مجلة الإبتسامة

مجلة الإبتسامة (https://www.ibtesamah.com/)
-   طلبات الاعضاء (https://www.ibtesamah.com/forumdisplay-f_217.html)
-   -   رواية مدينة الله (https://www.ibtesamah.com/showthread-t_394430.html)

زهر الرمال October 31, 2013 12:59 PM

رواية مدينة الله
 
السادة الكرام إدارة مجلة الابتسامة
أعبر لكم عن شكري و تقديري لقبولكم تسجيلي في منتدياتكم الغراء ، و لي عندكم طلب إذا ممكن رواية (مدينة الله ) للروائي (حسن حيمد ).
مع فائق احترامي

ذوالفقار1991 October 31, 2013 07:32 PM

رد: رواية مدينة الله
 
الروائي الفلسطيني الدكتور حسن حميد


الروائيون الفلسطينيون يحلقون إبداعياً عندما يكتبون عن الأرض

سمير درويش
حسن حميد ولد في كراد البقارة (صفد - فلسطين) عام 1955، هاجر إلى سوريا مع أسرته، تلقى تعليمه في القنيطرة ودمشق، وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في الفلسفة وعلم الاجتماع، ودبلوم الدراسات العليا ودبلوم التأهيل التربوي، ثم نال الإجازة في اللغة العربية من جامعة بيروت العربية.. عمل معلماً في دمشق، ثم امتهن الصحافة، وقد حصل مؤخراً على درجة الدكتوراه في الأدب العربي.. بالإضافة إلى أنه عضو مجلس إدارة اتحاد الكتاب السوريين.
أصدر عدة مجموعات قصصية، من بينها: اثنا عشر برجاً لبرج البراجنة، زعفران والمداسات المعتمة، ممارسات زيد الغاثي المحروم، طار الحمام، دويّ الموتى، هنالك.. قرب شجر الصفصاف، مطر وأحزان وفراش ملوّن، أحزان شاغال السَّاخنة، قرنفل أحمر.. لأجلها، حمّى الكلام، وكائنات الوحشة.. ومجموعة من الروايات، منها: الوناس عطية، أنين القصب، السواد أو الخروج من البقارة، جسر بنات يعقوب، تعالي نطيّر أوراق الخريف.. وله مجموعة من الدراسات، منها: ألف ليلة وليلة.. شهوة الكلام.. شهوة الجسد، البقع الأرجوانية، المصطلحات - المرجعيات - دراسة الأدب العبري، والبقع الأرجوانية في الرواية الغربية.
التقيته وكان هذا الحوار:
. في ظني أن حسن حميد لا يعتمد الحبكة التقليدية لأن لديه تنوعاً في أساليب السرد.. هنا أود أن أسألك: كيف تنظر إلى رواياتك في إطار التنوع والاختلاف في بنية الرواية العربية؟!
- نادراً ما أعود إلى رواياتي بعد طباعتها لكي أقرأها. قد أعود إليها إذا ما نبهت إلى أمر ما فيها. أقول هذا لأن الرواية تستلزم من الكاتب أن يغير دمه لأنها تستنزفه جسدياً، وعصبياً، وروحياً، ومعرفياً. ذلك لأن الرواية الناجحة هي رواية معرفة، رواية جدة واختلاف، رواية دهشة محمولة على كف الرؤية التي يتوخاها الكاتب.
نعم.. أنا ميال إلى التنوع، والاختلاف، والمغايرة.. لأن هذا الميل طبيعة موجودة داخل كيمياء الفرد البشري، فهو ليس عاطفياً أو يحب التملك فقط وإنما هو نزوع إلى التفرد والمفارقة في كل ما يفعله.
أظن أن الرواية العربية بلغت سن الرشد مع نجيب محفوظ، فرواياته كانت جديرة بالمناددة مع الروايات العالمية التي استوردناها من الغرب (الأوروبي والأمريكي) بعد أن كانت القطيعة مطبقة مع آسيا، وأمريكا اللاتينية، وإفريقيا.. وقد جربت الرواية العربية، عبر تجارب روائية مهمة جداً، أساليب عدة في الكتابة جعلت سمتها الرئيسة التنوع والاختلاف.. فالآن لا يكتب واسيني الأعرج مثلما كتب نجيب محفوظ كما لا يكتب إبراهيم نصر الله مثلما يكتب آلان روب غرييه، إنه يكتب روحه والأمكنة التي عرفها، والأزمنة التي غصَّ بها، والشخوص التي ابتدعها أو عايشها أو أحبها. حسن حميد لا يكتب أيضاً مثلما يكتب واسيني الأعرج وإبراهيم نصر الله، ولا يكتب مثلما كتب أرسكين كالدويل.. إنه يكتب ما يسميه الخصوصية التي ستميزه بين هذا وذاك. بلى، كتابتي الروائية، وحتى القصصية، مختلفة عن كتابات الآخرين لأنني حاولت أن أضع فيها كل ذخيرتي ومعرفتي وموهبتي ورؤاي وتشوفاتي.

أنا تلميذ لمعلمين هائلين: الأسطورة والتراث.. ذلك لأنني أنتسب لحضارة الأنهار التي أوجدت الزراعة وأدواتها، والمهن وأدواتها، والحروب وأدواتها، والجمال وأدواته!

تداخل الأسطوري والتراثي
. هناك من يقول إن الروائي العربي ينشر رواية واحدة على الأغلب، ثم يكتب روايات عدة تدور حولها أو تحاكيها، ما رأيك؟!
- أظن أن الأقرب إلى الصواب هو أن نجاح الروائي قد يكون وقفاً على عمل روائي واحد، وباقي رواياته تصبح وصيفات لا أكثر. هذا ربما حدث مع فلوبير في (مدام بوفاري)، ومع ديستويفسكي في (الجريمة والعقاب)، ومع أرسكين كالدويل في (طريق التبغ)، ومع فوكنر في (الصخب والعنف)، ومع نجيب محفوظ في (الثلاثية).. إلخ، ولكن المقولة التي طرحتها ليست خاطئة أو مغلوطة لأن تجارب روائية عدة تمثلها رواية واحدة إلى حد أن الروايات الأخرى تصير كما لو أنها إعادة إنتاج للرواية الأولى.
. يبدو أن الحوار كان فاعلاً ومهماً في عدد من رواياتك: الوناس عطية وجسر بنات يعقوب، تُرى ألا يمكن اعتبار شخصيات رواياتك قد تحررت من كبتها حين تفاعلت مع الحوار؟ أقول هذا لأنني أجد بأن الحوار يكاد يكون مفقوداً في غالبية الروايات العربية.
- في وهمي أن الحوار وحده لا يدلل على تحرر شخصيات العمل الروائي، أو فعاليتها، وإن كان كما قلت مؤشراً. حرية الشخصيات وفعاليتها تتبديان في الهيكلية العامة لها، كدت أقول من (الكاركتر) العام كما يقول نقاد المسرح.
الحوار في الرواية مهم جداً وضروري لكي تخلق التأويلات، والتناقضات، ولكي تبدو الثنائيات التي يحتشد بها المجتمع العربي تماماً مثلما تحتشد بها الذوات العربية.
. اعتمدت في رواياتك على الموروث الشعبي والأسطورة.. ألا تعتقد أن توظيف الموروث والأسطورة، بشكل عام، جرى كموقف إيديولوجي؟!
- أظن أن أهم كتابين لا يرتوي منهما الروائي هما: كتاب الأسطورة، وكتاب التراث الشعبي. والروائي الذي يحيّد هذين الكتابين هو روائي شديد الضحالة، ومصاب بالعطش المعرفي، ومصاب بمرض اسمه (عطالة الحواس).
أنا تلميذ لمعلمين هائلين هما: الأسطورة والتراث.. ذلك لأنني وعيت مبكراً أنني أنتسب جغرافياً وتاريخياً لحضارة الأنهار التي أوجدت الزراعة وأدواتها، والمهن وأدواتها، والحروب وأدواتها، والجمال وأدواته. أنا ابن حضارة نهر الأردن الذي له ضفتان باذختان من المعرفة والحضارة، عنيتُ بالضفة الأولى: وادي النيل، وعنيتُ بالضفة الثانية: بلاد ما بين النهرين. ومن يقرأ التاريخ سيجد بأن حضارة باذخة عمرتها تلك الأنهار بأيدي أهلها العارفين، لهذا لا عجب حين تتداخل الحدود ما بين الأسطوري والتراثي في مدونات ومرويات تلك الحضارة. واستنادي إلى الأسطورة والتراث ليس استناد معرفة وحسب وإنما هو محاولة لتشرب جمالية الفنون التي كانت آنذاك كالرسم، والتلوين، والنقش، والروي.. وتفاصيل كيمياء النصوص من حيث الاستهلال، والإبطاء، والالتواء، والمداورة، والتكرار، والمراوحة، والطي، والقفز، والمجاراة، والتشويق، والخواتيم والنهايات.. إلخ.
واستغراقي في الأسطورة والتراث ليس استغراقاً ولّدته نزعة الإعجاب والأنانية.. حتى ليصير موقفي موقفاً إيديولوجياً! إطلاقاً.. ما أردته من الاستغراق في ذينيك الكتابين هو التخفيف من وطأة الاستهلاكية، وسطوة المعرفة الجاهلة التي محت التاريخ أو غطته بالراهن. ومحاولة أيضاً لإنقاذ الأرواح من خلالها، ومتاهاتها، وضعفها بعدما بُهرت بالجديد ضوءاً، وقوةً، وحضوراً.
ها نحن نرى أمريكا اللاتينية من خلال أدبها، نرى تاريخها القديم والحديث.. وقد جهلناهما سابقاً. وأوروبا اليوم تقرأ أمريكا اللاتينية من روايات كتّابها بعد أن حيدتها قروناً.. وهذا ما سيحدث في أزمنة آتية بالنسبة لآسيا، وإفريقيا. روايات أمريكا الجنوبية قدمت لنا أساطير أهلها وتراث ناسها عبر مواقف ومرئيات يومية.. فهل نقول إن ذلك موقف إيديولوجي؟! إن قلنا نعم، فهذه الإيديولوجية أحبها، وآخذها طيّ صدري.

