في صورة مفعولين، نحو انظروا الشمس طالعة، وانظروا السحاب ممطرًا، وهكذا. كل شيء هو في ذاته آية فهو مراد بالنظر البصري، نحو انظروا الأرض بعد جدبها، فهو آية على وقوع البعث»(39). هذا رغم أن بعض العلماء القدامى جعلوا مطلق «النظر» شاملًا للمعنيين كليهما أي للبصر والبصيرة(40)، أو أنه جنس تحته حق وباطل(41)، وكأنهم حكَّموا السياق للدلالة على أيّ منهما.
وذلك كلّه يتضمن دعوة عقلية لتفسير التاريخ وفلسفة أحداثه في ضوء قانون السير والنظر الذي حث عليه ودعا إلى استلهام دروسه القرآن الكريم.
- التحذير من تعطيل العقل:
ومن مظاهر اهتمام القرآن بالعقل تحذيره من تعطيل عمليات العقل العليا، ساعة يغشى المرء الانحراف تصورًا وتصديقًا، حتى ليبدو العقل وكأنه مطبوع على الانحراف والتعطيل جِبِلّة، وما ذاك إلاّ نتيجة الإغراق في درك المعاصي والآثام، مما يدفع لانغلاق قواه ومهاراته وشلّ فاعليته الإيجابية. وهذا ما تطرق إليه القرآن في مثل هذه الطائفة من النصوص(42): }فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حقٍّ وقولهم قلوبنا غلفٌ بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلاّ قليلًا{ (النساء: 155).
}رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون{ (التوبة: 87).
}ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطُبِع على قلوبهم فهم لا يفقهون{ (المنافقون: 3).
وتربويًا فإن ذلك يؤكد أن ثمة علاقة عضوية بين العقل والسلوك فيتأثر كل واحد منهما بالآخر، على نحو تبادلي.
- تحرير العقل من تفكير السلطات:
ويسعى القرآن لتحرير العقل من الموروثات السيئة التي يتلقفها الناس بدافع التقليد الأعمى لمسلك الآباء - مثلًا - فإذا بهم يُصدِرون أحكام الحلّ والحرمة، لمجرّد أنهم ألفوا آباءهم كذلك. ومن تلك المعتقدات التي اشتهرت عند أهل الجاهلية أنهم كانوا يبحرون (أي يشقّون أذن الناقة) إذا أنتجت خمسة أبطن آخرها ذكر، فيحرِّموا ركوبها وهي البحيرة. ويسيّبون الناقة أو البعير نذرًا على الرجل إن سلّمه الله من مرض أو بلّغه منزلة. ويجعلون الناقة لأنفسهم إذا ولدت أنثى بعد أنثى، أو الشاة إذا ولدت ذكرًا فهي لآلهتهم، وإن ولدت ذكرًا أو أنثى فيقولون وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
وكانوا إذا ركب ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يُركب، أو أنه إذا أنتج من صلبه عشرة قالوا: حمى ظهره فلا يُركب ولا يُمنع من كلأ ولا ماء(43).
وذلك كله مما سجّله القرآن في سياق ذمّه لهذه الموروثات المبنية على الافتراء والتقليد لجهالة الآباء وضلالهم: }ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامٍ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذِب وأكثرهم لا يعقلون وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون{ (المائدة: 103-104).
..إن الإنسان حين يلغي مصدر معرفته العقلية وأدواتها، ويعيش عالة على ما خلّفه الآباء من ميراث - على أهمية ميراث الآباء فيما يتصل بالمعرفة التراكمية - فإن ذلك يغدو تحولًا إلى آصار وأغلال للعقل.
ولعلنا قد لاحظنا أن القرآن الكريم حين أدان اتباع الآباء على ذلك النحو من التشديد فإنما يرجع ذلك - فيما يرجع - إلى الجاذبية الشديدة الإغراء التي تربط الناس بميراث الآباء، بصرف النظر عن نوعية هذا الموروث. ودون أن تلفت إلى سنن الله وقوانينه الثابتة(44). ومن هنا فإن مشكلة النزعة الآبائية عند الكافرين، تعني جميع من يقع في مشكلة مخالفة السنن حتى وإن كان مسلمًا، إذ المشكلة إنسانية بالدرجة الأولى، لا يستثنى منها المسلمون، كما قد يغفل بعضهم أو يتوهم حين يظن لنفسه مزية خاصة على غيره من الأمم، مع أن القرآن الكريم حين سفّه تلك المعتقدات تضمن بطريق الإشارة خطورة أن يقع المسلمون في تقليد آبائهم على غير بصيرة(45). وبتعبير آخر فإنه «إذا ما غلبت على العقل سطوة التقليد لموروث الآباء من التقاليد والعادات، وقيّدت بذلك حريته في النظر، فإنه ينصرف عن النظر في مشكلة الحياة الواقعية ليتخذ من غابر الآباء، وغائب تاريخهم مادة للنظر، يصوغ منها موازين وأحكامًا يسقطها على مشاكل الواقع في شيء من المثالية التاريخية على سبيل الانقياد لموروث الآباء، لا على سبيل البحث في وقائع التاريخ للاعتبار»(46).
وعلى هذا الأساس يمكن وصف التربية الإسلامية بأنها تربية منضبطة بكوابح العقل. وفي ذلك انعكاس إيجابي على المعلم المتحرّر والمتعلّم المتسائل، والباحث الذي يحرص على إزالة عوائق الموضوعية في مسار أبحاثه العلمية.
- العقل سبيل الهداية:
ونعني بالهداية هنا الهداية العقدية والتشريعية المعتمدة على العقل وقواه ممثلة في التفكير والتذكر والتعقل والتدبر وسواها: }بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون{(النحل: 44).
}أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا{ (النساء:82).
إن هذا يشير إلى أن جانبًا من الأحكام العقدية والتشريعية لا ينفصل عن العقل، بما يؤكّد الوحدة العضوية بين منظومة أحكام الإسلام وبين العقل، وأن لا تعارض بينهما، بل تضافر ومؤازرة.
- العقل والنبوة:
وثمة دعوة إلى إعمال العقل للتأكّد من صدق نبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم:
}أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنةٍ إن هو إلاّ نذير مبين{ (الأعراف: 184 ).
}لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إليّ، قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون{ (الأنعام: 50).
وهذا يعني أن النبوة لا تعني إلغاء للعقل، كما أن العقل لا يستغني عن النبوة، وتلك ركيزة هامة أخرى من ركائز التربية الإسلامية.
- العقل لمعرفة حقيقة الدنيا والآخرة:
والعقل مدعو لمعرفة حقيقة الدنيا والآخرة:
}وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهوٌ ولعبٌ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون{ (العنكبوت: 46).
}وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خيرٌ وأبقى أفلا تعقلون{ (القصص: 60).
ومن الناحية التربوية فإن التربية العقلية تمثل عاملًا مساعدًا في تعزيز الإيمان بالغيب عن طريق الوحي، كما تسهم في إخراج الإنسان المؤمن الذي لا يقف عند حدود الاهتمامات القريبة التي قد تكون مناسبة لعالم الطفولة، الذي يسوِّغ فيه الفرح بالألعاب، ولكنّه لا يناسب الإنسان الراشد، صاحب الاهتمامات الكبيرة، وصاحب النظرة الآفاقية، كما أن في هذة الآيات إرشادًا إلى الجمع بين الوسائل والغايات وإلى مرحلة الغايات والأهداف، وذلك من صلب اهتمامات النظام التربوي، والعمل التعليمي في المؤسسات التربوية.
- العقل وقصص السابقين:
ودعا القرآن إلى إعمال العقل وأخذ العبرة من قصص السابقين، كما جاء ذلك عقب ذكر قصة لوط - على سبيل المثال - }ولقد تركنا منها آيةً بينةً لقومٍ يعقلون{ (العنكبوت: 35).
وفي ذلك تربية على التعلّم بالعبرة، بوصفها أسلوبًا تربويًا معتبرًا في تدريس التربية الإسلامية.
- الحث على الفقه الكوني:
والفقه الكوني يمثل جماع الوظائف العقلية وأعمقها:
}قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون{ (الأنعام: 65).
وضعف أو انعدم الفقه الكوني أوالحضاري من علامات الضعف النفسي، ولذلك كان التشنيع والازدراء حقيقًا بمن تردّى إلى هذا المستوى، سواء كان من اليهود أم من حلفائهم المنافقين، أم كان من المشركين: فقال عن اليهود: }لأنتم أشدّ رهبةً في صدورهم من الله ذلك بأنهم قومٌ لا يفقهون{ (الحشر:13).
وقال عن المخلّفين من المنافقين: }... بل كانوا لا يفقهون إلاّ قليلًا{ (الفتح: 15).
وقال عن المشركين: }وإن يكن منكم مائة يغلبون ألفًا من الذين كفروا بأنهم قومٌ لا يفقهون{ (الأنفال: 65).
وعلى ذلك فإنّ من أولويّات الأهداف العامة للتربية الإسلامية العمل على إخراج الإنسان ذي الفقه الحضاري.
- الحث على الفقه المقاصدي:
والفقه المقاصدي كذلك يمثل دعوة عقلية للحث على النظر في أسرار ومقاصد الأحكام التشريعية ومن ذلك: }...قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون{ (آل عمران: 188).
وقد وردت الآية في سياق حث العقل المسلم على تجنّب اتخاذ بطانة من دون المؤمنين.
وحث علىالتفكر بعد ذكره لطائفة من الأحكام في موضوعات متفرقة:
}... كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون{ (البقرة: 266).
وبعد أن ساق جملة من الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية والعبادات جاء قوله تعالى في الحث على التعقل: }... كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون{ (البقرة 242).
وبعد أن أشار إلى أن ثمة منافع محدودة في الخمر والميسر ولكن الأخطار والمضار أبلغ من ذلك، حض العقل على التفكر: }... كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون{ (البقرة: 219).
وعقب ذكر حكم النكاح مع المشركين جاء حث العقل على التذكّر: }ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون{ (البقرة: 221).
وعقب ذكر الطلاق جاء حث العقل على التعلّم: }... وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون{ (البقرة: 230).
وعقب ذكر القرآن الكريم لجملة أحكام اجتماعية وتربوية كاستئذان الأطفال، وكيفية لباس المرأة الكبيرة، وبعض آداب الطعام والزيارات حث على التعقّل بصيغة الرجاء:
}... لعلكم تعقلون { (النور: 61).
إن ذلك ليشير بوضوح إلى أهمية أن يتضمن المحتوى فقه المقاصد، باعتباره جزءًا هامًا من مضمون التربية الإسلامية في حكمها على الظواهر المختلفة، كما يستفاد من هذا ضرورة تدريب المتعلمين على مهارات الاستنتاج والمقارنة بين النصوص وعللها ومقاصدها. وهذا له انعكاسه على العمل التربوي بحيث يتسم ب «الوظيفية» ويعني ارتباط ما يتعلمه المتعلم بمصالحه، ومشاكله، ومطامحه، وبمصالح ومشاكل وآمال مجتمعه وأمته. وله انعكاسه على المناهج والمقررات التي ينوء بحملها الأطفال بسبب ركام الحشو المعرفي الذي نتج عن غياب الربط بالمقاصد والأهداف.
- إعلاء منزلة العقلاء:
وإذا كانت الآيات السابقة قد حثت على إعمال العقول وتوظيفها فإن الآيات التالية تصرّح أن الذين يقومون بالاستفادة من عقولهم يتصفون - تلقائيًا - برجاحة العقل، ولذلك فقد أثنى القرآن الكريم على العقلاء بصيغة «أولي الألباب» في غير موضع، وفي ذلك حث ضمني على بلوغ مرتبة الرجاحة العقلية تلك:
فالعقلاء (أولو العقول الراجحات) هم الذين يدركون معاني القرآن وحقائق العلم:
}هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمُّ الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌ من عند ربنا وما يذّكّر إلاّ أولوا الألباب{. (آل عمران: 7).
ولا يعرف الحكمة وحقيقتها ويدرك أهميتها إلاّ أولو الألباب:
}يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا وما يذّكر إلاّ أولو الألباب{ (البقرة: 269).
وأولو الألباب هم وحدهم الذين يعون حقيقة الفرق بين العلم والجهل، أو النور والظلام: }أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك هو الحق كمن هو أعمى، إنما يتذكر أولو الألباب{ (الزمر: 19).
وأولو الألباب هم الذين يعلمون غاية الوحي ومقاصده:
}هذا بلاغ للناس ولينذروا به، وليعلموا أنما هو إله واحد، وليذكر أولو الألباب{ (الزمر: 18).
ويتميز أولو الألباب كذلك بالربط بين معارفهم النظرية وإيمانهم عن طريق اتباع أرشد الأقوال وأحسنها انبثاقًا من حسِّهم الجمالي الذي يتمتعون بتذوقه: }الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب{ (الزمر: 18).
وهذا يدلّ على أن من المفترض أن تتوجّه السياسات التعليمية المنبثقة عن التربية الإسلامية إلى تكريم ذوي التفوق العقلي من المتعلمين، وأن تولي المناهج التعليمية اهتمامًا أكبر بجوانب التربية العقلية، كما ينبغي أن تتاح فرص لتقديم الأنشطة ذات الطابع العقلي من ثقافية وفكرية وسواهما، وأن تُقدّم الحوافز الدافعة لدعم ذلك التفاعل، وتلك الأنشطة.
طبيعة عمل العقل
إذا كان العقل على ذلك النحو من الأهمية فما هي طبيعة عمله ؟ بمعنى في أي عالم يقوم العقل بوظائفه: أفي عالم الغيب أم الشهادة؟ وكيف يتجسد دوره في الوحي؟ وكيف يتجسد دور الوحي فيه؟ وحتى يمكننا تحديد الإجابة عن هذين السؤالين يحسن بنا أن ندرك ابتداء أن العقل ملكة واسعة تجعله يقف وراء الحواس، باعتباره العنصر الحقيقي في عملية الإدراك، أو المعرفة العقلية والعلمية، ولذلك فإن دوره المعرفي يتعدى عالم الشهادة إلى عالم الغيب، سواء كان ذلك عن طريق عالم الشهادة نفسه، أو كان عن طريق عالم الغيب في الاستدلال على الإيمان بالله تعالى (47) - على سبيل المثال -. ولكن رُبَّ قائل يعترض على هذا في ضوء ما تم تقريره عند الحديث عن ميدان المعرفة في عالم الغيب، وأن طريقها ليس العقل، كما أنه ليس الحواس، بل الوحي سبيل معرفتها الوحيد.
وهنا نرى ضرورة التذكير بما سبقت الإشارة إليه عند الحديث عن ميدان المعرفة في عالم الغيب أيضًا من أن ثمة دلائل تشهد لهذا الإيمان سواء تلك التي تأتي نتائج تلقائية للإيمان بالله تعالى، أو تلك التي تبرز في ميداني الآفاق والأنفس من عالم الشهادة، وهي تمثل جزءًا من المشهد الطويل الذي تتم بعض فصوله في عالم الشهادة، وتبقى فصوله الأخرى مطوية في إطار عالم الغيب، لأن معرفتنا بها لا تتعدى الخطوط العريضة لعالم الغيب، أما بقية التفصيلات فإن العقل لا يتعدى حدوده إزاءها، إذ إن مصدر ذلك وسبيل معرفته الوحيد الوحي لا غير.
ولكن المشكلة تعود - في جذورها - هنا إلى أصل ذلك النزاع الذي دارت رحاه بين الحسيين والعقليين. فالمشكلة - لدى الفيلسوف مثلًا - هي أن الرجل العادي يؤمن بالمحسوسات على أنها حقائق في ذاتها، بينما يريد الفيلسوف التأكد بالبراهين العقلية من صحة هذا الزعم. ذلك - في الواقع - جوهر النزاع في نظرية المعرفة بين عنصري العقل البرهاني والاختبار الحسي(48). ومن قبيل الاعتساف أن يعتقد الفيلسوف أنه وحده المعنيّ بالخطاب العقلي في القرآن دون سواه، ذلك لأن خطاب القرآن للكافة، لأنه يعتمد على البداهة العامة، والحس المشترك (الفطرة)، في حين ترتاب الفلسفة في البداهة العامة ارتيابًا كبيرًا، وتحاول دحض هذه الفكرة في كثير من الأحيان(49).
إن العقل إذ يؤدي أدواره فإنه يؤديها في وظيفتين رئيستين هما:
الأولى: ينظّم الإدراك الحسي فيحوله إلى معرفة وتسمى عند العقليين معرفة «بَعْدِية» أي بعد الخبرة والتجربة.
الثانية: حين يكتشف العقل المعرفة في استقلال عن الحواس، فتسمى هذه المعرفة «قبلية» أي قبل التجربة، أي أنها تقوم على مفهوم الأفكار الأولية، أو النظرية، أو القبلية، حيث تعتبر نابعة من العقل ذاته باعتباره مصدرًا للمعرفة(50).
وبتعبير أعم وأشمل فإن العقل لا يعمل إلاّ حينما تجتمع لديه صور من المدركات الحسية الظاهرة والباطنة، وأخبار الآخرين المتحدثة عن المعارف، وحينما يتخيل صورًا تركيبية جديدة يبتكرها، إلى جانب الأصول الفطرية الثابتة، فتتألف موازين العقل وقوانينه الذاتية ليقوم بوظائفه الفكرية كالاستقراء، أو الاستنباط وقياس الأشباه والنظائر على بعضها، أو المتضادات لمعرفة النقيض والعكس.
وكذا أعمال التحليل والتركيب والجمع والتفريق فيما لديه من مدركات، والربط بين المعلومات وعللها العقلية... الخ.
والتأكيد قمين هنا بأن إدراكات العقل ليست جميعها من قبيل اليقين، بل هي متأرجحة بين مراتب الإدراك: الحق بيقين، والظن الراجح، والشك، والظن المرجوح (الوهم) والباطل بيقين(51). وقد توصّلت الدراسات التشريحية الحديثة إلى تحديد مناطق معينة في لحاء المخ مهمتها القيام بوظائف سيكولوجية محددة. ولعل أهم هذه المناطق: المنطقة الحركية المسيطرة على حركة أجزاء الجسم جميعًا، والمنطقة الحسية التي تنتهي إليها احساسات اللمس، والمنطقة البصرية، والمنطقة السمعية، ومنطقة الترابط الجبهية الموجودة في معظم الجزء الأمامي من الفصين الجبهيين، وتمثل مركزًا للعمليات العقلية العليا، كالتعلّم والتفكير والقراءة والكتابة والكلام(52). إن هذه المنطقة - منطقة الفصين الجبهيين - تكون في مقدم الرأس من لحاء المخ، وتسمى «الناصية» وهي المذكورة في قول الله - تعالى - : }كلا، لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة{ (العلق: 15-16). فالقول الكاذب أو الفعل الخاطئ المشار إليه في الآية الكريمة يبدأ أولًا في خلايا لحاء المخ، ثم تنتقل من المخ إشارات عصبية إلى عضلات اللسان؛ فينطلق بالقول الكاذب، أو إلى أعضاء البدن فيحدث الفعل الخاطئ(53).
ومن الزاوية التربوية المتصلة بمناهج البحث التربوي فإن بوسعنا استخلاص أن الاختبار القبلي والبعدي للفرضية ليس منهجًا تجريبيًا بحتًا، بل هو كل مكون من هذا أو ذاك. فما كان قبليًا فإنه يرجع إلى العقل، وما كان بعديًا فإنه يرجع إلى الحس، وفي ذلك ما يشهد ويدلّل على عضوية العلاقة بينهما، وإن من الغلو بل المحال فصل أحدهما عن الآخر كلية.
إن ذلك يقودنا إلى تحديد أبرز وظائف العقل عبر عملياته العليا كالتفكير والتذكر والتفهم والتعلم والتخيّل، وإدراك العلاقات بين الأشياء المحسوسة من جهة وبين المجردات من جهة أخرى.
ومع أن بعض العلماء قديمًا عد هذه المعاني مرادفة لحقيقة العلم أو قريبًا من ذلك(54)، والواقع أنها إنما تمثل أهدافًا معرفية تربوية عامة للعلم، لا أنها العلم بعينه.
ومن الملاحظ أن هذه الوظائف لا تستخدم من قبل بعض الناس بسبب تعطيلهم لها، لا أنهم يفقدونها أو ناقصو الأهلية الخلْقية مثلاً. فإن القرآن الكريم لم يستخدم لفظ العقل في القرآن الكريم إلاّ للدلالة على عمل وفعل - كما سبقت الإشارة - ، ولا نجده يصف الكافرين بعدم وجود العقل عندهم، بل نجده يقول فيهم «لا يعقلون» وقد جاء على لسانهم أيضًا:
}وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل...{ (الملك: 10)، وذلك يشير إلى وظيفة العقل(55). وحسب استقراء بعض الباحثين فإن النظر بمعنى العلم ورد في نحو (23) آية، والإبصار بمعنى العلم ورد في نحو من (23) آية كذلك. والفقه بمعنى الفهم في (23) آية أيضًا(56). وهكذا فإن الدور الرئيس للعقل كجهاز حاكم للمعرفة البشرية يتمثل في التلقي والفهم الاستنباط.(57)وذلك يشير إلى تلبية تلك الأهداف المعرفية المشار إليها غير مرة فيما سبق.
نسبية العقل
ومع تلك الأهمية التي يوليها القرآن للعقل، ومع تلك الخصائص التي يتميز بها؛ فإن ذلك لايعني إطلاقية الأحكام الناتجة عنه. وقد سبق القول إن أحكامه ليست على مستوى واحد من حيث دلالتها على اليقين، فهي تبدأ من الحق بيقين وتنتهي إلى الباطل بيقين. ولأن العقل محصور بين الزمان والمكان؛ فإن السؤال الذي يُطرح دائمًا: متى؟ وأين؟. في حين أن الحقائق الكبرى لا زمان لها ولا مكان. بيد أن العقل يعجز عن تصور ذلك، فتراه يعلن عجزه عن التسليم بواحد من احتمالين لا ثالث لهما: هل الكون متناهي الحدود؟ أو غير متناهي الحدود؟ فهو في تسلسل تصوراته يصل إلى حدٍّ فوق عوالم المجرات عاجزًا عن التفكير لا يستطيع أن يقتنع باللانهاية، أو أن يسلم بالنهاية، فيحتار بين سؤالين: هل انتهى الكون؟ فإذا قبل قفز وهمه ليسأل: وماذا بعد النهاية؟ وإذا قال لنفسه: الكون لا نهاية له، قفز منطقة المشدود إلى المحسوسات للسؤال: كيف يكون شيء لا نهاية له؟
وهذا التردد بين الاحتمالين وعدم استطاعة العقل الاقتناع بواحد منهما دليل على حدوده(58).
إن هذا يؤكد أن العقل لا يعمل – إذًا – إلا بموجب معطيات الحواس. فالقوة العاقلة في الإنسان هي التي تجمع بين المصورة والذاكرة والمخيلّة والذكاء، فتقوم بعملها تحليلًا وتركيبًا وجمعًا وتفريقًا واستنتاجًا للقواعد العامة والكليات. وبناء على ذلك فإن وظيفة الحواس نقل مشاهدتها في الكون مرئيًا كان أو مسموعًا أو مشمومًا أو ملموسًا أو متذوقًا إلى العقل (المصورة)، فيصدر أحكامه بموجب بياناتها. وبدون عرض أشرطة الحواس تلك يتعذر على العقل إصدار أي حكم، ولذلك تقول القاعدة الثابتة «الحكم على الشيء فرع عن تصور»(59).
ومن خبرات الحياة اليومية - في مجال التعليم - التي تزيد من توضيح هذه النسبية في العقل ما يشير إليه أحد الباحثين من كون المدرّس قد لا يستطيع استرجاع اسم تلميذ سابق، أو عنوان كتاب قرره في العام الماضي، أو المكان الذي أوقف فيه سيارته. كما قد لا يستطيع استرجاع أشياء كثيرة مرت بخبرته سابقًا، ولذلك فإن الفرد قد لا يسترجع غالبًا إلا الأشياء التي يرغب في استرجاعها. ومن الأمثلة على ذلك - يقول هذا الباحث - إن الطِفل يتذكر بقوة أن أمه وعدته بأنها ستصحبه إلى (السيرك) يوم السبت، لكنه ينسى بسرعة أنها قد طلبت منه أن يشذّب الحديقة، تمامًا كما أن العالم قد يتذكر الأشياء التي تدعم معتقداته أكثر من غيرها. والأمر ذاته قد يحصل في التفكير والاستدلال حتى عند الأفراد شديدي الذكاء، وذلك إما لخطأ في التفكير والاستدلال، أو نتيجة لاستخدام لوسائل إحصائية وتجريبية غير مناسبة(60).
وقد ينتج ذلك أيضًا لتحيّز انفعالي، كما هو الحاصل عند ذلك الطفل الذي تذكّر بشدّة حقه في موعد أمه له، في حين نسى واجبه في تشذيب الحديقة، أو حتى لدى العالم الذي يتذكر ما يدعم معتقداته دون أن يولي الاهتمام ذاته لما يخالفها. وهذا ما كشفت عنه بعض الدراسات التجريبية الحديثة في علم النفس. فقد قُدِّمت بعض البراهين القياسية إلى مجموعة من الطلبة، وطلب منهم تبيين ما إذا كانت النتيجة منطقية من المقدمتين المستخدمتين في القياس. فتبين أن نصف البراهين القياسية - وهي متعلقة بأمور الحياة العادية - أقل خطأ لدى جميع الطلبة، في حين وقعوا جميعًا في أخطاء في النصف المتعلق بالأمور التي من شأنها أن تثير الانفعال. وصدق الله: }فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله...{ (القصص: 50).
} يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب{ (ص: 26).
إن هذه الأهواء كلها تشكل أخطاء في عملية التفكير برمتها(61). تمامًا كما تؤكد أن دوافع الفرد وقِيَمه ذات تأثير في انتباهه وإدراكه. فالإنسان - بحسب نتائج التجارب في دراسات التحليل النفسي- يميل إلى عدم إدراك الأشياء التي تزعجه وتقلقه والمتعارضة مع أهوائه ورغباته(62).
ونجد أن الفخر الرازي (ت: 604ه) قد تنبّه إلى ذلك، وتوصّل بقوة إدراكه وملاحظاته إلى هذه الحقيقة حين فسّر قوله تعالى: }ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والأنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون{ (الأعراف: 179). فقد قال إن الآية تشير إلى أن «الإنسان إذا تأكّدت نفرته عن شيء حتى صارت تلك النفرة المتأكدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدّال عل صحة الشيء، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله، وهذه حالة وجدانية ضرورية يجدها كلّ عاقل من نفسه، ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور: «حبّك الشيء يعمى ويصمّ»(63).
إن هذا يدل على أن المكانة المتميزة التي توليها التربية الإسلامية لجوانب التربية العقلية لايعني منحها صلاحية الحكم المطلق على سائر الأحداث والظواهر. وهذا ما ينبغي أن يبرز في ثنايا المنهج الدراسي على وجه التحديد، كما أن لنسبية العقل آثارها على مسار العمل البحثي، فلا يصحّ أن يختزل الباحث تفسير الظواهر التي يدرسها في عامل أو عدّة عوامل، ولا يقبل منه أن يخرج بتعميمات تتجاوز نطاق جهده المتواضع وعقله المحدود.
موقف القرآن من الحس والعقل (خلاصة)
في ضوء ما تقدم بوسعنا استخلاص أن النسبية في العقل قصور في الذات العارفة التي تختار فيما بين يديها من معطيات عالم الشهادة. كذلك فإن في الحواس قصورًا يعوق استنتاج ما تقع عليه ضمن معطيات هذا العالم أيضًا من غير استعانة بقوى العقل، فلزم تضافر الحس مع العقل لإحداث معرفة قائمة على أسس موضوعية سليمة.
أما منهجية القرآن المعرفية فإنها لا تعتمد على واحد منهما دون الآخر، بل يتفاعل فيها كل من الحس والعقل على نحو يجسّد الموضوعية بحق.
والقول بمنح العقل مزية جوهرية على الحواس إلى الحدّ الذي يشعرك بالميل نحو المذهب العقلاني لا يخلو من غلو. ذلك أن الوظيفة تكاملية بينهما، والعلاقة عضوية تبادلية، بحيث نقول إنه وإن صحّ تميّز الإنسان عن غيره بالعقل، لكنه لن يحيل أي معرفة يدركها العقل بقوانينه الأولية - عدا ما سواها(64) -إلى معارف حقيقية ذات قيمة لو لم تكن الحواس ومعطياتها قد منحت له منافذ الإدراك وإحداث عمليات التعقّل العليا.
إذا تبين ذلك لم يعد هناك ما يسوِّغ إعلاء قدر العقل لإظهار معارفه بمظهر اليقينيات، لأن هذا الزعم يغدو ترديدًا مقصودًا أو غير مقصود لمقولات اليونانيين والأوروبيين الكلاسيكيين حين فرّقوا بين معارف العقل ومعارف الحسّ، فعدّوا الأولى يقينية والثانية ظنية قابلة للشك(65). وذلك خلاف ما توصل إليه الراسخون من الأوروبيين المعاصرين الذين أكّدوا أن العقل وحده ليس بوسعه إدراك المعرفة اليقينية، بل لابد من استخدام الملاحظة والتجريب والتفكير المنطقي مجتمعة لبلوغ المعرفة المبتغاة(66). وعودة إلى موقف القرآن من الحس والعقل فإنه قد عاقب الذين لم يستفيدوا مما منحهم الله من أدوات المعرفة حسيّة كانت أو عقلية بأن زادهم سلبًا لفاعليتها وتعطيلًا لوظائفها:}ولقد مكنّاهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعًا وأبصارًا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون{ (الأحقاف: 26).
وتوعّد من سلك المسلك ذاته فقال: }أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون{ (الأعراف: 100).
وأخبرهم عن الذين وقعوا في ذلك عمليًا فقال:
}ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفًا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم{ (محمد: 16).
}بشيرًا ونذيرًا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ ومن بيننا وبينك حجابٌ فاعمل إننا عاملون{ (فصلت: 4-5).
وأكد القرآن أن الانحراف السلوكي والعقائدي سبب في سلب وتعطيل أدوات المعرفة الحسيّة والعقلية فقال:
}ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين . أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون{ (النحل: 107 - 108).
}وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا، وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورًا . نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا{ (الإسراء: 45 – 47).
}يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون . ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون . إن شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون . ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون{ (الأنفال: 20 - 23).
ونجد القرآن يشبّه الذين لا يستغلون أدوات معرفتهم الحسية والعقلية بالأنعام، بجامع عدم الإفادة الحقيقية منها، بل يكون الإنسان - والحال هذه - أضل من الأنعام إذ هي مستسلمة لله تعالى كسائر المخلوقات غير المكلّفة:
}أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل سبيلًا{ (الفرقان:44).
}ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون{ (الأعراف: 179).
ويلفت النظر في هذه الآيات إلى الصلة التي تربط الحواس بالقلب، كما لو كانت جميعها (السمع والبصر والقلب) تعمل في وقت واحد. وذلك الارتباط يؤكِّد من جانب آخر ارتباط العقل بالقلب، وارتباط الاثنين معًا بالحواس، فهي إما مغلقة جميعًا، وإما مفتوحة جميعًا على الحق والنور والهداية(67).
وأخيرًا فإن تعطيل الكفار لأدواتهم الحسية والعقلية في الدنيا يستوجب أن تنال هذه الأدوات قسطًا من العقاب في الآخرة:
}ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون{ (الأنعام: 110).
}وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير{ (الملك: 10).
}ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا{ (الإسراء: 97).
}نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة{ (الهمزة: 6 - 7).
وعن مركز التفكير في مخ الإنسان وهي الناصية قال تعالى: }كلا لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية . ناصية كاذبة خاطئة{ (العلق: 15 - 16).
وزبدة القول: إن القرآن لايرى تعارضًا بيّنًا بين مهام الحس ومهام العقل، بل على العكس من ذلك يرى التفاعل الإيجابي بينهما، والتكامل والتعاضد. أما القول بغير ذلك فتوهّم مزعوم عند التحقيق، ذلك أن المعرفة العقلية اليقينية لا تتحقق تمامًا، ولا تستحق هذا الوصف إلا حين يبني العقل أحكامه مستندًا إلى واحد من ثلاثة: فإما اعتمادًا على أحد قوانين العقل الأولية الفطرية القطعية، وإما اعتمادًا على ما يفيد اليقين من شهادات الحسّ، أو استنادًا إلى الشهادات الخبرية القطعية.
وهنا يراعى ضرورة إحداث عملية موازنة بين المدركات. فالموازين الفطرية - وليس المكتسبة - أبعد عن الخطأ من شهادات الحس وشهادات الآخرين غير المعصومين، ويصبح العقل في هذه الحال المحك لفحص مدركات الحس، وتمحيص شهادات الآخرين، وأخبارهم عن المعارف.
وفي ضوء ذلك يقوم العقل بتصنيف المعارف القادمة إليه من الطريقين السابقين لوضع كل منهما في رتبته المناسبة يقينًا أو ترجيحًا، أو ما هو دون الرجحان. ثم الرفض حال حكمه باستحالة أو امتناع ما يدخل في نطاق قوانينه الذاتية. وعليه فليس كل ما ورد إلى الجهاز الفكري المدرك في درجة واحدة، بل أعلاها الحق بيقين، وأدناها الباطل بيقين، وبينهما الظن الراجح، والشك والظن المرجوح(68) - كما سبق القول فيما مضى -.
وبالنسبة لعلاقة ذلك بالعملية التربوية مباشرة، فإن موقف القرآن من الحس والعقل يفرض على التربية الإسلامية أن تجعل منهما معًا مصادر وطرائق رئيسة، وبذلك تتسم بالتكاملية في نظرتها الفلسفية.
كما أن الأطراف المعنيّة بالعملية التربوية مطالبة بالتزام هذه الفلسفة، سواء في ذلك واضعو المناهج، أم المعلمون والمتعلمون، أم الباحثون في مجال مناهج البحث العلمي. وبذلك تشق فلسفة التربية الإسلامية طريقها بين النظريات والأفكار التربوية المختلفة، بعيدًا عن الثنائيات التي وقعت فيها معظم تلك النظريات والأفكار.
الهوامش

1 - عدنان زرزور، مقالة في المعرفة،ص33-34.
2 - ابن منظور،لسان العرب، ج11ص854-954.
3 - الجرجاني، التعريفات،ص197.
4 - الفيروزآبادي، بصائر ذوي التميز،ج4ص85.
5 - مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي، ص 120.
6 - جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج 2ص 84 وانظر ج 2 ص 84 – 90.
7 - المرجع السابق، ج 2 ص 91 وانظر: المعجم الفلسفي لمراد وهبة، ص 279.
8 - عدنان زرزور، مقالة في المعرفة، ص33.
9 - ابن منظور، لسان العرب، ج11 ص458.
10 - الفيروز آبادي، بصائر ذوي التمييز، ج4 ص288.
11 - المرجع السابق، ج 4 ص289.
12 - الفخر الرازي، التفسير الكبير، المجلد السابع، ج13 ص109.
13 - علي حسّون، المعرفة وإدراك القلب، ص 122.
14 - مرتضى المطهري، معرفة القرآن، ص90،
15 - محمد علي الجوزو، العقل والقلب في القرآن والسنة، ص86 ( نقلًا عن: أصول التربية الإسلامية لسعيد إسماعيل علي، ص48 - 49 ).
16 - نايف معروف، الإنسان والعقل، ص125.
17 - الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3 ص4 (كتاب شرح عجائب القلب).
18 - المرجع السابق، ج3 ص5 - 6. وانظر: ج1 ص101 - 104 (كتاب العلم).
19 - ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج13 ص232.
20 - صابر طعيمة، المعرفة في منهج القرآن الكريم، ص 143.
21 - جودت سعيد، اقرأ وربك الأكرم، ص 122.
22 - الراغب الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص169، والمفردات في غريب القرآن، ص341 - 342.
23 - المرجعان السابقان، ص169، وص 341 - 342. وانظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج4 ص369.
24 - الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص341 - 342.
25 - ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، ج9 ص21 - 22.
26 - الحارث المحاسبي، شرف العقل وما هيته، ص17.
27 - المرجع السابق، ص21. ويلاحظ أن هذا اجتهاد من الحارث المحاسبي في فهم الطور الذي كان عليه آدم حين أخبرهم بأسمائهم، وهناك من يذهب إلى أن آدم خُلِق متكامل الخلقة على سبيل الطفرة الفجائية لا على سبيل الانقلاب التطوري. 28 -(عبدالمجيد النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، ص53 ).
29 - طه العلواني، خواطر في الأزمة الفكرية المعاصرة ج1 ص141.
30 - المرجع السابق، ج1 ص141.
31 - الحارث المحاسبي، شرف العقل وماهيته، ص21.
32 - يحيى هاشم فرغل، مرجع سابق، ص207- 216.
33 - المرجع السابق، ص18 - 24
34 - يمكن مراجعة نماذج أخرى من هذا الأسلوب في: منهج تربوي فريد في القرآن لمحمد سعيد رمضان البوطي، ص24 -25.
35 - الشوكاني ، فتح القدير، ج 4 ص333.
36 - فاروق الدسوقي، الإسلام والعلم التجريبي، ص 154.
37 - مرتضى المطهري، معرفة القرآن، ص72.
38 - الكيلاني، فلسفة التربية الإسلامية، ص234-235.
39 - انظر في تفسير بعض تلك الآيات: تفسير الطبري لمحمد بن جرير ، ج5 ص154، والمحرر الوجيز لابن عطية، ج3 ص238، والكشاف للزمخشري، ج1 ص18، وتفسير القاسمي للقاسمي، ج6 ص85، 297، وتفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، ج10 ص295، وظلال القرآن لسيد قطب، ج2 ص1045-1046.
40 - ابن عاشور، المرجع السابق، ج10 ص296.
41 - الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص497.
42 - ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج16 ص222 ( كتاب التفسير ) وج10 ص486 (كتاب علم السلوك).
43 - انظر تفسير هذه الآيات في: صفوة التفاسير للصابوني، ج2 ص138، وج5 ص39، وج18 ص57.
44 - الشوكاني، فتح القدير، ج2 ص82.
45 - جودت سعيد، حتى يغيروا ما بأنفسهم، ص174- 175.
46 - المرجع السابق، ص180.
47 - عبدالمجيد النجار، دور حرية الرأي، ص58.
48 - عدنان زرزور، مقالة في المعرفة، ص85.
49 - يعقوب فام، مرجع سابق، ص103.
50 - نظمي لوقا، الحقيقة عند فلاسفة المسلمين، ص186 – 187.
51 - عدنان زرزور، مقالة في المعرفة، ص39.
52 - عبدالرحمن الميداني، ضوابط المعرفة، ص131-133.
53 - محمد عثمان نجاتي، القرآن وعلم النفس، ص217.
54 - المرجع السابق، ص221-222.
55 - التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ج4 ص1055.
56 - جودت سعيد، اقرأ وربك الأكرم، ص121.
57 - أحمد الحوفي، القرآن والتفكير، ص11 (نقلاً عن التنمية العقلية في الكتاب والسنة لزينب حسن، ص396-397.
58 - فاروق الدسوقي، الإسلام والعلم التجريبي، ص126.
59- الميداني، ضوابط المعرفة، ص130 والعقيدة الإسلامية، ص 19-21.
60 - الميداني، العقيدة الإسلامية، ص 19.
61 - فان دالين، مرجع سابق، ص 56-57.
62 - محمد عثمان نجاتي، القرآن وعلم النفس، ص 153 – 155.
63 - المرجع السابق، ص 133 – 134.
64 - الفخر الرازي، التفسير الكبير، المجلد الثامن، ج15 ص52 وهذه المقولة تروي حديثًا ولكنه ضعيف انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني، ص397، رقم الحديث 2688، وسلسلة الأحاديث الضعيفة، ج4 ص348، حديث 1868.
65 - فاروق الدسوقي، الإسلام والعلم التجريبي، ص164.
66 - الكسيس كاريل، الإنسان ذلك المجهول، ص 145.
67 - محمد علي الجوزو، مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة، ص205 (نقلاً عن أصول التربية الإسلامية لسعيد إسماعيل علي، ص49 ).
68 - الميداني، ضوابط المعرفة، ص 134.
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
دليل رسائل الماجستير في التربية إعداد الباحث محمد عباس محمد عرابي محمس عربي الدليل العلمي للطلاب و المعلمين 4 August 18, 2010 01:38 PM
من وثائق الباحث محمد عباس محمد عرابي محمس عربي الدليل العلمي للطلاب و المعلمين 1 June 29, 2010 07:12 AM
علاقة أدب الأطفال بالتربية للدكتور محمد شاكراختيار البحث محمد عباس محمد عرابي محمس عربي بحوث علمية 1 June 29, 2010 07:06 AM
التفكير ومهاراته إعداد الباحث محمد عباس عرابي محمس عربي بحوث علمية 1 December 12, 2009 09:18 PM


الساعة الآن 02:25 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر