October 15, 2009, 11:09 PM
|
|
رساله الى المعلم والمتعلم
رسالة إلى المعلم والمتعلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد : فلقد عني الإسلام با لعلم أبلغ عناية وأتمها ، دعوة إليه وبياناً لآدابه وتوضيحاً لآثاره وترهيباً من الإعراض عنه ، وفي إشراقة فجر الإسلام كان الاهتمام في أولياته بتوسيع مدارك الإنسان بالارتشاف من معين العلم (( اقرأَ بأسم رَبِك الذي خَلَق )) ، فأنطلق العلم في هذه الأمة مستعاناً ب " بسم الله " كفى به إعانةً ، وهو ميراث النبوة ، (( وَوَرِث سُلَيمَانُ دَاوُدَ )) وطالبه في مصاف الشرفاء ومنظوم في سلك العظماء ، (( يَرفعِ اللهُ الَّذيِنَ آمَنُوا منَكُم والذين أُوتُوا العلمَ دَرَجَاتٍ )) ، سلوكه توفيق للخلد في الجنات . يقول عليه الصلاة والسلام : ( مَن سَلَكَ طريقاً يلتمس فيه علماً ، سهّل الله له طريقاً إلى الجنة ) [ رواه مسلم ] ، والخلق عنه راضون ولصنيعه مستغفرون والملائكة لمجالسة أهله راغبون ، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ) المتبحّر فيه قمر يضاء الكون بنوره ( وفضل العا لم على العابد كفضل القمر على سائل الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظّ وافر ) [ رواه الترمذي ] طلبه لله عبادة ، ومعرفته خشية ، ومذاكرته تسبيح ، وبذله لأهله قربة ، به يُعرف الله ويعبد ، وبه يُحمد ويُوَحّد ، أنيس في الوحدة وصاحب في الخلوة ، به توصل الأرحام ويُعرف الحلال والحرام ، أفضل مكتسب وأشرف منتسب ، وأنفس ذخيرة تقتنى وأطيب ثمرة تجتنى ، ويقول بشر الحافي : " لا أعلم على وجه الأرض عملاً أفضل من طلب العلم " تعلمه إحياء للدّين وإذلال للشيطان ، دليل على الخير وعون على المروءة . يقول إبن عيينة : " من طلب العلم فقد بايع الله " المهديّ إليه ممنوع بالخير ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) . أيها المسلمون : لا صلاح للنفس إلا بعبوديتها لله ، والعلم عبادة من العبادات ، والنية هي الأصل فيها ، فصحّح النية في قصد الطلب بإرادة رضا الرب ولا تزغ بالنية إلى الحطام فتهلك ، في الحديث : ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاَ من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) - يعنى ريحها – وطلب العلم بلا نية طاقة مهدرة وجهد مبعثر ، لا ينال من ورائه ثواب بل صاحبه معرّض للوعيد والحساب ، وكل علم لا يقود صاحبه إلى خشية الله يُخشَى على طالبه ، والعلم والعمل متلازمان والفضائل الكاملة في الجمع بينهما ، وعلى قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السامعون ، وليكن قلبك سليماً نائياً عن رديء الأخلاق وذميم الصفات ، وأبدأ في مطلع الطلب بحفظ كتاب الله متقناً مع التدبّر ، وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعاباً فمن نَوّر الله قلبه وهداه بما يبلغه من ذلك ، فاحفظ في كل فن مختصرا ، ثم انتقل إلى المبسوطات من الشروح ، وخذ عن الأحسن تعليماً ، واعتن بالأهم من العلوم وتبحّر فيها ، وخذ العلم من أهله من شيخ يقتدى به في العلم والعمل ، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ، واختر في طريقك رفيقاً يعينك إذا انثنيت ويقوي همتك إذا ضعفت ، وابتعد عن صحبة البطالين ، واغتنم زمن الصبا في التحصيل فإنه أحضر للقلب وأجمع للفكر ، إن الدين كله علم با لحق وعمل به ، والعلم والعمل لا مناص من الصبر عليهما والصابر موعود بالجنان : (( سَلام عَلَيكُم بَمَا صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدَّارِ )) [ الرعد :24 ] . ولا يُنَال العلم إلا بالصبر على المكاره ، وبذل النفوس في طلبه والتفاني فيه ، وبالنظر إلى عواقب الأمور يهن الصبر عن كل ما يشتهي وما تكره . أيها المتعلم : العلم لا يُنَال إلا بالتواضع وإلقاء السمع ، فاحترم معلمك وجلّ قدره بالتأدب معه في الحديث والإستماع والهيئة ، وسوء الأدب معه مروق من صفات المروءات والأعراف ، وزيوغ عن سير الأسلاف . يقول الربيع : " والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليّ هيبة له " . واشكره على إرشاده لك وإصلاحه لحالك ، فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس ، ومن مودة المتعلم بمعلمه الاعتذار له ، ونسب العتب للنفس ، وأحسن إليه الخطاب ، وتلطف في السؤال والجواب ، وأحذر المباهاة والمماراة ، يقول الزهري : " كان أبو سلمة يماري ابن عباس فحُرِم بذلك علماً كثيراً . واصغ إلى حديث معلمك ، ولا تنثني عن الاستفهام فيما أشكل عليك من علوم الشريعة ، فالسؤال عن الدين شرف والنكول عن السؤال والبقاء على الجهل مهانة ، تقول عائشة – رضي الله عنها - : " رحم الله نساء الأنصار لم يكن الحياء يمنعهن أن يتفقهن في الدين " . واحذر العوائق والآفات من مواصلة سير الطلب ، فالحفظ والمدارسة لا تحمدان بحضرة الشواغل والصوارف ، وقي الملهبيات الحضارية المحضورة ، والمحطات الفضائية إشغال للأفكار وعيش في الأوهام وهدر للأوقات ، وفي مجانيتها صيانة الدين وصفاء الأذهان وحفظ الأذهان ومسابقة الأقران ، فنزّه سمعك وبصرك عما يلوّث فكرك ويسيء إلى سلوكك ويفسد أخلاقياتك فتنبذ العلم ثم تعيش في الحضيض ، والرفيق قرين ثانٍ فإن كان صالحاً فقد أعان وإن كانت الأخرى فقد أفسد ، فجانب جليس السوء فهو مفد لعضد الطموح ومرٍد لك في مصارف متأخري المجتمعات ، فغاية البطالين إشغال وتسويف وتأميل . والزم صحبة الصالحين فنعم العون هم على أمورا لدنيا والدين ، وحث رفقاءك على تحصيل العلم وانصح لهم في الدين ، ولا تحسد ذا نعمة على نعمته بالحفظ والفهم ، وسل المُنعم التوفيق دوماً فالعون من الوهّاب لا بالركون إلى الأسباب . أيها المعلم : مسؤولية التعليم عظيمة والأمانة الملقاة على عوائق أهله كبيرة ، فما طريق المعلمين ولا مهمتهم بيسيرة ، فقد تحملوا الأمانة وهي ثقيلة ، واستحقوا الأرث وهو ذو تبعات والأمة ترجو منهم جيلاً شديد العزم سديد الرأي ، فأنتم حماة الثغور ومُرَبّوا الأجيال وسُقَاة الغرس وأصحاب رسالة شريفة ، فمعلم الناس الخير يصلي عليه الله وملائكته ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف البحر والطير في جوف السماء ، والمعلم مرشد يتأسى بالأنبياء في التعليم ويسير على خطى المرسلين ، فأخلص النية لله واستحضر فضل العلم والتعليم في إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة ، وكن قدوة في الخلق والدين ، وانصح للمتعلم والتعليم ، ومن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الرأفة بالمتعلم صغيراً أو كبيراً ، وحديث بَول الأعرابي في المسجد جليّ في ذلك ، واسعَ إلى تأليف قلوب أبناء المسلمين على البِرّ والتقوى ، وأبعِد عنهم أسباب العداوة ، وليكن تأثيرك بالصلاح على طلابك ظاهراً فتأثّر المتعلم بك قد يربوا على تأثّر الابن بوالده ، وكن حليماً في التعليم فالحلم من شيم الصالحين ، واصبر على ما تلاقيه منهم ففي الغراس مشقة وفي القطف أجر ومثوبة ، ولا تحقرنّ أحداً من طلابك ولو ضعف إدراكه وقلّ تحصيله ، فبحسب امرئ من الشر أن يحقّر أخاه المسلم ، واعدل بين طلابك في المعاملة والنظرة والثواب والعقاب ، وإياك والظلم والانتصار للنفس ، يقول شيخ الإسلام : " كل من حكم بين اثنين فهو قاضٍ حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكّام " ، وحديث : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاضٍٍ في الجنة ) يدخل فيه المعلم . إن تحصين الطلاب بعلوم الشريعة مطلب شرعي ولو كانت وجهتهم في التعليم إلى غير العلوم الدينية ، فالعلوم الشرعية تضفي على المتعلم طمأنينة وسعادة وراحة في سني التعليم يقول عز وجل : (( ألا بذكر الله تطمئن القلوب )) [ الرعد : 28 ] . ويقبح بالمرء إلمامه بالعلوم الطبيعية وجهله بمسلّمات الشريعة ، وتزداد حاجته إلى علوم الدين مع مصارعته للفتن وتلاطم أمواج الإحن ، والمسلم متميز في علومه وسعة أفقه مؤيد بنور الإيمان يربط الدنيا بالآخرة . وما في الكون بوحدانية الله . أيتها المعلمة والمتعلمة : القرار ولزوم البيت للمرأة مطلب شرعي ، وخروج المرأة من دارها للتعليم مشروط بالسير على وفق الضوابط الشرعية ، فكوني لأمر ربك معتزة ، فالحجاب عبارة والنقاب منقبة ، فجمال المرأة في حشمتها ، وبهاؤها في عفّتها ، وكوني داعية إلى الله بالتمسك بالدين ، وإياك والولوغ في أعراض المسلمين غيبة ونميمة واستهزاء ، واحذري الكِبر والخيلاء والمباهات ، واجعلي مراحل التعليم زيادة لك في الإيمان ، ودروساً حية في إصلاح الأجيال (( قُل هل يستوي الذين يعلمُونَ والذينَ لا يَعلمُونَ إنما يَتَذَكرُ أُولوا الألبَابِ )) [ الزمر : 9 ] . أيها المسلمون : آفة العلم الإعجاب والغضب ، وحليته الحلم والتواضع ، والسعيد من عرف الطريق إلى ربه وسلكها قاصداً الوصول إليه ، وهذا هو الكريم على ربه . والمحروم من عرف طريقاً إليه ثم أعرض عنها ، وجماع الخير أن نستعين بالله في تلقى العلم الموروث عن النبي – عليه الصلاة والسلام - ، وعلم الحق ما وافق علم الله ، والإرادة الصالحة ما وافقت محبة الله ورضاه ، والعلم النافع هو أصل الهدى ، والعمل بالحق هو الرشاد ، والضلال العمل بغير علم ، والغيّ إتباع الهوى ، ولا ينال الهدى إلا بالعلم ، ولا ينال الرشاد إلا بالصبر ، وأصل السيئات الجهل وعدم العلم ، والكسل عن الفضائل بئس الرفيق . فتهيأ إلى أسباب العلم بتنقية النفس من العجز واتّباع الهوى ، والتواضع للعلماء إكرام للنفس من الإهانة ، واندم على ما مضى من التفريط ، واجتهد في اللحاق بأهل الفضل والعزائم ما دام في الوقت سعة وفي العمر فسحة . وفقك الله إلى كل خير وأخذ بيدك.. وسدد خطاك . وصلى الله وسلم على نبينا محمد . الشيخ عبد المحسن القاسم-إمام وخطيب المسجد النبوي دار القاسم (من خطبة في المسجد النبوي ) في يوم الجمعة 3/6/1421ه
|