الروايات العبرية تسم العربي بالجهل والقذارة والغدر، في حين تسم الرواية العربية اليهود بالباطنية والخداع والمكر ونقض العهود والمسكنة الكاذبة والعدوانية!

. إلى أي حدّ تعتبر أن الإيديولوجيا أضرّت بالأدب؟! وإلى أيّ حد حجمته؟! بقولة أخرى ألا ترى أن الشعر العربي قد تخلص من المقولات الكبرى والشعارات الفضفاضة واتجه عبر قصيدة النثر إلى الإنسان بوصفه إنساناً.. بينما لا يزال الروائيون يستقون رواياتهم من الإيديولوجيا؟!
- بداية أوافقك على أن الإيديولوجية الشعاراتية الإعلانية أضرت بالأدب كثيراً، ولكن ما كتبته الإيديولوجيا ليس أدباً، إنه مقالات إعلانية حول أحزاب، أو تيارات، أو بلاد، أو قضايا. ولكن الإيديولوجيا باعتبارها رؤية، أو مجموعة مواقف وأفكار لا يمكن لأي نص روائي أن يتحيدها. العيب هو في طريقة الكتابة، وفي ضعف المواهب، والاكتفاء بالسهل، والموافقة على إرضاء الآخرين بأية طريقة. روايات كثيرة مـجّدت الثورة البلشفية لا أحد يذكرها اليوم لأنها مملوءة بالشعارات، روايات كثيرة تحدثت عن القضية الفلسطينية لا أحد يذكرها أو يعود إليها لأنها مملوءة بالشعارات؛ ولكن هذه وتلك كان لابد منها في وقت من الأوقات، وأصحابها أعدّهم ضحايا للزمن والظروف والإملاءات. عادة ما يطغى الشعاري والقولي على الفني والإبداعي في أوقات الأزمات، أو النشوة التي بولغ في التعبير عنها. وأنا غير ميال للموافقة على أن الشعر تخلص من المقولات الكبرى.. ما زالت الأحداث تتردد أصداؤها كمقولات كبرى في القصائد. وقصيدة النثر العربي جيدة في بعض نماذجها وليس في كلها!، والروايات اليوم لا تأخذ مادتها من الإيديولوجيا، وذلك لأن أغلاط الإيديولوجيا في الأدب عموماً والرواية خصوصاً باتت فاقعة.
إعادة الاعتبار لأدب المقاومة
. حسن حميد، كيف ترى خصوصية الرواية الفلسطينية؟! ما هي ميزاتها؟! لا سيما وأن الشعر الفلسطيني أوجد هويته، بينما الرواية الفلسطينية تأثرت كثيراً بالجغرافية داخل الوطن الفلسطيني وخارجه؟!
- نشأة الرواية الفلسطينية شبيهة بنشأة الرواية في مصر، وبلاد الشام عموماً. أي أنها لم تكن وليدة الكفاح المسلح الفلسطيني في أواسط الستينيات من القرن العشرين. صحيح أن عدد الروايات الفلسطينية اليوم أصبح كبيراً، ولكن الصحيح أيضاً أن هذه الصفة تنطبق على واقع الرواية في غالبية البلدان العربية.
للرواية الفلسطينية أحقابها وأزمنتها، ولها تياراتها، وموضوعاتها أيضاً. ليست كل الروايات الفلسطينية تحدثت عن الكفاح المسلح، أو جرح نكبة 1948، ولكن كان من الطبيعي أن تتحدث الرواية الفلسطينية عن هذه المأساة الكبرى التي تعرض لها أبناء الوطن الفلسطيني العزيز، مأساة لم يعرفها شعب في العصر الحديث إطلاقاً.
توجد الكثير من الأغلاط الفنية في العديد من الروايات والتجارب الفلسطينية، ولكن هذا لا يمنع من القول إنه توجد روايات وتجارب فلسطينية لا تقل شأناً وأهمية عن أحسن النماذج الروائية العربية. صحيح أن مصطلح الأدب المقاوم، اشتمل على الكثير من النماذج الروائية الرديئة فنياً ولكن يحق للكتاب الفلسطينيين أن يفخروا بأنهم أوجدوا أدباً روائياً رائقاً داخل مدونة الأدب المقاوم.. وقد باتت تجارب روائية فلسطينية لكتّاب مثل: غسان كنفاني، جبرا إبراهيم جبرا، إميل حبيبي، رشاد أبو شاور، إبراهيم نصر الله، يحيى يخلف، وليد أبو بكر، أحمد عمر شاهين، من أساسيات المدونة الروائية العربية.
أما إن الشعر أوجد هويته، والرواية لا تزال متأثرة بالجغرافية، وإذا كنا لا نملك المكان فماذا نكتب غير المكان؟! وما الذي تقصّه علينا الجدات والأمهات غير المكان! كتابات غالب طعمة فرمان العراقي الذي عاش في المنفى (في موسكو) والذي لم يكتب سوى المكان العراقي. إن الشعب الفلسطيني مصاب بعلة فقد (المعيل) والمعيل عندهم هو الأرض، المكان.. لذلك فإن الروائيين الفلسطينيين يحلقون إبداعياً عندما يكتبون عن الأرض، عن المكان.

اليهودي لا يزال عدواً وسيبقى كذلك ما دام يستولي على الأرض، والحقوق، والتاريخ، والحلم.. وما دام قاتلاً وسجّاناً!

واحدة، يا سيدي، من أهم مزايا الرواية الفلسطينية أنها كتبت المكان كما لم تكتبه رواية من قبل، إنه من الطبيعي أن ينتفض الإنسان حين يلدغ بالنار؟
. كيف تنظر إلى التشابه والاختلاف في رسم صورة الآخر في الثقافتين العربية والعبرية؟! هل تعتقد أن القضية الفلسطينية قد أخّرت في فهم صورة اليهودي؟!
- لا أظن أن اليهودي يحتاج إلى اكتشاف جديد.. بين أيدي أبناء البشرية جمعاء (وحسب الاهتمام) مدونات تاريخية تخبر عن السلوك اليهودي، وعن الطبيعة اليهودية، وعن التعامل اليهودي مع الآخرين. اليهودي كيهودي شخصية مدركة الأبعاد، لها صفاتها ومميزاتها الواضحة جداً، لكن هذه الشخصية اليهودية باتت شخصية مركبة وذات حمولة دينية وسياسية وثقافية وعاطفية، وقد تناهبتها التأويلات اليهودية، والإسرائيلية، والصهيونية، والعبرية معاً.
معايشةً، نعرف اليهودي منذ أكثر من خمسة عشر قرناً، وتاريخياً نعرفهم من مئات القرون، وقد تبلورت (عبر هذا التاريخ الطويل) معطيات باتت أساسية وارتكازية في الشخصية اليهودية.. هذا من جهة، ومن جهة ثانية باتت للشخصية العربية مرتكزاتها ومميزاتها أيضاً، وقد تبدت هذه الصفات والمميزات وتجلت في الأدب، كانت تلح الروايات العبرية على وسم العربي بالجهل، والقذارة، والغدر، في حين تلح الرواية العربية على وسم الشخصية اليهودية بالباطنية، والخداع، والمكر، ونقض العهود والمواثيق، والمسكنة الكاذبة، والقتل والعدوانية (بعدما امتلك الكيان الصهيوني القوة).
وهنا لعبت القضية الفلسطينية دوراً أشبه بدور المرآة فمن خلالها راحت الرواية العربية تشخص الشخصية اليهودية، وفي الطرف المقابل النقيض للفلسطينيين، راح الأدب العبري يشخص الشخصية العربية.
المشكلة هي أننا أمام تعريف لهذا المصطلح (الآخر)! فهل اليهودي هو (آخر) أم هو (عدو)؟! أعتقد أنه من السابق لأوانه أن نسمي اليهودي الغاصب للأرض، والتاريخ، والأحلام بـ(الآخر) الذي عليَّ أن أحاوره، أو أن أراه في صورة ليس فيها قتل، أو تدمير، أو أسر، أو سجن، أو اغتصاب. اليهودي لا يزال عدواً وسيبقى كذلك ما دام يستولي على الأرض، والحقوق، والتاريخ، والحلم.. وما دام قاتلاً وسجّاناً!

إن نجاح الروائي قد يكون وقفاً على عمل روائي واحد، وباقي رواياته تصبح وصيفات لا أكثر. هذا ربما حدث مع فلوبير في (مدام بوفاري)، ومع ديستويفسكي في (الجريمة والعقاب)، ومع أرسكين كالدويل في (طريق التبغ)، ومع فوكنر في (الصخب والعنف)، ومع نجيب محفوظ في (الثلاثية)..

. هناك قراءة مختلفة للآداب العالمية في كتابك (البقع الأرجوانية).. هل كان المثقف العربي مستلباً من قبل الثقافة الغربية؟!
- ولا يزال!
هذا أمر طبيعي جداً لأنهم، أعني الغربيين، كانوا في القرون الثلاثة الأخيرة كل شيء في الدنيا: شعراً، ورواية، وقصة، ومسرحاً، وتصنيعاً، وعمراناً، وتسليحاً، وغزواً...إلخ..

أنا ميال إلى التنوع، والاختلاف، والمغايرة.. لأن هذا الميل طبيعة موجودة داخل كيمياء الفرد البشري، فهو ليس عاطفياً أو يحب التملك فقط وإنما هو نزوع إلى التفرد والمفارقة في كل ما يفعله

ولكن بعد هذا الهدوء الذي تعيشه البشرية؛ آن الأوان لمراجعة الكثير من الآراء النقدية حول تيارات الأدب (ما دمنا نتحدث عن الأدب) والثقافة، والإبداع، والفنون.. على أن تكون هذه المراجعة بأيدينا وعقولنا وبعد معرفة أهلها معرفة موضوعية لنقول أو لنعرف أين أصاب نقاد الغرب وأين أخطأوا، كي لا نظلّ أسرى لما قالوه. بقولة أخرى أن نكف عن النقل، وننتقل إلى العقل، أي الانتقال من التقليد إلى العمل. أردت أن أورث شكوكي ووقفاتي النقدية لبعض العاملين في الجامعات العربية الذين يدرِّسون آداب الغرب من مقالات نقدية كتبها نقاد الغرب أنفسهم دون أن ينظروا فيها، دون أن يراجعوها.. وذلك لأنهم مشغولون بأمور أهم من التدريس والمراجعة (وقد غدوا دكاترة) كي يصبحوا وزراء أو قادة، أو مصلحين اجتماعيين، أو فلاسفة.. ترى كم من النقاد العرب يعرفون ما احتوته رواية (عوليس)؟! لجيمس جويس هل قرأ أحد منهم أسماء المدن الفلسطينية التي تتردد داخل الرواية فتساءَل لماذا هذا الحضور المكاني الفلسطيني في رواية مكتوبة سنة 1904؟! وهل أدرك أحد من نقاد العرب أن هرتزل مات عام 1905 أي في أثناء كتابة الرواية، وأن كتابه (الدولة اليهودية) كان يقرأ في بلاد الغرب بقداسة ومهابة؟! وأن لسيرة الذاتية لـ(جيمس جويس) تخبرنا بأنه تعرف إلى ابنة طبيب يهودي تكفلت بـ(قبر)فقره في مدينة النور باريس؟! وأنها هي من سعى إلى تزويجه بـ(نورا باركنيل)؟!
والأسئلة ذاتُها أوجهها أيضاً حين يدار الحديث عن مارسيل بروست، وفرانز كافكا.. بعيداً عن الغلو، والتشنج، والمذهبيات المسبقة. من حق المثقف العربي أن يقرأ تلك التجارب الأدبية الكبيرة قراءة معمقة وكلية ليس من أجل المحاججة وإنما من أجل المعرفة الحقة كي لا يظلّ الغلط الابتدائي غلطاً أبدياً!

استغراقي في الأسطورة والتراث ليس استغراقاً ولّدته نزعة الإعجاب والأنانية.. حتى ليصير موقفي موقفاً إيديولوجياً! إطلاقاً.. ما أردته من الاستغراق في ذينيك الكتابين هو التخفيف من وطأة الاستهلاكية، وسطوة المعرفة الجاهلة التي محت التاريخ أو غطته بالراهن. ومحاولة أيضاً لإنقاذ الأرواح من خلالها، ومتاهاتها، وضعفها بعدما بُهرت بالجديد ضوءاً، وقوةً، وحضوراً

ذوالفقار1991 October 31, 2013 07:37 PM

رد: رواية مدينة الله
 
العنوان والدلالة في الرواية المقدسية مدينة الله لحسن حميد أنموذجاًد.خليل الموسى 1 ــ ما قبل القراءة: الرواية المقدسية(1): القدس مدينة الديانات السماوية الثلاث وملتقى الحضارات الإنسانية، وهي مدينة الأنبياء، وفيها قبّة الصخرة والمسجد الأقصى، وفيها أيضاً كنيسة القيامة ودروب الآلام التي سار عليها السيد المسيح والأماكن التي عاش فيها أو زارها، وقد تعرَّضت في القديم لما تعرَّضت له سواها من المدن العربية كغزوات الفرنجة من الغرب، وغزوات المغول من الشرق، ولكنَّ الصراع عليها اليوم فاق كلّ تصوّر، فالصهاينة جاهدون إلى أن ينتزعوها كاملة من أيدي أصحابها، وهم لم يكتفوا بتشريد أصحابها والتنكيل بهم ومضايقتهم، وإنما يحاولون أن يطمسوا ويزيفوا كلّ ما يدلّ على هويتها، ومع ذلك فإنّ الأعمال الروائية التي اتخذت هذه المدينة مسرحاً لأحداثها قليلة بالقياس إلى الروايات التي كانت مسرحاً لأحداث تجري في القاهرة أو بيروت أو بغداد أو دمشق.
إنَّ بداية الرواية الفلسطينية عامة والمقدسية خاصة تعود إلى بداية الصحافة في فلسطين، وهي أقرب إلى المحاولات الروائية منها إلى الجنس الروائي الذي ينهض بما فيه من عناصر فنية، وربما كان السرد العنصر الطاغي الوحيد الذي يصل الحكاية بالرواية في هذه المرحلة، وقد صدر عدد من هذه المحاولات قبل النكبة،وهي مرتبة حسب صدورها زمنياً، ومنها "ظلم الوالدين" 1920 ليوحنا دكرت، و"الوارث" 1920 لخليل بيدس، و"الحياة بعد الموت" 1920 لإسكندر الخوري، ثم صدرت بعد ذلك روايات ضعيفة فنياً، ومن أهمها رواية " المُلاَّك والسمسار" 1934 لمحمد عزْة دروزة، وتكمن أهميتها في موضوعها الذي تتحدّث فيه عن وسائل المنظمات الصهيونية لإغراء الفلاحين لبيع أراضيهم للمنظمات الصهيونية، ورواية "مذكّرات دجاجة" 1943 لإسحق موسى الحسيني التي حاول فيها صاحبها أن يعالج الواقع الفلسطيني قبل النكبة بأسلوب الرمز، فالدجاجة التي تروي مذكراتها لا تطيق أن ترى غريباً في الديار، وهكذا ظلّت الرواية الفلسطينية محاولة أولية تحتاج إلى كثير من المراجعة والتدقيق والتروّي إلى أن أطلّت رواية "صراخ في ليل طويل" 1955 لجبرا إبراهيم جبرا التي تُعدّ أول رواية فلسطينية تستوفي شروط الفنّ الروائي.
بدأت الرواية الفلسطينية فنياً متأخرة عن مثيلاتها في مصر ولبنان في الخمسينيات من القرن الماضي، ومع ذلك فإنّ القدس بصفتها مكاناً كلياً أو جزئياً هي مدار حديثنا هنا، وربما كانت رواية "حارة النصارى" 1969، وهي الجزء الأول من ثلاثية نبيل خوري، الرواية الأولى التي تتعرض لمشكلة القدس وأطماع الصهاينة في تهوديها، وذلك من خلال شخصية سلمى وتداعياتها حول زوجها المناضل يوسف راشد الذي استُشهد في حرب 1967، وظلَّت سلمى تخاطب صورة زوجها إلى أن انتشرت المقاومة في كلّ مكان، فإذا هي تبشّره: "إنّ أعمال الفدائيين تملأ الدنيا. كلّ واحد منهم هو أنت، إنّهم استمرار لك. أمس نزعت السَّواد المحيط بصورتك.. أنتَ لم تمت، كلّ فدائي هو أنت. دمك لم يذهب هدراً".
وعلينا أن نتوقَّف عند رواية "السفينة" 1970 لجبرا إبراهيم جبرا وهي تستنطق القدس من خلال أحد أبطالها (وديع عساف)، وهو يتذكّر مدينته على ظهر السفينة المبحرة من بيروت إلى مرافئ المتوسط، ويتذكّر مقاومة أهل القدس لأطماع الصهاينة وتصدّيهم قبل النكبة للانتداب البريطاني الذي كان يُسَهِّل وصول الصهاينة إلى مآربهم، ويسرد ذكرياته عن القدس وفلاحيها وأرضها وجبالها وحاضرتها ومعالمها، وحلمه الكبير أن يعود إلى القدس ليعيش فيها، ولكن من يقرأ أحلام وديع عسَّاف الإنسان المقدسيّ المشرّد لا يجد أثراً لكلّ ما يعكّرها أو يهدّد مدينته، وكأنّ أحلامه أقوى من الاستعمار والصهاينة ومخططاتهم: "لقد نقلت أموالي إلى القدس. اشتريت أرضاً واسعة في قرية قريبة من الخليل، وسأشتري أرضاً أخرى من بيت حنينا. وسأبني بيتاً كبيراً من حجر، وأزرع البندورة والتفاح، ولو أنني لست فلاحاً. سأطبّق أحدث الطرق. سأهشّم الصخر، وأفرش عليه تراباً من تربتنا الحمراء الخصبة الجميلة. سأستنبت الحجر.. وربك. سأحفر بئراً ارتوازية، سأجمع قطرات المطر.. وسأتزوج حالما أرجع لكي أجمع بين المرأة والأرض".
وهكذا تتالت أعمال جبرا الروائية، ومنها "صيادون في شارع ضيّق" 1974، وعاد معها موضوع القدس وتاريخها وبعض الأحداث المعاصرة التي مرّت بها في سرد جميل فرّان بطل الرواية الذي هُجَّر من وطنه ومدينته سنة 1948، "والبحث عن وليد مسعود" 1978، وبطلها وليد ابن القدس الذي هُجِّر منها، ولكنَّها ظلّت حاضرة في فكره وروحه.
ثمَّ تتالت الروايات الفلسطينية التي اتخذت من القدس مسرحاً لأحداثها على نطاق واسع أو ضيّق كلّي أو جزئي، ومنها "عصافير الفجر" 1968 لليلى عسيران، و"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" 1974 لإميل حبيبي، وروايات أخرى لرشاد أبو شاور وسحر خليفة وتوفيق فياض وأفنان القاسم وسواهم، ولكنَّ القدس بصفتها المدينة العربية الأجمل والأطهر والأكثر توغلاً في جذور التاريخ، وبصفتها المدينة العربية التي تتعرَّض يومياً للسبي والاستلاب والاغتصاب ما زالت الموضوع الأكثر تداولاً في الشؤون العالمية والأقلّ تناولاً في الأدب عامة والرواية خاصة، ومن هنا تأتي أهمية "مدينة الله" الرواية الجديدة لحسن حميد لتسدّ فراعاً كبيراً في هذا الموضوع، فهي رواية مقدسية بامتياز، رواية جال الراوي على مدى صفحاتها (450 صفحة) في حارات القدس وأزقتها ومقاهيها وشوارعها، وزار كنائسها ومساجدها ومغاراتها، ووصف دروبها ودورها وبساتينها وأشجارها، وحادث نساءها ورجالها وأطفالها، وقدَّم صورة واضحة عن تاريخها وماضيها وحاضرها، ووضع القارئ وجهاً لوجه إزاء المشكلة الكبرى التي تتعرض لها اليوم، وهي رواية مختلفة كلّ الاختلاف عما سبقها من روايات في هذا الموضوع لأسباب كثيرة، ويمكن أن يعدّها القارئ رواية تأسيسية لما سيأتي بعدها من روايات عربية تتخذ من بيت المقدس مكاناً وموضوعاً لها.
2 ــ العنوان والدلالة: العنوان إشارة نصيّة تكتنز دلالةً محدّدة أو غير محدّدة، ويتزايد الاهتمام بالعنوان في عصرنا الذي التفت فيه بعض المفكرين والدارسين إلى المهمّشات والهوامش (الأقليات العرقية والدينية ــ الزنوج ــ المرأة ــ القارئ ــ العتبات النصية...إلخ)، فنحن في عصر الاتصالات والتنوّع والتعدّد والإعلان أكثر مما نحن في عصر الإعلام والفكر الواحد، وتمتدّ دلالة العنوان من الإشارة التي تشير إلى شيء محدّد، كإشارات المرور مثلاً إلى الأيقونية التي تتّسع فيها الدلالة بين الإشارة والرمز إلى الرمز الذي يفيض بالدلالة فيغدو العنوان متحرّراً من أحادية المدلول وهيمنته، وينتمي العنوان إلى جملة من العتبات النصيّة المرافقة، وقد تكون كثيرة أو قليلة، حاضرة أو غائبة، ولكنَّ العنوان هو الأكثر اهتماماً وحضوراً وجاذبية، ولذلك قدَّم جيرار جينيت العنوان على سواه من العتبات، وذهب إلى "أنَّ تحديد العنوان نفسه ربما يُثير عدّة إشكالات أكثر من أي عنصر آخر من العتبات، ويتطّلب جهداً أوفر في التحليل، وذلك لأنّه، كما نعرفه منذ عصر النهضة، جهاز وظيفي (سأكون أكثر بعداً عما يتصل به فيما قبل التاريخ)، في أغلب الأحيان، وهو تركيب بسيط لمجموعة من العناصر، ولكنّه معقد بحيث لا يُدرك مداه تماماً".
يتراوح العنوان أيضاً بين المفتاح العادي والمفتاح السحري، وهو يؤدي وظيفته في الحالتين، فالتسمية هوية، وفي العنوان ما نجده في الكتب العلمية المختلفة وكلّ ما يتصل بالخطابات العقلية من علوم مختلفة (رياضات ــ فلك ــ موسيقا ــ بلاغة ــ نحو...إلخ)، وهي خطابات لا تنزع منزع الانزياح والغموض، ولكنَّ وظائف العنوان تتعدّد في الخطابات الانزياحية، فهو هوية ومرشد ودليل ومساعد ومصباح، فالمسير في الغابات البكر غيره في الأماكن المفتوحة، وصحيح أنّ العنوان يكتنز الدلالة النصيّة، ولكنّ لا يُعنى بالتفاصيل التي يُعنى بها النص، وإنَّما هو يتضمَّنها في تفاعلاته، ثمّ هو يتكتم على دلالات كثيرة في دهاليزه، ولا يبوح بها إلا لخاصة الخاصة، ولا يعترف بها إلا بعد أن يُقهر من قارئ ضروس خبير وبعد مماطلة وتأجيل، والعنوان الذي يُدلي بكلّ أسراره من أول وهلة في النصوص الأدبية يُصنّف ضمن المفاتيح العادية، ولما كان الأدب تشويقاً ومماطلةً وممانعةً فعلى العنوان أن يقوم بوظائفه على أحسن وجه، فهو يغوي القارئ ليضلّله في الوقت ذاته، ويدفعه إلى القراءة ليورَّطه في المقاربة، ويبتعد عنه بقدر ما يقترب منه، وكلّما اكتشف القارئ أنّه على مقربة من هدفه فإنّ عليه أن يعيده من حيث أتى، وإلا فإنّه لا يستحق أن يكون حارساً أميناً لنصّه من جهة، وهو غير جدير بأن يتربّع على عرش النص من جهة أخرى.
ليس العنوان وليد العصر الحديث، فالتسمية كانت منذ الكينونة، ولكنَّ أهميته في الدراسات النصية وليدة هذا العصر، وقد ازداد الاهتمام به في كتابات ما بعد الحداثة والبنيوية عامة، وفي أعمال السيميولوجيين تحديداً خاصة، على أساس أنَّه علامة سيميولوجية، وتأتي أهميته من الوظائف التي يؤديها، ومنها:
ــ الوظيفة الإغرائية، وتتمّ من خلال إغراء المتلقي قبل القراءة، فالعنوان تقانة ذات دلالة وهدف واضحين، والمعروف أنّ العنونة إعلان عن هوية النص وإشهار لها، وقد بدأت هذه الوظيفة مع بدايات المسرح عندنا، ففي مسرحيته "أبو الحسن المغفَّل أو هارون الرشيد" 1849 لمارون النقاش عنوان طويل نسبياً، وواضح أنّه يتضمَّن عنوانين لعمل واحد بقصد جذب المتلقّي أو اصطياده، فالعنوان الأول ــ وهو الموضوع الرئيس ــ يتناول موضوعاً اجتماعياً (أبو الحسن المغفَّل)، ويتناول الثاني موضوعاً تاريخياً (هارون الرشيد)، فإذا شاء المتلقي المتعة من خلال شخصية اجتماعية كوميدية فله ذلك في المغفّل، وإذا شاء المتعة من خلال شخصية تاريخية فهو يجد ذلك في شخصية هارون الرشيد، وقد امتدت نزعة الدعاية والإعلان إلى العناوين الفرعية التي تصاحب العنوان الرئيس، كأن يكون العنوان الفرعي مثلاً: رواية تشخيصية هزلية ملحّنة...إلخ.
وانتقلت بهجة العنوان والوظيفة الإغرائية إلى الرواية في بداياتها، فاتخذت لها تسميات أنثوية في عصر كانت فيه الأنثى لغزاً وسحراً وكأنّها خارجة من عالم "ألف ليلة وليلة"، وإذا العناوين تتوافد من معجم الأعلام الأنثوي (سلمى ــ زينب ــ بدور ــ سامية...إلخ) أو صفاتها (غادة ــ فتاة ــ عذراء ــ عروس...إلخ)، أو تتخذ طابعاً رومانسياً خالصاً، كما هي الحال في "الأجنحة المتكسّرة"، ولذلك كان العنوان عاملاً جاذباً أو فخاً للاقتناء والقراءة، وليس ذلك وحسب، وإنّما كان الجنس الروائي نفسه فخاً أو وسيلة لقراءة التاريخ، وهو وسيلة محبّبة، وهذا ما صرّح به جرجي زيدان في روايته السابعة "الحجّاج بن يوسف" حين ذهب إلى أن هدفه من كتابة الرواية التاريخية أن يعود القرّاء إلى تاريخهم، فظّلت المادة التاريخية هي الأساس والهدف، وقد وضع تصوّره حول ذلك، فقال: "قد رأينا بالاختبار أنّ نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته، والاستزادة منه، وخصوصاً لأننا نتوخّى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض كتبة الإفرنج، ومنهم من جعل غرضه الأول تأليف الرواية، وإنّما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة، فجرّه ذلك التساهل في سرد الحوادث التاريخية بما يُضلّ القرّاء. وأما نحن فالعمدة هي روايتنا على التاريخ. وإنّما تأتي بحوادث الرواية تشويقاً للمطالعين، فتبقى الحوادث التاريخية على حالها، ندمج فيها قصة غرامية، تشوّق للمطالع في استتمام قراءتها. فيصحّ الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أيّ كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص، إلا ما تقتضيه القصة من التوسّع في الوصف ممّا لا تأثير له على الحقيقة".
ــ مساعدة القارئ في قراءة النص وفهمه.. قد يكون العنوان مخاتلاً ومخادعاً كالفخّ تماماً وتنتهي مهمّته وأهميته، عند إغراء المتلقي الذي يكتشف بعد فوات الأوان أنّه كان ضحية عنوان لامع، ولكنَّه زائف وفارغ وضارّ، وليس كذلك العنوان الجيّد الذي يرافق القارئ ويأخذ بيديه باستمرار القراءة، ولا تنتهي وظيفته عند السطور الأولى أو الصفحات الافتتاحية، فالتسمية لا تكون قبل إنجاز النص، وإنّما هي تتويج لولادته، وتكون بمكانة التوقيع على اللوحة أو أيّ عقد بين طرفين بما تحمله من رضى واطمئنان، ومرحلة اختيار العنوان هي الأكثر قلقاً وتوتراً، وتشبه إلى حدّ ما مرحلة اختيار شريك العمر، فأمام الشريك عشرات الصبايا، وكلهنّ جميلات فاتنات، وعليه أن يختار الأصلح والأنسب، وبناء على ذلك عليه أن يسأل قلبه مرّة وعقله أخرى ليضمن لحياته الزوجية الاستمرار، ويصل إلى حلّ واختيار، كذلك العنوان موجّه دلالي رئيس، واختياره عملية معقّدة جداً، ولا تتم مجانية أو بالمصادفة، كما لا يجوز أبداً أن تكون كمرقّعة الدراويش، ولذلك لا تجوز قراءة النص بمعزل عن عنوانه الذي يمدّنا "بزاد ثمين لتفكيك النص وقراءته، فهو المفتاح الأهم بين مفاتيح الخطاب الشعري، وهو المحور الذي يحدّد هوية النص، وتدور حوله الدلالات، وتتعالق به، وهو بمكانة الرأس من الجسد، والعنوان في أيّ نصّ لا يأتي مجانياً أو اعتباطياً، فهو ليس كالاسم في الإنسان، لأنّ الإنسان يُسمّى بعد ولادته مباشرة، وربما لا يكون الاسم دالاً عليه كل الدلالة، فقد نُسَمِّي مولوداً ذكراً فريداً أو ذكياً أو كاملاً أو صالحاً أو حسناً، ولكنّ النتيجة قد تخيّب ظنّنا وآمالنا، وقد تكون أن فريداً لا يكون فريداً، وأن ذكياً لا يكون ذكياً، وأنّ صالحاً غير صالح، وكاملاً غير كامل وحسناً غير حسن، فالاسم، هنا، اعتباطي احتمالي، ولكنّ الأمر في النصوص الأدبية مختلف، فالنصّ يُسمّى بعد إنتاجه إنتاجاً نهائياً وبعد أن يصبح قابلاً للاستهلاك، فعلى الاسم أن يكون صالحاً للمسمّى دالاً عليه، ولذلك فإنّ العنوان ــ هنا ــ بمكانة الرأس من الجسد لا بمكانة الاسم من المسمّى المولود، والعلاقة بين العنوان والنص رحمية، وما دام للعنوان في النص الأدبي هذه المكانة فإنّ ما تحت العنوان يكون دالاً عليه، ويكون الرأس (العنوان) متصلاً بالجسد بقنوات وشرايين".
ومن هنا يمثّل العنوان البنية الصغرى التي تُحيل دائماً إلى مرجعيتها البنية الكبرى (النص) لا لتستقي دلالتها من هذا الينبوع وحسب، وإنما لتتحاور معه على قدم المساواة لضمان العيش المشترك.
3 ــ "مدينة الله" العنوان والدلالة: إذا كانت الدلالة تكمن في باطن التسمية وظاهرها وهي مستقرة تماماً في العناوين غير الانزياحية فإنّها خلاف ذلك في العناوين الأدبية، فالدلالة هنا لا تستقرّ على حال، لأنّها إذا استقرّت تحوّلت إلى نثر، ومن هنا كانت عبارة "مدينة الله" تومئ إلى قارئها ظاهرياً بأنّها المكان الأكثر اطمئناناً واستقراراً وراحة ومحبّة، ولكنّ الرسائل التسع والأربعين التي يتألف منها نسيج الرواية لا تشير إلى ذلك تماماً فصاحب الرسائل لم يكن مطمئناً أو حراً في تجواله وتصرفاته، وقد آل أمره إلى مصير فاجع. نعم هي مدينة الله، وهي مدينة السيّد الذي نشر في دروبها وساحاتها ومعابدها المحبّة والتسامح والبركات، ولكنّ أبناء الأفاعي كانوا لها بالمرصاد وعادوا إليها مرّة أخرى أكثر شراسة ووحشية، وهم مدجّجون بالكراهية والظلام يبثّون أفكارهم السامة في كلّ مكان من العالم، وقد حوّلوا هذه المدينة الوادعة المقدسة إلى ساحات للتعذيب، وإذا كانوا قد همّوا قبل ألفي عام بصلب سيّد هذه المدينة، فإنّهم يصلبون اليوم شعبها، ويقتلعون الأشجار ويهدمون المنازل وينشرون الكراهية في النفوس، ومن هنا فإنّ التسمية مفخّخة بالتساؤل والتحسّر على هذه المدينة التي أرادها الله أن تكون بديلاً من الجنة التي طُرد منها الإنسان الأول، ولكنّ هؤلاء الأوغاد قد أرادوها جحيماً لا يُطاق.
"مدينة الله" مركّب إضافي واضح، ولكنّ وضوحه يخفي خلفه النّص الغائب ودلالته المتأزمة، فهذا المركب يصلح أن يكون مبتدأ لخبر سيأتي في الكلام أو النص، كأن تقول مدينة الله جميلة أو سعيدة، مثلما يصلح أن تكون منكوبة أو محتلة، وتصلح العبارة أيضاً أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف "هذه مدينة الله" وتحتمل دلالات مختلفة بدءاً من الدلالات الإيجابية: مدينة الجمال والبهاء، والطهارة والعدل والخير والصفاء والعطاء، إلى الدلالات السلبية الطارئة بعد أن حلّ البغّالة والبغال في جنباتها وانتشروا في أصقاعها كانتشار الجراثيم القاتلة في الجسد السليم، فإذا هي مدينة القهر والسجون والتعذيب والظلم.
إنّ المقدسي صاحب المدينة يريد مدينته على ما نشأت عليه، هي لكلّ الناس والأجناس.. هي مدينة الله، وهي ليست لفئة من دون أخرى، في حين أنّ الغرباء يريدون أن يستأثروا بالمدينة وحدهم، وهذا ما جاء على لسان (أبو العبد)، وهو يستقبل الراوي في مقهى قلندية: "مجانين، والله العظيم مجانين يا خواجة، لو صارت البلاد لليهود وحدهم لقامت القيامة، هؤلاء.. مجانين، فالقدس كما رأيتها، إنّها مدينة الله، ليست لدين بعينه، وليست لبشر بعينهم.. إنّها مدينة ممدودة على كفّ الله، وهذه الجبال التي تراها ليست سوى البادي من كفّ الله، وهذه الأودية ليست سوى خطوط هذه اليد المباركة".
هوية العنوان مكانية، وقد كرّمها الراوي بالإضافة إلى لفظ الجلالة تعظيماً لها، فجعلها في أعلى مرتبة من مراتب المدن المعروفة وغير المعروفة، وكان يمكن أن يُسميها مدينة الشمس أو مدينة العرب أو المدينة المقدسة أو مدينة العلم أو النور كما كانت تُسَمَّى باريس سابقاً، ولكنّ هذه الإضافات لا تصل إلى ما وصلت إليه هذه المدينة، فنحن نقول: عبد الله وعبد الرحمن ليتشرّف الاسم الأول بالثاني، وقد اكتسبت المدينة هذا التشريف، وهو دالّ عليها، فهي المكان الذي يجد فيه المرء نفسه قريباً من الله، ويجد فيه حياته الروحية الخالصة، فالصوفي يتوق إليها من بعيد، والمؤمن يعشقها، ويتوجّه إليها المسلم والمسيحي في صلواتهما، والعنوان مكان تاريخي، فالوثائق تُثبت أن ملكي صادق أحد ملوك اليبوسيين هو أول من خطّط لها وبناها، وكان ذلك حوالي 3000 ق.م، وسُمّيت حينذاك بيبوس، وهي مسكن الأنبياء، وقد مشى المخلّص على دروبها، وبذل دمه الطاهر ليخلّص البشرية من آثام الخطيئة الأصلية، ولينشر المحبّة بين البشر، وإذا نظرنا إلى هذه المدينة من خلال عينيّ الراوي وكاتب الرسائل فلاديمير الشيوعي حسب عارف الياسين الذي يناديه دائماً: يا رفيق، والمتعبّد المؤمن من خلال ما يتجلّى لنا من خلال السياق النصّي، فإننا نجدها الجنّة البديل من جنة عدن، وكأنّ الله عوّض على آدم ونسله بجنّة على الأرض بدلاً من الجنة التي طُرد منها، ومن هنا كان على الدارس أن يقف عند البؤرة العنوانية ليتبدّى له هذا الجانب أو ذاك.
"مدينة الله" العنوان الرئيس أو البؤرة العنوانية.. بؤرة تشكّل شبكة من الاتصالات والرسائل بين المركز المُشعّ والعناوين الداخلية التي تُغذّيه من جهة، وبين العناوين الداخلية المتخفية عن أنظار القارئ والعنوان الرئيس من جهة ثانية، فحركة الاتصال في ذهاب وإياب، وكأنّها شخصيتان تتحاوران، العنوان المختصر الجامع وهو المفتاح السحري الذي يحتوي على الدلالة ، والعناوين الداخلية التي تقوم على خدمته الدلالية، ففي الرواية تسعة وأربعون عنواناً مقطعياً، وهي عناوين متصلة بالعنوان الرئيس بحبال سرية، كاتصال الجنين برحم أمّه، ولكلّ عنوان وظيفة دلالية شارحة ومفسّرة ومكمّلة لما يتضمّنه المركز، وهي عناوين متنوّعة، ولكنّها تتضامن في خدمة العنوان الكبير، ومنها ما ينتمي إلى مكان معروف في القدس، كأن يتسمّى باسم حيّ من أحيائها أو شارع من شوارعها، أو مكان معروف فيها، ومنها (القدس ــ سلوان ــ في الطريق إلى المغارة ــ المغارة ــ الرامة ــ قلندية ــ في دروب الآلام ــ كنيسة القيامة ــ في بيت لحم ــ أريحا ــ السجن ــ المطعم ــ مطعم الخمريات ــ سوقا الحصر والنحّاسين ــ مخيّم شعفاط ــ مسجد الصخرة ــ مستوطنة جفعاط شاؤول ــ بيت أمّ أسعد ــ الحيّ الأرمني ــ رواق سلوان)، وثمة عناوين زمنية (صباح مقدسي ــ صباح يباكره الألم)، وعناوين لأسماء أعلام وشخصيات ذات حضور في مشهد الرواية ونسيجها (ليلى ــ الفتاة الجنرال ــ سيلفا ــ سعدية ــ أبو العبد ــ أم أهارون ــ عارف الياسين ــ الأمريكيان ــ ثلاثة إسرائيليين).
والعناوين الداخلية عناوين كان يرسلها فلاديمير بودنسكي ــ وهو زائر روسي ــ إلى أستاذه جورجي إيفان في جامعة سان بطرسبورغ، وهو يصف فيها مشاهداته اليومية في القدس وضواحيها وأسواقها وما يراه في الخارج، كما يصف ما يجري داخل الغرفة التي استأجرها من المرأة اليهودية العجوز أمّ هارون، حيث كان يلتقي فيها السجّانة سيلفا التي أحبّته ، وأحبّها فمنحها فحولته وقلبه في آن معاً، وفي هذه الرسائل وصف للحياة اليومية لأهل القدس وضواحيها وجوارها، ووصف للسجون والتعذيب من خلال ما رواه له ياسين العارف نزيل السجون الإسرائيلية وغرف التعذيب غير مرّة، وسيلفا الحبيبة السجّانة، فضلاً عن المشاهدات العينية لما كان يجري يومياً على الحواجز وفي الأسواق وأمام أماكن العبادة.
4 ــ الانبناء: جدلية العنوان والنّص: إذا كانت دلالة العنوان انزياحية وغير مستقرّة على حال، وهي تتجه إلى هذا المدلول مرة، وتذهب أخرى إلى نقيضه في حركة دائبة، فإنّ من الواجب علينا حينذاك أن نمدّ الجسور بين هذا العنوان والنص الذي صنعه، وعلينا أن نستنطق شبكة الشرايين الكبيرة التي تتغذّى وتُغَذِّي بعضها بعضاً وتصل بين الجسدين، وليس ذلك بقصد معرفة أسباب هذا التوتّر الدلالي، وإنما لنضع أيدينا على طبيعته لمعرفة الجدلية القائمة بين العنوان والنص من جهة، ومدى انتشار العنوان في النص والنص في العنوان من جهة أخرى، فقد حذّر جيرار جينيت في دراسة العنوان الاقتصار على دراسته وحده منقطعاً عن النص الكبير حتى لا يقع الدارس فيما وقع فيه دعاة النص المغلق، بل هو ينقل عن الروائي فيريتير "Furetiére" (1619-1688م) عبارة دالة على وظائف العنوان، وهي: "إنّ العنوان الجذّاب هو قوّاد الكتاب الحقيقي".
أ ــ انتشار العنوان في النص: إنّ للعنوان الرئيس شبكة من العلاقات الداخلية التي تشدّ العنوان إلى نصه الذي صنعه، كما تشدّ النص إلى عنوانه الوليد، مما يؤدي إلى انتشار العنوان انتشاراً بنائياً معمارياً متيناً، ويتجلّى ذلك في رواية "مدينة الله" في الإطار الإيهامي والفواتح والخواتيم والشخصيات والأمكنة واللغة الشاعرة.
فثمة صلة بين العنوان والإطار الإيهامي الذي ورد تحت عنوان "إشارة لا بدّ منها" (ص7-10)، لإيهام القارئ بأن الكاتب لم يكتب وأن الراوي لا يروي، وإنّما يقتصر دوره على دور ساعي البريد أو الإنسان المؤتمن على قضية أو وصية أو أيّ شيء آخر، وهو يؤدي دوره بحياد تامّ وبأمانة عالية، ويظنّ المتأمّل في هذا الإطار أنه منفصل عن جسد الراوية، وخاصة أن الراوي أو المتكلّم في هذه الإشارة القصيرة غير المتكلّم في الرسائل، ومن هنا فإنّ ذلك الإطار إيهامي، ولكنه الأساس والقاعدة التي بنى عليهما حسن حميد روايته، وتصبح الرسائل من دونه عارية ومتباعدة، وهي مجموعة رسائل لكل منها عنوان وموضوع، وإن كان كاتبها واحداً، وهي مرسلة إلى واحد أيضاً، ولذلك كان هذا الإطار جامعاً لها، ولا يجوز إهماله، وهو كالعنوان من حيث الأهمية والوظائف التي يؤديها، بل وهو محاولة بارعة من الراوي الذي جمع هذه الرسائل ورتّبها ودفعها للنشر ليضع قارئه في مجال هذه الرسائل التي تشكّل مجموع العمارة الروائية وتجعل منها عملاً عضوياً موحّداً، وقد صنع حسن حميد هذا الإطار مستفيداً من دراسته الأكاديمية لـ"ألف ليلة وليلة" ذات الإطار الإيهامي الجامع لحكاياتها، ويسوّغ حسن حميد في هذا الإطار نشر هذه الرسائل كما سوّغت شهرزاد سرد حكاياتها، فقد كان من عادة الملك شهريار أنّه كلما أخذ بنتاً بكراً أزال بكارتها وقتلها من ليلتها، وظلّ على ذلك مدّة ثلاث سنوات إلى أن جاء دور شهرزاد، فلما أراد أن يدخل عليها بكت واستأذنت الملك أن تودّع أختها الصغيرة دنيازاد، فأرسل الملك في طلبها، ولمّا ودّعتها جلست تحت السرير، ولمَّا أتمّ الملك مهمته قالت لأختها شهرزاد: بالله عليك يا أختي حدّثينا حديثاً نقطع به سهر ليلتنا، فقالت: حبّاً وكرامة إن أذن الملك المهذب، فلما سمع ذلك الكلام وكان به قلق، فرح بسماع الحديث".
هذه الإشارة في " مدينة الله" فاتحة الرواية كما هي الحال في حكاية الإطار في "ألف ليلة وليلة"، وهي مفتاحها وإطارها الذي يحفظ محتوياتها من التبعثر، وقد أخبرنا الراوي فيها أنَّه اتّبع قبل أربعين سنة دورة تأهيل في الأرشفة، وكانت وديعة عميخاي واحدة من الدارسين، وهي التي تحتفظ بهذه الرسائل من دون أن يبيّن الراوي صلة هذه المرأة بها وكيف حصلت عليها، وهل كان فلاديمير يكتبها ويحتفظ بها أو كان يرسلها، فتعود من حيث ذهبت لعدم معرفة مكان المرسل إليه.. أما لماذا اختارت وديعة هذا الراوي من دون سواه لتضع في حوزته هذه الأمانة فذلك لأنَّ الراوي كان متفوّقاً في هذه الدورة، والمهمّ أنَّ وديعة كانت مصابة بمرض خطير، وكانت تُدرك أنَّ أيامها معدودة، فأرادت أن تبرّئ ذمتها، فألقت التبعات على الراوي الفلسطيني حين زارته في بيت الشرق في القدس ووضعت هذه الرسائل في عُهدته، فأخذ يُراسل أصحاب الأمر، ولكنَّه لم يصل إلى أيّ نتيجة، حينذاك لم يجد أمامه من حلّ سوى نشر هذه الرسائل، ولم يتدخل كما جاء في الإشارة في كتابتها، وإنّما اكتفى بأنْ محا الأرقام المتسلسلة التي وضعتها السيدة وديعة بالقلم الأحمر، ودفعها إلى الطباعة. وللعنوان صلة بالفواتح والخواتيم فالرسائل النَّصّية تعتمد على ركيزتين تتكرران في الفاتحة والخاتمة من كلّ رسالة، ففي الفاتحة عبارة نصية كُتبت بخطِّ أكثر وضوحاً واختلافاً، وهي ديباجة مختصرة لا تتجاوز في الغالب عبارة واحدة، وهي شبيهة بالعنوان في هذا المجال على نقيض الديباجات المطوّلة التي نستخدمها في رسائلنا والتي تهيمن على جسد الرواية للمجاملة، فهي في الرسالة الأولى عبارة "هاأنذا، أكتب إليك من القدس"، وفي الثانية عبارة "أعذرني" ما عدت قادراً على انتظار بريدك الذي لا يأتي"، وفي الثالثة عبارة "أعترف أنني ما كنت أودّ الكتابة إليك مرة أخرى قبل أن تصلني رسالة منك"، وهكذا، وهي تقوم مقام عبارة "قالت: بلغني أيها الملك السعيد" التي تتكرر في مفتتح الليالي، أما الخواتيم النصية فقد أشار إليها الراوي بعبارة "ملحوظة"، وهو يطلب في معظمها من المرسل إليه أن يكتب إليه، وهذه خاتمة الرسالة الأولى: "ملحوظة: أعذرني، أطلتُ عليك، وربَّما أحزنتك.. فسامحني، أنتظر رسالتك باللهفة الكاملة""13"، وكذا شأن نهايات الليالي في "ألف ليلة وليلة"، وهي تنتهي بعبارة متكرّرة غالباً، وهي: "وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح"، حتى إنَّ شبهاً كبيراً فيما بين الليلة الأخيرة من "ألف ليلة وليلة" والرسالة الأخيرة من "مدينة الله" حين توقف الراويان عن الكلام، ففي الليلة الواحدة بعد الألف طلبت شهرزاد أولادها الذكور الثلاثة ووضعتهم بين يدي الملك وقالت: "يا ملك الزمان إنَّ هؤلاء أولادك، وقد تمنّيت عليك أن تعتقني من القتل إكراماً لهؤلاء الأطفال فإنَّكَ إن قتلتني يصير هؤلاء الأطفال من غير أمّ ولا يجدون من يُحسن تربيتهم من النساء""14"، وكذا شأن الملحوظة في الرسالة الأخيرة، فقد جاءت مختلفة عن الخواتيم التي سبقتها، فقد صار فلاديمير نزيل السجون الإسرائيلية فأنهاها بهذه الملحوظة المختلفة: "ليتني طائر الآن، كي أمرّ ولو للحظات فقط بمقهى (أبو العبد) كي أراه، وإن أكرمني ربّي أكثر.. سأنتظر كي أرى عارف الياسين، لأقول له.. إنني في المكان الذي عرفه طويلاً. أرجوك..
لا تكتبْ إليَّ.. فعناوين السجن.. ليست بعناوين".
وللعنوان صلة بالمكان/ الأمكنة، فالرواية من عنوانها مكانية، وللأمكنة في "مدينة الله" صلة أيضاً بتحولات المعنى، وخاصة في الفترة التي دوَّن فيها فلاديمير رسائله، وهي رواية لا تهتمّ بالتاريخ والأحداث بقدر ما تهتمّ بنقل مناخ مقدسي معاصر، وشخصياتها كثيرة، وهي غير محايدة، فالشخصيات المقدسية تصطفُّ صفاً واحداً، وهي تحمل الورود والنعناع والمحبّة والدفء والانتشار، وتقول للعالم: إننا هنا، وهم أهل المدينة، ومنهم أبو العبد وعارف الياسين وسعدية، وإلى جانبهم عدد غير قليل من السيّاح الذين يتألمون من جرّاء الظلم الواقع على أهل البلاد من جهة، وما يحلّ بمدينة السيّد من جهة أخرى، ومنهم فلاديمير وجو مكملان الحوذي، وثمة شخصيات تصطفّ صفاً واحداً، وهي مدججة بالحقد والسلاح والكراهية والتدمير، ومن هؤلاء أم أهارون، وسيلفا حين تكون في السجون والإسرائيليون الثلاثة وسواهم، ومع ذلك فإن هذه الرواية ليست رواية شخصيات، فالشخصية فيها نمطية إلى حدّ بعيد، وتتلخّص وظيفتها في أن تكون في هذه الجهة أو تلك، وهي مرسومة من الخارج لإبراز حركة المكان في زمن محدّد، يتشكّل فيه الصراع بين قوتين: قوة الخير والسلام والمحبّة، وهي تواجه بصبر وصمت قوة غاشمة شيطانية تحاول أن تئد الخير في مدينة الله، ومن هنا يتوازع الرواية مكانياً مناخان: المكان المفتوح وتحولات المعنى في محور الحياة، والمكان المغلق وتحولات المعنى في محور الموت.
في المكان المفتوح في هذه الرواية أنت قريب من الله أو في مملكته السرمدية، فأنت في مدينة الله دفعة واحدة، وهذا ما ينطق به كلّ جماد وحياة، حتى عبارات الراوي تنطلق من شفتيه ومن قلمه سريعاً سريعاً، وكأنَّه في لحظة التنوير والإشراق والتجلي والمعاينة، كلّ حياة في هذه المدينة تشير إلى ذلك، البسطاء من أهل البلاد يتوازعون بحبّ عارم ما بين أيديهم على الطرقات، والطبيعة تتنفَّس المحبة، فقد علّمها السيّد أن تكون كذلك، والينابيع هاهنا مختلفة عن الينابيع في أي مكان آخر من العالم، فنبعة سلوان تمرُّ بالبيوت كساعي البريد، وقد حباها الله بوقع رنيم حتى إنَّ الأمكنة تتسع لها وترحّب بها: "وأمضي نحو نبعة سلوان، تماماً كما قلت لي.. أمشي وسط أجمات القصب التي تحاذي الساقية الآتية قدوماً من النبعة العالية، ساقية صافية، غرّيدة، تمرُّ بالبيوت كساعي البريد، مسيّجة بأعواد القصب المتعانقة في الأعالي مثل الدوالي، تترك خريرها العذب أمام كلّ بيت مقدسي تمرّ به هنا، وقرب الشرفات موسيقى حباها الله بالوقع الرنيم.. أُماشيها وكأنَّها طفلة تتهجَّى حروف الأبجدية.. فأصعد معها وقد ضاففتها البيوت، وشجيرات الورد، وأرى اندفاعات الماء وتقلّبه بين ضفتين نظيفتين زاهيتين مثل جديلتي طفلة أفلتت للتوِّ من بين يدي أمها الماشطة"".
يتمتّع المكان في "مدينة الله" بسحر أَخَّاذ، وربّما لا يرى هذا السحر إلاَّ فئة من الناس الغرباء الذين أحبوا بلدانهم، ثم حضروا إلى زيارة الأماكن المقدسة، وآثروا البقاء فيها والعيش مع أهلها، ومن هؤلاء الحوذي جو مكملان، فهو إيرلندي مشدود إلى دبلن التي كان يعيش فيها، وله فيها أشغال ومصالح وحبيبة وأمّ وصديق، وقد حضر إلى القدس زائراً لأسبوع أو أسبوعين، ولكنَّ القدس أخذته من دبلن وأشغاله ومصالحه وأحبّته، وهو يقيم موازنة فيما بين المدينتين، فيقول: "وكلَّما فكّرت بــ دبلن العزيزة تنهض جمالية القدس العزيزة، روحانيةُ المكان، قدسية الخطا التي مشاها سيّدنا الجليل، روائح البخور، طيبةُ الناس التي يُراد الفتك بها. هنا وفي كلّ صباح ينفتح أمامي كتاب الصلوات والمحبة، وكتاب الصبر الذي يعيش معانيه الناس، وقد صارت المكاره التي أصابتهم أذيَّاتٍ وندوباً ومواجعَ أبدية، دائماً، وفي كلّ صباح، أسأل السماء.. ذراعاً أو سياجاً أو قميصاً أو سيفاً أو كلمةً تحمي هؤلاء المظلومين أهلَ الأرض كي لا تموت المحبة؛ كي لا يموت السلام. أصارحك بأنَّ وجودي هنا راح يشعرني بقيمتي، بإنسانيتي... كي أناصر أهلَ سيّدنا الناصري"".
حسن حميد في هذه الرواية وصّاف أمكنة ماهر، فهو ينقل إلى قارئه المشهد على أتمِّ صورة، وينتقل من مكان إلى مكان وكأنّه ماسح جيولوجي يقيس الأرض شبراً فشبراً، وأنت تسير معه عبر أمكنة في القدس، وكأنه دليل سياحي عاشق، وقد يعود إلى المكان الواحد غير مرَّة لأنَّه لم يتشبَّع من بهجته وجمالياته، ولذلك أخذ قارئه من يديه وسار معه إلى القدس والمغارة وقلندية ودروب الآلام وكنيسة القيامة وأريحا وسواها، ويحار المرء أين سيقف وأيّ مشهد يختار، فالرواية بمجملها مشاهد ووصوفات أخَّاذة، وليكن هذا الوصف جزءاً من مشهد داخل كنيسة القيامة: "هاهي ذي الفوانيس الزجاجية الضخمة تتدلَّى فوقنا فتغمرنا بنورها، ولولا أنَّها مشدودة إلى السلال النحاسية والحبال لطافت مثلنا مشياً في المكان، وهاهي ذي الأيقونات بادية مثل النوافذ على الجدران، مثل القرى، يكاد لمعانها يسيل على الأرض كالزيت، وحزنها يكاد يطلق آهته الأخيرة، شموع طويلة تراصفها شموع قصيرة تتراقص ذبالاتها على الشمعدانات الصغيرة والكبيرة كورق الشجر، ومقاعد للجلوس ذهبية برَّاقة ندَّاهة للآخرين، أمسح باطن كفّي بها، فأحسّ برعشة الدفء تسري في قلبي، راهبات ورهبان، ومؤمنون يجولون في المكان هائمين لكأنَّهم يبحثون عن أمر ما، أو سرّ ما، أو مشهد أخير. أمشي مثلهم كالهائم على وجهي""18". "مدينة الله" مدينة الحياة الروحية الإنسانية، وهي مدينة التعايش المسيحي الإسلامي على أنصع صورة بين المقدسيين، وهي مدينة الحبّ والمجاورة والمسامحة والتعاون والعطاء، مدينة الأنوار الإلهية التي لا تعرف الظلام، فكل ما فيها يشعّ على الكون، وهي مركز الهداية والنور، مدينة لا تُغلب ولا تقهر فهي مدينة الله، وهو يحرسها ويرعاها، وعلى دروبها سار السيد ومات وقام، وفي جبالها تغلَّب على الشيطان، ولذلك كان الراوي مؤمناً كلَّ الإيمان بأنَّ هؤلاء الجنود البغَّالة زائلون وذاهبون ومنهزمون كما انهزم الشيطان أمام السيّد حين جرَّبه، ولن يتخلَّى السيد عن مدينته... هي في حال التجربة، وقد مرّت بتجارب مماثلة من قبل، ولكنَّها لا بدَّ منتصرة، وهذا ما تقوله مقاطع الرواية وعناصرها أمكنةً وبشراً ولغة، فالفرح ينتشر في كلّ مكان، والتشبّث بالأرض سمة من سمات أهل هذه المدينة.
ثمة أمكنة مغلقة تتبدَّى فيها تحولات معنى الموت والكراهية، ومشاهد تقشعّر لها الأبدان، ولا بدَّ من حضور الموات حيث تكون الحياة، فالجنود يصادرون أعطيات أهل الرامة للحوذي جو والسائح فلاديمير لتدوسها أرجل البغال (ص 31 ــ 32)، ويُوقف البغّالة في قلندية أمام مقهى (أبو العبد) سيارة على الحاجز، ويبدؤون بالضرب من دون أسباب (ص 42 ــ 44)، وثمة معاناة مشابهة للسيّاح الأجانب في الوصول إلى الأماكن المقدسة، والبغال والبغالة يدنّسون كنيسة القيامة والأماكن الإسلامية والمسيحية الأخرى بحّجة الأمن، وفي الطريق إلى أريحا مشهد يلخّص الأحقاد الصهيونية المتوارثة، وهم يربطون أيدي أصحاب الحمير بأمراس القنب الرفيعة، ثم تقدّم شاب منهم بأنبوب بلاستيكي فتحه على أكياس الخيش التي تحملها قافلة الحمير ليذوب الملح على ظهور الحمير ليشلَّ أطرافها (ص 119)، وثمة معاملة البغالة لــ (أبو العبد) مع أنَّه جارههم ويقدِّم إليهم كؤوس الشاي مجاناً (ص 170)، هذا فضلاً عن أنهم حوّلوا دور العبادة المسيحية والإسلامية إلى إسطبلات (ص 217 ــ 219).
أما السجون والأقبية وغرف التعذيب فهي فوق ذلك بكثير، فسيلفا عشيقة فلاديمير تروي له بعض ما يجري داخل السجون وغرف التعذيب، وهي تسرد له ما جرى للسجين مجيد في سجن الرجال، وما جرى لسميرة وعائشة وسعدية وخديجة وبديعة وأمل وسواهن اللواتي كُنَّ يُجبرن على القرفصاء فوق أعناق الزجاجات الطويلة الفارغة، ليُغتصبن بها، أو تُفتح أفخاذهن ويُغتصبن بالعصي الطويلة لانتزاع الاعترافات منهنّ (ص 136 ــ 145)، واستخدموا مع سعدية لتعترف ــ كما روت سيلفا لفلاديمير ــ كلَّ وسائل التعذيب والأساليب الجهنمية "الكهرباء، قلع الأظفار، الاغتصاب، الجلد، الكلاب، القطط، الديوك، الشبح على الحيطان، الكيّ بالنار والسكائر، ثقب الأذنين، والأنف والشفتين،.. لكنَّها لم تعترف بشيء، ولشدّة التعذيب ولإضرابها عن الطعام انخفض ضغطها مرات ومرات.. إلى أن ماتت"".
أما عارف الياسين فهو شاهد راوٍ آخر، فقد سُجن ثلاثين سنة، وهو معرَّض للسجن في كلّ لحظة، فقد أصبح السجن منزلاً له، وهو مناضل شيوعي يعترف لفلاديمير بعد أن اطمأنَّ له بأن الفلسطيني مرَّ بنكبتين: نكبة فلسطين ونكبة انهيار الاتحاد السوفياتي، لأنه الصديق الوحيد للعرب، ولذلك يحب أن ينادي فلاديمير بـ"يا رفيق"، ثم يصف له آليات التعذيب وأساليبه في تلك السجون، وليس ذلك وحسب، وإنَّما هذه الدولة التي سرقت الأرض والقرى والمدن سرقت أيضاً كليته، وهي دولة كاذبة منافقة ذات وجهين كسيلفا الجميلة تماماً وهي تبكي على سعدية والمعذّبين والمعذّبات، في حين أنها وحش كاسر، فهي التي تقوم بتعذيب الضحايا، وهي من قام بتعذيب عارف الياسين نفسه (ص 224 ــ 233)، وثمة مشهد آخر لا بدَّ من ذكره، وقد روته سيلفا وادعت لفلاديمير بأنَّها تتألم منه وهو ما يتصل بجِرار اللعنات، ففي كلّ عام يُقام طقس احتفالي داخل السجون، فتُكسر الجرار على رؤوس المساجين لتنتقل هذه اللعنات من منازل اليهود إلى رؤوس الفلسطينيين (ص 348 ــ 350)، بقي أن نعلم أنَّ سيلفا العشيقة الماهرة في فنون الحب، وهي القادرة على استدرار الدموع على الضحايا هي نفسها الماهرة في فنون التعذيب وآلياته، فقد روى جو لفلاديمير في مطعم الخمريات الوجهين المتناقضين لهذه المرأة، ومما وصفه له من الوجه الثاني ما جاء في قوله: "فأنت حين تعرف بأنَّها تجرِّد السجينات الفلسطينيات داخل غرفة التحقيق، ربّي كم خلقتني، من أجل أن يتمتع رفاقها بمشاهدة أجسادهن، وأنها تكوي الأعضاء النبيلة بملاقط الحديد.. فما من سجينة داخل السجن الذي تعمل فيه سيلفا، إلاَّ وقد كويت بنارها، لقد شوَّهت صدور السجينات، وأفخاذهن، ومؤخّراتهن.. ولكم حزنتُ وهي تُحدِّثني عن رائحة الكيّ المنعشة الصادرة عن أجساد السجينات الفلسطينيات، تقول إنها رائحة تشبه رائحة شواء طيور الفرّي على النار الهادئة""20"، ويبدو أنَّ التعذيب لا يقتصر على الفلسطيني، وإنَّما يصل إلى كلّ زائر أو سائح أجنبي يتعاطف مع هذا الشعب، فهذا فلاديمير يكتب إلى أستاذه رسالة السجن الأولى، وهو يتساءل إذا كانت سيلفا وراء اعتقاله (ص 444)، ثمَّ يُعتقل الحوذي جو أيضاً، ثم بدأت الأسئلة والتعذيب في رسالة السجن الرابعة، ويطلب من أستاذه في رسالة السجن الخامسة أن يهيّئ قصيدة لرثائه.
هذا التعارض بين المكان المفتوح والمكان المغلق وتحوّلات المعنى بين صور الحياة وصور الموت في "مدينة الله" لا يلغي صلة ذلك بالعنوان الانزياحي من جهة، كما لا يتعارض ذلك مع اللغة الروائية الراقية التي تتصف بها هذه الرواية من جهة أخرى، فهي لغة واصفة شاعرية حوارية سردية يكتبها فلاديمير في رسائله، ويشترك معه في كتابتها أبو العبد وسيلفا وجو وعارف الياسين وسواهم من شخصياتها، وهي لغة تنداح اندياحاً، وتتمدّد إيقاعيّاً إلى درجة أنها تدخل في الشاعرية الخلابة، لغة بسيطة انبساطية، متصلة بالعنوان، وخاصة في لحظات الوصف الجسدي، وهي لغة ماتعة شائقة جاذبة لامعة بما في اللغة من أسرار اكتشفها عشاق اللغة من قبل، ومنهم أحمد فارس الشدياق العربي ورولان بارت الفرنسي، وهو لا يتوسَّل باللغة إلى التصريح عن المسكوت عنه، كما هي الحال في كثير من الروايات العربية في سورية التي ذهب أصحابها إلى التوصيف الجسدي إلى آخر مداه حين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أسرار هذه اللغة فنيّاً وجماليّاً.
إنَّ الرهان على لغة حسن حميد الشاعرية المتوهجة بين العنوان والنَّص أمر محفوف بالمخاطر، فهو يختلف عن الروائيين عندنا صغاراً وكباراً، فاللغة بين يديه عجينة تتمدّد وتمتدّ، وكأنّها بين يدي امرأة قروية من فلسطين تخبز لزوجها الذي أحبَّته منذ الطفولة، وما زالت بعد عمر واسع من المعايشة والمعاشرة، تخشى عليه من هبَّات النسيم العليل، وتقدّمه على نفسها، وهي لا تترضَّاه لحاجات جسدية عابرة، كما هي الحال لدى كثير من الروائيين، ولكنَّها تتقرَّب منه كما يتقرَّب الصوفي من مثله الأعلى، فهذا الكلام لا يشبه كلام الآخرين، ولا تُشبه هذه اللغة سواها من اللغات.. إنَّ قلم حسن حميد يشرب من محبرة مختلفة، ويقرأ في معجم سردي عالمي.
ب ــ انضباب النص في العنوان: يُقال إنَّ العنوان كالماركة المسجَّلة على غلاف المنتج أو السمة التي يتسم بها، وإذا كان العنوان مطابقاً لمحتوى النص كان هذا دلالة على جودة البضاعة وصدق منتجها، ولكننا في عصر غالباً ما يكون الغشّ طريقاً للربح السريع أو رواج البضاعة، وخاصة أنَّنا في عصر الإعلان أكثر ممّا نحن في عصر الإعلام، بل إننا نجد أنَّ الأول قد غزا الثاني، وربما حلَّ محلَّه في يوم قريب، وقد لحق بالعنوان ما لحق بسواه، وخاصة في الأعمال الأدبية، فكثير منها يختارون لها عناوين لامعة للإغراء والإثارة، ولكنَّ نصوصها عاجزة عن أن تقف إزاء عناوينها، وهذا ما دفعنا إلى أن نتفحَّص حركة الانبناء وجدلية النص والعنوان، وقد تبدَّى للقارئ أنَّ "مدينة الله" عنواناً ونصّاً متلازمان متحاوران، وإذا كان أمبرتو إيكو قد ذهب إلى "أنَّ شأن العنوان أن يُبلبل الأفكار لا أن يُرَتّبَها""22"، فهذا يعني أنَّ العنوان، ولا سيما الأدبي منه، ينبغي أن يخلق الإثارة ويُبْعد التناول، ليترك للقارئ مساحة كافية للتأويلات، وبالمقابل فإنَّ العنوان الجيد ينبغي أن يشفَّ بالضرورة عن نص جيد، ولذلك كانت البلبلة في العنوان والنص في آن معاً، فمدينة الله تمثِّل وجهين متناقضين متصارعين: مدينة القدم والقداسة والطهارة والوداعة والمحبة والانفتاح، وهي المدينة الفاضلة التي يحلم بها أفلاطون، مدينة السيد حيث وُلد وبشّر وتألم وصُلب وقام، وهي بالمقابل مدينة الحاضر، مدينة الكراهية والتشريد والتدمير والقتل، ولذلك كان البغّالة والبغال في كلّ المفارق والطرقات يفعلون ما يفعلون أمام سمع العالم وبصره من دون حسيب أو رقيب، وكلّما ازداد ورثة السّيد طيبةً وسماحةً وكرماً ازداد البغالة شراسة وعنفاً ووحشية، وتنتهي الرواية على باب موصد وخاتمة مفتوحة على التأويل، فهل هذه الرواية قصيدة رثاء لـ"مدينة الله" أو هي صرخة لغضبة ملحمية جارفة؟ وبعد، فماذا أراد حسن حميد أن يقول على لسان بطله بعد أن وضعه في مأزق قاتل وجرّده من أصدقائه؟ حتى إنَّ قلمه غدا معطّلاً لأن عناوين السجن ليست بعناوين، ومن هنا كان هذا النص مفتوحاً على الدلالات المتعددة التي يراها كلّ قارئ حسب ثقافته ورؤاه.
ليست "مدينة الله" رواية عابرة، وإنّما هي عمارة فنية مبنية على صخرة عظيمة عالية تُشرف على سواها كنواطير الحقول.. رواية تحرس الفنّ والجمال، ويستطيع المرء بكلّ اطمئنان أن يقول من خلالها إننا في عصر الرواية.. الرواية التي ترتفع فنّياً وجمالياً.. "مدينة الله" رواية سيشتهي كلّ واحد منا أن تكون له.

https://alqudslana.com/resources/images/article_sep.gifhttps://alqudslana.com/PublicFiles/Ar...16674-5922.jpg
(أرشبف)


الساعة الآن 09:56 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر