مجلة الإبتسامة

مجلة الإبتسامة (https://www.ibtesamah.com/)
-   النصح و التوعيه (https://www.ibtesamah.com/forumdisplay-f_89.html)
-   -   رحلة ابن بطوطة**2** (https://www.ibtesamah.com/showthread-t_142601.html)

salh22 October 15, 2009 09:06 PM

رحلة ابن بطوطة**2**
 
الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلىآله وصحبه وسلم قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه الله تعالى: ولما كان بتاريخ الغرة من شهر محرم مفتتح عام أربعة وثلاثين وسبعمائة وصلنا إلى وادي السند المعروف ببنج آب، ومعنى ذلك المياه الخمسة. وهذا الوادي من أعظم أودية الدنيا، وهو يفيض في أوان الحر، فيزرع أهل تلك البلاد على فيضه، كما يفعل أهل الديار المصرية في فيض النيل. وهذا الوادي هو أول عمالة السلطان المعظم محمد شاه ملك الهند والسند. ولما وصلنا إلى هذا النهر جاء إلينا أصحاب الأخبار الموكلون بذلك، وكتبوا بخبرنا إلى قطب الملك أمير مدينة ملتان، وكان أمير أمراء السند على هذا العهد مملوك للسلطان يسمى سرتيز، وهو من عرض المماليك، وبين يديه تعرض عساكر السلطان، ومعنى اسمه الحاد الرأس لأن سر " بفتح السين المهملة وسكون الراء ". هو الرأس، وتيز " بتاء معلوة وياء مد وزاي " معناه الحاد. وكان في حين قدومنا بمدينة سيوستان من السند. وبينها وبين ملتان مسيرة عشرة أيام، وبين بلاد السند وحضرة السلطان مدينة دهلي على مسيرة خمسين يوماً. وإذا كتب المخبرون إلى السلطان من بلاد السند يصل الكتاب إليه في خمسة أيام بسبب البريد.
ذكر البريد
والبريد ببلاد الهند صنفان، فأما بريد الخيل فيسمونه الولاق "أولاق " "بضم الواو وآخره قاف "، وهو خيل تكون للسلطان، في كل مسافة أربعة أميال، وأما بريد الرجالة، فيكون في مسافة الميل الواحد منه ثلاث رتب، ويسمونها الداوة " بالدال المهمل والواو "، والداوة هي ثلث ميل، والميل عندهم يسمى الكروة " بضم الكاف والراء "، وترتيب ذلك أن يكون في كل ثلث ميل قرية معمورة، ويكون بخارجها ثلاث قباب يقعد فيها الرجال، مستعدين للحركة، قد شدوا أوساطهم. وعند كل واحد منهم مقرعة مقدار ذراعين، بأعلاها جلاجل نحاس، فإذا خرج البريد من المدينة أخذ الكتاب بأعلى يده والمقرعة ذات الجلاجل باليد الأخرى يشتد بمنتهى جهده.
فإذا سمع الرجال الذين بالقباب صوت الجلاجل تأهبوا. فإذا وصلهم. أخذ أحدهم الكتاب من يده ومر بأقصى جهده، وهو يحرك المقرعة حتى يصل إلى الداوة الأخرى. ولا يزالون كذلك حتى يصل الكتاب إلى حيث يراد منه.
وهذا البريد أسرع من بريد الخيل وربما حملوا على هذا البريد الفواكه المستطرفة بالهند من فواكه خراسان يجعلونها في الأطباق، ويشتدون بها حتى تصل إلى السلطان. وكذلك يحملون الكبار من ذوي الرتب، يجعلون الرجل على سرير، ويرفعونه فوق رؤوسهم ويسيرون به شداً. وكذلك يحملون الماء لشرب السلطان، إذا كان بدولة أباد، يحملونه من نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه، وهو على مسيرة أربعين يوماً منها.
وإذا كتب المخبرون إلى السلطان بخبر من يصل إلى بلاده، استوعبوا الكتاب وأمعنوا في ذلك، وعرفوه أنه ورد رجل صورته كذا ولباسه كذا، وكتبوا عدد أصحابه وغلمانه وخدامه ودوابه، وترتيب حاله في حركته وسكونه، وجميع تصرفاته لا يغادرون من ذلك كله شيئاً.
فإذا وصل الوارد مدينة ملتان، وهي قاعدة بلاد السند، أقام بها حتى ينفذ أمر السلطان بقدومه، وما يجري له من الضيافة، وإنما يكرم الإنسان هنالك بقدر ما يظهر من أفعاله وتصرفاته وهمته، إذ لا يعرف هنالك ما حسبه ولا آباؤه.
من عادة ملك الهند السلطان أبي المجاهد محمد شاه إكرام الغرباء ومحبتهم وتخصيصهم بالولايات والمراتب الرفيعة. ومعظم خواصه وحجابه ووزرائه وقضاته وأصهاره غرباء. ونفذ أمره بأن يسمى الغرباء في بلده الأعزة. فصار لهم ذلك اسماً وعلماً. ولا بد لكل قادم على هذا الملك من هدية يهديها إليه، ويقدمها وسيلة بين يديه. فيكافئه السلطان عليها بأضعاف مضاعفة، وسيمر من ذكر هدايا الغرباء إليه كثير. ولما تعود الناس ذلك منه، صار التجار الذين ببلاد السند والهند يعطون لكل قادم على السلطان الآلاف من الدنانير ديناً ويجهزونه بما يريد أن يهديه إليه أو يتصرف فيه لنفسه من الدواب للركوب والجمال والأمتعة ويخدمونهم بأموالهم وأنفسهم، ويقفون بين يديه كالحشم، فإذا وصل إلى السلطان أعطاه العطاء الجزيل، فقضى ديونهم ووفاهم حقوقهم، فنفقت تجارتهم وكثرت أرباحهم. وصار لهم ذلك عادة مستمرة. ولما وصلت إلى بلاد السند، سلكت ذلك المنهج، واشتريت من التجار الخيل والجمال والمماليك وغير ذلك. ولقد اشتريت من تاجر عراقي من أهل تكريت يعرف بمحمد الدوري بمدينة غزنة نحو ثلاثين فرساً وجملاً عليه حمل من النشاب، فإنه مما يهدى إلى السلطان، وذهب التاجر المذكور إلى خراسان ثم عاد إلى الهند، وهنالك تقاضى مني مائة، واستفاد بسببي فائدة عظيمة، وعاد من كبار التجار. ولقيته بمدينة حلب بعد سنين كثيرة. وقد سلبني الكفار ما كان بيدي فلم ألق منه خيراً.
ذكر الكركدن
ولما أجزنا نهر السند المعروف ببنج آب دخلنا غيضة قصب لسلوك الطريق لأنه في وسطها، فخرج علينا الكركدن، وصورته أنه حيوان أسود اللون عظيم الجرم، ورأسه كبير متفاوت الضخامة، ولذلك يضرب به المثل فيقال: الكركدن رأس بلا بدن، وهو دون الفيل ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف. وله قرن واحد بين عينيه، طوله نحو ثلاثة أذرع، وعرضه نحو الشبر. ولما خرج علينا عارضه بعض الفرسان في طريقه فضرب الفرس الذي كان تحته بقرنه فأنفذ فخذه وصرعه، وعاد إلى الغيضة فلم نقدر عليه. وقد رأيت الكركدن مرة ثانية في هذا الطريق بعد صلاة العصر، وهو يرعى نبات الأرض. فلما قصدناه هرب منا. ورأيته مرة أخرى ونحن مع ملك الهند، دخلنا غيضة قصب وركب السلطان على الفيل وركبنا معه الفيلة، ودخلت الرجالة والفرسان فأثاروه وقتلوه واستاقوا رأسه إلى المحلة.
وسرنا من نهر السند يومين ووصلنا إلى مدينة جناني " وضبط اسمها بفتح الجيم والنون الأولى وكسر الثانية " مدينة كبيرة على ساحل نهر السند لها أسواق مليحة، وسكانها طائفة يقال لهم السامرة، استوطنوها قديماً واستقر بها أسلافهم حين فتحها على أيام الحجاج بن يوسف، حسبما أثبت المؤرخون في فتح السند. وأخبرني الشيخ الإمام العالم العامل العابد الزاهد ركن الدين أبو الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين ابن الشيخ الإمام العابد الزاهد بهاء الدين زكريا القرشي، وهو أحد الثلاثة الذين أخبرني الشيخ الولي الصالح برهان الدين الأعرج بمدينة الإسكندرية أني سألقاهم في رحلتي فلقيتهم والحمد لله، أن جده الأعلى كان يسمى بمحمد بن قاسم القرشي، وشهد فتح السند في العسكر الذي بعثه لذلك الحجاج بن يوسف أيام إماراته على العراق، وأقام بها وتكاثرت ذريته. وهؤلاء الطائفة المعرفون بالسامرة لا يأكلون مع أحد ولا ينظر إليهم أحد حين يأكلون، ولا يصاهرون أحداً من غيرهم، ولا يصاهر إليهم أحد. وكان لهم في هذا العهد أمير يسمى ونار " بضم الواو وفتح النون "، وسنذكر خبره. ثم سافرنا من مدينة جناني إلى أن وصلنا إلى مدينة سيوستان " وضبط اسمها بكسر السين الأول المهمل وياء مد وواو مفتوح وسين مكسور وتاء معلوة وآخره نون " وهي مدينة كبيرة وخارجها صحراء ورمال، لا شجر بها إلا شجر أم غيلان. ولا يزرع على نهرها شيء ما عدا البطيخ. وطعامهم الذرة والجلبان ويسمونه المشنك " بميم وشين معجم مضمومين ونون مسكن "، ومنه يصنعون الخبز، وهي كثيرة السمك والألبان الجاموسية. وأهلها يأكلون السقنقور، وهي دويبة شبيهة بأم حبين التي يسميها المغاربة حنيشة الجنة إلا أنها لا ذنب لها. ورأيتهم يحتفرون الرمل ويستخرجونها منه ويشقون بطنها ويرمون بما فيه ويحشونه بالكركم، وهم يسمونه زردشوبة، ومعناه العود الأصفر، وهو عندهم عوض الزعفران. ولما رأيت تلك الدويبة وهم يأكلونها استقذرتها فلم آكلها. ودخلنا هذه المدينة في احتدام القيظ وحرها الشديد. فكان أصحابي يقعدون عريانين، يجعل أحدهم فوطة على وسطه وفوطة على كتفيه مبلولة بالماء، فما يمضي اليسير من الزمان حتى تيبس تلك الفوطة، فيبلها مرة أخرى. وهكذا أبداً. ولقيت بهذه المدينة خطيبها المعروف بالشيباني، وأراني كتاب أمير المؤمنين الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لجده الأعلى بخطابة هذه المدينة. وهم يتوارثونها من ذلك العهد حتى الآن.
ونص الكتاب: هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لفلان وتاريخه سنة تسع وتسعين، وعليه مكتوب بخط أمير المؤمنين لفلان عمر بن عبد العزيز الحمد لله وحده على ما أخبرني الخطيب المذكور. ولقيت بها الشيخ المعمر محمد البغدادي وهو بالزاوية التي على قبر الشيخ الصالح عثمان المرتدي. وذكر أن عمره يزيد على مائة وأربعين سنة، وأنه حضر مقتل المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس رضي الله عنهم لما قتله الكافر هلاون بن تنكيز التتري . وهذا الشيخ على كبر سنه قوي الجثة يتصرف على قدميه.
حكاية
كان يسكن بهذه المدينة الأمير ونار السامري الذي تقدم ذكره، والأمير قيصر الرومي، وهما في خدمة السلطان، ومعهما نحو ألف وثمانمئة فارس. وكان يسكن بها كافر من الهنود اسمه رتن " بفتح الراء وبفتح التاء المعلوة والنون "، وهو من الحذاق بالحساب والكتابة. فوفد على ملك الهند مع بعض الأمراء، فاستحسنه السلطان وسماه عظيم السند، وولاه بتلك البلاد، وأقطعه سيوستان وأعمالها، وأعطاه المراتب، وهي الأطبال والعلامات كما يعطى كبار الأمراء. فلما وصل إلى تلك البلاد عظم على ونار وقيصر وغيرهم تقديم الكافر عليهم، فأجمعوا على قتله. فلما كان بعد أيام من قدومه أشاروا إليه بالخروج إلى أحواز المدينة ليتطلع على أمورها فخرج معهم. فلما جن الليل أقاموا ضجة بالمحلة، وزعموا أن السبع ضرب عليها. وقصدوا ضرب الكافر فقتلوه، وعادوا إلى المدينة فأخذوا ما كان بها من مال السلطان، وذلك اثنا عشر لكاً واللك مائة ألف دينار، وصرف اللك عشرة آلاف دينار من ذهب الهند. وصرف الدينار الهندي ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب. وقدموا على أنفسهم ونار المذكور، وسموه ملك فيروز، وقسم الأموال على العسكر. ثم خاف على نفسه لبعده عن قبيلته، فخرج فيمن معه من أقاربه، وقصد قبيلته، وقدم الباقون من العسكر على أنفسهم قيصر الرومي. واتصل خبرهم بعماد الملك سرتيز مملوك السلطان، وهو يومئذ أمير أمراء السند وسكناه بملتان. فجمع العساكر وتجهز في البر وفي نهر السند. وبين ملتان وسيوستان عشرة أيام، وخرج إليه قيصر، فوقع اللقاء وانهزم قيصر ومن معه أشنع هزيمة، وتحصنوا بالمدينة، فحاصرهم ونصب المجانيق عليهم، واشتد عليهم الحصار، فطلبوا الأمان بعد أربعين يوماً من نزوله عليهم فأعطاهم الأمان. فلما نزلوا إليه غدرهم وأخذ أموالهم وأمر بقتلهم. فكان كل يوم يضرب أعناق بعضهم ويوسط البعض ويسلخ آخرين منهم ويملأ جلودهم تبناً ويعلقها على السور. فكانت تلك الجلود مصلوبة، ترعب من ينظر إليها. وجمع رؤوسهم في وسط المدينة، فكانت مثل التل هنالك. ونزلت بتلك المدينة إثر هذه الوقعة بمدرسة فيها كبيرة، وكنت أنام على سطحها فإذا استيقظت من الليل أرى تلك الجلود المصلوبة فتشمئز النفس منها، ولم تطب نفسي بالسكنى بالمدرسة فانتقلت عنها. وكان الفقيه الفاضل العادل علاء الملك الخراساني المعروف بفصيح الدين قاضي هراة في متقدم التاريخ، قد وفد على ملك الهند فولاه مدينة لاهري وأعمالها من بلاد السند، وحضر هذه الحركة مع عماد الملك سرتيز بمن معه من العساكر. فعزمت على السفر معه إلى مدينة لاهري. وكان له خمسة عشر مركباً قدم بها في نهر السند تحمل أثقاله فسافرت.
ذكر السفر في نهر السند وترتيب ذلك
وكان للفقيه علاء الملك في جملة سفنه سفينة تعرف بالأهورة " بفتح الهمزة والهاء وسكون الواو وفتح الراء "، وهي نوع من الطريدة عندنا إلا أنها أوسع منها وأقصر وعلى نصفها مرعش من خشب يصعد له على درج، وفوقه مجلس مهيأ لجلوس الأمير، ويجلس أصحابه بين يديه. ويقف المماليك يمنة ويسرة، والرجال يقذفون وهم نحو أربعين. ويكون مع هذه الأهورة أربعة من السفن عن يمينها ويسارها، اثنان منها فيهما مراتب الأمير، وهي العلامات والطبول والأبواق والأنفار والصرنايات وهي الغيطات، والآخران فيهما أهل الطرب فتضرب الطبول والأبواق نوبة، ويغني المغنون نوبة. ولا يزالون كذلك من أول النهار إلى وقت الظهر. فإذا كان وقت الغداء اجتمعت المراكب، ووصل بعضها ببعض، ووضعت بينهما الإصقالات، وأتى أهل الطرب إلى أهورة الأمير، فيغنون إلى أن يفرغ من أكله، ثم يأكلون وإذا فرغوا من الأكل عادوا إلى سفنهم وشرعوا في المسير على ترتيبهم إلى الليل. فإذا كان الليل ضربت المحلة على شاطئ النهر ونزل الأمير إلى خيامه ومد السماط وحضر الطعام معظم العسكر، فإذا صلوا العشاء الأخيرة سمر السمار بالليل نوباً، فإذا أتم أهل النوبة منهم نوبتهم نادى مناد منهم بصوت عال يا خوند ملك، قد مضى من الليل كذا من الساعات ثم يسمر أهل النوبة الأخرى، فإذا أتموها نادى مناديهم أيضاً معلماً بما مر من الساعات. فإذا كان الصبح ضربت الأبواق والطبول وصليت صلاة الصبح وأتي بالطعام. فإذا فرغ الأكل، أخذوا في المسير. فإن أراد الأمير ركوب النهر ركب على ما ذكرناه من الترتيب، وإن أراد المسير في البر ضربت الأطبال والأبواق، وتقدم حجابه، ثم تلاهم المشاؤون بين يديه، ويكون بين أيدي الحجاب ستة من الفرسان، عند ثلاثة منهم أطبال قد تقلدوها وعند ثلاثة صرنايات. فإذا أقبلوا على قرية أو ما هو من الأرض مرتفع ضربوا تلك الأطبال والصرنايات. ثم تدق أطبال العسكر وأبواقه، ويكون عن يمين الحجاب ويسارهم المغنون يغنون نوباً، فإذا كان وقت الغداء نزلوا.
وسافرت مع علاء الملك خمسة أيام، ووصلنا إلى موضع ولايته، وهو مدينة لاهري " وضبط اسمها بفتح الهاء وكسر الراء " مدينة حسنة على ساحل البحر الكبير، وبها يصب نهر السند في البحر، فيلتقي بها بحران، ولها مرسى عظيم، يأتي إليه أهل اليمن وأهل فارس وغيره. بذلك عظمت جباياتها وكثرت أموالها. أخبرني الأمير علاء الملك المذكور أن مجبي هذه المدينة ستون لكاً في السنة، وقد ذكرنا مقدار اللك، وللأمير من ذلك نم " نيم " ده يك، ومعناه نصف العشر. وعلى ذلك يعطي السلطان البلاد لعماله يأخذون منها لأنفسهم نصف العشر.
ذكر غريبة رأيتها بخارج هذه المدينة
وركبت يوماً مع علاء الملك فانتهينا إلى بسيط من الأرض على مسافة سبعة أميال منها يعرف بتارنا، فرأيت هنالك ما لا يحصره العد من الحجارة على مثل صور الآدميين والبهائم، وقد تغير كثير منها ودثرت أشكاله، فيبقى منه صورة رأس أو رجل أو سواهما. ومن الحجارة أيضاً على صورة الحبوب من البر والحمص والفول والعدس، وهنالك آثار سور وجدران دور، ثم رأينا رسم دار فيها بيت من حجارة منحوتة وفي وسطه دكانة حجارة منحوتة كأنها حجر واحد عليها صورة آدمي، إلا أن رأسه طويل وفمه في جانب من وجهه، ويداه خلف ظهره كالمكتوف. وهنالك مياه شديدة النتن، وكتابة على بعض الجدران بالهندي. وأخبرني علاء الملك أن أهل التاريخ يزعمون أن هذا الموضع كانت فيه مدينة عظيمة أكثر أهلها الفساد فمسخوا حجارة، وأن ملكهم هو الذي على الدكانة في الدار التي ذكرناها، وهي الآن تسمى دار الملك، وأن الكتابة التي في بعض الحيطان بالهندي هي تاريخ هلاك أهل تلك المدينة وكان ذلك منذ ألف سنة أو نحوها. وأقمت بهذه المدينة مع علاء الملك خمسة أيام، ثم أحسن في الزاد وانصرفت عنه إلى مدينة بكار " بفتح الباء الموحدة "، وهي مدينة حسنة يشقها خليج من نهر السند. وفي وسط ذلك الخليج زاوية حسنة فيها الطعام للوارد والصادر. عمرها كشلوخان أيام ولايته على بلاد السند، وسيقع ذكره. ولقيت بهذه المدينة الفقيه الإمام صدر الدين الحنفي، ولقيت بها قاضيها المسمى بأبي حنيفة، ولقيت بها الشيخ العابد الزاهد شمس الدين محمد الشيرازي، وهو من المعمرين، ذكر لي أن سنه يزيد على مائة وعشرين عاماً. ثم سافرت من مدينة بكار فوصلت إلى مدينة أوجه " وضبط اسمها بضم الهمزة وفتح الجيم " وهي مدينة كبيرة على نهر السند، لها أسواق حسنة وعمارة جيدة. وكان الأمير بها إذ ذاك الملك الفاضل الشريف جلال الدين الكيجي أحد الشجعان الكرماء، وبهذه المدينة توفي بعد سقطة سقطها عن فرسه.
مكرمة لهذا الملك
ونشأت بيني وبين هذا الملك الشريف جلال الدين مودة، وتأكدت بيننا الصحبة والمحبة، واجتمعنا بحضرة دهلي. فلما سافر السلطان إلى دولة أباد، كما سنذكره، وأمرني بالإقامة بالحضرة، قال لي جلال الدين: إنك تحتاج إلى نفقة كبيرة، والسلطان تطول غيبته، فخذ قريتي واستغلها حتى أعود، ففعلت ذلك. واستغللت منها نحو خمسة آلاف دينار، جزاه الله أحسن الجزاء.
ولقيت بمدينة أوجه الشيخ العابد الزاهد الشريف قطب الدين حيدر العلوي، وألبسني الخرقة، وهو من كبار الصالحين. ولم يزل الثوب الذي ألبسنيه معي، إلى أن سلبني كفار الهنود في البحر. ثم سافرت من أوجه إلى مدينة ملتان " وضبط اسمها بضم الميم وتاء معلوة "، وهي قاعدة بلاد السند، ومسكن أمير أمرائه. وفي الطريق إليها على مسافة عشرة أميال الوادي المعروف بخسرو أباد، وهو من الأودية الكبار، لا يجاز إلا بالمراكب. وبه يبحث عن أمتعة المجتازين أشد البحث وتفتش رحالهم. وكانت عادتهم حين وصلنا إليها أن يأخذوا الربع من كل ما يجلبه التجار، ويأخذوا على كل فرس سبعة دنانير مغرماً.
ثم بعد وصولنا إلى الهند بسنتين رفع السلطان تلك المغارم، وأمر أن لا يؤخذ من الناس إلا الزكاة والعشر، لما بايع للخليفة أبي العباس العباسي. ولما أخذنا في إجازة هذا الوادي وفتشت الرحال، عظم علي تفتيش رحلي، لأنه لم يكن فيه طائل، وكان يظهر في أعين الناس كبيراً، فكنت أكره أن يطلع عليه. ومن لطف الله تعالى أن وصل أحد كبار الأجناد من جهة قطب الملك صاحب ملتان، فأمر أن لا يعرض لي ببحث ولا تفتيش، فكان كذلك. فحمدت الله على ما هيأه لي من لطائفه. وبتنا تلك الليلة على شاطئ الوادي، وقدم علينا في صبيحتها ملك البريد واسمه دهقان، وهو سمرقندي الأصل، وهو الذي يكتب للسلطان بأخبار تلك المدينة وعمالتها وما يحدث بها ومن يصل، فتعرفت به ودخلت بصحبته إلى أمير ملتان.
ذكر أمير ملتان وترتيب حاله
وأمير ملتان هو قطب الملك من كبار الأمراء وفضلائهم. لما دخلت قام إلي وصافحني وأجلسني إلى جانبه. وأهديت له مملوكاً وفرساً وشيئاً من الزبيب واللوز، وهو من أعظم ما يهدى إليهم، لأنه ليس ببلادهم، وإنما يجلب من خراسان. وكان جلوس هذا الأمير على دكانة كبيرة عليها البسط، وعلى مقربة منه القاضي، ويسمى سالارو، والخطيب ولا أذكر اسمه، وعن يمينه ويساره امراء الأجناد، وأهل السلاح وقوف على رأسه، والعساكر تعرض بين يديه. وهناك قسي كثيرة. فإذا أتى من يريد أن يثبت في العسكر رامياً أعطي قوساً من تلك القسي ينزع فيها، وهي متفاوتة في الشدة. فعلى قدر نزعه يكون مرتبه. ومن أراد أن يثبت فارساً، فهنالك طبلة منصوبة، فيجري فرسه ويرميها برمحه. وهناك أيضاً خاتم معلق في حائط صغير، فيجري فرسه حتى يحاذيه. فإن رفعه برمحه فهو الجيد عندهم، ومن أراد أن يثبت رامياً فارساً فهنالك كرة موضوعة في الأرض، فيجري فرسه ويرميها، وعلى قدر ما يظهر من الإنسان في ذلك من الإصابة يكون مرتبه. ولما دخلنا على هذا الأمير وسلمنا عليه، كما ذكرناه، أمر بإنزالنا في دار خارج المدينة، هي لأصحاب الشيخ العابد ركن الدين الذي تقدم ذكره، وعادتهم أن لا يضيفوا أحداً حتى يأتي أمر السلطان.
ذكر من اجتمعت به في هذه المدينة من الغرباء
الوافدين على حضرة ملك الهند
فمنهم خداوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ، قدم بأهله وولده، ثم ورد عليه بها إخوته عماد الدين وضياء الدين وبرهان الدين، ومنهم مبارك شاه أحد كبار سمرقند، ومنهم أرن بغا أحد كبار بخارى، ومنهم ملك زاده ابن أخت خداوند زاده، ومنهم بدر الدين الفصال، وكل واحد من هؤلاء معه أصحابه وخدامه وأتباعه، ولما مضى من وصولنا إلى ملتان شهران، وصل أحد حجاب السلطان، وهو شمس الدين البوشنجي، والملك محمد الهروي الكتوال، بعثهما السلطان لاستقبال خداوند زاده. وقدم معهم ثلاثة من الفتيان بعثتهم المخدومة جهان أم السلطان لاستقبال زوجة خداونده زاده المذكور. وأتوا بالخلع لهما ولأولادهما، ولتجهيز من قدم من الوفود، وأتوا جميعاً إلي، وسألوني لماذا قدمت، فأخبرتهم أني قدمت للإقامة في خدمة خوند عالم، وهو السلطان، وبهذا يدعى في بلاده. وكان أمر أن لا يترك أحد ممن يأتي من خراسان يدخل بلاد الهند، إلا إن كان برسم الإقامة. فلما أعلمتهم أني قدمت للإقامة، استدعوا القاضي والعدول، وكتبوا عقداً علي وعلى من أراد الإقامة من أصحابي. وأبى بعضهم من ذلك وتجهزنا للسفر إلى الحضرة. وبين ملتان وبينها مسيرة أربعين يوماً في عمارة متصلة. وأخرج الحاجب وصاحبه الذي بعث معه ما يحتاج إليه في ضيافة قوام الدين، واستصحبوا من ملتان نحو عشرين طباخاً. وكان الحاجب يتقدم ليلاً إلى كل منزل، فيجهز الطعام وسواه، فما يصل خداوند زاده حتى يكون الطعام متيسراً. وينزل كل واحد ممن ذكرناهم من الوفود على حدة، بمضاربه، وأصحابه. وربما حضروا الطعام الذي يصنع لخداوند زاده. ولم أحضره أنا إلا مرة واحدة. وترتيب ذلك الطعام أنهم يجعلون الخبز، وخبزهم الرقاق وهو شبه الجراديق، ويقطعون اللحم المشوي قطعاً كبيرة، بحيث تكون الشاة أربع قطع أو ستاً، ويجعلون أمام كل رجل قطعة. ويجعلون أقراصاً مصنوعة بالسمن تشبه الخبز المشترك ببلادنا، ويجعلون في وسطها الحلواء الصابونية، ويغطون كل قرص منها برغيف حلواء يسمونه الخشتي، ومعناه الآجري، مصنوع من الدقيق والسكر والسمن. ثم يجعلون اللحم المطبوخ بالسمن والبصل والزنجبيل الأخضر في صحاف صينية ثم يجعلون شيئاً يسمونه سموسك، وهو لحم مهروس مطبوخ باللوز والجوز والفستق والبصل والأبازير، موضوعة في جوف رقاقة مقلوة بالسمن. يضعون أمام كل إنسان خمس قطع من ذلك أو أربعاً، ثم يجعلون المطبوخ بالسمن عليه الدجاج، ثم يجعلون لقيمات القاضي ويسمونه الهاشمي، ثم يجعلون القاهرية. ويقف الحاجب على السماط قبل الأكل، ويخدم إلى الجهة التي فيها السلطان، ويخدم جميع من حضر لخدمته. والخدمة عندهم حط الرأس نحو الركوع، فإذا فعلوا ذلك جلسوا للأكل. ويوتى بأقداح الذهب والفضة والزجاج مملوءة بماء النبات وهو الجلاب محلولاً في الماء، ويسمون ذلك الشربة، ويشربونه قبل الطعام. ثم يقول الحاجب: بسم الله: فعند ذلك يشرعون في الأكل. فإذا أكلوا أتوا بأكواز الفقاع فإذا شربوه، أتوا بالتنبول والفوفل: وقد تقدم ذكرهما، فإذا أخذوا التنبول والفوفل قال الحاجب: بسم الله. فيقومون ويخدمون مثل خدمتهم أولاً، وينصرفون.
ثم سافرنا من مدينة ملتان، وهم يجرون هذا الترتيب على ما سطرناه، إلى أن وصلنا إلى بلاد الهند. وكان أول بلد دخلناه مدينة أبوهر " بفتح الهاء "، وهي أول تلك البلاد الهندية، صغيرة حسنة كثيرة العمارة، ذات أنهار وأشجار. وليس هنالك من أشجار بلادنا شيء. ما عدا النبق، لكنه عندهم عظيم الجرم، تكون الحبة منه بمقدار حبة العفص، شديد الحلاوة. ولهم أشجار كثيرة، ليس يوجد منها شيء ببلادنا ولا بسواها.
ذكر أشجار بلاد الهند وفواكهها
فمنها العنبة " بفتح العين وسكون النون وفتح الباء الموحدة "، وهي شجرة تشبه أشجار النارنج، إلا أنها أعظم أجراماً وأكثر أوراقاً وظلها أكثر الظلال، غير أنه ثقيل فمن نام تحته وعك. وثمرها على قدر الإجاص الكبير. فإذا كان أخضر قبل تمام نضجه أخذوا ما سقط منه، وجعلوا عليه الملح ، وصيروه كما يصير الليم والليمون ببلادنا. وكذلك يصيرون أيضاً الزنجبيل الأخضر وعناقيد الفلفل. ويأكلون ذلك مع الطعام، يأخذون بأثر كل لقمة يسيراً من هذه المملوحات فإذا نضجت العنبة في أوان الخريف، اصفرت جباتها فأكلوها كالتفاح. فالبعض يقطعها بالسكين، والآخر يمصها مصاً. وهي حلوة يمازج حلاوتها يسير حموضة. ولها نواة كبيرة يزرعونها فتنبت منها الأشجار، كما تزرع نوى النارنج وغيرها. والشكي والبركي " بفتح الشين المعجم وكسر الكاف، وفتح الباء الموحدة وكسر الكاف ". وهي أشجار عادية، أوراقها كأوراق الجوز، وثمرها يخرج من أصل الشجر، فما اتصل منه بالأرض فهو البركي، وحلاوته أشد وطعمه أطيب، وما كان فوق ذلك فهو الشكي وثمره يشبه القرع الكبار، وجلوده تشبه جلود البقر، فإذا اصفر في أوان الخريف قطعوه وشقوه. فيكون في داخل كل حبة المائة والمائتان. فما بين ذلك من حبات تشبه الخيار، بين كل حبة وحبة صفاق أصفر اللون، ولكل حبة نواة تشبه الفول الكبير، وإذا شويت هذه النواة أو طبخت يكون طعمها كطعم الفول، إذ ليس يوجد هنالك. ويدخرون هذه النوى في التراب الأحمر فتبقى إلى سنة أخرى. وهذا الشكي والبركي هو خير فاكهة ببلاد الهند. والتندو " بفتح التاء المثناة وسكون النون وضم الدال " وهو ثمر شجر الأبنوس، وحباته قدر حبات المشمش، ولونها، وهو شديد الحلاوة، والجوز " بضم الجيم المعقودة " وأشجار. عادية ويشبه ثمرة الزيتون، وهو أسود اللون، ونواه واحدة كالزيتون، والنارنج الحلو، وهو وعندهم كثير. وأما النارنج الحامض فعزيز الوجود. ومنه صنف ثالث يكون بين الحلو والحامض، وثمره على قدر الليم وهو طيب جداً، وكنت يعجبني أكله، ومنها المهوا " وبفتح الميم والواو " وأشجار عادية وأوراقه كأوراق الجوز، إلا أن فيها حمرة وصفرة، وثمره مثل الأجاص الصغير شديد الحلاوة. وفي أعلى كل حبة منه حبة صغيرة بمقدار حبة العنب مجوفة وطعمها كالعنب.
إلا أن الإكثار من أكلها يحدث في الرأس صداعاً، ومن العجب أن هذه الحبوب إذا يبست في الشمس كان طعمها كطعم التين، وكنت آكلها عوضاً عن التين إذ لا يوجد ببلاد الهند. وهم يسمون هذه الحبة الأنكور " بفتح الهمزة وسكون النون وضم الكاف المعقودة والواو والراء "، وتفسيره بلسانهم العنب. والعنب بأرض الهند عزيز جداً، ولا يكون بها إلا في موضع بحضرة دهلي، وببلاد أخرى، ويثمر مرتين في السنة. ونوى هذا الثمر يصنعون منه الزيت، ويستصبحون به. ومن فواكههم فاكهة يسمونها كسيرا " بفتح الكاف وكسر السين المهمل وياء مد وراء " يحفرون عليها الأرض، وهي شديدة الحلاوة تشبه القسطل. وببلاد الهند من فواكه بلادنا الرمان، ويثمر مرتين في السنة. ورأيته ببلاد جزائر ذيبة المهل لا ينقطع له ثمر، وهم يسمونه أنار " بفتح الهمزة والنون "، وأظن ذلك هو الأصل في تسمية الجلنار، فإن جل بالفارسية الزهر، ونار الرمان.
ذكر الحبوب التي يزرعها أهل الهند ويقتاتون بها
وأهل الهند يزرعون مرتين في السنة. فإذا نزل المطر عندهم في أوان القيظ زرعوا الزرع الخريفي، وحصدوه بعد ستين يوماً من زراعته. ومن هذه الحبوب الخريفية عندهم الكذرو " بضم الكاف وسكون الذال المعجم وضم الراء وبعدها واو "، وهو نوع من الدخن. وهذا الكذور هو أكثر الحبوب عندهم. ومنها القال " بالقاف " وهو أشبه أنلي، ومنها الشاماخ " بالشين والخاء المعجمتين " وهو أصغر حباً من القال. وربما نبت هذا الشاماخ من غير زراعة، وهو طعام الصالحين وأهل الورع والفقراء والمساكين. يخرجون لجمع ما نبت منه من غير زراعة، فيمسك أحدهم قفة كبيرة بيساره، وتكون بيمناه مقرعة يضرب بها الزرع فيسقط في القفة، فيجمعون منه ما يقتاتون به جميع السنة. وحب هذا الشاماخ صغير جداً، وإذا جمع جعل في الشمس، ثم يدق في مهارس الخشب. فيطير قشره. ويبقى لبه أبيض، ويصنعون منه عصيدة يطبخونها بحليب الجواميس، وهي أطيب من خبزه. وكنت آكلها كثيراً ببلاد الهند وتعجبني. ومنها الماش، وهو نوع من الجلبان، ومنها المنج " بميم مضموم ونون وجيم "، وهو نوع من الماش، إلا أن حبوبه مستطيلة ولونه صافي الخضرة، ويطبخون المنج مع الأرز ويأكلونه بالسمن ويسمونه كشرى " بالكاف والشين المعجم والراء "، وعليه يفطرون في كل يوم. وهو عندهم كالحريرة ببلاد المغرب. ومنها اللوبيا وهي نوع من الفول، ومنها الموث " بضم الميم " وهو مثل الكذرو، إلا أن حبوبه أصغر، وهو من علف الدواب عندهم، وتسمن الدواب بأكله، والشعير عندهم لا قوة له، وإنما علف الدواب من هذا الموت، أو الحمص ويجرشونه ويبلونه بالماء ويطعمونه الدواب، ويطعمونها عوضاً من القصيل أوراق الماش، بعد أن تسقى الدابة السمن عشرة أيام، في كل يوم مقدار ثلاثة أرطال أو أربعة، ولا تركب في تلك الأيام. وبعد ذلك يطعمونها أوراق الماش كما ذكرنا شهراً أو نحوه وهذه الحبوب التي ذكرناها هي الخريفية وإذا حصدوها بعد ستين يوماً من زراعتها ازدرعوا الحبوب الربيعية، وهي القمح والشعير والحمص والعدس. وتكون زراعتها في الأرض التي كانت الحبوب الخريفية مزدرعة فيها. وبلادهم كريمة طيبة التربة. وأما الأرز فانهم يزرعونه ثلاث مرات في السنة، وهو من أكبر الحبوب عندهم. ويزدرعون السمسم وقصب السكر مع الحبوب الخريفية التي تقدم ذكرها.
" ولنعد إلى ما كنا بسبيله فأقول " سافرنا من مدينة أبوهر، في صحراء مسيرة يوم، في أطرافها جبال منيعة يسكنها كفار الهنود، وربما قطعوا الطريق. وأهل بلاد الهند أكثرهم كفار. فمنهم رعية تحت ذمة المسلمين، يسكنون القرى، ويكون عليهم حاكم من المسلمين يقدمه العامل أو الخديم الذي تكون القرية في إقطاعه، ومنهم عصاة محاربون يمتنعون بالجبال ويقطعون الطريق.
ذكر غزوة لنا بهذا الطريق
وهي أول غزوة شهدتها ببلاد الهند
ولما أردنا السفر من مدينة أبوهر، خرج الناس منها أول النهار، وأقمت بها إلى نصف النهار في لمة من أصحابي، ثم خرجنا، ونحن اثنان وعشرون فارساً. منهم عرب ومنهم أعاجم، فخرج علينا في تلك الصحراء ثمانون رجلاً من الكفار وفارسان. وكان أصحابي ذوي نجدة وعتي، فقاتلناهم أشد القتال، فقتلنا أحد الفارسين منهم وغنمنا فرسه، من رجالهم نحو اثني عشر رجلاً وأصابتني نشابة، وأصابت فرسي نشابة ثانية ومن الله بالسلامة منها، لأن نشابهم لا قوة لها، وجرح لأحد أصحابنا فرس عوضناه له بفرس الكافر، وذبحنا فرسه المجروح، فأكله الترك من أصحابنا. وأوصلنا تلك الرؤوس إلى حصن أبي بكهر فعلقناها على سوره. وكان وصولنا في نصف الليل إلى حصن أبي بكهر المذكور " وضبط اسمه بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وفتح الهاء وآخره راء ". وسافرنا منه فوصلنا بعد يومين إلى مدينة أجودهن " وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الجيم وفتح الدال المهمل والهاء وآخره نون "، مدينة صغيرة هي للشيخ الصالح فريد الدين البذاوني الذي أخبرني الشيخ الصالح الولي برهان الدين الأعرج بالإسكندرية أني سألقاه، فلقيته والحمد لله، وهو شيخ ملك الهند، وأنعم عليه بهذه المدينة. وهذا الشيخ مبتلى بالوسواس والعياذ بالله، فلا يصافح أحداً ولا يدنو منه، وإذا ألصق ثوبه بثوب أحد غسل ثوبه. دخلت زاويته ولقيته وأبلغته سلام الشيخ برهان الدين، فعجب وقال: أنا دون ذلك. ولقيت ولديه الفاضلين معز الدين، وهو أكبرهما ولما مات أبوه تولى الشياخة بعده، وعلم علم الدين. وزرت قبر جده القطب الصالح فريد الدين البذاوني، منسوبة إلى مدينة " بذاون " بلد السنبل. " وهي بفتح الباء الموحدة والذال المعجم وضم الواو وآخرها نون " ولما أردت الانصراف عن هذه المدينة، قال لي علم الدين: لا بد لك من رؤية والدي فرأيته وهو في أعلى سطح له، وعليه ثياب بيض وعمامة كبيرة لها ذؤابة وهي مائلة إلى جانب. ودعا لي وبعث إلي بسكر ونبات.
ذكر أهل الهند الذين يحرقون أنفسهم بالنار
ولما انصرفت عن هذا الشيخ، رأيت الناس يهرعون من عسكرنا، ومعهم بعض أصحابنا. فسألته ما الخبر ? فأخبروني أن كافراً من الهنود مات، وأججت النار لحرقه، وامرأته تحرق نفسها معه. ولما احترقا جاء أصحابي وأخبروا أنها عانقت الميت حتى احترقت معه. وبعد ذلك كنت في تلك البلاد أرى المرأة من كفار الهنود متزينة راكبة، والناس يتبعونها من مسلم وكافر، والأطبال والأبواق بين يديها، ومعها البراهمة، وهم كبراء الهنود. وإذا كان ذلك ببلاد السلطان استأذنوا السلطان في إحراقها فيؤذن لهم فيحرقونها. ثم اتفق بعد مدة أني كنت بمدينة أكثر سكانها الكفار تعرف بأبجري ، وأميرها مسلم من سامرة السند، وعلى مقربة منها الكفار العصاة، فقطعوا الطريق يوماً، وخرج الأمير المسلم لقتالهم، وخرجت معه رعية من المسلمين والكفار، ووقع بينهم قتال شديد، مات فيه من رعية الكفار سبعة نفر - وكان لثلاثة منهم ثلاث زوجات، فاتفقن على إحراق أنفسهن. وإحراق المرأة بعد زوجها عندهم أمر مندوب إليه غير واجب لكن من أحقرت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفاً بذلك، ونسبوا إلى الوفاء، ومن لم تحرق نفسها، لبست خشن الثياب، وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها. ولكنها لا تكره على إحراق نفسها. ولما تعاهدت النسوة الثلاث اللائي ذكرناهن على إحراق أنفسهن، أقمن قبل ذلك ثلاثة أيام في غناء وطرب وأكل وشرب، كأنهن يودعن الدنيا. ويأتي إليهن النساء من كل جهة. وفي صبيحة اليوم الرابع أتيت كل واحدة منهن بفرس فركبته، وهي متزينة متعطرة، وفي يمناها جوزة نارجيل تلعب بها، وفي يسراها مرآة تنظر فيها وجهها، والبراهمة يحفون بها، وأقاربها معها، وبين يديها الأطبال والأبواق والأنفار. وكل إنسان من الكفار يقول لها: أبلغي السلام إلى أبي أو أخي أو أمي أو صاحبي، وهي تقول: نعم، وتضحك إليهم. وركبت مع أصحابي لأرى كيفية صنعهن في الاحتراق. فسرنا معهن نحو ثلاثة أميال، وانتهينا إلى موضع مظلم كثير المياه والأشجار متكاثف الظلال، وبين أشجاره أربع قباب، في كل قبة صنم من الحجارة. وبين القباب صهريج ماء قد تكاثفت عليه الظلال، وتزاحمت الأشجار فلا تتخللها الشمس. فكان ذلك الموضع بقعة من بقع جهنم، أعاذنا الله منها. ولما وصلن إلى تلك القباب، نزلن إلى الصهريج، وانغمسن فيه، وجردن ما عليهن من ثياب وحلي، فتصدقن به. وأتيت كل واحدة منهن بثوب قطن خشن غير مخيط، فربط بعضه على وسطها، وبعضه على رأسها وكتفيها. والنيران قد أضرمت على قرب من ذلك الصهريج، في موضع منخفض، وصب عليها روغن كنجت " كنجد "، وهو زيت الجلجلاان فزاد في اشتعالها. وهنالك نحو خمسة عشر رجلاً بأيديهم حزم من الحطب الرقيق، ومعهم نحو عشرة بأيديهم خشب كبار، وأهل الأطبال والأبواق وقوف ينتظرون مجيء المرأة، وقد حجبت النار بملحفة، يمسكها الرجال بأيديهم لئلا يدهشها النظر إليها. فرأيت إحداهن لما وصلت إلى تلك الملحفة، نزعتها من أيدي الرجال بعنف وقالت لهم: مارا ميترساني ازاطش " آنش " من ميدانم أواطاش است رهكاني مارا؛ وهي تضحك، ومعنى هذا الكلام أبالنار تخوفونني ? أنا أعلم أنها نار محرقة. ثم جمعت يديها على رأسها خدمة للنار، ورمت بنفسها فيها. وعند ذلك ضربت الأطبال والأنفار والأبواق، ورمى الرجال ما بأيديهم من الحطب عليها، وجعل الآخرون تلك الخشب من فوقها لئلا تتحرك، وارتفعت الأصوات وكثر الضجيج. ولما رأيت ذلك كدت أسقط عن فرسي لولا أصحابي تداركوني بالماء. فغسلوا وجهي وانصرفت. وكذلك يفعل أهل الهند أيضاً في الغرق. يغرق كثير منهم أنفسهم في نهر الكنك، وهو الذي إليه يحجون. وفيه يرمى برماد هؤلاء المحرقين. وهم يقولون: إنه من الجنة. وإذا أتى أحدهم ليغرق نفسه يقول لمن حضره " لا تظنوا أني أغرق نفسي لأجل شيء من أمور الدنيا أو لقلة مال، إنما قصدي التقرب إلى كساي، وكساي " بضم الكاف والسين المهمل " اسم الله عز وجل بلسانهم، ثم يغرق نفسه. فإذا مات أخرجوه وأحرقوه ورموا برماده في البحر المذكور. ولنعد إلى كلامنا الأول، فنقول: سافرنا من مدينة أجودهن فوصلنا بعد مسيرة أربعة أيام منها إلى مدينة سرستي " وضبط اسمها بسينين مفتوحين بينهما راء ساكنة ثم تاء مثناة مكسورة وياء " مدينة كبيرة كثيرة الأرز، وأرزها طيب ومنها يحمل إلى حضرة دهلي، ولها مجبى كثير جداً. أخبرني الحاجب شمس الدين البوشنجي بمقداره ونسيته. ثم سافرنا منها إلى مدينة حانسي " وضبط اسمها بفتح الحاء المهملة وألف ونون ساكن وسين مهمل مكسور وياء " وهي من أحسن المدن وأتقنها وأكثرها عمارة، ولها سور عظيم ذكروا أن بانيه رجل من كبار سلاطين الكفار يسمى تورة " بضم التاء المعلوة وفتح الراء ". وله عندهم حكايات وأخبار. من هذه المدينة كمال الدين صدر الجهان قاضي قضاة الهند، وأخوه قطلوخان معلم السلطان، وأخواهما نظام الدين وشمس الدين الذي انقطع إلى الله وجاور بمكة حتى مات. ثم سافرنا من حانسي فوصلنا بعد يومين إلى مسعود أباد. وهي على عشرة أميال من حضرة دهلي، وأقمنا بها ثلاثة أيام، وحانسي ومسعود أباد هما للملك المعظم هوشنج " بضم الهاء وفتح الشين المعجم وسكون النون وبعدها جيم " ابن الملك كمال كرك، وكرك " بكافين معقودين أولاهما مضمومة " ومعناه الذئب، وسيأتي ذكره. وكان سلطان الهند الذي قصدنا حضرته غائباً عنها بناحية مدينة قتوج، وبينها وبين حضرة دهلي عشرة أيام، وكانت بالحضرة والدته وتدعى المخدومة جهان، وجهان اسم الدنيا. وكان بها أيضاً وزيره خواجه جهان المسمى بأحمد بن إياس، الرومي الأصل. فبعث الوزير إلينا أصحابه ليتلقونا، وعين للقاء كل واحد منا من كان من صنفه. فكان من الذين عينهم للقائي الشيخ البسطامي، والشريف المازندراني وهو حاجب الغرباء، والفقيه علاء الدين الملتاني المعروف بقنرة " بضم القاف وفتح النون وتشديدها " وكتب إلى السلطان بخبرنا، وبعث الكتاب مع الدواة، وهي بريد الرجالة، حسبما ذكرناه، فوصل إلى السلطان، وأتاه الجواب في تلك الأيام الثلاثة التي أقمناها بمسعود أباد، وبعد تلك الأيام خرج إلى لقائنا القضاة والفقهاء والمشايخ وبعض الأمراء، وهم يسمون الأمراء ملوكاً. فحيث يقول أهل ديار مصر وغيرها الأمير يقولن هم الملك. وخرج إلى لقائنا الشيخ ظهير الدين الزنجاني، وهو كبير المنزلة عند السلطان. ثم رحلنا من مسعود أباد فنزلنا بمقربة من قرية تسمى بالم " بفتح الباء المعقودة وفتح اللام " وهي للسيد الشريف ناصر الدين مطهر الأوهري، أحد ندماء السلطان، وممن له عنده الحظوة التامة. وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى حاضرة دهلي قاعدة بلاد الهند "وضبط اسمها بكسر الدال المهمل وسكون الهاء وكسر اللام"، وهي المدينة العظيمة الشأن الضخمة الجامعة بين الحسن والحصانة، وعليها السور الذي لا يعلم له في بلاد الدنيا نظير، وهي أعظم مدن الهند بل مدن الإسلام كلها بالمشرق.
ذكر وصفها
ومدينة دهلي كبيرة الساحة كثيرة العمارة، وهي الآن أربع مدن متجاورات متصلات، إحداها المسماة بهذا الاسم دهلي، وهي القديمة من بناء الكفار. وكان افتتاحها سنة أربع وثمانين وخمسمائة، والثانية تسمى سيري " بكسر السين المهمل والراء بينهما ياء مد "، وتسمى أيضاً دار الخلافة، وهي التي أعطاها السلطان لغياث الدين حفيد الخليفة المستنصر العباسي لم قدم عليه، وبها كان سكنى السلطان علاء الدين وابنه قطب الدين، وسنذكرهما، والثالثة تسمى تغلق أباد باسم بانيها السلطان تغلق والد سلطان الهند الذي قدمنا عليه. وكان سبب بنائه لها أنه وقف يوماً بين يدي السلطان قطب الدين، فقال له: يا خوند عالم، كان ينبغي أن تبني هنا مدينة. فقال له السلطان متهكماً: إذا كنت سلطاناً فابنها. فكان من قدر الله أن كان سلطاناً فبناها، وسماها باسمه. والرابعة تسمى جهان بناه، وهي مختصة بسكنى السلطان محمد شاه ملك الهند الآن الذي قدمنا عليه. وهو الذي بناها. وكان أراد أن يضم هذه المدن الأربع تحت سور واحد فبنى منه بعضاً وترك بناء باقيه، لعظم ما يلزم في بنائه.
ذكر سور دهلي وأبوابها
والسور المحيط بمدينة دهلي لا يوجد له نظير. عرض حائطه أحد عشر ذراعاً. وفيه بيوت يسكنها السمار وحفاظ الأبواب. وفيها مخازن للطعام ويسمونها الأنبارات، ومخازن للعدد، ومخازن للمجانيق، والرعادات ويبقى الزرع بها مدة طائلة لا يتغير، ولا تطرقه آفة. ولقد شاهدت الأرز يخرج من بعض تلك المخازن ولونه قد اسود، ولكن طعمه طيب. ورأيت أيضاً الكذرو يخرج منها. وكل ذلك من اختزان السلطان بلبن منذ تسعين سنة. ويمشي في داخل السور الفرسان والرجال من أول المدينة إلى آخرها. وفيه طيقان مفتحة إلى جهة المدينة يدخل منها الضوء وأسفل هذا السور مبني بالحجارة، وأعلاه بالآجر، وأبراجه كثيرة متقاربة. ولهذه المدينة ثمانية وعشرون باباً، وهم يسمون الباب دروازة. فمنها دروازة بذاون، وهي الكبرى، ودروازة المندوي، وبها رحبة الزرع، ودروازة جل " بضم الجيم " وهي موضع البساتين، ودروازة شاه: اسم رجل، ودروازة بالم: اسم قرية قد ذكرناها، ودروازة نجيب: اسم رجل، ودروازة كمال كذلك، ودروازة غزنة، نسبة إلى مدينة غزنة التي في طرف خراسان، وبخارجها مصلى العيد وبعض المقابر، ودروازة البجالصة " بفتح الباء والجيم والصاد المهمل "، وبخارج هذه الدروازة مقابر دهلي، وهي مقبرة حسنة يبنون بها القباب. ولا بد عند كل قبر من محراب، وإن كان لا قبة له، ويزرعون بها الأشجار المزهرة مثل قل كل شنبو وريبول راي بيل والنسرين وسواها. والأزاهير هنالك لا تنقطع في فصل من الفصول.
ذكر جامع دهلي
وجامع دهلي كبير الساحة، حيطانه وسقفه وفرشه كل ذلك من الحجارة البيض المنحوتة، أبدع نحت، ملصقة بالرصاص أتقن إلصاقه، لا خشبة به أصلاً. وفيه ثلاث عشرة قبة من حجارة، ومنبره أيضاً من الحجر، وله أربعة من الصحون. وفي وسط الجامع العمود الهائل الذي لا يدرى من أي المعادن هو. ذكر لي بعض حكمائهم أنه سمي هفت جوش " بفتح الهاء وسكون الفاء وتاء معلوة وجيم مضموم وآخره شين معجم "، ومعنى ذلك سبعة معادن، وأنه مؤلف منها. وقد جلي من هذا العمود مقدار السبابة، ولذلك المجلو منه بريق عظيم، ولا يؤثر فيه الحديد. وطوله ثلاثون ذراعاً، وأدرنا به عمامة فكان الذي أحاط بدائرته منها ثماني أذرع. وعند الباب الشرقي من أبواب المسجد صنمان كبيران جداً من النحاس مطروحان بالأرض، وقد ألصقا بالحجارة، ويطأ عليها كل داخل إلى المسجد أو خارج منه. وكان موضع هذا المسجد بدخانة، وهو بيت الأصنام، فلما افتتحت جعل مسجداً، وفي الصحن الشمالي من المسجد الصومعة التي لا نظير لها في بلاد الإسلام. وهي مبنية بالحجارة الحمر، خلافاً لحجارة سائر المسجد، فإنها بيض. وحجارة الصومعة منقوشة، وهي سامية الارتفاع، وفحلها من الرخام الأبيض الناصع، وتفافيحها من الذهب الخالص، وسعة ممرها بحيث تصعد فيه الفيلة. حدثني من أثق به أنه رأى الفيل حين بنيت يصعد بالحجارة إلى أعلاها. وهي من بناء السلطان معز الدين ناصر الدين ابن السلطان غياث الدين بلبن. وأراد السلطان قطب الدين أن يبنى بالصحن الغربي صومعة أعظم منها، فبنى مقدار الثلث منها، واخترم دون تمامها. وأراد السلطان محمد إتمامها، ثم ترك ذلك تشاؤماً. وهذه الصومعة من عجائب الدينا في ضخامتها وسعة ممرها، بحيث تصعده ثلاثة من الفيلة متقارنة. وهذا الثلث المبني مساوٍ لارتفاع جميع الصومعة التي ذكرنا أنها بالصحن الشمالي. وصعدتها مرة فرأيت معظم دور المدينة، وعاينت الأسوار على ارتفاعها وسموها منحطة، وظهر لي الناس في أسفلها كأنهم الصبيان الصغار. ويظهر لناظرها من أسفلها أن ارتفاعها ليس بذلك، لعظم جرمها وسعتها. وكان السلطان قطب الدين أراد أن يبني أيضاً مسجداً جامعاً بسيري المسماة دار الخلافة، فلم يتم منه غير الحائط القبلي والمحراب، وبناؤه بالحجارة البيض والسود والحمر والخضر. ولو كمل لم يكن له مثل في البلاد. وأراد السلطان محمد إتمامه، وبعث عرفاء البناء ليقدروا النفقة فيه، فزعموا أنه ينفق في إتمامه خمسة وثلاثون لكا فترك ذلك استكثاراً له. وأخبرني بعض خواصه أنه لم يترك استكثاراً، لكنه تشاءم به لما كان السلطان قطب الدين قد قتل قبل تمامه.
ذكر الحوضين العظيمين بخارجها
وبخارج دهلي الحوض العظيم المنسوب إلى السلطان شمس الدين للمش، ومنه يشرب أهل المدينة، وهو بالقرب من مصلاها. وماؤها يجتمع من ماء المطر. وطوله نحو ميلين وعرضه على النصف من طوله. والجهة الغربية من ناحية المصلى مبنية بالحجارة مصنوعة أمثال الدكاكين، بعضها أعلى من بعض، وتحت كل دكان درج ينزل عليها إلى الماء، وبجانب كل دكان قبة حجارة فيها مجالس للمتنزهين والمتفرجين. وفي وسط الحوض قبة عظيمة من الحجارة المنقوشة مجعولة طبقتين. فإذا كثر الماء في الحوض، ولم يكن سبيل إليها إلا في القوارب، فإذا قل الماء دخل إليها الناس، وداخلها مسجد. وفي أكثر الأوقات يقيم بها الفقراء المنقطعون إلى الله المتوكلون عليه، وإذا جف الماء في جوانب هذا الحوض زرع فيها قصب السكر والخيار والقثاء والبطيخ الأخضر والأصفر وهو شديد الحلاوة صغير الجرم. وفيما بين دهلي ودار الخلافة حوض الخاص وهو أكبر من حوض السلطان شمس الدين. وعلى جوانبه نحو أربعين قبة، ويسكن حوله أهل الطرب، وموضعهم يسمى طرب أباد. ولهم سوق هنالك من أعظم الأسواق، ومسجد جامع ومساجد سواه كثيرة. وأخبرت أن النساء المغنيات لساكنات هنالك يصلين التراويح في شهر رمضان بتلك المساجد مجتمعات، ويؤم بهن الائمة، وعددهن كبير، وكذلك الرجال المغنون. ولقد شاهدت الرجال أهل الطرب في عرس الأمير سيف الدين غدا بن مهنا. لكل واحد منهم مصلى تحت ركبته، فاذا سمع الأذان قام فتوضأ وصلى.
ذكر بعض مزاراتها
فمنها قبر الشيخ الصالح قطب الدين بختيار الكعكي، وهو ظاهر البركة كثير التعظيم. وسبب تسمية هذا الشيخ بالكعكي أنه كان إذا أتاه الذين عليهم الديون شاكين من الفقر أو القلة، أو الذين لهم البنات ولم يجدوا ما يجهزوهن به إلى أزواجهن، يعطي من أتاه منهم كعكعة من الذهب أو من الفضة، حتى عرف من أجل ذلك بالكعكي رحمه الله، ومنها قبر الفقيه الفاضل نور الدين الكرلاني " بضم الكاف وسكون الراء والنون " ومنها قبر الفقيه علاء الدين الكرماني نسبة إلى كرمان، وهو ظاهر البركة ساطع النور ومكانه يظهر قبلة المصلى. وبذلك الموضع قبور رجال صالحين كثيرة نفع الله تعالى بهم.
ذكر بعض علمائها وصلحائها
فمنهم الشيخ الصالح العالم محمود الكبا " بالباء الموحدة "، وهو من كبار الصالحين. والناس يزعمون أنه ينفق من الكون، لأنه لا مال له ظاهر، وهو يطعم الوارد والصادر، ويعطي الذهب والدراهم والأثواب، وظهرت له كرامات كثيرة، واشتهر بها. رأيته مرات كثيرة، وحصلت لي بركته، ومنهم الشيخ الصالح العالم علاء الدين النيلي كأنه منسوب إلى نيل مصر، والله أعلم، كان من أصحاب الشيخ الصالح نظام الدين البزواني. وهو يعظ الناس في كل يوم جمعة، فيتوب كثير منهم بين يديه، ويحلقون رؤوسهم، ويتواجدون ويغشى على بعضهم.
حكاية شاهدته في بعض الأيام وهو يعظ. فقرأ القارئ بين يديه: " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزله الساعة شيءٌ عظيمٌ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديدٌ " . ثم كررها الفقيه علاء الدين. فصاح أحد الفقراء من ناحية المسجد صيحة عظيمة، فأعاد الشيخ الآية، فصاح الفقير ثانية ووقع ميتاً. وكنت فيمن صلى عليه، وحضر جنازته. ومنهم الشيخ الصالح العابد صدر الدين الكهراني " بضم الكاف وسكون الهاء وراء ونون " وكان يصوم الدهر ويقوم الليل وتجرد عن الدنيا جميعاً ونبذها، ولباسه عباءة. ويزوره السلطان وأهل الدولة، وربما احتجب عنهم. فرغب السلطان منه أن يقطعه قرى يطعم منها الفقراء والواردين فأبى ذلك. وزاره يوماً وأتى إليه بعشرة آلاف دينار فلم يقبلها وذكروا أنه لا يفطر إلا بعد ثلاث، وأنه قيل له في ذلك فقال: لا أفطر حتى اضطر، فتحل لي الميتة، ومنهم الإمام الصالح العالم العابد الورع الخاشع فريد دهره ووحيد عصره كمال الدين عبد الله الغاري " بالغين المعجم والراء " نسبة إلى غار كان يسكنه خارج دهلي بمقربة من زاوية الشيخ نظام الدين البذاوني زرته بهذا الغار ثلاث مرات.
كرامة له: كان لي غلام فأبق مني، وألفيته بيد رجل من الترك، فذهبت إلى انتزاعه من يده، فقال لي الشيخ: إن هذا الغلام لا يصلح لك فلا تأخذه. وكان التركي راغباً في المصالحة، فصالحته بمائة دينار أخذتها منه، وتركته له. فلما كان بعد ستة أشهر قتل سيده، وأتى به إلى السلطان، فأمر بتسليمه لأولاد سيده فقتلوه. ولما شاهدت لهذا الشيخ هذه الكرامة انقطعت إليه ولازمته وتركت الدنيا ووهبت جميع ما كان عندي للفقراء والمساكين وأقمت عنده مدة، فكنت أراه يواصل عشرة أيام وعشرين يوماً، ويقوم أكثر الليل. ولم أزل معه حتى بعث عني السلطان، ونشبت في الدنيا ثانية. والله تعالى يختم بالخير وسأذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى، وكيفية رجوعي إلى الدنيا.
ذكر فتح دهلي ومن تداولها من الملوك
حدثني الفقيه العالم العلامة قاضي القضاة بالهند والسند كمال الدين محمد بن البرهان الغزنوي الملقب بصدر الجهان، أنم مدينة دهلي افتتحت من أيدي الكفار في سنة أربع وثمانين وخمسمائة. وقد قرأت أنا ذلك مكتوباً على محراب الجامع الأعظم بها. وأخبرني أيضاً أنها افتتحت على يد الأمير قطب الدين أيبك " واسمه بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة "، وكان يلقب سياه " سالار "، ومعناه مقدم الجيوش. وهو أحد مماليك السلطان المعظم شهاب الدين محمد بن سنام الغوري ملك غزنة وخراسان، المتغلب على ملك إبراهيم بن السلطان الغازي محمود بن سبكتكين الذي ابتدأ فتح الهند. وكان السلطان شهاب الدين المذكور بعث الأمير قطب الدين بعسكر عظيم ففتح الله عليه مدينة لاهور. وسكنها وعظم شأنه، وسعى به إلى السلطان، وألقى إليه جلساؤه أنه يريد الانفراد بملك الهند، وأنه قد عصى وخالف. وبلغ هذا الخبر إلى قطب الدين فبادر بنفسه، وقدم على غزنة ليلاً، ودخل على السلطان، ولا علم عند الذين وشوا به إليه. فلما كان بالغد قعد السلطان على سريره، وأقعد أيبك تحت السرير، بحيث لا يظهر، وجاء الندماء والخواص الذين سعوا به. فلما استقر بهم الجلوس سألهم السلطان عن شأن أيبك، فذكروا له أن عصى وخالف، وقالوا: قد صح عندنا أنه ادعى الملك لنفسه. فضرب السلطان سريره برجله، وصفق بيديه وقال: يا أيبك، قال: لبيك، وخرج عليهم، فسقط في أيديهم، وفزعوا إلى تقبيل الأرض. فقال لهم السلطان: قد غفرت لكم هذه الزلة. وإياكم والعودة إلى الكلام في أيبك. وأمره أن يعود إلى بلاد الهند، فعاد إليها، وفتح مدينة دهلي وسواها. واستقر بها الإسلام إلى هذا العهد. وأقام قطب الدين بها إلى أن توفي.
ذكر السلطان شمس الدين للمش
" وضبط اسمه بفتح اللام الأولى وسكون الثانية وكسر الميم وشين معجم "، وهو أول من ولي الملك بمدينة دهلي مستقلاً به وكان قبل تملكه مملوكاً للأمير قطب الدين أيبك وصاحب عسكره نائباً عنه، فلما مات قطب الدين استبد بالملك، وأخذ الناس بالبيعة. فأتاه الفقهاء يقدمهم قاضي القضاة إذ ذاك وجيه الدين الكاساني، فدخلوا عليه وقعد بين يديه، وقعد القاضي إلى جانبه على العادة وفهم السلطان عنهم ما أرادوا أن يكلموه به، فرفع طرف البساط الذي هو قاعد عليه، وأخرج لهم عقداً يتضمن عتقه. فقرأه القاضي والفقهاء، وبايعوه جميعاً. واستقل بالملك، وكانت مدته عشرين سنة. وكان عادلاً صالحاً فاضلاً، ومن مآثره أنه اشتد في رد المظالم وإنصاف المظلومين وأامر أن يلبس كل مظلوم ثوباً مصبوغاً وأهل الهند جميعاً يلبسون البياض فكان متى قعد للناس أو ركب فرأى أحداً عليه ثوب مصبوغ نظر في قضيته وأنصفه ممن ظلمه ثم أنه أعيا في ذلك فقال: إن بعض الناس تجري عليهم المظالم بالليل، وأريد تعجيل إنصافهم، فجعل على باب قصره أسدين مصورين من الرخام موضوعين على برجين هنالك، وفي أعناقهما سلسلتان من الحديد فيهما جرس كبير، فكان المظلوم يأتي ليلاً فيحرك الجرس، فيسمعه السلطان وينظر في أمره للحين وينصفه. ولما توفي السلطان شمس الدين خلف من الأولاد الذكور ثلاثة وهم ركن الدين الوالي بعده، ومعز الدين، وناصر الدين، وبنتاً تسمى رضية وهي شقيقة معز الدين منهم فتولى بعده ركن الدين كما ذكرناه.
ذكر السلطان ركن الدين ابن السلطان شمس الدين
ولما بويع ركن الدين بعد موت أبيه افتتح أمره بالتعدي على أخيه معز الدين فقتله وكانت رضية شقيقته، فأنكرت ذلك عليه، فأراد قتلها. فلما كان في بعض أيام الجمع خرج ركن الدين إلى الصلاة. فصعدت رضية على سطح القصر القديم المجاور للجامع الأعظم، وهو يسمى دولة خانة، ولبست عليها ثياب المظلومين، وتعرضت للناس، وكلمتهم من أعلى السطح، وقالت لهم: إن أخي قتل أخاه، وهو يريد قتلي معه. وذكرتهم أيام أبيها وفعله الخير وإحسانه إليهم فثاروا عند ذلك إلى السلطان ركن الدين وهو في مسجد فقبضوا عليه وأتوا به إليها فقالت لهم: القاتل يقتل فقتلوه قصاصاً بأخيه وكان آخرهما ناصر الدين صغيراً فاتفق الناس على تولية رضية.
ذكر السلطانة رضية
ولما قتل ركن الدين اجتمعت العساكر على تولية أخته رضية الملك، فولوها. واستقلت بالملك أربع سنين وكانت تركب بالقوس والتركش والقربان، كما يركب الرجال ولا تستر وجهها، ثم إنها اتهمت بعبد لها من الحبشة فاتفق الناس على خلعها وتزويجها، فخلعت وزوجت من بعض أقاربها وولي الملك أخوها ناصر الدين.
ذكر السلطان ناصر الدين ابن السلطان شمس الدين
ولما خلعت رضية ولي ناصر الدين أخوها الأصغر، واستقل بالملك مدة. ثم إن رضية وزوجها خالفا عليه، وركبا في مماليكهما ومن تبعهما من أهل الفساد وتهيأ لقتاله، وخرج ناصر الدين معه مملوكه النائب عنه غياث الدين بلبن متولي الملك بعده فوقع اللقاء وانهزم عسكر رضية، وفرت بنفسها، فأدركها الجوع وأجهدها الإعياء، فقصدت حراثاً رأته يحرث الأرض، فطلبت منه ما تأكله، فأعطاها كسرة خبز فأكلتها، وغلب عليها النوم، وكانت في زي الرجال، فلما نامت نظر إليها الحراث وهي نائمة، فرأى تحت ثيابها قباء مرصعاً فعلم أنها امرأة فقتلها وسلبها وطرد فرسها ودفنها في فدانه، وأخذ بعض ثيابها فذهب إلى السوق يبيعها، فأنكر أهل السوق شأنه وأتوا به الشحنة، وهو الحاكم، فضربه فأقر بقتلها ودلهم على مدفنها فاستخرجوها وغسلوها وكفنوها ودفنت هنالك وبني عليها قبة وقبرها الآن يزار ويتبرك به ، وهو على شاطئ النهر الكبير المعروف بنهر الجون، على مسافة فرسخ واحد من المدينة. واستقل ناصر الدين بالملك بعدها، واستقام له الأمر عشرين سنة وكان ملكاً صالحاً ينسخ نسخاً من الكتاب العزيز ويبيعها فيقتات بثمنها. وقد وقفني القاضي كمال الدين على مصحف بخطه متقن محكم الكتابة، ثم إن نائبه غياث الدين بلبن قتله، وملك بعده ولبلبن هذا خبر ظريف نذكره.
ذكر السلطان غياث الدين بلبن
" وضبط اسمه بباءين موحدتين بينهما لام والجميع مفتوحات وآخرها نون "، ولما قتل بلبن مولاه السلطان ناصر الدين استقل بالملك بعده عشرين سنة، وقد كان قبلها نائباً له عشرين سنة أخرى وكان من خيار السلاطين، عادلاً حليماً فاضلاً. ومن مكارمه أنه بنى داراً، وسماها دار الأمن فمن دخلها من أهل الديون قضي دينه ومن دخلها خائفاً أمن، ومن دخلها وقد قتل أحداً أرضى عنه أولياء المقتول، ومن دخلها من ذوي الجنايات أرضى أيضاً من يطلبه. وبتلك الدار دفن لما مات. وقد زرت قبره.
حكاية
يذكر أن أحد الفقراء ببخارى رأى بها بلبن هذا وكان قصيراً حقيراً دميماً فقال له: يا تركك، وهي لفظة تعبر عن الاحتقار. فقال له: لبيك يا خوند، فأعجبه كلامه، فقال له: إشتر لي من هذا الرمان، وأشار إلى رمان يباع في بالسوق، فقال: نعم وأخرج فليسات لم يكن عنده سواها واشترى له من ذلك الرمان. فلما أخذها الفقير قال له: وهبناك ملك الهند. فقبل بلبن يد نفسه، وقال: قبلت ورضيت واستقر ذلك في ضميره، واتفق أن بعث السلطان شمس الدين للمش تاجراً يشتري له المماليك بسمرقند وبخارى وترمذ فاشترى مائة مملوك كان من جملتهم بلبن، فلما دخل بالمماليك على السلطان أعجبه جميعهم إلا بلبن، لما ذكرناه من دمامته فقال: لا أقبل هذا فقال له بلبن: يا خوند عالم لمن اشتريت هؤلاء المماليك ? فضحك منه وقال: اشتريتهم لنفسي. فقال: اشترني أنا لله عز وجل. فقال: نعم وقبله وجعله في جملة المماليك فاحتقر شأنه وجعل في السقائين وكان أهل المعرفة بعلم النجوم يقولون للسلطان شمس الدين: إن أحد مماليكه يأخذ الملك من يد ابنك ويستولي عليه ولا يزالون يلقون ذلك، وهو لا يلتفت إلى أقوالهم لصلاحه وعدله، إلى أن ذكر ذلك للخاتون الكبرى أم أولاده فذكرت له ذلك، وأثر في نفسه، وبعث على المنجمين فقال: أتعرفون المملوك الذي يأخذ ملك ابني إذا رأيتموه ? فقالوا له: نعم عندنا علامة نعرفه بها فأمر السلطان بعرض مماليكه، وجلس لذلك فعرضوا بين يديه طبقة طبقة، والمنجمون ينظرون إليهم ويقولون: لم نره بعد، وحان وقت الزوال، فقال السقاءون بعضهم لبعض: إنا قد جعنا، فلنجمع شيئاً من الدراهم، ونبعث أحدنا إلى السوق ليشتري لنا ما نأكله فجمعوا الدراهم، وبعثوا بها بلبن، إذ لم يكن فيهم أحقر منه. فلم يجد بالسوق ما أرادوه فتوجه إلى سوق أخرى وأبطأ وجاءت نوبة السقائين في العرض وهو لم يأت بعد، فأخذوا زقه وماعونه وجعلوه على كاهل صبي، وعرضوه على أنه بلبن فلما نودي اسمه جاز الصبي بين أيديهم وانقضى العرض. ولم ير المنجمون الصورة التي يطلبونها. وجاء بلبن بعد تمام العرض، لما أراد الله من إنفاذ قضائه. ثم إنه ظهرت نجابته، فجعل أمير السقائين، ثم صار من جملة الأجناد، ثم من الأمراء، ثم تزوج السلطان ناصر الدين بنته قبل أن يلي الملك ولما ولي الملك جعله نائباً عنه مدة عشرين سنة، ثم قتله بلبن واستولى على ملكه عشرين سنة أخرى كما تقدم ذكر ذلك، وكان للسلطان بلبن ولدان أحدهما الخان الشهيد ولي عهده، وكان والياً لأبيه ببلاد السند، ساكناً بمدينة ملتان وقتل في حرب له مع التتر، وترك ولدين: كي قباد وكي خسرو. وولد السلطان بلبن الثاني يسمى ناصر الدين، وكان والياً لأبيه ببلاد اللكنوتي وبنجالة. فلما استشهد الخان الشهيد جعل السلطان بلبن العهد إلى ولده كي خسرو، وعدل به عن ابن نفسه ناصر الدين وكان لناصر الدين كذلك ولد ساكن بحضرة دهلي مع جده بيسمى معز الدين، وهو الذي تولى الملك بعد جده في خبر عجيب نذكره، وأبوه إذ ذاك حي كما ذكرناه.
ذكر السلطان معز الدين بن ناصر
ابن السلطان غياث الدين بلبن

ولما توفي السلطان غياث الدين ليلاً، وابنه ناصر الدين غائب ببلاده اللكنوتي، وجعل العهد لابن ابنه الشهيد كي خسرو، حسبما قصصناه، كان ملك الأمراء نائب السلطان غياث الدين عدواً لكي خسرو فأراد عليه حيلة تمت، وهي أنه كتب بيعة دلس فيها على خطوط الأمراء الكبار بأنهم بايعوا السلطان معز الدين حفيد السلطان بلبن ودخل على كي خسرو كالمتنصح له فقال له: إن الأمراء قد بايعوا ابن عمك، وأخاف عليك منهم. فقال كي خسروا: فما الحيلة ? قال: انج بنفسك هارباً إلى بلاد السند فقال: وكيف الخروج والأبواب مسدودة ? قال له: إن المفاتيح بيدي، وأنا أفتح لك فشكره على ذلك وقبل يده، وقال له: اركب الآن، فركب في خاصته ومماليكه، وفتح له الباب وأخرجه، وسد في أثره، واستأذن على معز الدين فبايعه، فقال: كيف لي بذلك وولاية العهد لابن عمي ? فأعلمه بما أدار عليه من الحيلة، وبإخراجه. فشكره على ذلك ومضى به إلى دار الملك، وبعث إلى الأمراء والخواص فبايعوا ليلاً فلما أصبح بايعه سائر الناس واستقام له الملك وكان أبوه حياً ببلاد بنجالة واللكنوتي فاتصل به الخبر فقال: أنا وارث الملك وكيف يلي ابني الملك ويستقل به وأنا بقيد الحياة ? فتجهز في جيوشه قاصداً حضرة دهلي، وتجهز ولده في جيوشه كذلك قاصداً لمدافعته عنها، فتوفيا معاً بمدينة كرا، وهي على ساحل نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه فنزل ناصر الدين على شاطئه مما يلي كرا ونزل ولده السلطان معز الدين مما يلي الجهة الأخرى، والنهر بينهما وعزما على القتال، ثم أن الله تعالى أراد حقن دماء المسلمين، فألقى في قلب ناصر الدرين الرحمة لآبنه وقال: إذا ملك ولدي فذلك شرف، وأنا أحق أن أرغب في ذلك، وألقى في قلب السلطان معز الدين الضراعة لأبيه فركب كل واحد منهما منفرداً عن جيوشه، والتقيا في وسط النهر فقبل السلطان رجل أبيه واعتذر له. فقال له أبوه: قد وهبتك ملكي ووليتك وبايعه وأراد الرجوع إلى بلاده فقال له ابنه: لا بد لك من الوصول إلى بلادي، فمضى معه إلى دهلي، ودخل القصر وأقعده أبوه على سرير الملك ووقف بين يديه وسمي ذلك اللقاء الذي كان بينهما بالنهر: لقاء السعدين، لما كان فيه من حقن الدماء، وتواهب الملك والتجافي عن المنازعة. وأكثرت الشعراء في ذلك. وعاد ناصر الدين إلى بلاده، فمات بها بعد سنين وترك بها ذرية منهم غياث الدين بهادور الذي أسره السلطان تغلق وأطلقه ابنه محمد بعد وفاته، واستقام الملك لمعز الدين أربعة أعوام بعد ذلك وكانت كالأعياد. رأيت بعض من أدركها يصف خيراتها ورخص أسعراها، وجود معز الدين وكرمه وهو الذي بني الصومعة بالصحن الشمالي من جامع دهلي ولا نظير لها في البلاد. وحكى لي بعض أهل الهند أن معز الدين كان يكثر النكاح والشرب، فاعتلته علة أعجز الأطباء دواؤها، ويبس أحد شقيه فقام عليه نائبه جلال الدين فيروزشاة الخلجي " بفتح الخاء المعجم واللام والجيم ".
ذكر السلطان جلال الدين
ولما اعترى السلطان معز الدين ما ذكرناه من يبس أحد شقيه خالف عليه نائبه جلال الدين وخرج إلى ظاهر المدينة فوقف على تل هنالك بجانب قبة تعرف بقبة الجيشاني. فبعث معز الدين الأمراء لقتاله، فكان كل من يبعثه منهم يبايع جلال الدين ويدخل في جملته ثم دخل المدينة وحصره في القصر ثلاثة أيام. وحدثني من شاهد ذلك أن السلطان معز الدين أصابه الجوع في تلك الأيام، فلم يجد ما يأكله، فبعث إليه أحد الشرفاء من جيرانه ما أقام أوده، ودخل عليه القصر فقتل، وولي بعده جلال الدين وكان حليماً فاضلاً، وحلمه أداه إلى القتل، كما سنذكره واستقام له الملك سنين وبنى القصر المعروف باسمه، وهو الذي أعطاه السلطان محمد لصهره الأمير غدا بن مهنا، لما زوجه، بأخته، وسيذكر ذلك، فكان للسلطان جلال الدين ولد اسمه ركن الدين، وابن أخ اسمه علاء الدين زوجه بابنته وولاه مدينة كرا ومانكبور ونواحيها، وهي من أخصب بلاد الهند كثيرة القمح والأرز والسكر وتصنع بها الثياب الرفيعة، ومنها تجلب إلى دهلي، وبينهما مسيرة ثمانية عشر يوماً وكانت زوجة علاء الدين تؤذيه، فلا زال يشكوها إلى عمه السلطان جلال الدين حتى وقعت الوحشة بينهما بسببها وكان علاء الدين شهماً شجاعاً مظفراً منصوراً، وحب الملك ثابت في نفسه، إلا أنه لم يكن له مال إلا ما يستفيده بسيفه من غنائم الكفار. فاتفق أنه ذهب مرة إلى الغزو ببلاد الدويقير، وتسمى بلاد الكتكة أيضاً وسنذكرها، وهي كرسي بلاد المالوه والمرهتة، وكان سلطانها أكبر سلاطين الكفار، فعثرت بعلاء الدين بتلك الغزوة دابة له عند حجر فسمع له طنيناً، فأمر بالحفر هنالك فوجد تحته كنزاً عظيماً، ففرقه في أصحابه ووصل إلى الدويقير، فأذعن له سلطانها بالطاعة، ومكنه من المدينة من غير حرب وأهدى له هدايا عظيمة فرجع إلى المدينة كرا، ولم يبعث إلى عمه شيئاً من الغنائم فأغرى الناس عمه به فبعث إليه، فامتنع من الوصول إليه فقال السلطان جلال الدين أنا أذهب إليه وآتي به فإنه محل ولدي فتجهز في عساكره وطوى المراحل حتى حل بساحل مدينة كرا، حيث نزل السلطان معز الدين لما خرج إلى لقاء أبيه ناصر الدين، وركب النهر برسم الوصول إلى ابن أخيه، وركب ابن أخيه أيضاً في مركب ثان عازماً على الفتك به وقال لأصحابه: إذا أنا عانقته فاقتلوه فلما التقيا وسط النهر عانقه ابن أخيه وقتله أصحابه كما وعدهم، واحتوى على ملكه وعساكره.
ذكر السلطان علاء الدين محمد شاه الخلجي
ولما قتل عمه استقل بالملك، وفر إليه أكثر عساكر عمه، وعاد بعضهم إلى دهلي، واجتمعوا على ركن الدين وخرج إلى دفاعه فهربوا جميعاً إلى السلطان علاء الدين، وفر ركن الدين إلى السند، ودخل علاء الدين دار الملك، واستقام له الأمر عشرين سنة. وكان من خيار السلاطين وأهل الهند يثنون عليه كثيراً، وكان يتفقد أمور الرعية بنفسه، ويسأل عن أسعارهم، ويحضر المحتسب وهم يسمونه الرئيس في كل يوم برسم ذلك ويذكر أنه سأله يوماً عن سبب غلاء اللحم، فأخبره أنه ذلك لكثرة المغرم على البقر في المرتب فأمر برفع ذلك، وأمر بإحضاره التجار وأعطاهم الأموال وقال لهم: اشتروا بها البقر والغنم وبيعوها، ويرتفع ثمنها لبيت المال، ويكون لكم أجرة على بيعها ففعلوا ذلك، وفعل مثل هذا في الأثواب التي يؤتى بها من دولة أباد وكان إذا غلا ثمن الزرع فتح المخازن وباع الزرع حتى يرخص السعر. ويذكر أن السعر ارتفع ذات مرة فأمر ببيع الزرع بثمن عينه، فامتنع الناس من بيعه بذلك الثمن، فأمر ألا يبيع أحد زرعاً غير زرع المخزن وباع للناس ستة أشهر، فخاف المحتكرون فساد زرعهم بالسوس فرغبوا أن يؤذن لهم على أن يبيعوه بأقل من القيمة الأولى التي امتنعوا من بيعه بها. وكان لا يركب لجمعة ولا لعيد ولا سواهما وسبب ذلك إنه كان له ابن أخ يسمى سليمان شاه وكان يحبه ويعظمه، فركب يوماً إلى الصيد وهو معه، وأضمر في نفسه أن يفعل ما فعل هو بعمه جلال الدين من الفتك فلما نزل للغداء، رماه بنشابة فصرعه وغطاه بعض عبيده بترس وأتى ابن أخيه ليجهز عليه، فقال له العبيد: إنه قد مات فصدقهم وركب فدخل القصر على الحرم وأفاق السلطان علاء الدين من غشيته وركب، واجتمعت العساكر عليه، وفر ابن أخيه فأدرك وأتي به إليه فقتله، وكان بعد ذلك لا يركب. وكان له من الأولاد خضر خان وشادي خان وأبو بكر خان ومبارك خان، وهو قطب الدين الذي ولي الملك، وشهاب الدين. وكان قطب الدين مهتضماً عنده ناقص الحظ قليل الحظوة وأعطى جميع إخوته المراتب، وهي الأعلام والأطبال، ولم يعطه شيئاً؛ وقال له يوماً، لا بد أن أعطيك مثل ما أعطيت إخوتك فقال له: الله هو الذي يعطيني فهال أباه هذا الكلام وفزع منه. ثم إن السلطان اشتد عليه المرض، وكانت زوجته أم ولده خضر خان، وتسمى ماه حق، والماه القمر بلسانهم، لها أخ يسمى سنجر، فعاهدت أخاها على تمليك ولدها خضر خان وعلم بذلك ملك نائب أكبر أمراء السلطان، وكان يسمى الألفي، لأن السلطان إشتراه بألف تنكة، وهي ألفان وخمسمائة من دنانير المغرب، فوشى إلى السلطان بما اتفقوا عليه، فقال لخواصه إذا دخل علي سنجر فإني معطيه ثوباً، فإذا لبسه، فأمسكوا بأكمامه واضربوا به الأرض واذبحوه فلما دخل عليه فعلوا ذلك وقتلوه وكان خضر خان غائباً، بموضع يقال له: سندبت، على مسيرة يوم من دهلي، توجه لزيارة شهداء مدفونين به، لنذر كان عليه أن يمشي تلك المسافة راجلاً ويدعو لوالده بالراحة. فلما بلغه أن أباه قتل خاله حزن عليه حزناً شديداً ومزق جيبه، وتلك عادة لأهل الهند يفعلونها إذا مات لهم من يعز عليهم، فبلغ والده ما فعله فكره ذلك، فلما دخل عليه عنفه ولامه، وأمر به فقيدت يداه ورجلاه، وسلمه لملك نائب المذكور، وأمره أن يذهب إلى حصن كاليور وضبطه " بفتح الكاف المعقودة وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وآخره راء " ويقال له أيضاً كيالير بزيادة ياء ثانية، وهو حصن منقطع بين كفار الهنود منيع على مسيرة عشر من دهلي، وقد سكنته أنا مدة، فلما أوصله إلى هذا الحصن سلمه للكتوال وهو أمير الحصن، وللمفردين وهم الزماميون، وقال لهم: لا تقولوا هذا ابن السلطان فتكرموه، إنما هو أعدى عدو له، فاحفظوه كما يحفظ العدو. ثم إن المرض اشتد بالسلطان فقال الملك نائب: ابعث من يأتي بابني خضر خان لأوليه العهد: فقال له نعم وماطله بذلك فمتى سأل عنه، قال: هو ذا يصل إلى أن توفي السلطان رحمه الله.
ذكر ابنه السلطان شهاب الدين
ولما توفي السلطان علاء الدين اقعد ملك نائب ابنه الأصغر شهاب الدين على سرير الملك، وبايعه الناس، وتغلب ملك نائب عليه، وسمل أعين أبي بكر خان وشادي خان، وبعث بهما إلى كاليور، وأمر بسمل عيني أخيهما خضر خان المسجون هنالك، وسجنوا وسجن قطب الدين، لكنه لم تسمل عيناه. وكان للسلطان علاء الدين مملوكان من خواصه، يسمى أحدهما ببشير والآخر بمبشر، فبعثت إليهما الخاتون الكبرى زوجة علاء الدين، وهي بنت السلطان معز الدين، فذكرتهما بنعمة مولاهما، وقالت: إن هذا الفتى ملك نائب قد فعل في أولادي ما تعلمانه، وأنه يريد أن يقتل قطب الدين. فقالا لهما: سترين ما نفعل، وكانت عادتهما أن يبيتا عند نائب ملك ويدخلا عليه بالسلاح، فدخلا عليه تلك الليلة وهو في بيت من الخشب مكسو بالملف يسمونه الخرمقة ينام في أيام المطر فوق سطح القصر، فاتفق أنه أخذ السيف من يد أحدهما فقلبه ورده إليه، فضربه به المملوك وثنى عليه صاحبه، واحتزا رأسه وأتيا به إلى مجلس قطب الدين، فرمياه بين يديه، وأخرجاه. فدخل على أخيه شهاب الدين وأقام بين يديه أياماً كأنه نائب له، ثم عزم خلعه فخلعه.
ذكر السلطان قطب الدين ابن السلطان علاء الدين
وخلع قطب الدين أخاه شهاب الدين وقطع إصبعه، وبعث به إلى كاليور فحبس مع إخوته. واستقام الملك لقطب الدين. ثم إنه بعد ذلك خرج من حضرة دهلي إلى دولة أباد، وهي على مسيرة أربعين يوماً منها. والطريق بينهما تكنفه الأشجار من الصفصاف وسواه. فكأن الماشي به في بستان. وفي كل ميل منه ثلاث داوات، وهي البريد وقد ذكرنا ترتيبه، وفي كل داوة جميع ما يحتاج المسافر إليه. فكأنه يمشي في سوق مسيرة الأربعين يوماً. وكذلك يتصل الطريق إلى بلاد التلنك. والمعبر مسيرة ستة أشهر. وفي كل منزلة قصر للسلطان وزاوية للوارد والصادر، فلا يفتقر الفقير إلى حمل زاد في ذلك الطريق. ولما خرج السلطان قطب الدين في هذه الحركة اتفق بعض الأمراء على الخلاف عليه وتولية ولد أخيه خضر خان المسجون، وسنه نحو عشرة أعوام، وكان مع السلطان. فبلغ السلطان ذلك، فأخذ ابن أخيه المذكور وأمسك برجليه، وضرب برأسه إلى الحجارة حتى نثر دماغه وبعث أحد الأمراء ويسمى ملك شاه إلى كاليور حيث أبو هذا الولد وأعمامه وأمره بقتلهم جميعاً. فحدثني القاضي زين الدين مبارك قاضي هذا الحصن قال: قدم عاينا ملك شاه ضحوة يوم، وكنت عند خضر خان بمحبسه، فلما سمع بقدومه خاف وتغير لونه. ودخل عليه الأمير فقال له: فيم جئت ? قال: في حاجة خوند عالم. فقال له: نفسي سالمة، فقال: نعم، وخرج عنه واستحضر الكتوال وهو صاحب الحصن والمفردين وهم الزماميون، وكانوا ثلاثمائة رجل، وبعث عني وعن العدول، واستظهر بأمر السلطان فقرأوه، وأتوا إلى شهاب الدين المخلوع فضربوا عنقه وهو متثبت غير جزع، ثم ضربوا عنق أبي بكر خان وشادي خان، ولما أتوا ليضربوا عنق خضر خان فزع وذهل، وكانت أمه معه فسدوا الباب دونها، وقتلوه وسحبوهم جميعاً في حفرة بدون تكفين ولا غسل. واخرجوا بعد سنين فدفنوا بمقابر آبائهم. وعاشت أم خضر خان مدة، ورايتها بمكة سنة ثمان وعشرين. وحصن كاليور هذا في رأس شاهق كأنه منحوت من الصخر لا يحاذيه جبل، وبداخله جباب الماء ونحو عشرين بئراً عليها الأسوار مضافة إلى الحصن، منصوباً عليها المجانيق والرعادات. ويصعد إلى الحصن في طريق متسعة يصعدها الفيل والفرس. وعند باب الحصن صورة فيل منحوت من الحجر وعليه صورة فيال. وإذا رآه الإنسان على بعد لم يشك أنه فيل حقيقة. وأسفل الحصن مدينة حسنة مبنية كلها بالحجارة البيض المنحوتة، مساجدها ودورها، ولا خشب فيها ماعدا الأبواب. وكذلك دار الملك بها والقباب والمجالس. وأكثر سوقتها كفار، وفيها ستمائة فارس من جيش السلطان لا يزالون في جهاد، لأنها بين الكفار. ولما قتل قطب الدين إخوته واستقل بالملك، ولم يبق من ينازعه ولا من يخالف عليه بعث الله تعالى عليه من خاصته، الحظي لديه أكبر أمرائه وأعظمهم منزله عنده ناصر الدين خسرو خان ففتك به وقتله واستقل بملكه، إلا أن مدته لم تطل بالملك، فبعث الله تعالى عليه من قتله بعد خلعه السلطان تغلق، حسبما يشرح كله مستوفى إن شاء الله تعالى إثر هذا ونسطره.
ذكر السلطان خسروخان ناصر الدين

وكان خسروخان من أكبر أمراء قطب الدين، وهو شجاع حسن الصورة، وكان فتح بلاد جنديري وبلاد المعبر، وهي من أخصب بلاد الهند. وبينهما وبين دهلي مسيرة ستة أشهر. وكان قطب الدين يحبه حباً شديداَ ويؤثره، فجر ذلك حتفه على يديه. وكان لقطب الدين معلم يسمى قاضي خان صدر الجهان، وهو أكبر أمرائه وكليت " كليد " دار، وهو صاحب مفاتيح القصر. وعادته أن يبيت كل ليلة على باب السلطان ومعه أهل النوبة، وهم ألف رجل يبيتون مناوبة بين أربع ليال، ويكونون صفين فيما بين أبواب القصر، وسلاح كل واحد منهم بين يديه، فلا يدخل أحد إلا فيما بين سماطيهم. وإذا تم الليل أتى أهل نوبة النهار. ولأهل النوبة أمراء وكتاب يتطوفون عليهم ويكتبون من غاب منهم أو حضر. وكان معلم السلطان قاضي خان يكره أفعال خسرو خان، ويسوءه ما يراه من إيثاره لكفار الهنود وميله إليهم، وأصله منهم. ولا يزال يلقي ذلك إلى السلطان فلا يسمع منه ويقول له دعه وما يريد، لما أراد الله من قتله على يده. فلما كان في بعض الأيام قال خسرو خان للسلطان: إن جماعة من الهنود يريدون أن يسلموا. ومن عادتهم في تلك البلاد أن الهندي إذا أراد الإسلام أدخل إلى السلطان فيكسوه كسوة حسنة ويعطيه قلادة أو أساور من ذهب على قدره، فقال له السلطان: ائتني بهم. فقال: إنهم يستحيون أن يدخلوا إليك نهاراً لأجل أقربائهم وأهل ملتهم. فقال له: ائتني بهم ليلاً. فجمع خسرو خان جماعة من شجعان الهنود وكبرائهم، فيهم أخوه خان خانان، وذلك أوان الحر، والسلطان ينام فوق سطح القصر، ولا يكون عنده في ذلك الوقت إلا بعض الفتيان. فلما دخلوا الأبواب الأربعة وهم شاكو السلاح ووصلوا إلى الباب الخامس، وعليه قاضي خان، أنكر شأنهم، وأحس بالشر. فمنعهم من الدخول وقال: لا بد أن أسمع من خوند عالم بنفسي الإذن في دخولهم، وحينئذ يدخلون. فلما منعهم من الدخول هجموا عليه فقتلوه. وعلت الضجة بالباب، فقال السلطان: ما هذا ? فقال خسرو خان: هم الهنود الذين أتوا ليسلموا، فمنعهم قاضي خان من الدخول. وزاد الضجيج، فخاف السلطان وقام يريد الدخول إلى القصر، وكان بابه مسدوداً، والفتيان عنده فقرع الباب واحتضنه خسرو خان من خلفه، وكان السلطان أقوى منه فصرعه. ودخل الهنود فقال لهم خسرو خان: هو ذا فوقي فاقتلوه، فقتلوه وقطعوا رأسه ورموا به من سطح القصر إلى صحنه. وبعث خسرو خان من حينه إلى الأمراء والملوك وهم لا يعلمون بما اتفق. فكلما دخلت طائفة وجده على سرير الملك فبايعوه ولما أصبح أعلن بأمره، وكتب المراسم وهي الأوامر إلى جميع البلاد. وبعث لكل أمير خلعة فطاعوا له جميعاً. وأذعنوا إلى تغلق شاه ولد السلطان محمد شاه، وكان إذا ذاك وأميراً بدبال بور، من بلاد السند. فلما وصلته خلعة خسرو خان طرحها بالأرض، وجلس فوقها. وبعث إليه أخاه خان خانان فهزمهم. ثم آل أمره إلى أن قتله كما سنشرحه في أخبار تغلق. ولما ملك خسرو خان أثر الهنود، وأظهر أموراً منكرة، منها النهي عن ذبح البقر على قاعدة كفار الهنود، فإنهم لا يجيزون ذبحها، وجزاء من ذبحها عندهم أن يخاط في جلدها ويحرق. وهم يعظمون البقر ويشربون أبوالها للبركة، وللاستشفاء إذا مرضوا. ويلطخون بيوتهم وحيطانهم بأرواثها. وكان ذلك مما بغض خسرو خان إلى المسلمين وأمالهم عنه إلى تغلق، فلم تطل مدة ولايته ولا امتدت أيام ملكه كما سنذكره.
ذكر السلطان غياث الدين تغلق شاه

" وضبط اسمه بضم التاء المعلوة وسكون الغين المعجم وضم اللام وآخره قاف " حدثني الشيخ الإمام الصالح العالم العامل العابد ركن الدين ابن الشيخ الصالح شمس الدين أبي عبد الله ابن الولي الإمام العالم العابد بهاء الدين زكريا القرشي الملتاني بزاويته. أن السلطان تغلق كان من الأتراك المعروفين بالقرونة " بفتح القاف والراء وسكون الواو وفتح النون "، وهم قانطون بالجبال التي بين بلاد السند والترك. وكان ضعيف الحال، فقدم بلاد السند في خدمة بعض التجار، وكان كلوانياً له، والكلواني " بضم الكاف المعقود " هو راعي الخيل " جلوبان "، وذلك على أيام السلطان علاء الدين، وأمير السند إذ ذاك أخوه أولوخان " بضم الهمزة واللام " فخدمه تغلق، وتعلق بجانبه، فرتبه في البياة " بكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف "، وهم الرجالة. ثم ظهرت نجابته فأثبت في الفرسان، ثم كان من الأمراء الصغار وجعله أولوخان أمير خيله. ثم كان بعد ذلك من الأمراء الكبار، وسمي بالملك الغازي، ورأيت مكتوباً على مقصورة الجامع بملتان، وهو الذي أمر بعملها، إني قاتلت التتر تسعاً وعشرين مرة، فهزمتهم. فحينئذ سميت بالملك الغازي. ولما ولي قطب الدين ولاه مدينة دبال بور وعمالتها " وهي بكسر الدال المهمل وفتح الباء الموحدة "، وجعل ولده الذي هو الآن سلطان الهند أمير خيله، وكان يسمى جونه " بفتح الجيم والنون " ولما ملك تسمى بمحمد شاه. ثم لما قتل قطب الدين وولي خسرو خان أبقاه الله على إمارة الخيل. فلما أراد تغلق الخلاف كان له ثلاثمائة من أصحابه الذين يعتمد عليهم في القتال، وكتب إلى كشلوخان، وهو يومئذ بملتان، وبينهما وبين دبال بور ثلاثة أيام، يطلب منه القيام بنصرته، ويذكره نعمة قطب الدين، ويحرضه على طلب ثأره. وكان ولد كشلو خان بدهلي فكتب إلى تغلق أنه لو كان ولدي عندي لأعنتك على ما تريد. فكتب تغلق إلى ولده محمد شاه يعلمه بما عزم عليه، ويأمره أن يفر إليه ويستصحب معه ولد كشلو خان، فأدار ولده الحيلة على خسرو خان. وتمت له كما أراد، فقال له: إن الخيل قد سمنت وتبدنت وهي تحتاج البراق وهو التضمير، فأذن له في تضميرها. فكان يركب كل يوم في أصحابه فيسير بها الساعة والساعتين والثلاث، واستمر إلى أربع ساعات، إلى أن غاب يوماً إلى وقت الزوال، وذلك وقت طعامهم، فأمر السلطان بالركوب في طلبه، فلم يوجد له خبر. ولحق بأبيه واستصحب معه ولد كشلو خان. وحينئذ أظهر تغلق الخلاف، وجمع العساكر وخرج معه كشلو خان في أصحابه، وبعث السلطان أخاه خان خانان لقتالهما، فهزماه شر هزيمة، وفر عسكره إليهما، ورجع خان خانان إلى أخيه، وقتل أصحابه، وأخذت خزائنه وأمواله وقصد تغلق حضرة دهلي.
وخرج إليه خسروخان في عساكره، ونزل بخارج دهلي بموضع يعرف بآصيا أباد " آسياباد " ومعنى ذلك رحى الريح، وأمر بالخزائن ففتحت، وأعطى الأموال بالبدر، لا بوزن ولا عد. ووقع اللقاء بينه وبين تغلق، وقاتلت الهنود أشد قتال. وانهزمت عساكر تغلق، ونهبت محلته، وانفرد في أصحابه الأقدمين الثلاثمائة، فقال لهم: إلى أين الفرار حيثما أدركنا قتلنا، واشتغلت عساكر خسرو خان بالنهب، وتفرقوا عنه ولم يبق معه الا قليل. فقصد تغلق وأصحابه موقفه، والسلطان هنالك يعرف بالشطر " جتر " الذي يرفع فوق رأسه، وهو الذي يسمى بديار مصر القبة، والطير، ويرفع بها في الأعياد. وأما بالهند والصين فلا يفارق السلطان في سفر ولا حضر. فلما قصده تغلق وأصحابه حمي القتال بينهم وبين الهنود. وانهزم أصحاب السلطان ولم يبق معه أحد، وهرب فنزل عن فرسه ورمى بثيابه وسلاحه، وبقي في قميص واحد، وأرسل شعره بين كتفيه كما يفعل فقراء الهند، ودخل بستاناً هنالك. واجتمع الناس على تغلق، وقصد المدينة، فأتاه الكتوال بالمفاتيح، ودخل القصر ونزل بناحية منه وقال لكشلو خان: أنت تكون السلطان. فقال كشلو خان: بل أنت تكون السلطان. وتنازعا، فقال له كشلو خان: فإن أبيت أن تكون سلطاناً فيتولى ولدك. فكره هذا، وقبل حينئذ، وقعد على سرير الملك وبايعه الخاص والعام، ولما كان بعد ثلاث اشتد لجوع بخسرو خان، وهو مختف بالبستان، فخرج وطاف به فوجد القيم فسأله طعاماً فلم يكن عنده فأعطاه خاتمه وقال: اذهب فارهنه في طعام فلما ذهب بالخاتم إلى السوق أنكر الناس أمره ورفعوه إلى الشحنة وهو الحاكم فأدخله على السلطان تغلق فأعلمه بمن دفع إليه الخاتم. فبعث ولده محمداً ليأتي به فقبض عليه وأتاه به راكباً على تتو " بتائين مثناتين أولاهما مفتوحة والثانية مضمومة "، وهو البرذون. فلما مثل بين يديه قال له: إني جائع فأتني بطعام. فأمر له بالشربة ثم الطعام ثم بالقفاع ثم بالتنبول. فلما أكل قام قائماً وقال: يا تغلق افعل معي فعل الملوك، ولا تفضحني. فقال له: لك ذلك. وأمر به فضربت رقبته وذلك في الموضع الذي قتل هو به قطب الدين، ورمي برأسه وجسده من أعلى السطح كما فعل هو برأس قطب الدين، وبعد ذلك أمر بغسله وتكفينه. ودفن في مقبرته، واستقام الملك لتغلق أربعة أعوام. وكان عادلاً فاضلاً.
ذكر ما رامه ولده من القيام عليه فلم يتم له ذلك ولما استقر تغلق بدار الملك بعث ولده ليفتح بلاد التلنك " وضبطها بكسر التاء المعلوة واللام وسكون النون وكاف معقودة " وهي على مسيرة ثلاثة أشهر من مدينة دهلي. وبعث معه عسكراً عظيماً فيه كبار الامراء، مثل الملك تمور " بفتح التاء المعلوة وضم الميم وآخره راء " ومثل الملك تكين " بكسر التاء المعلوة والكاف وآخره نون " ومثل ملك كافور والمهردار " بضم الميم " ومثل ملك بيرم " بالباء الموحدة مفتوحة والياء أخر الحروف والراء مفتوحة " وسواهم. فلما بلغ إلى أرض التلنك أراد المخالفة. وكان له نديم من الفقهاء الشعراء يعرف بعبيد، فأمره أن يلقي إلى الناس أن السلطان تغلق توفي، وظنه أن الناس يبايعونه مسرعين إذا سمعوا ذلك. فلما ألقى ذلك إلى الناس أنكره الأمراء، وضرب كل واحد منهم طبله وخالف، فلم يبق معه أحد. وأرادوا قتله، فمنعهم منه ملك تمور، وقام دونه. ففر إلى أبيه في عشرة من الفرسان سماهم ياران موافق، ومعناه الأصحاب الموافقون. فأعطاه أبوه الأموال والعساكر وأمره بالعود إلى تلنك فعاد إليها. وعلم أبوه بما كان أراد. فقتل الفقيه عبيداً، وأمر بملك كافور المهردار فدق له عمود في الأرض محدود الطرف، وركز في عنقه حتى خرج من جنبه طرفه، ورأسه، إلى أسفل. وترك على تلك الحال. وفر من بقي من الأمراء إلى السلطان شمس الدين ابن السلطان ناصر الدين ابن السلطان غياث الدين بلبن، واستقروا عنده.
ذكر مسير تغلق إلى بلاد اللكنوتي وما اتصل لذلك إلى وفاته وأقام الأمراء الهاربون عند السلطان شمس الدين، ثم إن شمس الدين توفي، وعهد لولده شهاب الدين فجلس مجلس أبيه. ثم غلب عليه أخوه الأصغر غياث الدين بهادور، بورة، ومعناه بالهندية الأسود، واستولى على الملك، وقتل أخاه قطلوخان وسائر إخوته. وفر شهاب الدين وناصر الدين منهم إلى تغلق، فتجهز معهما لقتال أخيهما، وخلف ولده محمداً نائباً عنه في ملكه، وجد السير إلى بلاد اللكنوتي فانتصر عليها، وأسر سلطانها غياث الدين بهادور، وقدم به أسيراً إلى حاضرة ملكه. وكان بمدينة دهلي الوالي نظام الدين البذواني، ولا يزال محمد شاه ابن السلطان يتردد إليه. ويعظم خدامه، ويسأله الدعاء. وكان يأخذ الشيخ حالٌ تغلب عليه. فقال ابن السلطان لخدامه؛ إذا كان الشيخ في حاله التي تغلب عليه فأعلموني بذلك. فلما أخذته الحال أعلموه فدخل عليه، فلما رآه الشيخ قال: وهبنا لك الملك، ثم توفي الشيخ في أيام غيبة السلطان. فحمل ابنه محمد نعشه على كاهله، فبلغ ذلك أباه فأنكره وتوعده. وكان قد رأى منه أموراً، ونقم عليه استكثاره من شراء المماليك، وإجزاله العطايا، واستجلاله قلوب الناس، فزاد حنقه عليه. وبلغه أن المنجمين زعموا أنه لا يدخل مدينة دهلي بعد سفره ذلك فتوعده. ولما عاد من سفره وقرب من الحاضرة أمر ولده أن يبني له قصراً، وهم يسمونه الكشك " بضم الكاف وشين معجم مسكن " على واد هنالك يسمى أفغان بور، فبناه في ثلاثة أيام. وجعل أكثر بنائه بالخشب، مرتفعاً على الأرض، قائماً على سواري خشب، وأحكمه بهندسة تولى النظر فيها الملك زاده المعروف بعد ذلك بخواجه جهان، واسمه أحمد بن إياس، كبير وزراء السلطان محمد، وكان إذ ذاك شحنة العمارة. وكانت الحكمة التي اخترعوها فيه أنه متى وطئت الفيلة جهة منه وقع ذلك القصر وسقط. ونزل السلطان بالقصر وأطعم الناس وتفرقوا. واستأذنه ولده في أن يعرض الفيلة بين يديه وهي مزينة فأذن له. وحدثني الشيخ ركن الدين أنه كان يومئذ مع السلطان ومعهما ولد السلطان المؤثر لديه محمود، فجاء محمد ابن السلطان فقال للشيخ: يا خوند هذا وقت العصر، انزل فصل، قال لي الشيخ: فنزلت. وأتي بالأفيال من جهة واحدة حسبما دبروه، فلما وطئتها سقط الكشك على السلطان وولده محمود، قال الشيخ: فسمعت الضجة، فعدت ولم أصل، فوجدت الكشك قد سقط. فأمر ابنه أن يؤتى بالفؤوس والمساحي للحفر عنه، وأشار بالإبطاء، فلم يؤت بهما إلا وقد غربت الشمس. فحفروا ووجدوا السلطان قد حنى ظهره على ولده ليقيه الموت. فزعم بعضهم أنه خرج ميتاً وزعم بعضهم أنه أخرج حياً فأجهز عليه، وحمل ليلاً إلى مقبرته التي بناها خارج البلدة المسماة باسمه تغلق أباد فدفن بها. وقد ذكرنا السبب في بنائه لهذه المدينة. وبها كانت خزائن تغلق وقصوره، وبه القصر الأعظم الذي جعل قراميده مذهبة، فإذا طلعت الشمس كان لها نور عظيم وبصيص يمنع البصر من إدامة النظر إليها، واختزن بها الأموال الكثيرة. ويذكر أنه صهريجاً وأفرغ فيه الذهب إفراغاً، فكان قطعة واحدة. فصرف جميع ذلك ولده محمد شاه لما ولي، وبسبب ما ذكرناه من هندسة الوزير خواجه جهان في بناء الكشك الذي سقط على تغلق، وكانت حظوته عند ولده محمد شاه وإيثاره، فلم يكن أحد يدانيه في المنزلة لديه، ولا يبلغ مرتبته عنده من الوزراء ولا غيرهم.
ذكر السلطان أبي المجاهد محمد شاه ابن السلطان
غياث الدين تغلق شاه ملك الهند والسند الذي قدمنا عليه
ولما مات السلطان تغلق استولى ابنه محمد على الملك من غير منازع له ولا مخالف عليه. وقد قدمنا أنه كان اسمه جونه. فلما ملك تسمى بمحمد، واكتنى بأبي المجاهد. وكل ما ذكرت من شأن سلاطين الهند، فهو مما أخبرت به وتلقيته أو معظمه من الشيخ كمال الدين بن البرهان الغزنوي قاضي القضاة. وأما أخبار هذا الملك فمعظمها مما شاهدته أيام كوني ببلاده.
ذكر وصفه

هذا الملك أحب الناس في إسداد العطايا وإراقة الدماء. فلا يخلو بابه عن فقير يغنى أو حي يقتل. وقد شهرت في الناس حكاياته في الكرم والشجاعة، وحكاياته في الفتك والبطش بذوي الجنايات. وهو أشد الناس مع ذلك تواضعاً وأكثرهم إظهاراً للعدل والحق. وشعائر الدين عنده محفوظة. وله اشتداد في أمر لصلاة والعقوبة على تركها. وهو من الملوك الذين اطردت سعادتهم، وخرق المعتاد يمن نقيبتهم. ولكن الأغلب عليه الكرم. وسنذكر من أخباره فيه عجائب لم يسمع بمثلها عمن تقدمه. وأما أشهد بالله وملائكته ورسله أن جميع ما أنقله عنه من الكرم الخارق للعادة حق يقين وكفى بالله شهيداً، وأعلم أن بعض مآثره من ذلك لا يسوغ في عقل كثير من الناس ويعدونه من قبيل المستحيل عادة، ولكنه شيء عاينته وعرفت صحته وأخذت بحظ وافر منه. لا يسعني إلا قول الحق فيه. وأكثر ذلك ثابت بالتواتر في بلاد المشرق.
ذكر أبوابه ومشوره وترتيب ذلك
ودار السلطان بدهلي تسمى دار سرى " بفتح السين المهمل والراء "، ولها أبواب كثيرة. أما الباب الأول فعليه جملة من الرجال موكلون به، ويقعد به أهل الأنفار والأبواق والصرنايات. فإذا جاء أمير أو كبير ضربوها، ويقولون في ضربهم: جاء فلان. وكذلك أيضاً في البابين الثاني والثالث. وبخارج الباب الأول دكاكين يقعد عليها الجلادون، وهم الذين يقتلون الناس. فإن العادة عندهم أنه متى أمر السلطان بقتل أحد قتل على باب المشور، ويبقى هنا ثلاثاً. وبين البابين الأول والثاني دهليز كبير، فيه دكاكين مبنية من جهتيه، يقعد عليها أهل النوبة من حفاظ الأبواب. وأما الباب الثاني فيقعد عليه البوابون الموكلون به. وبينه وبين الباب الثالث دكانة كبيرة يقعد عليها نقيب النقباء، وبين يديه عمود ذهب يمسكه بيده، وعلى رأسه كلاه من الذهب مجوهرة في أعلاها ريش الطواويس، والنقباء بين يديه على رأس كل واحد منهم شاشية مذهبة، وفي وسطه منطقة، وبيده سوطاً نصابه من ذهب أو فضة، ويفضي هذا الباب الثاني إلى مشور كبير متسع يقعد به الناس. وأما الباب الثالث فعليه دكاكين يقعد فيها كتاب الباب. ومن عوائدهم أن لا يدخل على هذا الباب أحد إلا من عينه السلطان لذلك. ويعين لكل إنسان عدد من أصحابه. وناسه يدخلون معه. وكل من يأتي إلى هذا الباب يكتب الكتاب أن فلاناً جاء في الساعة الفلانية من الساعات إلى آخر النهار، ويطالع السلطان بذلك بعد العشاء الآخرة. ويكتبون أيضاً بكل ما يحدث من الباب من الأمور. وقد عين من أبناء الملوك من يوصل ما يكتبونه إلى السلطان. ومن عوائدهم أيضاً أنه من غاب عن دار السلطان ثلاثة أيام فصاعداً لعذر أو لغير عذر، فلا يدخل هذا الباب بعدها إلا بإذن من السلطان. فإن كان له عذر من مرض أو غيره، قدم بين يديه هدية مما يناسب إهداءها إلى السلطان. وكذلك القادمون من الأسفار. فالفقيه يهدي المصحف والكتاب، وشبه الفقير يهدي المصلى والسبحة والمسواك ونحوها، والأمراء ومن أشبههم يهدون الخيل والجمال والسلاح. وهذا الباب الثالث يفضي إلى المشور الهائل الفسيح المسمى هزار أسطون " بفتح الهاء والزاي وألف وراء " ومعنى ذلك ألف سارية، وهو سواري من خشب مدهونة، عليها سقف خشب منقوش أبدع نقش، يجلس الناس تحتها. وبهذا المشور يجلس السلطان الجلوس العام.
ذكر ترتيب جلوسه

أكثر جلوسه بعد العصر، وربما جلس أول النهار. وجلوسه على مصطبة مفروشة بالبياض فوقها مرتبة. ويجعل خلف ظهره مخدة كبيرة، وعن يمينه متكأ، وعن يساره مثل ذلك. وقعوده كجلوس الإنسان للتشهد في الصلاة، وهو جلوس أهل الهند كلهم. فإذا جلس وقف أمامه الوزير، ووقف الكتاب خلف الوزير، وخلفهم الحجاب، وكبير الحجاب هو فيروز ملك ابن عم السلطان ونائبه، وهو أدنى الحجاب من السلطان، ثم يتلوه خاص حاجب، ثم يتلوه نائب خاص حاجب، ووكيل الدار ونائبه، وشرف الحجاب وسيد الحجاب، وجماعة تحت أيديهم. ثم يتلو الحجاب النقباء، وهم نحو مائة. وعند جلوس السلطان ينادي الحجاب والنقباء بأعلى أصواتهم: بسم الله. ثم يقف على رأس السلطان الملك الكبير قبولة وبيده المذبة يشرد بها الذباب، ويقف مائة من السلحدارية عن يمين السلطان ومثلهم عن يساره، بأيديهم الدرق والسيوف والقسي. ويقف في الميمنة والميسرة بطول المشور قاضي القضاة ويليه خطيب الخطباء ثم كبار الفقهاء ثم كبار الشرفاء والمشايخ ثم إخوة السلطان وأصهاره ثم الأمراء الكبار ثم كبار الأعزة وهم الغرباء ثم القواد. ثم يؤتى بستين فرساً مسرجة ملجمة بجهازات سلطانية، فمنها ما هو بشعار الخلافة، وهي التي لجمها ودوائرها من الحرير الأسود المذهب، ومنها ما يكون من الحرير الأبيض المذهب. ولا يركب بذلك غير السلطان، فيوقف النصف من هذه الخيل عن اليمين والنصف عن الشمال، بحيث يراها السلطان. ثم يؤتى بخمسين فيلاً مزينة بثياب الحرير والذهب، مكسوة أنيابها بالحديد إعداداً لقتل أهل الجرائم، وعلى عنق كل فيل فياله وبيده شبه الطبرزين من الحديد يؤدبه به، ويقومه لما يراد منه، وعلى ظهر كل فيل شبه الصندوق العظيم يسع عشرين من المقاتلة، وأكثر من ذلك ودونه على حسب ضخامة الفيل وعظم جرمه، وفي أركان هذا الصندوق أربعة أعلام مركوزة. وتلك الفيلة معلمة أن تخدم السلطان وتحط رؤوسها. فإذا خدمت قال الحجاب: بسم الله بأصوات عالية. ويوقف أيضاً نصفها عن اليمين ونصفها عن الشمال خلف الرجال الواقفين. وكل من يأتي من الناس المعينين للوقوف في الميمنة أو الميسرة يخدم عند موقف الحجاب ويقول: بسم الله. ويكون ارتفاع أصواتهم بقدر ارتفاع صوت الذي يخدم. فإذا خدم انصرف إلى موقفه من الميمنة أو الميسرة لا يتعداه، ومن كان من كفار الهنود يخدم، ويقول له الحجاب والنقباء: هداك الله، ويقف عبيد السلطان من وراء الناس كلهم، بأيديهم الترسة والسيوف، فلا يمكن الدخول بينهم إلا بين يدي الحجاب القائمين بين يدي السلطان.
ذكر دخول الغرباء وأصحاب الهدايا إليه
وإن كان بالباب أحد ممن قدم على السلطان بهدية دخل الحجاب إلى السلطان على ترتيبهم، يقدمهم أمير حاجب ونائبه خلفه، ثم خاص حاجب ونائبه خلفه، ثم وكيل الدار ونائبه، ثم سيد الحجاب وشرف الحجاب، ويخدمون في ثلاثة مواضع. ويعلمون السلطان بمن في الباب. فإذا أمرهم أن يأتوا به جعلوا الهدية التي ساقها بأيدي الرجال يقومون بها أمام الناس بحيث يراها السلطان ويستدعى صاحبها، فيخدم قبل الوصول إليه ثلاث مرات، ثم يخدم عند موقف الحجاب. فإن كان رجلاً كبيراً وقف في صف أمير حاجب، وإلا وقف خلفه. ويخاطبه السلطان بنفسه ألطف خطاب ويرحب به. وإن كان ممن يستحق التعظيم فإنه يصافحه أو يعانقه، ويطلب بعض هديته فتحضر بين يديه. فإن كانت من السلاح أو الثياب قلبها بيده، وأظهر استحسانها جبراً لخاطر مهديها وإيناساً له ورفقاً به، وخلع عليه، وأمر له بماءٍ لغسل رأسه، على عادتهم في ذلك بمقدار ما يستحقه المهدي.
ذكر دخول هدايا عماله إليه
وإذا أتى العمال بالهدايا والأموال المجتمعة من مجابي البلاد صنعوا الأواني من الذهب والفضة مثل الطسوت والأباريق وسواها، وصنعوا من الذهب والفضة قطعاً شبه الآجر يسمونها الخشت " بكسر الخاء المعجمة وسكون الشين المعجم وتاء معلوة "، ويقف العراشون، وهن عبيد السلطان صفاً، والهدية بأيديهم. كل واحد منهم ممسك قطعة، ثم يقدم الفيلة إن كان في الهدية شيء منها، ثم الخيل المسرجة الملجمة، ثم الجمال عليها الأموال. ولقد رأيت الوزير خواجه جهان قدم هديته ذات يوم حين قدم السلطان من دولة أباد، ولقيه بها في ظاهر مدينة بيانة، فأدخلت الهدية إليه على هذا الترتيب. ورأيت في جملتها صينية مليئة بأحجار الياقوت وصينية مليئة بأحجار الزمرد وثالثة باللؤلؤ الفاخر. وكان حاجي كاون ابن عم السلطان أبي سعيد ملك العراق حاضراً عنده حين ذلك، فأعطاه حظاً منها. وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ذكر خروجه للعيدين وما يتصل بذلك
واذا كانت ليلة العيد بعث السلطان إلى الملوك والخواص وأرباب الدولة والاعزة والكتاب والحجاب والنقباء والقواد والعبيد وأهل الأخبار الخلع التي تعمهم جميعاً. فإذا كانت صبيحة العيد زينت الفيلة بالحرير والذهب والجواهر، ويكون منها ستة عشر فيلاً لا يركبها أحد، إنما هي مختصة بركوب السلطان. ويرفع عليها ست عشر شطراً " جترا " من الحرير مرصعة بالجوهر، قائمة كل شطر منها ذهب خالص. وعلى كل فيل مرتبة حرير مرصعة بالجوهر. ويركب السلطان فيلاً منها، وترفع أمامة الغاشية وهي ستارة سرجة، وتكون مرصعة بأنفس الجوهر. ويمشي بين يديه عبيده ومماليكه. وكل واحد منهم تكون على رأسه شاشية ذهب، وعلى وسطه منطقة ذهب، وبعضهم يرصعها بالجوهر. ويمشي بين يديه أيضاً النقباء، وهم نحو ثلثمائة. وعلى رأس كل واحد منهم أقروف ذهب، وعلى وسطه منطقة ذهب، وفي يده مقرعة نصابها ذهب، ويركب قاضي القضاة صدر الجهان كمال الدين الغزنوي وقاضي القضاة صدر الجهان ناصر الدين الخوارزمي وسائر القضاة وكبار الأعزة من الخراسانيين والعراقيين والشاميين والمصريين والمغاربة، كل واحد منهم على مطية، وجميع الغرباء عندهم يسمون الخراسانيين، ويركب المؤذنون على الفيلة وهم يكبرون. ويخرج السلطان من باب القصر على هذا الترتيب، والعساكر تنتظره، كل أمير بفوجه على حدة معه طبوله وأعلامه، فيقدم السلطان وأمامه من ذكرناه المشاة، وأمامهم القضاة والمؤذنون يذكرون الله تعالى، وخلف السلطان مراتبه وهي الأعلام والطبول والأبواق والأنفار والصرنايات، وخلفهم جميع أهل دخلته، ثم يتلوهم أخو السلطان مبارك خان بمراتبه وعساكره، ثم يليه ابن أخ السلطان بهرام خان بمراتبه وعساكره، ثم يليه ابن عمه ملك فيروز بمراتبه وعساكره، ثم يليه الوزير بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك مجير بن ذي الرجا بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك الكبير قبولة بمراتبه وعساكره، وهذا الملك كبير القدر عنده عظيم الجاه كثير المال، أخبرني صاحب ديوانه ثقة الملك علاء الدين على المصري المعروف بابن الشرايشي أن نفقته ونفقة عبيدة ومراتبهم ستة وثلاثون لكاً في السنة، ثم يليه الملك نكبية بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك بغرة بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك مخلص بمراتبه وعساكره، وهؤلاء هم الأمراء الكبار الذين لا يفارقون السلطان، وهم الذين يركبون معه يوم العيد بالمراتب، ويركب غيرهم من الأمراء دون مراتب. وجميع من يركب في ذلك اليوم يكون مدرعاً هو وفرسه. وأكثر مماليك السلطان؛ فإذا وصل السلطان إلى باب المصلى وقف على بابه، وأمر بدخول القضاة وكبار الأمراء وكبار الأعزة، ثم ينزل السلطان، ويصلي الإمام ويخطب. فإن كان عيد الأضحى أتى السلطان بجمل فنحره برمح يسمونه النيزة " بكسر النون وفتح الزاي " بعد أن يجعل على ثيابه فوطة توقياً من الدم، ثم يركب الفيل ويعود إلى قصره.
ذكر جلوسه يوم العيد
وذكر السرير الأعظم والمبخرة العظمى
ويفرش القصر يوم العيد، ويزين بأبدع الزينة. وتضرب الباركة على المشور كله وهي شبه خيمة عظيمة، تقوم على أعمدة ضخام كثيرة، تحفها القباب من كل ناحية، ويصنع به أشجار من حرير ملون فيها شبه الأزهار، ويجعل منها ثلاثة صفوف بالمشور. ويجعل بين كل شجرتين كرسي ذهب عليه مرتبة مغطاة، وينصب السرير الأعظم في صدر المشور وهو من الذهب الخالص كله مرصع القوائم بالجواهر، طوله ثلاثة وعشرون شبراً وعرضه نحو النصف من ذلك، وهو منفصل، وتجمع قطعة فتتصل، وكل قطعة منها يحملها جملة رجال لثقل الذهب، وتجعل فوق المرتبة، ويرفع الشطر المرصع بالجواهر على رأس السلطان. وعندما يصعد على السرير ينادي الحجاب والنقباء بأصوات عالية: بسم الله. ثم يتقدم الناس للسلام. فأولهم القضاة والخطباء والعلماء والشرفاء والمشايخ وإخوة السلطان وأقاربه وأصهاره، ثم الأعزة ثم الوزير ثم أمراء العساكر ثم شيوخ المماليك ثم كبار الأجناد. يسلم واحد إثر واحد من غير تزاحم ولا تدافع. ومن عوائدهم في يوم العيد أن كل من بيده قرية منعم بها عليه يأتي بدنانير ذهب مصرورة في خرقة مكتوب عليها اسمه فيلقيها في طست ذهب هنالك فيجتمع منها مال عظيم يعطيه السلطان لمن شاء.
فإذا فرغ الناس من السلام، وضع لهم الطعام على حسب مراتبهم، وينصب في ذلك اليوم المبخرة العظمى، وهي شبه برج من خالص الذهب منفصلة، فإذا أرادوا اتصالها وصلوها. وتحمل القطعة الواحدة منها جملة من الرجال، وفي داخلها ثلاثة بيوت يدخل فيها المبخرون بوقود العود القماري والقاقلي والعنبر الأشهب والجاوي، حتى يعم دخانها المشور كله. ويكون بأيدي الفتيان براميل الذهب والفضة مملوءة بماء الورد وماء الزهر، يصبونه على الناس صباً. وهذا السرير وهذه المبخرة لا يخرجان إلا في العيدين خاصة. ويجلس السلطان في بقية أيام العيد على سرير ذهب دون ذلك. وتنصب باركة بعيدة لها ثلاثة أبواب، يجلس السلطان في داخلها. ويقف على الباب الأول منها عماد الملك سرتيز، وعلى الباب الثاني الملك نكبية، وعلى الباب الثالث يوسف بغرة، ويقف على اليمين أمراء المماليك السلحدارية، وعن اليسار كذلك. ويقف الناس على مراتبهم، وشحنة الباركة ملك طغى بيده عصى ذهب، وبيد نائبه عصا فضة يرتبان الناس ويسويان الصفوف، ويقف الوزير والكتاب خلفه ويقف الحجاب والنقباء، ثم يأتي أهل الطرب، فأولهم بنات الملوك الكفار من هنود المسبيات في تلك السنة فيغنين ويرقصن ويهبهن السلطان للأمراء والأعزة، ثم يأتي بعدهن سائر بنات الكفار، فيغنين ويرقصن ويهبهن لإخوته وأقاربه وأصهاره وأبناء الملوك، ويكون جلوس السلطان لذلك بعد العصر. ثم يجلس في اليوم الذي بعده بعد العصر أيضاً على ذلك الترتيب ويؤتى بالمغنيات فيغنين ويرقصن ويهبهن لأمراء المماليك. وفي اليوم الثالث يزوج أقاربه وينعم عليهم. وفي اليوم الرابع يعتق العبيد. وفي اليوم الخامس يعتق الجواري، وفي اليوم السادس يزوج العبيد بالجواري، واليوم السابع يعطي الصدقات ويكثر منها.
ذكر ترتيبه إذا قدم من سفره
وإذا قدم السلطان من أسفاره، زينت الفيلة، ورفعت على ستة عشر فيلاً منها ستة عشر شطراً، منها مزركش ومنها مرصع، وحملت أمامه الغاشية، وهي الستارة المرصعة بالجوهر النفيس، وتصنع قباب الخشب مقسومة على طبقات وتكسى بثياب الحرير. ويكون في كل طبقة الجواري المغنيات، عليهن أجمل لباس وأحسن حلية، ومنهن رواقص. ويحصل في وسط كل قبة حوض كبير، مصنوع من الجلود، مملوء بماء الجلاب محلولاً بالماء، يشرب منه جميع الناس من وارد وصادر وبلدي أو غريب، وكل من يشرب منه يعطى التنبول والفوفل، ويكون ما بين القباب مفروشاً بثياب الحرير، يطأ عليها مركب السلطان. وتزين حيطان الشارع الذي يمر به من باب المدينة إلى باب القصر بثياب الحرير. ويمشي أمامه المشاة من عبيده وهم آلاف. وتكون الأفواج والعساكر خلفه. ورأيته في بعض قدماته على الحضرة، وقد نصبت ثلاث أو أربع من الرعادات الصغار على الفيلة، ترمي بالدنانير والدراهم على الناس، فيلتقطونها من حين دخوله إلى المدينة حتى وصل إلى قصره.
ذكر ترتيب الطعام الخاص
والطعام بدار السلطان على صنفين: طعام الخاص وطعام العام. فأما الخاص فهو طعام السلطان الذي يأكل منه. وعادته أن يأكل في مجلسه مع الحاضرين، ويحضر لذلك الأمراء والخواص وأمير حاجب ابن عم السلطان وعماد الملك سرتيز، وأمير مجلس. ومن شاء السلطان تشريفه أو تكريمه من الأعزة أو كبار الأمراء دعاه فأكل معهم. وربما أراد أيضاً تشريف أحد من الحاضرين، فأخذ إحدى الصحاف بيده، وجعل عليها خبزة ويعطيه اياها، فيأخذها المعطى، ويجعلها على كفه اليسرى، ويخدم بيده اليمنى إلى الأرض. وربما بعث من ذلك الطعام إلى من هو غائب عن المجلس، فبخدم كما يصنع الحاضرون، ويأكله مع من حضره. وقد حضرت مرات الطعام الخاص، فرأيت جملة الذين يحضرون له نحو عشرين رجلاً.
ذكر ترتيب الطعام العام
وأما الطعام العام فيؤتى به من المطبخ، وأمامه النقباء يصيحون: بسم الله. ونقيب النقباء أمامهم، بيده عمود ذهب، ونائبه معه بيده عمود فضة، فإذا دخلوا من الباب الرابع، وسمع من بالمشور أصواتهم، قاموا قياماً أجمعين، ولا يبقى أحد قاعداً إلا السلطان وحده. فإذا وضع الطعام بالأرض، اصطفت النقباء صفاً، ووقف أميرهم وتكلم بكلام يمدح فيه السلطان ويثني عليه، ثم يخدم ويخدم النقباء لخدمته، ويخدم جميع من بالمشور من كبير و صغير. وعادتهم أنه من سمع كلام نقيب النقباء حين ذلك وقف إن كان ماشياً، ولزم موقفه إن كان واقفاً، ولا يتحرك أحد، ولا يتزحزح عن مقامه، حتى يفرغ ذلك الكلام. ثم يتكلم أيضاً نائبه كلاماً نحو ذلك، ويخدم النقباء وجميع الناس مرة ثانية. وحينئذ يجلسون، ويكتب كتاب الباب معرفين بحضور الطعام. وإن كان السلطان قد علم بحضوره، ويعطي المكتوب لصبي من أبناء الملوك موكل بذلك، فيأتي به إلى السلطان فإذا قرأه عين من شاء من كبار الأمراء لترتيب الناس وإطعامهم. وطعامهم الرقاق والشواء والأقراص ذات الجوانب المملوءة بالحلواء، والأرز والدجاج والسمك، وقد ذكرنا ذلك وفسرنا ترتيبهم وعادتهم، أن يكون في صدر سماط الطعام القضاة والفقهاء والخطباء والشرفاء والمشايخ، ثم أقارب السلطان، ثم الأمراء الكبار، ثم سائر الناس. ولا يقعد أحد إلا في موضع معين له، فلا يكون بينهم تزاحم ألبتة. فإذا جلسوا أتي الشربدارية وهم السقاة بأيديهم أواني الذهب والفضة والنحاس والزجاج مملوءة بالنبات المحلول بالماء، فيشربون ذلك قبل الطعام. فإذا شربوا، قال الحجاب: بسم الله، ثم يشرعون في الأكل ويجعل أمام كل إنسان من جميع ما يحتوي عليه السماط، يأكل منه وحده، ولا يأكل أحد مع أحد من طبق واحد. فإذا فرغوا من الأكل أتوا بالفقاع في أكواز القصدير. فإذا أخذوه قال الحجاب: بسم الله، ثم يؤتى بأطباق التنبول والفوفل، فيعطى كل واحد غرفة من الفوفل المهشوم، وخمس عشرة ورقة من التنبول مجموعة مربوطة بخيط حرير أحمر. فإذا أخذ الناس التنبول قال الحجاب: بسم الله، فيقفون جميعاً، ويخدم الأمير المعين للإطعام، ويخدمون لخدمته، ثم ينصرفون. وطعامهم مرتان في اليوم الواحد إحداهما قبل الظهر والأخرى بعد العصر.
ذكر بعض أخباره في الجود والكرم
وإنما أذكر منها ما حضرته وشاهدته وعاينته، ويعلم الله تعالى صدق ما أقول، وكفى به شهيداً. مع أن الذي أحكيه مستفيض متواتر. والبلاد التي تقرب من أهل الهند كاليمن وخراسان وفارس مملوءة بأخباره، يعلمونها حقيقة، ولا سيما جوده على الغرباء، فإنه يفضلهم على أهل الهند ويؤثرهم، ويجزل لهم الإحسان، ويسبغ عليهم الإنعام، ويوليهم الخطط الرفيعة، ويوليهم المواهب العظيمة. ومن إحسانه إليهم أنه سماهم الأعزة، ومنع من أن يدعوا الغرباء، وقال: إن الرجل إذا دعي غريباً انكسر خاطره وتغير حاله. وسأذكر بعضاً مما لا يحصى من عطاياه الجزيلة ومواهبه ان شاء الله تعالى.
ذكر عطائه لشهاب الدين الكازروني وحكايته
كان شهاب الدين هذا صديقاً لملك التجار الكازروني الملقب ببرويز. وكان السلطان قد أقطع ملك التجار مدينة كنباية، ووعده أن يوليه الوزارة. فبعث الى صديقه شهاب الدين ليقدم عليه، فأتاه، وأعد هدية للسلطان، وهي سراجة من الملف المقطوع المزين بورقة الذهب، وصيوان مما يناسبها، وخباء وتابع وخباء راحة، كل ذلك من الملف المزين وبغال كثيرة. فلما قدم شهاب الدين بهذه الهدية على صاحبه ملك التجارة، وجده آخذاً في القدوم على الحضرة بما اجتمع عنده من مجابي بلاده وبهدية للسلطان.
وعلم الوزير خواجه جهان بما وعده به السلطان من ولاية الوزراة، فغار من ذلك وقلق بسببه. وكانت بلاد كنباية والجزرات قبل تلك المدة في ولاية الوزير، لأهلها تعلق بجانبه وانقطاع إليه وتخدم له. وأكثرهم كفار، وبعضهم عصاة يمتنعون بالجبال. فدس الوزير إليهم أن يضربوا على ملك التجار إذا خرج إلى الحضرة.
فلما خرج بالخزائن والأموال ومعه شهاب الدين بهديته، نزلوا يوماً عند الضحى على عادتهم، وتفرقت العساكر، ونام أكثرهم. فضرب عليهم الكفار في جمع عظيم، فقتلوا ملك التجار، وسلبوا الأموال والخزائن وهدية شهاب الدين، ونجا هو بنفسه. وكتب المخبرون إلى السلطان بذلك، فأمر ان يعطى شهاب الدين من مجبى بلاد نهروالة ثلاثين ألف دينار، ويعود إلى بلاده. فعرض عليه ذلك، فأبى من قبوله، وقال: ما قصدي إلا رؤية السلطان وتقبيل الأرض بين يديه. فكتبوا إلى السلطان بذلك، فأعجبه قوله، وأمر بوصوله إلى الحضرة مكرماً. وصادف يوم دخوله على السلطان يوم دخولنا نحن عليه، فخلع علينا جميعاً وأمر بإنزالنا. وأعطي شهاب الدين عطاء جزلاً. فلما كان بعد ذلك أمر لي السلطان بستة آلاف تنكة، كما سنذكره، وسأل في ذلك اليوم عن شهاب الدين أين هو ? فقال له بهاء الدين ابن الفلكي: يا خوند عالم نميدا ثم، معناه ما ندري، ثم قال شنيدم زحمت دارد "دار " معناه سمعت أن به مرضاً. فقال له السلطان: بروهمين زمان در خزانة يك لك تنكة زربكزي أوبيش أوبيري تادل أوخش " خوض " شود، معناه إمش الساعة إلى الخزانة، وخذ منها مائة الف تنكة من الذهب، واحملها إليه، حتى يبقى خاطره طيباً. ففعل ذلك، فأعطاه إياها. وأمر السلطان أن يشتري بها ما أحب من السلع الهندية، ولا يشتري أحد من الناس شيئاً حتى يتجهز هو، وأمر له بثلاثة مواكب مجهزة من آلاتها، ومن مرتب البحرية وزادهم، ليسافر فيها. فسافر ونزل بجزيرة هرمز، وبني بها داراً عظيمة، رأيتها بعد ذلك، ورأيت أيضاً شهاب الدين وقد فني جميع ما كان عنده، وهو بشيراز يستجدي سلطانها أبا إسحاق، وهكذا مال هذه البلاد الهندية؛ قلما يخرج أحد منها إلا النادر، وإذا خرج به وصل إلى غيرها من البلاد، بعث الله عليه آفة تفني ما بيده، كمثل ما اتفق لشهاب الدين هذا، فإنه أخذ له في الفتنة التي كانت بين ملك هرمز وابني أخيه جميع ما عنده، وخرج سليباً من ماله.
ذكر عطائه لشيخ الشيوخ ركن الدين وكان السلطان قد بعث هدية إلى الخليفة بديار مصر أبي العباس، وطلب منه أن يبعث له أمر التقدمة على بلاد الهند والسند، اعتقاداً منه في الخلافة فبعث إليه الخليفة أبو العباس ما طلبه مع شيخ الشيوخ بديار مصر ركن الدين. فلما قدم عليه، بالغ في إكرامه، وأعطاه عطاء جزلاً. وكان يقوم له متى دخل عليه ويعظمه، ثم صرفه وأعطاه أموالاً طائلة. وفي جملة ما أعطاه جملة من صفائح الخيل ومساميرها كل ذلك من الذهب الخالص، وقال له: إذا نزلت من البحر فأنعل أفراسك بها. فتوجه إلى كنباية ليركب البحر منها إلى بلاد اليمن، فوقعت قضية خروج القاضي جلال الدين، وأخذه مال ابن الكولمي، فأخذ أيضاً ما كان لشيخ الشيوخ، وفر بنفسه مع ابن الكولمي إلى السلطان. فلما رآه قال له ممازحاً: أمدى كزر " كه زر " بري بادكري " دلر باي " صنم خرى زر نيري وسر نهى، معناه جئت لتحمل الذهب، وتأكله مع الصور الحسان. فلا تحمل ذهباً، ورأسك تخليه ها هنا. قال له ذلك على معنى الانبساط، ثم قال له: اجمع خاطرك فها أنا سائر إلى المخالفين، وأعطيك أضعاف ما أخذوه لك. وبلغني بعد الانفصال عن بلاد الهند أنه وفى بما وعده، وأخلف له ما ضاع منه، وأنه وصل إلى ديار مصر.
ذكر عطائه للواعظ الترمذي ناصر الدين وكان هذا الفقيه قدم على السلطان، وأقام تحت إحسانه مدة عام. ثم أراد الرجوع إلى وطنه، فأذن له في ذلك، ولم يكن سمع كلامه ووعظه. ولما خرج السلطان يقصد بلاد المعبر، أحب سماعه قبل انصرافه. فأمر أن يهيأ له منبر من الصندل الأبيض المقاصري، وجعلت مساميره وصفائحه من الذهب، وألصق بأعلاه حجر ياقوت عظيم، وخلع على ناصر الدين عباءة عباسية سوداء مذهبه مرصعة بالجوهر وعمامة أيضاً، ونصب له المنبر بداخل السراجة وهي أفراج. وقعد السلطان على سريره، والخواص عن يمينه ويساره، وأخذ القضاة والفقهاء والأمراء مجالسهم. فخطب خطبة عظيمة ووعظ وذكر، ولم يكن فيما فعله طائل، لكن سعادته ساعدته. ولما نزل عن المنبر قام السلطان إليه وعانقه وأركبه على فيل، وأمر جميع من حضر أن يمشوا بين يديه، وكنت في جمعهم إلى سراجة. ضربت له مقابلة سراجة السلطان وكلها من الحرير الملون، وصيوانها من الحرير، وخباؤها كذلك. فقعد وقعدنا معه. وكان بجانب من السراجة أواني الذهب التي أعطاها له. وذلك تنور كبير بحيث يسع في جوفه الرجل القاعد، وقدران اثنتان وصحاف لا أذكر عددها وعدة أكواز وركوة وتميسندة ومائدة لها أربع أرجل ومحمل للكتب، كل ذلك من ذهب. ورفع عماد الدين السمناوي وتدين من أوتاد السراجة، أحدهما نحاس والثاني مقصدر. يوهم ذلك أنهما من ذهب وفضة، ولم يكونا إلا كما ذكرنا. وقد كان أعطاه حين قدومه مائة الف دينار دراهم، ومئتين من العبيد، سرح البعض وحمل البعض.
ذكر عطائه لعبد العزيز الأردويلي وكان عبد العزيز هذا فقيهاً محدثاً، قرأ بدمشق على تقي الدين بن تيمية، وبرهان الدين بن البركح، وجمال الدين المزي، وشمس الدين الذهبي وغيرهم. ثم قدم على السلطان، فأحسن إليه وأكرمه. واتفق يوماً أنه سرد عليه أحاديث في كرم العباس وابنه رضي الله عنهما، وشيئاً من مآثر الخلفاء أولادهما. فأعجب ذلك السلطان لحبه في بني العباس، وقبل قدمي الفقيه، وأمر أن يؤتى بصينية ذهب فيها ألفا تنكة، فصبها عليه بيده، وقال: هي لك مع الصينية. وقد ذكرنا هذه الحكاية فيما تقدم.
ذكر عطائه لشمس الدين الأندكاني وكان الفقيه شمس الدين الأندكاني حكيماً شاعراً مطبوعاً، فمدح السلطان بقصيدة باللسان الفارسي، وكان عدد أبياتها سبعة وعشرين بيتاً، فأعطاه لكل بيت منها ألف دينار دراهم. وهذا أعظم مما يحكى عن المتقدمين الذين كانوا يعطون على بيت شعر ألف درهم، وهو عشر عطاء السلطان.
ذكر عطائه لعضد الدين الشونكاري وكان عضد الدين فقيهاً إماماً فاضلاً كبير القدر عظيم الصيت شهير الذكر ببلاده. فبلغت السلطان أخباره، وسمع بمآثره. فبعث إليه إلى بلدة شونكارة عشرة آلاف دينار دراهم ولم يره قط ولا وفد عليه.
ذكر عطائه للقاضي مجد الدين ولما بلغه خبر القاضي العالم الصالح ذي الكرامة الشهيرة مجد الدين قاضي شيراز الذي سطرنا أخباره في السفر الأول، وسيمر بعض خبره. وبعد هذا بعث إليه إلى مدينة شيراز، صحبة الشيخ زاده الدمشقي عشرة آلاف دينار دراهم.
ذكر عطائه لبرهان الدين الصاغرجي وكان برهان الدين أحد الوعاظ الأئمة، كثير الإيثار، باذلاً لما يملكه. حتى أنه كثيراً ما يأخذ الديون، ويؤثر على الناس. فبلغ خبره إلى السلطان، فبعث إليه أربعين ألف دينار، وطلب منه أن يصل إلى حضرته. فقبل الدنانير وقضى دينه منها، وتوجه إلى بلاد الخطا، وأبى أن يصل إليه، وقال: لا أمضي إلى سلطان يقف العلماء بين يديه.
ذكر عطائه لحاجي كاون وحكايته وكان حاجي كاون ابن عم السلطان أبي سعيد ملك العراق، وكان أخوه موسى ملكاً ببعض بلاد العراق. فوفد حاجي كاون على السلطان، فأكرم مثواه، وأعطاه العطاء الجزل. ورأيته يوماً وقد أتى الوزير خواجه جهان بهديته. وكان منها ثلاث صينيات، إحداها مملوءة يواقيت، والأخرى مملوءة زمرداً، والأخرى مملوءة جواهر. وكان حاجي كاون حاضراً، فأعطاه من ذلك حظاً جزيلاً، ثم إنه اعطاه أيضاً مالاً عريضاً، ومضى يريد العراق، فوجد أخاه قد توفي، وولي مكانه سليمان خان. فطلب إرث أخيه، وادعى الملك، وبايعه العسكر، وقصد بلاد فارس، ونزل بمدينة شونكارة التي بها الإمام عضد الدين الذي تقدم ذكره آنفاً. فلما نزل بخارجها تأخر شيوخها عن الخروج إليه ساعة، ثم خرجوا. فقال لهم: ما منعكم عن تعجيل الخروج إلى مبايعتنا ? فاعتذروا له. فلم يقبل منهم، وقال لأهل سلاحه: قلنج تجار " جقار " معناه جردوا السيوف. فجردوها، وضربوا أعناقهم، وكانوا جماعة كبيرة. فسمع من بجاور هذه المدينة من الأمراء بما فعله، فغضبوا لذلك، وكتبوا إلى شمس الدين السنماني، وهو من الأمراء الفقهاء الكبار، فأعلموه بما جرى على أهل شونكارة، وطلبوا منه الإعانة على قتاله. فتجرد في عساكره، واجتمع أهل البلاد طالبين بثار من قتله حاجي كاون من المشايخ، وضربوا على عسكره ليلاً فهزموه. وكان هو بقصر المدينة، فأحاطوا به، فاختفى في بيت الطهارة، فعثروا عليه وقطعوا رأسه، وبعثوا به إلى سليمان خان، وفرقوا أعضاءه على البلاد تشفياً منه.
ذكر قدوم ابن الخليفة عليه واخباره
وكان الأمير غياث الدين محمد بن عبد القاهر بن يوسف بن عبد العزيز ابن الخليفة المستنصر بالله العباسي البغدادي، قد وفد على السلطان علاء الدين طرمشيرين، ملك ما وراء النهر، فأكرمه وأعطاه الزاوية التي على قبر قثم بن العباس رضي الله عنهما، واستوطن بها أعواماً. ثم لما سمع بمحبة السلطان في بني العباس، وقيامه بدعوتهم، أحب القدوم عليه، وبعث له برسولين، أحدهما صاحبه القديم محمد ابن أبي الشرفي الحرباوي، والثاني محمد الهمداني الصوفي. فقدما على السلطان، وكان ناصر الدين الترمذي الذي تقدم ذكره، قد لقي غياث الدين ببغداد، وشهد لديه البغداديون بصحة نسبه فشهد هو عند السلطان بذلك. فلما وصل رسولاه إلى السلطان، أعطاهما خمسة آلاف دينار، وبعث معهما ثلاثين ألف دينار إلى غياث الدين، ليتزود بها إليه، وكتب له خطاباً بخط يده يعظمه فيه، ويسأل منه القدوم عليه. فلما وصل الكتاب رحل إليه. فلما وصل إلى بلاد السند، وكتب المخبرون بقدومه، بعث السلطان من يستقبله على العادة. ثم لما وصل إلى سرستي بعث أيضاً لاستقباله صدر الجهان قاضي القضاة كمال الدين الغرنوي وجماعة من الفقهاء، ثم بعث الأمراء لاستقباله. فلما نزل بمسعود آباد خارج الحضرة، خرج السلطان بنفسه لاستقباله. فلما التقيا ترجل غياث الدين، فترجل له السلطان، وخدم، فخدم له السلطان. وكان قد استصحب هدية في جملتها ثياب، فأخذ السلطان أحد الأثواب، وجعله على كتفه، وخدم كما يفعل الناس معه، ثم قدمت الخيل،فأخذ السلطان أحدها بيده وقدمه له، وحلف أن يركب، وأمسك بركابه حتى ركب، ثم ركب السلطان وسايره، والشجر يظلهما معاً. وأخذ التنبول بيده، وأعطاه أياه. وهذا أعظم ما أكرمه به. فإنه لا يفعله مع أحد. وقال له: لولا أني بايعت الخليفة أبا العباس لبايعتك. فقال له غياث الدين: وأنا أيضاً على تلك البيعة. وقال له غياث الدين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً: " من أحيا أرضاً مواتاً فهي له " وأنت أحببتنا. فجاوبه السلطان بألطف جواب وأبره. ولما وصلا إلى السراجة المعدة لنزول السلطان، أنزله فيها. وضرب للسلطان غيرها. وباتا في تلك الليلة بخارج الحضرة. فلما كان بالغد دخلا إلى دار الملك، وأنزله بالمدينة المعروفة بسيري، وبدار الخلافة أيضاً في القصر الذي بناه علاء الدين الخلجي، وابنه قطب الدين. وأمر السلطان جميع الأمراء أن يمضوا معه إليه، وأعد له فيه جميع ما يحتاج إليه من أواني الذهب والفضة، حتى كان من جملتها مغتسل يغتسل فيه من ذهب. وبعث له أربعمائة ألف دينار لغسل رأسه على العادة، وبعث له جملة من الفتيان والخدم والجواري، وعين له عن نفقة في كل يوم ثلاثمائة دينار، وبعث له زيادة إليها عدداً من الموائد بالطعام الخاص، وأعطاه جميع مدينة سيري، إقطاعاً. وجميع ما احتوت عليه من الدور وما يتصل لها من بساتين المخزن وأرضه، وأعطاه مائة قرية، وأعطاه حكم البلاد الشرقية المضافة لدهلي، وأعطاه ثلاثين بغلة بالسروج المذهبة، ويكون علفها من المخزن، وأمره أن لا ينزل عن دابته إذا أتى دار السلطان إلا موضعاً خاصاً لا يدخله أحد رلكباً سوى السلطان وأمر الناس جميعاً من كبير وصغير أن يخدموا له كما يخدمون السلطان. وإذا دخل على السلطان ينزل له عن سريره، وإن كان على الكرسي قام قائماً، وخدم كل واحد منهما لصاحبه، ويجلس مع السلطان على بساط واحد، وإذا قام قام السلطان لقيامه، وخدم كل واحد منهما لصاحبه، وإذا انصرف إلى خارج المجلس، جعل له بساط يقعد عليه ما شاء، ثم ينصرف، يفعل هذا مرتين في اليوم.
حكاية من تعظيمه اياه وفي أثناء مقامه بدهلي قدم الوزير من بلاد بنجالة، فأمر السلطان كبار الأمراء أن يخرجوا إلى استقباله، ثم خرج بنفسه إلى استقباله، وعظمه تعظيماً كثيراُ، وصنعت القباب بالمدينة كما تصنع للسلطان إذا قدم، وخرج ابن الخليفة للقائه أيضاً، والفقهاء والقضاة والأعيان. فلما عاد السلطان لقصره، قال للوزير: إمض إلى دار المخدوم زاده، وبذلك يدعوه، ومعنى ذلك ابن المخدوم. فسار الوزير إليه، وأهدى له ألفي تنكة من الذهب وأثواباً كثيرة. وحضر الأمير قبولة، غيره من كبار الأمراء، وحضرت أنا كذلك.
حكاية نحوها وفد على السلطان ملك غزنة المسمى ببهرام، وكان بينه وبين ابن الخليفة عداوة قديمة فأمر بإنزاله ببعض دور مدينة سيري التي لابن الخليفة، وأمر أن يبني له بها دار فبلغ ذلك ابن الخليفة فغضب منه ومضى إلى دار السلطان فجلس على البساط الذي عادته الجلوس عليه، وبعث إلى الوزير، فقال له: سلم على خوند عالم، وقل له: إن جميع ما أعطانيه هو بمنزلي، لم أتصرف في شيء منه، بل زاد عندي ونما وأنا لا أقيم معكم، وقام وانصرف فسأل الوزير بعض أصحابه عن سبب هذا، فأعلمه أن سببه أمر السلطان ببناء الدار لملك غزنة في مدينة سيري، فدخل الوزير على السلطان فأعلمه بذلك، فركب من حينه في عشرة من ناسه، وأتى منزل ابن الخليفة، فاستأذن له، ونزل عن فرسه خارج القصر حيث ينزل الناس، فتلقاه واعتذر له، فقبل عذره، وقال له: السلطان والله ما أعلم أنك راضٍ عني حتى تضع قدمك على عنقي، فقال له: هذا ما لا أفعله ولو قتلت. فقال له السلطان وحق رأسي لا بد لك من ذلك ثم وضع رأسه على الأرض وأخذ الملك الكبير قبولة رجل ابن الخليفة بيده، فوضعها على عنق السلطان ثم قام وقال: الآن أنك راضٍ علي، وطاب قلبي. وهذه حكاية غريبة لم يسمع بمثلها عن ملك. ولقد حضرته يوم عيد وقد جاءه الملك الكبير بثلاث خلع من عند السلطان مفرجة. قد جعل مكان عقد الحرير التي تعلق بها حبات جوهر قدر البندق الكبير، وقام الملك الكبير ببابه، حتى نزل من قصره، فكساه إياه والذي أعطاه هو ما لا يحصر العد، ولا يحيط به الحد، وابن الخليفة مع ذلك كله أبخل خلق الله تعالى وله في البخل أخبار عجيبة، يعجب منها سامعها وكأنه كان من البخل بمنزلة السلطان من الكرم، ولنذكر بعض أخباره في ذلك.
حكاية عن بخل ابن الخليفة وكانت بيني وبينه مودة، وكنت كثير التردد إلى منزله وعنده تركت ولداً لي سميته أحمد لما سافرت ولا أدري ما فعل الله بهما فقلت له يوماً: لم تأكل وحدك، ولا تجمع أصحابك على الطعام ? فقال لي: لا أستطيع أن أنظر إليهم على كثرتهم وهم يأكلون طعامي فكان يأكل وحده، ويعطي صاحبه محمد ابن أبي الشرفي من الطعام لمن أحب، ويتصرف في باقيه وكنت أتردد إليه فأرى دهليز قصره الذي يسكن به مظلماً لا سراج به. ورأيته مراراً يجمع الأعواد الصغار من الحطب بداخل بستانه، وقد ملأ منها مخازن فكلمته في ذلك فقال لي: يحتاج إليها. وكان يخدم أصحابه ومماليكه وفتيانه في خدمة البستان وبنائه ويقول: لا أرضى أن يأكلوا طعامي وهم لا يخدمون. وكان علي مرة دين فطلبت به فقال لي في بعض الأيام: والله لقد هممت أن أؤدي عنك دينك، فلم تسمح نفسي بذلك، ولا ساعدتني عليه.
حكاية
حدثني مرة قال: خرجت عن بغداد، وأنا رابع أربعة أحدهم محمد بن أبي الشرفي صاحبه، ونحن على أقدامنا، ولا زاد عندنا فنزلنا على عين ماء ببعض القرى، فوجدنا أحدنا في العين درهماً، فقلنا وما نصنع بدرهم، فاتفقنا على أن نشتري به خبزاً، فبعثنا أحدنا لشرائه، فأبى الخباز بتلك القرية أن يبيع الخبز وحده، وإنما يبيع خبزاً بقيراط، وتبناً بقيراط فاشترى منه الخبز والتبن، فطرحنا التبن، إذ لا دابة لنا تأكله وقسمنا الخبز لقمة لقمة، وقد انتهى حالي اليوم إلى ما تراه فقلت له: ينبغي لك أن تحمد الله على ما أولاك، وتؤثر الفقراء والمساكين بالتصدق فقال: لا أستطيع ذلك. ولم أره قط يجود بشيء، ولا يفعل معروفاً، ونعوذ بالله من الشح.
حكاية
كنت يوماً ببغداد بعد عودتي من بلاد الهند، وأنا قاعد على باب المدرسة المستنصرية التي بناها جده أمير المؤمنين المستنصر رضي الله عنه، فرأيت شاباً ضعيف الحال يشتد خلف رجل خارج عن المدرسة فقال لي بعض الطلبة: هذا الشاب الذي تراه هو ابن الأمير محمد حفيد الخليفة المستنصر الذي ببلاد الهند، فدعوته فقلت له: إني قد قدمت من بلاد الهند، وإني أعرفك بخبر أبيك فقال: قد جاءني خبره في هذه الأيام ومضى يشتد خلف الرجل،فسألت عن الرجل، فقيل لي: هو الناظر في الحبس، وهذا الشاب هو إمام ببعض المساجد، وله على ذلك أجرة درهم واحد في اليوم، وهو يطلب أجرته من الرجل، فطال عجبي منه، والله لو بعث إليه جوهرة من الجواهر التي في الخلع الواصلة إليه من السلطان لأغناه بها ونعوذ بالله من مثل هذه الحال.
ذكر ما أعطاه السلطان للأمير سيف الدين
غدا ابن هبة الله بن مهنا أمير عرب الشام
ولما قدم هذا الأمير على السلطان أكرم مثواه، وأنزله بقصر السلطان جلال الدين داخل مدينة دهلي، ويعرف بكشك، لعل معناه القصر الأحمر، وهو قصر عظيم، فيه مشور كبير جداً، ودهليز هائل، على بابه قبة تشرف على هذا المشور، وعلى المشور الثاني الذي يدخل منه إلى القصر، وكان السلطان جلال الدين يقعد بها، وتلعب الكرة بين يديه في هذا المشور. وقد دخلت هذا القصر عند نزوله به فرأيته مملوءاً أثاثاً وفرشاً وبسطاً وغيرها، وذلك كله متمزق لا منتفع فيه في عادتهم بالهند أن يتركوا قصر السلطان إذا مات بجميع ما فيه، لا يتعرضون له، ويبني المتولي بعده قصراً لنفسه، ولما دخلته طفت به وصعدت إلى أعلاه فكانت لي فيه عبرة، نشأت عنها عبرة وكان معي الفقيه الطيب الأديب جمال الدين المغربي، الغرناطي، البجائي المولد مستوطن بلاد الهند، قدمها مع أبيه، وله بها أولاد فأنشدني عندما عايناه:

وسلاطينهم سل الطين عنهم، فالرؤوس العظام صارت عظاما
وبهذا القصر كانت وليمة عرسه، كما نذكره وكان السلطان شديد المحبة في العرب، مؤثراً لهم، معترفاً بفضائلهم فلما وصله هذا الأمير أجزل العطاء، وأحسن إليه إحساناً عظيماً وأعطاه مرة، وقد قدمت عليه، هدية أعظم ملك البايزيدي من بلاد منكبور، أحد عشر فرساً من عتاق الخيل، وأعطاه مرة أخرى عشرة من الخيل، مسرجة بالسروج المذهبة عليها اللجم المذهبة، ثم زوجه بعد ذلك بأخته فيروز خوندة.
ذكر تزوج الأمير سيف الدين بأخت السلطان ولما أمر السلطان بتزويج أخته للأمير غدا، عين للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها الملك فتح الله، والمعروف بشونويس " بشين معجم مفتوح وواوين اولهما مسكن والآخر مكسور بينهما نون آخره سين مهمل "، وعينني لملازمة الأمير غدا، والكون معه في تلك الأيام فأتى الملك فتح الله بالصيوانات، نظلل بها المشورين بالقصر الأحمر المذكور، وضرب في كل واحد منهما قبة ضخمة جداً، وفرش ذلك بالفرش الحسان وأتى شمس الدين التبريزي، أمير المطربين ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص، وكلهن مماليك السلطان، وأحضر الطباخين والخبازين والشوائين والحلوانيين والشربدارية والتنبول داران، وذبحت الانعام والطيور. وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يوماً ويحضر الأمراء الكبار والأعزة ليلاً ونهاراً فلما كان قبل ليلة الزفاف بليلتين جاء الخواتين من دار السلطان ليلاً إلى هذا القصر، فزينه وفرشنه بأحسن الفرش، واستحضر الأمير سيف الدين، وكان عربياً غريباً لا قرابة له، فحففن به وأجلسنه على مرتبة معينة له، وكان السلطان قد أمر أن تكون ربيبته أم أخيه مبارك خان مقام أم الأمير غدا، وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته، وأخرى مقام عمته، وأخرى مقام خالته، حتى يكون كأنه بين أهله. ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه، وأقام باقيهن على رأسه يغنين ويرقصن وانصرفن إلى قصر الزفاف، وأقام هو مع خواص أصحابه. وعين السلطان جماعة من الأمراء يكونون من جهته، وجماعة يكونون من جهة الزوجة. وعادتهم أن تقف الجماعة التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جلوتها على زوجها، ويأتي الزوج بجماعته فلا يدخلون إلا إن غلبوا أصحاب الزوجة، أو يعطونهم الآلاف من الدنانير إن لم يقدروا عليهم، ولما كان بعد المغرب أتي إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة، قد غلبت الجواهر عليها، فلا يظهر لونها مما عليها من الجواهر وبشاشية مثل ذلك، ولم أر قط خلعة أجمل من هذه الخلعة وقد رأيت ما خلعه السلطان على سائر أصهاره مثل ابن ملك الملوك عماد الدين السمناني، وابن ملك العلماء، وابن شيخ الإسلام، وابن صدر جهان البخاري، فلم يكن فيها مثل هذه.
ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده، وفي يد كل واحد منهم عصا قد أعدها وصنعوا شبه إكليل من الياسمين والنسرين، وريبول وله رفرف يغطي وجه المتكلل به وصدره وأتوا به الأمير ليجعله على رأسه فأبى من ذلك وكان من عرب البادية، لا عهد له بأمور الملك والحضر فحاولته، وحلفت عليه حتى جعله على رأسه وأتى باب الصرف ويسمونه باب الحرم، وعليه جماعة الزوجة، فحمل عليهم بأصحابه حملة عربية، وصرعوا كل من عارضهم، فغلبوا عليهم ولم يكن لجماعة الزوجة من ثبات وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله، ودخل إلى المشور، وقد جعلت العروس فوق منبر عال، مزين بالديباج، مرصع بالجوهر، والمشور ملآن بالنساء، والمطربات قد أحضرن أنواع الآلات المطربة، وكلهن وقوف على قدم إجلالاً له وتعظيماً، فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر، فنزل وخدم عند أول درجة منه وقامت العروس قائمة، حتى صعد، فأعطته التنبول بيدها فأخذه، وجلس تحت الدرجة التي وقفت بها ونثرت دنانير الذهب على رؤوس الحاضرين من أصحابه، ولقطتها النساء والمغنيات يغنين حينئذ، والأطبال والأبواق والأنفار تضرب خارج الباب ثم قام الأمير، وأخذ بيد زوجته، ونزل وهي تتبعه، فركب فرسه يطأ به الفرش والبسط، ونثرت الدنانير عليه وعلى أصحابه، وجعلت العروس في محفة وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره، والخواتين بين يديها راكبات، وغيرهن من النمساء ماشيات وإذا مروا بدار أمير أو كبير، خرج إليهم ونثر عليهم الدنانير والدراهم على قدر همته، حتى أوصلوها إلى قصره ولما كان بالغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوجها الثياب والدنانير والدراهم وأعطى السلطان لكل واحد منهم فرساً مسرجاً ملجماً وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار، وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر، وكذلك لأهل الطرب. وعادتهم ببلاد الهند أن لا يعطي أحد شيئاً لأهل الطرب، إنما يعطيهم صاحب العرس وأطعم الناس جميعاً ذلك اليوم.
وانقضى العرس، وأمر السلطان أن يعطى للأمير غدا بلاد المالوة والجزرات وكنباية ونهروالة، وجعل فتح الله المذكور نائباً عنه عليها، وعظمه تعظيماً شديداً وكان عربياً جافياً، فلم يقدر قدر ذلك، وغلب عليه جفاء البادية، فأداه ذلك إلى النكبة بعد عشرين ليلة من زفافه.
ذكر سجن الأمير غدا ولما كان بعد عشرين يوماً من زفافه اتفق أنه وصل إلى دار السلطان، فأراد الدخول فمنعه أمير البرد " البرده " داريه، وهم الخواص من البوابين، فلم يسمع منه وأراد التقحم، فأمسك البواب بدبوقته، وهي الضفيرة ورده فضربه الأمير بعصا كانت هنالك حتى أدماه وكان هذا المضروب من كبار الأمراء، يعرف أبوه بقاضي غزنة، وهو من ذرية السلطان محمود بن سبكتكين، والسلطان يخاطبه بالأدب، ويخاطب ابنه هذا بالأخ فدخل على السلطان، والدم على ثيابه، فأخبره بما صنع الأمير غدا، ففكر السلطان هنيهة ثم قال له: القاضي يفصل بينكما وتلك جريمة لا يغفرها السلطان لأحد من ناسه، ولا بد من الموت عليها، وإنما احتمله لغربته وكان القاضي كمال الدين بالمشور، فأمر السلطان الملك تتر أن يقف معهما عند القاضي. وكان تتر حاجاً مجاوراً يحسن العربية، فحضر معهما، وقال للأمير: أنت ضربته أو قل: لا، لقصد أن يعلمه الحجة، وكان سيف الدين جاهلاً مغتراً، فقال: نعم، أنا ضربته وأتى والد المضروب، فرام الإصلاح بينهما، فلم يقبل سيف الدين فأمر القاضي بسجنه تلك الليلة فوالله ما بعثت له زوجته فراشاً ينام عليه، ولا سألت عنه خوفاً من السلطان وخاف أصحابه فودعوا أموالهم.
وأردت زيارته بالسجن، فلقيني بعض الأمراء، وفهم عني أني أريد زيارته، فقال لي: أو نسيت ? وذكرني يقضية اتفقت لي في زيارة الشيخ شهاب الدين ابن شيخ الجام، وكيف أراد السلطان قتلي على ذلك، حسبما يقع ذكره، فرجعت ولم أزره وتخلص الأمير غدا عند الظهر من سجنه فأظهر السلطان أعماله، وأضرب عما كان أمر له بولايته وأراد نفيه، وكان للسلطان صهر يسمى بمغيث بن ملك الملوك وكانت أخت السلطان تشكوه لأخيها إلى أن ماتت فذكر جواريها أنها ماتت بسبب قهره لها وكان في نسبه مغمز، فكتب السلطان بخطه يجلي اللقيط، يعنيه، ثم كتب ويجلى موش خوار معناه آكل الفئران، يعني بذلك الأمير غدا لأن عرب البادية يأكلون اليربوع، وهو شبه الفار، وأمر بإخراجهما فجاءه النقباء ليخرجوه فأراد دخول داره ووداع أهله، فترادف النقباء في طلبه، فخرج باكياً، وتوجهت حين ذلك إلى دار السلطان فبت بها فسألني عن مبيتي بعض الأمراء، فقلت له: جئت لأتكلم في الأمير سيف الدين حتى يرد ولا ينفى. فقال: لا يكون ذلك. فقلت له: والله لأبيتن في دار السلطان، ولو بلغ مبيتي مائة ليلة، حتى يرد فبلغ ذلك السلطان فأمر برده، وأمره أن يكون في خدمة الأمير ملك قبولة اللاهوري، فأقام أربعة أعوام في خدمته. يركب لركوبه، ويسافر لسفره، حتى تأدب وتهذب ثم أعاده السلطان إلى ما كان عليه أولاً وأقطعه البلاد، وقدمه على العساكر، ورفع قدره.
ذكر تزويج السلطان بنتي وزيره لابني خداوند زاده
قوام الدين الذي قدم معنا عليه
ولما قدم خداوند زاده أعطاه السلطان عطاءً جزلاً، وأحسن إليه إحساناً عظيماً، وبالغ في إكرامه، ثم زوج ولديه من بنتي الوزير خواجة جهان وكان الوزير إذ ذاك غائباً، فأتى السلطان إلى داره ليلاً، وحضر عقد النكاح، كأنه نائب عن الوزير، ووقف حتى قرأ قاضي القضاة الصداق ، والقضاة والأمراء والمشايخ قعود، وأخذ السلطان بيده الأثواب والبدر فجعلها بين يدي القاضي وولدي خداوند زاده وقام الأمراء وأبوا أن يجعل السلطان ذلك بين أيديهم بنفسه، فأمرهم بالجلوس، وأمر بعض كبار الأمراء أن يقوم مقامه، وانصرف.
حكاية في تواضع السلطان وإنصافه
ادعى عليه رجل من كبار الهنود أنه قتل أخاه من غير موجب، ودعاه إلى القاضي، فمضى على قدميه، ولا سلاح معه، إلى مجلس القاضي فسلم وخدم، وكان قد أمر القاضي قبل ذلك أنه إذا جاءه في مجلسه، فلا يقوم له ولا يتحرك فصعد إلى المجلس، ووقف بين يدي القاضي. فحكم عليه أن يرضي خصمه من دم أخيه فأرضاه.
حكاية مثلها وادعى على السلطان مرة رجل من المسلمين أنه له قبله حقاً مالياً، فتخاصما في ذلك عند القاضي، فأصدر الحكم على السلطان بإعطاء المال فأعطاه.
حكاية مثلها وادعى عليه صبي من أبناء الملوك أنه ضربه من غير موجب، ورفعه إلى القاضي فتوجه الحكم عليه أن يرضيه بالمال إن قبل ذلك، وإلا أمكنه من القصاص، فشاهدته يومئذ وقد عاد لمجلسه واستحضر الصبي، وأعطاه عصا، وقال له: وحق رأسي لتضربنني كما ضربتك. فأخذ الصبي العصا، ضربه بها إحدى وعشرين ضربة، حتى رأيت الكلا " الكلاه " قد طارت على رأسه.
ذكر اشتداده في إقامة الصلاة
وكان السلطان شديداً في إقامة الصلاة، آمراً بملازمتها في الجماعات، يعاقب على تركها أشد العقاب ولقد قتل في يوم واحد تسعة نفر على تركها كان أحدهم مغنياً، وكان يبعث الرجال الموكلين بذلك إلى الأسواق فمن وجد بها عند إقامة الصلاة، عوقب حتى انتهى إلى عقاب الستائريين الذين يمسكون دواب الخدام، على باب المشور، إذا ضيعوا الصلاة، وأمر أن يطلب الناس بعلم فرائض الوضوء والصلاة وشروط الاسلام، فكانوا يسألون عن ذلك فمن لم يحسنه عوقب، وصار الناس يتدارسون ذلك بالمشور والاسواق ويكتبونها.
ذكر اشتداده في إقامة أحكام الشرع
وكان شديداً في إقامة الشرع، ومما فعل في ذلك أن أمر أخاه مبارك خان، أن يكون قعوده بالمشور مع قاضي القضاة كمال الدين في قبة مرتفعة هنالك، مفروشة بالبسط وللقاضي بها مرتبة تحف بها المخاد، كمرتبة السلطان ويقعد أخو السلطان عن يمينه، فمن كان عليه حق من كبار الأمراء، وامتنع من أدائه لصاحبه، يحضره رجال أخي السلطان عند القاضي لينصف منه.
ذكر رفعه للمغارم والمظالم وقعوده لإنصاف المظلومين
ولما كان في سنة إحدى وأربعين أمر السلطان برفع المكوس عن بلاده، وأن لا يؤخذ من الناس إلا الزكاة والعشر خاصة وصار يجلس بنفسه للنظر في المظالم، كل يوم إثنين وخميس برحبة أمام المشور، ولا يقف بين يديه في ذلك اليوم إلا أمير حاجب وخاص حاجب وسيد الحجاب وشرف الحجاب لا غيره، ولا يمنع أحد ممن أراد الشكوى من الوقوف بين يديه، وعين أربعة من كبار الأمراء يجلسون في الأبواب الأربعة من المشور، لأخذ القصص من المشتكين، والرابع منهم هو ابن عمه ملك فيروز خان، فإن أخذ صاحب الباب الأول الرفع من الشاكي فحسن، وإلا أخذه الثاني أو الثالث أو الرابع، وإن لم يأخذوه منه، مضى به إلى صدر الجهان قاضي المماليك، فإن أخذه منه، وإلا شكا إلى السلطان، فإن صح عنده أنه مضى به إلى أحد منهم فلم يأخذه منه، أدبه وكل ما يجتمع من القصص في سائر الأيام، يطالع به السلطان بعد العشاء الآخرة.
ذكر إطعامه في الغلاء
ولما استولى القحط على بلاد الهند والسند، واشتد الغلاء حتى بلغ من القمح إلى ستة دنانير، أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفقة ستة أشهر من المخزن، بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب، لكل انسان في اليوم، صغيراً وكبيراً حراً وعبداً. وخرج الفقهاء والقضاة يكتبون الأزمة بأهل الحارات، ويحضرون الناس، ويعطى لكل واحد عولة ستة أشهر يقتات بها.
ذكر فتكات هذا السلطان وما نقم من أفعاله
وكان على ما قدمنا من تواضعه وإنصافه ورفقه بالمساكين وكرمه الخارق للعادة، كثير التجاسر على إراقه الدماء، لا يخلو بابه عن مقتول إلا في النادر، وكنت كثيراً ما أرى الناس يقتلون على بابه، ويطرحون هنالك. ولقد جئت يوماً فنفر بي الفرس، ونظرت إلى قطعة بيضاء في الأرض فقلت: ما هذه ? فقال بعض أصحابي هي صدر رجل قطع ثلاث قطع. وكان يعاقب على الصغيرة والكبيرة، ولا يحترم أحداً من أهل العلم والصلاح والشرف وفي كل يوم يرد على المشور من المسلسلين والمغلولين والمقيدون مئون فمن كان للقتل قتل أو للعذاب عذب، أو للضرب ضرب. وعادته أن يؤتى كل يوم بجميع من في سجنه من الناس إلى المشور، ما عدا يوم الجمعة، فإنهم لا يخرجون فيه، وهو يوم راحتهم، يتنظفون فيه ويستريحون أعاذنا الله من البلاء.
ذكر قتلة لأخيه وكان له أخ اسمه مسعود خان، وأمه بنت السلطان علاء الدين وكان من أجمل صورة رأيتها في الدنيا فاتهمه بالقيام عليه، وسأله عن ذلك فأقر خوفاً من العذاب فإن من أنكر ما يدعيه عليه السلطان من مثل ذلك يعذب، فيرى الناس أن القتل أهون عليهم من العذاب، فأمر به، فضربت عنقه في وسط السوق، وبقي مطروحاً هنالك ثلاثة أيام على عادتهم. وكانت أم هذا المقتول قد رجمت في ذلك الموضع قبل ذلك بسنتين، لاعترافها بالزنا رجمها القاضي كمال الدين.
ذكر قتله لثلاثمائة وخمسين رجلاً في ساعة واحدة وكان مرة عين حصة من العسكر، تتوجه مع الملك يوسف بغرة إلى قتال الكفار، ببعض الجبال المتصلة بحوز دهلي فخرج يوسف، وخرج معه معظم العسكر وتخلف قوم منهم، فكتب يوسف إلى السلطان يعلمه بذلك، فأمر أن يطاف بالمدينة، ويقبض على من وجد من أولئك المتخلفين ففعل ذلك، وقبض على ثلاثمائة وخمسين منهم فأمر بقتلهم أجمعين، فقتلوا.
ذكر تعذيبه للشيخ شهاب الدين وقتله وكان الشيخ شهاب الدين ابن شيخ الجام الخراساني الذي تنسب مدينة الجام بخراسان إلى جده، حسبما قصصنا ذلك، من كبار المشايخ الصلحاء الفضلاء، وكان يواصل أربعة عشر يوماً. وكان السلطانان، قطب الدين وتغلق يعظمانه ويزورانه ويتبركان به فلما ولي السلطان محمد أراد أن يخدم الشيخ في بعض خدمته، فإن عادته أن يخدم الفقهاء والمشايخ والصلحاء، محتجاً أن الصدر الأول رضي الله عنهم، لم يكونوا يستعملون إلا أهل العلم والصلحاء، فامتنع الشيخ شهاب الدين من الخدمة وشافهه السلطان بذلك في مجلسه العام، فأظهر الإباية والامتناع، فغضب السلطان من ذلك، وأمر الشيخ الفقيه المعظم ضياء الدين السمناني أن ينتف لحيته، فأبى ضياء الدين من ذلك، وقال: لا أفعل هذا، فأمر السلطان بنتف لحية كل واحد منهما فنتف ونفي ضياء الدين إلى بلاد التلنك ثم ولاه بعد مدة قضاء ورنكل، فمات بها، ونفي شهاب الدين إلى دولة آباد، فأقام بها سبعة اعوام، ثم بعث عنه، فأكرمه وعظمه، وجعله على ديوان المستخرج، وهو ديوان بقايا العمال، يستخرجها منهم بالضرب والتنكيل ثم زاد في تعظيمه، وأمر الأمراء أن ياتوا للسلام عليه، ويمتثلوا أقواله ولم يكن أحد في دار السلطان فوقه ولما انتقل السلطان إلى السكنى على نهر الكنك، وبنى هنالك القصر المعروف بسرك دوار، معناه شبه الجنة، وأمر الناس بالبناء هنالك، طلب منه الشيخ شهاب الدين أن يأذن له في الإقامة بالحضرة، فأذن له إلى أرض موات، على مسافة ستة أميال من دهلي فحفر بها كهفاً كبيراً، صنع في جوفه البيوت والمخازن والفرن والحمام، وجلب الماء من نهر جون، وعمر تلك الأرض، وجمع مالاً كثيراً من مستغلها لأنها كانت السنون قاحطة، وأقام هنالك عامين ونصف عام مدة مغيب السلطان. وكان عبيده يخدمون تلك الأرض نهاراً، ويدخلون الغار ليلاً ويسدونه على أنفسهم وأنعامهم، خوف سراق الكفار، لأنهم في جبل منيع هنالك، ولما عاد السلطان إلى حضرته استقبله الشيخ ولقيه على سبعة أميال منها، فعظمه السلطان وعانقه عند لقائه، وعاد إلى غاره ثم بعث عنه بعد أيام، فامتنع من إتيانه فبعث إليه مخلص الملك النذرباري، وكان من كبراء الملوك، فتلطف له في القول، وحذره بطش السلطان فقال له: لا أخدم ظالماً أبداً فعاد مخلص الملك إلى السلطان فأخبره بذلك فأمر أن يأتي به، فأتى به فقال له: أنت القائل: إني ظالم فقال: نعم، أنت ظالم، ومن ظلمك كذا و كذا، وعدد أموراً منها تخريبه لمدينة، دهلي، وإخراجه أهلها. فأخذ السلطان سيفه، ودفعه لصدر الجهان، وقال: يثبت هذا أني ظالم، واقطع عنقي بهذا السيف فقال له شهاب الدين: ومن يريد أن يشهد بذلك، فيقتل ولكن أنت تعرف ظلم نفسك وأمر بتسليمه للملك نكبية، رأس الدويدارية، فقيده بأربع قيود، وغل يديه وأقام كذلك أربعة عشر يوماً مواصلاً، لا يأكل ولا يشرب وفي كل يوم منها يؤتى بها إلى المشور، ويجمع الفقهاء والمشايخ، ويقولون له: إرجع عن قولك فيقول: لا أرجع عنه، وأريد أن أكون في زمرة الشهداء. فلما كان اليوم الرابع عشر بعث إليه السلطان بطعام مع مخلص الملك، فأبى أن يأكل، وقال: رفع رزقي من الأرض ارجع بطعامك إليه فلما أخبر بذلك السلطان، أمر عند ذلك أن يطعم الشيخ خمسة أستار " أساتير " من العذرة، وهي رطلان ونصف من أرطال المغرب فأخذ ذلك الموكلون بمثل هذه الأمور، وهم طائفة من كفار الهنود، فمدوه على ظهره، وفتحوا فمه بالكلبتين، وحلوا العذرة بالماء وسقوه ذلك. وفي اليوم بعده أتى به إلى دار القاضي صدر الجهان، وجمع الفقهاء والمشايخ ووجوه الأعزة فوعظوه، وطلبوا منه أن يرجع عن قوله، فأبى ذلك. فضربت عنقه، رحمه الله تعالى.
ذكر قتله للفقيه المدرسي عفيف الدين الكاساني وفقيهين معه وكان السلطان في سني القحط قد أمر بحفر آبار خارج دار الملك، وأن يزرع هنالك زرع، وأعطى الناس البذر، وما يلزم على الزراعة من النفقة، وكلفهم زرع ذلك للمخزن فبلغ ذلك الفقيه عفيف الدين، فقال: هذا الزرع لا يحصل المراد منه، فوشي به إلى السلطان فسجنه. وقال له: لأي شيء تدخل نفسك في أمور الملك ? ثم إنه سرحه بعد مدة فذهب إلى داره ولقيه في طريقه إليها صاحبان له من الفقهاء، فقالا له: الحمد لله على خلاصك. فقال الفقيه، الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وتفرقوا فلم يصلوا إلى دورهم حتى بلغ ذلك السلطان فأمر بهم فأحضر ثلاثتهم بين يديه فقال: اذهبوا بهذا، يعني عفيف الدين، فاضربوا عنقه حمائل، وهو أن يقطع الرأس من الذراع وبعض الصدر، واضربوا أعناق الآخرين فقالوا له: أما هو فيستحق العقاب بقوله، وأما نحن فبأي جريمة تقتلنا ? فقال: طالما أنكما سمعتما كلامه فلم تنكراه فكأنكما وافقتما عليه، فقتلوا جميعاً رحمهم الله تعالى.
ذكر قتله أيضاً لفقيهين من أهل السند كانا في خدمته وأمر السلطان هذين الفقيهين السنديين أن يمضيا مع أمير عينه إلى بعض البلاد، وقال لهما: إنما سلمت أحوال البلاد والرعية لكما، ويكون هذا الأمير معكما، يتصرف مما تأمرانه به، فقالا له: إنما نكون كالشاهدين عليه، ونبين له وجه الحق ليتبعه. فقال لهما: إنما قصدكما أن تأكلا أموالي وتضيعاها، وتنسبا ذلك إلى هذا التركي الذي لا معرفة له. فقالا له: حاشا لله يا خوند عالم ما قصدنا هذا فقال لهما لم تقصدا غير هذا اذهبوا بهما إلى الشيخ زاده النهاوندي، وهو الموكل بالعذاب فذهب بهما إليه، فقال لهما: السلطان يريد قتلكما. فأقرا بما قولكما إياه، ولا تعذبا أنفسكما فقال: والله ما قصدنا إلا ما ذكرنا فقال لزبانيته: ذوقوهما بعض شيء، يعني من العذاب فبطحا على اقفائهما وجعل على صدر كل واحد منهما صفيحة حديد محماة، ثم قلعت بعد هنيهة، فذهب بلحم صدورهما، ثم أخذ البول والرماد فجعل على تلك الجراحات فأقرا على أنفسهما أنهما لم يقصدا إلا ما قاله السلطان، وأنهما مجرمان مستحقان للقتل، فلا حق لهما ولا دعوى في دمائها دنيا ولا أخرى، وكتبا خطهما بذلك، واعترفا به عند القاضي، فسجل على العقد، وكتب فيه أن اعترافهما كان عن غير إكراه ولا إجبار ولو قالا: أكرهنا لعذبا أشد العذاب، ورأيا أن تعجيل ضرب العنق خير لهما من الموت بالعذاب الأليم فقتلا رحمهما الله تعالى.
ذكر قتله للشيخ هود
وكان الشيخ زاده، المسمى بهود، حفيد الشيخ الصالح الولي ركن الدين بن بهاء الدين ابن أبي زكريا الملتاني، وجده الشيخ ركن الدين، معظماً عند السلطان، وكذلك أخوه عماد الدين الذي كان شبيهاً بالسلطان، وقتل يوم وقيعة كشلوخان، وسنذكره. ولما قتل عماد الدين أعطى السلطان لأخيه ركن الدين مائة قرية ليأكل منها ويطعم الصادر والوارد بزاويته فتوفي الشيخ ركن الدين، وأوصى بمكانه من الزاوية لحفيده الشيخ هود، ونازعه في ذلك ابن أخي الشيخ ركن الدين، وقال: أنا أحق بميراث عمي، فقدما على السلطان، وهو بدولة آباد وبينهما وبين ملتان ثمانون يوماً فأعطى السلطان المشيخة لهود حسبما أوصى له الشيخ، وكان كهلاً، وكان ابن أخي الشيخ فتى وأكرمه السلطان، وأمر بتضفييه في كل منزل يحله، وأن يخرج إلى لقائه أهل كل بلد يمر به إلى ملتان، وتصنع له فيه دعوة فلما وصل الأمر للحضرة، خرج الفقهاء والقضاة والمشايخ والأعيان للقائه وكنت فيمن خرج إليه، فتلقيناه وهو راكب في دولة، يجملها الرجال، وخيله مجنوبة، فسلمنا عليه، وأنكرت أنا ما كان من فعله في ركوبه الدولة، وقلت: إنما كان ينبغي له أن يركب الفرس، ويساير من خرج للقائه من القضاة والمشايخ فبلغه كلامي، فركب الفرس، واعتذر بأن فعله أولاً كان بسبب ألم منعه من ركوب الفرس. ودخل الحضرة، وصنعت لها دعوة أنفق فيها من مال السلطان عدداً كثيراً وحضر القضاة والمشايخ والفقهاء والأعزة، ومد السماط وأتوا بالطعام على العادة، ثم أعطيت الدراهم لكل من حضر على قدر استحقاقه. فأعطي قاضي القضاة خمسمائة دينار، وأعطيت أنا مائتين وخمسين ديناراً وهذه عادة لهم في الدعوى السلطانية ثم انصرف الشيخ هود إلى بلده، ومعه الشيخ نور الدين الشيرازي، بعثه السلطان ليجلسه على سجادة جده بزاويته، ويصنع له الدعوة من مال السلطان هنالك. واستقر بزاويته، وأقام بها أعواماً ثم إن عماد الملك، أمير بلاد السند، كتب إلى السلطان يذكر أن الشيخ وقرابته، يشتغلون بجمع الأموال وإنفاقها في الشهوات، ولا يطعمون أحداً بالزاوية، فنفذ الأمر بمطالبتهم بالأموال فطلبهم عماد الملك بها، وسجن بعضهم، وضرب بعضاً، وصار يأخذ منهم كل يوم عشرين ألف دينار مدة أيام، حتى استخلص ما كان عندهم ووجد لهم كثيراً من الأموال والذخائر من جملتها نعلان مرصعان بالجوهر والياقوت، بيعا بسبعة آلاف دينار، قيل: إنهما كانا لبنت الشيخ هود، وقيل لسرية له فلما اشتد الحال على الشيخ هرب يريد بلاد الأتراك فقبض عليه وكتب عماد الملك بذلك إلى السلطان، فأمره أن يبعثه ويبعث الذي قبض عليه كليهما في حكم الثقاف ، فلما وصلا إليه، سرح الذي قبض عليه وقال للشيخ هود: أين أردت أن تفر ? فاعتذر بعذر فقال له السلطان: إنما أردت أن تذهب إلى الأتراك، فتقول: أنا ابن الشيخ بهاء الدين زكريا، وقد فعل السلطان معي كذا، وتأتي بهم لقتالنا. اضربوا عنقه، فضربت عنقه رحمه الله تعالى.
ذكر سجنه لابن تاج العارفين وقتله لأولاده
وكان الشيخ الصالح شمس الدين ابن تاج العارفين، ساكناً بمدينة كول، منقطعاً للعبادة كبير القدر ودخل السلطان إلى مدينة كول، فذهب عنه فلم يأته فذهب السلطان إليه ثم لما قارب منزله انصرف، ولم يره، واتفق، بعد ذلك أن أميراً من الأمراء خالف على السلطان ببعض الجهات، وبايعه الناس: فنقل للسلطان أنه وقع ذكر هذا الأمير بمجلس الشيخ شمس الدين، فأثنى عليه، وقال: إنه يصلح للملك فبعث السلطان بعض الأمراء إلى الشيخ فقيده، وقيد أولاده، وقيد قاضي كول، ومحتسبها. لأنه ذكر أنهما كانا حاضرين للمجلس الذي وقع فيه ثناء الشيخ على الأمير المخالف وأمر بهم فسجنوا جميعاً، بعد أن سمل عيني القاضي، وعيني المحتسب. ومات الشيخ بالسجن وكان القاضي والمحتسب يخرجان مع بعض السجانين فيسألان الناس، ثم يردان إلى السجن، وكان قد بلغ السلطان، أن أولاد الشيخ كانوا يخالطون كفار الهنود وعصاتهم ويصبحونهم، فلما مات أبوهم، أخرجهم من السجن، وقال لهم: لا تعودوا إلى ما كنتم تفعلون. فقالوا له: وما فعلنا فاغتاظ من ذلك وأمر بقتلهم جميعاً فقتلوا ثم استحضر القاضي المذكور، فقال أخبرني بما كان يرى رأي هؤلاء الذين قتلوا، ويفعل مثل أفعالهم فأملى أسماء رجال كثيرين من كفار البلد، فلما عرض ما أملاه على السلطان قال: هذا يجب أن يخرب البلد اضربوا عنقه، فضربت عنقه رحمه الله تعالى.
ذكر قتله للشيخ الحيدري وكان الشيخ علي الحيدري ساكناً بمدينة كنباية من ساحل الهند، وهو عظيم القدر، شهير الذكر، بعيد الصيت، ينذر له التجار بالبحر النذور الكثيرة وإذا قدموا بدأوا بالسلام عليه وكان يكاشف بأحوالهم، وربما نذر أحدهم النذر وندم عليه فإذا أتى الشيخ للسلام عليه، أعلمه بما نذر له، وأمر بالوفاء به واتفق له ذلك مرات، واشتهر به فلما خالف القاضي جلال الأفغاني وقبيلته بتلك الجهات، بلغ السلطان أن الشيخ الحيدري دعا للقاضي جلال الدين، وأعطاه شاشيته من رأسه، وذكر أيضاً أنه بايعه. فلما خرج السلطان إليهم بنفسه، وانهزم القاضي جلال خلف السلطان شرف الملك أمير بخت، أحد الوافدين معنا عليه بكنباية، وأمره بالبحث عن أهل الخلاف، وجعل معه فقهاء يحكم بقولهم، فأحضر الشيخ علي الحيدري بين يديه، وثبت أنه أعطى للقائم شاشيته ودعا له، فحكموا بقتله. فلما ضربه السياف لم يفعل شيئاً وعجب الناس لذلك، وظنوا أنه يعفو عنه بسبب ذلك فأمر سيافاً آخر بضرب عنقه، فضربها رحمه الله تعالى.
ذكر قتله لطوغان وأخيه وكان طوغان الفرغاني وأخوه من كبار أهل مدينة فرغاني فوفدا على السلطان، فأحسن إليهما وأعطاهما عطاء جزيلاً وأقاما عنده مدة فلما طال مقامهما أرادا الرجوع إلى بلادهما، وحاولا الفرار فوشى بهما أحد أصحابهما إلى السلطان فأمر بتوسيطهما، فوسطا وأعطي للذي وشى بهما جميع مالهما، وكذلك عادتهم بتلك البلاد إذا وشى أحد بأحد وثبت ما وشى به فقتل، أعطي ماله.
ذكر قتله لابن ملك التجار وكان ابن ملك التجار شاباً صغيراً لا نبات بعارضيه فلما وقع خلاف عين الملك وقيامته وقتاله للسلطان، كما سنذكره، غلب على ابن ملك التجار هذا، فكان في جملته مقهوراً، فلما هزم عين الملك، وقبض الملك عليه وعلى أصحابه، كان من جملتهم ابن ملك التجار وصهره ابن قطب الملك، فأمر بهما، فعلقا من أيديهما في خشب، وأمر أبناء الملوك، فرموهما بالنشاب حتى ماتا قال الحجب خواجه أمير علي التبريزي لقاضي القضاة كمال الدين ذلك الشاب، لم يجب عليه القتل. فبلغ ذلك السلطان فقال: هلا قلت هذا قبل موته، وأمر به فضرب مائتي مقرعة أو نحوها، وسجن، وأعطى جميع ماله لأمير السيافين فرأيته في ثاني ذلك اليوم قد لبس ثيابه، وجعل قلنسوته على رأسه، وركب فرسه، فظننت أنه هو وأقام بالسجن شهوراً ثم سرحه، ورده إلى ما كان عليه، ثم غضب عليه ثانية، ونفاه إلى خراسان فاستقر بهراة، وكتب إليه يستعطفه، فوقع له على ظهر كتابه أربار آمدي باز " آي " معناه أن كنت تبت فارجع، فرجع إليه.
ذكر ضربه لخطيب الخطباء حتى مات وكان قد ولي خطيب الخطباء بدهلي النظر في زانة الجوهر في السفر، فاتفق أن جاء سراق الكفار ليلاً فضربوا على تلك الخزانة، وذهبوا بشيء منها فأمر بضرب الخطيب حتى مات. رحمه الله تعالى.
ذكر تخريبه لدهلي ونفي أهلها
وقتل الأعمى والمقعد ومن أعظم ما كان ينقم على السلطان إجلاؤه لأهل دهلي عنها، وسبب ذلك أنهم كانوا يكتبون بطائق فيها شتمه وسبه، ويختمون عليها، ويكتبون عليها، وحق رأس خوند عالم، ما يقرأها غيره ويرمونها بالمشور ليلاً فإذا فضها وجد شتمه وسبه فعزم على تخريب دهلي، واشترى من أهلها جميعاً دورهم ومنازلهم، ودفع لهم ثمنها، وأمرهم بالانتقال عنها إلى دولة آباد، فأبوا ذلك، فنادى مناديه أن لايبقى فيها أحد بعد ثلاث فانتقل معظمهم، واختفى بعضهم في الدور فأمر بالبحث عمن بقي بها، فوجد عبيده بأزقتها رجلين: أحدهما مقعد والآخر أعمى، فأتوا بهما فأمر بالمقعد فرمي به في المنجنيق، وأمر أن يجر الأعمى من دهلي إلى دولة آباد، مسيرة أربعين يوماً فتمزق في الطريق، ووصل منه رجله، ولما فعل ذلك خرج أهلها جميعاً، وتركوا أثقالهم وأمتعتهم وبقيت المدينة خاوية على عروشها، فحدثني من أثق به قال: صعد السلطان ليلة إلى سطح قصره، فنظر إلى دهلي وليس بها نار ولا دخان ولا سراج فقال: الآن طاب قلبي وتهدن خاطري ثم كتب إلى أهل البلاد أن ينتقلوا إلى دهلي ليعمروها فخربت بلادهم ولم تعمر دهلي لاتساعها وضخامتها وهي من أعظم مدن الدنيا، وكذلك وجدناها لما دخلنا إليها خالية، ليس بها الا قليل عمارة وقد ذكرنا كثيراً من مآثر هذا السلطان، ومما نقم عليه أيضاً فلنذكر جملاً من الوقائع والحوادث الكائنة في أيامه.
ذكر ما افتتح أمره أول ولايته منه على بهادور بوره
ولما ولي السلطان الملك بعد أبيه وبايعه الناس، أحضر السلطان غياث الدين بهادور بوره الذي كان أسره السلطان تغلق، فمن عليه، وفك قيوده، وأجزل له العطاء من الأموال والخيل والفيلة، وصرفه إلى مملكته وبعث معه ابن أخيه إبراهيم خان، وعاهده على أن تكون تلك المملكة مشاطرة بينهما ويكتب اسماهما معاً في السكة، ويخطب لهما وعلى أن يصرف غياث الدين ابنه محمد المعروف برباط، يكون رهينة عند السلطان فانصرف غياث الدين إلى مملكته، والتزم ما شرط عليه إلا أنه لم يبعث ابنه، وادعى انه امتنع وأساء الأدب في كلامه فبعث السلطان العساكر إلى ابن أخيه إبراهيم وأميرهم دلجي التتري، فقاتلوا غياث الدين فقتلوه وسلخوا جلده، وحشي بالتبن وطيف به على البلاد.
ذكر ثورة ابن عمته وما اتصل بذلك وكان للسلطان تغلق ابن أخت يسمى بهاء الدين كشت اسب " بضم الكاف وسكون الشين المعجم وتاء معلوة " واسب " بالسين المهمل والباء الموحدة مسكنين "، فجعله أميراً ببعض النواحي، فلما مات خاله امتنع من بيعة ابنه، وكان شجاعاً بطلاً فبعث السلطان إليه العساكر، فيهم الأمراء الكبار، مثل الملك مجير، والوزير خواجه جهان أمير على الجمع فالتقى الفرسان، واشتد القتال، وصبر كلا العسكرين ثم كانت الكرة لعسكر السلطان ففر بهاء الدين إلى ملك من ملوك الكفار، يعرف بالراي كنبيلة والراي عندهم كمثل ما هو بلسان الروم عبارة عن السلطان وكنبيلة اسم الأقليم الذي هو به، وهو " بفتح الكاف وسكون النون وكسر الباء الموحدة وياء ولام مفتوحة " وهذا الراي له بلاد في جبال منيعة، وهو من أكابر السلاطين الكفار. فلما هرب إليه بهاء الدين، اتبعه عساكر السلطان وحصروا تلك البلاد واشتد الأمر على الكافر، ونفذ ما عنده من الزرع وخاف أن يؤخذ باليد فقال لبهاء الدين: إن الحال قد بلغت لما تراه، وأنا عازم على هلاك نفسي وعيالي ومن تبعني فاذهب أنت إلى السلطان فلان من الكفار، وسماه له فأقم عنده، فإنه سيمنعك وبعث معه من أوصله اليه. وأمر راي كنبيلة بنار عظيمة فأججت وأحرق فيها أمتعته وقال لنسائه وبناته " إني أريد قتل نفسي فمن أرادت موافقتي فلتفعل المرأة منهم تغتسل وتدهن بالصندل والمقاصري وتقبل الأرض بين يديه وترمي بنفسها في النار، حتى هلكن جميعاً، وفعل مثل ذلك نساء أمرائه ووزرائه وأرباب دولته ومن أراد من سائر النساء ثم اغتسل الراي وادهن بالصندل، ولبس السلاح ما عدا الدرع، وفعل كفعله من أراد الموت معه من ناسه، وخرجوا إلأى عسكر السلطان فقاتلوا حتى قتلوا جميعاً ودخل المدينة فأسر أهلها وأسر من أولاد راي كنبيلة أحد عشر ولداً، فأتى بهم السلطان فأسلموا جميعاً وجعلهم السلطان أمراء، وعظمهم لأصالتهم، ولفعل أبيهم فرأيت عنده منهم نصراً وبختيار والمهردار، وهو صاحب الخاتم الذي يختم به على الماء الذي يشرب السلطان منه وكنيته أبو مسلم وكانت بيني وبينه صحبة ومودة، ولما قتل راي كنبيلة توجهت عساكر السلطان إلى بلد الكفار الذي لجأ إليه بهاء الدين، وأحاطوا به فقال ذلك السلطان: أنا لا أقدر على أن أفعل ما فعله راي كنبيلة فقبض على بهاء الدين وأسلمه إلى عسكر السلطان، فقيدون وغلوه وأتوا به فلما أتى به إليه أمر بإدخاله إلى قرابته من النساء فشتمنه وبصقن في وجهه، وأمر بسلخه، وهو بقيد الحياة، فسلخ وطبخ لحمه مع الأرز، وبعث لأولاده وأهله، وجعل باقيه على صحفة، وطرح للفيلة لتأكله فأبت أكله وأمر بحلده فحشي بالتبن وقرن بجلد بهادور بوره، وطيف بهما على البلاد فلما وصلا إلى بلاد السند وأمير أمرائها يومئذ كشلو خان صاحب السلطان تغلق ومعينه على أخذ الملك. وكان السلطان يعظمه ويخاطبه بالعم ويخرج لاستقباله إذا وفد من بلاده وأمر كشلو خان بدفن الجلدين فبلغ ذلك السلطان فشق عليه فعله وأراد الفتك به.
ذكر ثورة كشلوخان وقتله
ولما اتصل بالسلطان ما كان من فعله في دفن الجلدين، بعث عنه وعلم كشلوخان أنه يريد عقابه. فامتنع وخالف وأعطى الأموال وجمع العساكر، وبعث إلى الترك والأفغان وأهل خراسان فأتاه منهم العدد الجم، حتى كافأ عسكره عسكر السلطان، أو أربى عليه كثرة. وخرج السلطان بنفسه لقتاله، فكان اللقاء على مسيرة يومين من ملتان بصحراء أبوهر. وأخذ السلطان بالحزم عند لقائه، فجعل تحت الشطر عوضاً منه الشيخ عماد الدين شقيق الشيخ ركن الدين الملتاني، وهو حدثني هذا، وكان شبيهاً به. فلما حمي القتال، انفرد السلطان في أربعة آلاف من عسكره، وقصد عسكر كشلوخان الشطر معتقدين أن السلطان في أربعة آلاف من عسكره، وقصد عسكر كشلوخان الشطر معتقدين أن السلطان تحته، فقتلوا عماد الدين، وشاع في العسكر أن السلطان قتل. فاشتغلت عساكر كشلوخان بالنهب، وفرقوا عنه، ولم يبق معه إلا القليل. فقصده السلطان بمن معه فقتله وجز رأسه. وعلم بذلك جيشه ففروا. ودخل السلطان مدينة ملتان، وقبض على قاضيها كريم الدين، وأمر بسلخه فسلخ. وأمر برأس كشلوخان فعلق على بابه. وقد رأيته معلقاً لما وصلت إلى ملتان. وأعطى السلطان الشيخ ركن الدين أخي عماد الدين ولابنه صدر الدين، مائة قرية إنعاماً عليهم ليأكلوا منها ويطعموا بزاويتهم المنسوبة لجدهم بهاء الدين زكريا، وأمكر السلطان وزيره خواجه جهان أن يذهب إلى مدينة كمال بور وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر، وكان أهلها قد خالفوا، فأخبرني بعض افقهاء أنه حضر دخول الوزير إياها. قال: وأحضر بين يديه القاضي بهاء الخطيب، فأمر بسلخ جلديهما. فقالا: اقتلنا بغير ذلك. فقال لهما: بم استوجبتما القتل ? فقالا: بمخالفتنا أمر السلطان، فقال لهما: كيف أخالف أنا أمره ? وقد أمرني أن أقتلكما بهذه الطريقة. وقال للمتولين لسلخهما احفروا لهما حفراً تحت وجهيهما، يتنفسان فيها. فإنهم إذا سلخوا والعياذ بالله يطرحون على وجوههم. ولما فعل ذلك تمهدت بلاد السند وعاد السلطان إلى حضرته.
ذكر الوقيعة بجبل قراجيل على جيش السلطان " وأول اسمه قاف وجيم معقودة " وجبل قراجيل هذا جبل كبير، يتصل مسيرة ثلاثة أشهر. وبينه وبين دهلي مسيرة عشر، وسلطانه من أكبر السلاطين الكفار. وكان السلطان بعث ملك نكبية رأس الدويدارية إلى حرب هذا الجبل، ومعه ألف فارس، ورجاله سواهم كثير، فملك مدينة جديدة " وضبطها بكسر الجيم وسكون الدال المهمل وفتح الياء آخر الحروف "، وهي أسفل الجبل. وملك ما يليها، وسبى وخرب وأحرق، وفر الكفار إلأى أعلى الجبل. وتركوا بلادهم وأموالهم وخزائن ملكهم. وللجبل طريق واحد، وعن أسفل منه واد وفوقه الجبل، فلا يجوز فيه إلا فارس منفرد، وخلفه آخر، فصعدت عساكر المسلمين على ذلك الطريق، وتملكوا مدينة ورنكل التي بأعلى الجبل، " وضبطها بفتح الواو والراء وسكون النون وفتح الكاف "، واحتووا على ما فيها، وكتبوا إلى السلطان بالفتح، فبعث إليهم قاضياً وخطيباً، وأمرهم بالإقامة، فلما كان وقت نزول المطر، غلب المرض على العسكر وضعفوا وماتت الخيل وانحلت القسي، فكتب الأمراء إلى السلطان، واستأذنوه في الخروج عن الجبل، والنزول إلى أسفله، بخلال ما ينصرم فصل نزول المطر فيعودون. فأذن لهم في ذلك. فأخذ الأمير نكبية الأموال التي استولى عليها من الخزائن والمعادن، وفرقها على الناس ليرفعوها ويوصلوها إلى أسفل الجبل. فعندما علم الكفار بخروجهم، قعدوا لهم بتلك المهاوي وأخذوا عليهم المضيق، وصاروا يقطعون الأشجار العادية قطعاً، ويطرحونها من أعلى الجبل، فلا تمر بأحد إلا أهلكته. فهلك الكثير من الناس، وأسر الباقون منهم، وأخذ الكفار الأموال والأمتعة والخيل والسلاح. ولم يفلت من الجند إلا ثلاثة من الأمراء، كبيرهم نكبية وبدر الدين الملك دولة شاه وثالث لهما لا أذكره، وهذه الوقيعة أثرت في جيش الهند أثراً كبيراً وأضعفته ضعفاً بيناً. وصالح السلطان بعدها أهل الجبل على مال يؤدونه إليه، لأن لهم البلاد أسفل الجبل، ولا قدرة لهم على عمارتها إلا بإذنه.
ذكر ثورة الشريف جلال الدين ببلاد المعبر وما اتصل بذلك من قتل ابن أخت الوزير وكان السلطان قد أمر على بلاد المعبر، وبينها وبين دهلي مسيرة ستة أشهر، الشريف جلال الدين أحسن شاه، فخالف وادعى الملك لنفسه. وقتل نواب السلطان وعماله، وضرب الدنانير والدراهم باسمه. وكان يكتب في إحدى صفحتي الدينار سلالة طه ويس، أبو الفقراء والمساكين، جلال الدنيا والدين، وفي الصفحة الأخرى الواثق بتأييد الرحمن، أحسن شاه السلطان. وخرج السلطان لما سمع بثورته يريد قتاله، فنزل بموضع يقال له: كشك زر، معناه قصر الذهب، وأقام به ثمانية أيام لقضاء حوائج الناس. وفي تلك الأيام أتي بابن أخت الوزير خواجه حهان. وأربعة من الأمراء أو ثلاثة، وهم مقيدون مغلولون. وكان السلطان قد بعث وزيره المذكور في مقدمته. فوصل إلى مدينة ظهار، وهي على مسيرة أربع وعشرين من دهلي، وأقام بها أياماً. وكان ابن أخته شجاعاً بطلاً، فاتفق مع الأمراء الذين أتى بهم على قتل خاله، والهرب بما عنده من الخزائن والأموال إلى الشريف القائم ببلاد المعبر، وعزموا على الفتك بالوزير عند خروجه إلى صلاة الجمعة، فوشى بهم أحد من أدخلوه في أمرهم إلى الوزير، وكان يسمى الملك نصرة الحاجب، وأخبر الوزير أن آية ما يرومونه، لبسهم الدروع تحت ثيابهم، فبعث الوزير عنهم، فوجدهم كذلك. فبعث بهم إلى السلطان، وكنت بين يدي السلطان حين وصولهم. فرأيت أحدهم وكان طوالاً ألحى ، وهو يرعد، ويتلو سورة يس، فأمر بهم، فطرحوا للفيلة المعلمة لقتل الناس، وأمر بابن أخت الوزير فرد إلى خاله ليقتله، فقتله، وسنذكر ذلك. وتلك الفيلة التي تقتل، تكسى أنيابها بحدائد مسنونة شبه سكك الحرث، لها أطراف كالسكاكين. ويركب الفيال على الفيل، فإذا رمى الرجل بين يديه لف عليه خرطومه، ورمى به إلى الهواء، ثم يتلقفه بنيابه ويطرحه بعد ذلك بين يديه، ويجعل يده على صدره، ويفعل به ما يأمره الفيال، على حسب ما أمره السلطان. فإن أمره بتقطيعه قطعه الفيل قطعاً بتلك الحدائد، وإن أمر بتركه، تركه مطروحاً فسلخ. وكذلك فعل بهؤلاء. وخرجت من دار السلطان بعد المغرب فرأيت الكلاب تأكل لحومهم. وقد ملئت جلودهم بالتبن والعياذ بالله. ولما تجهز السلطان لهذه الحركة أمرني بالإقامة بالحضرة، كما سنذكره، ومضى في سفره إلى أن بلغ دولة آباد. فثار الأمير هلاجون ببلاده، وخرج ذلك. وكان الوزير خواجه جهان قد بقي أيضاً بالحضرة لحشد الحشود وجمع العساكر.
ذكر ثورة هلاجون ولما بلغ السلطان إلى دولة آباد، وبعد عن بلاده، ثار الأمير هلاجون بمدينة لاهور، وادعى الملك، وساعده الأمير قلجند على ذلك، وصيره وزيراً له. واتصل ذلك بالوزير خواجه جهان، وهو بدهلي، فحشد الناس وجمع العساكر وجمع الخراسانيين، وكل من كان مقيماً من الخدام بدهلي أخذ أصحابه، وأخذ في الجملة أصحابي لأني كنت بها مقيماً وأعانه السلطان بأميرين كبيرين أحدهما قيران ملك صفدار، ومعناه مرتب العساكر، والثاني الملك تمور الشريدار وهو الساقي، وخرج هلاجون بعساكره، فكان اللقاء على ضفة أحد الأدوية الكبار. فانهزم هلاجون وهرب، وغرق كثير من عساكره في النهر. ودخل الوزير المدينة فسلخ بعض أهلها وقتل آخرين بغير ذلك من أنواع القتل. وكان الذي تولى قتلهم محمد ابن النجيب نائب الوزير، وهو المعروف بأجدر ملك، ويسمى أيضاً صك " سك " السلطان والصك عندهم الكلب. وكان ظالماً قاسي القلب. ويسميه السلطان أسد الأسواق. وكان ربما عض أرباب الجنايات بأسنانه شرهاً وعدواناً. وبعث الوزير من نساء المخالفين نحو ثلاثمائة إلى حصن كاليور، فسجن به. ورأيت بعضهن هنالك. وكان أحد الفقهاء له فيهن زوجة فكان يدخل إليها حتى ولدت منه في السجن.
ذكر وقوع الوباء في عسكر السلطان
ولما وصل السلطان إلى بلاد التلنك، وهو قاصد إلى قتال الشريف ببلاد المعبر، نزل مدينة بدركوت " وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وسكون الدال وفتح الراء وضم الكاف وواو وتاء معلوة "، وهي قاعدة بلاد التلنك " وضبطها بكسر التاء المعلوة واللام وسكون النون وكاف معقودة "، وبينها وبين بلاد المعبر مسيرة ثلاثة أشهر. ووقع الوباء إذ ذاك في عسكره، فهلك معظمهم، ومات العبيد والمماليك وكبار الأمراء مثل ملك دولة شاه الذي كان السلطان يخاطبه بالعم، ومثل أمير عبد الله الهروي، وقد تقدمت حكايته في السفر الأول، وهو الذي أمر السلطان أن يرفع من الخزانة ما استطاع من المال، فربط ثلاث عشرة خريطة بأعضاده ورفعها. ولما رأى السلطان ما حل بالعسكر عاد إلى دولة آباد، وخالفت البلاد، وانتقضت الأطراف، وكان الملك يخرج عن يده، لولا ما سبق به القدر من استحكام سعادته.
ذكر الإرجاف بموته وفرار الملك هوشنج
ولما عاد السلطان إلى دولة آباد مرض في طريقه، فأرجف الناس بموته وشاع ذلك، فنشأت عنه فتن عريضة. وكان الملك هوشنج ابن الملك كمال الدين كرك بدولة آباد، وكان بينه وبين السلطان عهد أن لا يبايع غيره ابداً، لا في حياته ولا بعد موته. فلما أرجف بموت السلطان هرب إلى سلطان كافر يسمى بربرة، يسكن بجبال مانعة بين دولة آباد وكون تانه، فعلم السلطان بفراره وخاف وقوع الفتنة، فجد السير إلى دولة آباد، واقتفى أثر هوشنج، وحصره بالخيل. وأرسل الكافر أن يسلمه إليه فأبى وقال: لا أسلم دخيلي ولو آل بي الأمر لما آل براي كنبيلة. وخاف هوشنج على نفسه، فراسل السلطان وعاهد على أن يرحل السلطان إلى دولة آباد، ويبقى هنالك قطلوخان معلم السلطان، ليستوثق منه هوشنج، وينزل إليه على الأمان. فرحل السلطان ونزل هوشنج إلى قطلوخان، وعاهده أن لا يقتله السلطان ولا يحط منزلته، وخرج بماله وعياله وأصحابه وقدم على السلطان، فسر بقدومه وأرضاه وخلع عليه. وكان قطلوخان صاحب عهد يستنيم الناس إليه ويقولون في الوفاء عليه. ومنزلته عند السلطان علية، وتعظيمه له شديد، ومتى دخل عليه قام له إجلالاً. فكان بسبب ذلك لا يدخل عليه حتى يكون هو الذي يدعوه لئلا يتعبه بالقيام له. وهو محب في الصدقات، كثير الإيثار، مولع بالإحسان للفقراء والمساكين.
ذكر ما هم به الشريف إبراهيم من الثورة ومآل حاله وكان الشريف إبراهيم المعروف بالخريطة دار، وهو صاحب الكاغد والأقلام بدار السلطان، والياً على بلاد حانسي وسرستي. لما تحرك السلطان إلى بلاد المعبر، وأبوه هو القائم ببلاد المعبر الشريف أحسن شاه، فلما أرجف بموت السلطان، طمع إبراهيم في السلطنة، وكان شجاعاً كريماً حسن الصورة. وكنت متزوجاً بأخته حور نسب، وكانت صالحة تتهجد بالليل لها أوراد من ذكر الله عز وجل، وولدت مني بنتاً، ولا أدري ما فعل الله فيهما. وكانت تقرأ، لكنها لا تكتب. فلما هم إبراهيم بالثورة، اجتاز به أمير من أمراء السند، معه الأموال يحملها إلى دهلي. فقال له إبراهيم: إن الطريق مخوف وفيه القطع، فأقم عندي حتى يصلح الطريق وأوصلك إلى المأمن، وكان قصده أن يتحقق موت السلطان فيستولي على تلك الأموال. فلما تحقق حياته سرح ذلك الأمير، وكان يسمى ضياء الملك بن شمس الملك. ولما وصل السلطان إلى الحضرة بعد غيبته سنتين ونصف، وصل الشريف إبراهيم إليه. فوشى به بعض غلمانه، وأعلم السلطان بما كان هم به. فأراد السلطان أن يعجل بقتله، ثم تأنى لمحبته فيه. فاتفق أن أتى يوماً إلى السلطان بغزال مذبوح ينظر إلى ذبحته، فقال: ليس يجيد الذكاة، اطرحوه. فرآه إبراهيم فقال: إن ذكاته جيدة، وأنا آكله. فأخبر السلطان بقوله، فأنكر ذلك وجعله ذريعة إلى أخذه. فأمر به فقيد وغلل، ثم قرره على ما رمي به من أنه أراد أخذ الأموال التي مر بها ضياء الملك، وعلم إبراهيم أنه إنما يريد قتله بسبب أبيه، وأنه لا تنفعه معذرة، وخاف أن يعذب. فرأى الموت خيراً له، فأقر بذلك، فأمر به، فوسط، وترك هنالك. وعادتهم أنه متى قتل السلطان أحداً أقام مطروحاً بموضع قتله ثلاثاً. فإذا كان بعد الثلاث أخذه طائفة من الكبار موكلون بذلك، فحملوه إلى خندق خارج المدينة يطرحونه به، وهم يسكنون حول الخندق، لئلا يأتي أهل المقتول فيعرفونه، وربما أعطى بعضهم لهؤلاء الكفار مالاً، فتجافوا له عن قتيله حتى يدفنه، وكذلك فعل الشريف إبراهيم رحمه الله تعالى.
ذكر خلاف نائب السلطان ببلاد التلنك
ولما عاد السلطان من التلنك وشاع خبر موته، وكان ترك تاج الملك نصرة خان نائباً عنه ببلاد التلنك، وهو من قدماء خواصه، بلغه ذلك فعمل عزاء السلطان، ودعا لنفسه، وتابعه الناس بحضرة بدركوت. فبلغ خبره إلى السلطان، فبعث معلمه قطلوخان في عساكر عظيمة، فحصره بعد قتال شديد هلك فيه أمم من الناس، واشتد الحصار على أهل بدركوت، وهي منيعة، وأخذ قطلوخان في نقبها. فخرج إليه نصرة خان على الأمان في نفسه، فأمنه وبعث به إلى السلطان، وأمن أهل المدينة والعسكر.
ذكر انتقال السلطان لنهر الكنك وقيام عين الملك
ولما استولى القحط على البلاد، انتقل السلطان بعساكره إلى نهر الكنك الذي تحج إليه الهنود، على مسيرة عشرة من دهلي، وأمر الناس بالبناء، وكانوا قبل ذلك صنعوا خياماً من حشيش الأرض، فكانت النار كثيراً ما تقع فيها وتؤذي الناس، حتى كانوا يصنعون كهوفاً تحت الأرض، فإذا وقعت النار رموا أمتعتهم بها وسدوا عليها بالتراب. ووصلت أنا في تلك الأيام لمحلة السلطان، وكانت البلاد التي بغربي النهر حيث السلطان شديدة القحط، والبلاد التي بشرقيه خصبة، وأميرها عين الملك بن ماهر. ومنها مدينة عوض، ومدينة ظفر آباد، ومدينة اللكنو، وغيرها. وكان الأمير عين الملك كل يوم يحضر خمسين ألف من، منها قمح وأرز وحمص لعلف الدواب. فأمر السلطان أن تحمل الفيلة ومعظم الخيل والبغال إلى الجهة الشرقية المخصبة لترعى هنالك، وأوصى عين الملك بحفظها. وكان لعين الملك أربعة إخوة، وهم شهر الله ونصر الله وفضل الله، ولا أذكر اسم الآخر، فاتفقوا مع أخيهم عين الملك أن يأخذوا فيلة السلطان ودوابه، ويبايعوا عين الملك، ويقوموا على السلطان. وهرب إليهم عين الملك بالليل، وكاد الأمر يتم لهم. ومن عادة ملك الهند أنه يجعل مع كل أمير كبير أو صغير مملوكاً له يكون عيناً عليه، ويعرفه بجميع حاله، ويجعل أيضاً جواري في الدور يكن عيوناً له على أمرائه، ونسوة يسميهن الكناسات، يدخلن الدور بلا استئذان، ويخبرهن الجواري بما عندهن، فتخبر الكناسات بذلك المخبرين، فيخبر بذلك السلطان. ويذكرون أن بعض الأمراء كان في فراشه مع زوجته، فأراد مماستها، فحلفته برأس السلطان أن لا يفعل، فلم يسمع منها، فبعث إليه السلطان صباحاً، وأخبره بذلك، وكان سبب هلاكه وكان للسلطان مملوك يعرف بابن ملك شاه، هو عين على عين الملك المذكور، فأخبر السلطان بفراره وجوازه النهر، فسقط في يده، وظن أنها القاضية عليه، لأن الخيل والفيلة والزرع كل ذلك عند عين الملك، وعساكر السلطان مفترقة، فأراد أن يقصد حضرته ويجمع العساكر، وحينئذ يأتي لقتاله. وشاور أرباب الدولة في ذلك. وكان أمراء خراسان والغرباء أشد الناس خوفاً من هذا القائم، لأنه هندي، وأهل الهند مبغضون في الغرباء، لإظهار السلطان لهم، فكرهوا ما ظهر له، وقالوا: يا خوند عالم، إن فعلت ذلك بلغه الخبر، فاشتد أمره ورتب العساكر، وانثال عليه طلاب الشر ودعاة الفتن، والأولى معالجته قبل استحكام قوته. وكان أول من تكلم بهذا ناصر الدين مطهر الأوهري، ووافقه جميعهم. ففعل السلطان بإشارتهم. وكتب تلك اللية إلى من قرب منه من الأمراء والعساكر، فأتوا من حينهم. وأدار في ذلك حيلة حسنة، فكان إذا قدم على محلته مثلاً مائة فارس، بعث الآلاف من عنده للقائهم ليلاً، ودخلوا معهم إلى المحلة، كأن جميعهم مدد له.وتحرك السلطان مع ساحل النهر، ليجعل مدينة قنوج وراء ظهره، ويتحصن بها لمنعتها وحصانتها. وبينها وبين الموضع الذي كان فيه ثلاثة أيام. فرحل أول مرحلة، وقد عبأ جيشه للحرب، وجعلهم صفاً واحداً، عند نزولهم كل واحد منهم بين يديه سلاحه وفرسه إلى جانبه، ومعه خباء صغير يأكل به ويتوضأ، ويعود إلى مجلسه. والمحلة الكبرى على بعد منهم. ولم يدخل السلطان في تلك الأيام الثلاثة خباء، ولا استظل بظلم. وكنت في يوم منها بخبائي، فصاح بي فتى من فتياني اسمه سنبل، واستعجلني، وكان معي الجواري، فخرجت إليه. فقال: إن السلطان أمر الساعة أن يقتل كل من معه امرأته أو جاريته، فشفع عنده الأمراء. فأمر أن لا تبقى الساعة بالمحلة أمرأة، وأن يحملن إلى حصن هنالك على ثلاثة أميال، يقال له كنبيل. فلم تبق امرأة بالمحلة، ولا مع السلطان. وبتنا تلك الليلة على تعبئة، فلما كان في اليوم الثاني رتب السلطان عسكره أفواجاً، وجعل مع كل فوج الفيلة المدرعة، عليها الأبراج، فوقها المقاتلة، وتدرع العسكر، وتهيأوا للحرب. وباتوا تلك الليلة على أهبة. ولما كان اليوم الثالث، بلغ الخبر بأن عين الملك الثائر جاز النهر، فخاف السلطان من ذلك، وتوقع أنه لم يفعله إلا بعد مراسلة الأمراء الباقين مع السلطان، فأمر في الحين بقسم الخيل العتاق على خواصه، وبعث لي حظاً منها. وكان لي صاحب يسمى أمير أميران الكرماني من الشجعان، فأعطيته فرساً منها أشهب اللون. فلما حركه جمح به، فلم يستطع إمساكه، ورماه عن ظهره فمات رحمه الله تعالى. وجد السلطان ذلك اليوم في مسيره، فوصل بعد العصر إلى مدينة قنوج، وكان يخاف أن يسبقه القائم إليها. وبات ليلته تلك، يرتب الناس بنفسه، ووقف علينا، ونحن في المقدمة مع ابن عمه ملك فيروز، ومعنا الأمير غدا ابن مهنا، والسيد ناصر الدين مطهر، وأمراء خراسان فأضافنا إلى خواصه وقال: أنتم أعزة علي، ينبغي أن تفارقوني. وكان في عاقبة ذلك الخير، فإن القائم ضرب في آخر الليل على المقدمة، وفيها الوزير خواجه جهان، فقامت ضجة في الناس كبيرة، فحينئذ أمر السلطان أن لا يبرح أحد من مكانه، ولا يقاتل الناس إلا بالسيوف.
فاستل العسكر سيوفهم، ونهضوا إلى أصحابهم. وحمي القتال، وأمر السلطان أن يكون شعار جيشه دهلي وغزنة. فإذا لقي أحدهم فرساَ قال له: دهلي. فإن أجابه بغزنة، علم أنه من أصحابه، وإلا قاتله، وكان القائم إنما قصد أن يضرب على موضع السلطان، فأخطأ به الدليل، فقصد موضع الوزير، فضرب عنق الدليل. وكان في عسكر الوزير الأعاجم والترك والخراسانيون، وهم أعداء الهنود، فصدقوا القتال. وكان جيش القائم نحو الخمسين ألفاً، فانهزموا عند طلوع الفجر. وكان الملك إبراهيم المعروف بالبنجي " بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم " التتري قد أقطعه السلطان بلاد سنديلة، وهي قرية من بلاد عين الملك، فاتفق معه على الخلاف، وجعله نائبه. وكان داود بن قطب الملك وابن ملك التجار على فيلة السلطان وخيله فوافقاه أيضاً، وجعل داود حاجبه. وكان داود هذا لما ضربوا على محلة الوزير يجهر بسب السلطان ويشتمه أقبح شتم، والسلطان يسمع ذلك ويعرف كلامه. فلما وقعت الهزيمة قال عين الملك لنائبه إبراهيم التتري: ماذا ترى يا ملك إبراهيم ? قد فر أكثر العسكر وذوو النجدة منهم، فهل لك أن ننجو بأنفسنا ? فقال إبراهيم لأصحابه بلسانهم: إذا أراد عين الملك أن يفر، فإني سأقبض على دبوقته. فإذا فعلت ذلك، فاضربوا أنتم فرسه ليسقط إلى الأرض، فنقبض عليه، ونأتي به إلى السلطان، ليكون ذلك كفارة لذنبي في الخلاف معه، وسبباً لخلاصي. فلما أراد عين الملك الفرار، قال له إبراهيم: إلى أين يا سلطان علاء الدين ? وكان يسمى بذلك، وأمسك بدبوقته، وضرب أصحابه فرسه، فسقط على الأرض، ورمى إبراهيم بنفسه عليه فقبضه، وجاء أصحاب الوزير ليأخذوه فمنعهم وقال: لا أتركه حتى أوصله للوزير، أو أموت دون ذلك، فتركوه، فأوصله إلى الوزير. وكنت أنظر عند الصبح إلى الفيلة والأعلام يؤتى بها إلى السلطان. ثم جاءني بعض العراقيين فقال: قد قبض على عين الملك، وأتى به الوزير، فلم أصدقه. فلم يمر إلا يسير، وجاءني الملك تمور الشربدار فأخذ بيدي وقال: أبشر، فقد قبض على عين الملك، وهو عند الوزير. فتحرك السلطان عند ذلك ونحن معه إلى محلة عين الملك على على نهر الكنك، فنهبت العساكر ما فيها، واقتحم كثير من عسكر عين الملك النهر فغرقوا. وأخذوا داود بن قطب الملك وابن ملك التجار وخلق كثير معهم، ونهبت الأموال والخيل والأمتعة. ونزل السلطان على المجاز، وجاء الوزير بعين الملك، وقد أركب على ثور، وهوو عريان مستور العورة بخرقة مربوطة بحبل وباقية في عنقه، فوقف على باب السراجة، ودخل الوزير إلى السلطان، فأعطاه الشربة عناية به.
وجاء أبناء الملوك إلى عين الملك فجعلوا يسبونه ويبصقون في وجهه ويصفعون أصحابه. وبعث إليه السلطان الملك الكبير، فقال له: ما هذا الذي فعلت ? فلم يجد جواباً. فأمر به السلطان أن يكسى ثوباً من ثياب الزمالة، وقيد بأربعة كبول، وغلت يداه إلى عنقه، وسلم للوزير ليحفظه. وجاز إخوته النهر هاربين، ووصلوا مدينة عوض، فأخذوا أهلهم وأولادهم وما قدروا عليه من المال، وقالوا لزوجة أخيهم عين الملك: اخلصي بنفسك، وبنوك معنا. فقالت: أفلا أكون كنساء الكفار اللاتي يحرقن أنفسهن مع أوزواجهن ? فأنا أيضاً أموت لموت زوجي، وأعيش لعيشه، فتركوها. وبلغ ذلك السلطان، فكان سبب خيرها، وأدركته لها رقة، وأدرك الفتى سهيل نصر الله من أولئك الإخوة فقتله، وأتىالسلطان برأسه. وأتى بأم عين الملك وأخته وامرأته فسلمن إلى الوزير، وجعلن في خباء بقرب خباء عين الملك. فكان يدخل إليهن، ويجلس معهن، ويعود إلى محبسه. ولما كان بعد العصر من يوم الهزيمة، أمر السلطان بسراح لفيف من الناس الذي مع عين الملك من الزمالة والسوقة والعبيد ومن لا يعبأ به، وأتي بملك إبراهيم البنجي الذي ذكرناه، فقال ملك العسكر الملك نوا: يا خوند عالم، أقتل هذا، فإنه من المخالفين. فقال الوزير: إنه قد فدى نفسه بالقائم، فعفا عنه السلطان وسرحه إلى بلاده.
ولما كان بعد المغرب جلس السلطان ببرج الخشب، وأتى باثنين وستين رجلاً من كبار أصحاب القائم، وأتى بالفيلة، فطرحوا بين أيديها، فجعلت تقطعهم بالحدائد الموضوعة على أنيابها، وترمي ببعضهم إلى الهواء، وتتلقفه. والأبواق والأنفار والطبول تضرب عند ذلك، وعين الملك واقف يعاين مقتلهم، ويطرح منهم عليه، ثم أعيد إلى محبسه. وأقام السلطان على جواز النهر أياماً لكثرة الناس وقلة القوارب. وأجاز أمتعته وخزائنه على الفيلة، وفرق الفيلة على خواصه، ليجيزوا أمتعتهم، وبعث إلي بفيل منها أجزت عليه رحلي. وقصد السلطان ونحن معه إلى مدينة بهرايج " وضبط اسمها بفتح الباء المحدة وهاء مسكن وراء وألف وياء آخر الحروف مكسورة وجيم "، وهي مدينة في عدوة نهر السرو، وهو واد كبير شديد الانحدار، وأجازه السلطان برسم زيارة قبر الشيخ الصالح البطل سالار عود، الذي فتح أكثر تلك البلاد، وله أخبار عجيبة وغزوات شهيرة. وتكاثر الناس للجواز وتزاحموا، حتى غرق مركب كبير كان فيه نحو ثلاثمائة نفس، لم ينج منهم إلا أعرابي من أصحاب الأمير غدا، وكنا ركبنا نحن مركباً صغيراً، فسلمنا الله تعالى. وكان العربي الذي سلم من الغرق يسمى بسالم، وذلك اتفاق عجيب.
وكان أراد أن يصعد معنا في مركبنا، فوجدنا قد ركبنا النهر، فركب في المركب الذي غرق. فلما خرج، ظن الناس أنه كان معنا. فقامت ضجة في أصحابنا وفي سائر الناس، وتوهموا أنا غرقنا. ثم لما رأونا بعد استبشروا بسلامتنا. وزرنا قبر الصالح المذكور، وهو في قبة لم نجد سبيلاً إلى دخولها لكثرة الزحام. وفي تلك الوجهة دخلنا غيضة قصب، فخرج علينا منها الكركدن، فقتل وأتى الناس برأسه. وهو دون الفيل، ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف، وقد ذكرناه.
ذكر عودة السلطان لحضرته ومخالفة علي شاه كر
ولما ظفر السلطان بعين الملك كما ذكرنا، عاد إلى حضرته بعد مغيب عامين ونصف، وعفا عن عين الملك، وعفا أيضاً عن نصرة خان القائم ببلاد التلنك، وجعلهما معا على عمل واحد، وهو النظر على بساتين السلطان. وكساهما وأركبهما، وعين لهما نفقة من الدقيق واللحم في كل يوم. وبلغ الخبر بعد ذلك أن أحد أصحاب قطلوخان، وهو علي شاه كر، ومعنى كر الأطرش، خالف على السلطان. وكان شجاعاً حسن الصورة والسيرة، فغلب على بدر كوت، وجعلها مدينة ملكه. وخرجت العساكر إليه، وأمر السلطان معلمه أن يخرج إلى قتاله، فخرج في عساكر عظيمة، وحصره ببدر كوت، ونقبت أبراجها، واشتدت به الحال، فطلب الأمان فأمنه قطلوخان، وبعث به إلى السلطان مقيداً، فعفا عنه ونفاه إلى مدينة غزنة من طرف خراسان، فأقام بها مدة. ثم اشتاق إلى وطنه، فأراد العودة إليه، لما قضاه الله من حينه، فقبض عليه ببلاد السند، وأتي به السلطان. فقال له: إنما جئت لتثير الفساد ثانية، وأمر به فضربت عنقه.
ذكر فرار أمير بخت وأخذه
وكان السلطان قد وجد على أمير بخت الملقب بشرف الملك، أحد الذين وفدوا معنا على السلطان، فحط مرتبه من أربعين ألفاً إلى ألف واحد، وبعثه في خدمة الوزير إلى دهلي. فاتفق أن مات أمير عبد الله الهروي في الوباء في التلنك، وكان ماله عند أصحابه بدهلي، فاتفقوا مع أمير بخت على الهروب. فلما خرج الوزير من دهلي إلى لقاء السلطان، هربوا مع أمير بخت وأصحابه، ووصلوا إلى أرض السند في سبعة أيام، وهو مسيرة أربعين يوماً وكان معهم الخيل مجنوبة، وعزموا على أن يقطعوا نهر السند عوماً، ويركب أمير بخت وولده ومن لا يحسن العوم في معدية قصب يصنعونها، وكانوا قد أعدوا حبالاً من الحرير برسم ذلك. فلما وصلوا إلى النهر خافوا من عبوره بالعوم، فبعثوا رجلين منهم إلى جلال الدين صاحب مدينة أوجه، فقالا له: إن ها هنا تجاراً أرادوا أن يعبروا النهر، وقد بعثوا إليك بهذا السرج، لتبيح لهم الجواز، فأنكر أمير أن يعطى التجار مثل ذلك السرج، وأمر بالقبض على الرجلين. ففر أحدهما، ولحق بشرف الملك وأصحابه، وهم نيام لما لحقهم من الإعياء ومواصلة السهر، فأخبرهم الخبر، فركبوا مذعورين وفروا، وأمر جلال الدين نائبه، فركب في العسكر، وقصدوا نحوهم. فوجدوهم قد ركبوا، فاقتفوا أثرهم فأدركوهم. فرموا العسكر بالنشاب، ورمى طاهر بن شرف الملك نائب الأمير جلال الدين بسهم، فأثبته في ذراعه، وغلب عليهم، فأتى بهم إلى جلال الدين، فقيدهم وغل أيديهم، وكتب إلى الوزير في شأنهم. فأمر الوزير أن يبعثهم إلى الحضرة، فبعثهم إليها. وسجنوا بها، فمات طاهر في السجن. فأمر السلطان أن يضرب شرف الملك مائة مقرعة في كل يوم، فبقي على ذلك مدة، ثم عفا عنه. وبعثه مع الأمير نظام الدين أمير نجلة إلى بلاد جنديري، فانتهت حاله إلى أن كان يركب البقر، ولم يكن له فرسه يركبه. وأقام على ذلك مدة، ثم وفد ذلك الامير على السلطان وهو معه. فجعله السلطان شاشنكير " جاشنكير "، وهو الذي يقطع اللحم بين يدي السلطان. ويمشي مع الطعام. ثم إنه بعد ذلك نوه به ورفع مقداره. وانتهت حاله إلى أن مرض. فزاره السلطان وأمر بوزنه بالذهب، وأعطاه ذلك. وقد قدمنا هذه الحكاية في السفر الأول. وبعد ذلك زوجه بأخته وأعطاه بلاد جنديري التي كان بها البقر في خدمة الأمير نظام الدين. فسبحان مقلب الأرض ومحول الأحوال.
ذكر خلاف شاه أفغان بأرض السند
وكان شاه أفغان خالف على السلطان بأرض ملتان من بلاد السند، وقتل الأمير بها، وكان يسمى به زاد، وادعى السلطنة لنفسه. وتجهز السلطان لقتاله، فعلم أنه لا يقاومه. فهرب ولحق بقومه الأفغان، وهم ساكنون بجبال منيعة لا يقدر عليها، فاغتاظ السلطان مما فعله، وكتب إلى عماله أن يقبضوا على من وجدوه من الأفغان ببلاده، فكان ذلك سبباً لخلاف القاضي جلال.
ذكر خلاف القاضي جلال
وكان القاضي جلال وجماعة من الأفغانيين قاطنين بمقربة من مدينة كنباية ومدينة بلوذرة، فلما كتب السلطان إلى عماله بالقبض على الأفغانيين كتب إلى ملك مقبل نائب الوزير ببلاد الجزرات ونهر واله، أن يحتال في القبض على القاضي جلابل ومن معه. وكانت بلاد بلوذرة إقطاعاً لملك الحكماء، وكان ملك الحكماء متزوجاً بربيبة السلطان زوجة أبيه تغلق، ولها بنت من تغلق هي التي تزوجها الأمير غدا. وملك الحكماء إذ ذاك في صحبة مقبل، لأن بلاده تحت نظره. فلما وصلوا إلى بلاد الجزرات أمر مقبل ملك الحكماء أن يأتي بالقاضي جلال وأصحابه. فلما وصل ملك الحكماء إلى بلاده حذرهم في خفية، لأنهم كانوا من أهل بلاده، وقال: إن مقبلاً طلبكم ليقبض عليكم فلا تدخلوا عليه إلا بالسلاح، فركبوا في نحو ثلاثمائة مدرع وأتوه وقالوا: لا ندخل إلا جملة. فظهر له أنه لا يمكن القبض عليهم وهم مجتمعون، وخاف منهم. فأمرهم الرجوع، وأظهر تأمينهم. فخلفوا عليه، ودخلوا مدينة كنباية، ونهبوا خزانة السلطان بها، وأموال الناس، ونهبوا مال ابن الكومي التاجر، وهو الذي عمر المدرسة الحسنة بإسكندرية، وسنذكره إثر هذا. وجاء ملك مقبل لقتالهم فهزموه هزيمة شنيعة. وجاء الملك عزيز الخمار والملك جهان بنبل لقتالهم في سبعة آلاف من الفرسان، فهزموه أيضاً، وتسامع بهم أهل الفساد والجرائم فانثالوا عليهم. وادعى القاضي جلال السلطنة، وبايعه أصحابه. وبعث السلطان إليه العساكر فهزمها. وكان بدولة أباد جماعة من الأفغان فخالفوا أيضاً.
ذكر خلاف ابن الملك مل
وكان ابن الملك مل ساكناً بدولة آباد في بعض من الأفغان، فكتب السلطان إلى نائبه بها، وهو نظام الدين أخو معلمه قطلوخان أن يقبض عليهم، وبعث إليه بأجمال كثيرة من القيود والسلاسل، وبعث بخلع الشتاء. وعادة ملك الهند أن يبعث لكل أمير على مدينة، ولوجوه جنده خلعتين في السنة: واحدة للشتاء والثانية للصيف. وإذا جاءت الخلع، يخرج الأمير والجند للقائها. فإذا وصولوا إلى الآتي بها نزلوا عن دوابهم، وأخذ كل واحد خلعته، وحملها على كتفه وخدم لجهة السلطان. وكتب السلطان لنظام الدين إذا خرج الأفغان ونزلوا عن دوابهم لأخذ الخلع فاقبض عليهم عند ذلك. وأتى أحد الفرسان الذين أوصلوا الخلع إلى الأفغان، فأخبرهم بما يراد بهم. فكان نظام الدين ممن احتال، فانعكست عليه، فركب وركب الأفغان معه حتى إذا لقوا الخلع، ونزل نظام الدين عن فرسه، حملوا عليه وأصحابه، فقبضوا عليه وقتلوا كثيراً من أصحابه، ودخلوا المدينة فاستولوا على الخزائن، وقدموا على أنفسهم ناصر الدين ابن ملك مل، وانثال عليهم المفسدون، فقويت شوكتهم.
ذكر خروج السلطان بنفسه إلى كنباية
ولما علم السلطان ما فعله الأفغان بكنباية ودولة آباد، خرج بنفسه، وعزم أن يبدأ بكنباية، ثم يعود إلى دولة آباد. وبعث أعظم ملك البايزيدي صهره في أربعة آلاف مقدمة، فاستقبله جند القاضي جلال، فهزموه وحصروه ببلوذرة، وقاتلوه بها. وكان في جند القاضي جلال شيخ يسمى جلول، وهو أحد الشجعان. فلا يزال يفتك في الجند ويقتل، ويطلب المبارزة فلا يتجاسر أحد على مبارزته. واتفق يوماً أنه دفع فرسه، فكبا به في حفرة فسقط عنه وقتل. ووجدوا عليه درعين، فبعثوا برأسه إلى السلطان، وصلبوا جسده بسور بلوذرة، وبعثوا يديه ورجليه إلى البلاد. ثم وصل السلطان بجنده فلم يكن للقاضي جلال من ثبات، ففر في أصحابه، وتركوا أموالهم وأولادهم، فنهب ذلك كله، ودخلت المدينة، وأقام بها السلطان أياماً ثم رحل عنها، وترك بها صهره شرف الملك أمير بخت الذي قدمنا ذكره، وقضية فراره وأخذه بالسند وسجنه، وما جرى له من الذل، ثم من العز. وأمره بالبحث عمن كان في طاعة جلال الدين، وترك معه الفقهاء ليحكم بأقوالهم. فأدى ذلك إلى قتل الشيخ علي الحيدري حسبما قدمناه. ولما هرب القاضي جلال لحق بناصر الدين ملك مل بدولة آباد، ودخل في جملته. فأتى السلطان بنفسه إليهم، واجتمعوا في نحو أربعين ألفاً من الأفغان والترك والهنود والعبيد، وتحالفوا على أن لا يفروا، وأن يقاتلوا السلطان. وأتى السلطان لقتالهم ولم يرفع الشطر الذي هو علامته. فلما استحر القتال رفع الشطر، ولما عاينوه دهشوا وانهزموا أقبح هزيمة. ولجأ ابن ملك مل والقاضي جلال في نحو أربعمائة من خواصهما إلى قلعة الدويقير، وسنذكرها وهي من أمنع القلاع في الدنيا، واستقر السلطان بمدينة دولة آباد والدويقير هي قلعتها. وبعث لهم أن ينزلوا على حكمه فأبوا أن ينزلوا إلاعلى الأمان. فأبى السلطان أن يؤمنهم، وبعث لهم الأطعمة تهاوناً بهم، وأقام هنالك. وهذا آخر عهدي بهم.
ذكر قتال مقبل وابن الكولمي
وكان ذلك قبل خروج القاضي جلال وخلافه. وكان تاج الدين الكولمي من كبار التجار، فنزل على السلطان من أرض الترك بهدايا جليلة، منها المماليك والجمال والمتاع والسلاح والثياب. فأعجب السلطان فعله وأعطاه اثني عشر لكاً، ويذكر أنه لم تكن قيمة هديته إلا لكاً واحداً. وولاه مدينة كنباية. وكانت لنظر الملك المقبل نائب الوزير، ووصل إليها، وبعث السفن إلى بلاد المليبار وجزيرة سيلان وغيرها. وجاءته التحف والهدايا في السفن، وعظمت حاله، ولما لم يبعث أموال تلك الجهات إلى الحضرة، بعث الملك مقبل إلى ابن الكولمي أن يبعث ما عنده من الهدايا والأموال مع هدايا تلك الجهات على العادة. امتنع ابن الكولمي عن ذلك وقال: أنا أحملها بنفسي، أو أبعثها مع خدامي، ولا حكم لنائب الوزير علي ولا للوزير، واغتر بما أولاه السلطان من الكرامة والعطية. فكتب مقبل إلى الوزير بذلك، فوقع له الوزير على ظهر كتابه: إن كنت عاجزاً عن بلادنا فاتركها وراجع إلينا.
ولما وصله الجواب تجهز في جنده ومماليكه، والتقيا بظاهر كنباية. فانهزم الكولمي، وقتل جملة من الفريقين. واستخفى ابن الكولمي في دار الناخوذة " الناخذا "، إلياس أحد كبراء التجار.
ودخل مقبلٌ المدينة فضرب رقاب جند ابن الكولمي، وبعث له الأمان نظير أن يأخذ ماله المختص به ويترك مال السلطان وهديته ومجبى البلد، وبعث مقبل بذلك كله مع خدامه إلى السلطان، وكتب شاكياً من ابن الكولمي، وكتب ابن الكولمي شاكياً منه. وبعث السلطان ملك الحكماء ليتنصف بينهما. وبأثر ذلك كان خروج القاضي جلال الدين. فنهب مال ابن الكولمي، وهرب ابن الكولمي في بعض مماليكه ولحق بالسلطان.
ذكر الغلاء الواقع بأرض الهند
وفي مدة غياب السلطان عن حضرته، إذ خرج يقصد بلاد المعبر، وقع الغلاء، واشتد الأمر، وانتهى المن إلى ستين درهماً، ثم زاد على ذلك. وضاقت الأحوال، وعظم الخطب، ولقد خرجت مرة إلى لقاء الوزير، فرأيت ثلاث نسوة يقطعن قطعاً من جلد فرس مات منذ أشهر ويأكلنه. وكانت الجلود تطبخ وتباع في الأسواق. وكان الناس إذا ذبحت البقر، أخذوا دماءها فأكلوها. وحدثني بعض طلبة خراسان أنهم دخلوا بلدة تسمى أكروهة، بين حانسي وسرستي فوجدوها خالية، فقصدوا بعض المنازل ليبيتو به، فوجدوا في بعض بيوته رجلاً قد أضرم ناراً، وبيده رجل آدمي، وهو يشويها في النار ويأكل منها، والعياذ بالله. ولما اشتد الحال، أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفطة ستة أشهر. فكانت القضاة والكتاب والأمراء يطوفون بالأزقة والحارات، ويكتبون الناس، ويعطون لكل أحد نفقة ستة أشهر، بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب في اليوم لكل واحد. وكنت في تلك المدة أطعم الناس من الطعام الذي أصنعه بمقبرة السلطان قطب الدين، حسبما يذكر، فكان الناس ينتعشون بذلك. و الله تعالى ينفع بالقصد فيه. وإذ قد ذكرنا من أخبار السلطان، وما كان في أيامه من الحوادث ما فيه الكفاية، فلنعد إلى ما يخصنا من ذلك، ونذكر كيفية وصولنا أولاً إلى حضرته، وتنقل الحال إلى خروجنا عن الخدمة، ثم خروجنا عن السلطان في الرسالة إلى الصين، وعودنا منها إلى بلادنا، إن شاء الله تعالى.
ذكر وصولنا إلى دار السلطان وعند قدومنا وهو غائب
ولما دخلنا حضرة دهلي قصدنا باب السلطان، ودخلنا الباب الأول ثم الثاني والثالث، ووجدنا عليه النقباء، وقد تقدم ذكرهم. فلما وصلنا إليهم تقدم بنا نقيبهم إلى مشور عظيم متسع، فوجدنا به الوزير خواجه جهان ينتظرنا. فتقدم ضياء الدين خداوند زاده، ثم تلا أخوه قوام الدين، ثم أخوهما عماد الدين، ثم تلوتهم، ثم تلاني أخوهم برهان الدين، ثم الأمير مبارك السمرقندي، ثم أرون بغا التركي، ثم ملك زاده ابن أخت خدواند زاده، ثم بدر الدين الفصال.
ولما دخلنا من الباب الثالث ظهر لنا المشور الكبير المسمى هزار اسطون " استون " ومعنى ذلك ألف سارية، وبه يجلس السلطان الجلوس العام. فخدم الوزير عند ذلك حتى قرب رأسه من الأرض، وخدمنا نحن بالركوع، وأوصلنا أصابعنا إلى الأرض، وخدمتنا لناحية سرير السلطان، وخدم جميع من معنا. فلما فرغنا من الخدمة، صاح النقباء بأصوات عالية: بسم الله، وخرجنا.
ذكر وصولنا لدار أم السلطان
وذكر فضائلها
وأم السلطان تدعى المخدومة جهان، وهي من أفضل النساء، كثيرة الصدقات، عمرت زوايا كثيرة، وجعلت فيها الطعام للوارد والصادر. وهي مكفوفة البصر، وسبب ذلك انه لما ملك ابنها، جاء إليها جميع الخواتين وبنات الملوك والأمراء في أحسن زي، وهي على سرير الذهب المرصع بالجوهر، فخدمن بين يديها جميعاً، فذهب بصرها للحين، وعولجت بأنواع العلاج فلم ينفع. وولدها أشد الناس براً بها. ومن بره أنها سافرت معه مرة فقدم السلطان قبلها بمدة، فلما قدمت خرج لاستقبالها، وترجل عن فرسه وقبل رجلها، وهي في المحفة بمرأى من الناس أجمعين.
ولنعد لما قصدناه فنقول، ولما انصرفنا عن دار السلطان خرج الوزير ونحن معه إلى باب الصرف، وهم يسمونه باب الحرم، وهنالك سكنى المخدومة جهان. فلما وصلنا بابها نزلنا عن الدواب، وكل واحد منا قد أتى بهدية على قدر حاله.
ودخل معنا قاضي قضاة المماليك كمال الدين بن البرهان، فخدم الوزير والقاضي عند بابها، وخدمنا كخدمتهم، وكتب كاتب بابها هدايانا. ثم رجعوا إلى الوزير، ثم عادوا إلى القصر، ونحن وقوف. ثم أمرنا بالجلوس في سقيف هنالك، ثم أتوا بالطعام، وأوتوا بقلال من الذهب يسمونها السين " بضم السين والياء أخر الحروف "، وهي مثل القدور، ولها مرافع من الذهب تجلس عليها، يسمونها السبك " بضم السين وضم الباء الموحدة " وأتوا بأقداح وطسوت وأباريق كلها ذهب، وجعلوا الطعام سماطين، وعلى كل سماط صفان. ويكون في رأس الصف كبير القوم الواردين.
ولما تقدمنا للطعام، خدم الحجاب والنقباء، وخدمنا لخدمتهم. ثم أتوا بالشربة فشربنا. وقال الحجاب: بسم الله، ثم أكلنا، وأتوا بالفقاع والتنبول. وقال الحجاب: بسم الله، فخدمنا جميعاً. ثم دعينا إلى موضع هنالك، فخلع علينا حلل الحرير المذهبة، وأتوا بنا إلى باب القصر، تحت ثياب غير مخيطة من حرير وكتان. فأعطي كل واحد منا نصيبه منها. ثم أتوا بطيفور ذهب فيه الفاكهة اليابسة، وبطيفور مثله فيه الجلاب، وطيفور ثالث فيه التنبول. ومن عادتهم أن الذي يخرج له ذلك، يأخذ الطيفور بيده، ويجعله على كاهله، ويخدمه بيده الثانية إلى الأرض. فأخذ الوزير الطيفور بيده قصد أن يعلمني كيف أفعل إيناساً منه وتواضعاً ومبرة، جزاه الله الخير. ففعلت كما فعل، وانصرفنا إلى الدار المعدة لنزولنا بمدينة دهلي، وبمقربة من دروازة بالم منها، وبعث لنا الضيافة.
ذكر الضيافة
ولما وصلت إلى الدار التي أعدت لنزولي وجدت فيها ما يحتاج إليه من فرش وبسط وحصر وأوان وسرير الرقاد، وأسرتهم بالهند خفيفة الحمل، يحمل السرير منها الرجل الواحد ولا بد لكل أحد أن يستصحب السرير في السفر، يحمله غلامه على رأسه، وهو أربع قوائم مخروطة، يعرض عليها أربعة أعواد، وتنسج عليها ضفائر من الحرير والقطن، فإذا نام الانسان عليه لم يحتج إلى ما يرطبه به، لأنه يعطي الرطوبة من ذاته. وجاءوا مع السرير بمضربين ومخدتين ولحاف، كل ذلك من الحرير وعادتهم أن يجعلوا للمضربات واللحوف " اللحف " وجوهاً تغشيها وأتوا تلك الليلة برجلين أحدهما الطاحوني ويسمونه الخراص والثاني الجزار ويسمونه القصاب فقالوا لنا خذوا من هذا كذا وكذا من الدقيق، ومن هذا كذا وكذا من اللحم، لأوزان لا أذكرها الآن وعادتهم أن يكون اللحم الذي يعطون بقدر وزن الدقيق، وهذا الذي ذكرناه في ضيافة أم السلطان، وبعدها وصلتنا ضيافة السلطان وسنذكرها. ولما كان من غير ذلك اليوم ركبنا إلى دار السلطان، وسلمنا على الوزير، فأعطاني بدرتين، كل بدرة من ألف دينار دراهم، وقال لي: هذه سر ششتي " شستي " ومعناه لغسل رأسك، وأعطاني خلعة من المرعز، وكتب جميع أصحابي وخدامي وغلماني، فجعلوا أربعة أصناف: فالصنف الأول منها أعطي كل واحد منها مائتي دينار، والصنف الثاني أعطي كل واحد منهم مائة وخمسين ديناراً والصنف الثالث أعطي كل واحد مائة دينار، والصنف الرابع أعطي كل واحد خمسة وسبعين ديناراً، وكانوا نحو أربعين وكان جملة ما أعطوه أربعة آلاف دينار ونيفاً، وبعد ذلك عينت ضيافة السلطان، وهي ألف رطل هندية من الدقيق، ثلثها من الميرا وهو الدرمك، وثلثاها من الخشكار وهو المدهون، وألف رطل من اللحم، ومن السكر والسمن والسليف والفوفل أرطال كثيرة، لا أذكر عددها والألف من ورق التنبول والرطل الهندي عشرون رطلاً من أرطال المغرب، وخمسة وعشرون من أرطال مصر، وكانت ضيافة خداوند زاده أربعة آلاف رطل من الدقيق، ومثلها من اللحم، مع ما يناسبها مما ذكرناه.
ذكر وفاة بنتي وما فعلوا في ذلك ولما كان بعد شهر ونصف من مقدمنا توفيت بنت لي سنها دون السنة. فاتصل خبر وفاتها بالوزير، فأمر أن تدفن في زاوية بناها خارج دروازة بالم، بقرب مقبرة هنالك لشيخنا إبراهيم القونوي، فدفناها بها وكتب بخبرها إلى السلطان فأتاه الجواب في عشي اليوم الثاني، وكان بين متصيد السلطان وبين الحضرة مسيرة عشرة أيام وعادتهم أن يخرجوا إلى قبر الميت صبيحة الثالث من دفنه، ويفرشون جوانب القبر بالبسط وثياب الحرير، ويجعلون على القبر الأزاهير، وهي لا تنقطع هنالك في فصل من الفصول كالياسمين وقل شبه " كل شبو " وهي زهر أصفر، وريبول وهو أبيض، والنسرين وهو على صنفين أبيض وأصفر، ويجعلون أغصان النارنج والليمون بثمارها، وإن لم يكن فيها ثمار علقوا منها حبات بالخيوط، ويصبون على القبر الفواكه اليابسة وجوز النارجيل، ويجتمع الناس ويؤتى بالمصاحف فيقرأون القرآن، فإذا ختموا أتوا بماء الجلاب فسقوه الناس، ثم يصب عليهم ماء الورد صباً، ويعطون التنبول وينصرفون. ولما كان صبيحة الثالث من دفن هذه البنت، خرجت الصبح على العادة، وأعددت ما تيسر من ذلك كله، فوجدت الوزير قد أمر بترتيب ذلك، وأمر بسراجة فضربت على القبر، وجاء الحاجب شمس الدين الفوشنجي الذي تلقانا بالسند، والقاضي نظام الدين الكرواني وجملة من كبار أهل المدينة، ولم آت إلا والقوم المذكورون، قد أخذوا مجالسهم، والحاجب بين أيديهم، وهم يقرأون القرآن فقعدت مع أصحابي بمقربة من القبر. فلما فرغوا من القرأة، قرأ القراء بأصوات حسان، ثم قام القاضي فقرأ رثاء في البنت المتوفاة، وثناء على السلطان. وعند ذكر اسمه قام الناس جميعاً قياماً فخدموا ثم جلسوا، ودعا القاضي دعاء حسناً، ثم أخذ الحاجب وأصحابه براميل ماء الورد وصبوا على الناس، ثم داروا عليهم بأقداح شربة النبات، ثم فرقوا عليهم التنبول، ثم أتي بإحدى عشرة خلعة لي ولأصحابي ثم ركب الحاجب وركبنا معه إلى دار السلطان، فخدمنا للسرير على العادة، وانصرفت إلى منزلي فما وصلت إلا وقد جاء الطعام من دار المخدومة جهان، ما ملأ الدار ودور أصحابي، وأكلوا جميعاً، وأكل المساكين. وفضلت الأقراص والحلواء والنبات، فأقمت بقاياها أياماً، وكان فعل ذلك كله بأمر السلطان. وبعد أيام جاء الفتيان من دار المخدومة جهان بالدولة وهي المحفة التي يحمل فيها النساء، ويركبها الرجال وهي شبه السرير، سطحها من ضفائر الحرير والقطن، وعليها عود شبه الذي على البوجات عندنا، معوج من القصب الهندي المغلوق، ويحملها ثمانية رجال في نوبتين: يستريح أربعة، ويحمل أربعة، وهذه الدول بالهند كالحمير بديار مصر، عليها ينصرف أكثر الناس فمن كان له عبيداً حملوه، ومن لم يكن له عبيد اكترى رجالاً يحملونه. وبالبلد منهم جماعة يسيرة، يقفون في الأسواق وعند باب السلطان، وعند أبواب الناس للكري، وتكون دول النساء مغشاة بغشاء حرير. وكذلك كانت هذه الدولة التي أتى الفتيان بها من دار أم السلطان، فحملوا فيها جاريتي، وهي أم البنت المتوفاة وبعثت أنا معها عن هدية جارية تركية فاقامت الجارية أم البنت عندهم ليلة، وجاءت في اليوم الثاني وقد أعطوها ألف دينار دراهم، وأساور ذهب مرصعة، وتهليلاً من الذهب مرصعاً وقميص كتان مزركشاً بالذهب وخلعة حرير مذهبة وتختاً بأثواب ولما جاءت بذلك أعطيته لأصحابي وللتجار الذين لهم علي الدين، محافظة على نفسي، وصوناً لعرضي لأن المخبرين يكتبون إلى السلطان بجميع أحوالي.
ذكر إحسان السلطان والوزير
في أيام غيبة السلطان عن الحضرة
وفي أثناء إقامتي أمر السلطان أن يعين لي من القرى ما يكون فائدة خمسة آلاف دينار في السنة، فعينها لي الوزير وأهل الديوان، وخرجت إليها فمنها قرية تسمى بدلي " بفتح الباء الموحدة وفتح الدال المهملة وكسر اللام " وقرية تسمى بسهي " بفتح الباء الموحدة والسين المهمل وكسر الهاء " ونصف قرية تسمى بلرة " بفتح الباء الموحدة واللام والراء "، وهذه القرى على مسافة ستة عشر كروهاً، وهو الميل، بصدي يعرف بصدي هندبت، والصدي عندهم مجموع مائة قرية من قرى بلاد الهند، وأحواز المدينة مقسومة أصداء، وكل صدي له جوطري، وهو شيخ من كفار تلك البلاد، ومتصرف، وهو الذي يضم مجابيها. وكان قد وصل في ذلك الوقت سبي من الكفار، فبعث الوزير إلي عشر جوار منه، فأعطيت الذي جاء بهن واحدة منهن، فلما رضي بذلك، وأخذ أصحابي ثلاثاً صغاراً منهن، وباقيهن لا أعرف ما اتفق لهن. والسبي هنالك رخيص الثمن، لأنهن قذرات لا يعرفن مصالح الحضر، والمعلمات رخيصات الأثمان، فلا يفتقر أحد إلى شراء السبي. والكفار ببلاد الهند في بر متصل وبلاد متصلة مع المسلمين والمسلمون غالبون عليهم وإنما يمتنع الكفار بالجبال والأوعار، ولهم غيضات من القصب، وقصبهم غير مجوف، ويعظم ويلتف بعضه على بعض، ولا تؤثر فيه النار، وله قوة عظيمة فيسكنون تلك الغياض، وهي لهم مثل السور، وبداخلها تكون مواشيهم وزروعهم، ولهم فيها المياه مما يجتمع من ماء المطر فلا يقدر عليهم الا بالعساكر القوية من الرجال الذين يدخلون تلك الغياض، ويقطعون تلك القصب بآلات معدة لذلك.
ذكر العيد الذي شهدته أيام غيبة السلطان
وأطل عيد الفطر، والسلطان لم يعد بعد إلى الحضرة، فلما كان يوم العيد ركب الخطيب على الفيل، وقد مهد له على ظهره شبه السرير، وركزت أربعة أعلام في أركانه الأربعة، وليس الخطيب ثياب السود، وركب المؤذنون على الفيلة يكبرون أمامه، وفقهاء المدينة وقضاتها وكل واحد يستصحب صدقة يتصدق بها حين الخروج إلى المصلى ونصب على المصلى صيوان قطن، وفرش ببسط، واتجمع الناس ذاكرين الله تعالى. ثم صلى بهم الخطيب وخطب وانصرف الناس إلى منازلهم، وانصرفنا إلى دار السلطان وجعل الطعام، فحضره الملوك والأمراء، والأعزة وهم الغرباء، وأكلوا وانصرفوا.
ذكر قدوم السلطان ولقائنا له
ولما كان في رابع شوال نزل السلطان بقصر اسمه تلبت "بكسر التاء المعلوة الأولى وسكون اللام وفتح الباء الموحدة ثم تاء كالأولى "، وهي على مسافة سبعة أميال من الحضرة فأمرنا الوزير بالخروج اليه فخرجنا، ومع كل انسان هديته من الخيل والجمال والفواكه الخراسانية والسيوف المصرية والمماليك والغنم المجلوبة من بلاد الأتراك فوصلنا إلى باب القصر واجتمع جميع القادمين فكانوا يدخلون إلى السلطان على قدر مراتبهم، ويخلع عليهم ثياب الكتان المزركشة بالذهب، ولما وصلت إلى النوبة، دخلت فوجدته قاعداً على كرسي، فظننته أحد الحجاب حتى رأيت معه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي، وكنت عرفته أيام غيبة السلطان، فخدم الحاجب، فخدمت واستقبلني أمير حاجب، وهو ابن عم السلطان فيروز، وخدمت ثانية لخدمته، ثم قال لي ملك الندماء بسم الله، مولانا بدر الدين. وكانوا يدعونني بأرض الهند بدر الدين وكل من كان من أهل الطلب إنما يقال له مولانا فقربت من السلطان حتى أخذ بيدي وصافحني وأمسك يدي وجعل يخطابني بأحسن خطاب، ويقول لي بالفارسي، حلت البركة، قدومك مبارك، اجمع خاطرك، اعمل معك من المراحم، وأعطيك من الأنعام، ما يسمع به أهل بلادك، فيأتون إليك. ثم سألني عن بلادي فقلت له: بلاد المغرب فقال لي: بلاد عبد المؤمن ? فقلت له: نعم. وكان كلما قال لي كلاماً جيداً قبلت يده حتى قبلتها سبع مرات. وخلع علي، وانصرفت واجتمع الواردون، فمد لهم سماط. ووقف على رؤوسهم قاضي القضاة صدر الجهان كمال الدين الغزنوي، وعماد الملك عرض المماليك، والملك جلال الدين الكيجي، وجماعة من الحجاب والامراء، وحضر كذلك خداوند زاده غياث الدين، ابن عم خداوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ الذي قدم معنا، وكان السلطان يعظمه ويخاطبه بالأخ وتردد إليه مراراً من بلاده. والواردون الذين خلع عليهم في ذلك اليوم هم خداوند زاده قوام الدين وإخوته ضياء الدين وعماد الدين وبرهان الدين وابن أخيه أمير بخت ابن السيد تاج الدين، وكان جده وجيه الدين وزير خراسان، وكان خاله علاء الدين أمير هند ووزيراً أيضاً، والأمير هبة الله ابن الفلكي التبريزي، وكان أبوه نائب الوزير بالعراق، وهو الذي بنى المدرسة الفلكية بتبريز، وملك كراي من أولاد بهرام جور " جوبين " صاحب كسرى، وهو من أهل جبل بدخشان الذي منه يجلب الياقوت البلخش واللازورد، والأمير مبارك شاه السمرقندي، وأرون بغا البخاري، وملك زاده الترمذي، وشهاب الدين الكازروني، التاجر الذي قدم تبريز بالهدية إلى السلطان فسلب في طريقه.
ذكر دخول السلطان إلى حضرته
وما أمر لنا به من المراكب
وفي الغد من يوم خروجنا إلى السلطان أعطي كل واحد منا فرساً من مراكب السلطان، عليه سرج ولجام محليان وركب السلطان لدخول حضرته، وركبنا في مقدمته مع صدر الجهان، وزينت الفيلة أمام السلطان، وجعلت عليها الأعلام، ورفعت عليها ستة عشر شطراً، منها مزركشة، ومنها مرصعة، ورفع فوق رأس السلطان شطرٌ منها، وحملت أمامه الغاشية، وهي ستارة مرصعة، وجعل على بعض الفيلة رعادات صغار، فلما وصل السلطان إلى قرب المدينة، قذف في تلك الرعادات بالدنانير والدراهم مختلطة، والمشاة بين يدي السلطان وسواهم ممن حضر يلتقطون ذلك. ولم يزالوا ينثرونها إلى أن وصلوا القصر وكان بين يديه آلاف من المشاة على الأقدام وصنعت قباب الخشب المكسوة بثياب الحرير، وفيها المغنيات حسبما ذكرنا ذلك.
ذكر دخولنا اليه وما أنعم به من الإحسان والولاية
ولما كان يوم الجمعة، ثاني يوم دخول السلطان، أتينا باب المشور، فجلسنا في سقائف الباب الثالث، ولم يكن الإذن حصل لنا بالدخول، وخرج الحاجب شمس الدين الفوشنجي، فأمر الكتاب أن يكتبوا أسماءنا، وأذن لهم في دخولنا، ودخول بعض أصحابنا، وعين للدخول معي ثمانية، فدخلنا ودخلوا معنا، ثم جاءوا بالبدر والقبان، وهو الميزان، وقعد قاضي القضاة والكتاب، ودعوا من بالباب من الأعزة وهم الغرباء، فعينوا لكل نصيبه من تلك البدر، فحصل لي خمسة آلاف دينار وكان مبلغ المال مائة ألف دينار، تصدقت به أم السلطان لما قدم ابنها، وانصرفنا ذلك اليوم وكان السلطان بعد ذلك يستدعينا للطعام بين يديه، ويسأل عن أحوالنا، ويخاطبنا بأجمل الكلام ولقد قال لنا في بعض الأيام: أنتم شرفتمونا بقدومكم فما نقدر على مكافأتكم فالكبير منكم مقام والدي، والكهل مقام أخي، والصغير مقام ولدي، وما في ملكي أعظم من مدينتي هذه أعطيكم إياها فشكرناه ودعونا له.
ثم بعد ذلك أمر لنا بالمرتبات فعين لي اثني عشر ألف دينار في السنة، وزادني قريتين على الثلاث التي أمر لي بها قبل، إحداهما قرية جوزة، والثانية قرية ملك بور، وفي بعض الأيام بعث لنا خداوند زاده، وغياث الدين وقطب الملك صاحب السند فقالا لنا: إن خوند عالم يقول لكم: من كان منكم يصلح للوزارة أو الكتابة أو الإمارة أو القضاة أو التدريس أو المشيخة، أعطيته ذلك فسكت الجميع لأنهم كانوا يريدون تحصيل الأموال والانصراف إلى بلادهم، وتكلم أمير بخت ابن السيد تاج الدين الذي تقدم ذكره فقال: أما الوزارة فميراثي، وأما الكتابة فشغلي، وغير ذلك لا أعرفه.
وتكلم هبة الله الفلكي فقال مثل ذلك، وقال لي خداوند زاده بالعربي: ما تقول أنت يا سيدي ? وأهل تلك البلاد ما يدعون العربي إلا بالتسويد ، وبذلك يخاطبه السلطان، تعظيماً للعرب، فقلت له: أما الوزارة والكتابة فليست شغلي، وأما القضاء والمشيخة فشغلي وشغل آبائي، وأما الإمارة فتعلمون أن الأعاجم ما أسلمت إلا بأسياف العرب، فلما بلغ ذلك السلطان أعجبه كلامي وكان بهزار أسطون يأكل الطعام، فبعث عنا، فأكلنا بين يديه، وهو يأكل، ثم انصرفنا إلى خارج هزار اسطون، فقعد أصحابي وانصرفت بسبب دمل كان يمنعني الجلوس، فاستدعانا السلطان ثانية فحضر أصحابي، واعتذر واله عني بعد صلاة العصر، فصليت بالمشور المغرب والعشاء الآخرة، ثم خرج الحاجب فاستدعانا، فدخل خداوند زاده ضياء الدين، وهو أكبر الإخوة المذكورين، فجعله السلطان أمير داد وهو من الأمراء الكبار، فجلس بمجلس القاضي. فمن كان له حق على أمير أو كبير أحضره بين يديه، وجعل مرتبه على هذه الخطة خمسين ألف دينار في السنة، عين له مجاشر فائدها ذلك المقدار، فأمر له بخمسين ألفاً عن يدٍ، وخلع عليه خلعة حرير مزركشة تسمى صورة الشير، ومعناه صورة السبع، لأنه يكون في صدرها وظهرها صورة سبع، وقد خيط في باطن الخلعة بطاقة بمقدار مازركش فيها من الذهب، وأمر له بفرس من الجنس الأول، والخيل عندهم أربعة أجناس وسروجهم كسروج أهل مصر، ويكسون أعظمها بالفضة المذهبة، ثم دخل أمير بخت، فأمره أن يجلس مع الوزير في مسنده، ويقف على محاسبات الدواوين وعين له مرتباً أربعين ألف دينار في السنة أعطى مجاشر فائدها بمقدار ذلك، وأعطى أربعين ألفاً عن يد، وأعطى فرساً مجهزاً، وخلع عليه كخلعة الذي قبله، ولقب شرف الملك.

ثم دخل هبة الله بن الفلكي فجعله رسول دار، ومعناه حاجب الإرسال، وعين له مرتباً أربعين ألف دينار في السنة أعطى مجاشر يكون قائدها بمقدار ذلك وأعطى أربعة وعشرين ألفاً عن يد وأعطى فرساً مجهزاً وخلعة، وجعل لقبه بهاء الملك. ثم دخلت فوجدت السلطان على سطح القصر مستنداً إلى السرير، والوزير خواجه جهان بين يديه، والملك الكبير قبولة واقف بين يديه فلما سلمت عليه، قال لي الملك الكبير: أخدم فقد جعلك خوند عالم قاضي دار الملك دهلي، وجعل مرتبك اثني عشر ألف دينار في السنة، وعين لك مجاشر بمقدارها، وأمر لك باثني عشر ألفاً نقداً تأخذها من الخزانة غداً إن شاء الله، وأعطاك فرساً بسرجه ولجامه، وأمر لك بخلعة محاربي، وهي التي يكون في صدرها وظهرها شكل محراب، فخدمت وأخذ بيدي فتقدم بي إلى السلطان، فقال لي السلطان: لا تحسب قضاء دهلي من أصغر الأشغال، هو أكبر الأشغال عندنا، وكنت أفهم قوله، ولا أحسن الجواب عنه وكان السلطان يفهم العربي ولا يحسن الجواب عنه، فقلت له: يا مولانا أنا على مذهب مالك،، وهؤلاء حنفية وأنا لا أعرف إنساناً فقال لي: قد عينت بهاء الدين الملتاني وكمال الدين البجنوري ينوبان عنك ويشاورانك، وتكون أنت تسجل على العقود وأنت عندنا بمقام الوالد، فقلت له: بل عبدكم وخديمكم فقال لي باللسان العربي، بل أنت سيدنا ومخدومنا، تواضعاً منه وفضلاً وإيناساً، ثم قال لشرف الملك أمير بخت، إن كان الذي ترتب له لا يكفيه لأنه كثير الإنفاق، فأنا أعطيه زاوية إن قجر على إقامة حال الفقراء، وقال: قل له هذا بالعربي، وكان يظن أنه يحسن العربي ولم يكن كذلك وفهم السلطان ذلك فقال له: برو ويكجا بخصبي " بخسبي " وآن حكاية بروابكوي وتفهيم كني " بكني " تافردا إن شاء الله بيش من بيايي " و" جواب أو بكري " بكوي " معناه: امشوا الليلة فارقدوا في موضع واحد، وفهمه هذه الحكاية، فإذا كان بالغد إن شاء الله تجيء إلي وتعلمني بكلامه، فانصرفنا وذلك في ثلث الليل، وقد ضربت النوبة. والعادة عندهم إذا ضربت لا يخرج أحد فانتظرنا الوزير حتى خرج، وخرجنا معه، ووجدنا أبواب دهلي مسدودة فبتننا عند السيد أبي الحسن العبادي العراقي، بزقاق يعرف بسرابور خان وكان هذا الشيخ يتجر بمال السلطان ويشتري له الأسلحة والأمتعة بالعراق وخراسان. ولما كان بالغد بعث عنا، فقبضنا الأموال والخيل والخلع، وأخذ كل واحد منا البدرة بالمال، فجعلها على كاهله، ودخلنا كذلك على السلطان فخدمنا، وأتينا بالأفراس فقبلنا حوافرها، بعد أن جعلت عليها الخرق، وقدناها بأنفسنا إلى باب دار السلطان فركبناها وذلك كله عادة عندهم، ثم انصرفنا وأمر السلطان لأصحابه بألفي دينار وعشر خلع، ولم يعط لأصحاب أحد سواي شيئاً وكان أصحابي لهم رواء ومنظر، فأعجبوا السلطان وخدموا بين يديه وشكرهم.
ذكر عطاء ثان أمر لي به وتوقفه مدة

وكنت يوماً بالمشور، بعد أيام من توليتي القضاء والإحسان إلي، وأنا قاعد تحت شجرة هنالك، وإلى جانبي مولانا ناصر الدين الترمذي العالم الواعظ، فأتى بعض الحجاب فدعا مولانا ناصر الدين، فدخل إلى السلطان، فخلع عليه، وأعطاه مصحفاً مكللاً بالجوهر، ثم أتاني بعض الحجاب فقال: أعطني شيئاً وآخذ لك خط خرد باثني عشر ألفاً، أمر لك بها خوند عالم فلم أصدقه وظننته يريد الحيلة علي، وهو مجد في كلامه، فقال بعض الأصحاب: أنا أعطيه، فأعطاه دينارين أو ثلاثة، وجاء بخط خرد ومعناه الخط الأصغر مكتوباً بتعريف الحاجب، ومعناه أمر خوند عالم أن يعطي من الخزانة الموفورة كذا لفلان بتبليغ فلان أي بتعريفه، ويكتب المبلغ اسمه ثم يكتب على تلك البراءة ثلاثة من الأمراء: وهم الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان، والخريطة دار وهو صاحب وهو صاحب خريطة الكاغد والأقلام، والأمير نكبية الدوادار صاحب الدواة، فإذا كتب كل واحد منهم خطه، تذهب البراءة إلى ديوان الوزارة فينسخها كتاب الديوان عندهم، ثم تثبت في ديوان الأشراف، ثم تثبتا في ديوان النظر، ثم تكتب البراونة، وهي الحكم من الوزير للخازن بالعطاء، ثم يثبتها الخازن في ديوانه، ويكتب تلخيصاً في كل يوم بمبلغ ما أمر به السلطان ذلك اليوم من المال، ويعرضه عليه فمن أراد التعجيل بعطائه أمر بتعجيله ومن أراد التوقيف وقف له ولكن لا بد من عطاء ذلك، ولو طالت المدة فقد توقفت هذه الاثنا عشر ألفاً ستة أشهر ثم أخذتها مع غيرها حسبما يأتي. وعادتهم إذا أمر السلطان بإحسان لأحد يحط منه العشر فمن أمر له مثلا بمائة ألفٍ، أعطي تسعين ألفاً، أو بعشرة آلاف أعطي تسعة آلاف.
ذكر طلب الغرماء ما لهم قبلي ومدحي للسلطان
وأمره بخلاص ديني وتوقف ذلك مدة
وكنت حسبما ذكرته قد استدنت من التجار مالاً أنفقته في طريقي، وما صنعت به الهدية للسلطان، وما أنفقته في إقامتي فلما أرادوا السفر إلى بلادهم ألحوا علي في طلب ديونهم فمدحت السلطان في قصيدة طويلة أولها:

إليك أمير المؤمنين المبجلا أتينا نجد السير نحوك في الفلا
فجئت محلاً من علائك زائراً ومغناك كهفٌ للزيارة أهلا
فلو أن فوق الشمس للمجد رتبةً لكنت لأعلاها إماماً مؤهلاً
فأنت الإمام الماجد الأوحد الذي سجاياه حتماً أن يقول ويفعلا
ولي حاجة من فيض جودك أرتجي قضاها وقصدي عند مجدك سهلاً
أأذكرها أم قد كفاني حياؤكم فإن حياكم ذكره كان أجملا
فعجل لمن واقى محلك زائراً قضا دينه إن الغريم تعجلا
فقدمتها بين يديه، وهو قاهد على كرسي، فجعلها على ركبته، وأمسك طرفها بيده، وطرفها الثاني بيدي. وكنت إذا أكملت بيتاً منها أقول لقاضي القضاة كمال الدين الغزنوي بين معناه لخوند عالم، فيبينه ويعجب السلطان وهم يحبون الشعر العربي فلما بلغت إلى قولي: فعجل لمن وافى، البيت، قال: مرحمة ومعناه: ترحمت عليك فأخذ الحجاب حينئذ بيد ليذهبوا بي إلى موقفهم، وأخدم على العادة فقال السلطان اتركوه حتى يكملها فأكملتها وخدمت، وهنأني الناس بذلك، وأقمت مدة، وكتبت رفعاً، وهم يسمونه عرض داشت، فدفعته إلى قطب الملك صاحب السند، فدفعه للسلطان فقال له: امض إلى خواجه جهان فقل له: يعطي دينه فمضى إليه وأعلمه، فقال: نعم وأبطأ ذلك أياماً وأمره السلطان في خلالها بالسفر إلى دولة آباد وفي أثناء ذلك خرج السلطان إلى الصيد، وسافر الوزير، فلم آخذ شيئاً منها إلا بعد مدة. والسبب الذي توقف به عطاؤها أذكره مستوفى وهو أنه لما عزم الذي كان لهم علي الدين إلى السفر، قلت لهم: إذا أنا أتيت دار السلطان فدرهوني على العادة في تلك البلاد، لعلمي أن السلطان متى يعلم بذلك خلصهم، وعادتهم أنهم متى كان لأحد دين على رجل من ذوي العناية وأعوزه خلاصه وقف له بباب دار السلطان فإذا أراد الدخول قال له: دروهي، وحق رأس السلطان ما تدخل حتى تخلصني، فلا يمكنه ان يبرح من مكانه حتى يخلصه، أو يرغب إليه في تأخيره. فاتفق يوماً أن خرج السلطان إلى زيارة قبر أبيه، ونزل بقصر هنالك فقلت لهم: هذا وقتكم، فلما أردت الدخول، وقفوا لي بباب القصر فقالوا لي دروهي السلطان ما تدخل حتى تخلصنا. وكتب كتاب الباب بذلك إلى السلطان، فخرج حاجب قصة شمس الدين، وكان من كبار الفقهاء، فسألهم لأي شيء درهتموه ? فقالوا: لنا عليه الدين فرجع إلى السلطان فأعلمه بذلك، فقال له: أسألهم كم مبلغ الدين ? فقالوا له خمس وخمسون ألف دينار، فعاد إليه فأعلمه فأمره أن يعود إليهم، ويقول لهم: إن خوند عالم يقول لكم: المال عندي وأنا أنصفكم منه فلا تطلبوه به وأمر عماد الدين السمناني وخداوند زاده غياث الدين أن يقعدوا بهزار أسطون، ويأتي أهل الدين بعقودهم، وينظروا إليها، ويتحققوها ففعلا ذلك وأتى الغرماء بعقودهم فدخلا إلى السلطان وأعلماه بثبوت العقود، فضحك وقال: ممازحاً: أنا أعلم أنه قاض جهز شغله فيها ثم أمر خداوند زاده أن يعطيني ذلك من الخزانة فطمع في الرشوة على ذلك وامتنع أن يكتب خط خرد، فبعثت إليه مائتي تنكة، فردها ولم يأخذها وقال لي عنه بعض خدامه: إنه طلب خمسمائة تنكة فامتنعت من ذلك وأعلمت عميد الملك بن عماد الدين السمناني بذلك، فأعلم به أباه وأعلمه الوزير، وكانت بينه وبين خداوند زاده عداوة فأعلم السلطان بذلك، وذكر له كثيراً من أفعال خداوند زاده، فغير خاطر السلطان عليه، فأمر بحبسه في المدينة وقال: لأي شيء أعطاه فلان ما أعطاه ووقفوا ذلك حتى يعلم هل يعطي خداوند زاده شيئاً إذا منعته أو يمنعه إذا أعطيته فبهذا السبب توقف عطاء ديني.
ذكر خروج السلطان إلى الصيد وخروجي معه
وما صنعت في ذلك
ولما خرج السلطان إلى الصيد خرجت معه من غير تربص، وكنت قد أعددت ما يحتاج إليه، وعملت ترتيب أهل الهند، فاشتريت سراجة، وهي أفراج. وضربها هنالك مباح ولا بد منها لكبار الناس وتمتاز سراجة السلطان بكونها حمراء، وسواها بيضاء منقوشة بالأزرق، واشتريت الصيوان، وهو الذي يظل به داخل السراجة، ويرفع على عمودين كبيرين ويجعل ذلك الرجال على أعناقهم، ويقال لهم اليكوانية والعادة هنالك أن يكتري المسافر اليكوانية، وقد ذكرناهم، ويكتري من يسوق له العشب لعلف الدواب لأنهم لا يطعمونها التبن ويكتري الكهارين، وهم الذين يحملون أواني المطبخ، ويكتري من يحمله في الدولة، وقد ذكرناها، ويحملها فارغة، ويكتري الفراشين، وهم الذين يضربون السراجة، ويفرشونها، ويرفعون الأحمال على الجمال، ويكتري الدوادوية، وهم الذين يمشون بين يديه، ويحملون المشاعل بالليل، فاكتريت أنا جميع من احتجت له منهم، وأظهرت القوة والهمة، وخرجت يوم خروج السلطان وغيري أقام بعده اليومين والثلاثة، فلما كان بعد العصر من يوم خروجه ركب الفيل، وقصده أن يتطلع على أحوال الناس، ويعرف من تسارع إلى الخروج، ومن أبطأ وجلس خارج السراجة على كرسي، فجئت وسلمت ووقفت في موقفي بالميمنة، فبعث إلي الملك الكبير قبولة سرجامدار، وهو الذي يشرد الذباب عنه، فأمرني بالجلوس عناية بي، ولم يجلس في ذلك اليوم سواي ثم أتى بالفيل، وألصق به سلم فركب عليه، ورفع الشطر فوق رأسه وركب معه الخواص وجال ساعة، ثم عاد إلى السراجة. وعادته إذا ركب، ان يركب الأمراء أفواجاً كل أمير بفوجه وعلاماته وطبوله وأنفاره وصرناياته يسمون ذلك المراتب، ولا يركب أمام السلطان، إلا الحجاب وأهل الطرق والطبالة الذين يتقلدون الأطبال الصغار، والذين يضربون الصرنايات. ويكون عن يمين السلطان نحو خمسة عشر رجلاً، وعن يساره مثل ذلك، منهم قضاة القضاة والوزير وبعض الأمراء الكبار وبعض الأعزة، وكنت أنا من أهل ميمنته، ويكون بين يديه المشاءون والأدلاء، ويكون خلفه علاماته، وهي من الحرير المذهب، والأطبال على الجمال وخلف ذلك مماليكه، وأهل دخلته، وخلفهم الأمراء وجميع الناس، ولا يعلم أحد أين يكون النزول فإذا مر السلطان بمكان يعجبه النزول به أمر بالنزول، ولا تضرب سراجة أحد حتى تضرب سراجته، ثم يأتي الموكلون بالنزول فينزلون، كل واحد في منزله خلال ذلك ينزل السلطان على نهر أو بين أشجار، وتقدم بين يديه لحوم الأغنام والدجاج المسمنة والكراكي وغيرها من أنواع الصيد، ويحضر أبناء الملوك في يد كل واحد منهم سفود، ويوقدون النار ويشوون ذلك، ويؤتى بسراجة صغيرة فتضرب للسلطان ويجلس من معه من الخواص خارجها، ويؤتى بالطعام، ويستدعي من شاء فيأكل معه، وكان في بعض تلك الأيام وهو بداخل السراجة يسأل عمن بخارجها، فقال له السيد ناصر الدين مطهر الأوهري أحد ندمائه ثم فلان المغربي، وهو متغير فقال لماذا ? فقال: بسبب الدين الذي عليه وغرماؤه يلحون في الطلب وكان خوند عالم قد أمر الوزير بإعطائه فسافر قبل ذلك فإن طلب مولانا أن يصبر أهل الدين حتى يقدم الوزير أو أمر بإنصافهم. وحضر لهذا الملك دولة شاه وكان السلطان يخاطبه بالعم فقال: يا خوند عالم كل يوم وهو يكلمني بالعربية ولا أدري ما يقول يا سيدي ناصر الدين ماذا، وقصد أن يكرر ذلك الكلام فقال يتكلم لأجل الدين الذي عليه فقال السلطان إذا دخلنا دار الملك، فامض أنت يا أومار، ومعناه: يا عم إلى الخزانة، فأعطه ذلك المال وكان خداوند زاده حاضراً، فقال يا خوند عالم إنه كثير الإنفاق، وقد رأيته ببلادنا عند السلطان طرمشيرين. وبعد هذا الكلام استحضرني السلطان للطعام، ولا علم عندي بما جرى فلما خرجت قال لي السيد ناصر الدين: أشكر للملك دولة شاه وقال لي الملك دولة شاه: أشكر لخداوند زاده. وفي بعض تلك الأيام، ونحن مع السلطان في الصيد ركب في المحلة، وكان طريقه على منزلي وكان معه في الميمنة وأصحابي في الساقة، وكان لي خباء عند السراجة، فوقف أصحابي عندها، وسلموا على السلطان فبعث عماد الملك وملك دولة شاه ليسأل لمن تلك الأخبية والسراجة فقيل لهما: لفلان أخبراه ذلك فتبسم. فلما كان بالغد، نفذ الأمر أن أعود أنا وناصر الدين مطهر الأوهري وابن قاضي مصر وملك صبيح إلى البلد، فخلع علينا وعدنا إلى الحضرة. ذكر الجمل الذي أهديته للسلطان
وكان السلطان في تلك الأيام سألني عن الملك الناصر هل يركب الجمل، فقلت: نعم يركب المهاري في أيام الحج فيسير إلى مكة من مصر في عشرة أيام ولكن تلك الجمال ليست كجمال هذه البلاد. وأخبرته أن عندي جملاً منها فلما عدت إلى الحضرة بعثت عن بعض عرب مصر فصور لي صورة الكور الذي تركب المهاري به من القير، وأريتها بعض النجارين فعمل الكور وأتقنه وكسوته بالملف، وصنعت له ركباً وجعلت على الجمل عباءة حسنة وجعلت له خطام حرير وكان عندي رجل من أهل اليمن يحسن عمل الحلواء، فصنع منها ما يشبه التمر وغيره، وبعثت الجمل والحلواء إلى السلطان وأمرت الذي حملها أن يدفعها على يد ملك دولة شاه وبعثت له بفرس وجملين فلما وصله ذلك دخل على السلطان وقال: يا خوند عالم رأيت العجب قال: وما ذلك ? قال: فلان بعث جملاً عليه سرج فقال: ائتوا به. فأدخل الجمل داخل السراجة، وأعجب به السلطان، وقال لراجلي: اركبه فركبه ومشاه بين يديه وأمر له بمائتي دينار دراهم وخلعة، وعاد الرجل إلي فأعلمني فسرني ذلك وأهديت له جملين بعد عودته إلى الحضرة.
ذكر الجملين اللذين أهديتهما إليه والحلواء
وأمره بخلاص ديني وما تعلق بذلك
ولما عاد إلي راجلي الذي بعثته بالجمل، فأخبرني بما كان من شأنه صنعت كورين اثنين، وجعلت مقدم كل واحد ومؤخره مكسواً بصفائح الفضة المذهبة وكسوتها بالملف وصنعت رسناً مصفحاً بصفائح الفضة المذهبة، وجعلت لهما جلين من زردخانة مبطنين، بالكمخا، وجعلت للجملين الخلاخيل من الفضة المذهبة، وصنعت أحد عشر طيفوراً، وملأتها بالحلواء، وغطيت كل طيفور بمنديل حرير، فلما قدم السلطان من الصيد وقعد ثاني يوم قدومه بموضع جلوسه العام، غدوت عليه بالجمال، فأمر بها، فحركت بين يديه، وهرولت فطار خلخال أحدهما فقال لبهاء الدين ابن الفلكي: بايل ورداري، معنى ذلك: ارفع الخلخال، فرفعه ثم نظر إلى الطيافير فقال: جداري " جه داري " درآن طبقها حلوا است، معنى ذلك: ما معك في تلك الأطباق، حلواء هي ? فقلت له: نعم فقال للفقيه ناظر الدين الترمذي الواعظ: ما أكلت قط، ولا رأيت مثل الحلواء التي بعثها الينا ونحن بالمعسكر، ثم أمر بتلك الطيافير أن ترفع لموضع جلوسه فرفعت وقام إلى مجلسه، واستدعاني، وأمر بالطعام، فأكلت ثم سألني عن نوع الحلواء الذي بعثت له: فقلت له: يا خوند عالم، تلك الحلواء أنواعها كثيرة، ولا أدري عن أي نوع تسألون منها فقال: إيتوا بتلك الأطباق وهم يسمون الطيفور طبقاً، فأتوا بها وقدموها بين يديه وكشفوا عنها، فقال: عن هذا سألتك، وأخذ الصحن الذي هي فيه فقلت له: هذه يقال لها المقرصة، ثم أخذ نوعاً آخر فقال: وما اسم هذه ? فقلت له هي لقيمات القاضي. وكان بين يديه تاجر من شيوخ بغداد يعرف بالسامري، وينتسب إلى آل العباس رضي الله تعالى عنه، وهو كثير المال ويقول له السلطان والدي، فحسدني وأراد أن يخجلني فقال: ليست هذه لقيمات القاضي، بل هي هذه وأخذ قطعة من التي تسمى جلد الفرس وكان بإزائه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي، وكان كثيراً ما يمازح هذا الشيخ بين يدي السلطان فقال: يا خواجة أنت تكذب والقاضي يقول الحق. فقال له السلطان: وكيف ذلك? فقال: يا خوند عالم هو القاضي وهي لقيماته، فإنه أتى بها فضحك السلطان وقال: صدقت. فلما فرغنا من الطعام أكل الحلواء ثم شرب الفقاع بعد ذلك وأخذنا التنبول وانصرفنا فلم يكن غير هنيهة وأتاني الخازن فقال: ابعث أصحابك يقبضون المال، فبعثتهم وعدت إلى داري بعد المغرب فوجدت المال بها وهو ثلاث بدر فيها ستة آلاف ومائتان وثلاث وثلاثون تنكة، وذلك صرف الخمسة والخمسين ألفاً التي هي دين علي، وصرف الاثني عشر ألفاً التي أمر لي بها فيما تقدم، بعد حط العشر على عادتهم وصرف التنكة ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب.
ذكر خروج السلطان وأمره لي بالإقامة بالحضرة
وفي تاسع جمادى الأولى خرج السلطان برسم قصد بلاد المعبر، وقتال القائم بها وكنت قد خلصت أصحاب الدين، وعزمت على السفر، وأعطيت مرتب تسعة أشهر للكهارين والفراشين والكيوانية والدوادوية، وقد تقدم ذكرهم فخرج الأمر بإقامتي في جملة ناس وأخذ الحاجب خطوطنا بذلك لتكون حجة له، وتلك عادتهم خوفاً من أن ينكر المبلغ، وأمر لي بستة آلاف دينار دراهم، وأمر لابن قاضي مصر بعشرة آلاف وكذلك كل من أقام من الأعزة، وأما البلديون فلم يعطوا شيئاً، وأمر لي السلطان أن أتولى النظر في مقبرة السلطان قطب الدين، الذي تقدم ذكره. وكان السلطان يعظم تربته تعظيماً شديداً، لأنه كان خديماً له ولقد رأيته اذا أتى قبره يأخذ نعله فيقبله ويجعله فوق رأسه. وعادتهم أن يجعلوا نعل الميت عند قبره فوق متكأة. وكان إذا وصل القبر خدم له كما كان يخدم أيام حياته، وكان يعظم زوجته، ويدعوها بالأخت وجعلها مع حرمه وزوجها بعد ذلك لابن قاضي مصر، واعتنى به من أجلها وكان يمضي لزيارتها في كل جمعة. ولما خرج السلطان بعث عنا للوداع فقام ابن قاضي مصر فقال: أنا لا أودع ولا أفارق خوند عالم، فكان له في ذلك الخير، فقال له السلطان: إمض فتجهز للسفر، وقدمت بعده للوداع، وكنت أحب الإقامة، ولم تكن عاقبتها محمودة، فقال: مالك من حاجة فأخرجت بطاقة فيها ست مسائل فقال لي: تكلم بلسانك فقلت له إن خوند عالم أمر لي بالقضاء، وما قعدت لذلك بعد وليس مرادي من القضاء الا حرمته فأمرني بالقعود للقضاء وقعود النائبين معي، ثم قال لي: إيه ? فقلت وروضة السلطان قطب الدين، ماذا أفعل بها ? فإني رتبت فيها أربعمائة وستين شخصاً ومحصول أوقافها لا يفي بمرتباتهم وطعامهم. فقال للوزير بنجاه هزار ومعناه خمسين الفاً ثم قال: لا بد لك من غلة بدية يعني أعطه مائة الف منٍّ من الغلة، وهي القمح والأرز، ينفقها في هذه السنة حتى تأتي غلة الروضة والمنّ عشرون رطلاً مغربية. ثم قال لي ماذا أيضاً فقلت: إن أصحابي سجنوا بسبب القرى التي أعطيتموني، فإني عوضتها بغيرها فطلب أهل الديوان ما وصلني منها او الاستظهار بأمر خوند عالم أن يرفع عني ذلك فقال كم وصلك منها فقلت خمسة آلاف دينار فقال هي إنعام عليك فقلت له: وداري التي أمرتم لي بها مفتقرة إلى البناء فقال للوزير: عمارة كنيد، أي معناه عمروها ثم قال لي: ديكر نماند، معناه هل بقي لك كلام ? فقلت له: لا فقال لي: وصية ديكر هست، معناه: أوصيك أن لا تأخذ الدين لئلا تطلب فلا تجد من يبلغ خبرك إلي. أنفق على قدر ما أعطيتك قال الله تعالى: " ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " " والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً " . فأردت أن أقبل قدمه، وأمسك رأسي بيده فقبلتها وانصرفت وعدت إلى الحضرة فاشتغلت بعمارة داري، وأنفقت فيها أربعة آلاف دينار، أعطيت منها من الديوان ستمائة دينار، وزدت عليها الباقي، وبنيت بإزائها مسجداً واشتغلت بترتيب مقبرة السلطان قطب الدين وكان قد أمرني أن تبنى عليه قبة يكون ارتفاعها في الهواء مائة ذراع، بزيادة عشربن ذراعاً على ارتفاع القبة المبنية على قازان ملك العراق، وأمر أن تشتري قرية تكون وقفاً عليها، وجعلها بيدي علي أن يكون لي العشر من فائدها على العادة.
ذكر ما فعلته في ترتيب المقبرة
وعادة أهل الهند أن يرتبوا لأمواتهم ترتيباً كترتيبهم بقيد الحياة، ويؤتى بالفيلة والخيل فتربط عند باب التربة، وهي مزينة. فرتبت أنا في هذه التربة بحسب ذلك ورتبت من قراء القرآن مائة وخمسين، وهم يسمونهم الختميين، ورتبت من الطلبة ثمانين، ومن المعيدين، ويسمونهم المكررين، ثمانية، ورتبت لها مدرساً، ورتبت من الصوفية ثمانين، ورتبت الإمام والمؤذنين والقراء بالأصوات الحسان والمداحين وكتاب الغيبة والمعرفين، وجميع هؤلاء يعرفون عندهم بالأرباب، ورتبت صنفاً آخر يعرفون بالحاشية، وهم الفراشون والطباخون والدوادوية والأبدارية، وهم السقاءون والشربدارية الذين يسقون الشربة، والتنبول دارية الذين يعطون التنبول والسلحدارية والنيزدارية والشطر دارية والطشت دارية والحجاب والنقباء فكان جميعهم أربعمائة وستين. وكان السلطان أمر أن يكون الطعام بها كل يوم اثني عشر مناً من الدقيق ومثلها من اللحم، فرأيت أن ذلك قليل، والزرع الذي أمر به كثير فكنت أنفق كل يوم خمسة وثلاثين مناً من الدقيق ومثلها من اللحم وما يتبع ذلك من السكر، والنبات، والسمن، والتنبول، وكنت أطعم المرتبين وغيرهم من صادر ووارد وكان الغلاء شديداً فارتفق الناس بهذا الطعام وشاع خبره، وسافر الملك صبيح إلى السلطان بدولة آباد سأله عن حال الناس. فقال له لو كان بدهلي اثنان مثل فلان لما شكا الجهد، فأعجب ذلك السلطان، وبعث إليه بخلعة من ثيابه وكنت أصنع في المواسم وهي العيدان والمولد الكريم ويوم عاشوراء وليلة النصف من شعبان ويوم وفاة السلطان قطب الدين مائة من الدقيق ومثلها لحماً فيأكل الفقراء والمساكين، وأما أهل الوظيفة فيجعل أمام كل إنسان منهم ما يخصه ولنذكر عادتهم في ذلك.
ذكر عادتهم في إطعام الناس في الولائم
وعادتهم ببلاد الهند وببلاد السرى أنه إذا فرغ من أكل الطعام في الوليمة جعل أمام كل إنسان من الشرفاء والفقهاء والمشايخ والقضاة وعاء شبه المهد له أربع قوائم منسوج سطحه من الخوص، وجعل عليه الرقاق، ورأس غنم مشوي، وأربعة أقراص معجونة بالسمن مملوءة بالحلواء الصابونية مغطاة بأربع قطع من الحلواء كأنها الآجر وطبقاً صغيراً مصنوعاً من الجلد فيه الحلواء والسموسك، ويغطى ذلك الوعاء بثوب قطن جديد. ومن كان دون من ذكرناه جعل أمامه نصف رأسه غنم، ويسمونه الزلة ومقدار النصف مما ذكرناه. ومن كان دون هؤلاء أيضاً جعل أمامه مثل الربع من ذلك ويرفع رجال كل أحد ما جعل أمامه وأول ما رأيتهم يصنعون هذا بمدينة السرا حضرة السلطان أوزبك، فامتنعت أن يرفع رجالي ذلك إذ لم يكن لي به عهد وكذلك يبعثون أيضاً لدار كبراء الناس من طعام الولائم.
ذكر خروجي إلى هزار أمروها
وكان الوزير قد أعطاني من الغلة المأمور بها للزاوية عشرة آلاف، ونفذ لي الباقي في هزار أمروها. وكان والي الخراج بها عزيز الخمار، وأميرها شمس الدين البذخشاني. فبعثت رجالي فأخذوا بعض الإحالة، وتشكوا من تعسف عزيز الخمار. فخرجت بنفسي لاستخلاص ذلك. وبين دهلي وهذه العمالة ثلاثة أيام، وكان ذلك في أوان نزول المطر. فخرجت في نحو ثلاثين من أصحابي، واستصحبت معي أخوين من المغنين المحسنين يغنيان لي في الطريق، فوصلنا إلى بلدة بجنور، وضبط اسمها " بكسر الباء الموحدة وسكون الجيم وفتح النون وآخره راء " فوجدت بها أيضاً ثلاثة أخوة من المغنين، فاستصحبتهم. فكانوا يغنون لي نوبة والآخران نوبة. ثم وصلنا إلى أمروها وهي بلدة صغيرة حسنة، فخرج عمالها للقائي، وجاء قاضيها الشريف أمير علي، وشيخ زاويتها، وأضافاني معاً ضيافة حسنة. وكان عزيز الخمار بموضع يقال له: أفغان بور، على نهر السرو. وبيننا وبينه النهر، ولا معدية فيه. فأخذنا الأثقال في معدية صنعناها من الخشب والنبات، وجزنا في اليوم الثاني. وجاء نجيب أخو عزيز في جماعة من أصحابه، وضرب لنا سراجة. ثم جاء أخوه الوالي، وكان معروفاً بالظلم، وكانت القرى التي في عمالته ألفاً وخمسمائة قرية، ومجباها ستون لكاً في السنة، له فيها نصف العشر. ومن عجائب النهر الذي نزلنا عليه، أنه لا يشرب منه أحد في أيام نزول المطر، ولا تسقى منه دابة. ولقد أقمنا عليه ثلاثاً. فما غرف منه أحد غرفة، ولا كدنا نقرب منه، لأنه ينزل من جبل قراجيل التي بها معادن الذهب، ويمر على الخشاش المسمومة، فمن شرب منه مات. وهذا الجبل متصل مسيرة ثلاثة أشهر، وينزل منه إلى بلاد تبت حيث غزلان المسك. وقد ذكرنا ما اتفق على جيش المسلمين بهذا الجبل. وبهذا الموضع جاء إلي جماعة من الفقراء الحيدرية، وعملوا السماع، وأوقدوا النيران فدخلوها ولم تضرهم. وقد ذكرنا ذلك. وكانت قد نشأت بين أمير هذه البلاد شمس الدين البذخشاني وبين واليها عزيز الخمار منازعة. وجاء شمس الدين لقتاله، فامتنع منه بداره. وبلغت شكاية أحدهما الوزير بدهلي، فبعث إلي الوزير وإلى الملك شاه أمير المماليك بأمروها، وهم أربعة آلاف مملوك للسلطان، وإلى شهاب الدين الرومي أن ننظر في قضيتهما. فمن كان على الباطل بعثناه مثقفاً إلى الحضرة. فاجتمعوا جميعاً بمنزلي وادعى عزيز على شمس الدين دعاوى. منها أن خديماً له يعرف بالرضى الملتاني نزل بدار خازن عزيز المذكور فشرب بها الخمر، وسرق خمسة آلاف دينار من المال الذي عند الخازن. فاستفهمت الرضى عن ذلك فقال لي: ما شربت الخمر منذ خروجي من ملتان، وذلك منذ ثمانية أعوام. فقلت له: أو شربتها بملتان ? قال: نعم. فأمرت بجلده ثمانين وسجنته بسبب الدعوى للوث ظهر عليه. وانصرفت عن أمروها. فكانت غيبتي نحو شهرين، وكنت في كل يوم أذبح لأصحابي بقرة. وتركت أصحابي ليأتوا بالزرع المنفذ على عزيز وحمله عليه. فوزع على أهل القرى التي لنظره ثلاثون ألف منٍ يحملونها على ثلاثة آلاف بقرة. وأهل الهند لا يحملون إلا على البقر، وعليه يرفعون أثقالهم في الأسفار. وركوب الحمير عندهم عيب كبير. وحميرهم صغار الأجرام، يسمونها اللاشة، وإذا أرادوا إشهار أحدهم بعد ضربه أركبوه الحمار.
ذكر مكرمة لبعض الأصحاب
وكان السيد ناصر الدين الأوهري قد ترك عندي لما سافر ألفاً وستين تنكة، فتصرفت فيها، فلما عدت إلى دهلي وجدته قد أحال في ذلك المال خداوندزاده قوام الدين، وكان قد قدم نائباً على الوزير. فاستقبحت أن أقول له: تصرفت بالمال، فأعطيته نحو ثلثه. وأقمت بداري أياماً. وشاع أني مرضت. فأتى ناصر الدين الخوارزمي صدر الجهان لزيارتي. فلما رآني قال: ما أرى بك مرضاً ? فقلت له: إني مريض القلب. فقال لي: عرفني بذلك. فقلت له: ابعث إلي نائبك شيخ الإسلام أعرفه به. فبعثه إلي فأعلمته، فعاد إليه فأعلمه. فبعث إلي بألف دينار دراهم. وكان له عندي قبل هذا ألف ثانٍ. ثم طلب مني بقية المال. فقلت في نفسي: ما يخلصني منه إلا صدر الجهان المذكور، لأنه كثير المال. فبعثت إليه بفرس مسرج، قيمته وقيمة سرجه ألف وستمائة دينار، وبفرس ثان قيمته وقيمة سرجه ثمانمائة دينار، وبغلتين قيمتهما ألف ومائتا دينار، وبتركش فضة، وبسيفين غمداهما مغشيان بالفضة. وقلت له: أنظر قيمة الجميع، زابعث إلي ذلك، فأخذ ذلك، وعمل لجميعه قيمة ثلاث آلاف دينار، فبعث إلي ألفاً، واقتطع الألفين، فتغير خاطري، ومرضت بالحمى، وقلت لنفسي: إن شكوت به إلى الوزير افتضحت. فأخذت خمسة أفراس وجاريتين ومملوكين وبعثت الجميع للملك مغيث الدين محمد بن ملك الملوك عماد الدين السمناني وهو فتي السن، فرد علي ذلك، وبعث إلي مائتي تنكة واغزر، وخلصت من ذلك المال. فشتان بين فعل محمد ومحمد.
ذكر خروجي من محلة السلطان
وكان السلطان لما توجه إلى بلاد المعبر وصل إلى التلنك، ووقع الوباء بعسكره، فعاد إلى دولة آباد، ثم وصل إلى نهر الكنك فنزل عليه، وأمر الناس بالبناء. وخرجت في تلك الأيام إلى محلته، واتفق ما سردناه من مخالفة عين الملك، ولازمت السلطان في تلك الأيام، وأعطاني من عتاق الخيل، لما قسمها على خواصه، وجعلني فيهم، وحضرت معه الوقيعة على عين الملك والقبض عليه، وجزت معه نهر الكنك ونهر السرو، لزيارة قبر الصالح البطل سالارعود " مسعود "، وقد استوفيت ذلك كله، وعدت معه إلى حضرة دهلي لما عاد إليها.
ذكر ما هم به السلطان من عقابي
وما تداركني من لطف الله تعالى
وكان سبب ذلك أني ذهبت يوماً لزيارة الشيخ شهاب الدين ابن الشيخ الجام، بالغار الذي احتفره خارج دهلي، وكان قصدي رؤية ذلك الغار. فلما أخذه السلطان، سأل أولاده عمن كان يزوره، فذكروا أناساً أنا من جملتهم. فأمر السلطان أربعة من عبيده بملازمتي بالمشور. وعادته أنه متى فعل ذلك مع أحد قلما يتخلص. فكان أول يوم من ملازمتهم لي يوم الجمعة، فألهمني الله تعالى إلى تلاوة قوله: " حسبنا الله ونعم الوكيل " فقرأتها ثلاثاً وثلاثين ألف مرة، وبت بالمشور، وواصلت إلى خمسة أيام، في كل يوم منها أختم القرآن وأفطر على الماء خاصة، ثم أفطرت بعد خمس، وواصلت أربعاً، وتخلصت بعد قتل الشيخ، والحمد لله تعالى.
ذكر انقباضي عن الخدمة وخروجي عن الدنيا
ولما كان بعد مدة انقبضت عن الخدمة، ولازمت الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الخاشع الورع فريد الدهر ووحيد العصر كمال الدين عبد الله الغاري، وكان من الأولياء، وله كرامات كثيرة، فقد ذكرت منها ما شاهدته عند ذكر اسمه. وانقطعت إلى خدمة هذا الشيخ، ووهبت ما عندي للفقراء والمساكين. وكان الشيخ يواصل عشرة أيام، وربما واصل عشرين. فكنت أحب أن أواصل، فكان ينهاني ويأمرني بالرفق على نفسي في العبادة، ويقول لي: إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وظهر لي من نفسي تكاسل بسبب شيء بقي معي، فخرجت عن جميع ما عندي من قليل وكثير، وأعطيت ثياب ظهري لفقير، ولبست ثيابه. ولزمت هذا الشيخ خمسة أشهر، والسلطان إذ ذاك غائب ببلاد السند.
ذكر بعث السلطان عني وإبايتي الرجوع
إلى الخدمة واجتهادي في العبادة
ولما بلغه خبر خروجي عن الدنيا استدعاني وهو يومئذ بسوستان، فدخلت عليه في زي الفقراء، فكلمني أحسن كلام وألطفه، وأراد مني الرجوع إلى الخدمة فأبيت، وطلبت منه الإذن في السفر إلى الحجاز، فأذن لي فيه، وانصرفت عنه، ونزلت بزاوية تعرف بالنسبة إلى الملك بشير، وذلك في أواخر جمادى الثانية سنة اثنتين وأربعين. فاعتكفت بها شهر رجب وعشرة من شعبان، وانتهيت إلى مواصلة خمسة أيام، وأفطرت بعدها على قليل أرز دون إدام. وكنت أقرأ القرآن كل يوم، وأتهجد بما شاء الله. وكنت إذا أكلت الطعام آذاني، فإذا طرحته وجدت الراحة. وأقمت كذلك أربعين يوماً، ثم بعث عني ثانية.
ذكر ما أمرني به من التوجه إلى الصين في الرسالة
ولما كملت لي أربعون يوماً بعث إلي السلطان خيلاً مسرجة وجواري وغلماناً وثياباً ونفقة، فلبست ثيابه وقصدته. وكانت لي جبة قطن زرقاء مبطنة، لبستها أيام اعتكافي. فلما جردتها ولبست ثياب السلطان أنكرت نفسي. وكنت متى نظرت إلى تلك الجبة أجد نوراً في باطني، ولم تزل عندي إلى أن سلبني الكفار في البحر. ولما وصلت إلى السلطان زاد في إكرامي على ما كنت أعهده، وقال لي: إنما بعثت إليك لتتوجه عني رسولاً إلى ملك الصين. فإني أعلم حبك في الأسفار والجولان. فجهزني بما أحتاج له، وعين للسفر معي من يذكر بعد.
ذكر سبب بعث الهدية للصين
وذكر من بعث معي وذكر الهدية
وكان ملك الصين قد بعث إلى السلطان مائة مملوك وجارية وخمسمائة ثوب من الكمخا، منها مائة من التي تصنع بمدينة الزيتون، ومائة من التي تصنع بمدينة الخنسا، وخمسة أمنان من المسك، وخمسة أثواب مرصعة بالجوهر، ومثلها من التراكش مزركشة، ومثلها سيوف. وطلب من السلطان يأذن له في بناء بيت الأصنام بناحية جبل قراجيل المتقدم ذكره، ويعرف الموضع الذي هو به بسمهل " بفتح السين المهمل وسكون الميم وفتح الهاء ". وإليه يحج أهل الصين. وتغلب عليه جيش الإسلام بالهند فخربوه وسلبوه. ولما وصلت هذه الهدية إلى السلطان كتب إليه بأن هذا المطلب لا يجوز في ملة الإسلام إسعافه، ولا يباح بناء كنيسة بأرض المسلمين إلا لمن يعطي الجزية. فإن رضيت بإعطائها أبحنا لك بناءه والسلام على من اتبع الهدى. وكافأة على هديته بخير منها، وذلك مائة فرس من الجياد مسرجة ملجمة ومائة مملوك ومائة جارية من كفار الهند مغنيات ورواقص، ومائة ثوب بيرمية، وهي من القطن ولا نظير لها في الحسن قيمة الثوب منها مائة دينار، ومائة شقة من ثياب الحرير المعروفة بالجز " بضم الجيم وزاي "، وهي التي يكون حرير إحداها مصبوغاً بخمسة ألوان وأربعة، ومائة ثوب من الثياب المعروفة بالصلاحية، ومثلها من الشيرين باف، ومثلها من الشان باف، وخمسمائة ثوب من المرعز، مائة منها سود، ومائة بيض، ومائة حمر، ومائة خضر، ومائة زرق، ومائة شقة من الكتان الرومي، ومائة فضلة من الملف، وسراجة، وست من القباب، وأربع حسك من ذهب، وست حسك من فضة منيلة، وأربعة طسوت من الذهب ذات أباريق كمثلها، وستة طسوت من الفضة، وعشر خلع من ثياب السلطان مزركشة، وعشر شواش من لباسه، إحداها مرصعة بالجوهر، وعشرة تراكش مزركشة، وأحدها مرصع بالجواهر، وعشرة من السيوف، أحدها مرصع الغمد بالجوهر، ودشت بان " دستبان " وهو قفاز مرصع بالجواهر، وخمسة عشر من الفتيان. وعين السلطان للسفر معي بهذه الهدية الأمير ظهير الدين الزنجاني، وهو من فضلاء أهل العلم، والفتى كافور الشريدار، وإليه سلمت الهدية، وبعث معنا الأمير محمد الهروي في ألف فارس ليوصلنا إلى الموضع الذي نركب منه البحر. وتوجه صحبتنا أرسال ملك الصين، وهم خمسة عشر رجلاً، يسمى كبيرهم ترسي، وخدامهم نحو مائة رجل. وانفصلنا في جمع كبير ومحلة عظيمة، وأمر لنا السلطان بالضيافة مدة سفرنا ببلاده.
وكان سفرنا في السابع عشر لشهر صفر سنة ثلاث وأربعين، وهو اليوم الذي اختاروه للسفر، لأنهم يختارون للسفر من أيام الشهر ثانيه، أو سابعه أو الثاني عشر أو السابع عشر أو الثاني والعشرين أو السابع والعشرين. فكان نزولنا في أول مرحلة بمنزل تلبت على مسافة فرسخين وثلث من حضرة دهلي.
ورحلنا منها إلى منزل هيلوور ، ورحلنا منه إلى مدينة بيانة " وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف مع تخفيفها وفتح النون "، وهي كبيرة حسنة البناء مليحة الأسواق، ومسجدها الجامع من أبدع المساجد، وحيطانه وسقفه حجارة. والأمير بها مظفر ابن الداية، وأمه هي داية للسلطان. وكان بها قبله الملك مجير ابن أبي الرجاء، أحد كبار الملوك، وقد تقدم ذكره، وهو ينتسب إلى قريش وفيه تجبر، وله ظلم كثير. قتل من أهل هذه المدينة جملة، ومثل بكثير منهم.
ولقد رأيت من أهلها رجلاً حسن الهيئة قاعداً في أسطوان منزله، وهو مقطوع اليدين والرجلين. وقدم السلطان مرة على هذه المدينة، فتشكى الناس من الملك مجير المذكور. فأمر السلطان بالقبض عليه، وجعلت في عنقه الجامعة وكان يقعد بالديوان بين يدي الوزير، وأهل البلد يكتبون عليه المظالم، فأمره السلطان بإرضائهم، فأرضاهم بالأموال. ثم قتله بعد ذلك. ومن كبار أهل هذه المدينة الإمام العالم عز الدين الزبيري من ذرية الزبير ابن العوام رضي الله عنه، أحد كبار الفقهاء الصلحاء. لقيته بكاليور عند الملك عز الدين البنتاني، المعروف بأعظم ملك. ثم رحلنا من بيانة فوصلنا إلى مدينة كول " وضبط اسمها بضم الكاف " مدينة حسنة ذات بساتين، وأكثر أشجارها العنبا. ونزلنا بخارجها في بسيط أفيح. ولقينا بها الشيخ الصالح العابد شمس الدين المعروف بابن العارفين، وهو مكفوف البصر معمر، وبعد ذلك سجنه السلطان، ومات في سجنه، وقد ذكرنا حديثه.
ذكر غزوة شهدناها بكول
ولما بلغنا إلى مدينة كول، بلغنا أن بعض كفار الهنود حاصروا بلدة الجلالي وأحاطوا بها، وهي على مسافة سبعة أميال من كول. قصدناها والكفار يقاتلون أهلها وقد أشرفوا على التلف، ولم يعلم الكفار بنا، حتى صدقنا الحملة عليهم، وهم في نحو ألف فارس، وثلاثة آلاف راجل، فقتلناهم عن آخرهم، واحتوينا على خيلهم وأسلحتهم، واستشهد من أصحابنا ثلاثة وعشرون فارساً وخمسة وخمسون راجلاً، واستشهد الفتى كافور الساقي الذي كانت الهدية مسلمة بيده. فكتبنا إلى السلطان بخبره، وأقمنا في انتظار الجواب. وكان الكفار في أثناء ذلك ينزلون من جبل هنالك منيع، فيغيرون على نواحي بلدة الجلالي. وكان أصحابنا يركبون كل يوم مع أمير تلك الناحية ليعينوه على مدافعتهم.
ذكر محنتي بالأسر وخلاصي منه
وخلاصي من شدة بعده على يد ولي من أولياء الله تعالى
وفي بعض تلك الأيام ركبت في جماعة من أصحابي، ودخلنا بستاناً نقيل فيه، وذلك في فصل القيظ. فسمعنا الصياح، فركبنا ولحقنا كفاراً أغاروا على قرية من قرى الجلالي. فاتبعناهم فتفرقوا، وتفرق أصحابنا في طلبهم. وانفردت في خمسة من أصحابنا. فخرج علينا جملة من الفرسان والرجال من غيضة هنالك، ففررنا منهم لكثرتهم. واتبعني نحو عشرة منهم، ثم انقطعوا عني إلا ثلاثة منهم. ولا طريق بين يدي، وتلك الأرض كثيرة الحجارة. فنشبت يد فرسي بين الحجارة فنزلت عنه، واقتلعت يده، وعدت إلى ركوبه. والعادة بالهند أن يكون مع الإنسان سيفان أحدهما معلق بالسراج ويسمى الركابي والآخر في التركش. فسقط سيفي الركابي من غمده، وكانت حليته ذهباً، فنزلت فأخذته وتقلدته وركبت، وهم في أثري. ثم وصلت إلى خندق عظيم فنزلت ودخلت في جوفه فكان آخر عهدي بهم.
ثم خرجت إلى واد في وسط شجراء ملتفة في وسطها طريق. فمشيت عليها ولا أعرف منتهاها، فبينا أنا في ذلك خرج علي نحو أربعين رجلاً من الكفار بأيديهم القسي فأحدقوا بي، وخفت أن يرموني رمية رجل واحد إن فررت منهم، وكنت غير متدرع، فألقيت بنفسي إلى الأرض، واستأسرت. وهم لا يقتلون من فعل ذلك، فأخذوني وسلبوني جميع ما علي، غير جبة وقميص وسروال، ودخلوا بي إلى تلك الغابة، فانتهوا بي إلى موضع جلوسهم منها على حوض ماء بين تلك الأشجار، وأتوني بخبز ماش وهو الجلبان فأكلت منه وشربت من الماء. وكان معهم مسلمان، كلماني بالفارسية، وسألاني عن شأني، فأخبرتهما ببعضه وكتمتهما أني من جهة السلطان فقالا لي: لا بد أن يقتلك هؤلاء أو غيرهم، ولكن هذا مقدمهم. وأشاروا إلى رجل منهم، فكلمته بترجمة المسلمين وتلطفت له. فوكل بي ثلاثة منهم، أحدهم شيخ ومعه ابنه والآخر أسود خبيث. وكلمني أولئك الثلاثة، ففهمت منهم أنهم أمروا بقتلي واحتملوني عشي النهار إلى كهف. وسلط الله على الأسود منهم حمى مرعدة، فوضع رجليه علي، ونام الشيخ وابنه. فلما أصبح الصباح، تكلموا فيما بينهم، وأشاروا إلي بالنزول معهم إلى الحوض، وفهمت أنهم يريدون قتلي، فكلمت الشيخ وتلطفت إليه فرق لي، وقطعت كمي قميصي وأعطيته إياهما، لكي لا يأخذه أصحابه في إن فررت.
ولما كان عند الظهر سمعنا كلاماً عند الحوض، فظنوا أنهم أصحابهم فأشاروا إلي بالنزول معهم، فنزلنا ووجدنا قوماً آخرين، فأشاروا عليهم أن يذهبوا في صحبتهم فأبوا. وجلس ثلاثتهم أمامي، وأنا مواجه لهم. ووضعوا حبل قنب كان معهم بالأرض، وأنا أنظر إليهم وأقول في نفسي، بهذا الحبل يربطوني عند القتل. وأقمت كذلك ساعة، ثم جاء ثلاثة من أصحابهم الذين أخذوني، فتكلموا معهم، وفهمت أنهم قالوا لهم: لأي شيء ما قتلتموه ? فأشار الشيخ إلى الأسود. كأنه اعتذر بمرضه، وكان أحد هؤلاء الثلاثة شاباً حسن الوجه، فقال لي: أتريد أن أسرحك ? فقلت: نعم. فقال: اذهب. فأخذت الجبة التي كانت علي فأعطيته إياها. وأعطاني منيرة بالية عنده وأراني الطريق، فذهبت وخفت أن يبدو لهم، فيدركونني. فدخلت غيضة قصب وأخفيت نفسي فيها إلى أن غابت الشمس.
ثم خرجت وسلكت الطريق التي أرانيها الشاب، فأفضت بي إلى ماء فشربت منه، وسرت إلى ثلث الليل، فوصلت إلى جبل، فنمت تحته. فلما أصبحت سلكت الطريق فوصلت ضحى إلى جبل من الصخر عالٍ فيه شجر أم غيلان والسدر، فكنت أجني النبق فآكله حتى أثر الشوك في ذراعي آثاراً هي باقية حتى الآن. ثم نزلت من ذلك الجبل إلى أرض مزروعة قطناً، وبها أشجار الخروع، وهنالك باين، والباين عندهم بئر متسعة جداً مطوية بالحجارة لها درج ينزل عليها إلى ورد الماء وبعضها يكون في وسطه وجوانبه القباب من الحجر والسقائف والمجالس، ويتفاخر ملوك البلاد وأمراؤها بعمارتها في الطرقات التي لا ماء بها، وسنذكر بعض ما رأيناه منها فيما بعد. ولما وصلت إلى الباين شربت منه ووجدت عليه شيئاً من عساليج الخردل، قد سقطت لمن غسلها، فأكلت منها، وادخرت باقيها، ونمت تحت شجرة خروع. فبينما أنا كذلك إذ ورد الباين نحو أربعين فارساً مدرعين، فدخل بعضهم إلى المزرعة، ثم ذهبوا وطمس الله أبصارهم دوني. ثم جاء بعدهم نحو خمسين في السلاح. ونزلوا إلى الباين. وأتى أحدهم شجرة إزاء الشجرة التي كنت تحتها، فلم يشعر بي، ودخلت إذ ذاك في مزرعة القطن، وأقمت بها بقية نهاري. وأقاموا على الباين يغسلون ثيابهم ويلعبون. فلما كان الليل هدأت أصواتهم. فعلمت أنهم قد مروا أو ناموا، فخرجت حينئذ، واتبعت أثر الخيل والليل مقمر، وسرت حتى انتهيت إلى باين آخر عليه قبة، فنزلت إليه وشربت من مائه، وأكلت من عساليج الخردل التي كانت عندي، ودخلت القبة فوجدتها مملوءة بالعشب مما يجمعه الطير، فنمت عليها، وكنت أحس حركة حيوان في ذلك العشب أظنه حية فلا أبالي بها لما بي من الجهد. فلما أصبحت سلكت طريقاً واسعة تفضي إلى قرية خربة، وسلكت سواها، فكانت كمثلها. وأقمت كذلك أياماً، وفي بعضها وصلت إلى أشجار ملتفة، بينها حوض ماء، وداخلها شبه بيت، وعلى جوانب الحوض نبات الأرض كالنجيل وغيره، فأردت أن أقعد هنالك حتى يبعث الله من يوصلني إلى العمارة. ثم إني وجدت يسير قوة، فنهضت على طريق وجدت بها أثر البقر، ووجدت ثوراً عليه بردعة ومنجل، فإذا تلك الطريق تفضي إلى قرى الكفار. فاتبعت طريقاً أخرى، فأفضت بي إلى قرية خربة. ورأيت بها أسودين عريانين فخفتهما، وأقمت تحت أشجار هنالك. فلما كان الليل دخلت القرية، ووجدت داراً في بيت من بيوتها شبه خابية كبيرة، يصنعونها لاختزان الزرع، وفي أسفلها نقب يسع الرجل، فدخلتها ووجدت داخلها مفروشاً بالتبن وفيه حجر جعلت رأسي عليه ونمت. وكان فوقها طائر يرفرف بجناحيه أكثر الليل وأظنه كان يخاف فاجتمعنا خائفين.
وأقمت على تلك الحال سبعة أيام من يوم أسرت، وهو يوم السبت، وفي السابع منها وصلت إلى قرية للكفار عامرة، وفيها حوض ماء، ومنابت خضر فسألتهم الطعام فأبوا أن يعطوني، فوجدت حول بئر بها أوراق فجل فأكلتها. وجئت القرية فوجدت جماعة كفار لهم طليعة، فدعاني طليعتهم فلم أجبه، وقعدت إلى الأرض. فأتى أحدهم بسيف مسلول ورفعه ليضربني به، فلم ألتفت إليه لعظيم ما بي من الجهد، ففتشني فلم يجد عندي شيئاً، فأخذ القميص الذي كنت أعطيت كميه للشيخ الموكل بي. ولما كان في اليوم الثامن اشتد بي العطش وعدمت الماء، ووصلت إلى قرية خراب، فلم أجد بها حوضاً. وعادتهم بتلك القرى أن يصنعوا أحواضاً يجتمع بها ماء المطر فيشربون منه جميع السنة. فاتبعت طريقاً، فافضت بي إلى بئر غير مطوية، عليها حبل مضنوع من نبات الأرض وليس فيه آنية يستقى بها، فربطت خرقة كانت على رأسي في الحبل، وامتصصت ما تعلق بها من الماء، فلم يروني، فربطت خفي واستقيت به فلم يروني، فاستقيت به ثانياً، فانقطع الحبل ووقع الخف في البئر، فربطت الخف الآخر وشربت حتى رويت، ثم قطعته فربطت أعلاه على رجلي بحبل البئر، وبخرق وجدتها هنالك. فبينا أنا أربطها وأفكر في حالي إذ لاح لي شخص، فنظرت إليه فإذا رجل أسود اللون بيده إبريق وعكاز، وعلى كاهله جراب. فقال لي: سلام عليكم. فقلت له: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال لي بالفارسية: جيكس " جه كسى " معناه: من أنت ? فقلت له: أنا تائه. فقال لي: وأنا كذلك. ثم ربط إبريقه بحبل كان معه واستقى ماء، فأردت أن أشرب، فقال لي: إصبر. ثم فتح جرابه، فأخرج منه غرفة حمص أسود مقلي مع قليل أرز. فأكلت منه وشربت، وتوضأ وصلى ركعتين، وتوضأت أنا وصليت. وسألني عن اسمي فقلت له: محمد، وسألته عن اسمه فقال لي: القلب الفارح. فتفاءلت بذلك وسررت به. ثم قال لي: بسم الله. ترافقني ? فقلت: نعم. فمشيت معه قليلاً. ثم وجدت فتوراً في أعضائي، ولم أستطع النهوض فقعدت. فقال لي: ما شأنك. فقلت له: كنت قادراً على المشي قبل أن ألقاك، فلما لقيتك عجزت. فقال: سبحان الله، اركب فوق عنقي. فقلت له: إنك ضعيف، ولا تستطيع ذلك. فقال: يقويني الله. لا بد لك فركبت على عنقه. وقال لي أكثر من قراءة: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأكثرت من ذلك.
وغلبتني عيني فلم أفق إلا لسقوطي على الأرض، فاستيقظت ولم أر للرجل أثراً، وإذا أنا في قرية عامرة، فدخلتها فوجدتها لرعية الهنود وحاكمها من المسلمين، فأعلموه بي فجاء إلي فقلت له: ما اسم هذه القرية ? فقال لي: تاج بوره. وبينها وبين مدينة كول حيث أصحابنا فرسخان. وحملني ذلك الحاكم إلى بيته، فأطعمني طعاماً سخناً واغتسلت. وقال لي: عندي ثوب وعمامة أودعهما عندي رجل عربي مصري من أهل المحلة التي بكول. فقلت له: هاتهما ألبسهما إلى أن أصل إلى المحلة. فأتى بهما، فوجدتهما من ثيابي التي كنت قد وهبتها لذلك العربي لما قدمنا كول. فطال تعجبي من ذلك.
وفكرت بالرجل الذي حملني على عنقه، فتذكرت ما أخبرني به ولي الله تعالى أبو عبد الله المرشدي، حسبما ذكرناه في السفر الأول، إذ قال لي: ستدخل أرض الهند وتلقى بها أخي ويخلصك من شدة تقع فيها. وتذكرت قوله لما سألته عن اسمه فقال: القلب الفارح وتفسيره بالفارسية دلشاد، فعلمت أنه هو الذي أخبرني بلقائه، وأنه من الأولياء. ولم يحصل لي من صحبته إلا المقدار الذي ذكر، وأتيت تلك الليلة إلى أصحابي بكول معلماً لهم بسلامتي، فجاءوا إلي بفرس وثياب، واستبشروا بي ووجدت جواب السلطان قد وصلهم، وبعث بفتى يسمى بسنبل الجامدار، عوضاً من كافور المستشهد، وأمرنا أن نتمادى على سفرنا. ووجدتهم أيضاً قد كتبوا للسلطان بما كان من أمري، وتشاءموا بهذه السفرة لما جرى فيها علي وعلى كافور، وهم يريدون أن يرجعوا. فلما رأيت تأكيد السلطان في السفر أكدت عليهم، وقوي عزمي. فقالوا: ألا ترى ما اتفق في بداية هذه السفرة ? والسلطان يعذرك، فلنرجع إليه أو تقيم حتى يصل جوابه. فقلت لهم: لا يمكن المقام، وحيثما كنا أدركنا الجواب. فرحلنا من كول ونزلنا برج بوره، وبه زاوية حسنة، فيها شيخ حسن الصورة والسيرة يسمى بمحمد العريان، لأنه لا يلبس عليه إلا ثوباً من سرته إلى أسفل، وباقي جسده مكشوف. وهو تلميذ الصالح الولي محمد العريان القاطن بقرافة مصر نفع الله به.
حكاية هذا الشيخ وكان من أولياء الله تعالى، قائماً على قدم التجرد، يلبس تنورة، وهو ثوب يستر من سرته إلى أسفل. ويذكر أنه كان إذا صلى العشاء الآخرة أخرج كل ما بقي بالزاوية من طعام وإدام وماء، وفرقه على المساكين، ورمى بفتيلة السراج وأصبح على غير معلوم. وكانت عادته أن يطعم أصحابه عند الصباح خبزاً وفولاً. فكان الخبازون والفوالون يستبقون إلى زاويته، فيأخذ منهم مقدار ما يكفي الفقراء، ويقول لمن أخذ منه ذلك: اقعد، حتى يأخذ أول ما يفتح به عليه في ذلك اليوم قليلاً أو كثيراً. ومن حكاياته أنه لما وصل قازان ملك التتر إلى الشام بعساكره، وملك دمشق ما عدا قلعتها، وخرج الملك الناصر إلى مدافعته، ووقع اللقاء على مسيرة يومين من دمشق، بموضع يقال له قشحب. والملك الناصر إذ ذاك حديث السن لم يعهد الوقائع. وكان الشيخ العريان في صحبته فنزل. وأخذ قيداً فقيد به فرس الملك الناصر لئلا يتزحزح عند اللقاء لحداثة سنه فيكون ذلك سبب هزيمة المسلمين. فثبت الملك الناصر وهزم التتر هزيمة شنعاء، قتل منهم فيها كثير وغرق كثير بما أرسل عليه من المياه. ولم يعد التتر إلى قصد بلاد الإسلام بعدها. وأخبرني الشيخ محمد العريان المذكور تلميذ هذا الشيخ أنه حضر هذه الوقيعة وهو حديث السن. ورحلنا من برج بوره ونزلنا على الماء المعروف باب سياه، ثم رحلنا إلى مدينة قنوج " وضبط اسمها بكسر القاف وفتح النون وواو ساكن وجيم " مدينة كبيرة حسنة العمارة حصينة رخيصة الأسعار كثيرة السكر، ومنها يحمل إلى دهلي. وعليها سور عظيم، وقد تقدم ذكرها. وكان بها الشيخ معين الدين الباخرزي، أضافنا بها، وأميرها فيروز البدخشاني من ذرية بهرام جور " جوبين " صاحب كسرى. وسكن بها جماعة من الصلحاء الفضلاء المعروفين بمكارم الأخلاق يعرفون بأولاد شرف جهان، وكان جدهم قاضي القضاة بدولة آباد، وهو من المحسنين المتصدقين، وانتهت الرياسة ببلاد الهند إليه.
حكاية يذكر أنه عزل مرة عن القضاء وكان له أعداء، فادعى أحدهم عند القاضي الذي ولي بعده أن له عشرة آلاف دينار قبله، ولم تكن له بينة، وكان قصده أن يحلفه. فبعث القاضي له، فقال لرسوله: بم ادعى علي ? فقال: بعشرة آلاف دينار. فبعث إلى مجلس القاضي عشرة آلاف، وسلمت للمدعي. وبلغ خبره السلطان علاء الدين، وصح عنده بطلان تلك الدعوى، فأعاده إلى القضاء، وأعطاه عشرة آلاف. وأقمنا بهذه المدينة ثلاثاً، ووصلنا فيها جواب السلطان في شأني بأنه لم يظهر لفلان أثر، فيتوجه وجيه الملك قاضي دولة آباد عوضاً منه. ثم رحلنا من هذه المدينة فنزلنا بمنزل هنول ثم بمنزل وزير بور ثم بمنزل البجالصة، ثم وصلنا إلى مدينة موري " وضبط اسمها بفتح الميم وواو وراء " وهي صغيرة، ولها أسواق حسنة. ولقيت بها الشيخ الصالح المعمر قطب الدين المسمى بحيدر الفرغاني، وكان بحال المرض، فدعاني وزودني رغيف شعير، وأخبرني أن عمره ينيف على مائة وخمسين، وذكر لي أصحابه أنه يصوم الدهر، ويواصل كثيراً، ويكثر الأعتكاف، وربما أقام في خلوته أربعين يوماً يقتات فيها بأربعين تمرة، في كل يوم واحدة. وقد رأيت بدهلي الشيخ المسمى برجب البرقعي دخل الخلوة بأربعين تمرة فأقام بها أربعين يوماً ثم خرج، وفضل معه منها ثلاث عشرة تمرة. ثم رحلنا ووصلنا إلى مدينة مره وضبط اسمها " بفتح وسكون الراء وهاء "، وهي مدينة كبيرة، أكثر سكانها كفار تحت الذمة، وهي حصينة. وبها القمح الطيب الذي ليس مثله بسواها، ومنها يحمل إلى دهلي، وحبوبه طوال شديدة الصفرة ضخمة، ولم أر قمحاً مثله إلا بأرض الصين. وتنسب هذه المدينة إلى المالوة " بفتح اللام "، وهي قبيلة من قبائل الهنود كبار الأجسام عظام الخلق حسان الصور، لنسائهم الجمال الفائق، وهن مشهورات بطيب الخلوة ووفرة الحظ من اللذة. وكذا نساء المرهتة ونساء جزيرة ذيبة المهل. ثم سافرنا إلى مدينة علابور " وضبط اسمها بفتح العين ولام وألف وباء موحدة مضمومة وواو وراء " مدينة صغيرة أكثر سكانها الكفار تحت الذمة، وعلى مسيرة يوم منها سلطان كافر اسمه قتم " بفتح القاف والتاء المعلوة " وهو سلطان جنبيل " بفتح الجيم وسكون النون وكسر الباء الموحدة وياء مد ولام " الذي حاصر مدينة كيالير وقتل بعد ذلك.
حكاية كان هذا السلطان الكافر قد حاصر مدينة رابري، وهي على نهر اللجون، كثيرة القرى والمزارع. وكان أميرها خطاب الأفغاني، وهو أحد الشجعان واستعان السلطان الكافر بسلطان كافر مثله يسمى رجو " بفتح الراء وضم الجيم " وبلده يسمى سلطان بور، وحاصر مدينة رابري، فبعث خطابٌ إلى السلطان يطلب منه الإعانة، فأبطأ عليه المدد وهو على مسيرة أربعين من الحضرة، فخاف أن يتغلب الكفار عليه، فجمع من قبيلة الأفغان نحو ثلاثمائة ومثلهم من المماليك، ونحو أربعمائة من سائر الناس، وجعلوا العمائم في أعناق خيلهم، وهي عادة أهل الهند إذا أرادوا الموت وباعوا نفوسهم من الله تعالى. وتقدم خطابٌ وقبيلته وتبعهم الناس، وفتحوا الباب عند الصبح، وحملوا على الكفار حملة واحدة، وكانوا نحو خمس عشر ألفاً، فهزموهم بإذن الله وقتلوا سلطانيهم: قتم ورجو، وبعثوا برأسيهما إلى السلطان. ولم ينج من الكفار إلا الشريد.
ذكر أمير علابور واستشهاده
وكان أمير علابور بدر الحبشي من عبيد السلطان، وهو من الأبطال الذين تضرب بهم الأمثال، وكان لا يزال يغير على الكفار منفرداً بنفسه، فيقتل ويسبي، حتى شاع خبره واشتهر أمره وهابه الكفار.
وكان طويلاً ضخماً يأكل الشاة عن آخرها في أكلة. وأخبرت أنه كان يشرب نحو رطل ونصف من السمن بعد غذائه على عادة الحبشة ببلادهم، وكان له ابن يدانيه في الشجاعة. فاتفق أنه أغار مرة في جماعة من عبيده على قرية للكفار فوقع به الفرس في مطمورة، واجتمع عليه أهل القرية فضربه أحدهم بقتارة، والقتارة " بقاف معقود وتاء معلوة " حديدة شبه سكة الحرث، يدخل الرجل يده فيها فتكسو ذراعه ويفضل منها مقدار ذراعين، وضربتها لا تبقي، فقتله بتلك الضربة ومات فيها. وقاتل عبيده أشد القتال، فتغلبوا على القرية وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وأخرجوا الفرس من المطمورة سالماً، فأتوا به ولده. فكان من الاتفاق الغريب أنه ركب الفرس وتوجه إلى دهلي، فخرج عليه الكفار، فقاتلهم حتى قتل، وعاد الفرس إلى أصحابه، فدفعوه إلى أهله، فركبه صهر له، فقتله الكفار عليه أيضاً. ثم سافرنا إلى مدينة كاليور " وضبط اسمها بفتح الكاف المعقود وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وواو وراء " ويقال فيه أيضاً: كيالير، وهي مدينة كبيرة لها حصن منيع منقطع في رأس شاهق، على بابه صورة فيل وفيال من الحجارة، وقد مر ذكره في اسم السلطان قطب الدين. وأمير هذه المدينة أحمد بن سيرخان، فاضل كان يكرمني أيام إقامتي عنده قبل هذه السفرة، ودخلت عليه يوماً وهو يريد توسيط رجل من الكفار، فقلت له: بالله لا تفعل ذلك، فإني ما رأيت أحداً قط يقتل بمحضري، فأمر بسجنه. وكان ذلك سبب خلاصه. ورحلنا من مدينة كاليور إلى مدينة برون " وضبط اسمها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخره نون " مدينة صغيرة للمسلمين بين بلاد الكفار، أميرها محمد بن بيرم التركي الأصل. والسباع بها كثيرة، وذكر لي بعض أهلها أن السبع كان يدخل إليها ليلاً، وأبوابها مغلقة فيفترس الناس. حتى قتل من أهلها كثيراً، وكانوا يعجبون في شأن دخوله.
وأخبرني محمد التوفيري من أهلها، وكان جاراً لي بها أنه دخل داره ليلاً وافترس صبياً من فوق السرير. وأخبرني غيره أنه كان مع جماعة في دار عرس فخرج أحدهم لحاجة فافترسه أسد فخرج أصحابه في طلبه، فوجدوه مطرحاً بالسوق وقد شرب دمه، ولم يأكل لحمه. وذكروا أنه كذلك فعله بالناس. ومن العجب أن بعض الناس أخبرني أن الذي يفعل ذلك ليس بسبع، وإنما هو آدمي من السحرة المعروفين بالجوكية، يتصور في صورة سبع. ولما أخبرت بذلك أنكرته، وأخبرني به جماعة. ولنذكر بعضاً من أخبار هؤلاء السحرة.
ذكر السحرة الجوكية
وهؤلاء الطائفة تظهر منهم العجائب، منها أن أحدهم يقيم الأشهر لا يأكل ولا يشرب، وكثير منهم تحفر لهم تحت الأرض وتبنى عليه. فلا يترك له إلا موضع يدخل منه الهواء، ويقيم بها الشهور. وسمعت أن بعضهم يقيم كذلك سنة. ورأيت بمدينة منجرور رجلاً من المسلمين ممن يتعلم منهم، قد رفعت له طبلة، وأقام بأعلاها، لا يأكل ولا يشرب مدة خمسة وعشرين يوماً، وتركته كذلك. فلا أدري كم أقام بعدي. والناس يذكرون أنهم يركبون حبوباً، يأكلون الحبة منها لأيام معلومة وأشهر، فلا يحتاج في تلك المدة إلى طعام ولا شراب. ويخبرون بأمور معيبة. والسلطان يعظمهم ويجالسهم. ومنهم من يقتصر في أكله على البقل، ومنهم من لا يأكل اللحم وهم الأكثرون. والظاهر من حالهم أنهم عودوا أنفسهم الرياضة. ولا حاجة لهم في الدنيا وزينتها. ومنهم من ينظر إلى الإنسان فيقع ميتاً من نظرته، وتقول العامة: إنه إذا قتل بالنظر، وشق عن صدر الميت، وجد دون قلب. ويقولون: أكل قلبه. وأكثر ما يكون هذا في النساء. والمرأة التي تفعل ذلك تسمى كفتار.
حكاية لما وقعت المجاعة العظمى ببلاد الهند بسبب القحط، والسلطان ببلاد التلنك، نفذ أمره أن يعطى لأهل دهلي ما يقوتهم بحساب رطل ونصف للواحد في اليوم. فجمعهم الوزير، ووزع المساكين منهم على الأمراء والقضاة ليتولوا إطعامهم. فكان عندي منهم خمسمائة نفس، فعمرت لهم سقائف في وادٍ ، وأسكنتهم بها. وكنت أعطيتهم نفقتهم خمسة أيام. فلما كان في بعض الأيام أتوني بامرأة منهم وقالوا: إنها كفتارة. وقد أكلت قلب صبي كان إلى جانبها، وأتوا بالصبي ميتاً. فأمرتهم أن يذهبوا بها إلى نائب السلطان، فأمر باختبارها. وذلك بأن ملأوا أربع جرات بالماء وربطوها بيديها ورجليها وطرحوها في نهر الجون، فلم تغرق. فعلم أنها كفتار، ولو لم تطف على الماء لم تكن بكفتار. فأمر بإحراقها بالنار. وأتى أهل البلد رجالاً ونساء فأخذوا رمادها. وزعموا أنه من تبخر به أمن في تلك السنة من سحر كفتار.
حكاية بعث إلي السلطان يوماً وأنا عنده بالحضرة، فدخلت عليه وهو في خلوة، وعنده بعض خواصه ورجلان من هؤلاء الجوكية، وهم يلتحفون بالملاحف، ويغطون رؤوسهم لأنهم ينتفونها بالرماد، كما ينتف الناس آباطهم. فأمرني بالجلوس فجلست فقال لهما: إن هذا العزيز من بلاد بعيدة، فأرياه ما لم يره، فقالا: نعم. فتربع أحدهما، ثم ارتفع عن الأرض حتى صار في الهواء فوقنا متربعاً، فعجبت منه، وأدركني الوهم فوقعت على الأرض. فأمر السلطان أن أسقى دواء عنده، فأفقت وقعدت، وهو على حاله متربع. فأخذ صاحبه نعلاً له من شكارة كانت معه فضرب بها الأرض كالمغتاظ فصعدت إلى أن علت فوق عنق المتربع وجعلت تضرب في عنقه، وهو ينزل قليلاً قليلاً حتى جلس معنا. فقال السلطان: إن المتربع هو تلميذ صاحب النعل. ثم قال: لولا أني أخاف على عقلك لأمرتهم أن يأتوا بأعظم مما رأيت. فانصرفت عنه، وأصابني الخفقان، ومرضت، حتى أمر لي بشربة أذهبت ذلك عني.
ولنعد لما كنا بسبيله فنقول: سافرنا من مدينة برون إلى منزل أمواري ثم منزل كجرا، وبه حوض عظيم طوله نحو ميل، وعليه الكنائس فيها الأصنام، قد مثل بها المسلمون. وفي وسطه ثلاث قباب من الحجارة الحمر على ثلاث طباق، وعلى أركانه الأربع قباب. ويسكن هنالك جماعة من الجوكية، وقد لبدوا شعورهم، وطالت، حتى صارت في طولهم، وغلبت عليهم صفرة الألوان من الرياضة. وكثير من المسلمين يتبعونهم ليتعلموا منهم، ويذكرون أن من كانت به عاهة من برص أو جذام يأوي إليهم مدة طويلة فيبرأ بإذن الله تعالى. وأول ما رأيت هذه الطائفة بمحلة السلطان طرمشيرين ملك تركستان، وكانوا نحو الخمسين. فحفر لهم غاراً تحت الأرض، وكانوا مقيمين به لا يخرجون إلا لقضاء حاجة. ولهم شبه القرن يضربونه أول النهار وآخره، وبعد العتمة. وشأنهم كله عجب. ومنهم الرجل الذي صنع السلطان غياث الدين الدامغاني سلطان بلاد المعبر حبوباً يأكلها تقويه على الجماع، وكان من أخلاطها برادة الحديد فأعجبه فعلها، فأكل منها أزيد من مقدار الحاجة فمات. وولي ابن أخيه ناصر الدين فأكرم هذا الجوكي ورفع قدره. ثم سافرنا إلى مدينة جنديري " وضبط اسمها بفتح الجيم المعقود وسكون النون وكسر الدال المهمل وياء مد وراء " مدينة عظيمة لها أسواق حافلة يسكنها أمير أمراء تلك البلاد عز الدين البنتاني وهو المدعو بأعظم ملك، وكان خيراً فاضلاً يجالس أهل العلم. وممن كان يجالسه الفقيه عز الدين الزبيري، والفقيه العالم وجيه الدين البياني نسبة إلى مدينة بيانة، التي تقدم ذكرها، والفقيه القاضي المعروف بقاضي خاصة، وإمامهم شمس الدين، وكان النائب عنه على أمور المخزن يسمى قمر الدين، ونائبه على أمور العسكر سعادة التلنكي من كبار الشجعان، وبين يديه تعرض العساكر. وأعظم ملك لا يظهر إلا في يوم الجمعة أو في غيرها نادراً. ثم سرنا من جنديري إلى مدينة ظهار " وضبط اسمها بكسر الظاء المعجم "، وهي مدينة المالوة، أكبر عمار تلك البلاد، وزرعها كثير، خصوصاً القمح. ومن هذه المدينة تحمل أوراق التنبول إلى دهلي وبينهما أربعة وعشرون يوماً، وعلى الطريق بينهما أعمدة منقوش عليها عدد الأميال فيما بين عمودين. فإذا أراد المسافر أن يعلم عدد ما سار في يومه، وما بقي له إلى المنزل وإلى المدينة التي يقصدها قرأ النقش الذي في الأعمدة فعرفه. ومدينة ظهار إقطاع للشيخ إبراهيم الذي من أهل ذيبة المهل.
حكاية كان الشيخ إبراهيم قدم على هذه المدينة ونزل بخارجها، فأحيا أرضاً مواتاً هنالك. وصار يزدرعها بطيخاً، فتأتي في الغاية من الحلاوة. ليس بتلك الأرض مثلها. ويزرع الناس بطيخاً فيما يجاوره فلا يكون مثله، وكان يطعم الفقراء والمساكين. فلما قصد السلطان إلى بلاد المعبر أهدى إليه هذا الشيخ بطيخاً فقبله واستطابه، وأقطعه مدينة ظهار، وأمره أن يعمر زاوية بربوة يشرف عليها. فعمرها أحسن عمارة، وكان يطعم بها الوارد والصادر، وأقام على ذلك أعواماً. ثم قدم على السلطان وحمل إليه ثلاثة عشر لكاً، فقال: هذا فضل مما كنت أطعمه الناس، وبيت المال أحق به. فقبضه منه ولم يعجب السلطان فعله، لكونه جمع المال ولم ينفق جميعه في إطعام الطعام. وبهذه المدينة أراد ابن أخت الوزير خواجه جهان أن يفتك بخاله، ويستولي أمواله، ويسير إلى القائم ببلاد المعبر. فنمى خبره إلى خاله فقبض عليه، وعلى جماعة الأمراء، وبعثهم إلى السلطان، فقتل الأمراء، ورد ابن أخته إليه فقتله الوزير.
حكاية ولما رد ابن أخت الوزير إليه أمر به أن يقتل كما قتل أصحابه، وكانت له جارية يحبها. فاستحضرها وأطعمها التنبول وأطعمته، وعانقها مودعاً، ثم طرح للفيلة، وسلخ جلده وملء تبناً. فلما كان من الليل، خرجت الجارية من الدار، فرمت بنفسها في بئر هنالك تقرب من الموضع الذي قتل فيه، فوجدت ميتة من الغد. فأخرجت ودفن لحمه معها في قبر واحد، وسمي قبور " كور " عاشقان. وتفسير ذلك بلسانهم قبر العاشقين. ثم سافرنا من مدينة ظهار إلى مدينة أجين " وظبط اسمها بضم الهمزة وفتح الجيم وياء ونون " مدينة حسنة كثيرة العمارة. وكا يسكنها الملك ناصر الدين بن عين الملك، من الفضلاء الكرماء العلماء، استشهد بجزيرة سندابور حين افتتحها. وقد زرت قبره هنالك، وسنذكره. وبهذه المدينة كان سكنى الفقيه الطبيب جمال الدين المغربي الغرناطي الأصل. ثم سافرنا من مدينة أجين إلى مدينة دولة آباد، وهي المدينة الضخمة العظيمة الشأن الموازية لحضرة دهلي، في رفعة قدرها واتساع خطتها. وهي منقسمة ثلاثة أقسام: أحدها دولة آباد وهو مختص بسكنى السلطان وعساكره، والقسم الثاني اسمه الكتكة " بفتح الكافين والتاء المعلوة التي بينهما "، والقسم الثالث قلعتها التي لا مثل لها ولا نظير في الحصانة وتسمى الدويقير " بضم الدال المهمل وفتح الواو وسكون الياء وقاف معقود مكسور وياء مد وراء ". وبهذه المدينة سكنى الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان وهو أميرها، والنائب عن السلطان بها، وببلاد صاغر وبلاد التلنك وما أضيف إلى ذلك، وعمالتها مسيرة ثلاثة أشهر، عامرة كلها لحكمه ونوابه فيها. وقلعة الدويقير التي ذكرناها في قطعة حجر في بسيط من الأرض، قد نحتت وبني بأعلاها قلعة يصعد إليها بسلم مصنوع من جلود ويرفع ليلاً. ويسكن بها المفردون وهم الزماميون بأولادهم. وفيها سجن أهل الجرائم العظيمة في جيوب بها. وبها فيران ضخام أعظم من القطوط، والقطوط تهرب منها، ولا تطيق مدافعتها لأنها تغلبها. ولا تصاد إلا بحبل تدار عليها. وقد رأيتها هناك، فعجبت منها.
حكاية أخبرني الملك خطاب الأفغاني أنه سجن مرة في جب بهذه القلعة، يسمى جب الفيران. قال: فكانت تجتمع علي ليلاً لتأكلني. فأقاتلها، وألقى من ذلك جهداً. ثم إني رأيت في النوم قائلاً يقول لي: إقرأ سورة ألإخلاص مائة ألف مرة، ويفرج الله عنك. قال: فقرأتها. فلما أتممتها أخرجت. وكان سبب خروجي أن ملك مل كان مسجوناً في جب يجاورني فمرض. وأكلت الفيران أصابعه وعينيه فمات. فبلغ ذلك السلطان فقال: أخرجوا خطاباً لئلا يتفق له مثل ذلك. وإلى هذه القلعة لجأ ناصر الدين بن ملك مل المذكور، والقاضي جلال، حين هزمهما السلطان. وأهل بلاد دولة آباد هم قبيل المرهتة الذين خص الله نساءهم بالحسن، وخصوصاً في الأنوف والحواجب. ولهن من طيب الخلوة والمعرفة أكثر بحركات الجماع ماليس لغيرهن. وكفار هذه المدينة أصحاب تجارة. وأكثر تجارتهم في الجواهر، وأموالهم طائلة. وهم يسمون الساهة وأحدهم ساهٍ بإهمال السين، وهم الأكارم بديار مصر. وبدولة آباد العنب والرمان. ويثمران مرتين في السنة وهي من أعظم البلاد مجبى، وأكبرها خراجاً، لكثرة عمارتها واتساع عمالتها. وأخبرت أن بعض الهنود التزم مغارمها وعمالتها جميعاً. وهي كما ذكرناها مسيرة ثلاثة أشهر، بسبعة عشر كروراً، والكرور مائة لك، واللك مائة ألف دينار. ولكنه لم يف بذلك، فبقي عليه بقية، وأخذ ماله وسلخ جلده.
ذكر سوق المغنين
وبمدينة دولة آباد سوق للمغنين والمغنيات تسمى سوق طرب آباد، من أجمل الأسواق وأكبرها، فيه الدكاكين الكثيرة. كل دكان له باب يفضي إلى دار صاحبه. وللدار باب سوى ذلك. والحانوت مزين بالفرش، وفي وسطه شكل مهد كبير، تجلس فيه المغنية أو ترقد، وهي متزينة بأنواع الحلي، وجواريها يحركن مهدها. وفي وسط السوق قبة عظيمة مفروشة مزخرفة، يجلس فيها أمير المطربين بعد صلاة العصر من كل يوم خميس، وبين يديه خدامه ومماليكه. وتأتي المغنيات طائفة بعد أخرى، فيغنين بين يديه ويرقصن إلى وقت المغرب، ثم ينصرف. وفي تلك السوق المساجد للصلاة. ويصلي ألئمة فيها التراويح في شهر رمضان. وكان بعض سلاطين الكفار بالهند إذا مر بهذه السوق ينزل بقبتها، وتغني المغنيات بين يديه. وقد فعل ذلك بعض سلاطين المسلمين أيضاً. ثم سافرنا إلى مدينة نذربار " وضبط اسمها بنون وبذال معجم مفتوحين وراء مسكن وباء موحدة مفتوحة وألف وراء " مدينة صغيرة يسكنها المرهتة، وهم أهل الإتقان في الصنائع والأطباء والمنجمون. وشرفاء المرهتة هم البراهمة، وهم الكتريون أيضاً. وأكلهم الأرز والخضر ودهن السمسم. ولا يرون بتعذيب الحيوان ولا ذبحه. ويغتسلون للأكل كغسل الجنابة، ولا ينكحون في أقاربهم إلا فيمن كان بينهم سبعة أجداد. لا يشربون الخمر، وهي عندهم أعظم المعائب. وكذلك هي ببلاد الهند عند المسلمين. ومن شربها من مسلم جلد ثمانين جلدة، وسجن في مطمورة ثلاثة أشهر، لا تفتح عليه إلا حين طعامه.
ثم سافرنا من هذه المدينة إلى مدينة صاغر " وضبط اسمها بفتح الصاد المهمل وفتح الغين المعجم وآخره راء " وهي مدينة كبيرة على نهر كبير يسمى أيضاً صاغر كاسمها. وعليه النواعير والبساتين. فيها العنب والموز وقصب السكر. وأهل هذه المدينة أهل صلاح ودين وأمانة. وأحوالهم كلها مرضية. ولهم بساتين فيها الزوايا للوارد والصادر. وكل من يبني زاوية يحبس البستان عليها، ويجعل النظر فيه لأولاده. فإن انقرضوا عاد النظر للقضاة. والعمارة بها كثيرة. والناس يقصدونها للتبرك بأهلها، ولكونها محررة من المغارم والوظائف.
ثم سافرنا من صاغر المذكورة إلى مدينة كنباية " وضبط اسمها بكسر الكاف وسكون النون وفتح الباء الموحدة وألف وياء آخر الحروف مفتوحة " وهي على خور من البحر، وهو شبه الوادي، تدخله المراكب وبه المد والجزر. وعاينت المراكب به مرساةً في الوحل حين الجزر، فإذا كان المد عامت في الماء. وهذه المدينة من أحسن المدن في إتقان البناء وعمارة المساجد. وسبب ذلك أن أكثر سكانها التجار الغرباء. فهم أبداً يبنون بها الديار الحسنة والمساجد العجيبة، ويتنافسون في ذلك. ومن الديار العظيمة بها دار الشريف السامري الذي اتفقت لي معه قضية الحلواء، وكذبه ملك الندماء. ولم أر قط أضخم من الخشب الذي رأيته بهذه الدار وبابها كأنه باب مدينة. وإلى جانبها مسجد عظيم يعرف باسمه. ومنها دار ملك التجار الكازروني، وإلى جانبها مسجده، ومنها دار التاجر شمس الدين كلاه وز ومعناه خياط الشواشي.
حكاية ولما وقع ما قدمناه من مخالفة القاضي جلال الأفغاني أراد شمس الدين المذكور والناخوذة الياس، وكان من كفار أهل هذه المدينة وملك الحكماء الذي تقدم ذكره، على أن يمتنعوا منه بهذه المدينة. وشرعوا في حفر خندق عليها إذ لا سور لها، فتغلب عليهم ودخلها. واختفى الثلاثة المذكورون في دار واحدة، وخافوا أن يتطلع عليهم. فاتفقوا على ان يقتلوا أنفسهم فضرب كل واحد منهم صاحبه بقتارة، وقد ذكرنا صفتها، فمات اثنان منهم، ولم يمت ملك الحكماء. وكان من كبار التجار أيضاً بها نجم الدين الجيلاني، وكان حسن الصورة كثير المال، وبنى بها داراً عظيمة ومسجداً. ثم بعث السلطان عنه وأمره عليها وأعطاه المراتب. فكان ذلك سبب تلف نفسه وماله. وكان أمير كنباية حين وصلنا إليها مقبل التلنكي، وهو كبير المنزلة عند السلطان. وكان في صحبته الشيخ زاده الأصبهاني نائباً عنه في جميع أموره. وهذا الشيخ له أموال عظيمة، وعنده معرفة بأمور السلطنة. ولا يزال يبعث الأموال إلى بلاده، ويتحيل في الفرار. وبلغ خبره إلى السلطان، وذكر عنه أنه يروم الهروب. فكتب إلى مقبل أن يبعثه فبعثه على البريد، وأحضر بين يدي السلطان ووكل به. والعادة عنده أنه متى وكل بأحد فقلما ينجو. فاتفق هذا الشيخ مع الموكل به على مال يعطيه إياه، وهربا جميعاً. وذكر لي أحد الثقات أنه رآه في ركن مسجد بمدينة قلهات، وأنه وصل بعد ذلك إلى بلاده، فحصل على أمواله، وأمن مما كان يخافه.
حكاية وأضافنا الملك مقبل يوماً بداره، فكان من النادر أن جلس قاضي المدينة، وهو أعور العين اليمني، وفي مقابلته شريف بغدادي شديد الشبه به في صورته وعوره، إلا أنه أعور اليسرى. فجعل الشريف ينظر إلى القاضي ويضحك. فزجره القاضي، فقال له: لا تزجرني، فإني أحسن منك. قال: كيف ذلك ? قال: لأنك أعور اليمنى، وأنا أعور اليسرى. فضحك الأمير والحاضرون. وخجل القاضي، ولم يستطع أن يرد عليه. والشرفاء ببلاد الهند معظمون أشد التعظيم. وكان بهذه المدينة من الصالحين الحاج ناصر من أهل ديار بكر، وسكناه بقبة من قباب الجامع. دخلنا إليه، وأكلنا من طعامه. واتفق له لما دخل القاضي جلال مدينة كنباية حين خلافه، أنه أتاه، وذكر للسلطان أنه دعا له. فهرب لئلا يقتل كما قتل الحيدري. وكان بها أيضاً من الصالحين التاجر خواجه إسحاق، وله زاوية يطعم فيها الوارد والصادر، وينفق على الفقراء والمساكين. وماله على هذا ينمو ويزيد كثرة. وسافرنا من هذه المدينة إلى بلد كاوي، وهي على خور فيه المد والجزر وهي من بلاد الري جالنسي الكافر، وسنذكره. وسافرنا منها إلى مدينة قندهار " وضبط اسمها بفتح القاف وسكون النون وفتح الدال المهمل وهاء والف وراء "، وهي مدينة كبيرة للكفار على خور من البحر.
ذكر سلطان قندهار
سلطان قندهار كافر اسمه جالنسي " بفتح الجيم واللام وسكون النون وكسر السين المهمل "، وهو تحت حكم الإسلام، ويعطي لملك الهند هدية كل عام. لما وصلنا إلى قندهار خرج إلى استقبالنا، وعظمنا أشد التعظيم، وخرج عن قصره فأنزلنا به. وجاء إلينا من عنده من كبار المسلمين كأولاد خواجه بهره. ومنهم الناخوذة إبراهيم، له ستة من المراكب مختصة له. ومن هذه المدينة ركبنا البحر
ذكر ركوبنا البحر
وركبنا في مركب لإبراهيم المذكور تسمى الجاكر " بفتح الجيم والكاف المعقودة ". وجعلنا فيه من خيل الهدية سبعين فرساً، وجعلنا باقيها مع خيل أصحابنا في مركب لأخي إبراهيم المذكور يسمى منورت " بفتح الميم ونون وواو مد وراء مسكن وتاء معلوة " وأعطانا جالنسي مركباً جعلنا فيه ظهير الدين وسنبل وأصحابهما، وجهزه لنا بالماء والزاد والعلف. وبعث معنا ولداً في مركب يسمى العكيري " بضم العين المهمل وفتح الكاف وسكون الياء وراء "، وهو شبه الغراب، إلا أنه أوسع منه. وفيه ستون مجذافاً. ويسقف حين القتال حتى لا ينال الجذافين شيء من السهم ولا الحجارة. وكان ركوبي أنا في الجاكر، وكان فيه خمسون رامياً وخمسون من المقاتلة الحبشة، وهم زعماء هذا البحر. وإذا كان بالمركب أحد منهم تحاماه لصوص الهنود وكفارهم. ووصلنا بعد يومين إلى جزيرة بيرم " وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وسكون الياء وفتح الراء "، وهي خالية. وبينها وبين البر أربعة أميال. فنزلنا بها، واستقينا الماء من حوض بها. وسبب خرابها أن المسلمين دخلوها على الكفار فلم تعمر بعد. وكان ملك التجار الذي تقدم ذكره أراد عمارتها، وبنى سورها، وجعل بها المجانيق، وأسكن بها بعض المسلمين.
ثم سافرنا منها ووصلنا في اليوم الثاني إلى مدينة قوقة وهي " بضم القاف الأولى وفتح الثانية "، وهي مدينة كبيرة عظيمة الأسواق، فرسينا على أربعة أميال منها بسبب الجزر، ونزلت في عشاري مع بعض أصحابي حين الجزر لأدخل إليها، فوحل العشاري في الطين، وبقي بيننا وبين البلد نحو ميل. فكنت لما نزلنا في الوحل أتوكأ على رجلين من أصحابي وخوفني الناس من وصول المد قبل وصولي إليها،وأنا لا أحسن السباحة، ثم وصلت إليها، وطفت بأسواق، ورأيت بها مسجدها ينسب للخضر وإلياس عليهما السلام. صليت به المغرب ووجدت به جماعة من الفقراء الحيدرية مع شيخ لهم ثم عدت إلى المركب.
ذكر سلطان قوقة
وسلطانها كافر يسمى دنكول " بضم الدال المهمل وسكون النون وضم الكاف وواو ولام ". وكان يظهر الطاعة لملك الهند، وهو في الحقيقة عاص. ولما أقلعنا عن هذه المدينة ووصلنا بعد ثلاثة أيام إلى جزيرة سندابور " وضبط اسمها بفتح السين المهمل وسكون النون وفتح الدال المهمل والف وباء موحدة وواو مد وراء "، وهي جزيرة في وسطها ست وثلاثون قرية، ويدور بها خور، وإذا كان الجزر فماؤها عذب طيب، وإذا كان المد فهو ملح أجاج. وفي وسطها مدينتان: إحداهما قديمة من بناء الكفار، والثانية بناها المسلمون عند استفتاحهم لهذه الجزيرة الفتح الأول، وفيها مسجد جامع عظيم يشبه مساجد بغداد عمره الناخوذة حسن والد السلطان جمال الدين محمد الهنوري، وسيأتي ذكره. وذكر عند حضوري معه لفتح هذه الجزيرة الفتح الثاني إن شاء الله. وتجاوزنا هذه الجزيرة لما مررنا بها، وأرسينا على جزيرة صغيرة قريبة من البر، فيها كنيسة وبستان وحوض ماء، ووجد بها أحد الجوكية.
حكاية هذا الجوكي
ولما نزلنا بهذه الجزيرة الصغرى وجدنا بها جوكياً مستنداً إلى حائط بدخانة، وهي بيت الأصنام، وهو فيما بين صنمين منها، وعليه أثر المجاهدة. فكلمناه فلم يتكلم، ونظرنا هل معه طعام، فلم نر معه طعاماً. وفي حين نظرنا، صاح صيحة عظيمة فسقطت عند صياحه جوزة من جوز النارجيل بين يديه، ودفعها لنا. فعجبنا من ذلك، ودفعنا له دنانير ودراهم فلم يقبلها. وأتيناه بزاد فرده. وكانت بين يديه عباءة من صوف الجمال مطروحة فقلبتها بيدي، فدفعها لي. وكانت بيدي سبحة زيلع فقلبها في يدي فأعطيته إياها، ففركها بيده وشمها وقبلها، وأشار إلى السماء، ثم إلى سمت القبلة. فلم يفهم أصحابي إشارته، ففهمت أنا عنه أنه أشار أنه مسلم يخفي إسلامه من أهل تلك الجزيرة، ويتعيش من تلك الجوز. ولما ودعناه قبلت يده. فأنكر أصحابي ذلك. ففهم إنكارهم. فأخذ يدي وقبلها وتبسم، وأشار لنا بالانصراف فانصرفنا. وكنت آخر أصحابي خروجاً، فجذب ثوبي فرددت رأسي إليه. فأعطاني عشرة دنانير. فلما خرجنا عنه قال لي أصحابي: لم جذبك ? فقلت لهم: أعطاني هذه الدنانير وأعطيت لظهير الدين ثلاثة منها، ولسنبل ثلاثة، وقلت لهما: الرجل مسلم، ألا ترون كيف أشار إلى السماء ? يشير إلى أنه يعرف الله تعالى، وأشار إلى القبلة، يشير إلى معرفة الرسول عليه السلام، وأخذه السبحة يصدق ذلك. فرجعا لما قلت لهما ذلك إليه فلم يجداه. وسافرنا تلك الساعة. وبالغد وصلنا إلى مدينة هنور " وضبط اسمها بكسر الهاء وفتح النون وسكون الواو وراء "، وهي على خور كبير تدخله المراكب الكبار. والمدبنة على نصف ميل من البحر. وفي أيام البشكال، وهو المطر، يشتد هيجان هذا البحر وطغيانه، فيبقى مدة أربعة أشهر لا يستطيع أحد ركوبه إلا للتصيد فيه. وفي يوم وصولنا إليها جاءني أحد الجوكية من الهنود في خلوة، وأعطاني ستة دنانير، وقال لي: البرهمي بعثها إليك، يعني الجوكي الذي أعطيته السبحة. وأعطاني الدنانير فأخذتها منه، وأعطيته ديناراً منها فلم يقبله، وانصرف. وأخبرت صاحبي بالقضية، وقلت لهما: إن شئتما فخذا نصيبكما منها، فأبيا وجعلا يعجبان من شأنه. وقالا لي: إن الدنانير الستة التي أعطيتنا إياها جعلنا معها مثلها، وتركناها بين الصنمين حيث وجدناها. فطال عجبي من أمره، واحتفظت بتلك الدنانير التي أعطانيها. وأهل مدينة هنور شافعية المذهب. لهم صلاح ودين وجهاد في الحرب وقوة، وبذلك عرفوا، حتى أذلهم الزمان بعد فتحهم لسندابور، وسنذكر ذلك. ولقيت من المتعبدين بهذه المدينة الشيخ محمد الناقوري، أضافني بزاويته. وكان يطبخ الطعام بيده استقذاراً للجارية والغلام. ولقيت بها الفقيه إسماعيل معلم كتاب الله تعالى وهو ورع حسن الخلق كريم النفس، والقاضي بها نور الدين علي، والخطيب لا أذكر اسمه. ونساء هذه المدينة وجميع هذه البلاد الساحلية لا يلبسن المخيط، وإنما يلبسن ثياباً غير مخيطة. تحتزم إحداهن بأحد طرفي الثوب وتجعل باقيه على رأسها وصدرها. ولهن جمال وعفاف. وتجعل إحداهن خرص ذهب في أنفها. ومن خصائصهن أنهن جميعاً يحفظن القرآن الكريم. ورأيت بالمدينة ثلاثة عشر مكتباً لتعليم البنات، وثلاثة وعشرين لتعليم الأولاد. ولم أر ذلك في سواها. ومعاش أهلها من التجارة في البحر. ولا زرع لهم. وأهل بلاد المليبار يعطون للسلطان جمال الدين في كل عام شيئاً معلوماً، خوفاً منه لقوته في البحر. وعسكره نحو ستة آلاف بين فرسان ورجالة.
ذكر سلطان هنور
وهو السلطان جمال الدين محمد بن حسن، من خيار السلاطين وكبارهم وهو تحت حكم سلطان كافر يسمى هريب، سنذكره. والسلطان جمال الدين مواظب للصلاة في الجماعة. وعادته أن يأتي إلى المسجد قبل الصبح، فيتلو في المصحف حتى يطلع الفجر، فيصلي أول وقت، ثم يركب إلى خارج المدينة. ويأتي عند الضحى فيبدأ بالمسجد، فيركع فيه ثم يدخل فيه، ثم يدخل إلى قصره. وهو يصوم الأيام البيض وكان أيام إقامتي عنده يدعوني للإفطار معه فأحضر لذلك، ويحضر الفقيه علي والفقيه إسماعيل. فتوضع أربع كراسي صغار على الأرض. فيقعد على إحداها، ويقعد كل واحد منا على كرسي.
ذكر ترتيب طعامه
وترتيبه أن يؤتى بمائدة نحاس يسمونها خونجة، ويجعل عليها طبق نحاس يسمونه الطالم " بفتح الطاء المهمل وفتح اللام "، وتأتي جارية حسنة ملتحفة بثوب حرير، فتقدم قدور الطعام بين يديه، ومعها مغرفة نحاس كبيرة، فتغرف بها من الأرز مغرفة واحدة، وتجعلها في الطالم، وتصب فوقها السمن، وتجعل مع ذلك عناقيد الفلفل المملوح والزنجبيل الأخضر والليمون المملوح والعنبا ، فيأكل الإنسان لقمة، ويتبعها بشيء من تلك الموالح. فإذا تمت الغرفة التي جعلها في الطالم غرفت غرفة أخرى من الأرز، وأفرغت دجاجة مطبوخة في سكرجة، فيؤكل بها الأرز أيضاً. فإذا تمت الغرفة الثانية، وغرفت وأفرغت لوناً آخر من الدجاج تؤكل به. فإذا تمت ألوان من الدجاج، أتوا بألوان من السمك، فيأكلون بها الأرز أيضاً. فإذا فرغت ألوان السمك أتوا بالخضر مطبوخة بالسمن، والألباب فيأكلون بها الأرز، فإذا فرغ ذلك كله أتوا بالكوشان، وهو اللبن الرائب، وبهذا يختمون طعامهم. فإذا وضع علم أنه لم يبق شيء يؤكل بعده. ثم يشربون على ذلك الماء السخن، لأن الماء البارد يضر بهم في فصل نزول المطر. ولقد أقمت عند هذا السلطان في كرة أخرى أحد عشر شهراً لم آكل خبزاً، إنما طعامهم الأرز. وبقيت أيضاً بجزائر المهل وسيلان وبلاد المعبر والمليبار ثلاث سنين لا آكل فيها إلا الأرز، حتى كنت لا أستسيغه إلا بالماء. ولباس هذا السلطان ملاحف الحرير والكتان الرقاق، يشد في وسطه فوطة، ويلتحف ملحفتين: إحداهما فوق الأخرى. ويقص شعره، ويلف عليه عمامة صغيرة. وإذا ركب لبس قباء، والتحف بملحفتين فوقه. وتضرب بين يديه طبول وأبواق يحملها الرجال. وكانت إقامتنا عنده في هذه المرة ثلاثة أيام. وزودنا وسافرنا عنه.
وبعد ثلاثة أيام وصلنا إلى بلاد المليبار " بضم الميم وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة وألف وراء "، وهي بلاد الفلفل. وطولها مسيرة شهرين على ساحل البحر من سندابور إلى كولم، والطريق في جميعها بين ظلال الأشجار. وفي كل نصف ميل بيت من الخشب فيه دكاكين يقعد عليها كل وارد وصادر من مسلم وكافر. وعند كل بيت منها بئر يشرب منها ورجل كافر موكل بها. فمن كان كافراً سقاه في الأواني، ومن كان مسلماً سقاه في يديه. ولا يزال يصب له حتى يشير له أن يكف. ومن عادة الكفار ببلاد المليبار أن لا يدخل المسلم دورهم، ولا يطعم في أوانيهم. فإن طعم فيها كسروها وأعطوها للمسلمين. وإذا دخل المسلم موضعاً منها لا يكون في دار للمسلمين، طبخوا له الطعام وصبوه على أوراق الموز وصبوا عليه الإدام، وما فضل عنه تأكله الكلاب والطير، وفي جميع المنازل بهذا الطريق ديار المسلمين ينزل عندهم المسلمون فيبيعون منهم جميع ما يحتاجون إليه، ويطبخون لهم الطعام. ولولاهم لما سافر فيه مسلم. وهذا الطريق الذي ذكرنا أنه مسيرة شهرين، ليس فيه موضع شبر فما فوقه دون عمارة. وكل إنسان بستانه على حدة وداره في وسطه. وعلى الجميع حائط خشب. والطريق يمر في البساتين. فإذا انتهى إلى حائط بستان كان هنالك درج خشب يصعد عليها ودرج آخر ينزل عليها إلى البستان الآخر. هكذا مسيرة الشهرين. ولا يسافر أحد في تلك البلاد بدابة، ولا تكون الخيل إلا عند السلطان. وأكثر ركوب أهلها في دولة على رقاب العبيد أو المستأجرين. ومن لم يستطع أن يركب في دولة ، مشى على قدميه كائناً من كان. ومن كان له رحل أو متاع من تجارة وسواها اكترى رجالاً يحملونه على ظهورهم. فنرى هنالك التاجر ومعه المائة فما دونها أو فوقها، يحملون أمتعته، وبيد كل واحد منهم عود غليظ له زج حديد، وفي أعلاه مخطاف حديد، فإذا أعيا ولم يجد دكانةً يستريح عليها، ركز عوده بالأرض، وعلق حمله منها، فإذا استراح أخذ حمله من غير معين، ومضى به. ولم أر طريقاً آمن من هذا الطريق. وهم يقتلون السارق على الجوزة الواحدة. فإذا سقط شيء من الثمار لم يلتقطه أحد، حتى يأخذه صاحبه. وأخبرت أن بعض الهنود مروا على الطريق فالتقط أحدهم جوزة. وبلغ خبره إلى الحاكم، فأمر بعود، فركز في الأرض وبرى طرفه الأعلى وأدخل في لوح خشب حتى برز منه. ومد الرجل على اللوح، وركز في العود وهو على بطنه حتى خرج من ظهره، وترك عبرة للناظرين. ومن هذه العيدان على هذه الصورة بتلك الطرق كثير ليراها الناس فيتعظوا. ولقد كنا نلقى الكفار بالليل في هذه الطريق فإذا رأونا تنحوا عن الطريق حتى نجوز. والمسلمون أعز الناس بها، غير أنهم كما ذكرنا لا يؤاكلونهم ولا يدخلونهم دورهم. وفي بلاد المليبار اثنا عشر سلطاناً من الكفار. منهم القوي الذي يبلغ عسكره خمسين ألفاً، ومنهم الضعيف الذي عسكره ثلاثة آلاف. ولا فتنة بينهم ألبتة، ولا يطمع القوي منهم في انتزاع ما بيد الضعيف. وبين بلاد أحدهم وصاحبه باب خشب منقوش فيه اسم الذي هو مبدأ عمالته، ويسمونه باب أمان فلان. وإذا فر مسلم أو كافر بسبب جناية من بلاد أحدهم ووصل إلى باب أمان الآخر أمن على نفسه. ولم يستطع الذي هرب عنه أخذه، وإن كان القوي صاحب العدد والجيوش. وسلاطين تلك البلاد يورثون ابن الأخت ملكهم دون أولادهم. ولم أر من يفعل ذلك إلا مسوفة أهل الثلم " اللثام "، وسنذكرهم فيما بعد. وإذا أراد السلطان من أهل بلاد المليبار منع الناس من البيع أو الشراء أمر بعض غلمانه، فعلق على الحوانيت بعض أغصان الأشجار بأوراقها، فلا يبيع أحد ولا يشتري ما دامت عليها تلك الأغصان.
ذكر الفلفل
وشجرات الفلفل شبيهة بدوالي العنب، وهم يغرسونها إزاء النارجيل، فتصعد فيها كصعود الدوالي إلا أنها ليس لها عسلوج، وهو الغزل كما للدوالي، وأوراق شجره تشبه آذان الخيل. وبعضها يشبه أوراق العليق، ويثمر عناقيد صغاراً. حبها كحب أبي قنينة، إذا كانت خضراء. وإذا كان أوان الخريف قطفوه وفرشوه على الحصر في الشمس. كما يصنع بالعنب عند تزبيبه. ولا يزالون يقلبونه حتى يستحكم يبسه، ثم يبيعونه من التجار. والعامة ببلادنا يزعمون أنهم يقلونه بالنار. وبسبب ذلك يحدث فيه التكريش، وليس كذلك وإنما يحدث ذلك فيه بالشمس. ولقد رأيته بمدينة قالقوط، يصب للكيل، كالذرة ببلادنا. وأول مدينة دخلناها من بلاد المليبار مدينة أبي سرور " بفتح السين "، وهي صغيرة على خور كبير، كثيرة أشجار النارجيل. وكبير المسلمين بها الشيخ جمعه المعروف بأبي ستة، أحد الكرماء. أنفق أمواله على الفقراء والمساكين حتى نفدت. وبعد يومين منها وصلنا إلى مدينة فاكنور " وضبط اسمها بفتح الفاء والكاف والنون وآخره راء " مدينة كبيرة على خور بها قصب السكر الكثير الطيب لذي لا مثيل له بتلك البلاد. وبها جماعة من المسلمين يسمى كبيرهم بحسين السلاط، وبها قاض وخطيب. وعمر بها حسين المذكور مسجداً لإقامة الجمعة.
ذكر سلطان فاكنور

وسلطان فاكنور كافر اسمه باسدو " بفتح الباء الموحد والسين المهمل والدال المهمل وسكون الواو "، وله نحو ثلاثين مركباً حربياً قائدها مسلم يسمى لولا، وكان من المفسدين يقطع بالبحر ويسلب التجار. ولما أرسينا على فاكنور، وبعث سلطانها إلينا ولده، فأقام بالمركب كالرهينة، ونزلنا إليه. فأضافنا ثلاثاً بأحسن ضيافة تعظيماً لسلطان الهند، وقياماً بحقه رغبة فيما يستفيده في التجارة مع أهل مراكبنا. ومن عادتهم هنالك أن كل مركب يمر ببلد فلا بد من إرسائه بها، وإعطائه هدية إلى صاحب البلد، يسمونها حق البندر. ومن لم يفعل ذلك خرجوا في اتباعه بمراكبهم، وأدخلوه المرسى قهراً، وضاعفوا عليه المغرم، ومنعوه عن السفر ما شاءوا. وسافرنا منها، فوصلنا بعد ثلاثة أيام إلى مدينة منجرور " وضبط اسمها بفتح الميم وسكون النون وفتح الجيم وضم الراء وواو وراء ثاينة " مدينة كبيرة على خور، يسمى خور الدنب " بضم الدال المهمل وسكون النون وباء موحدة "، وهو أكبر خور ببلاد المليبار. وبهذه المدينة ينزل معظم تجار فارس واليمن. والفلفل والزنجبيل بها كثير جداً.
ذكر سلطانها
وهو أكبر سلاطين تلك البلاد واسمه رام دو " بفتح الراء والميم والدال المهمل وسكون الواو "، وبها نحو أربعة آلاف من المسلمين، يسكنون ربضاً بناحية المدينة. ربما وقعت الحرب بينهم وبين أهل المدينة، فيصلح بينهم لحاجته إلى التجار. وبها قاض من الفضلاء الكرماء شافعي المذهب يسمى بدر الدين المعيري، وهو يقرئ العلم. صعد إلينا، إلى المركب، ورغب منا في النزول إلى بلده، فقلنا حتى يبعث ولده يقيم بالمركب. فقال: إنما يفعل ذلك سلطان فاكنور، لأنه لا قوة للمسلمين في بلده. وأما نحن فالسلطان يخافنا. فأبينا عليه إلى أن بعث السلطان ولده، كما فعل الآخر، ونزلنا إليهم. فأكرمونا إكراماً عظيماً. وأقمنا عنده ثلاثة أيام. ثم سافرنا إلى مدينة هيلي، فوصلناها بعد يومين " وضبط اسمها بهاء مكسورة وياء مد ولام مكسور "، وهي كبيرة حسنة العمارة، على خور عظيم تدخله المراكب الكبار. وإلى هذه المدينة تنتهي مراكب الصين. لا تدخل إلا مرساها ومرسى كولم وقالقوط. ومدينة هيلي معظمة عند المسلمين والكفار بسبب مسجدها الجامع، فإنه عظيم البركة مشرق النور. وركاب البحر ينذرون له النذور الكثيرة. وله خزانة مال عظيمة تحت نظر الخطيب حسين وحسن الوزان كبير المسلمين. وبهذا المسجد جماعة من الطلبة يتعلمون العلم، ولهم مرتبات من مال المسجد. وله مطبخة يصنع فيها الطعام للوارد والصادر، ولإطعام الفقراء من المسلمين بها. ولقيت بهذا المسجد فقيهاً صالحاً من أهل مقدشو يسمى سعيداً، حسن اللقاء والخلق. يسرد الصوم. وذكر أنه جاور بمكة أربع عشرة سنة، ومثلها بالمدينة. وأدرك الأمير بمكة أبا نمي، والأمير بالمدينة منصور بن جماز، وسافر في بلاد الهند والصين. ثم سافرنا من هيلي إلى مدينة جرفتن " وضبط اسمها بضم الجيم وسكون الراء وفتح الفاء وفتح التاء المعلوة وتشديدها وآخره نون "، وبينه وبين هيلي ثلاثة فراسخ. ولقيت بها فقيهاً من أهل بغداد كبير القدر يعرف بالصرصري، نسبة إلى بلدة على مسافة عشرة أميال من بغداد في طريق الكوفة، واسمها كاسم صرصر التي عندنا بالمغرب. وكان له أخ بهذه المدينة كثير المال، له أولاد صغار أوصى إليه بهم. وتركته آخذاً في حملهم إلى بغداد. وعادة أهل الهند كعادة السودان لا يتعرضون لمال الميت، ولو ترك الآلاف إنما يبقى ماله بيد كبير المسلمين، حتى يأخذه مستحقه شرعاً.
ذكر سلطانها

وهو يسمى بكويل " بضم الكاف على لفظ التصغير "، وهو من أكبر سلاطين المليبار. وله مراكب كثيرة تسافر إلى عمان وفارس واليمن. ومن بلاده فتن وبدفتن، وسنذكرهما. وسرنا من جرفتن إلى مدينة ده فن " بفتح الدال المهمل وسكون الهاء "، وقد ذكرنا ضبط فتن. وهي مدينة كبيرة على خور، كثيرة البساتين. وبها النارجيل والفلفل والفوفل والتنبول، وبها القلقاص الكثير، ويطبخون به اللحم. وأما الموز فلم أر في البلاد أكثر منه بها ولا أرخص ثمناً. وفيها الباين الأعظم، طوله خمسمائة خطوة وعرضه ثلاثمائة خطوة. وهو مطوي بالحجارة الحمر المنحوتة، وعلى جوانبه ثمانٍ وعشرون قبة من الحجر. في كل قبة أربعة مجالس من الحجر. وكل قبة يصعد إليها على درج حجارة. وفي وسطه قبة كبيرة من ثلاث طبقات، في كل طبقة أربعة مجالس. وذكر لي أن والد هذا السلطان كويل هو الذي عمر هذا الباين. وبإزائه مسجد جامع للمسلمين، وله أدراج ينزل منها إليه فيتوضأ منه الناس ويغتسلون. وحدثني الفقيه حسين أن الذي عمر المسجد والباين أيضاً هو أحد أجداد كويل، وأنه كان مسلماً، ولإسلامه خبر عجيب نذكره.
ذكر الشجرة العجيبة الشأن التي بإزاء الجامع
ورأيت أنا بإزاء الجامع شجرة خضراء تشبه أوراقها أوراق التين، إلا أنها لينة. وعليها حائط يطيف بها، وعندها محراب صليت فيه ركعتين. واسم هذه الشجرة عندهم درخت الشهادة ودرخت " بفتح الدال المهمل والراء وسكون الخاء المعجم وتاء معلوة " وأخبرت هنالك أنه إذا كان زمان الخريف من كل سنة، تسقط من هذه الشجرة ورقة واحدة بعد أن يستحيل لونها إلى الصفرة، ثم إلى الحمرة، ويكون فيها مكتوباً بقلم القدرة: لا اله إلا الله محمد رسول الله. وأخبرني الفقيه حسين وجماعة من الثقات أنهم عاينوا هذه الورقة، وقرأوا المكتوب الذي فيها. وأخبرني أنه إذا كانت أيام سقوطها قعد تحتها الثقات من المسلمين والكفار، فإذا سقطت أخذ المسلمون نصفها، وجعل نصفها في خزانة السلطان الكافر، وهم يستشفون بها للمرضى. وهذه الشجرة كانت سبب إسلام جد كويل الذي عمر المسجد والباين. فإنه كان يقرأ الخط العربي. فلما قرأها وفهم ما فيها أسلم وحسن إسلامه. وحكايته عندهم متواترة. وحدثني الفقيه حسين أن أحد أولاده كفر بعد أبيه وطغى، وأمر باقتلاع الشجرة من أصلها فاقتلعت، ولم يترك لها أثر. ثم نبتت بعد ذلك، وعادت كأحسن مما كانت عليه، وهلك الكافر سريعاً. ثم سافرنا إلى مدينة بدفتن. وهي مدينة كبيرة على خور كبير، وبخارجها مسجد بمقربة من البحر يأوي إليه غرباء المسلمين. لأنه لا مسلم بهذه المدينة. ومرساها من أحسن المراسي، وماؤها عذب، والفوفل بها كثير. ومنها يحمل للهند والصين. وأكثر أهلها براهمة. وهم معظمون عند الكفار، مبغضون في المسلمين. ولذلك ليس بينهم مسلم.
حكاية أخبرت أن سبب تركهم هذا المسجد غير مهدوم، أن أحد البراهمة خرب سقفه ليصنع منه سقفاً لبيته، فاشتعلت النار في بيته. فأحرق هو وأولاده ومتاعه. فاحترموا هذا المسجد، ولم يتعرضوا له بسوء بعدها، وخدموه، وجعلوا بخارجه الماء، يشرب منه الصادر والوارد وجعلوا على بابه شبكة لئلا يدخله الطير. ثم سافرنا من مدينة بدفتن إلى مدينة فندرينا " وضبط اسمها بفاء مفتوح ونون ساكن ودال مهمل وراء مفتوحة وياء آخر الحروف "، مدينة كبيرة حسنة ذات بساتين وأسواق. وبها للمسلمين ثلاث محلات، في كل محلة مسجد والجامع بها على الساحل، وهو عجيب، له مناظر ومجالس على البحر. وقاضيها وخطيبها رجل من أهل عمان، وله أخ فاضل. وبهذه البلدة تشتو مراكب الصين. ثم سافرنا منها إلى مدينة قالقوط " وضبط اسمعا بقافين وكسر اللام وضم القاف الثاني وآخره طاء مهمل "، وهي إحدى البنادر العظام ببلاد المليبار. يقصدها أهل الصين والجاوة وسيلان والمهل وأهل اليمن وفارس. ويجتمع بها تجار الآفاق. ومرساها من أعظم مراسي الدنيا.
ذكر سلطان قالقوط
وسلطانها كافر يعرف بالسامري، شيخ مسن يحلق لحيته، كما تفعل طائفة الروم، رأيته بها، وسنذكره إن شاء الله. وأمير التجار بها إبراهيم شاه بندر من أهل البحرين فاضل ذو مكارم، يجتمع إليه التجار، ويأكلون في سماطه. وقاضيها فخر الدين عثمان فاضل كريم، وصاحب الزاوية بها الشيخ شهاب الدين الكازروني، وله تعطى النذور التي ينذر بها أهل الهند والصين للشيخ أبي إسحاق الكازروني نفع الله به. وبهذه المدينة الناخوذة مثقال، الشهير الإسم، صاحب الأموال الطائلة والمراكب الكثيرة لتجارته بالهند والصين واليمن وفارس. ولما وصلنا إلى هذه المدينة، خرج إلينا إبراهيم شاه بندر، والقاضي، والشيخ شهاب الدين، وكبار التجار، ونائب السلطان الكافر والمسمى بقلاج، " بضم القاف وآخره جيم " ومعه الأطبال والأنفار والأبواق والأعلام في مراكبهم. ودخلنا المرسى في بروز عظيم ما رأيت مثله بتلك البلاد. فكانت فرحة تتبعها ترحة. وأقمنا بمرساها، وبه يومئذ ثلاثة عشر من مراكب الصين ونزلنا بالمدينة. وجعل كل واحد منا في دار. وأقمنا ننتظر زمان السفر إلى الصين ثلاثة أشهر، ونحن في ضيافة الكافر، وبحر الصين لا يسافر فيه إلا بمراكب الصين. ولنذكر ترتيبها.
ذكر مراكب الصين
ومراكب الصين ثلاثة أصناف: الكبار منها تسمى الجنوك، واحدها جنك " بجيم معقود مضموم ونون ساكن "، والمتوسطة اسمها الزو " بفتح الزاي وواو "، والصغار اسم أحدها الككم " بكافين مفتوحتين ". ويكون في المركب الكبير منها اثنا عشر قلعاً فما دونها إلى ثلاثة. وقلعها من قضبان الخيزران منسوجة كالحصر لا تحط أبداً، ويديرونها بحسب دوران الريح. وإذا أرسوا تركوها واقفة في مهب الريح، ويخدم في المركب منها ألف رجل، منهم البحرية ستمائة، ومنهم أربعمائة من المقاتلة تكون فيهم الرماة وأصحاب الدرق والجرخية، وهم الذين يرمون بالنفط، ويتبع كل مركب كبير منا ثلاثة: النصفي والثلثي والربعي. ولا تصنع هذه المراكب إلا بمدينة الزيتون من الصين، أو بصين كلان، وهي صين الصين. وكيفية إنشائها أنهم يصنعون حائطين من الخشب، يصلون ما بينهما بخشب ضخام جداً، موصولة بالعرض والطول بمسامير ضخام، طول المسمار منها ثلاثة أذرع. فإذا التأم الحائطان بهذه الخشب صنعوا على أعلاهما فرش الأسفل، ودفعوهما في البحر، وأتموا عمله، وتبقى تلك الخشب والحائطان موالية الماء ينزلون فيغتسلون ويقضون حاجتهم. وعلى جوانب تلك الخشب تكون مجاذيفهم، وهي كبار كالصواري، يجتمع على أحدها العشرة والخمسة عشر رجلاً، ويجذفون وقوفاً على أقدامهم. ويجعلون للمركب أربعة ظهور، ويكون فيه البيوت والمصاري والغرف للتجار، والمصرية منها يكون فيه البيوت والسنداس، وعليها المفتاح يسدها صاحبها، ويحمل معه الجواري والنساء، وربما كان الرجل في مصريته فلا يعرف بعه غيره ممن يكون بالمركب، حتى يتلاقيا إذا وصلا بعض البلاد. والبحرية يسكنون فيه أولادهم ويزدرعون الخضر والبقول والزنجبيل في أحواض خشب، ووكيل المركب كأنه أمير كبير، وإذا نزل إلى البر مشت الرماة والحبشة بالحراب والسيوف والأطبال والأبواق والأنفار أمامه. وإذا وصل إلى المنزل الذي يقيم به ركزوا رماحهم عن جانبي بابه، ولا يزالون كذلك مدة إقامته. ومن أهل الصين من تكون له المراكب الكثيرة، يبعث بها وكلاءه إلى البلاد. وليس في الدنيا أكثر أموالاً من أهل الصين.
ذكر أخذنا في السفر إلى الصين ومنتهى ذلك
ولما حان وقت السفر إلى الصين، جهز لنا السلطان السامري جنكاً من الجنوك الثلاثة عشر التي بمرسى قالقوط. وكان وكيل الجنك يسمى بسليمان الصفدي الشامي، وبيني وبينه معرفة. فقلت له: أريد مصرية لا يشاركني فيها أحد، لأجل الجواري. ومن عادتي أن لا أسافر إلا بهن. فقال: إن تجار الصين قد اكتروا المصاري ذاهبين وراجعين. ولصهري مصرية أعطيكها، لكنها لا سنداس فيها. وعسى أن تمكن معاوضتها. فأمرت أصحابي فأوسقوا ما عندي من المتاع، وصعد العبيد والجواري إلى الجنك، وذلك في يوم الخميس. وأقمت لأصلي الجمعة وألحق بهم. وصعد الملك سنبل وظهير الدين مع الهدية. ثم إن فتى لي يسمى بهلال أتاني غدوة الجمعة فقال: إن المصرية التي أخدناها بالجنك ضيقة لا تصلح، فذكرت ذلك للناخوذة، فقال: ليس في ذلك حيلة، فإن أحببت أن تكون في الككم ففيه المصاري على اختيارك. فقلت: نعم. وأمرت أصحابي، فنقلوا الجواري والمتاع إلى الككم. واستقروا به قبل صلاة الجمعة. وعادة هذا البحر أن يشتد هيجانه كل يوم بعد العصر، فلا يستطيع أحد ركوبه. وكانت الجنوك قد سافرت، ولم يبق منها إلا الذي فيه الهدية، وجنك عزم أصحابه على ان يشتوا بفندرينا، والككم المذكور، فبتنا ليلة السبت على الساحل، لا نستطيع الصعود إلى الككم، ولا يستطيع من فيه النزول إلينا. ولم يكن بقي معي إلا بساط أفترشه. وأصبح الجنك والككم يوم السبت على بعد من المرسى. ورمى البحر بالجنك الذي كان أهله يريدون فندرينا، فتكسر. ومات بعض أهله، وسلم بعضهم، وكانت فيه جارية لبعض التجار عزيزة عليه، فرغب في إعطاء عشرة دنانير ذهباً لمن يخرجها. وكانت قد التزمت خشبة في مؤخر الجنك. فانتدب لذلك بعض البحرية الهرمزيين فأخرجها. وأبى أن يأخذ الدنانير، وقال: إنما فعلت ذلك لله تعالى. ولما كان الليل رمى البحر بالجنك الذي كانت فيه الهدية، فمات جميع من فيه. ونظرنا عند الصباح إلى مصارعهم، ورأيت ظهير الدين قد انشق رأسه، وتناثر دماغه، والملك سنبل قد ضرب مسمار في أحد صدغيه، ونفذ من الآخر. وصلينا عليهما ودفناهما. ورأيت الكافر سلطان قالقوط في وسطه شقة بيضاء كبيرة قد لفها من سرته إلى ركبته، وفي رأسه عمامة صغيرة، وهو حافي القدمين، والشطر بيد غلام فوق رأسه، والنار توقد بين يديه في الساحل، وزبانيته يضربون الناس لئلا ينتهبوا ما يرمي البحر. وعادة بلاد المليبار أن كل ما انكسر من مركب يرجع ما يخرج منه للمخزن إلا في هذا البلد خاصة، فإن ذلك يأخذه أربابه. ولذلك عمرت، وكثر تردد الناس إليها. ولما رأى أهل الككم ما حدث عن الجنك، رفعوا قلعهم وذهبوا، ومعهم جميع متاعي وغلماني وجواري، وبقيت منفرداً على الساحل، ليس معي إلا فتى كنت أعتقته. فلما رأى ما حل بي ذهب عني، ولم يبق عندي إلا العشرة الدنانير التي أعطانيها الجوكي، والبساط الذي كنت أفترشه. وأخبرني الناس أن ذلك الككم لا بد له أن يدخل مرسى كولم، فعزمت على السفر إليها، وبينهما مسيرة عشر في البر أو في النهر أيضاً لمن أراد ذلك. فسافرت في النهر، واكتريت رجلاً من المسلمين يحمل لي البساط. وعادتهم إذا سافروا في ذلك النهر أن ينزلوا بالعشي فيبيتوا بالقري التي على حافتيه، ثم يعودوا إلى المركب بالغدو. فكنا نفعل ذلك. ولم يكن بالمركب مسلم إلا الذي اكتريته، وكان يشرب الخمر عند الكفار إذا نزلنا، ويعربد علي، فيزيد خاطري. ووصلنا في اليوم الخامس من سفرنا إلى كنجي كري " وضبط اسمها بكاف مضموم ونون ساكن وجيم وياء مد وكاف مفتوح وراء مسكور وياء "، وهي بأعلى جبل هنالك. يسكنها اليهود، ولهم أمير منهم، ويؤدون الجزية لسلطان كولم.
ذكر القرفة والبقم

وجميع الأشجار التي على هذا النهر أشجار القرفة والبقم، وهي حطبهم هنالك. ومنها كنا نقد النار لطبخ طعامنا في ذلك الطريق. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى مدينة كولم " وضبط اسمها بفتح الكاف واللام وبينهما واو "، وهي أحسن بلاد المليبار، وأسواقها حسان، وتجارها يعرفون بالصوليين. " بضم الصاد " لهم أموال عريضة "، يشتري أحدهم المركب بما فيه، ويوسقه من داره بالسلع. وبها من التجار المسلمين جماعة، كبيرهم علاء الدين الآوجي من أهل آوة، من بلاد العراق. وهو رافضي، ومعه أصحاب له على مذهبه، وهو يظهرون ذلك. وقاضيها فاضل من أهل قزوين. وكبير المسلمين بها محمد شاه بندر، وله أخ فاضل كريم اسمه تقيي الدين. والمسجد الجامع بها عجيب، عمره التاجر خواجه مهذب. وهذه المدينة أول ما يوالي الصين من بلاد المليبار، وإليها يسافر أكثرهم. والمسلمون بها أعزة محترمون.
ذكر سلطان كولم
وهو كافر يعرف بالتيروري " بكسر التاء المعلوة وياء مد وراء وواو مفتوحين وراء مكسورة وياء " وهو معظم للمسلمين. وله أحكام شديدة على السراق والدعار.
حكاية
ومما شاهدت بكولم أن بعض الرماة العراقيين قتل آخر منهم، وفر إلى دار الآوجي، وكان له مال كثير، وأراد المسلمون دفن المقتول، فمنعهم نواب السلطان من ذلك، وقالوا: لا يدفن حتى تدفعوا لنا قاتله فيقتل به. وتركوه في تابوته على باب الآوجي، حتى أنتن وتغير. فمكنهم الآوجي من القاتل، ورغب منهم أن يعطيهم أمواله، ويتركوه حياً، فأبوا ذلك وقتلوه. وحينئذ دفن المقتول.
حكاية
أخبرت أن السلطان كولم ركب يوماً إلى خارجها، وكان طريقه فيما بين البساتين، ومعه صهره زوج بنته، وهو من أبناء الملوك، فأخذ حبة واحدة من العنبة سقطت من بعض البساتين. وكان السلطان ينظر إليه فأمر به عند ذلك، فوسط، وقسم نصفين، وصلب نصفه عن يمين الطريق، ونصفه الآخر عن يساره، وقسمت حبة العنبة نصفين، فوضع على كل نصفٍ منه نصف منها، وترك هنالك عبرة للناظرين.
حكاية
ومما اتفق نحو ذلك بقالقوط أن ابن أخي النائب عن سلطانها غصب سيفاً لبعض تجار المسلمين فشكا بذلك إلى ابن عمه، فوعده بالنظر في أمره، وقعد على باب داره. فإذا بابن أخيه متقلد ذلك السيف. فدعاه، فقال: هذا سيف المسلم ? قال: نعم. قال: اشتريته منه ? قال: لا. فقال لأعوانه: أمسكوه. ثم أمر به. فضربت عنقه بذلك السيف. وأقمت بكولم مدة بزاوية الشيخ فخر الدين ابن الشيخ شهاب الدين الكازروني، شيخ زاوية قالقوط، فلم أتعرف للككم خبراً. وفي أثناء مقامي بها، دخل إليها أرسال ملك الصين الذين كانوا معنا، وكانوا مع أحد تلك الجنوك، فانكسر أيضاً، فكساهم تجار الصين، وعادوا إلى بلادهم، ولقيتهم بها بعد. وأردت أن أعود من كولم إلى السلطان لأعلمه بما اتفق على الهدية، ثم خفت أن يتعقب فعلي ويقول: لم فارقت الهدية ? فعزمت على العودة إلى السلطان جمال الدين الهنوري، وأقيم عنده، حتى أتعرف خبر الككم، فعدت إلى قالقوط، ووجدت بها بعض مراكب السلطان. فبعث فيها أميراً من العرب يعرف بالسيد أبي الحسن، وهو من البردارية، وهم خواص البوابين، بعثه السلطان بأموال يستجلب بها من قدر عليه من العرب من أرض هرمز والقطيف لمحبته في العرب، فتوجهت إلى هذا الأمير، ورأيته عازماً على أن يشتو بقالقوط، وحينئذ يسافر إلى بلاد العرب. فشاورته في العودة إلى السلطان فلم يوافق على ذلك. فسافرت بالبحر من قالقوط، وذلك آخر فصل السفر فيه. فكنا نسير نصف النهار الأول ثم نرسو إلى الغد. ولقينا في طريقنا أربعة أجفان غزوية. فخفنا منها، ثم لم يتعرضوا لنا بشر. ووصلنا إلى مدينة هنور، فنزلت إلى السلطان، وسلمت عليه. فأنزلني بدار، ولم يكن لي خديم. وطلب مني أن أصلي معه الصلوات. فكان أكثر جلوسي في مسجده. وكنت أختم القرآن كل يوم، ثم كنت أختم مرتين في اليوم. أبتدئ القراءة بعد صلاة الصبح فأختم عند الزوال، وأجدد الوضوء وأبتدء القراءة فأبتدئ الختمة الثانية عند الغروب. ولم أزل كذلك مدة ثلاثة أشهر، واعتكفت فيها أربعين يوماً.
ذكر توجهنا إلى الغزو وفتح سندابور
وكان السلطان جمال الدين قد جهز اثنين وخمسين مركباً وسفرته برسم غزو سندابور. وكان وقع بين سلطانها وولده خلاف، فكتب ولده إلى السلطان جمال الدين أن يتوجه لفتح سندابور، ويسلم الولد المذكور، ويزوجه السلطان أخته. فلما تجهزت المراكب، ظهر لي أن أتوجه فيها إلى الجهاد. ففتحت المصحف أنظر فيه، فكان في أول الصفح يذكر فيه اسم الله كثيراً " ولينصرن الله من ينصره " فاستبشرت بذلك. وأتى السلطان إلى صلاة العصر، فقلت له: إني أريد السفر. فقال: فأنت إذاً تكون أميرهم. فأخبرته بما خرج لي في أول الصفح، فأعجبه ذلك، وعزم على السفر بنفسه. ولم يكن ظهر له ذلك من قبل، فركب مركباً منها، وأنا معه، وذلك في يوم السبت. فوصلنا عشي الاثنين إلى سندابور، ودخلنا خورها، فوجدنا أهلها مستعدين للحرب، وقد نصبوا المجانيق. فبتنا عليها تلك الليلة. فلما أصبح ضربت الطبول والأنفار والأبواق، وزحفت المراكب، ورموا عليها بالمجانيق. فلقد رأيت حجراً أصاب بعض الواقفين بمقربة من السلطان. ورمى أهل المراكب أنفسهم في الماء، وبأيديهم الترسة والسيوف. ونزل السلطان إلى العكيري، وهو شبه الشلير، ورميت بنفسي في الماء في جملة الناس. وكان عندنا طريدتان مفتوحتا المواخر، فيها الخيل. وهي بحيث يركب الفارس فرسه في جوفها ويتدرع ويخرج. ففعلوا ذلك. وأذن الله في فتحها، وأنزل النصر على المسلمين فدخلنا بالسيف، ودخل معظم الكفار في قصر سلطانها. فرمينا النار فيه فخرجوا، وقبضنا عليهم. ثم إن السلطان أمنهم، ورد لهم نساءهم وأولادهم، وكانوا نحو عشرة آلاف، وأسكنهم بربض المدينة. وسكن السلطان القصر، وأعطى الديار بمقربة منه لأهل دولته، وأعطاني جارية منهن، تسمى بلكي، فسميتها مباركة. وأراد زوجها فداءها فأبيت، وكساني فرجية مصرية، وجدت في خزائن الكافر. وأقمت عنده بسندابور من يوم فتحها، وهو الثالث عشر لجمادى الأولى إلى منتصف شعبان. وطلبت منه الاذن في السفر، فأخذ علي العهد في العودة إليه. وسافرت في البحر إلى هنور، ثم إلى فاكنور، ثم إلى منجرور، ثم إلى هيلي، ثم إلى جرفتن وده فتن وبدفتن وفندرينا وقالقوط، وقد تقدم ذكر جميعها، ثم إلى مدينة الشاليات، " وهي بالشين المعجم والف ولام وياء آخر الحروف وألف وتاء معلوة "، مدينة من حسان المدن، تصنع بها الثياب المنسوبة لها. وأقمت بها، فطال مقامي، فعدت إلى قالقوط. ووصل إليها غلامان كانا لي بالككم، فأخبراني أن الجارية التي كانت حاملاً، وبسببها كان تغير خاطري توفيت وأخذ صاحب الجاوة سائر الجواري، واستولت الأيدي على المتاع، وتفرق أصحابي إلى الصين والجاوة وبنجالة فعدت لما تعرفت هذا، إلى هنور ثم إلى سندابور، فوصلتها في آخر المحرم، وأقمت بها إلى الثاني من شهر ربيع الآخر. وقدم سلطانهم الكافر الذي دخلنا عليه برسم أخذها، وهرب إليه الكفار كلهم. وكانت عساكر السلطان متفرقة في القرى، فانقطعوا عنا، وحصرنا الكفار وضيقوا علينا. ولما اشتد الحال خرجت عنها، وتركتها محصورة، وعدت إلى قالقوط، وعزمت على السفر إلى ذيبة المهل، وكنت أسمع بأخبارها. فبعد عشرة أيام من ركوبنا البحر بقالقوط وصلنا جزائر ذيبة المهل، وذيبة على لفظ مؤنث الذيب، والمهل " بفتح الميم والهاء ". وهذه الجزائر إحدى عجائب الدنيا، وهي نحو ألفي جزيرة، ويكون منها مائة فما دونها مجتمعات مستديرة كالحلقة، لها مدخل كالباب، لا تدخل المراكب إلا منه. وإذا وصل المركب إلى إحداها فلا بد له من دليل من أهلها يسير به إلى سائر الجزائر. وهي من التقارب بحيث تظهر رؤوس النخل التي بإحداها عند الخروج من الأخرى، فإن أخطأ المركب سمتها، لم يمكنه دخولها، وحملته الريح إلى المعبر أو سيلان. وهذه الجزائر أهلها كلهم مسلمون ذوو ديانة وصلاح. وهي منقسمة إلى أقاليم، على كل إقليم والٍ يسمونه الكردوبي. ومن أقاليمها إقليم بالبور " وهو بباءين معقودتين وكسر اللام وآخره راء "، ومنها كنلوس " بفتح الكاف والنون مع تشديدها وضم اللام وواو وسين مهمل "، ومنها إقليم المهل، وبه تعرف الجزائر كلها. وبها يسكن سلاطينها. ومنها إقليم تلاديب " بفتح التاء المعلوة واللام والف ودال مهمل وباء مد وباء موحدة "، ومنها إقليم كارايدو " بفتح الكاف وسكون الياء المسفولة وضم الدال المهمل وواو "، منها إقليم التيم " بفتح التاء المعلوة وسكون الياء المسفولة "، ومنها إقليم تلدمتي " بفتح التاء المعلوة الاول واللام وضم الدال المهمل وفتح الميم وتشديدها وكسر التاء الأخرى وياء "، ومنها إقليم هلدمتي، وهو مثل اللفظ الذي قبله إلا ان الهاء أوله، ومنها إقليم برويدو " بفتح الباء الموحدة والراء وسكون الياء وضم الدال المهمل وواو "، ومنها إقليم كندكل " بفتح الكافين والدال المهمل ولام "، ومنها إقليم ملوك " بضم الميم، ومنها إقليم السويد "بالسين المهمل "، وهو أقصاها. وهذه الجزائر كلها لا زرع بها، إلا أن في إقليم السويد منها زرعاً يشبة أتلي، ويجلب منه إلى المهل. وإنما أكل أهلها سمك يشبه الليرون، يسمونه قلب الماس "بضم القاف"، ولحمه أحمر، ولا زفر له، إنما ريحه كريح لحم الأنعام، وإذا اصطادوه قطعوا السمكة منه أربع قطع، وطبخوه يسيراً ثم جعلوه في مكائيل من سعف النخل، وعلقوه للدخان. فإذا استحكم يبسه أكلوه. ويحمل منها إلى الهند والصين واليمن، ويسمونه قلب الماس " بضم القاف ".لوة وسكون الياء المسفولة "، ومنها إقليم تلدمتي " بفتح التاء المعلوة الاول واللام وضم الدال المهمل وفتح الميم وتشديدها وكسر التاء الأخرى وياء "، ومنها إقليم هلدمتي، وهو مثل اللفظ الذي قبله إلا ان الهاء أوله، ومنها إقليم برويدو " بفتح الباء الموحدة والراء وسكون الياء وضم الدال المهمل وواو "، ومنها إقليم كندكل " بفتح الكافين والدال المهمل ولام "، ومنها إقليم ملوك " بضم الميم، ومنها إقليم السويد "بالسين المهمل "، وهو أقصاها. وهذه الجزائر كلها لا زرع بها، إلا أن في إقليم السويد منها زرعاً يشبة أتلي، ويجلب منه إلى المهل. وإنما أكل أهلها سمك يشبه الليرون، يسمونه قلب الماس "بضم القاف"، ولحمه أحمر، ولا زفر له، إنما ريحه كريح لحم الأنعام، وإذا اصطادوه قطعوا السمكة منه أربع قطع، وطبخوه يسيراً ثم جعلوه في مكائيل من سعف النخل، وعلقوه للدخان. فإذا استحكم يبسه أكلوه. ويحمل منها إلى الهند والصين واليمن، ويسمونه قلب الماس " بضم القاف ".
ذكر أشجارها
ومعظم أشجار هذه الجزائر النارجيل، وهو من أقواتهم مع السمك، وقد تقدم ذكره. وأشجار النارجيل شأنها عجيب. وتثمر النخل منها اثنى عشر عذقاً في السنة، يخرج في كل شهر عذق، فيكون بعضها صغيراً وبعضها كبيراً وبعضها يابساً وبعضها أخضر، هكذا أبداً. ويصنعون منها الحليب والزيت والعسل، حسب ما ذكرنا لك في السفر الأول. ويصنعون من عسله الحلواء، فيأكلونها مع الجوز اليابس منه. ولذلك كله، وللسمك الذي يغتذون به قوة عجيبة في الباءة، لا نظير لها. ولأهل هذه الجزائر عجب في ذلك. ولقد كان لي بها أربع نسوة وجوار سواهن، فكنت أطوف على جميعهن كل يوم، وأبيت عند من تكون ليلتها. وأقمت بها سنة ونصف أخرى على ذلك. ومن أشجارها الجموح والأترج والليمون والقلقاص، وهم يصنعون من أصوله دقيقاً يعملون منه شبه الأطرية، ويطبخونها بحليب النارجيل، وهي من أطيب الطعام. كنت أستحسنها كثيراً وآكلها.
ذكر أهل هذه الجزائر وبعض عوائدهم
وذكر مساكنهم
وأهل هذه الجزائر أهل صلاح وديانة وإيمان صحيح ونية صادقة، أكلهم حلال، دعاؤهم مجاب. وإذا رأى الإنسان أحدهم قال له: الله ربي ومحمد نبيي وأنا أمي مسكين. وأبدانهم ضعيفة، ولا عهد لهم بالقتال والمحاربة، وسلاحهم الدعاء. ولقد أمرت مرة بقطع يد سارق بها، فغشي على جماعة منهم كانوا بالمجلس. ولا تطرقهم لصوص الهند، ولا تذرعهم لأنهم جربوا أن من أخذ لهم شيئاً أصابته مصيبة عاجلة. وإذا أتت أجفان العدو إلى ناحيتهم أخذوا من وجدوا من غيرهم، ولم يتعرضوا لأحد منهم بسوء. وإن أخذ أحد الكفار، ولو ليمونة، عاقبه أمير الكفار وضربه الضرب المبرح، خوفاً من عاقبة ذلك. ولولا هذا لكانوا أهون الناس على قاصدهم بالقتال لضعف بنيتهم. وفي كل جزيرة من جزائرهم المساجد الحسنة، وأكثر عمارتهم بالخشب. وهم أهل نظافة وتنزه عن الأقذار. وأكثرهم يغتسلون مرتين في اليوم تنظفاً لشدة الحر بها، وكثرة العرق. ويكثرون من الأدهان العطرية كالصندلية وغيرها، ويتلطخون بالغالية المجلوبة من مقدشو. ومن عادتهم أنهم إذا صلوا الصبح أتت كل امرأة إلى زوجها أو ابنها بالمكحلة وماء الورد ودهن الغالية، فيكحل عينيه، ويدهن بماء الورد ودهن الغالية، فتصقل بشرته، وتزيل الشحوب عن وجهه. ولباسهم فوط، يشدون الفوطة منها على أوساطهم عوض السراويل، ويجعلون على ظهورهم ثياب الوليان " بكسر الواو وسكون اللام وياء " وهي شبه الأحاريم. وبعضهم يجعل عمامة، وبعضهم منديلاً صغيراً عوضاً منها. وإذا لقي أحدهم القاضي أو الخطيب، وضع ثوبه على كتفيه، وكشف ظهره، ومضى معه كذلك، حتى يصل إلى منزله. ومن عوائدهم أنه إذا تزوج الرجل منهم، ومضى إلى دار زوجته، بسطت له ثياب القطن من باب دارها إلى باب البيت، وجعل عليها غرفات من الودع عن يمين طريقه إلى البيت وشماله، وتكون المرأة واقفة عند باب البيت تنتظره. فإذا وصل إليها رمت على رجليه ثوباً يأخذه خدامه، وإن كانت المرأة هي التي تأتي إلى منزل الرجل بسطت داره، وجعل فيها الودع، ورمت المرأة عند الوصول إليه الثوب على رجليه. وكذلك عادتهم في السلام على السلطان عندهم، لا بد من ثوب يرمى عند ذلك، وسنذكره.
وبنيانهم بالخشب، ويجعلون سطوح البيوت مرتفعة عن الأرض توقياً من الرطوبات، لأن أرضهم ندية. وكيفية ذلك أن ينحتوا حجارة يكون طول الحجر منها ذراعين أو ثلاثة، ويجعلونها صفوفاً، ويعرضون عليها خشب النارجيل، ثم يصنعون الحيطان من الخشب. ولهم صناعة عجيبة في ذلك، ويبنون في إسطوان الدار بيتاً يسمونه المالم " بفتح اللام "، يجلس الرجل به مع أصحابه، ويكون له بابان: أحدهما إلى جهة الأسطوان يدخل منه الناس، والآخر إلى جهة الدار يدخل منه صاحبها. ويكون عند هذا البيت خابية مملوءة ماء، ولها مستقى، يسمونه الوالنج " بفتح الواو واللام وسكون النون وجيم "، هو من قشر جوز النارجيل، وله نصاب، طوله ذراعان. وبه يسقون الماء من الآبار لقربها. وجميعهم حفاة الأقدام من رفيع ووضيع، وأزقتهم مكنوسة نقية، تظللها الأشجار. فالماشي بها كأنه في بستان. ومع ذلك لا بد لكل داخل إلى الدار أن يغسل رجليه بالماء الذي في الخابية بالمالم، ويمسحها بحصير غليظ من الليف، يكون هنالك، ثم يدخل بيته. وكذلك يفعل كل داخل إلى المسجد.
ومن عوائدهم إذا قدم عليهم مركب، أن تخرج إليه الكنادر، وهي القوارب الصغار، واحدها كندرة " بضم الكاف والدال ". وفيها أهل الجزيرة معهم التنبول أو الكرنبة، وهو جوز النارجيل الأخضر، فيعطي الإنسان منهم ذلك لمن شاء من أهل المركب، ويكون نزيله، ويحمل أمتعته إلى داره، كأنه بعض أقربائه. ومن أراد التزوج من القادمين عليهم تزوج. فإذا حان سفره، طلق المرأة لأنهن لا يخرجن عن بلادهن. ومن لم يتزوج، فالمرأة التي ينزل بدارها، تطبخ له وتخدمه وتزوده إذا سافر، وترضى منه في مقابلة ذلك بأيسر شيء من الإحسان. وفائدة المخزن، ويسمونه البندر، أن يشتري من كل سلعة بالمركب حظاً بسوم معلوم، سواء كانت السلعة تساوي ذلك أو أكثر منه، ويسمونه شرع البندر. ويكون للبندر بيت في كل جزيرة من الخشب، يسمونه البجنصار " بفتح الباء الموحدة والجيم وسكون النون وفتح الصاد المهمل وآخره راء "، يجمع به الوالي وهو الكردوري جميع سلعه، ويبيع بها ويشتري. وهم يشترون الفخار إذا جلب إليهم بالدجاج. فتباع عندهم القدر بخمس دجاجات وست، وتحمل المراكب من هذه الجزائر السمك الذي ذكرناه وجوز النارجيل والفوط والوليان والعمائم، وهي من القطن، ويحملون منها أواني النحاس. فإنها عندهم كثيرة، ويحملون الودع، ويحملون القنبر "بفتح القاف وسكون النون وفتح الباء الموحدة والراء "، وهو ليف جوز النارجيل. وهم يدبغونه في حفر على الساحل، ثم يضربونه بالمرازب، ثم تغزله النساء، وتصنع منه الحبال لخياطة المراكب، وتحمل إلى الصين والهند واليمن، وهو خير من القنب. وبهذه الحبال تخاط مراكب الهند واليمن، لأن ذلك البحر كثير الحجارة، فإن كان المركب مسمراً بمسامير الحديد صدم الحجارة فانكسر، وإذا كان مخيطاً بالحبال أعطى الرطوبة فلم ينكسر. وصرف أهل الجزائر الودع، وهو حيوان يلتقطونه في البحر، ويضعونه في حفر هنالك، فيذهب لحمه، ويبقى عظمه أبيض، ويسمون المائة منه سياه " بسين مهمل وياء آخر الحروف "، ويسمون السبعمائة منه الفال " بالفاء "، ويسمون الثني عشر ألفاً منه الكتي " بضم الكاف وتشديد التاء المعلوة "، ويسمون المائة ألف منه بستو " بضم الباء الموحدة والتاء المعلوة وبينهما سين مهمل"، ويباع بها بقيمة أربعة بساتي بدينار من الذهب، وربما رخص حتى يباع عشر بساتي منه بدينار. ويبيعونه من أهل بنجالة بالأرز، وهو أيضاً صرف أهل بلاد بنجالة. ويبيعونه من أهل اليمن، فيجعلونه عوض الرمل في مراكبهم. وهذا الودع أيضاً هو صرف السودان في بلادهم، رأيته يباع بمالي وجوجو بحساب ألف وخمسين للدينار الذهبي.
ذكر نسائها

ونساؤها لا يغطين رؤوسهن، ولا سلطانتهم تغطي رأسها. ويمشطن شعورهن، ويجمعنها إلى جهة واحدة. ولا يلبسن أكثرهن إلا فوطة واحدة تسترها من السرة إلى أسفل، وسائر أجسادهن مكشوفة. وكذلك يمشين في الأسواق وغيرها. ولقد جهدت لما وليت القضاء بها أن أقطع تلك العادة وآمرهن باللباس، فلم أستطع ذلك. فكنت لا تدخل إلي منهن امرأة في خصومة إلا مسترة الجسد، وما عدا ذلك لم تكن عليه قدرة. ولباس بعضهن قمص زائدة على الفوطة، وقمصهن قصار الأكمام عراضها. وكان لي جوارٍ كسوتهن لباس أهل دهلي يغطين رؤوسهن، فعابهن ذلك أكثر ما زانهن إذ لم يتعودنه. وحليهن الأساور وتجعل المرأة منها جملة في ذراعيها، بحيث تملأ ما بين الكوع والمرفق، وهي من الفضة. ولا تحمل أساور الذهب إلا نساء السلطان وأقاربه. ولهن الخلاخيل، ويسمونها البايل " بباء موحدة والف وياء آخر الحروف مكسورة "، وقلائد ذهب يجعلنها على صدورهن، ويسمونها البسدر " بالباء الموحدة وسكن السين المهمل وفتح الدال المهمل والراء ". ومن عجيب أفعالهن أنهن يؤجرن أنفسهن للخدمة بالديار على عدد معلوم من خمسة دنانير فما دونها. وعلى مستأجرهن نفقتهن، ولا يرين ذلك عيباً، ويفعله أكثر بناتهم. فتجد في دار الإنسان الغني منهن العشرة والعشرين. وكل ما تكسره من الأواني يحسب عليها قيمته. وإذا أرادت الخروج من دار إلى دار أعطاها أهل الدار التي تخرج إليها العدد الذي هي مرتهنة فيه، فتدفعه لأهل الدار التي خرجت منها، ويبقى عليها للآخرين. وأكثر شغل هؤلاء المسأجرات غزل القنبر. والتزوج بهذه الجزائر سهل، لنزارة الصداق وحسن معاشرة النساء. وأكثر الناس لا يسمي صداقاً، إنما تقع الشهادة، ويعطى صداق مثلها. وإذا قدمت المراكب تزوج أهلها النساء، فإذا أرادوا السفر طلقوهن، وذلك نوع من نكاح المتعة. وهن لا يخرجن عن بلادهن أبداً. ولم أر في الدنيا أحسن معاشرة منهن. ولا تكل المرأة عندهم خدمة زوجها لسواها، بل هي تأتيه بالطعام، وترفعه بين يديه، وتغسل يده، وتأتيه بالماء للوضوء، وتغم رجليه عند النوم. ومن عوائدهن أن لا تأكل المرأة مع زوجها، ولا يعلم الرجل ما تأكله المرأة. ولقد تزوجت بها نسوة، فأكل معي بعضهن بعد محاولة، وبعضهن لم تأكل معي، ولا استطعت أن أراها تأكل، ولا نفعتني حيلة في ذلك.
ذكر السبب في إسلام هذه الجزائر
وذكر العفاريت من الجن التي تضربها في كل شهر

حدثني الثقات من أهلها كالفقيه عيسى اليمني، والفقيه المعلم علي، والقاضي عبد الله وجماعة سواهم، أن أهل هذه الجزائر كانوا كفاراً، وكان يظهر لهم في كل شهر عفريت من الجن، يأتي ناحية البحر، كأنه مركب مملوء بالقناديل. وكانت عادتهم إذا رأوه، أخذوا جارية بكرأ فزينوها وأدخلوها إلى بدخانة. وهي بيت الأصنام، وكان مبنياً على ضفة البحر، وله طاق ينظر إليه، ويتركونها هنالك ليلة، ثم يأتون عند الصباح فيجدونها مفتضة ميتة. ولا يزالون في كل شهر يقترعون بينهم، فمن أصابته القرعة أعطى بنته. ثم إنهم قدم عليهم مغربي يسمى بأبي البركات البربري، وكان حافظاُ للقرآن العظيم، فنزل بدار عجوز منهم بجزيرة المهل، فدخل عليها يوماً، وقد جمعت أهلها، وهن يبكين كأنهن في مأتم. فاستفهمهن عن شأنهن، فلم يفهمنه. فأتى ترجمان فأخبره أن العجوز كانت القرعة عليها، وليس لها إلا بنت واحدة، يقتلها العفريت. فقال لها أبو البركات: أنا أتوجه عوضاً من بنتك بالليل. وكان سناطاً، لا لحية له، فاحتملوه تلك الليلة، وأدخلوه إلى بدخانة، وهو متوضئ. وأقام يتلو القرآن، ثم ظهر له العفريت من الطاق، فداوم التلاوة، فلما كان منه بحيث يسمع القراءة غاص في البحر. وأصبح المغربي، وهو يتلو على حاله. فجاءت العجوز وأهلها وأهل الجزيرة، ليستخرجوا البنت على عادتهم فيحرقوها، فوجدوا المغربي يتلو، فمضوا به إلى ملكهم، وكان يسمى شنورازة " بفتح الشين المعجم وضم النون وواو وراء والف وزاي وهاء "، وأعلموه بخبره، فعجب. وعرض المغربي عليه الإسلام، ورغبه فيه. فقال له أقم عندنا إلى الشهر الآخر، فإن فعلت كفعلك، ونجوت من العفريت أسلمت. فأقام عندهم. وشرح الله صدر الملك للإسلام فأسلم قبل تمام الشهر، وأسلم أهله وأولاده وأهل دولته. ثم حمل المغربي لما دخل الشهر إلى بدخانة، ولم يأت العفريت، فجعل يتلو حتى الصباح. وجاء السلطان والناس معه فوجدوه على حاله من التلاوة، فكسروا الأصنام، وهدموا بدخانة، وأسلم أهل الجزيرة، وبعثوا إلى سائر الجزائر فأسلم أهلها. وأقام المغربي عندهم معظماً، وتمذهبوا بمذهبه مذهب الإمام مالك رضي الله عنه. وهم إلى هذا العهد يعظمون المغاربة بسببه، وبنى مسجداً هو معروف باسمه، وقرأت على مقصورة الجامع منقوشاً في الخشب أسلم السلطان أحمد شنورازة على يد أبي البركات البربري المغربي. وجعل ذلك السلطان ثلث مجابي الجزائر صدقة على أبناء السبيل، إذ كان إسلامه بسببهم. فسمي على ذلك حتى الآن. وبسبب هذا العفريت خرب من هذه الجزائر كثير قبل الإسلام.
ولما دخلناها لم يكن لي علم بشأنه. فبينا أنا ذات ليلة في بعض شأني، إذ سمعت الناس يجهرون بالتهليل والتكبير، ورأيت الأولاد، وعلى رؤوسهم المصاحف، والنساء يضربن في الطسوت وأواني النحاس. فعجبت من فعلهم، وقلت ما شأنكم ? فقالوا: ألا تنظر إلى البحر ? فنظرت فإذا مثل المركب الكبير، وكأنه مملوء سرجاً ومشاعل. فقالوا: ذلك العفريت، وعادته أن يظهر مرة في الشهر. فاذا فعلنا ما رأيت انصرف عنا ولم يضرنا.
ذكر سلطانة هذه الجزائر
ومن عجائبها أن سلطانتها امرأة، وهي خديجة بنت السلطان جلال الدين عمر ابن السلطان صلاح الدين صالح البنجالي. وكان الملك لجدها ثم لأبيها، فلما مات أبوها ولي أخوها شهاب الدين، وهو صغير السن. فتزوج الوزير عبد الله ابن محمد الحضرمي أمه، وغلب عليه، وهو الذي تزوج أيضاً هذه السلطانة خديجة بعد وفاة زوجها الوزير جمال الدين، كما سنذكره. فلما بلغ شهاب الدين مبلغ الرجال، أخرج ربيبه الوزير عبد الله، ونفاه إلى جزائر السويد. واستقل بالملك، واستوزر أحد مواليه، ويسمى علي كلكي، ثم عزله بعد ثلاثة أعوام، ونفاه إلى السويد. وكان يذكر عن السلطان شهاب الدين المذكور أنه يختلف إلى حرم أهل دولته وخواصه بالليل، فخلعوه لذلك ونفوه إلى إقليم هلدتني، وبعثوا من قتله بها. ولم يكن بقي من بيت الملك إلا أخواته خديجة الكبرى ومريم وفاطمة، فقدموا خديجة سلطانة، وكانت متزوجة لخطيبهم جمال الدين، فصار وزيراً وغالباً على الأمر، وقدم ولده محمداً للخطابة عوضاً منه. ولكن الأوامر إنما تنفذ باسم خديجة. وهم يكتبون الأوامر في سعف النخل بحديدة معوجة شبه السكين. ولا يكتبون في الكاغد إلا المصاحف وكتب العلم، ويذكرها الخطيب يوم الجمعة، وغيرها، فيقول: اللهم انصر أمتك التي اخترتها على علم على العالمين، وجعلتها رحمة لكافة المسلمين، ألا وهي السلطانة خديجة بنت السلطان جلال الدين ابن السلطان صلاح الدين. ومن عادتهم إذا قدم الغريب عليهم، ومضى إلى المشور، وهم يسمونه الدار، فلا بد له أن يستصحب ثوبين، فيخدم لجهة هذه السلطانة، ويرمي بأحدهما، ثم يخدم لوزيرها، وهو زوجها جمال الدين، ويرمي بالثاني. وجندها نحو ألف نفر من الغرباء، وبعضهم بلديون. ويأتون كل يوم إلى الدار، فيخدمون وينصرفون. ومرتبهم الأرز يعطاهم من البندر في كل شهر، فإذا تم الشهر أتوا الدار، وخدموا، وقالوا للوزير: بلغ عنا الخدمة، واعلم بأنا أتينا بطلب مرتبنا. فيؤمر لهم به عند ذلك. ويأتي أيضاً إلى الدار كل يوم القاضي وأرباب الخطط، وهم الوزراء عندهم، فيخدمون، ويبلغ خدمتهم الفتيان، وينصرفون.
ذكر أرباب الخطط وسيرهم
وهم يسمون الوزير الأكبر النائب عن السلطانة كلكي " بفتح الكاف الأولى واللام "، ويسمون القاضي فندريارقالوا " وضبط ذلك بفاء مفتوح ونون مسكن ودال مهمل مفتوح وياء آخر الحروف والف وراء وقاف والف ولام مضموم "، وأحكامهم كلها راجعة إلى القاضي، وهو أعظم عندهم من الناس أجمعين، وأمره كأمر السلطان وأشد، ويجلس على بساط في الدار. وله ثلاث جزائر، يأخذ مجباها لنفسه. عادة قديمة أجراها السلطان أحمد شنورازة. ويسمون الخطيب هنديجري " بفتح الهاء وسكون النون وكسر الدال وياء مد وجيم مفتوح وراء وياء ". ويسمون صاحب الديوان الفاملداري " بفتح الفاء والميم والدال المهمل "، واسم صاحب الأشغال مافاكلو " بفتح الميم والكاف وضم اللام "، واسم الحاكم فتنايك " بكسر الفاء وسكون التاء المعلوة وفتح النون والف وياء آخر الحروف مفتوحة أيضاً وكاف "، واسم قائد البحر مانايك " بفتح الميم والنون والياء ". وكل من هؤلاء يسمى وزيراً. ولا سجن عندهم بتلك الجزائر، إنما يحبس أرباب الجرائم في بيوت خشب، هي معدة لأمتعة التجار، ويجعل أحدهم في خشبة، كما يفعل عندنا بأسارى الروم.
ذكر وصولي إلى هذه الجزائر وتنقل حالي بها
ولما وصلت إليها نزلت بجزيرة كنلوس، وهي جزيرة حسنة فيها المساجد الكثيرة. ونزلت بدار رجل من صلحائها، وأضافني بها الفقيه علي، وكان فاضلاً، له أولاد من طلبة العلم. ولقيت بها رجلاً اسمه محمد من أهل ظفار الحموض، فأضافني وقال لي: إن دخلت جزيرة المهل أمسكك الوزير بها. فإنهم لا قاضي عندهم. وكان غرضي أن أسافر منها إلى المعبر وسرنديب وبنجالة ثم إلى الصين. وكان قدومي عليها في مركب الناخوذة عمر الهنوري، وهو من الحجاج الفضلاء.

ولما وصلنا كنلوس أقام بها عشراً، ثم اكترى كندرة يسافر فيها إلى المهل، بهدية للسلطانة وزوجها، فأردت السفر معه، فقال: لا تسعك الكندرة أنت وأصحابك. فإن شئت السفر منفرداً عنهم فدونك، فأبيت ذلك، وسافر. فلعبت به الريح، وعاد إلينا بعد أربعة أيام، وقد لقي شدائد. فاعتذر لي، وعزم علي في السفر معه بأصحابي، فكنا نرحل غدوة، فننزل في وسط النهار لبعض الجزائر، ونرحل فنبيت بأخرى.
ووصلنا بعد أيام إلى إقليم التيم. وكان الكردوي يسمى بها هلالاً، فسلم علي وأضافني. وجاء إلي ومعه أربعة رجال، وقد جعل اثنان منهم، عوداً على أكتافهما، وعلقا منه أربع دجاجات، وجعل الآخران عوداً مثله، وعلقا منه نحو عشر من جوز النارجيل. فعجبت من تعظيمهم لهذا الشيء الحقير. فأخبرت أنهم صنعوه على جهة الكرامة والإجلال. ورحلنا عنهم فنزلنا في اليوم السادس بجزيرة عثمان، وهو رجل فاضل من خيار الناس، فأكرمنا وأضافنا. وفي اليوم الثامن نزلنا بجزيرة الوزير، يقال له التلمذي. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى جزيرة المهل، حيث السلطانة وزوجها. وأرسينا بمرساها. وعادتهم أن لا ينزل أحد من المرسى إلا بإذنهم. فأذنوا لنا بالنزول، وأردت التوجه إلى بعض المساجد فمنعني الخدام الذين بالساحل، وقالوا: لا بد من الدخول إلى الوزير.
وكنت أوصيت الناخوذة أن يقول إذا سئل عني: لا أعرفه، خوفاً من إمساكهم إياي. ولم أعلم أن بعض أهل الفضول، قد كتب إليهم معرفاً بخبري، وأني كنت قاضياً بدهلي، فلما وصلت إلى الدار، وهو المشور، ونزلنا في سقائف على الباب الثالث منه، وجاء القاضي عيسى اليمني، فسلم علي، وسلمت على الوزير، وجاء الناخوذة إبراهيم بعشرة أثواب، فخدم لجهة السلطانة، ورمى بثوب منها، ثم خدم للوزير، ورمى بثوب آخر، ورمى بجميعها، وسئل عني فقال: لا أعرفه. ثم أخرجوا التنبول وماء الورد، وذلك هو الكرامة عندهم، وأنزلنا بدار، وبعث إلينا الطعام، وهو قصعة كبيرة فيها الأرز، وتدور بها صحاف فيها اللحم الخليع والدجاج والسمن والسمك. ولما كان بالغد مضيت مع الناخوذة والقاضي عيسى اليمني لزيارة زاوية في طرف الجزيرة، عمرها الشيخ الصالح نجيب، وعدنا ليلاً. وبعث الوزير إلي صبيحة تلك الليلة كسوة وضيافة، فيها الأرز والسمن والخليع وجوز النارجيل والعسل المصنوع منها، وهم يسمونه القرباني " بضم القاف وسكون الراء وفتح الباء الموحدة والف ونون وياء "، ومعنى ذلك ماء السكر. وأتوا بمائة ودعة للنفقة. وبعد عشرة أيام قدم مركب من سيلان فيه فقراء من العرب والعجم يعرفونني. فعرفوا خدام الوزير بأمري، فزاد اغتباطي. وبعث عني عند استهلال رمضان، فوجدت الأمراء والوزراء. وأحضر الطعام في موائد، يجتمع على المائدة طائفة. فأجلسني الوزير إلى جانبه، ومعه القاضي عيسى، والوزير الفاملداري ؛ والوزير عمر دهرد، ومعناه مقدم العسكر. وطعامهم الأرز والدجاج والسمن والسمك والخليع والموز المطبوخ، ويشربون بعده عسل النارجيل مخلوطاً بالأفاويه، وهو يهضم الطعام. وفي التاسع من شهر رمضان مات صهر الوزير زوج بنته، وكانت قبله عند السلطان شهاب الدين، ولم يدخل بها أحد منهما لصغرها، فردها أبوها لداره، وأعطاني دارها، وهي من أجمل الدور. واستأذنته في ضيافة الفقراء القادمين من زيارة القدم فأذن لي في ذلك، وبعث إلي خمساً من الغنم، وهي عزيزة عندهم، لأنها مجلوبة من المعبر والمليبار ومقدشو، وبعث الأرز والدجاج والسمن والأبازير. فبعثت ذلك كله إلى دار الوزير سليمان مانايك، فطبخ لي بها، فأحسن في طبخه وزاد فيه، وبعث الفرش وأواني النحاس، وأفطرنا على العادة بدار السلطانة مع الوزير. واستأذنته في حضور بعض الوزراء بتلك الضيافة، فقال لي: وأنا أحضر أيضاً، فشكرته وانصرفت إلى داري، فإذا به قد جاء، ومعه الوزراء وأرباب الدولة. فجلس في قبة خشب مرتفعة. وكان كل من يأتي من الأمراء والوزراء يسلم على الوزير، ويرمي بثوب غير مخيط، حتى اجتمع مائة ثوب أو نحوها، فأخذها الفقراء. وقدم الطعام فأكلوا، ثم قرأ القراء بالأصوات الحسان، ثم أخذوا في السماع والرقص. وأعدت النار، فكان الفقراء يدخلونها ويطأونها بالأقدام، ومنهم من يأكلها، كما تؤكل الحلواء، إلى أن خمدت.
ذكر بعض إحسان الوزير إلي
ولما تمت الليلة انصرف الوزير، ومضيت معه، فمررنا ببستان للمخزن. فقال لي الوزير: هذا البستان لك، وسأعمر لك فيه داراً لسكناك. فشكرت فعله، ودعوت له. ثم بعث لي من الغد بجارية وقال لي خديمه: يقول لك الوزير: إن أعجبتك هذه فهي لك، وإلا بعثت لك جارية مرهتية، وكانت الجواري المرهتيات تعجبني، فقلت له: إنما أريد المرهتية، فبعثها لي، وكان اسمها قل استان، ومعناه زهر البستان، وكانت تعرف اللسان الفارسي فأعجبتني. وأهل تلك الجزائر لهم لسان لم أكن أعرفه، ثم بعث إلي في غد ذلك بجارية معبرية تسمى عنبري. ولما كانت اللية بعدها، جاء الوزير إلي بعد العشاء الأخيرة في نفر من أصحابه، فدخل الدار، ومعه غلامان صغيران، فسلمت عليه، وسألني عن حالي، فدعوت له وشكرته، فألقى أحد الغلامين بين يديه لقشة "بقشة" ، وهي شبه السبنية، وأخرج منها ثياب حرير، وحقاً فيه جوهر فأعطاني ذلك، وقال لي: لو بعثته لك مع الجارية، لقالت هو مالي جئت به من دار مولاي، والآن هو مالك، فأعطه إياه. فدعوت له وشكرته، وكان أهلاً للشكر، رحمه الله.
ذكر تغيره وما أردته من الخروج ومقامي بعد ذلك
وكان الوزير سليمان مانايك قد بعث إلي أن أتزوج بنته، فبعثت إلى الوزير جمال الدين مستأذناً في ذلك. فعاد إلي الرسول، وقال: لم يعجبه ذلك، وهو يحب أن يزوجك بنته، إذا انقضت عدتها. فأبيت أنا ذلك، وخفت من شؤمها، لأنه مات تحتها زوجان قبل الدخول، وأصابتني أثناء ذلك حمى مرضت بها. ولا بد لكل من يدخل، تلك الجزيرة أن يحم، فقوي عزمي علىالرحلة عنها، فبعت بعض الحلي بالودع، واكتريت مركباً أسافر فيه لبنجالة. فلما ذهبت لوداع الوزير خرج إلي القاضي فقال: الوزير يقول لك: إن شئت السفر، فأعطنا ما أعطيناك وسافر. فقلت له: إن بعض الحلي اشتريت به الودع، فشأنكم وإياه. فعاد إلي فقال: يقول: إنما أعطيناك الذهب ولم نعطك الودع. فقلت له: أنا أبيعه، وآتيكم بالذهب. فبعثت إلى التجار ليشتروه مني، فأمرهم الوزير أن لا يفعلوا. وقصده بذلك كله أن لا أسافر عنه. ثم بعث إلي أحد خواصه وقال: الوزير يقول لك: أقم عندنا، ولك كل ما أحببت. فقلت في نفسي: أنا تحت حكمهم، وإن لم أقم مختاراً أقمت مضطراً، فالإقامة باختياري أولى. وقلت لرسوله: نعم، أنا أقيم معه. فعاد إليه ففرح بذلك، واستدعاني. فلما دخلت إليه قام إلي وعانقني وقال: نحن نريد قربك، وأنت تريد البعد عنا. فاعتذرت له، فقبل عذري، وقلت له: إن أردتم مقامي فأنا اشترط عليكم شروطاً. فقال: نقبلها فاشترط. فقلت له: أنا لا أستطيع المشي على قدمي، ومن عادتهم أن لا يركب أحد هناك إلا الوزير. ولقد كنت لما أعطوني الفرس فركبته، يتبعني الناس رجالاً وصبياناً، يعجبون مني حتى شكوت له. فضربت الدنقرة، وبرح في الناس أن لا يتبعني أحد، والدنقرة " بضم الدال المهمل وسكون النون وضم القاف وفتح الراء " شبه الطست من النحاس تضرب بحديدة، فيسمع لها صوت على البعد. فإذا ضربوها حينئذ يبرح في الناس بما يراد. فقال لي الوزير: إن أردت أن تركب الدولة وإلا فعندنا حصان ورمكة ، فاختر أيهما شئت. فاخترت الرمكة. فأتوني بها في تلك الساعة، وأتوني بكسوة. فقلت له: وكيف أصنع بالودع الذي اشتريته ? فقال: ابعث أحد أصحابك ليبيعه لك ببنجالة، فقلت له: على أن تبعث أنت من يعينه على ذلك. فقال: نعم. فبعث حينئذ رفيقي أبا محمد بن فرحان، وبعثوا معه رجلاً يسمى الحاج علياً، فاتفق أن هال البحر، فرموا بكل ما عندهم، حتى الزاد والماء والصاري والقربة. وأقاموا ست عشرة ليلة لا قلع لهم ولا سكان ولا غيره. ثم خرجوا إلى جزيرة سيلان، بعد جوع وعطش وشدائد وقدم علي صاحبي أبو محمد بعد سنة، وقد زار القدم، وزارها مرة ثانية معي.
ذكر العيد الذي شاهدته معهم
ولما تم شهر رمضان بعث الوزير إلي بكسوة، وخرجنا إلى المصلى، وقد زينت الطريق التي يمر الوزير عليها من داره إلى المصلى، وفرشت الثياب فيها، وجعلت كتاتي الودع يمنة ويسرة. وكل من له على طريقه دار من الأمراء والكبار، قد غرس عندها النخل الصغار من النارجيل وأشجار الفوفل والموز، ومد من شجرة إلى أخرى شرائط، وعلق منها الجوز الأخضر. ويقف صاحب الدار عند بابها، فإذا مر الوزير رمى على رجليه ثوباً من الحرير أو القطن، فيأخذه عبيده مع الودع الذي يجعل على طريقه أيضاً، والوزير ماش على قدميه، وعليه فرجية مصرية من المرعز، وعمامة كبيرة، وهو متقلد فوطة حرير، وفوق رأسه أربعة شطور، وفي رجليه النعل، وجميع الناس سواه حفاة. والأبواق والأنفار والأطبال بين يديه، والعساكر أمامه وخلفه، وجميعهم يكبرون حتى أتوا المصلى، فخطب ولده بعد الصلاة. ثم أتي بمحفة فركب فيها الوزير وخدم الأمراء والوزراء، ورموا بالثياب على العادة. ولم يكن ركب في المحفة قبل ذلك، لأن ذلك لا يفعله إلا الملوك. ثم رفعه الرجال، وركبت فرسي ودخلنا القصر. فجلس بموضع مرتفع، وعنده الوزراء والأمراء، ووقف العبيد بالترسة والسيوف والعصي، ثم أتي بالطعام ثم الفوفل والتنبول، ثم أتي بصحفة صغيرة فيها الصندل المقاصري. فإذا أكلت جماعة من الناس تلطخوا بالصندل. ورأيت على بعض طعامهم يومئذ حوتاً من السردين مملوحاً غير مطبوخ، أهدي لهم من كولم، وهو في بلاد المليبار كثير. فأخذ الوزير سردينة وجعل يأكلها. وقال لي: كل منه، فإنه ليس ببلادنا. فقلت: كيف آكله وهو غير مطبوخ? فقال: إنه مطبوخ. فقلت: أنا أعرف به، فإنه ببلادي كثير.
ذكر تزوجي وولايتي القضاء
وفي الثاني من شوال اتفقت مع الوزير سليمان مانايك على تزوج بنته، فبعثت إلى الوزير جمال الدين أن يكون عقد النكاح بين يديه بالقصر، فأجاب إلى ذلك، وأحضر التنبول على العادة والصندل، وحضر الناس، وأبطأ الوزير سليمان، فاستدعي، فلم يأت، ثم استدعي ثانية، فاعتذر بمرض البنت. فقال لي الوزير سراً: إن بنته امتنعت، وهي مالكة أمر نفسها. والناس قد اجتمعوا فهل لك أن تتزوج بربيبة السلطان زوجة أبيها، وهي التي ولده متزوج بنتها ? فقلت له: نعم. فاستدعى القاضي والشهود، ووقعت الشهادة، ودفع الوزير الصداق، ورفعت إلي بعد أام، فكانت من خيار النساء. وبلغ حسن معاشرتها أنها كانت إذا تزوجت عليها تطيبني وتبخر أثوابي، وهي ضاحكة، لا يظهر عليها تغير. ولما تزوجتها أكرهني الوزير على القضاء. وسبب ذلك اعتراضي على القاضي، لكونه كان يأخذ العشر من التركات، إذا قسمها على أربابها فقلت له: إنما لك أجرة تتفق بها مع الورثة، ولم يكن يحسن شيئاً، فلما وليت، اجتهدت جهدي في إقامة رسوم الشرع. وليست هنالك خصومات، كما هي ببلادنا. فأول ما غيرت من عوائد السوء مكث المطلقات في ديار المطلقين. وكانت إحداهن لا تزال في دار المطلق حتى تتزوج غيره. فحسمت علة ذلك. وأتي إلي بنحو خمسة وعشرين رجلاً ممن فعل ذلك، فضربتهم وشهرتهم بالأسواق، وأخرجت النساء عنهم، ثم اشتددت في إقامة الصلوات، وأمرت الرجال بالمبادرة إلى الأئمة والأسواق إثر صلاة الجمعة، فمن وجدوه لم يصل ضربته وشهرته. وألزمت الأئمة والمؤذنين أصحاب المرتبات المواظبة على ما هم بسبيله، وكتبت إلى جميع الجزائر بنحو ذلك وجهدت أن أكسو النساء، فلم أقدر على ذلك.
ذكر قدوم الوزير عبد الله بن محمد الخضرمي
الذي نفاه السلطان شهاب الدين إلى السويد وما وقع بيني وبينه
كنت قد تزوجت ربيبته بنت زوجته، وأحببتها حباً شديداً. ولما بعث الوزير عنه، ورده إلى جزيرة المهل، بعثت له التحف، وتلقيته ومضيت معه إلى القصر فسلم على الوزير، وأنزله في دار جيدة. فكنت أزوره بها. واتفق أن اعتكفت في رمضان. فزارني جميع الناس إلا هو، وزارني الوزير جمال الدين، فدخل هو معه، بحكم الموافقة. فوقعت بيننا الوحشة. فلما خرجت من الاعتكاف شكا إلي أخوال زوجتي ربيبته أولاد الوزير جمال الدين السنجري، فإن أباهم أوصى عليهم الوزير عبد الله، وأن ما لهم باق بيده، وقد خرجوا عن حجره بحكم الشرع، وطلبوا إحضاره بمجلس الحكم، وكانت عادتي إذا بعثت عن خصم من الخصوم، أبعث له قطعة كاغد مكتوبة، فعندما يقف عليها يبادر إلى مجلس الحكم الشرعي، وإلا عاقبته، فبعثت إليه على العادة، فأغضبه ذلك، وحقدها لي، وأضمر عداوتي، ووكل من يتكلم عنه، وبلغني عنه كلام قبيح. وكانت عادة الناس من صغير وكبير أن يخدموا له كما يخدمون للوزير جمال الدين، وخدمتهم أن يوصلوا السبابة إلى الأرض، ثم يقبلونها ويضعونها على رؤوسهم. فأمرت المنادي فنادى بدار السلطان على رؤوس الأشهاد أنه من خدم للوزير عبد الله كما يخدم للوزير الكبير لزمه العقاب الشديد. وأخذت عليه أن لا يترك الناس لذلك. فزادت عداوته. وتزوجت أيضاً زوجة أخرى، بنت وزير معظم عندهم، كان جده السلطان داود حفيد السلطان أحمد شنورازة. ثم تزوجت زوجة كانت تحت السلطان شهاب الدين، وعمرت ثلاث ديار بالبستان الذي أعطانيه الوزير. وكانت الرابعة هي ربيبة الوزير عبد الله، تسكن في دارها، وهي أحبهن إلي فلما صاهرت من ذكرته، هابني الوزير وأهل الجزيرة، وتخوفوا مني لأجل ضعفهم، وسعوا بيني وبين الوزير بالنمائم، وتولى الوزير عبد الله كبر ذلك حتى تمكنت الوحشة.
ذكر انفصالي عنهم وسبب ذلك
واتفق في بعض الأيام أن عبداً من عبيد السلطان الذي شكته زوجته إلى الوزير، وأعلمته أنه عند سرية من سراري السلطان يزني بها. فبعث الوزير الشهود، ودخلوا دار السرية، فوجدوا الغلام نائماً معها في فراش واحد، وحبسوهما. فلما أصبحت وعلمت بالخبر، توجهت إلى المشور، وجلست في موضع جلوسي، لم أتكلم في شي من أمرها. فخرج إلي بعض الخواص فقال: يقول لك الوزير: ألك حاجة ? فقلت: لا. وكان قصده أن أتكلم في شأن السرية والغلام. إذ كانت عادتي أن لا تقطع قضية إلى حكمت فيها. فلما وقع التغير والوحشة قصرت في ذلك. فانصرفت إلى داري بعد ذلك، وجلست بموضع الأحكام. فإذا ببعض الوزراء، فقال الوزير: يقول لك: إنه وقع البارحة كيت وكيت، لقضية السرية والغلام، فاحكم فيهما بالشرع فقلت له: هذه القضية لا ينبغي الحكم أن يكون فيها إلا بدار السلطان، فعدت إليها واجتمع الناس وأحضرت السرية والغلام، فأمرت بضربهما في الخلوة، وأطلقت سراح المرأة، وحبست الغلام. وانصرفت إلى داري، فبعث الوزير إلى جماعة من كبراء ناسه في شأن تسريح الغلام، فقلت لهم: أتشفعون في غلام زنجي يهتك حرمة مولاه ? وأنتم بالأمس خلعتم السلطان شهاب الدين وقتلتموه بسبب دخوله لدار غلام له ? وأمرت بالغلام عند ذلك، فضرب بقضبان الخيزران، وهي أشد وقعاً من السياط، وشهرته بالجزيرة، وفي عنقه حبل. فذهبوا إلى الوزير فأعلموه. فقام وقعد، واستشاط غضباً، وجمع الوزراء ووجوه العسكر، وبعث عني فجئته. وكانت عادتي أن أخدم له، فلم أخدم. وقلت: سلام عليكم. ثم قلت للحاضرين: اشهدوا علي أني قد عزلت نفسي عن القضاء لعجزي عنه. فكلمني الوزير، فصعدت وقعدت بموضع أقابله فيه، وجاوبته أغلظ جواب. وأذن مؤذن المغرب، فدخل إلى داره وهو يقول: ويقولون إني سلطان. وها أنذا طلبته لأغضب عليه، فغضب علي. وإنما كان اعتزازي عليهم بسبب سلطان الهند، لأنهم تحققوا مكانتي عنده، وإن كانوا على بعد منه، فخوفه في قلوبهم متمكن. فلما دخلنا إلى داره بعث إلي القاضي المعزول، وكان جريء اللسان، فقال لي: إن مولانا يقول لك: كيف هتكت حرمته على رؤوس الأشهاد ولم تخدم له ? فقلت له: إنما كنت أخدم له حين كان قلبي له طيباً، فلما وقع التغير تركت ذلك، وتحية المسلمين إنما هي السلام، وقد سلمت. فبعثه إلي ثانية فقال: إنما غرضك الرحيل عنا، فأعط صداقات النساء وديون الناس، وانصرف إذا شئت. فخدمت له على هذا القول، وذهبت إلى داري، فخلصت مما علي من الدين. وقد أعطاني في تلك الأيام فرش دار وجهازها من أواني نحاس وسواها. وكان يعطيني كل ما أطلبه، ويحبني ويكرمني، ولكنه غير خاطره، وتخوف مني. فلما عرف أني قد خلصت الدين وعزمت على الرحيل، ندم على ما قاله، وتلكأ في الإذن لي في الرحيل. فحلفت بالأيمان المغلظة أن لا بد من رحيلي. ونقلت ما عندي إلى مسجد على البحر، وطلقت إحدى الزوجات، وكانت إحداهن حاملاً، فجعلت لها أجلاً تسعة أشهر، إن عدت فبها، وإلا فأمرها بيدها. وحملت معي زوجتي التي كانت امرأة السلطان شهاب الدين لأسلمها لأبيها بجزيرة ملوك، وزوجتي الأولى التي بنتها أخت السلطانة. وتوافقت مع الوزير عمر دهرد، والوزير حسن قائد البحر، على أن أمضي إلى بلاد المعبر. وكان ملكها سلفي فأبى مدها بالعساكر لترجع الجزائر إلى حكمه، وأنوب أنا عنه فيها. وجعلت بيني وبينهم علامة: رفع أعلام بيض في المراكب. فإذا رأوها ثاروا في البحر. ولم أكن حدثت نفسي بهذا قط، حتى وقع ما وقع من التغير. وكان الوزير خائفاً مني يقول الناس: لا بد لهذا أن يأخذ الوزارة، إما في حياتي وإما بعد مماتي. ويكثر السؤال عن حالي، ويقول: سمعت أن ملك الهند بعث إليه الأموال ليثور بها علي. وكان يخاف من سفري لئلا آتي بالجيوش من بلاد المعبر. فبعث إلي أن أقيم حتى يجهز لي مركباً فأبيت. وشكت أخت السلطانة إليها بسفر أمها معي، فأرادت منعها فلم تقدر على ذلك. فلما رأت عزمها على السفر قالت لها: إن جميع ما عندك من الحلي هو من مال البندر، فإن كان لك شهود بأن جلال الدين وهبه لك، وإلا فرديه، وكان حلياً له خطر فردته إليهم، وأتاني الوزراء والوجوه، وأنا بالمسجد، وطلبوا مني الرجوع فقلت لهم: لولا أني حلفت لعدت. فقالوا: تذهب لى بعض علماء الجزائر ليبر قسمك وتعود. فقلت لهم: نعم: إرضاء لهم. فلما كانت الليلة التي سافرت فيها، أتيت لوداع الوزير فعانقني وبكى حتى قطرت دموعه على قدمي، وبات تلك اللية يحرس الجزيرة بنفسه خوفاً أن يثور عليه أصهاري وأصحابي. ثم سافرت ووصلت إلى جزيرة الوزير علي. فأصابت زوجتي أوجاع عظيمة، وأحبت الرجوع فطلقتها، وتركتها هنالك، وكتبت للوزير بذلك لأنها أم زوجة ولده، وطلقت التي كنت ضربت لها الأجل. وبعثت عن جارية كنت أحبها، وسرنا في تلك الجزائر من إقليم إلى إقليم. سافرت فيها، أتيت لوداع الوزير فعانقني وبكى حتى قطرت دموعه على قدمي، وبات تلك اللية يحرس الجزيرة بنفسه خوفاً أن يثور عليه أصهاري وأصحابي. ثم سافرت ووصلت إلى جزيرة الوزير علي. فأصابت زوجتي أوجاع عظيمة، وأحبت الرجوع فطلقتها، وتركتها هنالك، وكتبت للوزير بذلك لأنها أم زوجة ولده، وطلقت التي كنت ضربت لها الأجل. وبعثت عن جارية كنت أحبها، وسرنا في تلك الجزائر من إقليم إلى إقليم.
ذكر النساء ذوات الثدي الواحد
وفي بعض تلك الجزائر، رأيت امرأة لها ثدي واحد في صدرها، ولها ابنتان إحداهما كمثلها ذات ثدي واحد، والأخرى ذات ثديين، إلا أن أحدهما كبير فيه اللبن، والآخر صغير لا لبن فيه. فعجبت من شأنهن، ووصلنا إلى جزيرة من تلك الجزائر ليس بها إلا دار واحدة فيها رجل حائك له زوجة وأولاد، ونخيلات نارجيل، وقارب صغير يصطاد فيه السمك. ويسير إلى حيث أراد من الجزائر. وفي جزيرته أيضاً شجيرات موز. ولم نر فيها من طيور البر غير غرابين خرجا إلينا لما وصلنا الجزيرة وطافا بمركبنا. فغبطت والله ذلك الرجل، وودت أن لو كانت تلك الجزيرة لي، فانقطعت فيها إلى أن يأتيني اليقين. ثم وصلت إلى جزيرة ملوك، حيث المركب الذي للناخوذة إبراهيم، وهو الذي عزمت على الرحيل فيه إلى المعبر. فجاء إلي ومعه أصحابه، وأضافوني ضيافة حسنة. وكان الوزير قد كتب لي أن أعطي بهذه الجزيرة مائة وعشرين بستوا من الكودة، وهي الودع، وعشرين قدحاً من الأطوان، وهي عسل النارجيل، وعدداً معلوماً من التنبول والفوفل والسمك في كل يوم. وأقمت بهذه الجزيرة سبعين يوماً، وتزوجت بها امرأتين. وهي من أحسن الجزائر، خضرة نضرة، رأيت من عجائبها أن الغصن ينقطع من شجرها ويركز على الأرض أو الحائط فيورق ويصير شجرة. ورأيت الرمان بها لا يقتطع له ثمر بطول أيام السنة. وخاف أهل هذه الجزيرة من الناخوذة إبراهيم أن ينهبهم عند سفره، فأرادوا إمساك ما في مركبه من السلاح حتى يوم سفره، فوقعت المشاجرة بسبب ذلك، وعدنا إلى المهل، ولم ندخلها. وكتبت إلى الوزير معلماً بذلك، فكتب أن لا سبيل لأخذ السلاح. وعدنا إلى ملوك، وسافرنا منها في نصف ربيع الثاني عام خمسة وأربعين. وفي شعبان من هذه السنة توفي الوزير جمال الدين رحمه الله. وكانت السلطانة حاملاً منه، فولدت إثر وفاته، وتزوجها الوزير عبد الله. وسافرنا، ولم يكن معنا رئيس عارف. ومسافة ما بين الجزائر والمعبر ثلاثة أيام، فسرنا نحو تسعة أيام. وفي التاسع منها خرجنا إلى جزيرة سيلان، ورأينا جبل سرنديب فيها ذاهباً في السماء كأنه عمود دخان. ولما وصلناها قال البحرية: إن هذا المرسى ليس في بلاد السلطان الذي يدخل التجار إلى بلاده آمنين، إنما هذا مرسى في بلاد السلطان إيري شكروتي، وهو من العتاة المفسدين. وله مراكب تقطع البحر، فخفنا أن ننزل بمرساه. ثم اشتدت الريح فخفنا الغرق فقلت للناخوذة: نزلني على الساحل، وأنا آخذ لك الأمان من هذا السلطان، ففعل ذلك، وأنزلني بالساحل. فأتانا الكفار فقالوا: من أنتم ? فأخبرتهم أني سلف سلطان المعبر وصاحبه، جئت لزيارته. وأن الذي في هذا المركب هدية له. فذهبوا إلى سلطانهم فأعلموه بذلك، فاستدعاني فذهبت له إلى مدينة بطالة " وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة والطاء المهمل وتشديدها "، وهي حضرته، مدينة صغيرة حسنة، عليها سور خشب، وأبراج خشب. وجميع سواحلها مملوءة بأعواد القرفة. تأتي بها السيول فتجمع بالساحل، كأنها الروابي، ويحملها أهل المعبر والمليبار دون ثمن. إلا أنهم يهدون للسلطان في مقابلة ذلك الثوب ونحوه. وبين بلاد المعبر وهذه الجزيرة مسيرة يوم وليلة. وبها أيضاً من خشب البقم كثير، ومن العود الهندي المعروف بالكلخي، إلا أنه ليس كالقماري والقاقلي ، وسنذكره.
ذكر سلطان سيلان
واسمه إيري شكروتي " بفتح الهمزة وسكون الياء وكسر الراء ثم ياء وشين معجم مفتوح وكاف مثله وراء مسكنة وواو مفتوح وتاء معلوة مكسورة وياء "، وهو سلطان قوي في البحر. رأيت مرة وأنا بالمعبر، مائة مركب من مراكبه بين صغار وكبار. وصلت إلى هنالك، وكانت بالمرسى ثمانية مراكب للسلطان برسم السفر إلى اليمن، فأمر السلطان بالاستعداد، وحشد الناس لحماية أجفانه. فلما يئسوا من انتهاز الفرصة فيها، قالوا: إنا جئنا لحماية مراكب لنا تسير أيضاً إلى اليمن. ولما دخلت على هذا السلطان الكافر، قام الي وأجلسني إلى جانبه وكلمني بأحسن كلام، وقال: ينزل أصحابك على الأمان، ويكونون في ضيافتي إلى أن يسافروا. فإن سلطان المعبر، بيني وبينه الصحبة، ثم أمر بإنزالي، فأقمت عدة ثلاثة أيام في إكرام عظيم متزايد، في كل يوم. وكان يفهم اللسان الفارسي، ويعجبه ما أحدثه به عن الملوك والبلاد. ودخلت عليه يوماً وعنده جواهر كثيرة أتى بها من مغاص الجوهر الذي ببلاده، وأصحابه يميزون النفيس منها من غيره. فقال لي: هل رأيت مغاص الجوهر في البلاد التي جئت منها ? فقلت له: نعم، رأيته بجزيرة قيس، وجزيرة كش، التي لابن السواملي. فقال: سمعت بها ثم أخذت منه حبات. فقال: أيكون في تلك الجزيرة مثل هذه ? فقلت له: رأيت ما هو دونها. فأعجبه ذلك. وقال: هي لك. وقال لي: لا تستحي، واطلب مني ما شئت. فقلت له: ليس مرادي منذ وصلت هذه الجزيرة إلا زيارة القدم الكريمة، قدم آدم عليه السلام، وهم يسمونه " بابا "، ويسمون حواء " ماما ". قال: هذا هين. نبعث معك من يوصلك. فقلت: ذلك أريد. ثم قلت له: وهذا المركب الذي جئت به، يسافر آمنا إلى المعبر، وإذا عدت أنا بعثتني في مراكبك. فقال نعم. فلما ذكرت ذلك لصاحب المركب، قال لي: لا أسافر حتى تعود، ولو أقمت سنة بسببك. فأخبرت السلطان بذلك. فقال: يقيم في ضيافتي حتى تعود. فأعطاني دولة يحملها عبيده على أعناقهم، وبعث معي أربعة من الجوكية الذين عادتهم السفر كل عام إلى زيارة القدم، وثلاثة من البراهمة، وعشرة من سائر أصحابه. وخمسة عشر رجلاً يحملون الزاد. وأما الماء فهو بتلك الطريق كثير. ونزلنا ذلك اليوم على واد جزناه في معدية مصنوعة من قصب الخيزران، ثم رحلنا من هنالك إلى منار مندلي " وضبط ذلك بفتح الميم والنون وألف وراء مسكنة وميم مفتوح ونون مسكن ودال مهمل مفتوح ولام مسكور وياء "، مدينة حسنة هي آخر عمالة السلطان. أضافنا أهلها ضيافة حسنة. وضيافتهم عجول الجواميس يصطادونها بغابة هنالك. ويأتون بها أحياء، ويأتون بالأرز والسمن والحوت والدجاج واللبن. وليس بالمدينة مسلم غير رجل خراساني انقطع بسبب مرضه، فسافر معنا. ورحلنا إلى بندرسلاوات " وضبطه بفتح الباء الموحدة وسكون النون وفتح الدال المهمل وسكون الراء وفتح السين المعمل واللام والواو والف وتاء معلوة "، بلدة صغيرة. وسافرنا منها في أوعار كثيرة المياه، وبها الفيلة الكثيرة، إلا أنها لا تؤذي الزوار والغرباء. وذلك ببركة الشيخ أبي عبد الله بن خفيف رحمه الله، وهو أول من فتح هذا الطريق إلى زيارة القدم، وكان هؤلاء الكفار يمنعون المسلمين من ذلك، ويؤذونهم ولا يؤاكلونهم ولا يبايعونهم. فلما اتفق للشيخ أبي عبد الله ما ذكرنا في السفر الأول من قتل الفيلة لأصحابه، وسلامته من بينهم، وحمل الفيل له على ظهره، صار الكفار من ذلك العهد يعظمون المسلمين، ويدخلونهم دورهم، ويطعمون معهم ويطمئنون لهم بأهلهم وأولادهم. وهم إلى الآن يعظمون الشيخ المذكور أشد تعظيماً، ويسمونه الشيخ الكبير. ثم وصلنا بعد ذلك إلى مدينة كنكار " وضبط اسمها بضم الكاف الاول وفتح النون والكاف الثانية وآخره راء "، وهي حضرة السلطان الكبير بتلك البلاد، وبناؤها في خندق بين جبيلين على خور كبير يسمى بخور الياقوت، لأن الياقوت يوجد به. وبخارج هذه المدينة مسجد الشيخ عثمان الشيرازي المعروف بشاوش " بشينين معجمين بينهما واو مضموم "، وسلطان هذه المدينة وأهلها يزورونه ويعظمونه. وهو كان الدليل إلى القدم، فلما قطعت يده ورجله، صار الأدلاء أولاده وغلمانه، وسبب قطعه أنه ذبح بقرة، وحكم كفار الهنود أنه من ذبح بقرة ذبح كمثلها، أو جعل في جلدها وحرق. وكان الشيخ عثمان معظماً فقطعوا يده ورجله، وأعطوه مجبى بعض الأسواق.
ذكر سلطان كنكار
وهو يعرف بالكنار " بضم الكاف وفتح النون وألف وراء "، وعنده الفيل الأبيض. ولم أر في الدنيا فيلاً أبيض سواه، يركبه في الأعياد، ويجعل على جبهته أحجار الياقوت العظيمة. واتفق له أن قام عليه أهل دولته، وسملوا عينيه، وولوا ولده وهو هنالك أعمى.
ذكر الياقوت
والياقوت العجيب البهرمان إنما يكون بهذه البلدة. فمنه ما يخرج من الخور، وهو عزيز عندهم، ومنه ما يحفر عنه. وفي جزيرة سيلان يوجد الياقوت في جميع مواضعها، وهي متملكة. فيشتري الإنسان القطعة منها، ويحفر عن الياقوت، فيجد أحجاراً بيضاء مشعبة، وهي التي يتكون الياقوت في أجوافها، فيعطيها الحكاكين، فيحكونها حتى تنفلق عن أحجار الياقوت. فمنه الأحمر ومنه الأصفر ومنه الارزق ويسمونه النيلم " بفتح النون واللام وسكون الياء آخر الحروف "، وعادتهم أن ما بلغ ثمنه من أحجار الياقوت إلى مائة فنم " بفتح الفاء والنون " فهو للسلطان، يعطي ثمنه ويأخذه. وما نقص عن تلك القيمة فهو لأصحابه. وصرف مائة فنم ستة دنانير من الذهب. وجميع النساء بجزيرة سيلان لهن القلائد من الياقوت الملون، ويجعلنه في أيديهن وأرجلهن عوضاً من الأسورة والخلاخيل. وجواري السلطان يصنعن منه شبكة يجعلنها على رؤوسهن. ولقد رأيت على جبهة الفيل الأبيض سبعة أحجار منه. كل حجر أعظم من بيضة الدجاج. ورأيت عند السلطان أيري شكروتي سكرجة على مقدار الكف من الياقوت، فيها دهن العود. فجعلت أعجب منها، فقال: إن عندنا ما هو أضخم من ذلك. ثم سافرنا من كنكار فنزلنا بمغارة تعرف باسم اسطا محمود اللوري " بضم اللام "، وكان من الصالحين، واحتفر تلك المغارة في سفح جبل، عند خور صغير هنالك. ثم رحلنا عنها ونزلنا بالخور المعروف بخور بوزنه " بالباء الموحدة وواو وزاي ونون وهاء "، وبوزنه هي القرود.
ذكر القرود
والقرود بتلك الجبال كثيرة جداً، وهي سود الألوان، لها أذناب طوال. ولذكورها لحى كما هي للآدميين. وأخبرني الشيخ عثمان وولده وسواهما أن هذه القرود لها مقدم تتبعه كأنه سلطان، يشد على رأسه عصابة من أوراق الأشجار، يتوكأ على عصا، ويكون عن يمينه ويساره أربعة من القرود ولها عصي بأيديها. وأنه إذا جلس القرد المقدم تقف القرود الأربعة على رأسه: وتأتي أنثاه وأولاده فتقعد بين يديه كل يوم، وتأتي القرود فتقعد على بعد منه. ثم يكلمها أحد القرود الأربعة فتنصرف القرود كلها. ثم يأتي كل فرد منها بموزة أو ليمونة أو شبه ذلك، فيأكل القرد المقدم وأولاده والقرود الأربعة. وأخبرني بعض الجوكية أنه رأى القرود الأربعة بين يدي مقدمها، وهي تضرب بعض القرود بالعصي، ثم نتفت وبره بعد ضربه. وذكر لي الثقات أنه إذا ظفر قرد من هذه القرود بصبية لا تستطيع الدفاع عن نفسها جامعها. وأخبرني بعض أهل هذه الجزيرة أنه كان بداره قرد منها، فدخلت بنت له بعض البيوت، فدخل عليها، فصاحت به، فغلبها، قال: ودخلنا عليها وهو بين رجليها فقتلناه. ثم كان رحيلنا إلى خور الخيزران. ومن هذا الخور أخرج أبو عبد الله بن خفيف الياقوتتين اللتين أعطاهما لسلطان هذه الجزيرة، حسبما ذكرناه في السفر الأول. ثم رحلنا إلى موضع يعرف ببيت العجوز، وهو آخر العمارة. ثم رحلنا إلى مغارة بابا طاهر، وكان من الصالحين، ثم رحلنا إلى مغارة السبيك " بفتح السين المهمل وكسر الباء الموحدة وياء مد وكاف "، وكان السبيك من سلاطين الكفار، وانقطع للعبادة هنالك.
ذكر العلق الطيار
وبهذا الموضع رأينا العلق الطيار، ويسمونه الزلو " بضم الزاي واللام "، ويكون بالأشجار والحشائش التي تقرب من الماء. فاذا قرب الإنسان منه وثب عليه. فحيثما وقع من جسده، خرج منه الدم الكثير. والناس يعدون له الليمون، يعصرونه عليه، فيسقط عنهم. ويجردون الموضع الذي يقع عليه بسكين خشب معه لذلك. ويذكر أن بعض الزوار مر بذلك الموضع فتعلقت به العلق، فأظهر الجلد، ولم يعصر عليها الليمون، فنزف دمه ومات. وكان اسمه بابا خوزي " بالخاء المعجم المضموم والزاي "، وهنالك مغارة تنسب إليه. ثم رحلنا إلى السبع مغارات، ثم إلى عقبة اسكندر، ثم مغارة الأصفهاني وعين ماء، وقلعة غير عامرة تحتها خور يعرف بغوطة كاه عارفان، وهنالك مغارة النارنج، ومغارة السلطان، وعندها دروازة الجبل أي بابه.
ذكر جبل سرنديب
وهو من أعلى جبال الدنيا. رأيناه من البحر، وبيننا وبينه مسيرة تسعة. ولما صعدناه كنا نرى السحاب أسفل، قد حال بيننا وبين رؤية أسفله. وفيه كثير من الأشجار التي لا يسقط لها ورق، والأزاهير الملونة، والورد الأحمر على قدر الكف. ويزعمون أن في ذلك الورد كتابة يقرأ منها اسم الله تعالى واسم رسوله عليه الصلاة والسلام. وفي الجبل طريقان إلى القدم: أحدهما يعرف بطريق " بابا "، والآخر بطريق " ماما ". يعنون آدم وحواء عليهما السلام. فأما طريق ماما فطريق سهل، عليه يرجع الزوار إذا رجعوا. ومن مضى عليه فهو عندهم كمن لم يزر، وأما طريق بابا فصعب، وعر المرتقى. وفي أسفل الجبل حيث دروازته، مغارة تنسب أيضاً للإسكندر وعين ماء. ونحت ألأولون في الجبل شبه درج يصعد عليها، وغرزوا فيها أوتاد الحديد، وعلقوا منها السلاسل ليتمسك بها من يصعده. وهي عشر سلاسل، اثنتان في أسفل الجبل إلى حيث الدروازة، وسبع متوالية بعدها، والعاشرة هي سلسلة الشهادة. لأن الإنسان إذا وصل إليها ونظر إلى أسفل الجبل أدركه الوهم خوف السقوط. ثم إذا جاوزت هذه السلسلة، وجدت طريقاً مهملة. ومن السلسلة العاشرة إلى مغارة الخضر سبعة أميال. وهي في موضع فسيح، عندها عين ماء تنسب إليه أيضاً ملأى بالحوت، ولا يصطاده أحد. وبالقرب منها حوضان منحوتان في الحجارة عن جانبي الطريق. وبمغارة الخضر يترك الزوار ما عندهم، ويصعدون منها ميلين إلى أعلى الجبل حيث القدم.
ذكر القدم
وأثر القدم الكريمة قدم أبينا آدم صلى الله عليه وسلم في صخرة سوداء، مرتفعة بموضع فسيح. وقد غاصت القدم الكريمة في الصخرة، حتى عاد موضعها منخفضاً. وطولها أحد عشر شبراً. وأتى إليها أهل الصين قديماً، فقطعوا من الصخرة موضع ألإبهام وما يليه، وجعلوه في كنيسة بمدينة الزيتون، ويقصدونها من أقصى البلاد. وفي الصخرة حيث القدم تسع حفر منحوتة، يجعل الزوار من الكفار فيها الذهب واليواقيت والجواهر. فترى الفقراء إذا وصلوا مغارة الخضر يتسابقون منها لأخذ ما بالحفر، ولم نجد نحن بها إلا يسير حجيرات وذهباً أعطيناها الدليل. والعادة أن يقيم الزوار بمغارة الخضر ثلاثة أيام يأتون فيها إلى القدم غدوة وعشياً، وكذلك فعلنا.
ولما تمت الأيام الثلاثة، عدنا على طريق ماما. فنزلنا بمغارة شيث وهو شيث ابن آدم عليهما السلام، ثم إلى خور السمك، ثم إلى قرية كرمله " بضم الكاف وسكون الراء وضم الميم "، ثم إلى قرية جبركاوان " بفتح الجيم والباء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف والواو وآخره نون "، ثم إلى قرية دل دينوة " بدالين مهملين مكسورين بينهما لام مسكن وياء مد ونون مفتوح وواو مفتوح وتاء تأنيث "، ثم إلى قرية آت قلنجة " بهمزة مفتوحة وتاء مثناة مسكنة وقاف ولام مفتوحتين ونون مسكن وجيم مفتوح "، وهنالك " كان " يشتو الشيخ أبو عبد الله ابن خفيف. وكل هذه القرى والمنازل هي بالجبل. وعند أصل الجبل في هذا الطريق درخت روان، ودرخت هي " بفتح الدال المهمل والراء وسكون الخاء المعجم وتاء معلوة " وروان " بفتح الراء والواو والف ونون "، وهي شجرة عادية لا يسقط لها ورق. ولم أر من رأى ورقها ، ويعرفونها أيضاً بالماشية، لأن الناظر إليها من أعلى الجبل يراها بعيدة منه، قريبة من أسفل الجبل، والناظر إليها من أسفل الجبل يراها بعكس ذلك. ورأيت هنالك جملة من الجوكيين ملازمين أسفل الجبل ينتظرون سقوط ورقها، وهي بحيث لا يمكن التوصل إليها ألبتة. ولهم أكاذيب في شأنها، من جملتها أن من أكل من أوراقها عاد له الشباب إن كان شيخاً. وذلك باطل. وتحت هذا الجبل الخور الذي يخرج منه الياقوت، وماؤه يظهر في رأي العين شديد الزرقة.

ورحلنا من هنالك يومين إلى مدينة دينور " وضبط اسمها بدال مهمل مكسور وياء مد ونون وواو مفتوحين وراء "، مدينة عظيمة على البحر، يسكنها التجار. وبها الصنم المعروف بدينور، في كنيسة عظيمة، فيها نحو ألف من البراهمة والجوكية، ونحو خمسمائة من النساء بنات الهنود، ويغنين كل ليلة عند الصنم، ويرقصن. والمدينة ومجابيها وقف على الصنم. وكل من بالكنيسة ومن يرد عليها يأكلون ذلك، والصنم من ذهب على قدر الآدمي، وفي موضع العينين منه ياقوتتان عظيمتان، أخبرت أنهما تضيئان بالليل كالقنديل. ثم رحلنا إلى مدينة قالي " بالقاف وكسر اللام "، وهي صغيرة، على ستة فراسخ من دينور، وبها رجل من المسلمين، يعرف بالناخوذة إبراهيم. أضافنا بموضعه ورحلنا إلى مدينة كلنبو " بفتح الكاف واللام وسكون النون وضم الباء الموحدة وواو "، وهي من أحسن بلاد سرنديب وأكبرها، وبها يسكن الوزير حاكم البحر، جالسني، ومعه نحو خمسمائة من الحبشة. ثم رحلنا، فوصلنا بعد ثلاثة أيام إلى بطالة، وقد تقدم ذكرها، ودخلنا إلى سلطانها الذي تقدم ذكره، ووجدت الناخوذة إبراهيم في انتظاري، فسافرنا بقصد بلاد المعبر. وقويت الريح، وكاد الماء يدخل في المركب، ولم يكن لنا رئيس عارف. ثم وصلنا إلى حجارة، كاد المركب ينكسر فيها. ثم دخلنا بحراً قصيراً. فتجلس المركب، ورأينا الموت عياناً، ورمى الناس بما معهم، وتوادعوا، وقطعنا صاري المركب، فرمينا به. وصنع البحرية معدية من الخشب. وكان بيننا وبين البحر فرسخان. فأردت أن أنزل في المعدية. وكان لي جاريتان وصاحبان من أصحابي. فقالا: أتنزل وتتركنا ? فآثرتهما على نفسي، وقلت انزلا أنتما والجارية التي أحبها. فقالت الجارية: إني أحسن السباحة، فأتعلق بحبل المعدية، وأعوم معهم. فنزل رفيقاي، وأحدهما محمد بن فرحان التوزري، والآخر رجل مصري، والجارية معهم، والأخرى تعوم. وربط البحرية في المعدية حبالاً وسبحوا بها. وجعلت معهم ما عز علي من المتاع والجواهر والعنبر، فوصلوا إلى البر سالمين، لأن الريح كانت تساعدهم. وأقمت بالمركب، ونزل صاحبه إلى البر على الدفة. وشرع البحرية في عمل أربع من المعادي. فجاء الليل قبل تمامها، ودخل معنا الماء، فصعدت إلى المؤخر، وأقمت به حتى الصباح. وحينئذ جاء إلينا بعض الكفار في قارب لهم، ونزلنا معهم إلى الساحل ببلاد المعبر، فأعلمناهم أنا من أصحاب سلطانهم، وهم تحت ذمته، فكتبوا إليه بذلك. وهو على مسيرة يومين في الغزو، كتبت أنا إليه بما اتفق علي، وأدخلنا أولئك الكفار إلى غيضة عظيمة، فأتونا بفاكهة تشبه البطيخ تثمرها، شجرة المقل. وفي داخلها شبه القطن، فيه عسلية يستخرجونها، ويصنعون منها حلواء يسمونها التل، وهي تشبه السكر. وأتوا بسمك طيب. وأقمنا ثلاثة أيام. ثم وصل من جهة السلطان أمير يعرف بقمر الدين معه جماعة من فرسان ورجال، وجاءوا بالدولة وبعشرة خيول، فركبت وركب أصحابي وصاحب المركب وإحدى الجاريتين، وحملت الثانية في الدولة، ووصلنا إلى حصن هركاتو " وضبط اسمه بفتح الهاء وسكون الراء وفتح الكاف والف وتاء معلوة مضمومة وواو "، وبتنا. وتركت فيه الجواري وبعض الغلمان والأصحاب، ووصلنا في اليوم الثاني إلى محلة السلطان.
ذكر سلطان بلاد المعبر
هو غياث الدين الدامغاني، وكان في أول أمره فارساً من فرسان الملك مجير ابن أبي الرجا، أحد خدام السلطان محمد، ثم خدم الأمير حاجي ابن السيد السلطان جلال الدين، ثم ولي الملك، وكان يدعى سراج الدين قبله. فلما ولي تسمى غياث الدين. وكانت بلاد المعبر تحت حكم السلطان محمد ملك دهلي، ثم ثار بها صهري الشريف جلال الدين أحسن شاه، وملك بها خمسة أعوام، ثم قتل، وولي أحد أمرائه وهو علاء الدين أديجي " بضم الهمزة وفتح الدال المهمل وسكون الياء آخر الحروف وكسر الجيم "، فملك سنة. ثم خرج إلى غزو الكفار فأخذ لهم أموالاً كثيرة وغنائم واسعة، وعاد إلى بلاده. وغزاهم في السنة الثانية، فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. واتفق يوم قتله لهم أن رفع المغفر عن رأسه ليشرب، فأصابه سهم غرب، فمات من حينه. فولوا صهره قطب الدين. ثم لم يحمدوا سيرته فقتلوه بعد أربعين يوماً. وولي بعده السلطان غياث الدين، وتزوج بنت السلطان الشريف جلال الدين التي كنت متزوجاً أختها بدهلي. ذكر وصولي إلى السلطان غياث الدين
ولما وصلنا إلى قرب من منزله بعث بعض الحجاب لتلقينا، وكان قاعداً في برج خشب، وعادتهم بالهند أن لا يدخل أحد على السلطان دون خف. ولم يكن عندي خف، فأعطاني بعض الكفار خفاً. وكان هنالك من المسلمين جماعة، فعجبت من كون الكافر كان أتم مروءة منهم. ودخلت على السلطان، فأمرني بالجلوس، ودعا القاضي الحاج صدر الزمان بهاء الدين. وأنزلني في جواره في ثلاثة من الأخبية، وهم يسمونها الخيام. وبعث بالفرش وبطعامهم، وهو الأرز واللحم. وعادتهم هنالك أن يسقوا اللبن الرائب على الطعام. كما يفعل ببلادنا. ثم اجتمعت به بعد ذلك، وألقيت له أمر جزائر ذيبة المهل، وأن يبعث الجيش إليها. فأخذ في ذلك بالعزم، وعين المراكب لذلك. وعين الهدية لسلطانتها، والخلع للوزراء والأمراء، والعطايا لهم. وفوض إلي في عقد نكاحه مع أخت السلطانة، وأمر بوسق ثلاثة مراكب بالصدقة لفقراء الجزائر، وقال لي: يكون رجوعك بعد خمسة أيام. فقال له قائد البحر سرلك: لا يمكن السفر إلى الجزائر إلا بعد ثلاثة أشهر من الآن. فقال لي السلطان: أما إذا كان الأمر هكذا، فامض إلى فتن حتى نقضي هذه الحركة، وتعود إلى حضرتنا مترة، ومنها تكون الحركة. فأقمت معه بخلال ما بعثت إلى الجواري والأصحاب.
ذكر ترتيب رحيله وشنيع فعله
في قتل النساء والولدان
وكانت الأرض التي نسلكها غيضة واحدة من الأشجار والقصب، بحيث لا يسلكها أحد. فأمر السلطان أن يكون مع كل واحد ممن في الجيش من كبير وصغير قدوم لقطع ذلك. فإذا نزلت المحلة ركب إلى الغابة والناس معه، فقطعوا تلك الأشجار من غدوة النهار إلى الزوال. ثم يؤتى بالطعام فيأكل جميع الناس، طائفة بعد أخرى، ثم يعودون إلى قطع الأشجار إلى العشي. وكل من وجدوه من الكفار في الغيضة أسروه، وصنعوا خشبة محددة الطرفين، فجعلوها على كتفيه يحملها. ومعه امرأته وأولاده. ويؤتى بهم إلى المحلة. وعادتهم أن يصنعوا على المحلة سوراً من خشب، يكون له أربعة أبواب، ويسمونه الكتكر " بفتح الكافين وسكون التاء المعلوه وآخره راء "، ويصنعون على دار السلطان كتكراً ثانياً، ويصنعون خارج الكتكر الأكبر مصاطب، ارتفاعها نحو نصف قامة، ويوقدون عليها النار بالليل، ويبيت عندها العبيد والمشاءون، ومع كل واحد منهم حزمة من رقيق القصب. فإذا أتى أحد من الكفار ليضربوا على المحلة ليلاً، أوقد كل واحد منهم الحزمة التي بيده، فعاد الليل شبه النهار، لكثرة الضياء. وخرجت الفرسان في اتباع الكفار، فإذا كان عند الصباح قسم الكفار المأسورون بالأمس أربعة أقسام، وأتي إلى كل باب من أبواب الكتكر بقسم منهم. فركزت بالخشب التي كانوا يحملونها بالأمس عنده، ثم ركزوا فيها حتى تنفذهم، ثم تذبح نساؤهم، ويربطن بشعورهن إلى تلك الأخشاب، ويذبح الأولاد الصغار في حجورهن، ويتركون هنالك. وتنزل المحلة، ويشتغلون بقطع غيضة أخرى، ويصنعون بمن أسروه كذلك. وذلك أمر شنيع، ما علمته لأحد من الملوك. وبسببه عجل الله حينه. ولقد رأيته يوماً، والقاضي عن يمينه، وأنا عن شماله، وهو يأكل معنا، وقد أتي بكافر معه امرأته وولد سنه سبع، فأشار إلى السيافين بيده أن يقطعوا رأسه. ثم قال لهم: وزن أو بسر أو، معناه: وابنه وزوجته، فقطعت رقابهم. وصرفت بصري عنهم، فلما قمت وجدت رؤوسهم مطروحة بالأرض. وحضرت عنده يوماً، وقد أتي برجل من الكفار، فتكلم بما لم أفهمه. فإذا بجماعة من الزبانية قد استلوا سكاكينهم، فبادرت القيام، فقال لي: إلى أين ? فقلت: أصلي العصر. ففهم عني وضحك وأمر بقطع يديه ورجليه. فلما عدت وجدته متشحطاً في دمائه.
ذكر هزيمته للكفار وهي من أعظم فتوحات الإسلام
وكان فيما يجاور بلاده سلطان كافر يسمى بلال ديو " بفتح الباء الموحدة ولام وألف ولام ثانية ودال مهمل مكسور وياء آخر الحروف مفتوحة واو مسكن "، وهو من كبار سلاطين الكفار، يزيد عسكره على مائة ألف، ومعه نحو عشرين ألفاً من المسلمين، أهل الدعارة وذوي الجنايات والعبيد الفارين، فطمع في الاستيلاء على بلاد المعبر، وكان عسكر المسلمين بها ستة آلاف، منهم النصف من الجياد، والنصف الثاني لا خير فيهم، ولا غناء عندهم. فلقوه بظاهر مدينة كبان، فهزمهم. ورجعوا إلى حضرة مترة، ونزل الكافر على كبان، وهي من أكبر مدنهم وأحصنها، وحاصرها عشرة أشهر، ولم يبق لهم من الطعام إلا قوت أربعة عشر يوماً. فبعث لهم الكافر أن يخرجوا على الأمان، ويتركوا له البلد. فقالوا له: لا بد من مطالعة سلطاننا بذلك. فوعدهم إلى تمام أربعة عشر يوماً. فكتبوا إلى السلطان غياث الدين بأمرهم، فقرأ كتابهم على الناس يوم الجمعة، فبكوا، وقالوا: نبيع أنفسنا من الله. فإن الكافر إن أخذ تلك المدينة انتقل إلى حصارنا، فالموت تحت السيوف أولى بنا. فتعاهدوا على الموت، وخرجوا من الغد، ونزعوا العمائم عن رؤوسهم وجعلوها في أعناق الخيل، وهي علامة من يريد الموت. وجعلوا ذوي النجدة والأبطال منهم في المقدمة، وكانوا ثلاثمائة. وجعلوا على الميمنة سيف الدين بهادور، وكان فقيهاً ورعاً شجاعاً، وعلى الميسرة الملك محمد السلحدار. وركب السلطان في القلب ومعه ثلاث آلاف، وجعل الثلاثة الآلاف الباقين ساقة لهم، وعليهم أسد الدين كيخسرو الفارسي. وقصدوا محلة الكافر عند القايلة، وأهلها على غرة، وخيلهم في المرعى. فأغاروا عليها. وظن الكفار أنهم سراق. فخرجوا إليهم على غير تعبية، وقاتلوهم. فوصل السلطان غياث الدين، فانهزم الكفار شر هزيمة، وأراد سلطانهم أن يركب، وكان ابن ثمانين سنة، فأدركه ناصر الدين ابن أخي السلطان الذي ولي الملك بعده، فأراد قتله، ولم يعرفه. فقال له أحد غلمانه: هو السلطان. فأسره وحمله إلى عمه، فأكرمه في الظاهر حتى جبى منه الأموال والفيلة والخيل، وكان يعده السراح. فلما استصفى ما عنده، ذبحه وسلخه، وملأ جلده بالتبن. فعلق على سور مترة، ورأيته بها معلقاً، ولنعد إلى كلامنا فنقول: ورحلت عن المحلة، فوصلت إلى مدينة فتن " بفتح الفاء والتاء والمثناة المشددة ونون "، وهي كبيرة حسنة على الساحل، ومرساها عجيب قد صنعت فيه قبة خشب كبيرة قائمة على الخشب الضخام، يصعد إليها على طريق خشب مسقف، فإذا جاء العدو ضموا إليها الأجفان التي تكون بالمرسى، وصعدها الرجال والرماة، فلا يصيب العدو فرصة. وبهذه المدينة مسجد حسن مبني بالحجارة، وبها العنب الكثير والرمان الطيب. ولقيت الشيخ الصالح محمداً النيسابوري أحد الفقراء المولهين الذين يسدلون شعورهم على أكتافهم، ومعه سبع رباه، يأكل مع الفقراء ويقعد معهم وكان معه نحو ثلاثين فقيراً، لأحدهم غزالة تكون مع الأسد في موضع واحد فلا يعرض لها. وأقمت بمدينة فتن، وكان السلطان غياث الدين قد صنع له أحد الجوكية حبوباً لقوة على الجماع. وذكروا أن من جملة أخلاطها برادة الحديد، فأكل منها فوق الحاجة فمرض، ووصل إلى فتن. فخرجت إلى لقائه، واهديت له هدية. فلما استقر بها بعث عن قائد البحر خواجه سرور فقال له: لا تشتغل بسوى المراكب المعينة للسفر إلى الجزائر. وأراد أن يعطيني قيمة الهدية فأبيت، ثم ندمت، لأنه مات. فلم آخذ شيئاً. وأقام بفتن نصف شهر، ثم رحل إلى حضرته. وأقمت أنا بعده نصف شهر، ثم رحلت إلى حضرته، وهي مدينة متره " بضم الميم وسكون التاء المعلوة وفتح الراء "، مدينة كبيرة متسعة الشوارع. وأول من اتخذها حضرة صهري السلطان الشريف جلال الدين أحسن شاه. وجعلها شبيهة بدهلي، وأحسن بناءها. ولما قدمتها وجدت بها وباء يموت منه الناس موتاً ذريعاً، فمن مرض مات من ثاني يوم مرضه أو ثالثه، وإن أبطأ موته فإلى الرابع. فكنت إذا خرجت لا أرى إلا مريضاً أو ميتاً. واشتريت بها جارية على أنها صحيحة، فماتت في يوم آخر. ولقد جاءت إلي في بعض الأيام امرأة كان زوجها من وزراء السلطان أحسن شاه، ومعها ابن لها سنه ثمانية أعوام، نبيل كيس فطن. فشكت ضعف حالها، فأعطيتهما نفقة، وهما صحيحان سويان. فلما كان من الغد جاءت تطلب لولدها كفناً، وإذا به قد توفي من حينه. وكنت أرى بمشور السلطان حين مات المئتين من الخدم اللاتي أتي بهن لدق الأرز المعمول منه الطعام لغير السلطان، وهن مريضات قد طرحن أنفسهن في الشمس. ولما دخل السلطلن مترة، وجد أمه وامرأته وولده مرضى. فأقام بالمدينة ثلاثة أيام، ثم خرج إلى نهر على فرسخ منها، كانت عليه كنيسة للكفار. وخرجت إليه في يوم خميس، فأمر بإنزالي إلى جانب القاضي. فلما ضربت لي الأخبية رأيت الناس يسرحون، ويموج بعضهم في بعض. فمن قائل: إن السلطان مات، ومن قائل: إن ولده هو الميت. ثم تحققنا ذلك، فكان الولد هو الميت، ولم يكن له سواه. فكان موته مما زاد في مرضه. وفي الخميس بعده توفيت أم السلطان.السلطان حين مات المئتين من الخدم اللاتي أتي بهن لدق الأرز المعمول منه الطعام لغير السلطان، وهن مريضات قد طرحن أنفسهن في الشمس. ولما دخل السلطلن مترة، وجد أمه وامرأته وولده مرضى. فأقام بالمدينة ثلاثة أيام، ثم خرج إلى نهر على فرسخ منها، كانت عليه كنيسة للكفار. وخرجت إليه في يوم خميس، فأمر بإنزالي إلى جانب القاضي. فلما ضربت لي الأخبية رأيت الناس يسرحون، ويموج بعضهم في بعض. فمن قائل: إن السلطان مات، ومن قائل: إن ولده هو الميت. ثم تحققنا ذلك، فكان الولد هو الميت، ولم يكن له سواه. فكان موته مما زاد في مرضه. وفي الخميس بعده توفيت أم السلطان.
ذكر وفاة السلطان وولاية ابن أخيه
وانصرافي عنه
وفي الخميس الثالث توفي السلطان غياث الدين، وشعرت بذلك، فباردت الدخول إلى المدينة خوف الفتنة. ولقيت ناصر الدين ابن أخيه الوالي بعده خارجاً إلى المحلة، قد وجه عنه، إذا ليس للسلطان ولد. فطلب إلي الرجوع معه، فأبيت. وأثر ذلك في قلبه. وكان ناصر الدين هذا. خديماً بدهلي قبل أن يملك عمه. فلما ملك عمه هرب في زي الفقراء إليه، فكان من القدر ملكه بعده. ولما بويع، مدحته الشعراء، فأجزل لهم العطاء وأول من قام منشداً القاضي صدر الزمان، فأعطاه خمسمائة دينار وخلعة، ثم الوزير المسمى بالقاضي، فأعطاه ألفي دينار دراهم، وأعطاني أنا ثلاثمائة دينار وخلعة. وبث الصدقات في الفقراء والمساكين. ولما خطب الخطيب أول خطبة باسمه، نثرت عليه الدنانير والدراهم في أطباق الذهب والفضة. وعمل عزاء السلطان غياث الدين فكانوا يختمون القرآن على قبره كل يوم، ثم يقرأ العشارون، ثم يؤتى بالطعام فيأكل الناس، ثم يعطون الدراهم، كل إنسان على قدره. وأقاموا على ذلك أربعين يوماً. ثم يفعلون ذلك في مثل يوم وفاته من كل سنة. وأول ما بدأ به السلطان ناصر الدين أن عزل وزير عمه، وطلبه بالأموال. وولي الوزارة الملك بدر الدين الذي بعثه عمه إلي وأنا بفتن ليتلقاني، فتوفي سريعاً. فولي الوزارة خواجه سرور قائد البحر، وأمر أن يخاطب بخواجه جهان، كما يخاطب الوزير بدهلي. ومن خاطبه بغير ذلك غرم دنانير معلومة. ثم إن السلطان ناصر الدين قتل ابن عمته المتزوج بنت السلطان غياث الدين، وتزوجها بعده. وبلغه أن الملك مسعوداً زاره في محبسه قبل موته، فقتله أيضاً، وقتل الملك بهادور، وكان من الشجعان الكرماء الفضلاء، وأمر لي بجميع ما كان عينه عمه من المراكب برسم الجزائر. ثم أصابنتي الحمى القاتلة هنالك، فظننت أنها القاضية. وألهمني الله إلى التمر الهندي، وهو هنالك كثير، فأخذت نحو رطل منه، وجعلته في الماء ثم شربته. فأسهلني ثلاثة أيام، وعافاني الله من مرضي. فكرهت تلك المدينة، وطلبت الإذن في السفر، فقال لي السلطان: كيف تسافر ولم يبق لأيام السفر إلى الجزائر غير شهر واحد ? أقم حتى نعطيك جميع ما أمر لك به خوند عالم. فأبيت، وكتب لي إلى فتن لأسافر في أي مركب أردت. وعدت إلى فتن، فوجدت ثمانية من المراكب تسافر إلى اليمن، فسافرت في أحدها، ولقينا أربعة أجفان، فقاتلتنا يسيراً ثم انصرفت. ووصلنا إلى كولم، وكان في بقية مرض، فأقمت بها ثلاثة أشهر. ثم ركبت في مركب بقصد السلطان جمال الدين الهنوري، فخرج علينا الكفار بين هنور وفاكنور.
ذكر سلب الكفار لنا

ولما وصلنا إلى الجزيرة الصغرى بين هنور وفاكنور، خرج علينا الكفار في يوم اثني عشر مركباً حربياً، وقاتلوها قتالاً شديداً، وتغلبوا علينا، فأخذوا جميع ما عندي مما كنت أدخره للشدائد، وأخذوا الجواهر واليواقيت التي أعطانيها ملك سيلان، وأخذوا ثيابي والزرادات التي كانت عندي مما أعطانيه الصالحون والأولياء، ولم يتركوا لي ساتراً خلا السراويل، وأخذوا ما كان لجميع الناس، وأنزلونا بالساحل. فرجعت إلى قالقوط، فدخلت بعض المساجد. فبعث إلي أحد الفقهاء بثوب، وبعث القاضي بعمامة، وبعث بعض التجار بثوب آخر. وتعرفت هنالك بتزوج الوزير عبد الله بالسلطانة خديجة بعد موت الوزير جمال الدين، وبأن زوجتي التي تركتها حاملاً ولدت ولداً ذكراً فخطر لي السفر إلى الجزائر. وتذكرت العداوة التي بيني وبين الوزير عبد الله، ففتحت المصحف، فخرج لي " تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا " فاستخرت الله، وسافرت. فوصلت بعد عشرة أيام إلى جزائر ذيبة المهل، ونزلت منها بكلنوس. فأكرمني واليها عبد العزيز المقدوشاوي وأضافني وجهز لي كندرة. ووصلت بعد ذلك إلى هللي، وهي الجزيرة التي تخرج السلطانة وأخواتها إليها برسم التفرج والسباحة، ويسمون ذلك التتجر. ويلعبون في المراكب، ويبعث لها الوزراء والأمراء بالهدايا والتحف متى كانت بها. وجدت بها أخت السلطانة وزوجها الخطيب محمد ابن الوزير جمال الدين وأمها التي كانت زوجتي. فجاء الخطيب إلي، وأتوا بالطعام. ومر بعض أهل الجزيرة إلى الوزير عبد الله فأعلموه بقدومي. فسأل عن حالي، وعمن قدم معي. وأخبر أني جئت برسم حمل ولدي، وكان سنه نحو عامين. وأتته أمه تشكو من ذلك. فقال لها: أنا لا أمنعه من حمل ولده. وصادرني في دخول الجزيرة، وأنزلني بدار تقابل برج قصره، ليتطلع على حالي. وبعث إلي بكسوة كاملة، وبالتنبول وماء الورد على عادتهم. وجئت بثوبي حرير للرمي عند السلام، فأخذوهما، ولم يخرج الوزير إلي ذلك اليوم. وأتي إلي بولدي فظهر لي أن إقامته معهم خير له. فرددته إليهم، وأقمت خمسة أيام وظهر لي أن تعجيل السفر أولى. فطلبت الإذن في ذلك، فاستدعاني الوزير، ودخلت عليه وأتوني بالثوبين اللذين أخذوهما مني، فرميتهما عند السلام على العادة. وأجلسني إلى جانبه، وسألني عن حالي، وأكلت معه الطعام، وغسلت يدي معه في الطست، وذلك شيء لا يفعله مع أحد. وأتوا بالتنبول وانصرفت، وبعث إلي بأثواب وبساتي من الودع، وأحسن في أفعاله وأجمل. وسافرت، فأقمنا على ظهر البحر ثلاثاً وأربعين ليلة، ثم وصلنا إلى بلاد بنجالة " وضبطها بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم معقود وألف ولام مفتوح "، وهي بلاد متسعة كثيرة الأرز. ولم أر في الدنيا أرخص أسعاراً منها، لكنها مظلمة. وأهل خراسان يسمونها دوزخست " دوزخ " بور " بر " نعمة، معناه جهنم ملأى بالنعم. رأيت الأرز يباع في أسواقها خمسة وعشرين رطلاً دهلية بدينار فضي، والدينار الفضي هو ثمانية دراهم، ودرهمهم كالدرهم النقرة سواء، والرطل الدهلي عشرون رطلاً مغربية. وسمعتهم يقولن: إن ذلك غلاء عندهم. وحدثني محمد المصمودي المغربي، وكان من الصالحين وسكن هذا البلد قديماً ومات عندي بدهلي، أنه كانت له زوجة وخادم، فكان يشتري قوت ثلاثتهم في السنة بثمانية رداهم، وأنه كان يشتري الأرز في قشره بحساب ثمانين رطلاً دهلية بثمانية دراهم، فإذا دقه خرج منه خمسون رطلاً صافية، وهي عشرة قناطير. ورأيت البقرة تباع بها للحلب بثلاثة دنانير فضية وبقرهم الجواميس، ورأيت الدجاج السمان تباع بحساب ثمانٍ بدرهم واحد، وفراخ الحمام، تباع خمسة عشر بدرهم، ورأيت الكبش السمين يباع بدرهمين. ورطل السكر بأربعة دراهم، وهو رطل دهلي ورطل الجلاب بثمانية دراهم ورطل السمن بأربعة دراهم ورطل السيرج بدرهمين، ورأيت ثوب القطن الرقيق الجيد الذي ذرعه ثلاثون ذراعاً يباع بدينارين، ورأيت الجارية المليحة للفراش تباع بدينار من الذهب الواحد، وهو ديناران ونصف دينار من الذهب المغربي، واشتريت بنحو هذه القيمة جارية تسمى عاشورة، وكان لها جمال بارع. واشترى بعض أصحابي غلاماً صغير السن حسناً اسمه لؤلؤ بدينارين من الذهب. وأول مدينة دخلناها من بلاد بنجالة مدينة سدكاوان، وضبط اسمها " بضم السين وسكون الدال المهملين وفتح الكاف والواو وآخره نون "، وهي مدينة عظيمة على ساحل البحر الأعظم، ويجتمع بها نهر الكنك الذي يحج إليه الهنود، ونهر الجون، ويصبان في البحر. ولهم في النهر مراكب كثيرة يقاتلون بها أهل بلاد اللكنوتي.ة عظيمة على ساحل البحر الأعظم، ويجتمع بها نهر الكنك الذي يحج إليه الهنود، ونهر الجون، ويصبان في البحر. ولهم في النهر مراكب كثيرة يقاتلون بها أهل بلاد اللكنوتي.
ذكر سلطان بنجالة
وهو السلطان فخر الدين الملقب بفخره " بالفاء والخاء المعجم والراء "، سلطان فاضل محب في الغرباء، وخصوصاً الفقراء والمتصوفة. وكانت مملكة هذه البلاد للسلطان ناصر الدين ابن السلطان غياث الدين بلبن، وهو الذي ولي ولده معز الدين الملك بدهلي، فتوجه لقتاله والتقيا بالنهر، وسمي لقاؤهما لقاء السعدين، وقد ذكرنا ذلك، وأنه ترك الملك لولده وعاد إلى بنجالة، فأقام بها إلى أن توفي، وولي ابنه شمس الدين إلى أن توفي فولي ابنه شهاب الدين إلى أن غلب عليه أخوه غياث الدين بهادوربور، فاستنصر شهاب الدين بالسلطان غياث الدين تغلق فنصره، وأخذ بهادوربور أسيراً، ثم أطلقه ابنه محمد لما ملك، على أن يقاسمه ملكه، فنكث عليه، فقاتله حتى قتله، وولي على هذه البلاد صهراً، له فقتله العسكر، واستولى على ملكها علي شاه، وهو إذ ذاك ببلاد اللكنوتي. فلما رأى فخر الدين أن الملك قد خرج عن أولاد السلطان ناصر الدين، وهو مولى لهم، خالف بسكاوان وبلاد بنجالة، واستقل بالملك. واشتدت الفتنة بينه وبين علي شاه. فإذا كانت أيام الشتاء والوحل، أغار فخر الدين على بلاد اللكنوتي في البحر لقوته فيه، وإذا عادت الأيام التي لا مطر فيها أغار علي شاه على بنجالة في البر لقوته فيه.
حكاية
وانتهى حب الفقراء بالسلطان فخر الدين إلى أن جعل أحدهم نائباً عنه في الملك بسدكاوان، وكان يسمى شيدا " بفتح الشين المعجم والدال المهمل بينهما ياء آخر الحروف "، وخرج إلى قتال عدو له. فخالف عليه شيدا، وأراد الاستبداد بالملك، وقتل ولد السلطان فخر الدين، ولم يكن له ولد غيره. فعلم بذلك فكر عائداً إلى حضرته، ففر شيدا ومن اتبعه إلى مدينة سنرهكاوان، وهي منيعة. فبعث السلطان بالعساكر إلى حصاره، فخاف أهلها على أنفسهم، فقبضوا على شيدا وبعثوا إلى عسكر السلطان، فكتبوا إليه بأمره. فأمرهم أن يبعثوا له رأسه فبعثوه. وقتل بسببه جماعة كبيرة من الفقراء. ولما دخلت سدكاوان لم أر سلطانها، ولا لقيته، وعلمت أنه مخالف على ملك الهند. فخفت عاقبة ذلك، وسافرت من سدكاوان بقصد جبال كامرو، وهي " بفتح الكاف والميم وضم الراء ". وبينها وبين سدكاوان مسيرة شهر، وهي جبال متسعة متصلة بالصين، وتتصل أيضاً ببلاد التبت حيث غزلان المسك. وأهل هذا الجبل يشبهون الترك، ولم قوة على الخدمة. والغلام منهم يساوي أضعاف ما يساويه الغلام من غيرهم. وهم مشهورون بمعاناة السحر والاشتغال به. وكان قصدي بالمسير إلى هذه الجبال لقاء ولي من الأولياء بها وهو الشيخ جلال الدين التبريزي.
ذكر الشيخ جلال الدين
وهذا الشيخ من كبار الأولياء وأفراد الرجال. له الكرامات الشهيرة والمآثر العظيمة، وهو من المعمرين. أخبرني رحمه الله أنه أدرك الخليفة المعتصم المستعصم بالله العباسي ببغداد، وكان بها حين قتله، وأخبرني أصحابه بعد هذه المدة أنه مات، وهو ابن مائة وخمسين، وأنه كان له نحو أربعين سنة يسرد الصوم، ولا يفطر إلا بعد مواصلة عشر، وكانت له بقرة يفطر على حليبها، ويقوم الليل كله. وكان نحيف الجسم طوالاً خفيف العارضين. وعلى يديه أسلم أهل تلك الجبال، ولذلك أقام بينهم.
كرامة له: أخبرني بعض أصحابه أنه استدعاهم قبل موته بيوم واحد، وأوصاهم بتقوى الله، وقال لهم: إني أسافر عنكم غداً إن شاء الله وخليفتي عليكم الله الذي لا إله إلا هو، فلما صلى الظهر من الغد قبضه الله في آخر سجدة منها، ووجدوا في جانب الغار الذي كان يسكنه قبراً محفوراً عليه الكفن والحنوط، فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه به، رحمه الله تعالى.

كرامة له أيضاً: ولما قصدت زيارة هذا الشيخ لقيني أربعة من أصحابه على مسيرة يومين من موضع سكناه، فأخبروي أن الشيخ قال للفقراء الذين معه: قد جاءكم سائح من المغرب فاستقبلوه، وأنهم أتوا لذلك بأمر الشيخ. ولم يكن عنده علم من أمري، وإنما كوشف به، وسرت معهم إلى الشيخ فوصلت زاويته خارج الغار ولا عمارة عندها وأهل تلك البلاد من مسلم وكافر يقصدون زبارته، ويأتون بالهدايا والتحف فيأكل منها الفقراء والواردون. وأما الشيخ فقد اقتصر على بقرة يفطر على حليبها بعد عشر كما قدمناه، ولما دخلت عليه قام إلي وعانقني وسألني عن بلادي وأسفاري، فأخبرته. فقال لي: أنت مسافر العرب. فقال له من حضر من أصحابه: والعجم يا سيدنا. فقال: والعجم، فأكرموه. فاحتملوني إلى الزاوية وأضافوني ثلاثة أيام.
حكاية عجيبة في ضمنها كرامات له ولما كان يوم دخولي إلى الشيخ رأيت عليه فرجية مرعز فأعجبتني، وقلت في نفسي: ليت الشيخ أعطانيها. فلما دخلت عليه للوداع، قام إلى جانب الغار وجرد الفرجية وألبسنيها مع طاقية من رأسه، ولبس مرقعة، فأخبرني الفقراء أن الشيخ لم تكن عادته أن يلبس تلك الفرجية، وإنما لبسها عند قدومي، وأنه قال لهم هذه الفرجية يطلبها المغربي، ويأخذها منه سلطان كافر، ويعطيها لأخينا برهان الدين الصاغرجي، وهي له وبرسمه كانت. فلما أخبرني الفقراء بذلك، قلت لهم: لقد حصلت لي بركة الشيخ، بأن كساني لباسه. وأنا لا أدخل بهذه الفرجية على سلطان كافر ولا مسلم، وانصرفت عن الشيخ. فاتفق لي بعد مدة طويلة أني دخلت بلاد الصين، وانتهيت إلى مدينة الخنسا. فافترق مني أصحابي لكثرة الزحام، وكانت الفرجية علي. فبينا أنا في بعض الطرق إذا بالوزير في موكب عظيم. فوقع بصره علي فاستدعاني وأخذ بيدي وسألني عن مقدمي، ولم يفارقني حتى وصلت إلى دار السلطان معه فأردت الانفصال، فمنعني وأدخلني على السلطان، فسألني عن سلاطين الإسلام فأجبته، ونظر إلى الفرجية فاستحسنها. فقال لي الوزير: جردها، فلم يمكني خلاف ذلك. فأخذها وأمر لي بعشر خلع وفرس مجهز ونفقة. وتغير خاطري لذلك. ثم ذكرت قول الشيخ إنه يأخذها سلطان كافر. فطال عجبي من ذلك. ولما كان في السنة الأخرى دخلت دار ملك الصين بخان بالق، فقصدت زاوية الشيخ برهان الدين الصاغرجي فوجدته يقرأ، والفرجية عليه بعينها، فعجبت من ذلك وقلبتها بيدي، فقال لي: لم تقلبها وأنت تعرفها ? فقلت له: نعم، هي التي أخذها مني سلطان الخنسا. فقال لي هذه الفرجية صنعها أخي جلال الدين برسمي. وكتب إلي أن الفرجية تصلك على يد فلان. ثم أخرج لي الكتاب فقرأته. وعجبت من صدق يقين الشيخ، وأعلمته بأول الحكاية. فقال لي: أخي جلال الدين أكبر من ذلك كله، وهو يتصرف في الكون، وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى.

ثم قال: بلغني أنه كان يصلي الصبح كل يوم بمكة، وأنه يحج كل عام. لأنه كان يغيب على الناس يومي عرفة والعيد، فلا يعرف أين ذهب. ولما وادعت الشيخ جلال الدين سافرت إلى مدينة حبنق " وضبط اسمها بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة. وسكون النون وقاف "، وهي من أكبر المدن وأحسنها. يشقها النهر الذي ينزل من جبال كامرو، ويسمى النهر الأزرق، ويسافر فيه إلى بنجالة وبلاد اللكنوتي، وعليه النواعير والبساتين والقرى يمنة ويسرة، كما هي على نيل مصر. وأهلها كفار تحت الذمة، يؤخذ منهم نصف ما يزدرعون ووظائف سوى ذلك. وسافرنا في هذا النهر خمسة عشر يوماً بين القرى والبساتين فكأنما نمشي في سوق من الأسواق، وفيه من المراكب ما لا يحصى كثرة، وفي كل مركب منها طبل، فإذا التقى المركبان ضرب كل واحد طبله، وسلم بعضهم على بعض. وأمر السلطان فخر الدين المذكور أن لا يؤخذ بذلك النهر من الفقراء نول، وأن يعطى الزاد لمن لا زاد له منهم. وإذا وصل الفقير إلى مدينة أعطي نصف دينار. وبعد خمسة عشر يوماً من سفرنا في النهر، كما ذكرناه، وصلنا إلى مدينة سنرهكاوان وسنر " بضم السين المهمل والنون وسكون الراء "، وهي المدينة التي قبض أهلها على الفقير شيدا عندما لجأ إليها. ولما وصلناها وجدنا بها جنكاً يريد السفر إلى بلاد الجاوة. وبينهما أربعون يوماً. فركبنا فيه وصلنا بعد خمسة عشر يوماً إلى بلاد البرهنكار الذين أفواههم كأفواه الكلاب " وضبطها بفتح الباء الموحدة والراء والنون والكاف وسكون الهاء "، وهذه الطائفة من الهمج لا يرجعون إلى دين الهنود ولا إلى غيره، وسكناهم في بيوت قصب مسقفة بحشيش الأرض على شاطئ البحر. وعندهم من أشجار الموز والفوفل والتنبول كثير. ورجالهم على مثل صورنا إلا أن أفواهم كأفواه الكلاب. وأما نساؤهم فلسن كذلك، ولهن جمال بارع. ورجالهم عرايا لا يستترون. إلا أن الواحد يجعل ذكره وأنثييه في جعبة من القصب منقوشة معلقة في بطنه، وتستتر نساؤهم بأوراق الشجر. ومعهم جماعة من المسلمين من أهل بنجالة والجاوة ساكنون في حارة على حدة. أخبرونا أنهم يتناكحون كالبهائم، لا يستترون بذلك. ويكون للرجل منهم ثلاثون امرأة فما دون ذلك أو فوقه، وأنهم لا يزنون. وإذا زنا الرجل منهم فحد الرجل أن يصلب حتى يموت، أو يؤتى بصاحبه أو عبده فيصلب عوضاً منه، ويسرح هو. وحد المرأة أن يأمر السلطان جميع خدامه فينكحونها واحد بعد واحد بحضرته حتى تموت، ويرمون بها في البحر. ولأجل ذلك لا يتركون أحداً من أهل المراكب ينزل إليهم، إلا إن كان من المقيمين عندهم. وإنما يبايعون الناس ويشارونهم على الساحل، ويسوقون إليهم الماء على الفيلة، لأنه بعيد من الساحل. ولا يتركونهم لاستقائه خوفاً على نسائهم، لأنهن يطمحن إلى الرجال الحسان. والفيلة كثيرة عندهم، ولا يسعها أحد غير سلطانهم. ثم يشترى منهم بالأثواب. ولهم كلام غريب لايفقهه إلا من ساكنهم، وأكثر التردد إليهم. ولما وصلنا إلى ساحلهم أتوا إلينا في قوارب صغار، كل قارب من خشبة واحدة منحوتة، وجاءوا بالموز والأرز والتنبول والفوفل والسمك.
ذكر سلطانهم
وأتى إلينا سلطانهم رأكباً على فيل، عليه شبه بردعة من الجلود، ولباس السلطان ثوب من جلود المعزى، وقد جعل الوبر إلى خارج، وفوق رأسه ثلاث عصائب من الحرير ملونات، وفي يده حربة من القصب، ومعه نحو عشرين من أقاربه على الفيلة. فبعثنا إليه هدية من الفلفل والزنجبيل والقرفة والحوت الذي يكون بجزائر ذيبة المهل وأثواباً من بنجالية. وهم لا يلبسونها إنما يكسونها الفيلة في أيام عيدهم. ولهذا السلطان على كل مركب ينزل ببلاده جارية ومملوك وثياب لكسوة الفيل وحلي ذهب تجعله زوجته في محزمها وأصابع رجليها. ومن لم يعط هذه الوظيفة صنعوا له سحراً يهيج به البحر، فيهلك أو يقارب الهلاك.
حكاية واتفق في ليلة من ليالي إقامتنا بمرساهم أن غلاماً لصاحب المركب ممن تردد إلى هؤلاء الطائفة نزل من المركب ليلاً، وتواعد مع امرأة أحد كبرائهم إلى موضع شبه الغار على الساحل. وعلم بذلك زوجها، فجاء في جمع من أصحابه إلى الغار فوجدهما به. فحملا إلى سلطانهم، فأمر بالغلام فقطعت أنثياه وصلب. وأمر المرأة فجامعها الناس حتى ماتت. ثم جاء السلطان إلى الساحل فاعتذر عما جرى، وقال: إنا لا نجد بداً من إمضاء أحكامنا. ووهب لصاحب المركب غلاماً عوض الغلام المطلوب، ثم سافرنا عن هؤلاء. وبعد خمسة وعشرين يوماً وصلنا إلى جزيرة الجاوة " بالجيم "، وهي التي ينسب إليها اللبان الجاوي. رأيناها على مسيرة نصف يوم. وهي خضرة نضرة.وأكثر أشجارها النارجيل والفوفل والقرنفل والعود الهندي والشكي والبركي والعنبة والجمون والنارنج الحلو وقصب الكافور. وبيع أهلها وشراؤهم بقطع قصدير وبالذهب الصيني التبر غير المسبوك. والكثير من أفاويه الطيب التي ببلاد الكفار إنما هو منها، وأما ببلاد المسلمين فهو أقل من ذلك. ولما وصلنا المرسى خرج إلينا أهلها في مراكب صغار، ومعهم جوز النارجيل والموز والعنبة والسمك. وعادتهم أن يهدوا ذلك للتجار، فيكافئهم كل إنسان على قدره. وصعد إلينا أيضاً نائب صاحب البحر، وشاهد من معنا من التجار، وأذن لنا في النزول إلى البر. فنزلنا إلى البندر، وهي قرية كبيرة على ساحل البحر، بها دور اسمها السرحى " بفتح السين المهمل وسكون الراء وفتح الحاء المهمل "، وبينها وبين البلد أربعة أميال. ثم كتب بهروز نائب صاحب البحر إلى السلطان فعرفه بقدومي، فأمر الأمير دولسة بلقائي، والقاضي الشريف أمير سيد الشيرازي، وتاج الدين الأصفهاني، وسواهم من الفقهاء، فخرجوا لذلك وجاءوا بفرس من مراكب السلطان، وأفراس سواه فركبت، وركب أصحابي، ودخلنا إلى حضرة السلطان، وهي مدينة سمطرة " بضم السين المهمل وسكون الطاء وفتح الراء "، مدينة حسنة كبيرة، عليها سور خشب وأبراج خشب.
ذكر سلطان الجاوة
وهو السلطان الملك الظاهر من فضلاء الملوك وكرمائهم، شافعي المذهب محب في الفقهاء يحضرون مجلسه للقراءة والمذاكرة وهو كثير الجهاد والغزو ومتواضع يأتي إلى صلاة الجمعة ماشياً على قدميه وأهل بلاده شافعية محبون في الجهاد يخرجون معه تطوعاً وهم غالبون على من يليهم من الكفار والكفار يعطونهم الجزية على الصلح.
ذكر دخولنا إلى داره وإحسانه إلينا
ولما قصدنا إلى دار السلطان وجدنا بالقرب منه رماحاً مركوزة على جانبي الطريق، وهي علامة على نزول الناس، فلا يتجاوزها من كان راكباً. فنزلنا عندها ودخلنا المشور، فوجدنا نائب السلطان. وهو يسمى عمدة الملك. فقام إلينا وسلم علينا، وسلامهم بالمصافحة وقعدنا معه. وكتب بطاقة إلى السلطان يعلمه بذلك، وختمها ودفعها لبعض الفتيان. فأتاه الجواب على ظهرها. ثم جاء أحد الفتيان ببقشة والبقشة " بضم الباء الموحدة وسكون القاف وفتح الشين المعجم "، هي السبنية فأخذها النائب بيده، وأخذ بيدي وأدخلني إلى دويرة يسمونها فردخانة، على وزن زردخانة " إلا أن أولها فاء "، وهي موضع راحته بالنهار فإن العادة أن يأتي نائب السلطان إلى المشور بعد الصبح، ولا ينصرف إلا بعد العشاء الآخرة، وكذلك الوزراء والأمراء الكبار. وأخرج من البقشة ثلاث فوط: إحداهما من خالص الحرير، والأخرى حرير وقطن، وأخرى حرير وكتان. وأخرج ثلاثة أثواب، يسمونها التحتانيات من جنس الفوط، وأخرج ثلاثة من الثياب مختلفة الأجناس، تسمى الوسطانيات، وأخرج ثلاثة أثواب من الأرمك، أحدها أبيض، وأخرج ثلاث عمائم. فلبست فوطة منها عوضاً عن السراويل على عادتهم، وثوباً من كل جنس. وأخذ أصحابي ما بقي منها.
ثم جاءوا بالطعام، أكثره الأرز، ثم أتوا بنوع من الفقاع، ثم أتوا بالتنبول، وهو علامة الانصراف، فأخذناه وقمنا، وقام النائب لقيامنا، وخرجنا عن المشور، فركبنا وركب النائب معنا. وأتوا بنا إلى بستان عليه حائط خشب، وفي وسطها دار بناؤها بالخشب، مفروشة بقطائف قطن يسمونها المخملات " بالميم والخاء المعجم "، ومنها مصبوغ وغير مصبوغ. وفي البيت أسره من الخيزران، فوقها مضربات من الحرير، ولحف خفاف، ومخاد، يسمونها البوالشت، فجلسنا بالدار، ومعنا النائب. ثم جاء الأمير دولسة بجاريتين وخادمين، وقال لي: يقول لك السلطان هذا على قدرنا، لا على قدر السلطان محمد، ثم خرج النائب، وبقي الأمير دولسة عندي. وكانت بيني وبينه معرفة. لأنه كان ورد رسولاً على السلطان بدهلي. فقلت له: متى تكون رؤية السلطان ? فقال لي: إن العادة عندنا أن لا يسلم القادم على السلطان. إلا بعد ثلاثة أيام ليذهب عنه تعب السفر. ويثوب إليه ذهنه. فأقمنا ثلاثة أيام، يأتي إلينا بالطعام ثلاث مرات في اليوم، وتأتينا الفواكه والطرف مساء وصباحاً. فلما كان اليوم الرابع، وهو يوم الجمعة، أتاني الأمير دولسة فقال لي: يكون سلامك على السلطان بمقصورة الجامع بعد الصلاة. فأتيت الجامع وصليت به الجمعة مع حاجبه قيران " بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف والراء "، ثم دخلت إلى السلطان، فوجدت القاضي أمير سيد، والطلبة عن يمينه وشماله. فصافحني وسلمت عليه، وأجلسني عن شماله، وسألني عن السلطان محمد، وعن أسفاري فأجبته، وعاد إلى المذاكرة في الفقه على مذهب الإمام الشافعي. ولم يزل كذلك إلى صلاة العصر، فلما صلاها دخل بيتاً هنالك، فنزع الثياب التي كانت عليه، وهي ثياب الفقهاء، وبها يأتي الجامع يوم الجمعة ماشياً، ثم لبس ثياب الملك، وهي الأقبية من الحرير والقطن.
ذكر انصرافه إلى داره وترتيب السلام عليه
ولما خرج من الجامع وجد الفيلة والخيل على بابه، والعادة عندهم أنه إذا ركب السلطان الفيل، ركب من معه الخيل. وإذا ركب الفرس، ركبوا الفيلة. ويكون أهل العلم عن يمينه، فركب ذلك اليوم على الفيل، وركبنا الخيل وسرنا معه إلى المشور. فنزلنا حيث العادة، ودخل السلطان راكباً وقد اصطف في المشور الوزراء والأمراء والكتاب وأرباب الدولة ووجوه العسكر صفوفاً، فأول الصفوف صف الوزراء والكتاب، ووزراؤه أربعة، فسلموا عليه وانصرفوا إلى موضع وقوفهم، ثم صف المراء فسلموا وموضوا إلى مواقفهم. وكذلك تفعل كل طائفة، ثم صف الشارفاء والفقهاء، ثم صف الندماء والحكماء والشعراء، ثم صف وجوه العسكر، ثم صف الفتيان والمماليك. ووقف السلطان على فيه إزاء قبة الجلوس، ورفع فوق رأسه شطر مرصع، وجعل عن يمينه خمسون فيلاً مزينة، وعن شماله مثلها، وعن يمينه أيضاً مائة فرس، وعن شماله مثلها، وهي خيل النوبة، ووقف بين يديه خواص الحجاب. ثم أتى أهل الطرب من الرجال فغنوا بين يديه، وأتى بخيل مجللة بالحرير، لها خلاخيل ذهب وأرسان حرير مزركشة، فرقصت الخيل بين يديه. فعجبت من شأنه، وكنت رأيت ذلك عند ملك الهند. ولما كان عند الغروب دخل السلطان إلى داره، وانصرف الناس إلى منازلهم.
ذكر خلاف ابن أخيه وسبب ذلك
وكان له ابن أخ متزوج ببنته، فولاه بعض البلاد. وكان الفتى بتعشق بنتاً لبعض الأمراء، ويريد تزوجها. والعادة هنالك أنه إذا كانت لرجل من الناس أمير أو سوقي أو سواه بنت قد بلغت مبلغ النكاح، فلابد أن يستأمر للسلطان في شأنها، ويبعث السلطان من النساء من تنظر إليها، فإن أعجبته صفتها تزوجها، وإلا تركها يزوجها أولياؤها ممن شاءوا. والناس هنالك يرغبون في تزوج السلطان بناتهم، لما يحوزون به من الجاه والشرف. ولما استأمر والد البنت التي تعشقها ابن أخي السلطان، بعث السلطان من نظر إليها وتزوجها. واشتد شغف الفتى بها ولم يجد سبيلاً إليها. ثم إن السلطان خرج إلى الغزو، وبينه وبين الكفار مسيرة شهر. فخالفه ابن أخيه إلى سمطرة، ودخلها إذ لم يكون عليها سور حينئذ، وادعى الملك، وبايعه بعض الناس، وامتنع آخرون. وعلم عمه بذلك، فقفل راجعاً عائداً إليها فأخذ ابن أخيه ما قدر عليه من الأموال والذخائر، وأخذ الجارية التي تعشقها، وقصد بلاد الكفار بمل جاوه. ولهذا بنى عمه السور على سمطرة. وكانت إقامتي عنده بسمطرة خمسة عشر يوماً، ثم طلبت منه السفر إذ كان أوانه. ولا يتهيأ السفر إلى الصين في كل وقت. فجهز لنا جنكاً، وزودنا، وأحسن وأجمل جزاه الله خيراً، وبعث معنا من أصحابه من يأتي لنا بالضيافة إلى الجنك. وسافرنا بطول بلاده إحدا وعشرين ليلة، ثم وصلنا إلى مل جاوه " بضم الميم "، وهي بلاد الكفار وطولها مسيرة شهرين، وبها الأفاويه العطره والعود الطيب القاقلي والقماري، وقاقلة وقمارة من بعض بلادها، وليس ببلاد السلطان الظاهر بالجاوة إلا اللبان والكافور وشيء من القرنفل وشيء من العود الهندي، وإنما معظم ذلك بمل جاوه. ولنذكر ما شهدناه منها، ووقفنا على أعيانه وحققناه.
ذكر اللبان
وشجرة اللبان صغيرة تكون بقدر قامة الإنسان إلى ما دون ذلك، وأغصانها كأغصان الخرشف، وأوراقها صغار رقاق، وربما سقطت فبقيت الشجرة منها دون ورقة. واللبان صمغية تكون في أغصانها. وهي في بلاد المسلمين أكثر منها في بلاد الكفار.
ذكر الكافور
وأما شجرة الكافور فهي قصب كقصب بلادنا، إلا أن الأنابيب منها أطول وأغلظ. ويكون الكافور داخل الأنابيب، فإذا كسرت القصبة وجد في داخل الأنبوب مثل شكله من الكافور. والسر العجيب فيه أنه لا يتكون في تلك القصب، حتى يذبح عند أصولها شيء من الحيوان، وإلا لم يتكون شيء منه. والطيب المتناهي في البرودة الذي يقتل منه وزن الدرهم، بتجميد الروح، وهو المسمى عندهم بالحردالة، وهو الذي يذبح عند قصبه الآدمي، ويقوم مقام الآدمي في ذلك الفيلة الصغار.
ذكر العود الهندي
وأما العود الهندي فشجره يشبه شجر البلوط، إلا أن قشره رقيق، وأوراقه كأوراق البلوط سواء، ولا ثمر له. وشجرته لا تعظم كل العظم، وعروقه طويلة، وفيها الرائحة العطرة. وأما عيدان شجرته وورقها، فلا عطرية فيها. وكل ما ببلاد المسلمين من شجره فهو متملك. وأما الذي في بلاد الكفار فأكثره غير متملك. والمتملك منه ما كان بقاقلة، وهو أطيب العود. وكذلك القماري هو أطيب أنواع العود، ويبيعونه لأهل الجاوة بالأثواب. ومن القماري صنف يطبع عليه الشمع. وأما العطاس فإنه يقطع العرق منه، ويدفن في التراب أشهراً، فتبقى فيه قوته، وهو من أعجب أنواعه.
ذكر القرنفل
وأما أشجار القرنفل فهي عادية ضخمة، وهي ببلاد الكفار أكثر منها ببلاد الإسلام، وليست بمتملكة لكثرتها. والمجلوب إلى بلادنا منها هو العيدان، والذي يسميه أهل بلادنا نوار القرنفل، هو الذي يسقط من زهره، وهو شبيه بزهر النارنج. وثمر القرنفل هو جوز بوا المعروفة في بلادنا بجوزة الطيب، والزهر المتكون فيها هو البسباسة، رأيت ذلك كله وشاهدته. ووصلنا إلى مرسى قاقلة، فوجدناه به جملة من الجنوك معد للسرقة. ولمن يستعصي عليهم من الجنوك، فإن لهم على كل جنك وظيفة. ثم نزلنا من الجنك إلى مدينة قاقلة " وهي بقافين آخرها مضموم ولامها مفتوح "، وهي مدينة حسنة، عليها سور من حجارة منحوتة، عرضه بحيث تسير فيه ثلاثة من الفيلة. وأول ما رأيت بخارجها الفيلة عليها الأحمال من العود الهندي يوقدونه في بيوتهم، وهو بقيمة الحطب عندنا أو أرخص ثمناً، هذا إذا ابتاعوا فيما بينهم. وأما للتجار فيبيعون الحمل منه بثوب من ثياب القطن، وهي أغلى عندهم من ثياب الحرير. والفيلة بها كثيرة جداً، عليها يركبون ويحملون. وكل إنسان يربط فيلته على بابه، وكل صاحب حانوت يربط فيله عنده، يركبه إلى داره ويحمل له. وكذلك جميع أهل الصين، والخطا على مثل هذا الترتيب.
ذكر سلطان مل جاوه
وهو كافر، رأيته خارج قصره جالساً على قبة ليس بينه وبين الأرض بساط، ومعه أرباب دولته. والعساكر يعرضون عليه مشاة، ولا خيل هنالك إلا عند السلطان، وإنما يركبون الفيلة، وعليها يقاتلون. فعرف شأني، فاستدعاني فجئت وقلت: السلام على من اتبع الهدى، فلم يفقهوا إلا لفظ السلام. فرحب بي، وأمر أن يفرش لي ثوب اقعد عليه. فقلت للترجمان: كيف أجلس على الثوب والسلطان قاعد على الأرض ? فقال: هكذا عادته يقعد على الأرض تواضعاً، وأنت ضيف، وجئت من سلطان كبير، فيجب إكرامك، فجلست، وسألني عن السلطان، فأوجز في سؤاله، وقال لي: تقيم عندنا في الضيافة ثلاثة أيام، وحينئذ يكون انصرافك.
ذكر عجيبة رأيتها بمجلسه ورأيت في مجلس هذا السلطان رجلاً بيده سكين شبه سكين المسفر، قد وضعه على رقبة نفسه، وتكلم بكلام كثير لم أفهمه، ثم أمسك السكين بيديه معاً وقطع عنق نفسه، فوقع رأسه لحدة السكين، وشدة إمساكه بالأرض. فعجبت من شأنه، وقال لي السلطان: أيفعل أحد هذا عندكم ? فقلت له: ما رأيت هذا قط. فضحك وقال: هؤلاء عبيدنا، يقتلون أنفسهم في محبتنا. وأمر به فرفع وأحرق. وخرج لإحراقه النواب وأرباب الدولة والعساكر والرعايا. وأجرى الرزق الواسع على أولاده وأهله وإخوانه، وعظموا لأجل فعله. وأخبرني من كان حاضراً في ذلك المجلس أن الكلام الذي تكلم به، كان تقريراً لمحبته في السلطان، وأنه يقتل نفسه في حبه، كما قتل أبوه نفسه في حب أبيه، وجده قتل نفسه في حب جده، ثم انصرفت عن المجلس. وبعث إلي بضيافة ثلاثة أيام. وسافرنا في البحر فوصلنا بعد أربعة وثلاثين يوماً إلى البحر الكاهل، وهو الراكد وفيه حمرة زعموا أنها من تربة أرض تجاوره. ولا ريح فيه ولا موج ولا حركة مع اتساعه. ولأجل هذا البحر تتبع كل جنك من جنوك الصين ثلاثة مراكب، كما ذكرناه، تجذف به فتجره. ويكون في الجنك مع ذلك نحو عشرين مجذافاً كباراً كالصواري، يجتمع على المجذاف منها ثلاثون رجلاً أو نحوها، ويقومون قياماً صفين، كل صف يقابل الآخر. وفي المجذاف حبلان عظيمان كالطوابيس. فتجذف إحدى الطائفتين الحبل، ثم تتركه، وتجذف الطائفة الاخرى. وهم يغنون عند ذلك بأصواتهم الحسان، وأكثر ما يقولون: لعلى لعلى. وأقمنا على ظهر هذا البحر سبعة وثلاثين يوماً، وعجبت البحرية من التسهيل فيه، فإنهم يقيمون فيه خمسين يوماً إلى أربعين، وهي أنهى ما يكون التيسير عليهم. ثم وصلنا إلى بلاد طوالسي وهي " بفتح الطاء المهمل والواو وكسر السين المهمل "، وملكها هو المسمى بطوالسي. وهي بلاد عريضة، وملكها يضاهي ملك الصين. وله الجنوك الكثيرة، يقاتل بها أهل الصين حتى يصالحوه على شيء. وأهل هذه البلاد عبدة أوثان، حسان الصور، أشبه الناس بالترك في صورهم، والغالب على ألوانهم الحمرة، ولهم شجاعة ونجدة. ونساؤهم يركبن الخيل، ويحسن الرماية، ويقاتلن كالرجال سواء. وأرسينا من مراسيهم بمدينة كيلوكري " وضبطها بكاف مفتوح وياء آخر الحروف مسكنة ولام مضموم وراء مكسور "، وهي من أحسن مدنهم وأكبرها، وكان يسكن بها ابن ملكهم. فلما أرسينا بالمرسى جاءت عساكرهم، ونزل الناخوذة إليهم، ومعه هدية لابن الملك، فسألهم عنه، فأخبروه أن أباه ولاه بلداً غيرهم، وولى بنته بتلك المدينة واسمها أردجا " بضم الهمزة وسكون الراء وضم الدال المهمل وجيم ".
ذكر هذه الملكة ولما كان في اليوم الثاني من حلولنا بمرسي كيلوكري، استدعت هذه الملكة الناخوذة صاحب المركب والكراني، وهو الكاتب، والتجار، والرؤساء، والتنديل، وهو مقدم الرجال، وسباه سالار، وهو مقدم الرماة، لضيافة صنعتها لهم على عادتها. ورغب الناخوذة مني أن أحضر معهم. فأتيت، لأنهم كفار لا يجوز أكل طعامهم. فلما حضروا عندها، قالت لهم: هل بقي أحد منكم لم يحضر ? فقال لها الناخوذة: لم يبق إلا رجل واحد بخشي وهو القاضي بلسانهم، وبخشي " بفتح الباء الموحدة وسكون الحاء وكسر الشين المعجمة "، وهو لا يأكل طعامكم. فقالت: ادعوه. فجاء جنادرتها وأصحاب الناخوذة، فقالوا: أجب الملكة. فأتيتها، وهي بمجلسها الأعظم، وبين يديها نسوة، بأيديهن الأزمة، يعرضن ذلك عليها، وحولها النساء القواعد، وهن وزيراتها، وقد جلسن تحت السرير على كراسي الصندل، وبين يديها الرجال. ومجلسها مفروش بالحرير، وعليه ستور حرير وخشبه من الصندل، وعليه صفائح الذهب. وبالمجلس مساطب خشب، منقوش عليها أواني ذهب كثيرة من كبار وصغار كالخوابي والقلال والبواقيل. أخبرني الناخوذة أنها مملوءة بشراب مصنوع من السكر مخلوط بالأفاويه، يشربونه بعد الطعام، وأنه عطر الرائحة حلو المطعم، يفرح ويطيب النكهة، ويهضم، ويعين على الباءة. فلما سلمت على الملكة قالت لي بالتركية: حسن مسن يخشي مسن " خوشميسن يخشميسن "، ومعناه: كيف حالك ? كيف أنت ? وأجلستني على قرب منها وكانت تحسن الكتاب العربي، فقالت لبعض خدامها: دواة وبتك كاتور " كتور " معناه: الدواة والكاغد. فأتي بذلك فكتبت فيه بسم الله الرحمن الرحيم. فقالت: ما هذا ? فقلت لها: تنضري " تنكري " نام، وتنضري " بفتح التاء المعلوة وسكون النون وفتح الضاد وراء وياء " ونام " بنون والف وميم "، ومعنى ذلك اسم الله. فقالت: خشن " خوش "، ومعناه جيد. ثم سألتني من أي البلاد قدمت، فقلت لها من بلاد الهند. فقالت: بلاد الفلفل. فقلت: نعم. فسألتني عن تلك البلاد وأخبارها فأجبتها.
فقالت: لا بد أن أغزوها وآخذها لنفسي، فإني يعجبني كثرة مالها وعساكرها. فقلت لها: افعلي. وأمرت لي بأثواب وحمل فيلين من الأرز وبجاموستين وعشر من الضأن وأربعة أرطال جلاب وأربع مرطبانات، وهي أوانٍ ضخمة، مملوءة بالزنجبيل والفلفل والليمون والعنبا. كل ذلك مملوح مما يستعد به للبحر، وأخبرني الناخوذة أن هذه الملكة في عسكرها نسوة وخدم وجوارٍ يقاتلن كالرجال، وأنها تخرج في العساكر من رجال ونساء، فتغير على عدوها، وتشاهد القتال، وتبارز الابطال. وأخبرني أنها وقع بينها وبين بعض أعدائها قتال شديد، وقتل كثير من عسكرها، وكادوا ينهزمون، فدفعت بنفسها، وخرقت الجيوش، حتى وصلت إلى الملك الذي كانت تقاتله، فطعنته طعنة كان فيها حتفه فمات، وانهزمت عساكره. وجاءت برأسه على رمح فافتكه أهله منها بمال كثير. فلما عادت إلى أبيها ملكها تلك المدينة التي كانت بيد أخيها. وأخبرني أن أبناء الملوك يخطبونها، فتقول: لا أتزوج إلا من يبارزني فيغلبني. فيتحامون مبارزتها، خوف المعرة إن غلبتهم. ثم سافرنا عن بلاد طوالسي فوصلنا بعد سبعة عشر يوماً والريح مساعدة لنا، ونحن نسير بها أشد السير وأحسنه إلى بلاد الصين. وإقليم الصين متسع، كثير الخيرات والفواكه والزرع والذهب والفضة، لا يضاهيه في ذلك إقليم من أقاليم الأرض. ويخترقه النهر المعروف بآب حياة، معنى ذلك ماء الحياة، ويسمى أيضاً نهر السبر " السرو "، كاسم النهر الذي بالهند ومنبعه من جبال بقرب مدينة خان بالق تسمى كوه بوزنه، معناه جبل القرود، ويمر في وسط الصين مسيرة ستة أشهر إلى أن ينتهي إلى صين الصين. وتكتنفه القرى والمزارع والبساتين والأسواق كنيل مصر، إلا أن هذا اكثر عمارة وعليه النواعير الكثيرة. وببلاد الصين السكر الكثير مما يضاهي المصري، بل يفضله، والأعناب والإجاص. وكنت أظن أن الإجاص العثماني الذي بدمشق لا نظير له، حتى رأيت الإجاص الذي بالصين. وبها البطيخ العجيب، يشبه بطيخ خوارزم وأصفهان. وكل ما ببلادنا من الفواكه فإن بها ما هو مثله وأحسن منه. والقمح بها كثير جداً، ولم أر قمحاً أطيب منه، وكذلك العدس والحمص.
ذكر الفخار الصيني
وأما الفخار الصيني فلا يصنع منه إلا بمدينة الزيتون وبصين كلان. وهو من تراب جبال هنالك، تقد فيه النار كالفحم، وسنذكر ذلك، ويضيفون إليه حجارة عندهم. ويوقدون النار عليها ثلاثة أيام، ثم يصبون عليها الماء، فيعود الجميع تراباً، ثم يخمرونه. فالجيد منه ما خمر شهراً كاملاً، ولا يزاد على ذلك. والدون ما خمر عشرة أيام. وهو هنالك بقيمة الفخار ببلادنا أو أرخص ثمناً. ويحمل إلى الهند وسائر الاقاليم، حتى يصل إلى بلادنا بالمغرب. وهو أبدع أنواع الفخار.
ذكر دجاج الصين
ودجاج الصين وديوكها ضخمة جداً، أضخم من الأوز عندنا. وبيض الدجاج عندهم أضخم من بيض الإوز عندنا. وأما الإوز عندهم فلا ضخامة لها. ولقد اشترينا دجاجة، فأردنا طبخها، فلم يسع لحمها في برمة واحدة، فجعلناها في برمتين. ويكون الديك بها على قدر النعامة. وربما انتتف ريشها، فيبقى بضعة حمراء. وأول ما رأيت الديك الصيني بمدينة كولم، فظننته نعامة وعجبت منه، فقال لي صاحبه: إن ببلاد الصين ما هو أعظم منه. فلما وصلت إلى الصين رأيت مصداق ما أخبرني به من ذلك
ذكر بعض من أحوال أهالي الصين
وأهل الصين كفار يعبدون الأصنام، ويحرقون موتاهم كما تفعل الهنود. وملك الصين تتري من ذرية تنكيز خان. وفي كل مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين، ينفردون بسكناهم. ولهم فيها المساجد لإقامة الجمعات وسواها. وهم معظمون محترمون. وكفار الصين يأكلون لحوم الخنازير والكلاب، ويبيعونها في أسواقهم. وهم أهل رفاهية وسعة عيش، إلا أنهم لا يحتفلون في مطعم ولا ملبس. وترى التاجر الكبير منهم الذي لا تحصى أمواله كثرة، وعليه جبة قطن خشنة. وجميع أهل الصين إنما يحتفلون في أواني الذهب والفضة. ولكل واحد منهم عكاز يعتمد عليه في المشي، ويقولون هو الرجل الثالثة. والحرير عندهم كثير جداً، لأن الدودة تتعلق بالثمار وتأكل منها فلا تحتاج إلى كثير مؤونة، ولذلك كثر، وهو لباس الفقراء والمساكين بها، ولولا التجار لما كانت له قيمة. ويباع الثوب الواحد من القطن عندهم بالأثواب الكثيرة من الحرير. وعادتهم أن يسبك التاجر ما يكون عنده من الذهب والفضة قطعاً، تكون القطعة منها من قنطار فما فوقه وما دونه، ويجعل ذلك على باب داره. ومن كان له خمس قطع منها، جعل في إصبعه خاتماً، ومن كانت له عشر جعل خاتمين، ومن كان له خمس عشرة سموه الستي " بفتح السين المهمل وكسر التاء المعلوة " وهو بمعنى الكارمي بمصر. ويسمون القطعة الواحدة منها بركالة " بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف واللام ".
ذكر دراهم الكاغد التي بها يبيعون ويشترون
وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم. وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعاً، كما ذكرناه، وإنما بيعهم وشراؤهم. بقطع كاغد، كل قطعة منها بقدر الكف، مطبوعة بطابع السلطان، وتسمى الخمس والعشرون قطعة منها، بالشت " بباء موحدة والف ولام مكسور وسين معجم مسكن وتاء معلوة "، وهو بمعنى الدينار عندنا. وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا، فأخذ عوضها جدداً ودفع تلك. ولا يعطى على ذلك أجرة ولا سواها، لأن الذين يتولون عملها لهم الأرزاق الجارية من قبل السلطان، وقد وكل بتلك الدار أمير من كبار الأمراء. وإذا مضى الإنسان إلى السوق بدرهم فضة أو دينار يريد شراء شيء، لم يؤخذ منه، ولا يلتفت عليه، حتى يصرفه بالبالشت، ويشتري به ما أراد.
ذكر التراب الذي يوقدونه مكان الفحم
وجميع أهل الصين والخطا، إنما فحمهم تراب عندهم، منعقد كالطفل عندنا، ولونه لون الطفل، تأتي الفيلة بالأحمال منه، فيقطعونه قطعاً على قدر قطع الفحم عندنا، ويشعلون النار فيه. فيقد كالفحم، وهو أشد حرارة من نار الفحم. وإذا صار رماداً عجنوه بالماء ويبسوه وطبخوا به ثانية. ولا يزالون يفعلون به كذلك إلى أن يتلاشى. ومن هذا التراب يصنعون أواني الفخار الصيني، ويضيفون إليه حجارة سواه، كما قلنا.
ذكر ما خصوا به من إحكام الصناعات

وأهل الصين أعظم الأمم إحكاماً للصناعات، وأشدهم إتقاناً فيها، وذلك مشهور من حالهم، قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه، وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه، من الروم ولا من سواهم. فإن لهم فيه اقتداراً عظيماً. ومن عجيب ما شاهدت لهم من ذلك، أني ما دخلت قط مدينة من مدنهم، ثم عدت إليها، إلا ورأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد، موضوعة في الأسواق.
ولقد دخلت إلى مدينة السلطان فمررت على سوق النقاشين، ووصلت إلى قصره مع أصحابي، ونحن على زي العراقيين. فلما عدت من القصر عشياً، مررت بالسوق المذكورة، فرأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في كاغد قد ألصقوه بالحائط. فجعل الواحد منا ينظر إلى صورة صاحبه لا تخطئ شيئاً من شبهه.
وذكر لي أن السلطان أمرهم بذلك، وأنهم أتوا إلى قصره ونحن به، فجعلوا ينظرون إلينا ويصورون صورنا، ونحن لم نشعر بذلك، وتلك عادة لهم في تصوير كل من يمر بهم. وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعل ما يوجب فراره عنهم، بعث صورته إلى البلاد، وبحث عنه. فحيثما وجد شبه تلك الصورة أخذ. قال ابن جزي: هذا مثل ما حكاه أهل التأريخ من قضية سابور ذي الأكتاف، ملك الفرس، حين دخل إلى بلاد الروم متنكراً، وحضر وليمة صنعها ملكهم، وكانت صورته على بعض الأواني فنظر إليها بعض خدام قيصر، فانطبعت على صورة سابور. فقال لملكه: إن هذه الصورة تخبرني أن كسرى معنا في هذا المجلس. فكان الأمر على ما قاله، وجرى فيه ما هو مسطور في الكتب.
ذكر عادتهم في تقييد ما في المراكب
وعادة أهل الصين إذا أراد جنك من جنوكهم السفر، صعد إليه صاحب البحر وكتابه، وكتبوا من يسافر فيه من الرماة والخدم والبحرية، وحينئذ يباح لهم السفر. فإذا عاد الجنك إلى الصين، صعدوا إليه أيضاً وقابلوا ما قيدوه بأشخاص الناس، فإن فقدوا أحداً ممن قيدوه، طالبوا صاحب الجنك. فإما أن يأتي ببرهان على موته أو فراره، أو غير ذلك مما يحدث عليه، وإلا أخذ فيه. فإذا فرغوا من ذلك أمروا صاحب المركب أن يملي عليهم تفصيلاً بجميع ما فيه من السلع، قليلها وكثيرها، ثم ينزل من فيه، ويجلس حفاظ الديوان لمشاهدة ما عندهم. فإن عثروا على سلعة قد كتمت عنهم، عاد الجنك بجميع ما فيه مالاً للمخزن وذلك نوع من الظلم ما رأيته ببلاد الكفار ولا المسلمين إلا بالصين، اللهم إلا أنه كان بالهند ما يقرب منه، وهو أن من عثر على سلعة له قد غاب على مغرمها، أغرم احد عشر مغرماً، ثم رفع السلطان ذلك لما رفع المغارم.
ذكر عادتهم في منع التجار عن الفساد
وإذا قدم التاجر المسلم على بلد من بلاد الصين خير في النزول عند تاجر من المسلمين المتوطنين معين أو في الفندق، فإن أحب النزول عند التاجر حصر ماله، وضمنه التاجر المستوطن، وأنفق عليه منه بالمعروف. فإذا أراد السفر بحث عن ماله، فإن وجد شيئاً منه قد ضاع، أغرمه التاجر المستوطن الذي ضمنه، وإن أراد النزول بالفندق، سلم ماله لصاحب الفندق وضمنه، وهو يشتري له ما أحب ويحاسبه، فإن أراد التسري اشترى له جارية، وأسكنه بدار يكون بابها في الفندق، وأنفق عليهما. والجواري رخيصات الأثمان، إلا أن أهل الصين أجمعين يبيعون أولادهم وبناتهم، وليس ذلك عيباً عندهم غير أنهم لا يجبرون على السفر مع مشتريهم، ولا يمنعون أيضاً منه إن اختاروه. وكذلك إن أراد التزوج تزوج. وأما إنفاق ماله في الفساد فشيء لا سبيل له إليه. ويقولون: لا نريد أن يسمع في بلاد المسلمين أنهم يخسرون أموالهم في بلادنا، فإنها أرض ضلال.
ذكر حفظهم للمسافرين في الطرق
وبلاد الصين آمن البلاد وأحسنها حالاً للمسافرين. فإن الإنسان يسافر منفرداً مسيرة تسعة شهور، وتكون معه الأموال الطائلة، فلا يخاف عليها. وترتيب ذلك أن لهم في كل منزل ببلادهم فندقاً، عليه حاكم يسكن به في جماعة من الفرسان والرجال، فإذا كان بعد المغرب أو العشاء، جاء الحاكم إلى الفندق، ومعه الكاتب لكتابة أسماء جميع من يبيت به من المسافرين، وختم عليها، وأقفل باب الفندق عليهم. فإذا كان بعد الصبح جاء ومعه كاتبه فدعا كل واحد باسمه، وكتب به تفصيلاً، وبعث معهم من يوصلهم إلى المنزل الثاني له، ويأتيه ببراءة من حاكمه أن الجميع قد وصلوا إليه. وإن لم يفعل طلبه بهم. وهكذا العمل في كل منزل ببلادهم من صين الصين إلى خان بالق. وفي هذه الفنادق جميع ما يحتاج إليه المسافر من الأزواد، وخصوصاً الدجاج والإوز. وأما الغنم فهي قليلة عندهم. ولنعد إلى ذكر سفرنا فنقول: لما قطعنا البحر، كانت أول مدينة وصلنا إليها مدينة الزيتون. وهذه المدينة ليس بها زيتون، ولا بجميع بلاد أهل الصين والهند، ولكنه اسم وضع عليها، وهي مدينة عظيمة كبيرة، تصنع بها ثياب الكمخا والأطلس، وتعرف بالنسبة إليها، وتفضل على الثياب الخنساوية والخنبالقية. ومرساها من أعظم مراسي الدنيا، أو هو أعظمها. رأيت بها نحو مائة جنك كبار، وأما الصغار فلا تحصى كثرة. وهو خور كبير من البحر يدخل في البر حتى يختلط بالنهر الأعظم. وهذه المدينة وجميع بلاد الصين، يكون للإنسان بها البستان والأرض وداره في وسطها. كمثل ما هي بلدة سجلماسة ببلادنا. وبهذا عظمت بلادهم. والمسلمون ساكنون بمدينة على حدة. وفي يوم وصولي إليها رأيت بها الأمير الذي توجه إلى الهند رسولاً بالهدية، ومضى في صحبتنا وغرق به الجنك، فسلم علي، وعرف صاحب الديوان بي، فأنزلني في منزل حسن. وجاء إلي قاضي المسلمين تاج الدين الأردويلي، وهو من الأفاضل الكرماء، وشيخ الإسلام كمال الدين عبد الله الأصفهاني، وهو من الصلحاء، وجاء إلي كبار التجار، فيهم شرف الدين التبريزي، أحد التجار الذين استدنت منهم حين قدومي على الهند، وأحسنهم معاملة، حافظ القرآن، مكثر للتلاوة. وهؤلاء التجار لسكناهم في بلاد الكفار، إذا قدم عليهم المسلم فرحوا به أشد الفرح، وقالوا: جاء من أرض الإسلام. وله يعطون زكوات أموالهم، فيعود غنياً، كواحد منهم. وكان بها من المشايخ الفضلاء برهان الدين الكازروني، له زاوية خارج البلد، وإليه يدفع التجار النذور التي ينذرونها للشيخ أبي إسحق الكازروني. ولما عرف صاحب الديوان أخباري، كتب إلى القان، وهو ملكهم الأعظم، يخبره بقدومي من جهة ملك الهند. فطلبت منه أن يبعث معي من يوصلني لبلاد الصين " صين الصين "، وهم يسمونه صين كلان، لأشاهد تلك البلاد، وهي في عمالته، بخلال ما يعود جواب القان. فأجاب إلى ذلك، وبعث معي من أصحابي من يوصلني. وركبت في النهر، في مركب يشبه أجفان بلادنا الغزوية، إلا أن الجذافين يجذفون فيه قياماً، وجميعهم في وسط المركب، والركاب في المقدم والمؤخر، ويظللون على المركب بثياب تصنع من نبات بلادهم، يشبه الكتان، وليس به، وهو أرق من القنب.
وسافرنا في هذا النهر سبعة وعشرين يوماً. وفي كل يوم نرسو عند الزوال بقرية، نشتري بها ما نحتاج إليه، ونصلي الظهر. ثم ننزل بالعشي إلى أخرى. وهكذا إلى أن وصلنا مدينة صين كلان " بفتح الكاف "، وهي مدينة صين الصين، وبها يصنع الفخار، وبالزيتون أيضاً. وهنالك يصب نهر آب حياة في البحر، يسمونه مجمع البحرين. وهي من أكبر المدن، وأحسنها أسواقاً. ومن أعظم أسواقها سوق الفخار، ومنها يحمل إلى سائر بلاد الصين والهند واليمن. وفي وسط هذه المدينة كنيسة عظيمة، لها تسعة أبواب، داخل كل باب أسطوان ومصاطب، يقعد عليها الساكنون بها، وبين البابين الثاني والثالث منها موضع فيه بيوت يسكنها العميان، وأهل الزمانات. ولكل واحد منهم نفقته وكسوته من أوقاف الكنيسة. وكذلك فيما بين الأبواب كلها. وفي داخلها المارستان للمرضى، والمطبخة لطبخ الأغذية، وفيها الأطباء والخدام. وذكر لي أن الشيوخ الذين لا قدرة لهم على التكسب، لهم نفقتهم وكسوتهم بهذه الكنيسة، وكذلك الأيتام والأرامل ممن لا مال لهم. وعمر هذه الكنيسة بعض ملوكهم، وجعل هذه المدينة وما إليها من القرى والبساتين وقفاً عليها. وصور ذلك الملك مصورة بالكنيسة المذكورة، وهم يعبدونها. وفي بعض جهات هذه المدينة بلدة المسلمين، لهم بها المسجد الجامع والزاوية والسوق، ولهم قاض وشيخ. ولا بد في كل بلد من بلاد الصين من شيخ الإسلام، تكون أمور المسلمين كلها راجعة إليه، وقاض يقضي بينهم. وكان نزولي عند أوحد الدين السنجاري، وهو أحد الفضلاء الأكابر ذو الأموال الطائلة، وأقمت عنده أربعة عشر يوماً، وتحف القاضي وسائر المسلمين تتوالى علي. وكل يوم يصنعون دعوة جديدة، ويأتون إليها بالعشارين الحسان والمغنين. وليس وراء هذه المدينة مدينة، لا للكفار ولا للمسلمين. وبينها وبين سد يأجوج ومأجوج ستون يوماً فيما ذكر لي، يسكنها كفار رحالة يأكلون بني آدم إذا ظفروا بهم. ولذلك لا تسلك بلادهم ولا يسافر إليها. ولم أر بتلك البلاد من رأى السد، ولا من رأى من رآه.
حكاية عجيبة ولما كنت بصين كلان، سمعت أن بها شيخاً كبيراً قد أناف على مائتي سنة، وأنه لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث، ولا يباشر النساء، مع قوته التامة. وأنه ساكن في غار بخارجها يتعبد فيه. فتوجهت إلى الغار، فرأيته على بابه، وهو نحيف شديد الحمرة، عليه أثر عبادة، ولا لحية له. فسلمت عليه فأمسك يدي وشمها وقال للترجمان: هذا من طرف الدنيا، كما نحن من طرفها الآخر. ثم قال: لقد رأيت عجباً. أتذكر يوم قدومك الجزيرة التي فيها الكنيسة، والرجل الذي كان جالساً بين الأصنام وأعطاك عشرة دنانير من الذهب ? فقلت نعم: فقال: أنا هو. فقبلت يده وفكر ساعة، ثم دخل الغار، فلم يخرج إلينا. كأنه ظهر منه الندم على ما تكلم به، فتهجمنا ودخلنا الغار عليه فلم نجده، ووجدنا بعض أصحابه، ومعه جملة بوالشت من الكاغد. فقال: هذه ضيافتكم. فانصرفوا. فقلنا له: ننتظر الرجل. فقال: لو أقمتم عشر سنين لم تروه. فإن عادته إذا طلع أحد على سر من أسراره لا يراه بعده. ولا تحسب أنه غاب عنك، بل هو حاضر معك. فعجبت من ذلك. وانصرفت. فأعلمت القاضي وشيخ الإسلام وأوحد الدين السنجاري بقضيته، فقالوا: كذلك عادته مع من يأتي إليه من الغرباء، ولا يعلم أحد ما ينتحله من الأديان، والذي ظننتموه أحد أصحابه هو هو. وأخبروني أنه قد غاب عن هذه البلاد نحو خمسين سنة ثم قدم عليها منذ سنة، وكان السلاطين والمراء والكبراء يأتونه زائرين، فيعطيهم التحف على أقدارهم. ويأتيه الفقراء كل يوم، فيعطي لكل واحد على قدره. وليس بالغار الذي هو به ما يقع عليه البصر. وأنه يحدث عن السنين الماضية، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: لو كنت معه لنصرته. ويذكر الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب بأحسن الذكر، ويثني عليهما، ويلعن يزيد بن معاوية، ويقع في معاوية. وحدثوني عنه بأمور كثيرة، وأخبرني أوحد الدين السنجاري قال: دخلت عليه الغار، فأخذ بيدي. فخيل إلي أني في قصر عظيم، وأنه قاعد فيه على سرير، وفوق رأسه تاج، وعلى جانبيه الوصائف الحسان، والفواكه تتساقط في أنهار هنالك، وتخيلت أني أخذت تفاحة لآكلها، فإذا أنا بالغار، وبين يديه، وهو يضحك مني. وأصابني مرض شديد لازمني شهوراً، فلم أعد إليه.
وأهل تلك البلاد يعتقدن أنه مسلم. لكن لم يره أحد يصلي. أما الصيام فهو صائم أبداً. وقال لي القاضي: ذكرت له الصلاة في بعض الأيام، فقال لي: أتدري أنت ما أصنع ? إن صلاتي غير صلاتك. وأخباره جميعها غريبة. وفي اليوم الثاني من لقائه سافرت راجعاً إلى مدينة الزيتون.
ثم بعد وصولي إليها بأيام، جاء أمر القان بوصولي إلى حضرته على البر والكرامة. إن شئت في النهر، وإلا ففي البر. فاخترت السفر في النهر. فجهزوا لي مركباً حسناً من المراكب المعدة لركوب الأمراء، وبعث الأمير معنا أصحابه، ووجه لنا الأمير والقاضي والتجار المسلمون أزواداً كثيرة. ثم سرنا في الضيافة نتغدى بقرية، ونتعشى بأخرى، فوصلنا بعد سفر عشرة أيام إلى مدينة قنجنفو " وضبط اسمها بفتح القاف وسكون النون وفتح الجيم وسكون النون الآخر وضم الفاء وواو " وهي مدينة كبيرة حسنة في بسيط أفيح، والبساتين محدقة بها، فكأنها غوطة دمشق. وعند وصولنا، خرج إلينا القاضي وشيخ الإسلام والتجار، ومعهم الأعلام الطبول والأبواق والأنفار وأهل الطرب. وأتونا بالخيل فركبنا، ومشوا بين أيدينا، لم يركب معنا غير القاضي والشيخ. وخرج أمير البلد وخدامه. وضيف السلطان عندهم معظم أشد التعظيم. دخلنا المدينة، ولها أربعة أسوار. يسكن ما بين السور الأول والثاني عبيد السلطان، من حراس المدينة وسمارها، يسمون البصوانان " الباسوانان " " بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهمل وواو وألف ونون "، ويسكن مابين السور الثاني والثالث الجنود المركبون، والأمير الحاكم على البلد، ويسكن داخل السور الثالث المسلمون. وهنالك نزلنا عند شيخهم ظهير الدين القرلاني " بضم القاف وسكون الراء "، ويسكن داخل السور الرابع الصينيون، وهو أعظم المدن الأربعة. ومقدار ما بين كل باب منها والذي يليه ثلاثة أميال أو أربعة. ولكل إنسان كما ذكرناه بستانه وداره وأرضه.
حكاية وبينا أنا يوماً في دار ظهير الدين القرلابي، إذا بمركب عظيم لبعض الفقهاء المعظمين عندهم. فاستؤذن له علي، وقالوا: مولانا قوام الدين السبتي. فعجبت من اسمه، ودخل إلي. فلما حصلت المؤانسة بعد التحية، سنح لي أن أعرفه. فأطلت النظر إليه، فقال: أراك تنظر إلي نظر من يعرفني، فقلت له: من أي البلاد أنت ? فقال: من سبتة. فقلت له: وأنا من طنجة. فجدد السلام علي وبكى حتى بكيت لبكائه. فقلت له: هل دخلت بلاد الهند ? فقال لي: نعم، دخلت حضرة دهلي. فلما قال لي ذلك تذكرت له، وقلت: أأنت البشري ? قال: نعم. وكان قد وصل إلى دهلي مع خاله أبي القاسم المرسي، وهو يومئذ شاب، لا نبات بعارضيه، من حذاق الطلبة، يحفط الموطأ. وكنت أعلمت سلطان الهند بأمره، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، وطلب منه الإقامة عنده فأبى. وكان قصده في بلاد الصين، فعظم شأنه بها، واكتسب الأموال الطائلة. أخبرني أن له نحو خمسين غلاماً ومثلهم من الجواري. وأهدى إلي منهم غلامين وجاريتين وتحفاً كثيرة. ولقيت أخاه بعد ذلك ببلاد السودان فيما بعد ما بينهما. وكانت إقامتي بقنجنفو خمسة عشر يوماً.
وسافرت منها إلى بلاد الصين، على ما فيها من الحسن لم تكن تعجبني، بل كان خاطري شديد التغير بسبب غلبة الكفر عليها. فمتى خرجت من منزلي رأيت المنكرات الكثيرة، فأقلقني ذلك، حتى كنت ألازم المنزل، فلا أخرج إلا لضرورة. وكنت إذا رأيت المسلمين بها، فكأني لقيت أهلي وأقاربي. ومن تمام فضيلة هذا الفقيه البشري، أن سافر معي لما رحلت عن قنجنفو أربعة أيام، حتى وصلت إلى مدينة بيوم قطلو " وهي بباء موحدة مفتوحة وياء آخر الحروف ساكنة وواو مفتوحة وميم وقاف مضموم وطاء مسكنة ولام مضموم وواو " مدينة صغيرة يسكنها الصينيون من جند وسوقة، وليس بها للمسلمين إلا أربعة من الدور أهلها من جهة الفقيه المذكور. نزلنا بدار أحدهم وأقمنا عنده ثلاثة أيام. ثم ودعت الفقيه وانصرفت. فركبت النهر على العادة، نتغدى بقرية ونتعشى بأخرى إلى أن وصلنا بعد سبعة عشر يوماً إلى مدينة الخنساء، واسمها على نحو اسم الخنساء الشاعرة، ولا أدري، أعربي هو أم وافق العربي. وهذه المدينة أكبر مدينة رأيتها على وجه الأرض. طولها مسيرة ثلاثة أيام يرحل المسافر فيها وينزل. وهي على ماذكرناه من ترتيب عمارة الصين، كل واحد له بستانه وداره. وهي منقسمة إلى ست مدن، سنذكرها. وعند وصولنا إليها، خرج إلينا قاضيها فخر الدين، وشيخ الإسلام بها، وأولاد عثمان بن عفان المصري، وهم كبراء المسلمين بها، ومعهم علم أبيض والأطبال والأنفار والأبواق، وخرج أميرها في موكبه، ودخلنا المدينة. وهي ست مدن، على كل مدينة سور، ومحدق بالجميع سور واحد. فأول مدينة منها يسكنها حراس المدينة وأميرهم. حدثني القاضي وسواه أنهم اثنا عشر ألفاً في زمام العسكرية. وبتنا ليلة دخولنا في دار أميرهم. وفي اليوم الثاني دخلنا المدينة الثانية، على باب يعرف بباب اليهود، ويسكن به اليهود والنصارى والترك عبدة الشمس، وهم كثير. وأمير هذه المدينة من أهل الصين. وبتنا عنده الليلة الثانية.
وفي اليوم الثالث دخلنا المدينة الثالثة، ويسكنها المسلمون. ومدينتهم حسنة وأسواقهم مرتبة كترتيبها في بلاد الإسلام. وبها المساجد والمؤذنون سمعناهم يؤذنون بالظهر، عند دخولنا. ونزلنا منها بدار أولاد عثمان بن عفان المصري، وكان أحد التجار الكبار. استحسن هذه المدينة فاستوطنها، وعرفت بالنسبة إليه وأورث عقبه به الجاه والحرمة على ما كان عليه أبوهم من الإيثار على الفقراء والإعانة للمتحاجين. ولهم زاوية تعرف بالعثمانية، حسنة العمارة، لها أوقاف كثيرة. وبها طائفة من الصوفية. وبنى عثمان المذكور المسجد الجامع بهذه المدينة، ووقف عليه وعلى الزاوية أوقافاًَ عظيمة. وعدد المسلمين بهذه المدينة كثير.
وكانت إقامتنا عندهم خمسة عشر يوماً. فكنا كل يوم وليلة في دعوة جديدة. ولا يزالون يختلفون في أطعمتهم، ويركبون معنا كل يوم للنزهة في أقطار المدينة. وركبوا معي يوماً، فدخلنا إلى المدينة الرابعة، وهي دار الإمارة. وبها سكنى الأمير الكبير قرطي. ولما دخلنا من بابها، ذهب عني أصحابي، ولقيني الوزير وذهب بي إلى دار الأمير الكبير قرطي. فكان من أخذه الفرجية التي أعطانيها ولي الله جلال الدين الشيرازي ما قد ذكرته. وهذه المدينة منفردة لسكنى عبيد السلطان وخدامه، وهي من أحسن المدن الست. ويشقها أنهار ثلاثة: أحدها خليج يخرج من النهر الأعظم، وتأتي فيه القوارب الصغار إلى هذه المدينة بالمرافق من الطعام، وأحجار الوقد. وفيه السفن للنزهة. والمشور في وسط هذه المدينة، وهو كبير جداً. ودار الإمارة في وسطه، وهو يحف بها من جميع الجهات. وفيه سقائف، فيها الصناع يصنعون الثياب النفيسة وآلات الحرب. أخبرني الأمير قرطي أن عددهم ألف وستمائة معلم. كل واحد منهم يتبعه الثلاثة والأربعة من المتعلمين. وهم أجمعون عبيد القان. وفي أرجلهم القيود، ومساكنهم خارج القصر. ويباح لهم الخروج إلى أسواق المدينة، دون الخروج على بابها. ويعرضون كل يوم على الأمير مائة مائة. فإن نقص أحدهم، طلب به أميره. وعادتهم أنه إذا خدم أحدهم عشر سنين فك عنه قيده، وكان يخير في النظرين: إما أن يقيم في الخدمة غير مقيد، وإما أن يسير حيث شاء من بلاد القان، ولا يخرج عنها. وإذا بلغ سنه خمسين عاماً أعتق من الأشغال وأنفق عليه. كذلك ينفق على من بلغ هذه السن أو نحوها من سواهم. ومن بلغ ستين سنة عدوه كالصبي، فلم تجر عليه الأحكام. والشيوخ بالصين يعظمون تعظيماً كثيراً، ويسمى أحدهم آطا، ومعناه الوالد.
ذكر الأمير الكبير قرطي
وضبط اسمه " بضم القاف وسكون الراء وفتح الطاء المهمل وسكون الياء "، وهو أمير أمراء الصين، أضافنا بداره، وصنع الدعوة، ويسمونها الطوى " بضم الطاء المهمل وفتح الواو "، وحضرها كبار المدينة. وأتى بالطباخين المسلمين فذبحوا وطبخوا الطعام. وكان هذا الأمير على عظمته يناولنا الطعام بيده، ويقطع اللحم بيده. وأقمنا في ضيافته ثلاثة أيام، وبعث ولده معنا إلى الخليج. فركبنا في سفينة تشبه الحراقة، وركب ابن الأمير في أخرى، ومعه أهل الطرب وأهل الموسيقى، وكانوا يغنون بالصيني وبالعربي وبالفارسي، وكان ابن الأمير معجباً بالغناء الفارسي، فغنوا شعراً منه. وأمرهم بتكريره مراراً، حتى حفظته من أفواههم، وله تلحين عجيب وهو:

تا دل بمحنت داديم در بحر فكر افتاديم
جن " جون " در نماز استاديم قوي بمحراب اندرى " اندريم "
واجتمعت بذلك الخليج طائفة كبيرة لها القلاع الملونة ومظلات الحرير. وسفنهم منقوشة بأبدع نقش. وجعلوا يتحاملون ويترامون بالنارنج والليمون. وعدنا بالعشي إلى دار الأمير، فبتنا بها. وحضر أهل الطرب فغنوا بأنواع من الغناء العجيب.
حكاية المشعوذ
وفي تلك الليلة حضر أحد المشعوذة، وهي من عبيد القان، فقال له الأمير: أرنا من عجائبك. فأخذ كرة خشب لها ثقب فيها سيور طوال، فرمى بها إلى الهواء فارتفعت حتى غابت عن الأبصار، ونحن في وسط المشور أيام الحر الشديد. فلما لم يبق من السير في يده إلا يسير، أمر متعلماً له فتعلق به وصعد في الهواء إلى أن غاب عن أبصارنا. فدعاه فلم يجبه ثلاثاً. فأخذ سكيناً بيده كالمغتاظ وتعلق بالسير إلى أن غاب أيضاً، ثم رمى بيد الصبي إلى الأرض، ثم رمى برجله، ثم بيده الأخرى، ثم برجله الأخرى، ثم بجسده، ثم برأسه، ثم هبط، وهو ينفخ، وثيابه ملطخة بالدم. فقبل الأرض بين يدي الأمير، وكلمه بالصيني وأمر له الأمير بشيء. ثم إنه أخذ أعضاء الصبي، فألصق بعضها ببعض، وركله برجله فقام سوياً. فعجبت منه. وأصابني خفقان القلب، كمثل ما كان أصابني عند ملك الهند، حين رأيت مثل ذلك. فسقوني دواء أذهب عني ما وجدت. وكان القاضي أفخر الدين إلى جانبي، فقال لي: والله ما كان من صعود ولا نزول ولا قطع عضو، وإنما ذلك شعوذة. وفي غد تلك الليلة دخلنا من باب المدينة الخامسة، وهي من أكبر المدن، يسكنها عامة الناس. وأسواقها حسان، وبها الحذاق بالصنائع، وبها تصنع الثياب الخنساوية. ومن عجيب ما يصنعون بها أطباق يسمونها الدست، وهي من القصب، وقد ألصقت قطعة أبدع إلصاق، ودهنت بصبغ أحمر مشرق. وتكون هذه الأطباق عشرة: واحد في جوف آخر لرقتها. تظهر لرائبها كأنها طبق واحد، ويصنعون غطاء يغطي جميعها. ويصنعون من هذا القصب صحافاً، ومن عجائبها أن تقع من العلو فلا تنكسر، ويجعل فيها الطعام السخن فلا يتغير صباغها، ولا يحول. وتجلب من هنالك إلى الهند وخراسان وسواها.
ولما دخلنا هذه المدينة بتنا ليلة في ضيافة أميرها. وبالغد دخلنا من باب يسمى كشتى وانان إلى المدينة السادسة. ويسكنها البحرية والصيادون والجلافطة والنجارون، ويدعون دودكاران " درود كران "، والأصباهية وهم الرماة، والبيادة وهم الرجالة، وجميعهم عبيد السلطان. ولا يسكن معهم سواهم، وعددهم كثير. وهذه المدينة على ساحل النهر الأعظم. بتنا بها ليلة في ضيافة أميرها، وجهز لنا الأمير قرطي مركباً بما يحتاج إليه من زاد وسواه، وبعث معنا أصحابه برسم التضييف.
وسافرنا من هذه المدينة وهي آخر أعمال الصين، زدخلنا إلى بلاد الخطا " بكسر الخاء المعجم وطاء مهمل "، وهي أحسن بلاد الدنيا عمارة. ولا يكون في جميعها موضع غير معمور، فإنه إن بقي موضع غير معمور، طلب أهله أو من يواليهم بخراجه. والبساتين والقرى والمزارع منتظمة بجانبي هذا النهر، من مدينة الخنسا إلى مدينة خان بالق. وذلك مسيرة أربعة وستين يوماً. وليس بها أحد من المسلمين إلا من كان حاضراً غير مقيم، لأنها ليست بدار مقام، وليس بها مدينة مجتمعة، إنما هي قرى وبسائط، فيها الزرع والفواكه والسكر. ولم أر في الدنيا مثلها، غير مسيرة أربعة أيام من الأنبار إلى عانة. وكنا كل ليلة ننزل بالقرى لأجل الضيافة، حتى وصلنا إلى مدينة خان بالق " وضبط اسمها بخاء معجم والف ونون مسكن وباء معقود والف ولام مكسور وقاف "، وتسمى أيضاً خانقو " بخاء معجم ونون مكسور وقاف وواو "، وهي حضرة القان، والقان هو سلطانهم الأعظم، الذي مملكته بلاد الصين والخطا. ولما وصلنا إليها أرسينا على عشرة أميال منها، على العادة عندهم. وكتب إلى أمراء البحر بخبرنا، فأذنوا لنا في دخول مرساها، فدخلناه ثم نزلنا إلى المدينة، وهي من أعظم مدن الدنيا. وليست على ترتيب بلاد الصين في كون البساتين داخلها. إنما هي كسائر البلاد والبساتين بخارجها، ومدينة السلطان في وسطها كالقصبة حسبما نذكره. ونزلت عند الشيخ برهان الدين الصاغرجي، وهو الذي بعث إليه ملك الهند بأربعين ألف دينار، واستدعاه فأخذ الدنانير وقضى بها دينه، وأبى أن يسير إليه. وقدم على بلاد الصين فقدمه القان على جميع المسلمين الذي ببلاده، وخاطبه بصدر الجهان.
ذكر سلطان الصين والخطا الملقب بالقان
والقان عندهم سمة لكل من يلي ملك الأقطار، كمثل ما يسمى كل من ملك بلاد اللور بأتابك واسمه باشاي " بفتح الباء المعقود والشين المعجمة وسكون الياء ". وليس للكفار على وجه الأرض مملكة أعظم من مملكته.
ذكر قصره
وقصره في وسط المدينة المختصة بسكناه. وأكثر عمارته بالخشب المنقوش، وله ترتيب عجيب. وعليه سبعة أبواب: فالباب الأول منها يجلس به الكتوال، وهو أمير البوابين. وله مصاطب مرتفعة عن يمين الباب ويساره، فيها المماليك البرددارية، وهم حفاظ باب القصر، وعددهم خمسمائة رجل. وأخبرت أنهم كانوا فيما تقدم ألف رجل. والباب الثاني يجلس عليه الإصباهية، وهم الرماة، وعددهم خمسمائة. والباب الثالث يجلس عليه النزدارية " بالنون والزاي "، وهم أصحاب الرماح، وعددهم خمسمائة. والباب الرابع يجلس عليه التغدارية " بالتاء المثناة والغين المعجم "، وهم أصحاب السيوف والترسة. والباب الخامس فيه ديوان الوزارة، وبه سقائف كثيرة. فالسقيفة العظمى يقعد بها الوزير، على مرتبة هائلة مرتفعة، ويسمون ذلك الموضع المسند. وبين يدي الوزير دواة عظيمة من الذهب. وتقابل هذه السقيفة سقيفة كاتب السر، وعن يمينها سقيفة كتاب الرسائل، وعن يمين سقيفة الوزير سقيفة كتاب الأشغال. وتقابل هذه السقائف سقائف أربع. إحداها تسمى ديوان الأشراف، يقعد بها المشرف، والثانية سقيفة ديوان المستخرج، وأميرها من كبار الامراء، والمستخرج هو ما يبقى قبل العمال وقبل الأمراء من إقطاعاتهم، والثالثة ديوان الغوث، ويجلس فيها أحد الأمراء الكبار، ومعه الفقهاء والكتاب. فمن لحقته مظلمة استغاث بهم. والرابعة ديوان البريد، يجلس فيها أمير الإخباريين. والباب السداس من أبواب القصر يجلس عليه الجندارية، وأميرهم الأعظم. والباب السابع يجلس عليه الفتيان، ولهم ثلاث شقائف: إحداها سقيفة الحبشان منهم، والثانية سقيفة الهنود، والثالثة سقيفة الصينيين. ولكل طائفة منهم أمير من الصينيين.
ذكر خروج القان لقتال ابن عمه وقتله
ولما وصلنا حضرة خان بالق، وجدنا القان غائباً عنها إذ ذاك. وخرج للقاء ابن عمه فيروز القائم عليه، بناحية قراقوم وبش بالغ، من بلاد الخطا. وبينها وبين الحضرة مسيرة ثلاثة أشهر عامرة. وأخبرني صدر الجهان برهان الدين الصاغرجي، أن القان لما جمع الجيوش وحشد الحشود، اجتمع عليه من الفرسان مائة فوج، كل فوج منها من عشرة آلاف فارس. وأميرهم يسمى أمير طومان، وكان من خواص السلطان، وأهل دخلته خمسين ألفاً زائداً إلى ذلك. وكانت الرجالة خمسمائة ألف. ولما خرج خالف عليه أكثر الأمراء، واتفقوا على خلعه. لأنه كان قد غير أحكام اليساق، وهي الأحكام التي وضعها تنكيز خان جدهم الذي خرب بلاد الإسلام. فمضوا إلى ابن عمه القائم، وكتبوا إلى القان أن يخلع نفسه، وتكون مدينة الخنساء إقطاعاً له. فأبى ذلك، وقاتلهم فانهزم وقتل. وبعد أيام من وصولنا إلى حضرته ورد الخبر بذلك. فزينت المدينة وضربت الطبول والأبواق والأنفار، واستعمل اللعب والطرب مدة شهر.
ثم جيء بالقان المقتول، وبنحو مائة من المقتولين بني عمه وأقاربه وخواصه. فحفر للقان ناووس عظيم، وهو بيت تحت الأرض، وفرش بأحسن الفرش وجعل به القان بسلاحه، وجعل معه ما كان في داره من أواني الذهب والفضة، وجعل معه أربع من الجواري، وستة من خواص المماليك، معهم أواني الشراب. وبني باب البيت، وجعل فوقه التراب حتى صار كالتل العظيم.

ثم جاءوا بأربعة أفراس فأجروها عند قبره حتى وقفت، ونصبوا خشباً على القبر، وعلقوها عليه. بعد أن أدخلوا في دبر كل فرس خشبة حتى خرجت من فمه، وجعل أقارب القان المذكورون في نواويس ومعهم سلاحهم وأواني دورهم، وصلبوا على قبورهم كبارهم. وكانوا عشرة: ثلاثة من الخيل على كل قبر، وعلى قبور الباقين فرساً فرساً. وكان هذا اليوم يوماً مشهوداً لم يتخلف عنه أحد من الرجال ولا النساء المسلمين والكفار، وقد لبسوا أجمعون ثياب العزاء، وهي الطيالسة البيض للكفار والثياب البيض للمسلمين. وأقام خواتين القان وخواصه في الأخبية على قبره أربعين يوماً، وبعضهم يزيد على ذلك إلى سنة. وصنعت هنالك سوق يباع فيه ما يحتاجون إليه من طعام وسواه. وهذه الأفعال لا أذكر أن أمة تفعلها سواهم في هذا العصر. فأما الكفار من الهنود وأهل الصين فيحرقون موتاهم، وسواهم من الأمم يدفنون الميت ولا يجعلون معه أحداً. لكن أخبرني الثقات ببلاد السودان أن الكفار منهم، إذا مات ملكهم صنعوا له ناووساً، وأدخلوا معه بعض خواصه وخدامه، وثلاثين من أبناء كبارهم وبناتهم، بعد أن يكسروا أيديهم وأرجلهم، ويجعلون معهم أواني الشراب. وأخبرني بعض كبار مسوفة، ممن يسكن بلاد كوبر مع السودان، واختصه سلطانهم، أنه كان له ولد. فلما مات سلطانهم أرادوا أن يدخلوا ولده مع من أدخلوه من أولادهم، قال: فقلت لهم: كيف تفعلون ذلك وليس على دينكم، ولا من ولدكم ? وفديته منهم بمال عريض. ولما قتل القان كما ذكرنا، واستولى ابن عمه فيروز على الملك، اختار أن تكون حضرته مدينة قراقرم " وضبطها بفتح القاف الأول والراء وضم الثانية وضم الراء الثانية "، لقربها من بلاد بني عمه ملوك تركستان وما وراء النهر. ثم خالفت عليه الأمراء مما لم يحضر لقتل القان، وقطعوا الطرق، وعظمت الفتن.
ذكر رجوعي إلى الصين ثم إلى الهند
ولما وقع الخلاف وتسعرت الفتن، أشار علي الشيخ برهان الدين وسواه أن أعود إلى الصين قبل تمكن الفتن، ووقفوا معي إلى نائب السلطان فيروز، فبعث معي ثلاثة من أصحابه، وكتب لي بالضيافة. وسرنا منحدرين في النهر إلى الخنساء، ثم إلى قنجنفو، ثم إلى الزيتون. فلما وصلتها وجدت الجنوك على السفر إلى الهند، وفي جملتها جنك للملك الظاهر، صاحب الجاوة، وأهله مسلمون. وعرفني وكيله، وسر بقدومي. وصادفنا الريح الطيبة عشرة أيام، فلما قاربنا بلاد طوالسي، تغيرت الريح، وأظلم الجو، وكثر المطر، وأقمنا عشرة أيام لا نرى الشمس. ثم دخلنا بحراً لا نعرفه، وخاف أهل الجنك فأرادوا الرجوع إلى الصين، فلم يتمكن ذلك. وأقمنا اثنين وأربعين يوماً لا نعرف في أي البحار نحن.
ذكر الرخ
ولما كان في اليوم الثالث والأربعين، ظهر لنا بعد طلوع الفجر جبل في البحر، بيننا وبينه نحو عشرين ميلاً، والريح تحملنا إلى صوبه. فعجب البحرية وقالوا: لسنا بقرب من البر، ولا يعهد في البحر جبل، وإن اضطرتنا الريح إليه هلكنا فلجاً الناس إلى التضرع والإخلاص، وجددوا التوبة، وابتهلنا إلى الله بالدعاء، وتوسلنا بنبيه صلى الله عليه وسلم، ونذر التجار الصدقات الكثيرة، وكتبتها لهم في زمام بخطي وسكنت الريح بعض سكون، ثم رأينا ذلك الجبل عند طلوع الشمس قد ارتفع في الهواء، وظهر الضوء فيما بينه وبين البحر، فعجبنا من ذلك. ورأيت البحرية يبكون ويودعون بعضهم بعضاً، فقلت: ما شأنكم ? فقالوا: إن الذي تخيلناه جبلاً هو الرخ. وإن رآنا أهلكنا. وبيننا وبينه إذ ذاك اقل من عشرة أميال. ثم إن الله تعالى من علينا بريح طيبة، صرفتنا عن صوبه، فلم نره، ولا عرفنا حقيقة صورته. وبعد شهرين من ذلك اليوم وصلنا الجاوة، ونزلنا إلى سمطرة، فوجدنا سلطانها الملك الظاهر قد قدم من غزوة له، وجاء بسبي كثير. فبعث لي جاريتين وغلامين، وأنزلني على العادة، وحضرت أعراس ولده مع بنت أخيه.
ذكر إعراس ولد الملك الظاهر
وشاهدت يوم الجلوة، فرأيتهم قد نصبوا في وسط المشور منبراً كبيراً، وكسوه بثياب الحرير. وجاءت العروس من داخل القصر على قدميها بادية الوجه، ومعها نحو أربعين من الخواتين، يرفعن أذيالها، من نساء السلطان وأمرائه ووزرائه، وكلهن باديات الوجوه، ينظر إليهن كل من حضر من رفيع أو وضيع. وليست تلك عادة لهن إلا في الأعراس خاصة. وصعدت العروس المنبر، وبين يديها أهل الطرب رجالاً ونساء، يلعبون ويغنون. ثم جاء الزوج على فيل مزين، على ظهره سرير وفوقه قبة شبيه البوجة، والتاج على رأس العروس المذكور، عن يمينه ويساره نحو مائة من أبناء الملوك والأمراء، قد لبسوا البياض وركبوا الخيل المزينة، وعلى رؤوسهم الشواشي المرصعة، وهم أتراب العروس ليس فيهم ذو لحية. ونثرت الدنانير والدراهم على الناس عند دخوله. وقعد السلطان بمنظرة له يشاهد ذلك. ونزل ابنه فقبل رجله، وصعد المنبر إلى العروس فقامت إليه وقبلت يده وجلس إلى جانبها، والخواتين يروحن عليها، وجاءوا بالفوفل والتنبول. فأخذه الزوج بيده، وجعل منه في فمها. ثم أخذت هي بيديها وجعلت في فمه. ثم أخذ الزوج بفمه ورقة تنبول وجعلها في فمها، وذلك كله على أعين الناس، ثم فعلت هي كفعله. ثم وضع عليها الستر، ورفع المنبر وهما فيه، إلى داخل القصر. وأكل الناس وانصرفوا. ثم لما كان من الغد جمع الناس، وأجرى له أبوه ولاية العهد، وبايعه الناس، وأعطاهم العطاء الجزل من الثياب والذهب. وأقمت بهذه الجزيرة شهرين، ثم ركبت في بعض الجنوك.
وأعطاني السلطان كثيراً من العود والكافور والقرنقل والصندل، وزودني. وسافرت عنه، فوصلت بعد أربعين يوماً إلى كولم، فنزلت بها في جوار القزويني، قاضي المسلمين. وذلك في رمضان. وحضرت بها صلاة العيد، في مسجدها الجامع. وعادتهم أن يأتوا المسجد ليلاً. فلا يزالون يذكرون الله إلى الصبح. ثم يذكرون إلى حين صلاة العيد، ثم يصلون ويخطب الخطيب وينصرفون. ثم سافرنا من كولم إلى قالقوط، وأقمنا بها أياماً. وأردت العودة إلى دهلي. ثم خفت من ذلك، فركبت البحر فوصلت بعد ثمان وعشرين ليلة إلى ظفار. وذلك في محرم سنة ثمان وأربعين. ونزلت بدار خطيبها عيسى بن طأطأ.
ذكر سلطان ظفار
ووجدت سلطانها في هذه الكرة الملك الناصر ابن الملك المغيث، الذي كان ملكاً بها حين وصولي إليها فيما تقدم، ونائبه سيف الدين عمر أمير جندر، التركي الأصل. وأنزلني هذا السلطان، وأكرمني. ثم ركبت البحر، فوصلت إلى مسقط " بفتح الميم "، وهي بلدة صغيرة بها السمك الكثير المعروف بقلب الماس، ثم سافرنا إلى مرسى القريات " وضبطها بضم القاف وفتح الراء والياء آخر الحروف وألف وتاء مثناة ". ثم سافرنا إلى مرسى شبة " وضبط اسمها بفتح الشين المعجم وفتح الباء الموحدة وتشديدها "، ثم إلى مرسى كلبة، ولفظها على لفظ مؤنثة الكلب، ثم إلى قلهات، وقد تقدم ذكرها. وهذه البلاد كلها من عمالة هرمز، وهي محسوبة من بلاد عمان. ثم سافرنا إلى هرمز، وأقمنا بها ثلاثاً. وسافرنا في البر إلى كورستان ثم إلى اللار ثم إلى خنج بال، وقد تقدم ذكر جميعها. ثم سافرنا إلى كارزي " وضبط اسمها بفتح الكاف وسكون الراء وكسر الزاي "، وأقمنا بها ثلاثاً.
ثم سافرنا إلى جمكان " وضبط اسمها بفتح الجيم والميم والكاف وآخره نون "، ثم سافرنا منهم إلى ميمن " وضبط اسمها بفتح الميمين وبينهما ياء آخر الحروف مسكنة وآخره نون "، ثم سافرنا إلى بسا " وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة والسين المهمل مع تشديدها "، ثم إلى مدينة شيراز. فوجدنا سلطانها أبا إسحاق على ملكه إلا أنه كان غائباً عنها. ولقيت بها شيخنا الصالح العالم مجد الدين قاضي القضاة، وهو قد كف بصره، نفعه الله ونفع به. ثم سافرت إلى ماين، ثم إلى يزدخاص، ثم إلى كليل، ثم إلى كشك زر، ثم إلى أصبهان، ثم إلى تستر، ثم إلى الحويزا، ثم إلى البصرة، وقد تقدم ذكر جميعها. وزرت بالبصرة القبور الكريمة التي بها، وهي قبر الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وحليمة السعدية، وأبي بكرة، وأنس بن مالك، والحسن البصري، وثابت البناني، ومحمد بن سيرين، ومالك بن دينار، ومحمد بن واسع، وحبيب العجمي، وسهل بن عبد الله التستري، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ثم سافرنا من البصرة، فوصلنا إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وزرناه. ثم توجهنا إلى الكوفة، فزرنا مسجدها المبارك، ثم إلى الحلة، حيث مشهد صاحب الزمان، واتفق في بعض تلك الأيام أن وليها بعض الأمراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم إلى مسجد صاحب الزمان، وانتظاره هنالك. ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير، فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً. فزاد ذلك في فتنة الرافضة، وقالوا: إنما أصابه ذلك لأجل منعه الدابة، فلم تمنع بعد. ثم سافرت إلى صرصر، ثم إلى مدينة بغداد. وصلتها في شوال سنة ثمان وأربعين، ولقيت بها بعض المغاربة فعرفني بكائنة طريف، واستيلاء الروم على الخضراء. جبر الله صدع الإسلام في ذلك.
ذكر سلطان العراق
وكان سلطان بغداد والعراق في عهد دخولي إليها في التاريخ المذكور الشيخ حسن ابن عمة السلطان أبي سعيد رحمه الله. ولما مات أبو سعيد استولى على ملكه بالعراق، وتزوج زوجته دلشاد بنت دمشق خواجة ابن الأمير الجوبان، حسبما كان فعله السلطان أبو سعيد من تزوج زوجة الشيخ حسن.وكان السلطان حسن غائباً عن بغداد في هذه المدة، متوجهاً لقتال السلطان أتابك افراسياب، صاحب بلاد اللور. ثم رحلت من بغداد فوصلت إلى مدينة الأنبار، ثم إلى هيت، ثم إلى الحديثة، ثم إلى عانة. وهذه البلاد من أحسن البلاد وأخصبها. والطريق فيما بينها كثير العمارة، كأن الماشي في سوق من الأسواق، وقد ذكرنا أنا لم نر ما يشبه البلاد التي على نهر الصين إلا هذه البلاد. ثم وصلت إلى مدينة الرحبة، وهي التي تنسب إلى مالك بن طوق. ومدينة الرحبة أحسن بلاد العراق، وأول بلاد الشام. ثم سافرنا إلى السخنة، وهي بلدة حسنة، أكثر سكانها الكفار من النصارى. وإنما سميت السخنة لحرارة مائها. وفيها بيوت للرجال وبيوت للنساء، يستحمون فيها، ويستقون الماء ليلاً، ويجعلونه في السطوح ليبرد. ثم سافرنا إلى تدمر، مدينة نبي الله سليمان عليه السلام، التي بنتها له الجن، كما قال النابغة:

يبنون تدمر بالصفاح والعمد
ثم سافرنا منها إلى مدينة دمشق الشام، وكانت مدة مغيبي عنها عشرين سنة كاملة. وكنت تركت بها زوجة لي حاملاً، وتعرفت وأنا ببلاد الهند أنها ولدت لي ولداً ذكراَ، فبعث حينئذ إلى جده للأم، وكان من أهل مكناسة المغرب أربعين ديناراً ذهباً هندياً. فحين وصولي إلى دمشق في هذه الكرة، لم يكن لي همٌ إلا السؤال عن ولدي. فدخلت الجامع، فوفق لي نور الدين السخاوي إمام المالكية وكبيرهم، فسلمت عليه فلم يعرفني. فعرفته بنفسي، وسألته عن الولد. فقال مات منذ اثنتي عشرة سنة. وأخبرني أن فقيهاً من أهل طنجة يقيم بالمدرسة الظاهرية، فسرت إليه لأسأله عن ولدي وأهلي، فوجدته شيخاً كبيراً، فسلمت عليه وانتسبت له، فأخبرني أن ولدي توفي منذ خمس عشرة سنة، وأن الوالدة بقيد الحياة. وأقمت بدمشق الشام بقية العام والغلاء شديد، والخبز قد انتهى إلى قيمة سبع أواقى بدرهم نقرة، وأوقيتهم أربع أواقٍ مغربية. وكان قاضي القضاة المالكية إذ ذاك جمال الدين المسلاتي، وكان من أصحاب الشيخ علاء الدين القونوي، وقدم معه دمشق، فعرف بها. ثم ولي القضاء وقاضي قضاة الشافعية تقي الدين بن السبكي، وأمير دمشق ملك الأمراء أرغون شاه.
حكاية
ومات في تلك الأيام بعض كبراء دمشق، وأوصى بمال للمساكين. فكان المتولي لإنفاذ الوصية يشتري الخبز ويفرقه عليهم كل يوم بعد العصر. فاجتمعوا في بعض الليالي وتزاحموا واختطفوا الخبز الذي يفرق عليهم، ومدوا أيديهم إلى خبز الخبازين. وبلغ ذلك الأمير أرغون شاه. فأخرج زبانيته، فكانوا حيث ما لقوا أحداً من المساكين، قالوا له: تعال تأخذ الخبز. فاجتمع منهم عدد كثير. فحبسهم تلك الليلة، وركب من الغد، وأحضرهم تحت القلعة، وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم. وكان أكثرهم براء عن ذلك. وأخرج طائفة الحرافيش عن دمشق فانتقلوا إلى حمص وحماة وحلب. وذكر لي أنه لم يعش بعد ذلك إلا قليلاً وقتل. ثم سافرت من دمشق إلى حمص ثم إلى حماة ثم إلى المعرة ثم إلى سرمين ثم إلى حلب. وكان أمير حلب في هذا العهد الحاج رغطي " بضم الراء وسكون الغين المعجم وفتح الطاء المهمل وياء آخر الحروف مسكنة ".
حكاية
واتفق في تلك الأيام أن فقيراً يعرف بشيخ المشايخ، وهو ساكن في جبل خارج مدينة عنتاب، والناس يقصدونه ويتبركون به. وله تلميذ ملازم له، وكان متجرداً عزباً لا زوجة له، قال في بعض كلامه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصبر عن النساء، وأنا أصبر عنهن. فشهد عليه بذلك، وثبت عند القاضي، ورفع أمره إلى ملك الأمراء، وأتي به وبتلميذه الموافق له على قوله، فأفتى القضاة الأربعة، وهم شهاب الدين المالكي، وناصر الدين العديم الحنفي، وتقي الدين الصائغ الشافعي، وعز الدين الدمشقي الحنبلي، بقتلهما معاً، فقتلا. وفي أوائل شهر ربيع الأول عام تسعة وأربعين، بلغني الخبر في حلب أن الوباء وقع بغزة، وأنه انتهى عدد الموتى فيها إلى زائد على الألف في يوم واحد. فسافرت إلى حمص، فوجدت الوباء قد وقع بها، ومات يوم دخولي إليها نحو ثلثمائة إنسان، ثم سافرت إلى دمشق ووصلتها يوم الخميس، وكان أهلها قد صاموا ثلاثة أيام ن وخرجوا يوم الجمعة إلى جامع الأقدام، حسبما ذكرناه في السفر الأول. فخفف الله الوباء عنهم، فانتهى عدد الموتى عندهم إلى ألفين وأربعمائة في اليوم، ثم سافرت إلى عجلون ثم إلى بيت المقدس، ووجدت الوباء قد ارتفع عنهم. ولقيت خطيبه عز الدين بن جماعة ابن عم عز الدين قاضي القضاة بمصر، وهو من الفضلاء الكرماء. ومرتبه على الخطابة ألف درهم في الشهر.
حكاية
وصنع الخطيب عز الدين يوماً دعوة، ودعاني فيمن دها إليها، فسألته عن سببها، فأخبرني أنه نذر أيام الوباء، أنه إن ارتفع ذلك، ومر عليه يوم لا يصلى فيه على ميت، صنع الدعوة. ثم قال لي: ولما كان بالأمس، لم أصل على ميت، فصنعت الدعوة التي نذرت. ووجدت من كنت أعهده من جميع الأشياخ بالقدس قد انتقلوا إلى جوار الله تعالى رحمهم الله، فلم يبق منهم إلا القليل، مثل المحدث العالم الإمام صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي، ومثل الصالح شرف الدين الخشي شيخ زاوية المسجد الأقصى، ولقيت الشيخ سليمان الشيرازي، فأضافني. ولم ألق بالشام ومصر من وصل إلى قدم آدم عليه السلام سواه.
ثم سافرت عن القدس، ورافقني الواعظ المحدث شرف الدين سليمان الملياني، وشيخ المغاربة بالقدس الصوفي الفاضل طلحة العبد الوادي. فوصلنا إلى مدينة الخليل عليه السلام. وزرناه ومن معه من الأنبياء عليهم السلام. ثم سرنا إلى غزة، فوجدنا معظمها خالياً من كثرة من مات بها في الوباء. وأخبرنا قاضيها أن العدول بها كانوا ثمانين، فبقي منهم الربع، وأن عدد الموتى بها انتهى إلى ألف ومائة في اليوم.
ثم سافرنا في البر، فوصلت إلى دمياط، ولقيت بها قطب الدين النفشواني، وهو صائم الدهر، ورافقني منها إلى فارسكور وسمنود ثم إلى أبي صير " بكسر الصاد المهمل وياء وراء "، ونزلنا في زاوية لبعض المصريين بها.
حكاية
وبينما نحن بتلك الزاوية إذ دخل علينا أحد الفقراء فسلم، وعرضنا عليه الطعام فأبى وقال: إنما قصدت زيارتكم، ولم يزل ليلته تلك ساجداً وراكعاً. ثم صلينا الصبح واشتغلنا بالذكر، والفقير بركن الزاوية. فجاء الشيخ بالطعام، ودعاه فلم يجبه. فمضى إليه فوجده ميتاً. فصلينا عليه ودفناه، رحمة الله عليه. ثم سافرت إلى المحلة الكبيرة، ثم إلى نحرارية، ثم إلى أبيار، ثم إلى دمنهور، ثم إلى الإسكندرية. فوجدت الوباء قد خف بها، بعد أن بلغ عدد الموتى إلى ألف وثمانين في اليوم. ثم سافرت إلى القاهرة، وبلغني أن عدد الموتى أيام الوباء انتهى فيها إلى واحد وعشرين ألفاً في اليوم. ووجدت جميع من كان بها من المشايخ الذين أعرفهم قد ماتوا، رحمهم الله تعالى.
ذكر سلطان مصر
وكان ملك ديار مصر في هذا العهد الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون. وبعد ذلك خلع عن الملك، وولي أخوه الملك الصالح. ولما وصلت القاهرة، وجدت قاضي القضاة عز الدين ابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، قد توجه إلى مكة في ركب عظيم يسمونه الرجبي، لسفرهم في شهر رجب. وأخبرت أن الوباء لم يزل معهم حتى وصلوا إلى عقبة أيلة، فارتفع عنهم. ثم سافرت من القاهرة إلى بلاد الصعيد، وقد تقدم ذكرها، إلى عيذاب. وركبت منها البحر، فوصلت إلى جدة، ثم سافرت منها إلى مكة، شرفها الله تعالى وكرمها، فوصلتها في الثاني والعشرين لشعبان سنة تسع وأربعين. ونزلت في جوار إمام المالكية الصالح الولي الفاضل أبي عبد الله محمد بن عبد الله المدعو بخليل. فصمت شهر رمضان بمكة. وكنت أعتمر كل يوم على مذهب الشافعي. ولقيت ممن أعهد من أشياخها شهاب الدين الحنفي، وشهاب الدين الطبري، وأبا محمد اليافعي، ونجم الدين الأصفوني، والحرازي. وحججت ذلك العام، ثم سافرت مع الركب الشامي إلى طيبة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزرت قبره المكرم، زاده الله طيباً وتشريفاً، وصليت في المسجد الكريم، طهره الله وزاده تعظيماً، وزرت من بالبقيع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، ولقيت من الأشياخ أبا محمد بن فرحون. ثم سافرنا من المدينة الشريفة إلى العلا وتبوك، ثم إلى بيت المقدس، ثم إلى مدينة الخليل صلى الله عليه وسلم، ثم إلى غزة، ثم إلى منازل الرمل، وقد تقدم ذكر ذلك كله، ثم إلى القاهرة. وهنالك تعرفنا أن مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين المتوكل على رب العالمين أبا عنان أيده الله تعالى، قد ضم الله به نشر الدولة المرينية، وشفى ببركته بعد إشفائها البلاد المغربية، وأفاض الإحسان على الخاص والعام، وغمر جميع الناس بسابغ الإنعام. فتشوقت النفوس إلى المثول ببابه، وأملت لثم ركابه. فعند ذلك قصدت القدوم على حضرته العلية، مع ما شاقني من تذكار الأوان، والحنين إلى الأهل والخلان، والمحبة إلى بلادي التي لها الفضل عندي على البلدان.

بلاد بها نيطت علي تمائمي وأول أرض مس جلدي ترابها
فركبت البحر في قرقورة لبعض التونسيين صغيرة، وذلك في صفر سنة خمسين. وسرت حتى نزلت بجربة. وسافر المركب المذكور إلى تونس، فاستولى العدو عليه. ثم سافرت في مركب صغير إلى قابس، فنزلت في ضيافة الأخوين الفاضلين أبي مروان وأبي العباس ابني مكي أميري جربة وقابس. وحضرت عندهما مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركبت في مركب إلى سفاقس، ثم توجهت في البحر إلى بليانة، ومنها سرت في البر مع العرب، فوصلت بعد مشقات إلى مدينة تونس، والعرب محاصرون لها.
ذكر سلطان تونس
وكانت تونس في إيالة مولانا أمير المسلمين، وناصر الدين، المجاهد في سبيل رب العالمين، علم الأعلام، وأوحد الملوك الكرام، أسد الآساد، وجواد الأجواد، القانت الأواب، الخاشع العادل، أبي الحسن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، ناصر دين الإسلام، الذي سارت الأمثال بجوده، وشاع في الأقطار أثر كرمه وفضله، ذي المناقب والمفاخر والفضائل والمآثر، الملك العادل الفاضل أبي سعيد مولانا أمير المسلمين وناصر الدين، المجاهد في سبيل رب العالمين، قاهر الكفار ومبيدها، ومبدي آثار الجهاد ومعيدها، ناصر الإيمان، الشديد السطوة في ذات الرحمن، العابد الزاهد، الراكع الساجد، الخاشع الصالح، أبي يوسف ابن عبد الحق، رضي الله عنهم أجمعين، وأبقى الملك في عقبهم إلى يوم الدين. ولما وصلت تونس قصدت الحاج أبا الحسن الناميسي لما بيني وبينه من مودات القرابة والبلدية. فأنزلني بداره، وتوجه معي إلى المشور، فدخلت المشور الكريم وقبلت يد مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، وأمرني بالقعود فقعدت. وسألني عن الحجاز الشريف وسلطان مصر فأجبته. وسألني عن ابن تيفراجين فأخبرته بما فعلت المغاربة معه. وإرادتهم قتله بالإسكندرية، وما لقي من أذيتهم، انتصاراً منهم لمولانا أبي الحسن رضي الله عنه، وكان في مجلسه من الفقهاء الإمام أبو عبد الله السطي، والإمام أبو عبد الله محمد بن الصباغ. ومن أهل تونس قاضيها أبو علي عمر بن عبد الرفيع، وأبو عبد الله بن هارون. وانصرفت عن المجلس الكريم. فلما كان بعد العصر استدعاني مولانا أبو الحسن، وهو ببرج يشرف على موضع القتال، ومعه الشيوخ الأجلة أبو عمر عثمان بن عبد الواحد التنالفتي، وأبو حسون زيان بن أمريون العلوي، وأبو زكرياء يحيى ابن سليمان العسكري، والحاج أبو الحسن الناميسي. فسألني عن ملك الهند فأجبته عما سأل.
ولم أزل أتردد إلى مجلسه الكريم أيام إقامتي بتونس، وكانت ستة وثلاثين يوماً. ولقيت بتونس إذ ذاك الشيخ الإمام خاتمة العلماء وكبيرهم أبا عبد الله الأبلي، وكان في فراش المرض، وباحثني عن كثير من أمور رحلتي.
ثم سافرت من تونس في البحر مع القطلانيين، فوصلنا إلى جزيرة سردانية، من جزر الروم، ولها مرسى عجيب، عليه خشب كبار دائرة به. وله مدخل كأنه باب، لا يفتح إلا باذن منهم، وفيها حصون. دخلنا أحدها، وبه أسواق كثيرة، ونذرت لله تعالى إن خلصنا الله منها صوم شهرين متتابعين. لأننا تعرفنا أن أهلها عازمون على اتباعنا إذا خرجنا عنها ليأسرونا.
ثم خرجنا عنها فوصلنا بعد عشر إلى مدينة تنس، ثم إلى مازونة، ثم إلى مستغانم، ثم إلى تلمسان. فقصدت العباد، وزرت الشيخ أبا مدين رضي الله عنه ونفع به، ثم خرجت عنها على طريق مدرومة، وسلكت طريق أخندقان. وبت بزاوية الشيخ إبراهيم. ثم سافرنا منها، فبينما نحن بقرب أزغنغان، إذا خرج علينا خمسون راجلاً وفارسان. وكان معي الحاج ابن قريعات الطنجي وأخوه محمد، المستشهد بعد ذلك في البحر. فعزمنا على قتالهم، ورفعنا علماً، ثم سالمونا وسالمناهم، والحمد لله، ووصلت إلى مدينة تازي، وبها تعرفت خبر موت والدتي بالوباء رحمها الله تعالى.
ثم سافرت عن تازي، فوصلت يوم الجمعة في أواخر شهر شعبان المكرم من عام خمسين وسبعمائة إلى حضرة فاس، فمثلت بين يدي مولانا الأعظم، الإمام الأكرم، أمير المؤمنين، المتوكل على رب العالمين، أبي عنان، وصل الله علوه، وكبت عدوه. فأنستني هيبته هيبة سلطان العراق، وحسنه حسن ملك الهند، وحسن أخلاقه حسن خلق ملك اليمن، وشجاعته شجاعة ملك الترك، وحلمه حلم ملك الروم، وديانته ديانة ملك تركستان، وعلمه علم ملك الجاوة. وكان بين يديه وزيره الفاضل ذو المكارم الشهيرة والمآثر الكثيرة أبو زيان ابن ودرار، فسألني عن الديار المصرية، إذ كان قد وصل إليها فأجبته عما سأل. وغمرني من إحسان مولانا أيده الله تعالى بما أعجزني شكره. والله ولي مكافأته. وألقيت عصا التسيار ببلاده الشريفة، بعد أن تحققت بفضل الإنصاف أنها أحسن البلدان.لان الفواكه بها متيسرة، والمياه والأقوات غير متعذرة. وقل إقليم يجمع ذلك، ولقد أحسن من قال:

الغرب أحسن أرض ولي دليل عليه
البدر يرقب منه والشمس تسعى إليه
ودراهم الغرب صغيرة وفوائدها كثيرة، وإذا تأملت أسعاره مع أسعار ديار مصر والشام ظهر لك الحق في ذلك، ولاح فضل بلاد المغرب. فأقول: إن لحوم الأغنام بديار مصر تباع بحساب ثماني عشرة أوقية بدرهم نقرة، والدرهم النقرة ستة دراهم من دراهم المغرب، وبالمغرب يباع اللحم إذا غلا سعره ثماني عشرة أوقية بدرهمين، وهما ثلث النقرة. وأما السمن فلا يوجد بمصر في أكثر الاوقات. والذي يستعمله أهل مصر من أنواع الإدام لا يلتفت إليه بالمغرب، ولان أكثر ذلك العدس والحمص يطبخونه في قدور راسيات، ويجعلون عليه السيرج والبسلا، وهو صنف من الجلبان، يطبخونه ويجعلون عليه الزيت، والقرع يطبخونه ويخلطونه باللبن، والبقلة الحمقاء يطبخونها كذلك، وأعين أغصان اللوز يطبخونها ويجعلون عليها اللبن، والقلقاس يطبخونه. وهذا كله متيسر بالمغرب، لكن أغنى الله عنه بكثرة اللحم والسمن والزبد والعسل وسوى ذلك. وأما الخضر فهي أقل الأشياء ببلاد مصر، وأما الفواكه فأكثرها مجلوبة من الشام، وأما العنب فإذا كان رخيصاً بيع عندهم ثلاثة أرطال من أرطالهم بدرهم نقرة، ورطلهم اثنا عشرة أوقية. وأما في بلاد الشام فالفواكه بها كثيرة، إلا أنها ببلاد المغرب أرخص منها ثمناً، فإن العنب يباع بها بحساب رطل من أرطالهم بدرهم نقرة، ورطلهم ثلاثة أرطال مغربية. وإذا رخص ثمنه بيع بحساب رطلين بدرهم نقرة، والإجاص يباع بحساب عشر أواق بدرهم نقرة، وأما الرمان والسفرجل فتباع الحبة منهما بثمانية قلوس، وهي درهم من دراهم المغرب. وأما الخضر فيباع بالدرهم النقرة منها أقل مما يباع في بلادنا بالدرهم الصغير. وأما اللحم فيباع فيها الرطل منه من أرطالهم بدرهمين ونصف درهم نقرة. فإذا تأملت ذلك كله تبين لك أن بلاد المغرب أرخص البلاد أسعاراً وأكثرها خيرات، وأعظمها مرافق وفوائد. ولقد زاد الله بلاد المغرب شرفاً إلى شرفها، وفضلاً إلى فضلها، بإمامة مولانا أمير المؤمنين، الذي مد ظلال الأمن في أقطارها، وأطلع شمس العدل في أرجائها، وأفاض سحاب الإحسان في باديتها وحاضرتها، وطهرها من المفسدين، وأقام بها رسوم الدنيا والدين. وأنا أذكر ما عاينته وتحققته من عدله وحلمه وشجاعته، واشتغاله بالعلم، وتفقهه، وصدقته الجارية، ورفع المظالم.
ذكر بعض فضائل مولانا أيده الله
أما عدله فأشهر من أن يسطر في كتاب. فمن ذلك جلوسه للمشتكين من رعيته، وتخصيصه يوم الجمعة للمساكين منهم، وتقسيمه ذلك اليوم بين الرجال والنساء، وتقديمه النساء لضعفهن. فتقرأ قصصهن بعد صلاة الجمعة إلى العصر، ومن وصلت نوبتها نودي باسمها، ووقفت بين يديه الكريمتين، يكلمها دون واسطة. فإن كانت متظلمة عجل إنصافها، أو طالبة إحسان وقع إسعافها. ثم إذا صليت العصر قرئت قصص الرجال، وفعل مثل ذلك فيها. ويحضر المجلس الفقهاء والقضاة، فيرد إليهم ماتعلق بالأحكام الشرعية، وهذا شيء لم أر في الملوك من يفعله على هذا التمام، ويظهر فيه مثل هذا العدل. فإن ملك الهند عين بعض أمرائه لأخذ القصص من الناس، وتلخيصها ورفعها إليه، دون حضور أربابها بين يديه. وأما حلمه فقد شاهدت منه العجائب. فإنه أيده الله عفا عن الكثير ممن تعرض لقتال عساكره والمخالفة عليه، وعن أهل الجرائم الكبار الذين لا يعفو عن جرائمهم إلا من وثق بريه. وعلم علم اليقين معنى قوله تعالى: " والعافين عن الناس " قال ابن جزي: من أعجب ما شاهدته من حلم مولانا أيده الله، أني منذ قدومي على بابه الكريم في آخر عام ثلاثة وخمسين إلى هذا العهد، وهو أوائل عام سبعة وخمسين، لم أشاهد أحداً أمر بقتله إلا من قتله الشرع في حد من حدود الله تعالى قصاص أو حرابة، هذا على اتساع المملكة وانفساح البلاد واختلاف الطوائف.
ولم يسمع بمثل ذلك في ما تقدم من الأعصار، ولا فيما تباعد من الأقطار. وأما شجاعته فقد علم ما كان منه في المواطن الكريمة من الثبات والإقدام، مثل يوم قتال بني عبد الوادي وغيرهم. ولقد سمعت خبر ذلك اليوم ببلاد السودان، وذكر ذلك عند سلطانهم فقال: هكذا وإلا فلا.

قال ابن جزي: لم يزل الملوك الأقدمون تتفاخر بقتل الآساد وهزائم الأعادي، ومولانا أيده الله كان قتل الأسد أهون عليه من قتل الشاة على الأسد، فإنه لما خرج الأسد على الجيش بوادي النجارين من المعمورة بحوز سلا، وتحامته الأبطال، وفرت أماه الفرسان والرجال، برز إليه مولانا أيده الله غير محتفل به، ولا متهيب منه، فطعنه بالرمح ما بين عينيه طعنة خر بها صريعاً لليدين وللفم. وأما هزائم الأعادي فإنها اتفقت للملوك بثبوت جيوشهم وإقدام فرسانهم، فيكون حظ الملوك الثبوت والتحريض على القتال. وأما مولانا أيده الله فإنه أقدم على عدوه منفرداً بنفسه الكريمة، بعد علمه بفرار الناس، وتحققه أنه لم يبق معه من يقاتل. فعند ذلك وقع الرعب في قلوب الأعداء، وانهزموا أمامه. فكان من العجائب فرار الأمم أمام واحد. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والعاقبة للمتقين، وما هو إلا ثمرة ما يمتاز به أعلى مقامه من التوكل على الله والتفويض إليه. وأما اشتغاله بالعلم فها هو أيده الله تعالى يعقد مجالس العلم في كل يوم بعد صلاة الصبح، ويحضر لذلك أعلام الفقهاء ونجباء الطلبة بمسجد قصره الكريم، فيقرأ بين يديه تفسير القرآن العظيم، وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفروع مذهب مالك رضي الله عنه، وكتب المتصوفة. وفي كل علم منها. له القدح المعلى، يجلو مشكلاته بنور فهمه، ويلقى نكته الرائقة من حفظه. وهذا شأن الأئمة المهتدين والخلفاء الراشدين.
ولم أر من ملوك الدنيا من باغت عنايته بالعلم إلى هذه النهاية. فقد رأيت ملك الهند يتذاكر بين يديه بعد صلاة الصبح في العلوم المعقولات خاصة، ورأيت ملك الجاوة يتذاكر بين يديه بعد صلاة الجمعة في الفروع على مذهب الشافعي، وكنت أعجب من ملازمة ملك تركستان لصلاتي العشاء الآخرة والصبح في الجماعة، حتى رأيت ملازمة مولانا، أيده الله، في الصلوات كلها في الجماعة وقيام رمضان: " والله يختص برحمته من يشاء " .
قال ابن جزي: لو أن عالماً ليس له شغل إلا بالعلم ليلاً ونهاراً، لم يكن يصل إلى أدنى مراتب مولانا أيده الله في العلوم، مع اشتغاله بأمور الأمة، وتدبيره لسياسة الأقاليم النائية، ومباشرته من حال ملكه مالم يباشره أحد من الملوك، ونظره بنفسه في شكايات المظلومين. ومع ذلك كله فلا تقع بمجلسه الكريم مسألة علم في أي علم كان، إلا جلا مشكلها، وباحث في دقائقها، واستخرج غوامضها، واستدرك على علماء مجلسه ما فاتهم من مغلقاتها. ثم سما أيده الله إلى العلم الشريف التصوفي، ففهم إشارات القوم، وتخلق بأخلاقهم. وظهرت آثار ذلك في تواضعه مع رفعته، وشفقته على رعيته، ورفقه في أمره كله. وأعطى للآداب حظاً جزيلاً من نفسه، فاستعمل أحسنها منزعاً، وأعظمها موقعاً، وصارت عنه الرسالة الكريمة والقصيدة اللتان بعثهما إلى الروضة الشريفة المقدسة الطاهرة، روضة سيد المرسلين وشفيع المذنبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبهما بخط يده الذي يخجل الروض حسناً.
وذلك شيء لم يتعاط أحد من ملوك الزمان إنشاءه، ولا رام إدراكه. ومن تأمل التوقيعات الصادرة عنه أيده الله تعالى، وأحاط علماً بحصولها، لاح له فضل ما وهب الله لمولانا من البلاغة التي فطره عليها، وجمع له بين الطبيعي والمكتسب منها. وأما صدقاته الجارية، وما أمر به من عمارة الزوايا بجميع بلاده لإطعام الطعام للوارد والصادر، فذلك ما لم يفعله أحد من الملوك، غير السلطان أتابك أحمد. وقد زاد عليه مولانا أيده الله بالتصدق على المساكين بالطعام كل يوم والتصدق بالزرع على المتسترين من أهل البيوت.

قال ابن جزي: اخترع مولانا أيده الله في الكرم والصدقات أموراً لم تخطر في الأوهام، ولا اهتدت إلأيها السلاطين. فمنها إجراء الصدقات على المساكين بكل بلد من بلاده علىالدوام. ومنها تعيين الصدقة الوافرة للمسجونين في جميع البلاد أيضاً، ومنها كون تلك الصدقات خبزاً مخبوزاً متيسراً للانتفاع به، ومنها كسوة المساكين والضعفاء والعجائز والمشايخ والملازمين للمساجد بجميع بلاده، ومنها تعيين الضحايا لهؤلاء الأصناف في عيد الأضحى، ومنها التصدق بما يجتمع في مجابي أبواب بلاده يوم سبعة وعشرين من رمضان إكراماً لذلك اليوم الكريم وقياماً بحقه، ومنها إطعام الناس في جميع البلاد ليلة المولد الكريم، واجتماعهم لإقامة رسمه، ومنها إعذار اليتامى من الصبيان وكسوتهم يوم عاشوراء، ومنها صدقته على الزمنى والضعفاء بأزواج الحرث، يقيمون بها أودهم، ومنها صدقته على المساكين بحضرته بالطنافس الوثيرة والقطائف الجياد يفترشونها عند رقادهم.
وتلك مكرمة لا يعلم لها نظير، ومنها بناء المرستانات في كل بلد من بلاده، وتعيين الأوقاف الكثيرة لمؤن المرضى، وتعيين الأطباء لمعالجتهم والتصرف في طلبهم، إلى غير ذلك مما أبدع فيه من أنواع المكاره، وضروب المآثر، كافأ الله أياديه، وشكر نعمه. وأما رفعه للمظالم عن الرعية، فمنها الرتب التي كانت تؤخذ بالطرقات، أمر أيده الله بمحو رسمها، وكان لها مجبى عظيم، فلم يلتفت إليه، وما عند الله خير وأبقى، وأما كفه أيدي الظلام فأمر مشهور، وقد سمعته أيده الله يقول لعماله: لا تظلموا الرعية، ويؤكد عليهم تلك الوصية.
قال ابن جزي: ولو لم يكن من رفق مولانا أيده الله برعيته إلى رفعه التضييف الذي كانت عمال الزكاة وولاة البلاد تأخذه من الرعايا، لكفى ذلك أثراً في العدل ظاهراً ونوراً في الرفق باهراً، فكيف وقد رفع من المظالم وبسط من المرافق ما لا يحيط به الحصر. وقد صدر في أيام تصنيف هذا من أمره الكريم في الرفق بالمسجونين، ورفع الوظائف الثقيلة التي كانت تؤخذ منهم، ما هو اللائق بإحسانه، والمعهود من رأفته، وشمل الأمر بذلك جميع الأقطار، وكذلك صدر من التنكيل بمن ثبت جوره من القضاة والحكام، ما فيه زجر الظلمة وردع المعتدين.
وأما فعله في معاونة أهل الأندلس على الجهاد، ومحافظته على إمداد الثغور بالأموال والأقوات والسلاح، وفته في عضد العدو بإعداد العدد وإظهار القوة، فذلك أمر شهير، لم يغب علمه عن أهل المغرب والمشرق، ولا سبق إليه أحد من الملوك.
قال ابن جزي: حسب المتشوف إلى علم ما عند مولانا أيده الله من سداد القطر إلى المسلمين، ودفاع القوم الكافرين، ما فعله في فداء مدينة طرابلس أفريقية. فإنها لما استولى العدو عليها، ومد يد العدوان إليها، ورأى، أيده الله، أن بعث الجيوش إلى نصرتها لا يتأتى لبعد الأقطار، كتب إلى خدامه ببلاد إفريقية أن يفدوها بالمال. ففديت بخمسين ألف دينار من الذهب العين. فلما بلغه خبر ذلك قال: الحمد لله الذي استرجعها من أيدي الكفار بهذا النزر اليسير. وأمر للحين ببعث ذلك العدد إلى إفريقية، وعادت المدينة إلى الإسلام على يديه. ولم يخطر في الأوهام أن أحداً تكون عنده خمسة قناطير من الذهب نزراً يسيراً حتى جاء بها مولانا أيده الله مكرمة بعيدة، ومأثرة فائقة، قل في الملوك أمثالها وعز عليهم مثالها. ومما شاع من أفعال مولانا أيده الله في الجهاد إنشاؤه الأجفان بجميع السواحل، واستكثاره من عدد البحر، وهذا في زمان الصلح والمهادنة، إعداداً لأيام الغزاة. وأخذ بالحزم في قطع أطماع الكفار، وأكد ذلك بتوجهه، أيده الله، بنفسه إلى جبال جاناته في العام الفارط ليباشر قطع الخشب للإنشاء، ويظهر قدر ما له بذلك من الاعتناء، ويتولى بذاته أعمال الجهاد، مترجياً ثواب الله تعالى، وموقناً بحسن الجزاء.

ومن أعظم حسناته، أيده الله، عمارة المسجد الجديد بالمدينة البيضاء، دار ملكه العلي، وهو الذي امتاز بالحسن واتقان البناء وإشراق النور وبديع الترتيب، وعمارة المدرسة الكبرى بالموضع المعروف بالقصر مما يجاور قصبه فاس، ولا نظير لها في المعمورة اتساعاً وحسناً وإبداعاً وكثرة ماء وحسن وضع. ولم أر في مدارس الشام ومصر والعراق وخراسان ما يشبهها. وعمارة الزاوية العظمى على غدير الحمص، خارج المدينة البيضاء، فلا مثل لها أيضاً في عجيب وضعها وبديع صنعها. وأبدع زاوية رأيتها بالشرق زاوية سرياقص " سرياقوس " التي بناها الملك الناصر. وهذه أبدع منها وأشد إحكاماً وإتقاناً. والله سبحانه ينفع مولانا، أيده الله، بمقاصده الشريفة، ويكافئ فضائله المنيفة، ويديم للإسلام والمسلمين أيامه، وينصر ألويته المظفرة وأعلامه.
ولنعد إلى ذكر الرحلة فنقول: ولما حصلت لي مشاهدة هذا المقام الكريم، وعمني فضل إحسانه العميم، قصدت زيارة قبر الوالدة. فوصلت إلى بلدة طنجة وزرتها، وتوجهت إلى مدينة سبتة، فأقمت بها أشهراً، وأصابني بها المرض ثلاثة أشهر، ثم عافاني الله. فأردت أن يكون لي حظ من الجهاد والرباط، فركبت البحر من سبتة في شطي لأهل أصيلا، فوصلت إلى بلاد الأندلس، حرسها الله تعالى، حيث الأجر موفور للساكن، والثواب مذخور للمقيم والظاعن. وكان ذلك إثر موت طاغية الروم ألفونس، وحصاره الجبل عشرة أشهر، وظنه أنه يستولي على ما بقي من بلاد الأندلس للمسلمين. فأخذه الله من حيث لم يحتسب، ومات بالوباء الذي كان أشد الناس خوفاً منه. وأول بلد شاهدته من البلاد الأندلسية جبل الفتح. فلقيت به خطيبه الفاضل أبا زكريا يحيى بن السراج الرندي، وقاضيه عيسى البربري، وعنده نزلت وتطوفت معه على الجبل، فرأيت عجائب ما بني به مولانا أبو الحسن، رضي الله عنه، وأعد فيه من العدد، وما زاد على ذلك مولانا، أيده الله. وودت لو كنت ممن رابط به إلى نهاية العمر.
قال ابن جزي: جبل الفتح هو معقل الإسلام المعترض شجىً في حلوق عبدة الأصنام، حسنة مولانا أبي الحسن، رضي الله عنه، المنسوبة إليه، وقربته التي قدمها نوراً بين يديه، محل عدد لجهاد، ومقر آساد الأجناد، والثغر الذي افتر عن نصر الإيمان، وأذاق أهل الأندلس بعد مرارة الخوف حلاوة الأمان، ومنه كان مبدأ الفتح الأكبر، وبه نزل طارق بن زياد، مولى موسى بن نصير، عند جوازه، فنسب إليه، فيقال له: جبل طارق، وجبل الفتح، لأن مبدأه كان منه. وبقايا السور الذي بناه من معه باقية إلى الآن، تسمى بسور العرب. شاهدتها أيام إقامتي به عند حصار الجزيرة، أعادها الله، ثم فتحه مولانا أبو الحسن، رضوان الله عليه، واسترجعه من أيدي الروم بعد تملكهم له عشرين سنة ونيفاً، وبعث إلى حصاره ولده الأمير الجليل أبا مالك، وأيده بالأموال الطائلة والعساكر الجرارة. وكان فتحه بعد حصار ستة أشهر، وذلك في عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، ولم يكن حينئذٍ على ما هو الآن عليه. فبنى به مولانا أبو الحسن، رحمة الله عليه، المأثرة العظمى بأعلى الحصن، وكانت قبل ذلك برجاً صغيراً، تهدم بأحجار المجانيق، فبناها مكانه، وبنى به دار الصناعة، ولم يكن به دار صنعة، وبنى السور الأعظم المحيط بالتربة الحمراء، الآخذ من دار الصنعة إلى القرمدة. ثم جدد مولانا أمير المؤمنين أبو عنان، أيده الله، عهد تحصينه وتحسينه، وزاد بناء السور بطرف الفتح، وهو أعظم أسواره غناء، وأعمها نفعاً. وبعث إليه العدد الوافرة والأقوات والمرافق العامة، وعامل الله تعالى فيه بحسن النية، وصدق الإخلاص. ولما كان في الأشهر الأخيرة من عام ستة وخمسين، وقع بجبل الفتح ما ظهر فيه أثر يقين مولانا، أيده الله، وثمرة توكله في أموره على الله، وبان مصداق ما اطرد له من السعادة الكافية. وذلك أن عامل الجبل الخائن الذي ختم له بالشقاء عيسى بن الحسن بن أبي منديل نزع يده المغلولة عن الطاعة، وفارق عصمة الجماعة، وأظهر النفاق، وجمح في الغدر والشقاق، وتعاطى ما ليس من رجاله، وعمي عن مبدأ حاله السيء ومآله، وتوهم الناس أن ذلك مبدأ فتنة تنفق على إطفائها كرائم الأموال، ويستعد لاتقائها بالفرسان والرجال. فحكمت سعادة مولانا، أيده الله ببطلان هذا التوهم، وقضى صدق يقينه بانخراق العادة في هذه الفتنة، فلم تكن إلا أيام يسيرة، وراجع أهل الجبل بصائرهم، وثاروا على الثائر، وخالفوا الشقي المخالف، وقاموا بالواجب من الطاعة، وقبضوا عليه وعلى ولده المساعد له في النفاق، وأتي بهما مصفدين إلى الحضرة العلية، فنفذ فيهما حكم الله في المحاربين، وأراح الله من شرهما. ولما خمدت نار الفتنة أظهر مولانا، أيده الله من العناية ببلاد الأندلس ما لم يكن في حساب أهلها، وبعث إلى جبل الفتح ولده الأسعد المبارك الأرشد أبا بكر، المدعو من السمات السلطانية بالسعيد، أسعده الله تعالى، وبعث معه أنجاد الفرسان ووجوه القبائل وكفاة الرجال، وأدر عليهم الأرزاق، ووسع لهم الإقطاع، وحرر بلادهم من المغارم، وبذل لهم جزيل الإحسان. وبلغ من اهتمامه بأمور الجبل أن أمر، أيده الله، ببناء شكل يشبه شكل الجبل المذكور، فمثل فيه أشكال أسواره وأبراجه وحصنه وأبوابه ودار صنعته ومساجده ومخازن عدده وأهرية زرعه وصورة الجبل، وما اتصل به من التربة الحمراء. فصنع ذلك بالمشور السعيد، فكان شكلاً عجيباً أتقنه الصناع إتقاناً يعرف قدره من شاهد الجبل، وشاهد هذا المثال، وما ذلك إلا لتشوقه، أيده الله، إلى استطلاع أحواله وتهممه بتحصينه وإعداده. والله تعالى يجعل نصر الإسلام بالجزيرة الغربية على يديه، ويحقق ما يؤمله في فتح بلاد الكفار، وشت شمل عباد الصليب. وتذكرت حين هذا التقييد قول الأديب البليغ المفلق أبي عبد الله محمد بن غالب الرصافي البلنسي، رحمه الله، في وصف هذا الجبل المبارك من قصيدته الشهيرة في مدح عبد المؤمن بن علي التي أولها:

لو جئت نار الهدى من جانب الطور قبست ما شئت من علم ومن نور
وفيها يقول في وصف الجبل، وهو من البديع الذي لم يسبق إليه، بعد وصفه السفن وجوازها:

حتى رمت جبل الفتحين من جبل معظم القدر في الأجيال مذكور
من شامخ الأنف في سحنائه طلس له من الغيم جيب غير مزرور


تمسي النجوم على تكليل مفرقه في الجو حائمة مثل الدنانير
فربما مسحته من ذوائبها بكل فضل على فوديه مجرور
وادردٍ من ثناياه بما أخذت منه معاجم أعواد الدهارير
محنك حلب الأيام أشطرها وساقها سوق حادي العير للعير
مقيد الخطو جوال الخواطر في عجيب أمر به من ماضٍ ومنظور
قد واصل الصمت والإطراق مفتكراً بادي السكينة مغبر الأسارير
كأنه مكمد مما تعبده خوف الوعيدين من دك وتسيير
أخلق به وجبال الأرض راجفة أن يطمئن غداً من كل محذور
ثم استمر في قصيدته على مدح عبد المؤمن بن علي.
قال ابن جزي: ولنعد إلى كلام الشيخ أبي عبد الله قال: ثم خرجت من جبل الفتح إلى مدينة رندة، وهي من أمنع معاقل المسلمين وأجملها وضعاً، وكان قائدها إذ ذاك الشيخ أبو الربيع سليمان بن داود العسكري، وقاضيها ابن عمي الفقيه أبو القاسم محمد بن يحيى بن بطوطة. ولقيت بها الفقيه القاضي الأديب أبا الحجاج يوسف بن موسى المنتشاقري، وأضافني بمنزله، ولقيت بها أيضاً خطيبها الصالح الحاج الفاضل أبا إسحاق إبراهيم المعروف بالشندرخ، المتوفى بعد ذلك بمدينة سلا من بلاد المغرب، ولقيت بها جماعة من الصالحين منهم عبد الله الصفار وسواه. وأقمت بها خمسة أيام.
ثم سافرت منها إلى مدينة مربلة، والطريق فيما بينهما صعب شديد الوعورة، ومربلة بليدة حسنة خصبة. ووجدت بها جماعة من الفرسان متوجهين إلى مالقة، فأردت التوجه في صحبتهم. ثم إن الله تعالى عصمني بفضله فتوجهوا قبلي، فأسروا في الطريق، كما سنذكره. وخرجت في أثرهم، فلما جاوزت حوز مربلة، ودخلت في حوز سهيل، مررت بفرس ميت في بعض الخنادق، ثم مررت بقفة حوات مطروحة بالأرض، فرابني ذلك، وكان أمامي برج الناظور. فقلت في نفسي: لو ظهر ها هنا عدو لأنذر به صاحب البرج. ثم تقدمت إلى دار هنالك، فوجدت فرساً مقتولاً. فبينما أنا هنالك، إذا سمعت الصياح من خلفي، وكنت قد تقدمت أصحابي، فعدت إليهم، فوجدت معهم قائد حصن سهيل، فأعلمني أن أربعة أجفان للعدو ظهرت هنالك، ونزل بعض عمارتها إلى البر. ولم يكن الناظور. بالبرج، فمر بهم الفرسان الخارجون من مربلة، وكانوا اثني عشر، فقتل النصارى أحدهم، وفر واحد، وأسر العشرة. وقتل معهم رجل حوات، وهو الذي وجدت قفته مطروحة بالأرض. وأشار علي ذلك القائد بالمبيت معه في موضعه ليوصلني منه إلى مالقة، فبت عنده بحصن الرابطة المنسوب إلى سهيل. والأجفان المذكورة مرساة عليه. وركب معي بالغد، فوصلنا إلى مدينة مالقة، إحدى قواعد الأندلس، وبلادها الحسان جامعة بين مرافق البر والبحر، كثيرة الخيرات والفواكه. رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير. ورمانها المرسي الياقوتي لا نظير له في الدنيا. وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب. قال ابن جزي: وإلى ذلك أشار الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي في قوله، وهو من مليح التجنيس:

مالقة حييت ياتينها فالفلك من أجلك يأتينها
نهى طبيبي عنك في علة ما لطبيبي عن حياتي نهى
وذيلها قاضي الجماعة أبو عبد الله بن عبد الملك بقوله في قصد المجانسة:

وحمص لا تنس لها تينها واذكر مع التين زياتينها
وبمالقة يصنع الفخار المذهب العجيب، ويجلب منها إلى أقاصي البلاد. ومسجدها كبير الساحة، شهير البركة، وصحنه لا نظير له في الحسن، فيه أشجار النارنج البعيدة. ولما دخلت مالقة، وجدت قاضيها الخطيب الفاضل أبا عبد الله ابن خطيبها الفاضل أبي جعفر ابن خطيبها ولي الله تعالى أبي عبد الله الطنجالي قاعداً بالجامع الأعظم، ومعه الفقهاء ووجوه الناس، يجمعون مالاً برسم فداء الأسارى الذين تقدم ذكرهم. فقلت له: الحمد لله الذي عافاني، ولم يجعلني منهم. وأخبرته بما اتفق لي بعدهم، فعجب من ذلك، وبعث إلي بالضيافة، رحمه الله. وأضافني أيضاً خطيبها أبو عبد الله الساحلي المعروف بالمعمم
ثم سافرت منها إلى مدينة بلش، وبينهما أربعة وعشرون ميلاً. وهي مدينة حسنة، بها مسجد عجيب، وفيها الأعناب والفواكه والتين، كمثل ما بمالقة. ثم سافرنا منها إلى الحمة، وهي بلدة صغيرة، لها مسجد بديع الوضع عجيب البناء. وبها العين الحارة على ضفة واديها، وبينها وبين البلد ميل أو نحوه. وهنالك بيت لاستحمام الرجال، وبيت لاستحمام النساء.
ثم سافرت منها إلى مدينة غرناطة، قاعدة بلاد الأندلس ، وعروس مدنها، وخارجها لا نظير له في بلاد الدنيا، وهو مسيرة أربعين ميلاً، يخترقه نهر شنيل المشهور، وسواه من الأنهار الكثيرة، والبساتين والجنان والرياض والقصور. والكروم محدقة بها من كل جهة. ومن عجيب مواضعها عين الدمع، وهو جبل فيه الرياض والبساتين، لا مثل لها بسواها. قال ابن جزي: لولا خشيت أن أنسب إلى العصبية لأطلت القول في وصف غرناطة، فقد وجدت مكانه. ولكن ما اشتهر كاشتهارها، لا معنى لإطالة القول فيه. ولله در شيخنا أبي بكر محمد بن أحمد بن شيرين البستي، نزيل غرناطة، حيث يقول:

رعى الله من غرناطةٍ متبوأ يسر حزيناً أو يجير طريداً
تبرم منها صاحبي عند ما رأى مسارحها بالثلج عدن جليدا
هي الثغر، صان الله من أهلت به وما خير ثغر لا يكون برودا
ذكر سلطان غرناطة
وكان ملك غرناطة في عهد دخولي إليها السلطان أبا الحجاج يوسف بن السلطان أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر. ولم ألقه بسبب مرض كان به. وبعثت إلى والدته الحرة الصالحة الفاضلة بدنانير ذهب ارتفقت بها. ولقيت بغرناطة جملة من فضلائها، منهم قاضي الجماعة بها الشريف البليغ أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسيني السبتي، ومنهم فقيهها المدرس الخطيب العالم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البياني، ومنهم قاضيها وعالمها ومقرئها الخطيب أبو سعيد فرج بن قاسم، الشهير بابن لب، ومنهم قاضي الجماعة، نادرة العصر وطرفة الدهر أبو البركات محمد بن محمد بن إبراهيم السلمي البلعبعي. قدم عليها من المرية في تلك الأيام، فوقع الاجتماع به في بستان بالفقيه أبي القاسم محمد ابن الفقيه الكاتب الجليل أبي عبد الله بن عاصم. واقمنا هنالك يومين وليلة.
قال ابن جزي: كنت معهم في ذلك البستان، ومتعنا الشيخ أبو عبد الله بأخبار رحلته، وقيدت عنه أسماء الأعلام الذين لقيهم فيها، واستفدنا منه الفوائد العجيبة. وكان معنا جملة من وجوه أهل غرناطة، منهم الشاعر المجيد الغريب الشأن أبو جعفر أحمد بن رضوان بن عبد العظيم الجذامي. ولهذا الفتى أمر عجيب، فإنه نشأ بالبادية، ولم يطلب العلم، ولا مارس الطلبة. ثم إنه نبغ بالشعر الجيد الذي يندر وقوعه من كبار البلغاء وصدور الطلبة مثل قوله:

يا من اختار فؤادي منزلاً بابه العين التي ترمقه
فتح الباب سهادي بعدكم فابعثوا طيفكم يغلقه
ولقيت بغرناطة الشيوخ والمتصوفين منهم الفقيه أبا علي عمر بن الشيخ الصالح الولي أبي عبد الله محمد بن المحروق، وأقمت أياماً بزاويته التي بخارج غرناطة، وأكرمني أشد الإكرام.
وتوجهت معه إلى زيارة الزاوية الشهيرة البركة المعروفة برابطة العقاب، والعقاب جبل مطل على خارج غرناطة، وبينهما نحو ثمانية أميال، وهو مجاور لمدينة التيرة الخربة. ولقيت أيضاً ابن أخيه الفقيه أبا الحسن علي بن أحمد بن المحروق بزاويته المنسوبة للجام، بأعلى ربض نجد، من خارج غرناطة، المتصل بجبل السبيكة، وهو شيخ المتسببين من الفقراء.
وبغرناطة جملة من فقراء العجم، استوطنوها لشبهها ببلادهم. ومنهم الحاج أبو عبد الله السمرقندي، والحاج أحمد التبريزي، والحاج إبراهيم القونوي، والحاج حسين الخراساني والحاجان علي ورشيدي الهنديان، وسواهم.

ثم رحلت من غرناطة إلى الحمة، ثم إلى بلش، ثم إلى مالقة، ثم إلى حصن ذكوان، وهو حصن حسن كثير المياه والأشجار والفواكه، ثم سافرت منه إلى رندة، ثم إلى قرية بني رياح. فأنزلني شيخها أبو الحسن علي بن سليمان الرياحي، وهو أحد كرماء الرجال وفضلاء الأعيان، يطعم الصادر والوارد، وأضافني ضيافة حسنة. ثم سافرت إلى جبل الفتح، وركبت البحر في الجفن الذي جزت فيه أولاً، وهو لأهل أصيلا، فوصلت إلى سبتة. وكان قائدها إذ ذاك الشيخ أبو مهدي عيسى بن سليمان بن منصور، وقاضيها الفقيه أبا محمد الزجندري. ثم سافرت منها إلى أصيلا، وأقمت بها شهوراً. ثم سافرت منها إلى مدينة سلا، فوصلت إلى مدينة مراكش. وهي من أجمل المدن، فسيحة الأرجاء، متسعة الأقطار. كثيرة الخيرات، بها المساجد الضخمة، كمسجدها الأعظم المعروف بمسجد الكتبيين، وبها الصومعة الهائلة العجيبة، صعدتها، وظهر لي جميع البلد منها. وقد استولى عليه الخراب. فما شبهته إلا بغداد، إلا أن أسواق بغداد أحسن.
وبمراكش المدرسة العجيبة التي تميزت بحسن الوضع وإتقان الصنعة وهي من بناء الإمام مولانا أمير المسلمين أبي الحسن رضوان الله عليه. قال ابن جزي: في مراكش يقول قاضيها الإمام التاريخي أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الأوسي:

لله مراكش الغراء من بلد وحبذا أهلها السادات من سكن
ان حلها نازح الأوطان مغترب أسلوه بالأنس عن أهل وعن وطن
بين الحديث بها أو العيان لها ينشأ التحاسد بين العين والأذن
ثم سافرنا من مراكش، صحبة الركاب العلي، ركاب مولانا أيده الله، فوصلنا إلى مدينة سلا، ثم إلى مدينة مكناسة العجيبة الخضرة النضرة ذات البساتين والجنات، المحيطة بها بحائر الزيتون من جميع نواحيها. ثم وصلنا إلى حضرة فاس، حرسها الله تعالى، فوادعت بها مولانا أيده الله، وتوجهت برسم السفر إلى بلاد السودان، فوصلت إلى مدينة سجلماسة. وهي من أحسن المدن، وبها التمر الكثير الطيب، وتشبهها مدينة البصرة في كثرة التمر. لكن تمر سجلماسة أطيب، وصنف إيرار منه لا نظير له في البلاد. ونزلت منها عند الفقيه أبي محمد البشري، وهو الذي لقيت أخاه بمدينة قنجنفو من بلاد الصين. فيا شد ما تباعدا، فأكرمني غاية الإكرام، واشتريت بها الجمال، وعلفتها أربعة أشهر.
ثم سافرت في غرة شهر الله المحرم سنة ثلاث وخمسين، في رفقة مقدمها أبو محمد يندكان المسوفي رحمه الله تعالى، وفيها جماعة من تجار سجلماسة وغيرهم. فوصلنا بعد خمسة وعشرين يوماً إلى تغازى، وضبط اسمها " بفتح التاء المثناة والغين المعجم وألف وزاي مفتوح أيضاً "، وهي قرية لاخير فيها. ومن عجائبها أن بناء بيوتها ومسجدها من حجارة الملح، وسقفها من جلول الجمال. ولا شجر بها، إنما هي رمل في معدن الملح، يحفر عليه في الأرض، فيوجد منه ألواح ضخام متراكبة، كأنها قد نحتت ووضعت تحت الأرض، يحمل الجمل منها لوحين. ولا يسكنها إلا عبيد مسوفة، وهم الذين يحفرون على الملح، ويتعيشون بما يجلب إليهم من تمر درعة وسجلماسة، ومن لحوم الجمال، ومن أنلي المجلوب من بلاد السودان، ويصل السودان من بلادهم، فيحملون منها الملح. ويباع الحمل منه بأيوالاتن بعشرة مثاقيل إلى ثمانية، وبمدينة مالي بثلاثين مثقالاً إلى عشرين، وربما انتهى إلى أربعين مثقالاً.
وبالملح يتصارف السودان، كما يتصارف بالذهب والفضة. يقطعونه قطعاً، ويتبايعون به. وقرية تغازى على حقارتها يتعامل فيها بالقناطير المقنطرة من التبن. وأقمنا بها عشرة أيام في جهد، لأن ماءها زعاق. وهي أكثر المواضع ذباباً، ومنها يرفع الماء لدخول الصحراء التي بعدها. وهي مسيرة عشرة، لا ماء فيها إلا في النادر. ووجدنا نحن بها ماء كثيراً في غدران أبقاها المطر. ولقد وجدنا في بعض الأيام غديراً بين تلين من حجارة، ماؤه عذب، فتروينا منه، وغسلنا ثيابنا. والكمأة بتلك الصحراء كثيرة، ويكثر القمل بها، حتى يجعل الناس في أعناقهم خيوطاً فيها الزئبق، فيقتلها. وكنا في تلك الأيام نتقدم أمام القافلة، فإذا وجدنا مكاناً يصلح للرعي رعينا الدواب به. ولم نزل كذلك حتى ضاع في الصحراء رجل يعرف بابن زيري، فلم أتقدم بعد ذلك، ولا تأخرت. وكان ابن زيري وقعت بينه وبين ابن خاله، ويعرف بابن عدي منازعة ومشاتمة، فتأخر عن الرفقة، فضل. فلما نزل الناس، لم يظهر له خبر. فأشرت على ابن خاله بأن يكتري من مسوفة، من يقص أثره لعله يجده فأبى، وانتدب في اليوم الثاني رجل من مسوفة دون أجرة لطلبه، فوجد أثره، وهو يسلك الجادة طوراً، ويخرج عنها تارة، ولم يقع له على خبر. ولقد لقينا قافلة في طريقنا، فأخبرونا أن بعض رجال انقطعوا عنهم. فوجدنا أحدهم ميتاً تحت شجيرة من أشجار الرمل، وعليه ثيابه، وفي يده سوط. وكان الماء على نحو ميل منه. ثم وصلنا إلى تاسرهلا " بفتح التاء المثناة والسين المهمل والراء وسكون الهاء "، وهي احساء ماء، تنزل القوافل عليها، ويقيمون ثلاثة أيام. فيستريحون ويصلحون أسقيتهم ويملأونها بالماء ويخيطون عليها التلاليس خوف الريح، ومن هنالك يبعث التكشيف.
ذكر التكشيف
التكشيف اسم لكل رجل من مسوفة يكتريه أهل القافلة، فيتقدم إلى أيوالاتن يكتب الناس إلى أصحابهم بها، ليكتروا لهم الدور، ويخرجون للقائهم بالماء، مسيرة أربع. ومن لم يكن له صاحب بأيوالاتن، كتب إلى من شهر بالفضل من التجار بها، فيشاركه في ذلك. وربما هلك التكشيف في هذه الصحراء، فلا يعلم أهل أيوالاتن بالقافلة، فيهلك أهلها، أو الكثير منهم. وتلك الصحراء كثيرة الشياطين، فإن كان التكشيف منفرداً لعبت به، واستهوته حتى يضل عن قصده فيهلك، إذ لا طريق يظهر بها ولا أثر، إنما هي رمال تسفيها الريح، فترى جبالاً من الرمل في مكان، ثم تراها قد انتقلت إلى سواه، والدليل هنالك من كثر تردده، وكان له قلب ذكي. ورأيت من العجائب أن الدليل الذي كان لنا هو أعور العين الواحدة، مريض الثانية، وهو أعرف الناس بالطريق. واكترينا التكشيف في هذه السفرة بمائة مثقال من الذهب، وهو من مسوفة. وفي ليلة اليوم السابع رأينا نيران الذين خرجوا للقائنا، فاستبشرنا بذلك. وهذه الصحراء منيرة مشرقة، ينشرح الصدر فيها، وتطيب النفس. وهي آمنة من السراق. والبقر الوحشية بها كثيراً، يأتي القطيع منها حتى يقرب من الناس فيصطادونه بالكلاب والنشاب. لكن لحمها يولد أكله العطش، فيتحاماه كثير من الناس لذلك. ومن العجائب أن هذه البقرة إذا قتلت، وجد في كروشها الماء. ولقد رأيت أهل مسوفة يعصرون الكرش منها، ويشربون الماء الذي فيه. والحيات أيضاً بهذه الصحراء كثيرة.
حكاية
وكان في القافلة تاجر تلمساني يعرف بالحاج زيان. ومن عادته أن يقبض على الحيات، ويعبث بها. وكنت أنهاه عن ذلك، فلا ينتهي. فلما كان ذات يوم أدخل يده في حجر ضب ليخرجه، فوجد مكانه حية، فأخذها بيده. وأراد الركوب، فلسعته في سبابته اليمنى، وأصابه وجع شديد. فكويت يده، وزاد ألمه عشي النهار، فنحر جملاً وأدخل يده في كرشه وتركها كذلك ليلة، ثم تناثر لحم إصبعه، فقطعها من الأصل. وأخبرنا أهل مسوفة ان تلك الحية كانت قد شربت الماء قبل لسعه، ولو لم تكن شربت لقتلته. ولما وصل إلينا الذين استقبلونا بالماء شربت خيلنا. ودخلنا صحراء شديدة الحر، ليست كالتي عهدنا. وكنا نرحل بعد صلاة العصر، ونسري الليل كله وننزل عند الصباح. وتأتي الرجال من مسوفة وبردامة وغيرهم بأحمال الماء للبيع. ثم وصلنا إلى مدينة إيوالاتن في غرة شهر ربيع الأول، بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة. وهي أول عمالة السودان، ونائب السلطان بها فربا حسين، وفربا " بفتح الفاء وسكون الواو وفتح الباء الموحدة " ومعناه النائب. ولما وصلناها جعل التجار أمتعتهم في رحبة، وتكفل لسودان بحفظها، وتوجهوا إلى الفربا، وهو جالس على بساط في سقيف، أعوانه بين يديه بأيديهم الرماح والقسي، وكبراء مسوفة من ورائه. ووقف التجار بين يديه، وهو يكلمهم بترجمان على قربهم منه، احتقاراً لهم. فعند ذلك ندمت على قدومي بلادهم، لسوء أدبهم، واحتقارهم للأبيض. وقصدت دار ابن بداء، وهو رجل فاضل من أهل سلا، كنت كتبت له أن يكتري لي داراً، ففعل ذلك. ثم إن مشرف أيوالاتن، ويسمى منشاجو، " بفتح الميم وسكون النون وفتح الشين المعجم والف وجيم مضموم وواو " استدعى من جاء في القافلة إلى ضيافته، فأبيت حضور ذلك. فعزم الأصحاب علي أشد العزم، فتوجهت فيمن توجه. ثم أتي بالضيافة، وهي جريش أنلي مخلوطاً بيسير عسل ولبن، قد وضعوه في نصف قرعة صيروه شبه الجفنة، فشرب الحاضرون وانصرفوا. فقلت لهم: ألهذا دعانا الأسود ? قالوا: نعم، وهي الضيافة الكبيرة عندهم. فأيقنت حينئذ أن لا خير يرتجى منهم، وأردت أن أسافر مع حجاج أيوالاتن، ثم ظهر لي أن أتوجه لمشاهدة حضرة ملكهم. وكانت إقامتي بأيوالاتن نحو خمسين يوماً. وأكرمني أهلها، وأضافوني. منهم قاضيها محمد بن عبد الله بن ينومر، وأخوه الفقيه المدرس يحيى. وبلدة أيوالاتن شديدة الحر، وفيها يسير نخيلات، يزرعون في ظلالها البطيخ. وماؤهم من أحساء بها، ولحم الضأن كثير بها. وثياب أهلها حسان مصرية، وأكثر السكان بها من مسوفة. ولنسائها الجمال الفائق، وهن أعظم شأناً من الرجال.
ذكر مسوفة الساكنين بأيوالاتن
وشأن هؤلاء القوم عجيب، وأمرهم غريب، فأما رجالهم فلا غيرة لديهم، ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه، بل ينتسب لخاله، ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بنيه. وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود. وأما هؤلاء فهم مسلمون محافظون على الصلوات وتعلم الفقه وحفظ القرآن. وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال، ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات. ومن أراد التزوج منهن تزوج، لكنهن لا يسافرن مع الزوج، ولو أرادت إحداهن ذلك لمنعها أهلها. والنساء هنالك يكون لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب، وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات. ويدخل أحدهم داره، فيجد امرأته ومعها صاحبها، فلا ينكر ذلك.
حكاية دخلت يوماً على القاضي بأيوالاتن بعد إذنه في الدخول، فوجدت عنده امرأة صغيرة السن بديعة الحسن، فلما رأيتها ارتبت وأردت الرجوع، فضحكت مني ولم يدركها خجل. وقال لي القاضي: لم ترجع ? إنها صاحبتي. فعجبت من شأنهما، فإنه من الفقهاء الحجاج، واخبرت أنه استأذن السلطان في الحج في ذلك العام مع صاحبته، لا أدري، أهي هذه أم لا ? فلم يأذن له.
حكاية نحوها
دخلت يوماً على أبي محمد يندكان المسوفي الذي قدمنا في صحبته، فوجدته قاعداً على بساط، وفي وسط داره سرير مظلل، عليه امرأة معها رجل قاعد، وهما يتحدثان. فقلت له: من هذه المرأة ? فقال: هي زوجتي. فقلت: ومن الرجل الذي معها ? فقال: هو صاحبها. فقلت له: أترضى بهذا ? وأنت قد سكنت بلادنا، وعرفت أمور الشرع. فقال لي: مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وأحسن طريقة، لا تهمة فيها، ولسن كنساء بلادكم. فعجبت من رعونته، وانصرفت عنه، فلم أعد إليه بعدها. واستدعاني في مرات، فلم أجبه. ولما عزمت على السفر إلى مالي، وبينها وبين أيوالاتن مسيرة أربعة وعشرين يوماً للمجد، اكتريت دليلاً من مسوفة، إذ لا حاجة إلى السفر في رفقة إلا من تلك الطريق، وخرجت في ثلاثة من أصحابي. وتلك الطريق كثيرة الأشجار، وأشجارها عادية ضخمة، تستظل القافلة بظل الشجرة منها، وبعضها لا أغصان لها ولا ورق، لكن ظل جسدها بحيث يستظل به الانسان، وبعض تلك الأشجار قد استأسن داخلها، واستنقع فيه ماء المطر، فكأنها بئر، ويشرب الناس من الماء الذي فيها. ويكون في بعضها النحل والعسل، فيشتاره الناس منها. ولقد مررت بشجرة منها. فوجدت في داخلها رجلاً حائكاً، قد نصب بها مرمته، وهو ينسج. فعجبت منه. قال ابن جزي: إن ببلاد الأندلس شجرتين من شجر القسطل، في جوف كل واحدة منهما حائك، ينسج الثياب إحداهما بسندا وادي آش، والأخرى ببشارة غرناطة.
وفي أشجار هذه الغابة التي بين أيوالاتن ومالي ما يشبه ثمرة الإجاص، والتفاح والخوخ والمشمش، وليست بها. وفيها أشجار تثمر شبه الفقوس، فإذا طاب انفلق عن شيء شبه الدقيق، فيطبخونه ويأكلونه، ويباع بالأسواق. ويستخرجون من هذه الأرض حبات كالفول، فيقلونها ويأكلونها، وطعمها كطعم الحمص المقلو. وربما طحنوها وصنعوا منها شبه الإسفنج، وقلوه بالغرتي، والغرتي " بفتح الغين المعجم وسكون الراء وكسر التاء المثناة " هو ثمر كالإجاص، شديد الحلاوة مضر بالبيضان إذا أكلوه، ويدق عظمه، فيستخرج منه زيت لهم فيه منافع، فمنها أنهم يطبخون به، ويسرجون السرج ويقلون به هذا الإسفنج، ويدهنون به، ويخلطونه بتراب عندهم، ويسطحون به الدور، كما تسطح بالجير. وهو عندهم كثير متيسر، ويحمل من بلد إلى بلد في قرع كبار، تسع القرعة منها قدر ما تسعه القلة ببلادنا. والقرع ببلاد السودان يعظم، ومنه يصنعون الجفان. يقطعون القرعة نصفين، فيصنعون منها جفنتين، وينقشونها نقشاً حسناً. وإذا سافر أحدهم يتبعه عبيده وجواريه، يحملون فرشه وأوانيه التي يأكل ويشرب فيها، وهي من القرع.
والمسافر بهذه البلاد لا يحمل زاداً ولا إداماً ولا ديناراً ولا درهماً. إنما يحمل قطع الملح، وحلي الزجاج الذي يسميه الناس النظم، وبعض السلع العطرية. وأكثر ما يعجبهم منها القرنفل والمصطكي وتاسرغنت، وهو بخورهم، فإذا وصل قرية، جاءت نساء السودان بأنلي واللبن والدجاج ودقيق النبق والأرز والفوني، وهو كحب الخردل يصنع من الكسكسو، والعصيدة، ودقيق اللوبيا، فيشتري منهن ما أحب من ذلك. إلا أن الأرز يضر أكله بالبيضان، والفوني خير منه. وبعد مسيرة عشرة أيام من أيوالاتن وصلنا إلى قرية زاغري " وضبطها بفتح الزاي والغين المعجم وكسر الراء "، وهي قرية كبيرة يسكنها تجار السودان، ويسمون ونجراته " بفتح الواو وسكون النون وفتح الجيم والراء والف وتاء مثناة وتاء تأنيث "، ويسكن معهم جماعة من البيضان، يذهبون مذهب الإباضية من الخوارج، ويسمون صغنغو " بفتح الصاد المهمل والغين المعجم الأول والنون وضم الغين الثاني وواو "، والسنيون المالكيون من البيض يسمون عندهم توري " بضم التاء المثناة وواو وراء مكسورة ". ومن هذه القرية يجلب أنلي إلى أيوالاتن.

ثم سرنا من زاغري فوصلنا إلى النهر الأعظم، وهو النيل وعليه بلدة كارسخو " بفتح الكاف وسكون الراء وفتح السين المهمل وضم الخاء المعجم وواو "، والنيل ينحدر منها إلى كابرة " بفتح الباء الموحدة والراء "، ثم إلى زاغة " بفتح الزاي والغين المعجم "، ولكابرة وزاغة سلطانان يؤديان الطاعة لملك مالي. وأهل زاغة قدماء في الإسلام. ولهم ديانة وطلب للعلم، ثم ينحدر النيل من زاغة إلى تنبكتو، ثم إلى كوكو، وسنذكرهما، ثم إلى بلدة مولي " بضم الميم وكسر اللام " من بلاد الليميين، وهي آخر عمالة مالي، ثم إلى يوفي واسمها " بضم الياء آخر الحروف وواو مكسورة "، وهي من أكبر بلاد السودان، وسلطانها من أعظم سلاطينهم. ولا يدخلها الأبيض من الناس، لأنهم يقتلونه قبل الوصول إليها، ثم ينحدر إلى بلاد النوبة، وهم على دين النصراينة، ثم إلى دنقلة، وهي أكبر بلادهم " وضبطها ضم الدال والقاف وسكون النون بينهما وفتح اللام "، وسلطانها يدعي بابن كنز الدين، أسلم على أيام الملك الناصر، ثم ينحدر إلى جنادل، وهي آخر عمالة السودان، وأول عمالة أسوان من صعيد مصر، ورأيت التمساح بهذا الموضع من النيل بالقرب من الساحل، كأنه قارب صغير. ولقد نزلت يوماً إلى النيل لقضاء حاجة، فإذا بأحد السودان قد جاء، ووقف فيما بيني وبين النهر. فعجبت من سوء أدبه. وقلة حيائه، وذكرت ذلك لبعض الناس فقال: إنما يفعل ذلك خوفاً عليك من التمساح، فحال بينك وبينه. ثم سرنا من كارسخو فوصلنا إلى نهر صنصرة " بفتح الصادين المهملين والراء وسكون النون "، وهو على نحو عشرة أميال من مالي. وعادتهم أن يمنع الناس من دخولها إلا بإذن. وكنت كتبت قبل ذلك لجماعة البيضان، وكبيرهم محمد بن الفقيه الجزولي، وشمس الدين بن النقويش المصري، ليكتروا لي داراً، فلما وصلت إلى النهر المذكور، جزت في المعدية، ولم يمنعني أحد، فوصلت إلى مدينة مالي حضرة ملك السودان، فنزلت عند مقبرتها، ووصلت إلى محلة البيضان، وقصدت محمد بن الفقيه، فوجدته قد اكترى لي داراً إزاء داره، فتوجهت إليها. وجاء صهره الفقيه المقرئ عبد الواحد بشمعة وطعام، ثم جاء ابن الفقيه إلي من الغد وشمس الدين بن النقويش، وعلي الزودي المراكشي، وهو من الطلبة، ولقيت القاضي بمالي عبد الرحمن، جاءني وهو من السودان، حاج فاضل، له مكارم أخلاق، بعث إلي بقرة في ضيافته. ولقيت الترجمان دوغا " بضم الدال وواو وغين معجم "، وهو من أفاضل السودان وكبارهم، وبعث إلي بثور، وبعث إلي الفقيه عبد الواحد غرارتين من الفوني، وقرعة من الغرتي، وبعث إلي ابن الفقيه الأرز والفوني، وبعث إلي شمس الدين ضيافة وقاموا بحقي أتم قيام. شكر الله حسن أفعالهم. وكان ابن الفقيه متزوجاً ببنت عم السلطان، فكانت تتفقدنا بالطعام وغيره. وأكلنا بعد عشرة أيام من وصولنا عصيدة تصنع شيء شبه القلقاس، يسمى القافي " بقاف والف وفاء "، وهي عندهم مفضلة على سائر الطعام. فأصبحنا جميعاً مرضى، وكنا ستة. فمات أحدنا، وذهبت أنا لصلاة الصبح، فغشي علي فيها، وطلبت من بعض المصريين دواء مسهلاً فأتى بشيء يسمى بيدر " بفتح الباء الموحدة وتسكين الياء آخر الحروف وفتح الدال المهمل وراء "، وهو عروق نبات، وخلطه بالأنيسون والسكر، ولته بالماء فشربته، وتقيأت ما أكلته مع صفراء كثيرة. وعافاني الله من الهلاك. ولكني مرضت شهرين.
ذكر سلطان مالي
وهو السلطان منسى سليمان، ومنسى " بفتح الميم وسكون النون وفتح السين المهمل " معناه السلطان، وسليمان اسمه وهو ملك بخيل لا يرجى منه كبير عطاء، واتفق أني أقمت هذه المدة ولم أره بسبب مرضي، ثم إنه صنع له طعاماً برسم عزاء مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، واستدعى الأمراء والفقهاء والقاضي والخطيب، وحضرت معهم فأتوا بالربعات وختم القرآن، ودعوا لمولانا أبي الحسن رحمه الله، ودعوا المنسى سليمان، ولما فرغ من ذلك، تقدمت فسلمت على منسى سليمان، وأعلمه القاضي والخطيب وابن الفقيه بحالي، فأجابهم بلسانهم فقالوا لي: يقول لك السلطان: اشكر الله فقلت: الحمد لله، والشكر على كل حال.
ذكر ضيافتهم التافهة وتعظيمهم لها
ولما انصرفت بعث إلي الضيافة فوجهت إلى دار القاضي، وبعث القاضي بها مع رجاله إلى دار ابن الفقيه. فخرج ابن الفقيه من داره مسرعاً، حافي القدمين، فدخل علي وقال: قم، قد جاءك قماش السلطان وهديته. فقمت، وظننت أنها الخلع والأموال فإذا هي ثلاثة أقراص من الخبز وقطعة لحم بقري مقلو بالغرتي وقرعة فيها لبن رائب، فعندما رأيتها ضحكت، وطال تعجبي من ضعف عقولهم، وتعظيمهم لهذا الشيء الحقير.
ذكر كلامي للسلطان بعد ذلك وإحسانه إلي
وأقمت بعد بعث هذه الضيافة شهرين، لم يصل إلي فيهما شيء من قبل السلطان. ودخل شهر رمضان، وكنت خلال ذلك أتردد إلى المشور، وأسلم عليه، وأقعد مع القاضي والخطيب، فتكلمت مع دوغا الترجمان، فقال: تكلم عنده، وأنا أعبر عنك بما يجب فجلس في أوائل رمضان، وقمت بين يديه، وقلت له إني سافرت بلاد الدنيا، ولقيت ملوكها، ولي ببلادك أربعة أشهر، ولم تضفني، ولا أعطيتني شيئاً. فماذا أقول عنك عند السلاطين ? فقال: إني لم أرك، ولا علمت بك فقام القاضي وابن الفقيه فردا عليه، وقالا: إنه قد سلم عليك، وبعثت إليه الطعام فأمر لي عند ذلك بدار أنزل بها، ونفقة تجري علي ثم فرق على القاضي والخطيب والفقهاء مالاً، ليلة سبع وعشرين من رمضان، يسمونه الزكاة وأعطاني معهم ثلاثة وثلاثين مثقالاً وثلثاً وأحسن إلي عند سفري بمائة مثقال ذهباً.
ذكر جلوسه بقبته
وله قبة مرتفعة بابها بداخل داره، يقعد فيها أكثر الأوقات ولها من جهة المشور طبقات ثلاث من الخشب، مغطاة بصفائح الفضة، وتحتها ثلاث مغشاة بصفائح الذهب، أو هي فضة مذهبة، وعليها ستور ملف فإذا كان يوم جلوسه بالقبة، رفعت الستور فعلم أنه يجلس. فإذا جلس أخرج من شباك إحدى الطاقات شرابة حرير، قد ربط فيها منديل مصري مرقوم، فإذا رأى الناس المنديل، ضربت الأطبال والأبواق، ثم يخرج من باب القصر نحو ثلاثمائة من العبيد، في أيدي بعضهم القسي، وفي أيدي بعضهم الرماح الصغار والدرق، فيقف أصحاب الرماح منهم ميمنة وميسرة، ويجلس أصحاب القسي كذلك ثم يؤتى بفرسين مسرجين ملجمين، ومعهما كبشان، يذكرون أنهما ينفعان من العين.
وعند جلوسه يخرج ثلاثة من عبيده مسرعين، فيدعون نائبه قنجاه موسى وتأتي الفرارية " بفتح الفاء "، وهم الأمراء، ويأتي الخطيب والفقهاء، فيقعدون أمام السلحدارية يمنة ويسرة في المشور، ويقف دوغا الترجمان على باب المشور، وعليه الثياب الفاخرة من الزردخانة وغيرها، وعلى رأسه عمامة ذات حواشٍ، لهم في تعميمها صنعة بديعة، وهو متقلد سيفاً غمده من الذهب، وفي رجليه الخف والمهاميز، ولا يلبس أحد ذلك اليوم خفاً غيره. ويكون في يده رمحان صغيران أحدهما من ذهب، والآخر من فضة، وأسنتهما من الحديد.
ويجلس الأجناد والولاة والفتيان ومسوفة وغيرهم خارج المشور، في شارع هنالك متسع، فيه أشجار وكل فراري بين يديه أصحابه بالرماح والقسي والأطبال والأبواق، بوقاتهم من أنياب الفيلة، وآلات الطرب المصنوعة من القصب والقرع وتضرب بالسطاعة، ولها صوت عجيب وكل فراري له كنانة قد علقها بين كتفيه، وقوسه بيده، وهو راكب فرسه، وأصحابه بين مشاة وركبان ويكون بداخل المشور تحت الطيقان رجل واقف، فمن أراد أن يكلم السلطان كلم دوغا، ويكلم دوغا لذلك الواقف، ويكلم الواقف السلطان.
ذكر جلوسه بالمشور
ويجلس أيضاً في بعض الأيام بالمشور، وهنالك مصطبة تحت شجرة لها ثلاث درجات، يسمونها البنبي " بفتح الباء المعقودة الأولى وكسر الثانية وسكون النون بينهما "، وتفرش بالحرير، ويجعل المخاد عليها، ويرفع الشطر، وهو شبه قبة من الحرير، وعليه طائر من ذهب على قدر البازي، ويخرج السلطان من باب في ركن القصر، وقوسه بيده، وكنانته بين كتفيه، وعلى رأسه شاشية ذهب، مشدودة بعصابة ذهب، لها أطراف مثل السكاكين رقاق، طولها أزيد من شبر، وأكثر لباسه جبة حمراء موبرة، من الثياب الرومية التي تسمى المطنفس، ويخرج بين يديه المغنون، بأيديهم قنابر الذهب والفضة، وخلفه نحو ثلاثمائة من العبيد أصحاب السلاح. ويمشي مشياً رويداً، ويكثر التأني وربما وقف، فإذا وصل إلى البنبي وقف ينظر في الناس، ثم يصعد برفق، كما يصعد الخطيب المنبر وعند جلوسه تضرب الطبول والأبواق والأنفار، ويخرج ثلاثة من العبيد مسرعين، فيدعون النائب والفرارية، فيدخلون ويجلسون ويؤتى بالفرسين والكبشين معهما، ويقف دوغا على الباب، وسائر الناس في الشارع تحت الأشجار.
ذكر تذلل السودان لملكهم
وتتريبهم له وغير ذلك من أحوالهم
والسودان أعظم الناس تواضعاً لملكهم، وأشدهم تذللاً له ويحلفون باسمه فيقولون: منسى سليمان كي، فإذا دعا بأحدهم عند جلوسه بالقبة لتي ذكرناها، نزع المدعو ثيابه، ولبس ثياباً خلقة، ونزع عمامته، وجعل شاشسة وسخة، ودخل رافعاً ثيابه وسراويله إلى نصف ساقه، وتقدم بذلة ومسكنة، وضرب الأرض بمرفقيه ضرباً شديداً، ووقف كالراكع يسمع كلامه.
وإذا كلم أحدهم السلطان، فرد عليه جوابه، كشف ثيابه عن ظهره، ورمى بالتراب على رأسه وظهره، كما يفعل المغتسل بالماء، وكنت أعجب منهم، كيف لا تعمى أعينهم. وإذا تكلم السلطان في مجلسه بكلام، وضع الحاضرون عمائمهم عن رؤوسهم، وأنصتوا للكلام، وربما قام أحدهم بين يديه، فيذكر أفعاله في خدمته، ويقول: فعلت كذا يوم كذا، وقتلت كذا يوم كذا، فيصدقه من علم ذلك وتصديقهم أن ينزع أحدهم وتر قوسهم، ثم يرسلها، كما يفعل إذا رمى، فإذا قال له السلطان: صدقت، أو شكره، نزع ثيابه وترب وتربع، وذلك عندهم من الأدب. قال ابن جزي، وأخبرني الصاحب العلامة الفقيه أبو القاسم بن رضوان أعزه الله أنه لما قدم الحاج موسى الونجراتي رسولاً من منسى سليمان إلى مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، كان إذا دخل المجلس الكريم، حمل بعض ناسه معه قفة تراب فيترب لهما قال له مولاناً كلاماً حسناً، كما يفعل ببلاده.
ذكر فعله في صلاة العيد وأيامه
وحضرت بمالي عيدي الأضحى والفطر فخرج الناس إلى المصلى، وهو بمقربة من قصر السلطان، وعليهم الثياب البيض الحسان، وركب السلطان، وعلى رأسه الطيلسان والسودان لا يلبسون الطيلسان إلا في العيد، ما عدا القاضي والخطيب والفقهاء، فإنهم يلبسونه في سائر الأيام وكانوا يوم العيد بين يدي السلطان، وهم يهللون ويكبرون، وبين يديه العلامات الحمر من الحرير، ونصب عند المصلى خباء فدخل السلطان إليه وأصلح من شأنه ثم خرج إلى المصلى، فقضيت الصلاة والخطبة، ثم نزل الخطيب، وقعد بين يدي السلطان، وتكلم بكلام كثير وهنالك رجل بيده رمح، يبين للناس بلسانهم كلام الخطيب، وذلك وعظ وتذكير وثناء على السلطان، وتحريض على لزوم طاعته، وأداء حقه. ويجلس السلطان في أيام الهيدين بعد العصر على البنبي ويأتي السلحدارية بالسلاح العجيب من تراكش الذهب والفضة والسيوف المحلاة بالذهب وأغمادها منه ورماح الذهب والفضة ودبابيس البلور، ويقف على رأسه أربعة من الأمراء، يشردون الذباب، وفي أيديهم حلية من الفضة، تشبه ركاب السرج ويجلس الفرارية والقاضي والخطيب على العادة، ويأتي دوغا الترجمان بنسائه الأربع وجواريه، وهن نحو مائة عليهن الملابس الحسان، وعلى رؤوسهن عصائب الذهب والفضة، فيها مفاتيح ذهب وفضة، وينصب لدوغا كرسي يجلس عليه، ويضرب بالآلة التي هي من قصب، وتحتها قريعات ويغني بشعر يمدح السلطان فيه، ويذكر غزواته وأفعاله، ويغني النساء والجواري معه، ويلعبن بالقسي، ويكون معه نحو ثلاثين من غلمانه، عليهم جباب الملف والحمر، وفي رؤوسهم الشواشي البيض وكل واحد منهم متقلد طبله يضربه ثم يأتي أصحابه من الصبيان، فيلعبون ويتقلبون في الهواء كما يفعل السندي، ولهم في ذلك رشاقة وخفة بديعة، ويلعبون بالسيوف أجمل لعبٍ ويلعب دوغا بالسيف لعباً بديعاً. وعند ذلك يأمر السلطان له بالإحسان، فيأتي بصرة فيها مائتا مثقال من التبر، وينثر ما فيها على رؤوس الناس وتقوم الفرارية، فينزعون في قسيهم شكراً للسلطان وبالغد يعطى كل واحد منهم لدوغا عطاء على قدره وفي كل يوم جمعة بعد العصر، يفعل دوغا مثل هذا الترتيب الذي ذكرناه.
ذكر الأضحوكة في إنشاد الشعراء للسلطان
وإذا كان يوم عيد، وأتم دوغا لعبه، جاء الشعراء، ويسمون الجلا " بضم الجيم "، وأحدهم جالي، وقد دخل كل واحد منهم في جوف صورة مصنوعة من الريش تشبه الشقشاق، وجعل لها رأس من الخشب له منقار أحمر كأنه رأس الشقشاق، ويقفون بين يدي السلطان بتلك الهيئة المضحكة، فينشدون أشعارهم. وذكر لي أن شعرهم نوع من الوعظ، يقولون فيه للسلطان: إن هذا البنبي الذي عليه جلس فوقه من الملوك فلان، وكان من حسن أفعاله كذا، وفلان كان من أفعاله كذا، فافعل أنت من الخير ما يذكر بعدك. ثم يصعد كبير الشعراء على درج البنبي، ويضع رأسه في حجر السلطان، ثم يصعد إلى أعلى البنبي فيضع رأسه على كتف السلطان الأيمن، ثم على كتفه الأيسر، وهو يتكلم بلسانهم، ثم ينزل. وأخبرت أن هذا الفعل لم يزل قديماً عندهم قبل الإسلام، فاستمروا عليه.
حكاية وحضرت مجلس السلطان في بعض الأيام، فأتى أحد فقهائهم، وكان قدم من بلاد بعيدة، وقام بين يدي السلطان، وتكلم كلاماً كثيراً فقام القاضي فصدقه، ثم صدقهما السلطان فوضع كل واحد منهم عمامته عن رأسه، وترب بين يديه وكان إلى جانبي رجل من البيضان، فقال: أتعرف ما قالوه ? فقلت: لا أعرف فقال: إن الفقيه قد أخبر أن الجراد وقع ببلادهم، فخرج أحد صلحائهم إلى موضع الجراد، فهاله أمره، فقال: هذا جراد كثير. فأجابته جرادة منها، وقالت إن البلاد التي يكثر فيها الظلم، يبعثنا الله لفساد زرعها. فصدقه القاضي والسلطان، وقال عند ذلك للأمراء: إني برئ من الظلم، ومن ظلم منكم عاقبته، ومن علم بظالم ولم يعلمني له، فذنوب ذلك الظالم في عنقه، والله حسيبه وسائله. ولما قال هذا الكلام، وضع الفرارية عمائمهم عن رؤوسهم، وتبرأوا من الظلم.
حكاية
وحضرت الجمعة يوماً فقام أحد التجار من طلبة مسوفة، ويسمى بأبي حفص، فقال: يا أهل المسجد، أشهدكم أن منسى سليمان في دعوتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال ذلك، خرج إليه جماعة رجال من مقصورة السلطان فقالوا له: من ظلمك ? من أخذ لك شيئاً ? فقال: منشاجو أيوالاتن، يعني مشرفها أخذ مني ما قيمته ستمائة مثقال، وأراد أن يعطيني في مقابلته مائة مثقال خاصة فبعث السلطان إليه عنه للحين فحضر بعد أيام، وصرفها للقاضي، فثبت للتاجر حقه فأخذه، وبعد ذلك عزل المشرف عن عمله.
حكاية واتفق في يوم إقامتي بمالي أن السلطان غضب على زوجته الكبرى بنت عمه المدعوة بقاسا، ومعنى قاسا عندهم الملكة وهي شريكته في الملك على عادة السودان، ويذكر اسمها مع اسمه على المنبر، وسجنها عند بعض الفرارية، وولى في مكانها زوجته الأخرى بنجو، ولم تكن من بنات الملوك فأكثر الناس الكلام في ذلك، وأنكروا فعله، ودخل بنات عمه على بنجو يهنئنها بالمملكة، فجعلن الرماد على أذرعهن، ولم يتربن رؤوسهن ثم إن السلطان سرح قاسا من ثقافها فدخل عليها بنات عمه يهنئنها بالسراح، وتربن على العادة فشكت بنجو إلى السلطان بذلك. فغضب على بنات عمه فخفن منه، واستجرن بالجامع فعفا عنهن، واستدعاهن، وعادتهن إذا دخلن على السلطان، أن يتجردن عن ثيابهن، ويدخلن عرايا، ففعلن ذلك ورضي عنهن، وصرن يأتين باب السلطان غدواً وعشياً مدة سبعة أيام وكذلك يفعل كل من عفا عنه السلطان. وصارت قاسا تركب كل يوم في جواريها وعبيدها، وعلى رؤوسهم التراب، وتقف عند المشور متنقبة لا يرى وجهها وأكثر الأمراء الكلام في شأنها، فجمعهم السلطان في المشور وقال لهم دوغا على لسانه: إنكم قد أكثرتم الكلام في أمر قاسا، وأنها أذنبت ذنباً كبيراً.
ثم أتي بجارية من جواريها مقيدة مغلولة، فقيل لها: تكلمي بما عندك. فأخبرت أن قاسا بعثتها إلى جاطل ابن عم السلطان الهارب عنه إلى كنبرني، واستدعته ليخلع السلطان عن ملكه، وقالت له: أنا وجميع العساكر طوع أمرك، فلما سمع الأمراء ذلك قالوا: إن هذا ذنب كبير، وهي تستحق القتل عليه. فخافت قاسا من ذلك واستجارت بدار الخطيب وعادتهم أن يستجيروا هنالك بالمسجد، وإن لم يتمكن فبدار الخطيب وكان السودان يكرهون منسى سليمان لبخله، وكان قبله منسى مغا، وقبل منسى مغا منسى موسى، وكان كريماً فاضلاً يحب البيضان ويحسن إليهم، وهو الذي أعطى لأبي إسحاق الساحلي في يوم واحد أربعة آلاف مثقال، وأخبرني بعض الثقات أنه أعطى لمدرك بن فقوص ثلاثة آلاف مثقال في يوم واحد وكان جده سارق جاطه أسلم على يدي جد مدرك هذا.
حكاية وأخبرني الفقيه مدرك هذا أن رجلاً من أهل تلمسان، يعرف بابن شيخ اللبن، كان قد أحسن إلى السلطان منسى موسى في صغره بسبعة مثاقيل وثلث، وهو يومئذ صبي غير معتبر، ثم اتفق أن جاء إليه في خصومة، وهو سلطان، فعرفه، وأدناه منه، حتى جلس معه على البنبي، ثم قرره على فعله معه، وقال للأمراء: ما جزاء من فعل ما فعله من الخير ? فقالوا له الحسنة بعشر أمثالها، فأعطه سبعين مثقالاً، فأعطاه عند ذلك سبعمائة مثقال وكسوة وعبيداً وخدماً، وأمره أن لا ينقطع عنه، وأخبرني بهذه الحكاية أيضاً ولد ابن شيخ اللبن المذكور، وهو من الطلبة يعلم القرآن بمالي.
ذكر ما استحسنته من أفعال السودان
وما استقبحته منها
فمن أفعالهم الحسنة قلة الظلم فهم أبعد الناس عنه، وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه. ومنها شمول الأمن في بلادهم، فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاصب. ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم من البيضان، ولو كان القناطير المقنطرة، إنما يتركونه بيد ثقة من البيضان، حتى يأخذه مستحقه، ومنها مواظبتهم للصلوات، والتزامهم لها في الجماعات، وضربهم أولادهم عليها، وإذا كان يوم الجمعة، ولم يبكر الإنسان إلى المسجد، لم يجد أين يصلي لكثرة الزحام. ومن عادتهم أن يبعث كل إنسان غلامه بسجادته، فيبسطها له بموضع يستحقه بها، حتى يذهب إلى المسجد، وسجاداتهم من سعف شجر يشبه النخل، ولا ثمر له، ومنها لباسهم الثياب البيض الحسان يوم الجمعة، ولو لم يكن لأحدهم إلا قميص خلق غسله ونظفه وشهد به الجمعة، ومنها عنايتهم بحفظ القرآن العظيم، وهم يجعلون لأولادهم القيود إذا ظهر في حقهم التقصير في حفظه، فلا تفك عنهم حتى يحفظوه.
ولقد دخلت على القاضي يوم العيد، وأولاده مقيدون، فقلت له: ألا تسرحهم ? فقال: لا أفعل حتى يحفظوا القرآن، ومررت يوماً بشاب منهم حسن الصورة، عليه ثياب فاخرة، وفي رجله قيد ثقيل. فقلت لمن كان معي، ما فعل هذا ? أقتل ? ففهم عن الشاب وضحك وقيل لي: إنما قيد حتى يحفظ القرآن. ومن مساوئ أفعالهم كون الخدم والجواري والبنات الصغار يظهرن للناس عرايا باديات العورات. ولقد كنت أرى في رمضان كثيراً منهن على تلك الصورة. فإن عادة الفرارية أن يفطروا بدار السلطان، ويأتي كل واحد منهم بطعامه، تحمله العشرون فما فوقهن من جواريه، وهن عرايا. ومنها دخول النساء على السلطان عرايا غير مستترات، وتعري بناته، ولقد رأيت في ليلة سبع وعشرين من رمضان نحو مائة جارية خرجن بالطعام من قصره عرايا، ومعهن بنتان له ناهدان ليس عليهما ستر، ومنها جعلهم التراب والرماد على رؤوسهم تأدباً ومنها ما ذكرته من الأضحوكة في إنشاد الشعراء، ومنها أن كثيراً منهم يأكلون الجيف والكلاب والحمير.
ذكر سفري عن مالي
وكان دخولي إليها في الرابع عشر لجمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين، وخروجي عنها في الثاني والعشرين لمحرم سنة أربع وخمسين. ورافقني تاجر يعرف بأبي بكر ابن يعقوب. وقصدنا طريق ميمة. وكان لي جمل أركبه. لأن الخيل غالية الأثمان، يساوي أحدها مائة مثقال، فوصلنا إلى خليج كبير يخرج من النيل، لا يجاز إلا في المراكب. وذلك الموضع كثير البعوض، فلا يمر أحد به إلا بالليل. ووصلنا الخليج ثلث الليل، والليل مقمر.
ذكر الخيل التي تكون بالنيل
ولما وصلنا الخليج رأيت على ضفته ست عشرة دابة ضخمة الخلقة، فعجبت منها، وظننتها فيلة لكثرتها هنالك. ثم إني رأيتها دخلت في النهر. فقلت لأبي بكر ابن يعقوب: ما هذه الدواب ? فقال: هي خيل البحر، خرجت ترعى في البر، وهي أغلظ من الخيل. ولها أعراف وأذناب، ورؤوسها كرؤوس الخيل، وأرجلها كأرجل الفيلة. ورأيت هذه الخيل مرة أخرى لما ركبنا النيل من تنبكتو إلى كوكو، وهي تعوم في الماء، وترفع رؤوسها وتنفخ. وخاف منها أهل المركب فقربوا من البر لئلا تغرقهم. ولهم حيلة في صيدها حسنة، وذلك أن لهم رماحاً مثقوبة، قد جعل في ثقبها شرائط وثيقة، فيضربون الفرس منها. فإن صادفت الضربة رجله أو عنقه أنفذته، وجذبوه بالحبل حتى يصل إلى الساحل، فيقتلونه ويأكلون لحمه. ومن عظامها بالساحل كثير. وكان نزولنا عند هذا الخليج بقرية كبيرة، عليها حاكم من السودان حاج فاضل يسمى فربامغا " بفتح الميم والغين المعجم "، وهو ممن حج مع السلطان منسى موسى لما حج.
حكاية أخبرني فربامغا أن منسى موسى لما وصل إلى هذا الخليج، كان معه قاض من البيضان يكنى بأبي العباس، ويعرف بالدكالي، فأحسن إليه بأربعة آلاف مثقال لنفقته. فلما وصلوا إلى ميمة، شكا إلى السلطان بأن الأربعة آلاف مثقال سرقت له من داره. فاستحضر السلطان أمير ميمة، وتوعده بالقتل إن لم يحضر من سرقها. وطلب الأمير السارق فلم يجد أحداً، ولا سارق يكون بتلك البلاد. فدخل دار القاضي، واشتد على خدامه، وهددهم. فقالت له إحدى جواريه: ما ضاع له شيء، وإنما دفنها بيده في ذلك الموضع، وأشارت له إلى الموضع. فأخرجها الأمير، وأتى بها السلطان، وعرفه الخبر، فغضب على القاضي، ونفاه إلى بلاد الكفار الذين يأكلون بني آدم، فأقام عندهم أربع سنين، ثم رده إلى بلده. وإنما لم يأكله الكفار لبياضه، لأنهم يقولون: إن أكل الأبيض مضر، لأنه لم ينضج. والأسود هو النضج بزعمهم.
حكاية قدمت على السلطان منسى سليمان جماعة من هؤلاء السودان الذين يأكلون بني آدم، معهم أمير لهم. وعادتهم أن يجعلوا في آذانهم أقراطاً كباراً، وتكون فتحة القرط منها نصف شبر، ويلتحفون في ملاحف الحرير. وفي بلادهم يكون معدن الذهب. فأكرمهم السلطان وأعطاهم في الضيافة خادمة، فذبحوها وأكلوها، ولطخوا وجوههم وأيديهم بدمها، وأتوا السلطان شاكرين. وأخبرت أن عادتهم متى ما وفدوا عليه أن يفعلوا ذلك. وذكر لي عنهم أنهم يقولون إن أطيب ما في لحوم الآدميات الكف والثدي. ثم رحلنا من هذه القرية التي عند الخليج، فوصلنا إلى بلدة قري منسا، وقري " بضم القاف وكسر الراء "، ومات لي بها الجمل الذي كنت أركبه، فأخبرني راعيه بذلك، فخرجت لأنظر إليه، فوجدت السودان قد أكلوه كعادتهم في أكل الجيف. فبعثت غلامين كنت استأجرتهما على خدمتي ليشتريا لي جملاً بزاغري، وهي على مسيرة يومين. وأقام معي بعض أصحاب أبي بكر ابن يعقوب، وتوجه هو لينتظرنا بميمة. فأقمت سبعة أيام، أضافني فيها بعض الحجاج بهذه البلدة، حتى وصل الغلامان بالجمل.
حكاية وفي أيام إقامتي بهذه البلدة رأيت ليلة فيما يرى النائم كأن إنساناً يقول لي: يا محمد بن بطوطة لماذا لا تقرأ سورة يس في كل يوم ? فمن يومئذ ما تركت قراءتها كل يوم، في سفر ولا حضر. ثم رحلت إلى بلدة ميمة " بكسر الميم الأول وفتح الثاني " فنزلنا على آبار بخارجها.
ثم سافرنا منها إلى مدينة تنبكتو " وضبط اسمها بضم التاء المعلوة وسكون النون وضم الباء الموحدة وسكون الكاف وضم التاء المعلوة الثانية وواو "، وبينها وبين النيل أربعة أميال. وأكثر سكانها مسوفة أهل اللثام، وحاكمها يسمى فربا موسى. حضرت عنده يوماً، وقد قدم أحد مسوفة أميراً على جماعة، فجعل عليه ثوبا وعمام وسروالاً، كلها مصبوغة، وأجلسه على درقة، ورفعه كبراء قبيلته على رؤوسهم. وبهذه البلدة قبر الشاعر المفلق أبي إسحاق الساحلي الغرناطي المعروف ببلده بالطويجن، وبها قبر سراج الدين بن الكويك، أحد كبار التجار من أهل الإسكندرية.
حكاية كان السلطان منسى موسى لما حج، نزل بروض لسراج الدين هذا، ببركة الحبش خارج مصر، وبها ينزل السلطان. واحتاج إلى مال، فتسلفه من سراج الدين، وتسلف منه أمراؤه أيضاً. وبعث معهم سراج الدين وكيله يقتضى المال، فأقام بمالي. فتوجه سراج الدين بنفسه لاقتضاء ماله، ومعه ابن له. فلما وصل تنبكتو أضافه ابو إسحاق الساحلي، فكان من القدر موته تلك الليلة. فتكلم الناس في ذلك، واتهموا أنه سم. فقال لهم ولده: إني أكلت معه ذلك الطعام بعينه. فلو كان فيه سم لقتلنا جميعاً، لكنه انقضى أجله. ووصل الوالي إلى مالي، واقتضى ماله، وانصرف إلى ديار مصر. ومن تنبكتو ركبت النيل في مركب صغير منحوت من خشبة واحدة. وكنا ننزل كل ليلة بالقرى، فنشتري ما نحتاج إليه من الطعام والسمن، بالملح وبالعطريات وبحلي الزجاج. ثم وصلت إلى بلد أنسيت اسمه، له أمير فاضل حاج يسمى فربا سليمان، مشهور بالشجاعة والشدة. لا يتعاطى أحد النزع في قوسه، ولم أر في السودان أطول منه ولا أضخم جسماً، واحتجت بهذا البلدة إلى شيء من الذرة، فجئت إليه، وذلك يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، وسألني عن مقدمي. وكان معه فقيه يكتب له. فأخذت لوحاً كان بين يديه، وكتبت فيه: يا فقيه، قل لهذا الأمير: إنا نحتاج إلى شيء من الذرة للزاد، والسلام. وناولت الفقيه اللوح يقرأ ما فيه سراً، ويكلم الأمير في ذلك بلسانه. فقرأه جهراً، وفهمه الأمير. فأخذ بيدي، وأدخلني إلى مشوره، وبه سلاح كثير من الدرق والقسي والرماح، ووجدت عنده كتاب المدهش لابن الجوزي، فجعلت أقرأ فيه.
ثم أتي بمشروب لهم يسمى الدقنو " بفتح الدال المهمل وسكون القاف وضم النون وواو "، وهو ماء فيه جريش الذرة مخلوط بيسير عسل أو لبن، وهم يشربونه عوض الماء. لأنهم إن شربوا الماء خالصاً أضر بهم، وإن لم يجدوا الذرة خلطوه بالعسل أو اللبن. ثم أتي ببطيخ أخضر فأكلنا منه، ودخل غلام خماسي فدعاه وقال لي: هذا ضيافتك، واحفظه لئلا يفر. فأخذته وأردت الانصراف، فقال: أقم حتى يأتي الطعام. وجاءت إلينا جارية له دمشقية عربية، فكلمتني بالعربي. فبينما نحن في ذلك، إذ سمعنا صراخاً بداره. فوجه الجارية لتعرف خبر ذلك، فعادت إليه، فأعلمته أن بنتاً له قد توفيت، فقال: إني لا أحب البكاء، فتعال نمش إلى البحر، يعني النيل. وله على ساحله ديار. فأتي بالفرس فقال لي: إركب. فقلت: لا أركبه، وأنت ماش. فمشينا جميعاً، ووصلنا إلى دياره على النيل. وأتي بالطعام فأكلنا. وودعته وانصرفت.
ولم أر في السودان أكرم منه ولا أفضل. والغلام الذي أعطانيه باقٍ عندي إلى الآن. ثم سرت إلى مدينة كوكو، وهي مدينة كبيرة على النيل، من أحسن مدن السودان وأكبرها وأخصبها. فيها الأرز الكثير واللبن والدجاج والسمك، وبها الفقوس العناني الذي لا نظير له. وتعامل أهلها في البيع والشراء بالودع، وكذلك أهل مالي. وأقمت بها نحو شهر. وأضافني بها محمد بن عمر، من أهل مكناسة، وكان ظريفاً مزاحاً فاضلاً، وتوفي بها بعد خروجي عنها. وأضافني بها الحاج محمد الوجدي التازي، وهو ممن دخل اليمن، والفقيه محمد الفيلالي إمام مسجد البيضان.
ثم سافرت منها برسم تكدا في البر، مع قافلة كبيرة للغدامسيين. دليلهم ومقدمهم الحاج وجين " بضم الواو وتشديد الجيم المعقودة "، ومعناه الذئب بلسان السودان. وكان لي جمل لركوبي، وناقة لحمل الزاد. فلما رحلنا أول مرحلة وقفت الناقة. فأخذ الحاج وجين ما كان عليها، وقسمه على أصحابه، فتوزعوا حمله. وكان في الرفقة مغربي من أهل تادلي، فأبى أن يرفع من ذلك شيئاً كما فعل غيره. وعطش غلامي يوماً، فطلبت منه الماء، فلم يسمح به. ثم وصلنا إلى بلاد بردامة، وهي قبيلة من البربر " وضبطها بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الدال المهمل وميم مفتوح وتاء تأنيث ". ولا تسير القوافل إلا في خفارتهم. والمرأة عندهم في ذلك أعظم شأناً من الرجل. وهم رحالة لا يقيمون، وبيوتهم غريبة الشكل، ويقيمون أعواداً من الخشب، ويضعون عليها الحصر، وفوق ذلك أعواد مشتبكة، وفوقها الجلود أو ثياب القطن. ونساؤهم أتم النساء جمالاً، وأبدعهن صوراً، مع البياض الناصع والسمن. ولم أر في البلاد من يبلغ مبلغهن في السمن. وطعامهن حليب البقر وجريش الذرة، يشربنه مخلوطاً بالماء غير مطبوخ، عند المساء والصباح. ومن أراد التزوج منهن، سكن بهن في أقراب البلاد إليهن، ولا يتجاوز بهن كوكو ولا أيوالاتن. وأصابني المرض في هذه البلاد، لاشتداد الحر وغلبة الصفراء. واجتهدنا في السير إلى أن وصلنا إلى مدينة تكدا " وضبطها بفتح التاء المعلوة والكاف المعقودة والدال المهمل مع تشديده ". ونزلت بها في جوار شيخ المغاربة سعيد بن علي الجزولي. وأضافني قاضيها أبو إبراهيم إسحاق الجاناتي، وهو من الأفاضل، وأضافني جعفر بن محمد المسوفي. وديار تكدا مبنية بالحجارة الحمر، وماؤها يجري على معادن النحاس، فيتغير لونه وطعمه بذلك، ولا زرع بها إلا يسير من القمح، يأكله التجار والغرباء. ويباع بحساب عشرين مداً من أمدادهم بمثقال ذهب، ومدهم ثلث المد ببلادنا. وتباع الذرة عندهم بحساب تسعين مداً بمثقال ذهب. وهي كثيرة العقارب. وعقاربها تقتل من كان صبياً لم يبلغ، وأما الرجال فقلما تقتلهم.
ولقد لدغت يوماً وأنا بها ولداً للشيخ سعيد بن علي عند الصبح فمات لحينه، وحضرت جنازته. ولا شغل لأهل تكدا غير التجارة. يسافرون كل عام إلى مصر، ويجلبون من كل ما بها من حسان الثياب وسواها. ولأهلها رفاهية وسعة بال، ويتفاخرون بكثرة العبيد والخدم، وكذلك أهل مالي وأيوالاتن. ولا يبيعون المعلمات منهن إلا نادراً وبالثمن الكثير.
حكاية أردت لما دخلت تكدا شراء خادم معلمة فلم أجدها، ثم بعث إلي القاضي أبو إبراهيم بخادم لبعض أصحابه، فاشتريتها بخمسة وعشرين مثقالاً. ثم إن صاحبها ندم ورغب في الإقالة، فقلت له: إن دللتني على سواها أقلتك. فدلني على خادم لعلي أغيول، وهو المغربي التادلي الذي أبى أن يرفع شيئاً من أسبابي حين وقعت ناقتي، وأبى أن يسقي غلامي الماء حين عطش. فاشتريتها منه، وكانت خيراً من الأولى، وأقلت صاحبي الأول. ثم ندم هذا المغربي على بيع الخادم، ورغب في الإقالة، وألح في ذلك. فأبيت الا أن أجازيه بسوء فعله، فكاد أن يجن أو يهلك أسفاً. ثم أقلته بعد.
ذكر معدن النحاس
ومعدن النحاس بخارج تكدا يحفرون عليه في الأرض، ويأتون إلى البلد، فيسبكونه في دورهم. ويفعل ذلك عبيدهم وخدمهم. فإذا سبكوه نحاساً أحمر، صنعوا منه قضباناً في طول شبر ونصف، بعضها رقاق، وبعضها غلاظ. فتباع الغلاظ منها بحساب أربعمائة قضيب بمثقال ذهب، وتباع الرقاق بحساب ستمائة وسبعمائة مثقال. وهي صرفهم، يشترون برقاقها اللحم والحطب، ويشترون بغلاظها العبيد والخدم والذرة والسمن والقمح. ويحملون النحاس منها إلى مدينة كوبر من بلاد الكفار، وإلى زغاي، وإلى بلاد برنو، وهي على مسيرة أربعين يوماً من تكدا. وأهلها مسلمون، لهم ملك اسمه إدريس، لا يظهر للناس، ولا يكلمهم إلا من وراء حجاب.
ومن هذه البلاد يؤتى بالجواري الحسان والفتيان وبالثياب المجسدة. ويحمل النحاس أيضاً منها إلى جوجرة وبلاد المورتيين وسواها.
ذكر سلطان تكدا
وفي أيام إقامتي بها، توجه القاضي أبو إبراهيم، والخطيب محمد، والمدرس أبو حفص، والشيخ سعيد بن علي، إلى سلطان تكدا، وهو بربري يسمى إزار " بكسر الهمزة وزاي والف وراء "، وكان على مسيرة يوم منها، ووقعت بينه وبين التكركري، وهو من سلاطين البربر أيضاً منازعة، فذهبوا إلى الإصلاح بينهما. فأردت أن ألقاه. فاكتريت دليلاً وتوجهت إليه، وأعلمه المذكورون بقدومي. فجاء إلي راكباً فرساً دون سرج، وتلك عادتهم.
وقد جعل عوض السرج طنفسة حمراء بديعة، وعليه ملحفة وسراويل وعمامة، كلها زرق، ومعه أولاد أخته، وهم الذين يرثون ملكه. فقمنا إليه، وصافحناه. وسأل عن حالي ومقدمي، فأعلم بذلك. وأنزلني ببيت من بيوت اليناطبين، وهم كالوصفان عندنا. وبعث برأس غنم مشوي في السفود، وقعب من حليب البقر. وكان في جوارنا بيت أمه وأخته، فجاءتا إلينا، وسلمتا علينا. وكانت أمه تبعث لنا الحليب بعد العتمة، وهو وقت حلبهم، ويشربونه ذلك الوقت وبالغدو. وأما الطعام فلا يأكلونه ولا يعرفونه. واقمت عندهم ستة أيام. وفي كل يوم يبعث بكبشين مشويين، عند الصباح والمساء. وأحسن إلي بناقة وعشرة مثاقيل من الذهب، وانصرفت عنه، وعدت إلى تكدا.
ذكر وصول الأمر الكريم إلي
ولما عدت إلى تكدا، وصل غلام الحاج محمد بن سعيد السجلماسي، بأمر مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين المتوكل على رب العالمين آمراً لي بالوصول إلى حضرته العلية. فقبلته وامتثلته على الفور.
واشتريت جملين لركوبي بسبعة وثلاثين مثقالاً. وثلث، وقصدت السفر إلى توات. ورفعت زاد سبعين ليلة، إذ لا يوجد الطعام فيما بين تكدا وتوات، وإنما يوجد اللحم واللبن والسمن يشترى بالأثواب، وخرجت من تكدا يوم الخميس الحادي عشر لشعبان سنة أربع وخمسين، في رفقة كبيرة، فيهم جعفر التواني، وهو من الفضلاء، ومعنا الفقيه محمد بن عبد الله قاضي تكدا. وفي الرفقة نحو ستمائة خادم. فوصلنا إلى كاهر من بلاد السلطان الكركري، وهي أرض كثيرة الأعشاب، يشتري بها الناس من برابرها الغنم، ويقددون لحمها، ويحمله أهل توات إلى بلادهم. ودخلنا منها إلى برية لا عمارة بها ولا ماء، وهي مسيرة ثلاثة أيام.
ثم سرنا بعد ذلك خمسة عشر يوماً في برية لا عمارة بها، ألا أن بها الماء. ووصلنا إلى الموضع الذي يفترق به طريق غات الآخذ إلى ديار مصر وطريق توات. وهنالك أحساء ماء يجري على الحديد، فإذا غسل به الثوب الأبيض اسود لونه.
وسرنا من هنالك عشرة أيام، ووصلنا إلى بلاد هكار، وهم طائفة من البربر ملثمون لا خير عندهم، ولقينا أحد كبرائهم، فحبس القافلة حتى غرموا له أثواباً وسواها. وكان وصولنا إلى بلادهم في شهر رمضان. وهم لا يغبرون فيه ولا يعترضون القوافل، وإذا وجد سراقها المتاع بالطريق في رمضان لم يعرضوا له، وكذلك جميع من بهذه الطريق من البرابر. وسرنا في بلاد هكار شهراً، وهي قليلة النبات، كثيرة الحجارة، طريقها وعر. ووصلنا يوم عيد الفطر إلى بلاد برابر، أهل لثام كهؤلاء. فأخبرونا بأخبار بلادنا، وأعلمونا أن أولاد خراج وابن يغمور خالفوا، وسكنوا تسابيت من توات. فخاف أهل القافلة من ذلك. ثم وصلنا إلى بودا " بضم الباء الموحدة "، وهي من أكبر قرى توات، وأرضها رمال وسباخ، وثمرها كثير ليس بطيب، لكن أهلها يفضلونه على ثمر سجلماسة. ولا زرع بها ولا سمن ولا زيت، وإنما يجلب لها ذلك من بلاد المغرب. وأكل أهلها التمر والجراد، وهو كثير عندهم، يختزنونه كما يختزن التمر، ويقتاتون به، ويخرجون إلى صيده قبل طلوع الشمس، فإنه لا يطير إذ ذاك لأجل البرد. وأقمنا ببودا أياماً ثم سافرنا في قافلة، ووصلنا في أوسط ذي القعدة إلى مدينة سجلماسة. وخرجت منها في ثاني ذي الحجة، وذلك أوان البرد الشديد، ونزل بالطريق ثلج كثير. ولقد رأيت الطرق الصعبة والثلج الكثير ببخارى وسمرقند وخراسان وبلاد الأتراك، فلم أر أصعب من طريق أم جنيبة. ووصلنا ليلة عيد الأضحى إلى دار الطمع، فأقمت هنالك يوم عيد الأضحى، ثم خرجت، فوصلت إلى حضرة فاس، حضرة مولانا أمير المؤمنين أيده الله، فقبلت يده الكريمة وتيمنت بمشاهدة وجهه المبارك، وأقمت في كنف إحسانه بعد طول الرحلة. والله تعالى يشكر ما أولانيه من جزيل إحسانه، وسابغ امتنانه، ويديم أيامه، ويمتع المسلمين بطول بقائه. وههنا انتهت الرحلة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار. وكان الفراغ من تقييدها في ثالث ذي الحجة عام ستة وخمسين وسبعمائة.
والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى قال ابن جزي: انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبي عبد الله محمد بن بطوطة، أكرمه الله. ولا يخفى على ذي عقل أن هذا الشيخ هو رحال العصر. ومن قال: رحال هذه الملة لم يبعد، ولم يجعل بلاد الدنيا للرحلة. واتخذ حضرة فاس مقراً ومستوطناً بعد طول جولانه، لما تحقق أن مولانا، أيده الله، أعظم ملوكها شأناً، وأعمهم فضائل، وأكرمهم إحساناً، وأشدهم بالواردين عليه عناية، وأتمهم بمن ينتمي إلى طلب العلم حماية. فيجب على مثلي أن يحمد الله تعالى، لأن وفقه في أول حاله وترحاله لاستيطان هذه الحضرة التي اختارها هذا الشيخ، بعد رحلة خمسة وعشرين عاماً. إنها لنعمة لا يقدر قدرها، ولا يوفى شكرها. والله تعالى يرزقنا الإعانة على خدمة مولانا أمير المؤمنين، ويبقي علينا ظل حرمته ورحمته، ويجزيه عنا معشر الغرباء المنقطعين إليه أفضل جزاء المحسنين. اللهم وكما فضلته على الملوك بفضيلتي العلم والدين، وخصصته بالحلم والعقل الرصين، فمد لملكه أسباب التأييد والتمكين، وعرفه عوارف النصر العزيز والفتح المبين، وأجعل الملك في عقبه إلى يوم الدين، وأره قرة العين في نفسه وبنيه وملكه ورعايته، يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا ومولانا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين. والحمد لله رب العالمين.


وكان الفراغ من تأليفها في شهر صفر عام سبعة وخمسين وسبعمائة


الساعة الآن 03:58 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر