مجلة الإبتسامة

مجلة الإبتسامة (https://www.ibtesamah.com/)
-   مقالات الكُتّاب (https://www.ibtesamah.com/forumdisplay-f_215.html)
-   -   محمد عثمان جلال وحركة التعريب بقلم د. جابر عصفور (https://www.ibtesamah.com/showthread-t_426597.html)

معرفتي April 10, 2014 09:46 PM

محمد عثمان جلال وحركة التعريب بقلم د. جابر عصفور
 
محمد عثمان جلال وحركة التعريب

واحد من تلامذة الشيخ رفاعة الطهطاوي وجد طريقه إلى المسرح وآمـن أنـه المـلاذ العقلـي لكل مـن يبـغى التقـدم.

سار محمد عثمان جلال "1829 ـ 1898" سيرة أستاذه رفاعة الطهطاوي "1801 ـ 1873" في مقاربة الثقافة الفرنسية التي عرفها بفضل ما تعلمه في مدرسة الألسن التي كان في الطليعة من خريجيها، فأقبل على التقليدي المستقر من الكلاسيكيات الأدبية الفرنسية، وشرع في تعريب بعضها لما وجده في هذا البعض من تجاوب مع الأصول الراسخة في ثقافته الأم، سواء في المنحى الأخلاقي أو النزوع العقلي أو الاتزان الأدبي. ولذلك فعل محمد عثمان جلال مافعله أستاذه رفاعة الطهطاوي، ومضى على أثره في طريق المثاقفة الكلاسيكية، منحازا إلى النماذج الأدبية التي أصبحت نماذج مدرسية في الأدب الفرنسي. وبدل أن يترجم لأمثال فيكتور هوجو "1802 ـ 1885" أو الفرد دي موسيه "1810 ـ 1857" أو يقترب من أمثال بودلير "1821 ـ 1867" وموباسان "1850 ـ 1893" أو حتى فرلين "1844 ـ 1896" الذي توفي قبل عثمان جلال بعامين، آثر العودة إلى الوراء، والاقتراب من الأقدم، والاختيار من كلاسيكيات القرن السابع عشر التي استقر الاعتراف بها والنظر إليها بوصفها نماذج الخيال المتعقل الذي يهتدي بروح الحقيقة. هكذا ترجم محمد عثمان جلال عن لافونتين وموليير وراسين وبوالو فيما نعرف على سبيل اليقين. ويذكر عامر محمد بحيري في مقدمة تحقيقه "العيون اليواقظ" أن محمد عثمان جلال ترجم مسرحية "السيد" عن كورني، الأمر الذي لم أجده في المصادر التي اعتمدت عليها في تحديد مؤلفات وترجمات محمد عثمان جلال، وعلى رأسها معجم المطبوعات العربية والمعربة الذي جمعه ورتبه يوسف إليان سركيس، فضلا عن كتاب محمد يوسف نجم عن "البدايات المسرحية في الأدب العربي الحديث".

وسواء صح ماذكره عامر محمد بحيري أو لم يصح فإن نسبة ترجمة مسرحية "السيد" لكورني إلى محمد عثمان أمر يؤكد انحيازه إلى كلاسيكيات القرن السابع عشر بالدرجة الأولى، وإلى كتابه المسرحيين بالدرجة الثانية، فبيير كورني "1606 ـ 1684" لايختلف عن جان دو لافونتين "1621 ـ 1695" ولا عن جان باتست بوكلان المعروف باسم موليير "1622 ـ 1673" أو نيقولا بوالو "1636 ـ 1711" أو جان راسين "1639 ـ 1699" من حيث إنهم جميعا أبرز كتاب فرنسا في القرن السابع عشر، وأصحاب أشهر الأعمال الكلاسيكية الصادرة عن هذا القرن، سواء في الإبداع المسرحي للمآسي التاريخية، أو الكوميديات الاجتماعية الساخرة، أو النظم الأليجوري للحكايات التي لم تفارق المغزى الأخلاقي، أو النظم الشعري الذي ينعكس على نفسه ليفلسف حال وجوده ويتولى التنظير العقلاني لأنواعه.

وكلها أعمال تبدأ من العقل وتنتهي إليه، بوصفه الدليل الذي اهتدى به القرن السابع عشر إلى اكتشاف نظام صارم للكائنات والأشياء، والأداة المعرفية الأساسية التي استخدمها في الإبقاء على هذا النظام وتبريره، وذلك منذ أن صاغ ديكارت "1596 ـ 1650" خطاب المنهج "سنة 1640" لهذا القرن الذي تمنى النظام من كل قلبه، وخضع له طائعا مبتهجا فيما يقول جوستاف لانسون "1857 ـ 1934" في كتابه الموسوعي عن تاريخ الأدب الفرنسي. يقصد بذلك إلى أن الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر سعى إلى الحفاظ على احترام النظم الاجتماعية والترتيب الهرمي للمجتمع والسلطات الزمنية والروحية. وأقبل على الملاحظة النفسية وحدها، مستبعدا القضايا الميتافيزيقية الكبرى. أما القواعد الخلقية الوحيدة التي زعم هذا الأدب أن في إمكانه استخلاصها، فتتعلق بالأخلاق الفردية التي تقبل الإنشاء والإصلاح على الدوام. وهي الأخلاق التي اكتست دائما بالتقاليد الإغريقية والرومانية التي تقنعت بها الحقائق الأدبية لهذا القرن واهتدت بها.

وأتصور أن أعمالا أدبية تدور في هذا الفلك العقلاني، وتسعى إلى الحفاظ على احترام النظم الاجتماعية والتراتب الهرمي لكل السلطات السياسية والاجتماعية والدينية، لابد أن تكون الأعمال الأقرب إلى عقل ووجدان وذائقة أمثال محمد عثمان جلال من تلامذة رفاعة رافع الطهطاوي الذي اعتمد العقل دليلا هاديا في مقاربة الثقافة الفرنسية بعامة، وتخليص إبريز باريس بخاصة، مؤكدا إعجابه بالأمة الفرنسية لأنها من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، فقد كان العقل عند رفاعة الطهطاوي، وظل كذلك عند تلامذته، الوسيلة المعرفية المثلى لتحقيق النهضة التي ترتقي بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، وبالمجتمع من وهاد التخلف إلى ذرى التقدم. ولذلك كانت كلاسيكيات الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر أول ما يرد على الخاطر عند التفكير في الترجمة أو التعريب أو الاقتباس أو حتى الإفادة، يستوي في ذلك تلامذة رفاعة الطهطاوي المباشرين من أمثال محمد عثمان جلال، أو حتى غير التلامذة من الذين اختطوا لأنفسهم طريقا مغايرا، مثل مارون النقاش "1817 ـ 1855" الذي تكاد آراء الباحثين تجمع على أنه أول من حاول تقديم الفن المسرحي في النهضة العربية بمسرحيته "البخيل" التي قام بتمثيلها في أواخر سنة 1847. وهي المسرحية التي يزعم الكثيرون أنها اقتباس من مسرحية موليير المعروفة بالاسم نفسه، ويرى محمد يوسف نجم أن النقاش ألفها بعد قراءته للمسرحية المولييرية، واستيعابه لبعض شخصياتها، ولمقومات الإضحاك فيها، إلا أنه لم يقتبس شيئا من المادة "الموضوع" أو التنسيق الفني بنوعيه الخارجي والداخلي. وسواء أخذنا برأي الكثيرين من دارسي المسرح، أو أخذنا برأي محمد يوسف نجم وحده، فالدلالة المتكررة هي الصلة بمسرح موليير الذي هو بعض كلاسيكيات القرن السابع عشر بنزعته العقلانية التي وافقت هوى عقلية النهضة العربية.

ملاذ عقلي

المرة الوحيدة التي خرج فيها محمد عثمان جلال على دائرة كلاسيكيات القرن السابع عشر هي المرة التي قام فيها بتعريب رواية الكاتب الفرنسي برناردين دي سان بيير "1737 ـ 1814" "بول وفرجيني" التي أطلق عليها اسم "الأماني والمنة في حديث قبول وورد جنة". وهي رواية رعوية عن الحب البريء وصلت أفكار كاتبها بأفكار جان جاك روسو "1671 ـ 1741" عن العودة إلى الطبيعة البكر التي يفسدها تدخل المدنية، على نحو ما أفسدت المدنية علاقة الحب السامية التي جمعت بين بول وفرجيني في جزيرته المنعزلة، التي سرعان ما امتدت إليها يد المدنية القاسية بالأذى. ولكن تعريب محمد عثمان جلال لهذه الرعوية "التي جذبت إليها وجدان مصطفى لطفي المنفلوطي 1876 ـ 1924 في زمن لاحق فقام بتعريبها تحت عنوان: الفضيلة" أخرجها عن هالتها الرومانتيكية، وأنزلها قسرا على عوائد الأمة العربية على نحو ما يقول في تقديم التعريب، وذلك على النحو الذي أحال أسمي بول وفرجيني إلى قبول وورد الجنة، في الصياغة المسجوعة التي ردت الاسمين الجديدين إلى الأماني والمنة، كي تحيل الرعوية الرومانتيكية إلى مايشبه المقامة العباسية. وتلك نهاية تعيد الاستثناء إلى القاعدة، وتؤكد ذوق محمد عثمان جلال المدرسي الذي وجد ملاذه العقلي في كلاسيكيات القرن السابع عشر الإبداعية. وأتصور أن الأقرب إلى منطق الأشياء، في سياق هذا الملاذ العقلي، أن نفترض تدرجا في انتقال محمد عثمان جلال من نقل الأعمال الإبداعية الخالصة إلى نقل الأعمال النقدية التي تدور حولها، ومن ثم الانتقال من الإبداع إلى نقد الإبداع أو من الأدب الإنشائي إلى الأدب الوصفي. ودليل ذلك أن محمد عثمان جلال بعد أن قام بتعريب أكثر من عمل إبداعي، لأشهر كتاب القرن السابع عشر في فرنسا، توقف عند مايمكن أن يصل بين الإبداع وفلسفة الإبداع من زاوية التنظير لفن الشعر والتأصيل له في دائرة العلوم الشعرية، فاهتدى إلى أناشيد بوالو الأربعة التي ضمها كتابه عن "فن الشعر"، الذي صدر سنة 1674 بوصفها نوعا من النظم التعليمي الذي يحدد أصول فن الشعر وقواعده، ولايتباعد تباعدا جذريا، في التحليل الأخير الذي انتهى إليه محمد عثمان جلال فيما أتصور، عن المنظومات الشعرية التعليمية أو المقطعات التي نظمها الشعراء العرب تأصيلا لقواعد الشعر وطرائق نظمه. ولذل ك فإن اختيار بوالو يظل دالا متعدد المدلولات، يشير إلى التوجه التعليمي في فهم الشعر والحفاظ على أصوله المدرسية من ناحية، وإلى نزوع فكري لايخرج على التقاليد العقلانية المتوارثة في البلاغة والنقد عند العرب من ناحية ثانية، وأخيرا إلى أجيال الكلاسيكية الفرنسية التي لم تنفصل عن العقلانية الديكارتية التي جعلت من العقل الإطار المرجعي الأول للفهم والحكم بالقيمة من ناحية أخيرة. والمسافة جد قريبة بين اختيار الشاعر الناقد بوالو واختيار السابقين عليه من أدباء القرن السابع عشر الذين استجاب بوالو إلى إبداعهم بالكشف عن مبادئه النظرية وقواعده الفكرية، فكان ماكتبه عن "فن الشعر" كشفا عن الأصول المشتركة في الممارسة الإبداعية لكل من كورني ولافونتين وراسين وموليير. وهم الكتاب الذين عرفهم محمد عثمان جلال وعرّف بهم، فقد قام، لو صح ما نسبه إليه عامر بحيري، بتعريب مسرحية الشاعر المسرحي بيير كورني "1606 ـ 1684" الشهيرة "السيد" التي تتصل بتاريخ الأندلس، من خلال أحداثها التي تدور حول السيد الكامبيدور. وقد ظهرت المسرحية في فرنسا سنة 1636 فحققت نجاحاً جماهيرياً هائلا، وأثارت من الخلافات النقدية ما دفع الأكاديمية الفرنسية إلى إبداء رأيها في المسرحية، فامتدحت جوانبها الجمالية في الوقت الذي وصفتها بأنها غير قابلة للتصديق دراميا وقاصرة أخلاقيا. وهو الرأي الذي استند إليه الكاردينال دي ريشليو في إيقاف عروض المسرحية التي لم تحافظ على مبدأ الوحدات الثلاث، ورفضت الالتزام بحرفية المصدر الإسباني لموضوعها التاريخي، وأقامت المحور الأساسي للصراع فيها حول التعارض بين الحب المشبوب من ناحية والولاء للعائلة أو الشرف من ناحية ثانية. ولم يؤثر إيقاف عروض المسرحية في تزايد شهرتها وازدياد تقديرها، الأمر الذي جعل منها أولى المسرحيات التراجيدية الكلاسيكية في المسرح الفرنسي، وواحدة من أهم أعمال كورني وأكثرها شهرة، وأخيرا الإرهاص الفعلي بما أطلق عليه "التراجيديا الخالصة" في مسرح راسين.

ويبدو أن كل هذه الأسباب دعت محمد عثمان جلال إلى الاكتفاء بترجمتها دون غيرها من أعمال كورني الذي انتقل منه إلى أبناء الجيل التالي له، من أمثال الشاعر لافونتين الذي لم يكن يعرف لنفسه إلا أستاذين عظيمين هما الطبيعة والأدب القديم، والذي ترجم له محمد عثمان جلال حكاياته الأيثوبية أو خرافاته التي أنفق ثلاثين عاما في كتابة كتبها الاثني عشر التي ظهرت على ثلاث دفعات متوالية سنة 1668 وسنة 1678 وأخيرا سنة 1694 قبل وفاته بعام واحد. وخرافات لافونتين أو حكاياته الأيثوبية قصص قصيرة نوعا ما تتبعها مثنوية أو رباعية، تأكيدا لنزعة أخلاقية تعليمية جذبت إليها محمد عثمان جلال الذي أعاد صياغة بعض الحكايات نظما، وأضاف إليها ماهو من جنسها، وما يسترجع تقاليد "كليلة ودمنة" و"الصادح والباغم" و"فاكهة الخلفا" وغيرها من حكايات الحيوان الشائعة في ثقافته.

ثقافة شعبية

وقد صاغ محمد عثمان جلال مائتي حكاية، أخذ بعضها من لافونتين، وأخذ ما يكملها ويضيف إليها من ثقافته الشعبية الواسعة. واختار لها من قوالب النظم مايشيعها على الألسنة بلغة سهلة، بعد أن كتب لها مقدمة نثرية عن "نوادر إيثوب" استقاها من لافونتين الذي سرعان ماتباعد عنه ليقرظ كتاب حكاياته نظما، ويصوغ إهداء شعريا للخديو عباس الذي قصد إليه بالترجمة طامعا في نواله، ويبدو أن روح السخرية التعليمية التي انطوت عليها حكاية لافونتين هي التي قادت محمد عثمان جلال إلى الكاتب المسرحي الساخر موليير الذي اختار له أربعا من مسرحياته هي: "طرطوف" التي أصبحت الشيخ متلوف، والنساء العالمات، ومدرسة الأزواج، ومدرسة النساء، ونشرها تحت عنوان "الأربع روايات من نخب التياترات" سنة 1307هـ. وجميع هذه المسرحيات من اللون الكوميدي الذي اشتهر به موليير الذي يعتبر نقطة تحول في تاريخ المسرح الفرنسي في القرن السابع عشر. وكلها يصلح لنقد العادات الاجتماعية التي اشتكى أمثال محمد عثمان جلال من وجودها في مجتمعهم الذي أخذ في التحول والتغير.

المأساة الكلاسيكية

والمسافة بين مسرح موليير ومسرح جان راسين "1639 ـ 1699" هي المسافة بين وجهي العملة الواحدة في النزوع الكلاسيكي الذي يصل بين الاثنين والروح العقلاني الذي ساد النتاج الفرنسي للقرن السابع عشر. ولذلك أقبل محمد عثمان جلال على مسرح جان راسين بدرجة من الحماسة المقاربة لحماسته في تناول مسرح موليير، فقام بتعريب مجموعة من مسرحيات راسين الأساسية هي: "استير"، و"افجيني" التي أصبحت "أفغانية"، و"إسكندر الأكبر"، وجمع هذه المسرحيات التي نشرها سنة 1311هـ تحت عنوان "الروايات المفيدة في علم التراجيدة". وقدم لها بقوله: "إن من الروايات الجاري تمثيلها في أوربا ما يسمونه بالتراجيدة، وهي عبارة عن وقائع تاريخية أو حربية أو عشقية. وقد اشتهر في فرنسا رجل يسمى راسين وكان في عهد لويس الرابع عشر الذي نشر المعارف وأعان الشعراء على حسن الاختراع ورقيق الابتداع. فأخذت من كتابه ثلاث روايات وسميتها بالروايات المفيدة في التراجيدة، وهي أشبه شيء بالفرج بعد الشدة، وبلوغ الفرح بعد مدة. واتبعت أصلها المنظوم، وجعلت نظمها يفهمه العموم، فإن اللغة الدارجة أنسب لهذا المقام وأوقع في النفوس عند الخواص والعوام".

وقد استنتج محمد يوسف نجم من هذه المقدمة القصيرة أن محمد عثمان جلال تجنب التفصيل في تعريف المأساة الكلاسيكية الراسينية، فاكتفى بالإشارة إلى أنها "عبارة عن وقائع حربية أو عشقية"، ذلك لأنه ـ وقد نقل شعر راسين إلى الزجل المصري، مع إبقائه الروح الغربية والشخصيات التاريخية على ماهي عليه ـ يدرك أنه لم يبق على إبداع راسين الشعري، أو على أدائه للمأساة، بقدر ما أبقى على الوقائع، ذلك أن ارتباط تكوين الشخصيات في مسرح راسين بصياغة الشعر أمر أشار إليه النقاد ومؤرخو الأدب الفرنسي غير مرة. فالخلق المسرحي عند راسين مزيج من القدرة على تصوير أعمق العواطف الإنسانية والعبقرية الشعرية النادرة.

وقد تولى محمد يوسف نجم مهمة المقارنة بين الأصل الفرنسي لمسرحيات موليير وراسين وتعريب محمد عثمان جلال، وانتهى إلى نتائج قيمة، تؤكد كلها الدوافع التي انطوى عليها محمد عثمان جلال في اختيار القرن السابع عشر من جهة، وتحويل ما اختاره إلى صياغات عربية تتصل أوثق اتصال بتقاليد الثقافة التي ينتسب إليها، والتي يعلن عن ارتباطه بها منذ اللحظة التي يختار فيها العنوان المسجوع دليلا إلى عمله. وسواء كان هذا العنوان "الأربع روايات من نخب التياترات" أو "الروايات المفيدة في علم التراجيدة" أو "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ" فإن الدلالة واحدة في الحرص على التسجيع الذي ظل لازمة من لوازم عصر محمد عثمان جلال.

ولا أحسبني أغالي في الاستنتاج، والأمر كذلك، لو قلت إن الحرص على تسجيع العنوان مجلى أول من مجالي النزعة التقليدية التي وجدت مراحها في القواعد الكلاسيكية المدرسية، كما أنه علامة في الوقت نفسه على الكيفية التي كان بها "التعريب" وسيلة فاعلة من وسائل إدماج النصوص الكلاسيكية المختارة من الأدب الفرنسي في الثقافة العربية المغايرة بأكثر من معنى، وإعادة إنتاج هذه النصوص بطريقة جذرية لصالح نهضة هذه الثقافة التي اختارت سبيل العقلانية الواعدة، ووفقا لآليات لاتنفصل عن الأفق التجديدي لقيم النهضة. ولذلك كان التعريب فعلا تأويليا "هرمنيوطيقيا" جذريا، يبدأ من الاختيار للمشابه في المنحى، وينتهي بإعادة الإنتاج الشاملة التي يغدو بها المنقول بعضا من توجه حركة الثقافة المنقول إليها، حتى على مستوى اللغة الدارجة التي لم يتردد محمد عثمان جلال في استخدامها، سواء في كوميديات موليير التي قام بتعريبها مستخدما الزجل العامي في نوع من التمصير الشعبي الذي لايخلو من النكتة الحريفة، أو في "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ" التي نطقت حكايات لافونتين بلسان أولاد البلد القاهريين، أو في تراجيديات راسين التي فهمها محمد عثمان جلال على أنها أشبه شيء بالفرج بعد الشدة وبلوغ الفرح بعد مدة. وفي هذا الاتجاه التعريبي، مضى محمد عثمان جلال خطوة أبعد على الدرب الذي انطلق فيه أستاذه رفاعة الطهطاوي.

قيم المجتمع المدني

لقد مضى محمد عثمان جلال إلى أبعد مما وصل إليه رفاعة الطهطاوي في الأساليب المعتادة في قالب الترجمة، واضعا نصب عينيه ماتواصل فيه مع أستاذه من تأكيد قيم المجتمع المدني الذي أصبح فاعلا فيه، ودعم أهداف الاستنارة الثقافية التي انتسب إليها. وكان ذلك دافعا له على إعادة إنتاج نصوص التعريب بلغة لاتتردد في استخدام العامية أو الإفادة من صيغها لتحقيق الوظيفة التنويرية على أوسع نطاق. وكان ذلك فاتحة مامضى فيه الجيل اللاحق الذي برز منه عبدالله نديم "1844 ـ 1896" بما استخدمه من العامية التي اعتمد عليها محمد عثمان جلال في حكايات "العيون اليواقظ". وغيرها من المسرحيات التي أعاد تأليفها في إطار الممكنات التي سمحت بها تقاليد وعادات وأهداف ثقافة النهضة التي أسهم في العمل من أجلها. وذلك ماحدث في مسرحية "طرطوف" التي تحولت إلى "الشيخ متلوف" لتظهر الرياء الديني في مجلى يتناسب والمطامح المصرية العربية التي يخاطبها محمد عثمان جلال، من منظور المجتمع المدني الصاعد الذي أخذ يضيق بتزمت المشايخ وجمودهم الذي ظل حجر عثرة في حركة النهضة.

وأتصور أن هذا النهج في التعريب هو الذي فرض على محمد عثمان جلال أن يصدر كل مسرحية من مسرحيات موليير ببيت أو بيتين يشيران إلى مغزى المسرحية، في نوع من أنواع التأويل التعليمي الموجز، وتوجيه المعنى في إطار ممكنات الثقافة العربية.


جابر عصفور

نقلا عن مجلة العربي الكويتية

المصدر


ملك الفزياء April 21, 2014 11:37 PM

رد: محمد عثمان جلال وحركة التعريب بقلم د. جابر عصفور
 
شكرا جزيلا لك معرفيت على المقال الرائع ... سأحاول أن أقرأه بتمعن


الساعة الآن 02:28 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر