مجلة الإبتسامة

مجلة الإبتسامة (https://www.ibtesamah.com/)
-   روايات و قصص منشورة ومنقولة (https://www.ibtesamah.com/forumdisplay-f_133.html)
-   -   أسماء ـ أقصوصة من الدكتور عبد الحميد سليمان (https://www.ibtesamah.com/showthread-t_294238.html)

ذكرى الرحيل October 13, 2011 06:49 PM

أسماء ـ أقصوصة من الدكتور عبد الحميد سليمان
 
أسماء

. . ارتفع ضوء الشمس متسللا من وهدة فى نافذة قاعة كبيرة توسدت فيها كرسيا ناعم السحنة غليظ المتئد وآذن ذلك بولوج لفحات ساخنة من وهجها ولهيبها سرعان ما ابتدرت ثم أوغلت .

. . صرفت همى إلى سجل ضخم من سجلات محكمة دمياط الشرعية لم تفتض صفحاته التى سطرت منذ نيف وثلاثمائة عام ، وردعت نفسا تاقت منى إلى أهلى وولدى وقد نأت بى وبهم أيام ومسافات . ثم انبجست مشاعر مستكنة فى نفسى وفاضت لتكلأ تلك الوثائق المتدافعة التى بادلت من أولاها جل اهتمامه وقصر عليها نفسه ووجده وأنفق سواد عمره وأعتقها من إسارها الذى تكأكأت عليه القرون ولها بوله وشوقا بشوق فلانت له ثم أسلمت له قيادها وباحت بدخائلها وأسرارها بعد أن هجعت إلى عينيه اللتين شغفتا بها وإلى يديه الحانيتين تربتان عليها .

. . هى المحبوبة المترعة بالحب والشوق المتلهفة لحبيبها المطمئنة لصادق شعوره وعميق وده فلا تضن عليه بمفاتنها وكنوزها البكر التى لم تستبحها يد من قبل ولم تنهبها عين .
. . رويدا تنساب الساعات وتنصرم اللحظات وتشخص بعض الحروف والكلمات وفجأة تستصرخنى وثيقة كادت أن تضطرم من أحداث أثقلتها قرون عددا وقد اهتبلت فرصة ربما لن تتكرر لها للانعتاق من إسارها واصطبرت لتحينها وترقبها بما لا نظير له من الصبر, ويزيدني أوارها إلى خانق المكان وقائظ اليوم ضراما إلي ضرام .

. . ( حضر إلى مجلس الشرع الشريف سيدى محمد أبو سليمان والشيخ على أبو سليم وشيخ العرب غلاب مشايخ قرية كفر سليمان وصحبتهم من أهالى الناحية المحترم عكاشة وابن أخيه عطية ورفعوا إليه قصته أنهى فيها عكاشة أن ابنته البكر الرشيدة أسماء المخطوبة لابن عمها الماثل فى مجلس الشرع المنيف دون أن يدخل بها أو يصيبها رغم عقده عليها وإصداق أبيها صداقها الشرعى حسبما تحرر فى دفتر وقائع النكاح والطلاق فى ناحية كفر سليمان البحرى الكائنة على الضفة الغربية لنهر النيل قبالة فارسكور والواقعة فى التزام فخر أمثاله الأمير على جوربجى مستحفظان قد اختفت منذ عشرين يوما دون أن يظهر لها أثر ، وقد تحراها مع نفر من أهله فى كل مكان دون أن يعثروا لها على جرة، وقد بلغهم ممن يطمئنون إلى صدقه وتدينه منذ يومين أنها لبثت مختفية عن الأنظار معظم تلك المدة فى بيت أرملة اسمها روض من كفر المنازلة المجاور ، كانت تعتاد القرية لتتسبب ببيع الأقمشة ثم لحقت الغائبة أسماء بمركب معاش ينقل المسافرين فى طريقها مقبّلة إلى ثغر بولاق المعمور .
. . والتمس الناهى وابن أخيه بعد أن أقره على حاله مشايخ الناحية الحاضرون معه إلى مجلس الشرع الشريف والمحفل المنيف أن يمكنا من إعادة أسماء إلى ربعها ومحل سكنها بالطريق الشرعى، وقد أجابهم إلى ذلك سيدنا قاضى قضاة الإسلام ، معدن الفضل والعلم والكلام ، مميز الحلال عن الحرام ، مؤيد شريعة سيد الأنام مولانا يحيى أفندى الحاكم الشرعى بثغر دمياط المحروس زيدت فضا يله ، وعليه أصدر الأمر الشريف الموجب لتحرير الحروف وتسطير الصنوف إلى كل واقف عليه وسامع له من ولاة الأمر والمتكلمين بالوجه البحرى وصوباشية البحر الضالعين بأمان المراكب النيلية فى بحر النيل المبارك بتحرى أسماء والتقصى والبحث عنها فى المراكب والمعاشات الصاعدة والمنحدرة فى نهر النيل المبارك وضرورة ضبطها والتقيد التام فى الفحص عنها وسرعة إحضارها بحيث لا يتأخر ذلك سوى مسافات الطريق لتعود إلى أهلها وسكنها وتستقر إلى من عقد عقدها وأمهرها صداقها ، والحذر ثم الحذر من المخالفة أو الإهمال أو العناد ، وكل من قصر فى ذلك وأهمل فى إجراء الشرع الشريف فلا يلومن إلا نفسه .
ولما تم الحال على هذا المنوال ، كتب ذلك ضبطا للواقعة ليراجع للاحتجاج به عند الاحتياج إليه وجرى ذلك وحرر فى السابع عشر من شهر صفر الخير سنة ثمانية وسبعين وألف من الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام) .

. . قرأت الوثيقة فأوسعتنى وأثقلتنى هما إلى هم وشجنا إلى شجن، وشدتنى إليها حيث تداخلت فى نفسى الأزمنة والأشخاص والأمكنة ، فالقرية نفسها هى التى شهدت مولدى واندهاشاتى الأولى بعالمها وبيوتها ونخيلها وساحلها ومواردها التى تبدو مرافئ تركن إليها المراكب حين تمر صاعدة ومنحدرة من دمياط وإليها فى أشكالها وأنواعها المختلفة خالبة الألباب رائعة الصورة فريدة المنظر ، وهى القرية التى وسعت يفاعتى وشبابى ، وأكاد أجزم أن عز من رجالها ونسائها وعطوفها ودروبها وحقولها وسواقيها ودوابها من لا يستأثر فى نفسى وذاكرتى بمكان ورابطة وذكرى ، ووشت لى الأسماء التى ساقتها الوثيقة أن منهم أجدادا انحدرت منهم وانتسبت إليهم .

تدافعت الأسباب وتشابكت لتوحدنى شعورا وانفعالا وتفاعلا مع أسماء وأمها ، ووجدتنى أذوب فى الأحداث وآلامها التي ساقتها الوثيقة فتأخذ على نفسى أقطارها وتستشعر ما نكبت به تلك البائسة ومثيلاتها حين قضى لهن كئيب حظهن أن ينحرن على مذبح الزواج إلى من لا يطيقونه بغضا ونفورا وكرها يسوقهن إلى ذلك أعزاء وأحباء لم يروعهم ما راعهن ولم يخطر ببالهم أى قتلة يدفعون إليها بتلك الطيور الرقيقة من بناتهم وأعزائهم .

. . يموت الأحياء موتة واحدة وإن قتلوا فهى قتلة لا ثانية لها ، ولكنها حينئذ ألف موتة ومئات الآلاف من القتلات تهول كل تعسة اقتيدت إلى بائس مصيرها يسوقها من لا قلب له فيرحم ولا عزم له فيؤوب إلى من لا نخوة له فينأى ولا عزة فيأنف ، لقد أغفل نص غليظ القلب وحضور وشهود وولاة أمور وقضاة وعلماء دين آلام تلك النفس البائسة التى دلفت بهروبها إلى جحيم المجهول وأواره تستعر في لظاه ميتة كالأحياء وحية كالأموات ، لقد ذل ذلك الهول والمجهول كلهما لها وهانا وربما طابا حينما تخيلت نفسها وقد أوصد بينها وبين الحياة باب زوجية زائفة وراعها ما ينتظرها حين ينفرد إليها عطية وتمثلته وقد تلمظت عيناه وكشر عن أنيابه واكفهرت سحنته واشرأبت مخالبه وتهيأ ليمزق أوصالها ويلغ فى دمائها .

....انزوت أسماء إلى نفسها وذاب لحمها وذبلت نضارتها ولم تفلح فيوض دموعها ودموع أمها وتبدل أحوالهما فى إثناء عكاشة عن اغتيال وحيدته ونحرها ولم يرعو عطية وقد تجسد له مقتهن له وارتياعهن من سماع اسمه فما البال بمطالعته ورؤيته .

. .و توددت الأم لعكاشة وتحينت اللحظات وتوسلت الرضى وتحسست دخائل زوجها ودروب تحننه وتملق مشاعره ولم يروعها صدود نفس وتصلب رأى وسواد قلب ودوام إعراض وجلاء يأس فاندفعت تحاول وتحاول وتصبر وتصطبر فما تجد إلا قلبا أغلفا وعقلا أصما .

. . أى نحس وشؤم جره ذلك الفدان البائس الذى امتلكه عطية وأوصد تخيل عكاشة أيلولته إلى غير ابنته الباب دون أن يتحسس آلام وأحاسيس أسماء أولى الناس به وأرفقهن فاندفع ليأدها شابة يافعة ويسحقها زهرة يانعة ، وخوف تلصص الرقيب آنست الأم إلى من عرفها الناس بأنها الخالة روض بائعة الأقمشة التى كانت تلوذ إليها وتروى صداها وتكسر حدة جوعها بضنين من زاد بائس وساذج من شراب تجود به الأم عليها حين تسوقها إليها خطواتها المنهكة المرهقة المثقلة بما تحمل من أقمشة وأردية خشنة غليظة، وكانت أم أسماء قد استشعرت ودها وابتلت صدقها وخبرتها وإخلاصها غير مرة .

. . اندلعت دموع العجوز واستعبرت حين تسمعت الأمر من الأم واستكنهت السر ، ولمست مأساة أسماء وانفطار نفس أمها أوتارا حساسة فى قلبها طوت عليها جوانحها وأسدلت أستارها وأخفى رماد أيامها وميض نارها يوم أن سيقت إلى زوج اجتمعت له خصال السوء وسواد القلب والنفس فسامها سوء العذاب وطاب له ذلك واستعذب إذلالها وسحقها إلى أن أجهز الموت عليه مثلما أجهز هو على أرضه وبدد ثمنها على تعاطى الحشيش وتوسل رضي الغوازى والغواني اللواتي لم يدخر فى دأبه إليهن نفيسا ولا مرتخصا ولا صحة ولا قوتا ولا وقتا وألفته ساحات الموالد والأعياد يتفقدهن فيها ويلتمسهن بها إلى أن حمل ميتا إلى زوجة ترملت به قبل موته حين اقتيدت إليه زوجة ولا زوجة وسكنا ولا سكن ، فلم تفجع بموته ولم تألم وإن صادف ذلك فى خفى نفسها ودخيلة سرها غبطة بانعتاق من سجنها وانفكاك لأغلال إسارها ولم تهنأ بذلك إلا لحيظات ضئيلة إذ فجأتها رهبة وارتياع من شبح يجحظ في مقبلات الأيام لأعباء إعالة ورعاية لبنياتها الصغار اللواتي عز لديهن المعين وغاب الأنيس ، ولكن الخلاص من ذلك الطاغوت قد بعث راحة وبث عافية فى نفس المرأة وجسدها فاندفعت تتقاذفها القرى والدساكر لتتسيب فى بيع الأقمشة هازئة بوطأة الأيام وقسوة الحياة وشظف العيش فكل ذلك يهون ويعذب إن طاف بها طائف من ذكريات أيام سود وليال عجاف مضين ثقيلات وئيدات تحت طائلة باشق عتى ووحش لا يرعوى .

. . وأوعزت العجوز لأسماء وأمها أنه لا منجاة إلا بالهروب وأن أرض الله الواسعة لن تضيق بأسماء وأنها سوف تسعها في كوخها النائي على أطراف كفر المنازلة مع بناتها إلى أن تدبر لها أمر اللحاق بمركب معاش يقل المسافرين إلى القاهرة من دمياط وسوف يعينها على ذلك ويهيئ لها أمره نوتى يعمل على ذلك المركب حين قدومه إلى زوجته التى تقطن جارة لها آيبا من سفرته من القاهرة إلى دمياط ومتأهبا لكرة أخرى فى رحلات بدت رتيبة قدرية ، وحين آيست الأم المكلومة وابنتها من أوبة لقلب أبيها ونكوص عن غيه ونأيه وظلمه اخترقت الأم بابنتها سدول ظلام دامس ومغاليق دروب غير مطروقة مهتبلة غفلة من عكاشة وسرحة من سرحات عطية حتى أسلمت ابنتها لمصيرها عند العجوز ثم تعانقتا وقد تمازجت بينهما الأنات وانساحت العبرات وتوادعتا وداع من لا أمل له أو مظنة أمل في لقاء ، وقد أسلمتا أمريهما إلى المقدور لتنوء بما جثم عليهما من الهم والكرب القلوب الكسيرة الأسيفة التى فى الصدور ثم يثقلنى الهم والألم ويرهقنى فادح الخيال لما سوف تلاقيه أسماء فى رحلة لا تعرف لها هدفا ولا نهاية واستهول ما يتلمظ لها من ذئاب الطريق الذين ماتت منهم الأفئدة ووأدت الضمائر فما أفلتت منهم من غفل عنها المدافع والحامى فأى مصير ينتظر من عز لديها الأنيس ونأى عنها النصير ، ويتكأكأ إلى ذلك لهيب شمس توسدت صفحة السماء واخترقت وهدة النافذة الي مجلسي وجسمي المثقل وعيني المرهقتين, فتفيئا إلى سنة من نوم ثقيل وتتداخل الأزمنة في ذاكرتي مثلما تداخلت الأشخاص والأحداث والأمكنة .

. . هى هي شمس يوليو المتقدة وهى هى حقول كفر سليمان ولهيب صيفها وغليظ مشاعرها ، غير أن ربع قرن ونيف من السنين الوئيدة انصرمت بين طفولتي المنتهكة في فرقة مكافحة دودة ورق القطن وبين مجلسي هذا في دار الوثائق القومية بالقاهرة ، هو هو الألم والمكابدة ورازح الهم وإن تسربل فى ذلك الزمن البعيد القريب بالرعب من عقوبة أبى ضيف الذى أحيط بهالة من السطوة والجبروت والرهبة والنفوذ جثمت وأوغلت في نفوس صبية صغار آنذاك حين دهمهم قدومه ليعمل مشرفا أو بتعبير تلك الأيام المنصرمة خوليا على تلك الزمرة من بائسى الصبية الأطفال الذين راعهم رائع لم يدر بخلدهم واغتال براءتهم حين انتزعوا من رحابه طفولتهم وسذاجة حكاياهم وأحلامهم ليساقوا إلى تلك الفرقة زمرا فيصطرع على أجسادهم هزال لا يريم وهجير لا يرحم ويوسعهم ضربا وبطشا طاغ سليب الحس والفؤاد يهزأ بأنات المثقلين المنهكين من أولئك الأطفال بخيزرانته ولا يكترث بعطشهم وجوعهم ويرى فى نفسه متفضلا رحيما ومحسنا كريما إن سمح لهم يوما وقليلا ما كان يسمح بالانكفاء على ترعة أو مصرف أو قناة ليطفئوا غلتهم بماء اختلط بطين وطحالب وروث ، ولو أبصر كسرى أنوشروان من إيوانه أو الإسكندر المقدونى أوان صولجانه ما كان يتيه به أبوضيف من نفوذ وهيبة وسلطان وروع في نفوس أولئك التعساء لتواريا ضعة ولذابا خجلاً وحسدا لشحيح سلطانهم وهزيل مهابتهم ، وتدأب خيرزانة أبى ضيف وتعتاد الاختلاف إلى أجساد الصبية مرات ومرات فى اليوم الواحد هازئة بصرخاتهم غير عابئة بأى موضع نزلت أو جراح خلفت ، وغدا شبحه كابوسا يفجأ أولئك الأطفال فى نومهم مثلما يفجأهم فى يقظتهم ووعيهم ، وأُوسد قلب الرجل وصُمت آذانه فما عاد يلتفت إلى دموع صغير أوغل فى هيكله الضعف وتوسدت المخافة والترقب فى قلبه فلا ينازعان ، دون أن تصرف هذه الدموع مآقبه عن حتمية تقصى اللطع ودود القطن فما ينتظر المقصر ومسلم نفسه إلى الدموع والمنشغل بالقهر والألم عن ذلك العبء من الهول إن قصر أو غفل لأشد رعبا وأنكى مغبة ،ولم تدخر وسعا النخبة من أولئك الصبية الذين رفعهم أبو ضيف مكانا عاليا حين اختصهم بمسئوليات جسام بعد أن وسدهم مناصب الفرارين الذين كانوا رقباء على العمل يتحرون غفلات الصبية عن اللطع وتجمعات دود القطن فلم يألوا جهدا بعد أن حظوا بتلك المكانة عند أبى ضيف خولى الفرقة فقدمهم على رفاقهم فى الألم والبؤس وسلطهم عليهم يترقبون سقطاتهم وقد لذ لهم أن ينفثوا عن مكبوت قهرهم ودفين آلامهم ومعاناتهم على أترابهم وإخوانهم في البؤس والألم بعدما وسدهم أبو ضيف فى تلك المناصب العظام وخولهم الاضطلاع بتلك المهام والمسئوليات الجسام ... وحقا إن قسوة الخائفين إن توسدوا وغلظة الضعفاء إن تسيدوا أو سيدوا وظلم المقهورين إن أمكنوا أو تمكنوا ليس كمثلها قسوة ولا كغلظتها غلظة ولا نظير إيغالهم إيغالا .

والشراب بنى حبيت جدع أسمرانى ،
والشراب بنى حبيت جدع أسمرانى
والشراب بنى قالوا لى تخدى ابن عمك
قلت أهو منى
قالوا لى تخدى ابن خالك . قلت أهو منى
قالوا لى تخدى الغريب .. زغردت أنا وأمى
حبيت جدع أسمرانى .

. . ينساب صوت ناعسة ليبدد صمتا رتيبا وخشخشة لأوراق شجيرات القطن ووقع أقدام متهرئة هزيلة فى خطوط توسدت قمتها تلك الشجيرات ، ويتداعى الصوت إلى نفسى التى اختلط فيها وتشابك الزمان والمكان فينبه غافل وعيي إلى ديمومة الألم وكر التجربة وتكرارها فأسماء التي شغلتني بألمها الوثيقة التي أثارت مستكن آلامي قد تسمت في طفولتي بعزيزة التي جمعتني إليها في تلك الطفولة البائسة غيطان كفر سليمان وفرقة مقاومة دودة ورق القطن ومزجت بين نفسينا الصغيرتين مشاعر متبادلة من الإشفاق والرثاء فيألم أينا لصاحبه إن صعقته خيزرانه أبى ضيف ويهرع لمساعدته فى تقصى اللطع إلى أن يستفيق من بكائه ويقوى على آلامه ويتبادلان الأدوار وقد باتا أحرص على التجاور عند اصطفاف الفرقة ، ويصل الحال يهما إلى آفاق وآماد حين يدخر أحدهما لصاحبه حظا من نعناع أو حلوى العسلية إن جاد عليه الدهر بشيء من ذلك ونادرا ما كان يحنو فيجود .

. . سنوات قليل وتشب عزيزة عن الطوق وتأوى إلى البيت فلا تظهر لرجال غرباء أو أقرباء ولا تنفلت من عقال البيت إلا ظهر كل يوم لتحمل إلى أبيها فى حقله قليلا من زاد وماء وهى فى ذلك كله تترقب من بخطبها من أبيها وبتعبير أمها تنتظر عدلها إلى أن تسوقها خطاها ويقودها قدرها إلى لقيا نوتي غريب جنحت مركب يعمل بها إلي موردة من موارد القرية , وكأنها كانت تستشرف أيامها ومصيرها وقتما كانت تردد وتغنى مع ناعسة بالأمس القريب وتنزع إلى ذلك الجدع الغريب الأسمرانى فتزغرد هى وأمها حين تخير بينه وبين أبناء عمومة وخئولة فيرضى أهلها باختيارها .

....ما أسذج تلك الأحلام ، وما أنآها عن واقع عزيزة وقلب أبيها فتبتلي بما ابتليت به أسماء ويفدحها ما فدحها ويدهاها مادهاها حينما رأت نفسها تساق إلى جزار لا تطيقه من بنى جلدتها وأقربائها وتدرك ألا سبيل لنجاتها إلا أن تنكب طريق أسماء ويصدق منها العزم على الإفلات والإباق للانعتاق من مصيرها المحتوم بعد أن آيست أمها من تشفع أوصدت دونه القلوب والآذان ولم يغنها إشفاق ولم يجدها توسل ورجاء ، فما هان لجزارها الأول وهو أبوها عزم وما لانت له قناة فأوغل فى غيه واستكباره وتهيأ لسوقها إلى من ارتضاه .

. . أسلمت عزيزة قيادها ومصيرها بعد أن أسلمت قلبها إلى ذلك النوتي الغريب الذى تمازجت روحه ولاذت نفسه وهجع قلبه إليها حين نزل إلى القرية يوم أقلته إلى تلك القرية مركب جانحة وريح ساكنة ثم شغل بها فشغف بحبها واصطنع جنوحا زائفا لمركبه والتمسها حيث رآها من قبل وروى صدى قلبه من تلك القلة الفخارية التى توسدت رأس عزيزة وهى في طريقها إلى أبيها تحمل له طعام الغداء ساعتها أخذت بتلابيب قلبه ونفسه عذوبة الإجابة وإشراقةالوجه الوضىء فما عاد يدرى أى العطشين يحرقه ويؤرقه .

...أيام هزيلة سراع مضت ومضى معها التعلل بالتماس الماء وتوسل الكلام وعذوبة المشاعر وبليغ النظرات ، وتمر ليال ثقال بطاء على حبيبين طابت لمركب أحدهما ريح فأبعدت جسمين ولكنها صهرت قلبين , وتوشك تلك الأيام أن تسلم عزيزة إلى ما يهولها من مصير بين أنياب وأظافر سالم الذي تملقه أبوها ليزوجه ابنته طمعا فيما يرتقبه لابنته من رغد العيش وطيب الحياة ووفير ما تفيض به فدادين سالم المزدهرة , ثم ترعو الأيام قليلا فتألم لتلك البائسة فتسوق إليها حبيبها فيروى غلته ويشفى نفسه وقلبه الظمآن ، لكن دموع عزيزة تهوله وتعتصره آلامها حين راعته بما ينتظرها من مآل ، ثم تثور نفسه ونفسها إلى أن لا مناص من الخلاص ويتواعدان إلى حين يتسربل معها بسربال الليل فيحتويهما ويظلها إلى حيث لا عودة ولا إياب .

....ودون جدوى يجوب الأب وخلصاؤه القرى المجاورة باحثا مستقصيا تتقاذفهم الأماكن والدروب وتتفحصهم وجوه لم تألف لهم سمتا ولا رسما إلى أن يقعد اليأس من إدراكها أباها فيستكين ويستبد به القنوط إلي الاستسلام والركون ، ويسلمه ذلك إلى ملحاج من لوم وتأنيب يصيب به كل من يلقي من أهل وولد إلا نفسه التى نأى بها عن كل ذلك اللوم والتقريع .

....يأتى صارخا حازما صوت مدام نادية المشرفة على قاعة الباحثين فى دار الوثائق رادعة احدي العاملات التي تأخرت في إحضار ما طلبته من سجلات لمحكمة دمياط الشرعية فيعيدنى إلى وعيى وواقعى ويصرفنى إلى سجل جديد يستلب جل اهتمامى ويشغلنى عن كل ما يحيطنى وينقلنى إلى عالمه وما ينوء به من شخوص وأحداث وأيام وتتوحد معه نفسى مثلما يوغل فيه عقلى ، وتنساب الوقائع منه وتتراكض الأيام والسنون ، وأكاد أنسى أسماء وما آل إليه حالها ومصيرها فى رحلتها إلى المجهول .

....تجحظ العينان ويستنفر الوعى وتستنهض المشاعر حين أجدنى وجها لوجه مع ما كان يمر بخاطرى من خيالات وتخيلات لما صار إليه حال أسماء وما ادخرته لها الليالى من صروف وآلام حين تصدمني وثيقة تنعي إلي ضحيتها.

( صورة مكتوب صدر من قدوة العلماء والأعيان فخر القضاةالمعتمدين ، عين الوجهاء المكرمين مولانا مصطفي أفندى الحاكم الشرعى بالمحلة الكبيرة المحروسة زيدت فضايله على يد قدوة الأماجد والأشراف السيد أحمد أغا ، زيد قدره المكمل بالختم الشريف على العادة ، مضمونة أنه قد حضر إليه فخر الأماثل وقدرة الأماجد على كتخدا مستحفظان بالمحلة الكبيرة المزبورة حالا ومعه بعض أرباب الأدراك ومشايخ نواحى محلة زياد وطليمة والريس أبو العزم العرابى وابن أخيه الكحلاوى ريس مركب قياسة من أهالى كفر سليمان قبالة فارسكور والريس سعود البرمبالى ريس مركب معاش لنقل المسافرين وجمع من الصيادين من أهلى الناحيتين المشار إليهما من شهود الواقعة وأنهوا لمسامعه الشريف حفظها الله ، أن المركب القياسة رياسة أبى العزم العرابى كانت مقبلة فى طريقها إلى موردة مراكب الدمياطة على ساحل النيل المبارك فى المحلة الكبرى وذلك لتوسق حمولتها من الأرز الشعير وتعود به إلى دمياط واقتربت القياسة من جراء الماء المتدافع ودواماته من المركب المعاش ، وأوان ذلك أبصر الكحلاوى الغائبة أسماء ابنة خاله عكاشة من أهالى كفر سليمان وهى خالية إلى ظهر قمرات المركب المعاش الخلفية يمين الدفة وتأهب لنزول الكيك القارب الصغير المجرور خلف القياسة ليعود بها إلى أبيها وذلك لسابق علمه بهروبها فلما تيقنت منه صرخت ورفضته وتأهبت لتلقى بروحها فى البحر إن اقترب ، ولما دفعت موجة عاتية الكيك إلى جانب المركب المعاش هوت أسماء إلى الماء فتلقفتها دوامة من دوامات الفيضان ابتلعتها وغابت فيها عن الأنظار وشهد الريس أبو العزم على ذلك وأنهى أنه رأى الحال على ما قال الكحلاوى وشهد أبو زيد الطلخاوى وإسماعيل البندارى وغنام بن على الصيادون من أهالى محلة زياد وطليمة المجاورة لمحل الواقعة أنهم عاينوا أسماء وهى فوق الخن الورانى للمركب المعاش خلف القمرة الكبيرة بجوار الدفة وهى واقفة ثم حين ألقت بروحها فى البحر فجأة وبخاطرها دون أن يقربها أحد والتمس الرويسا والحاضرون منمولانا الحاكم الشرعىالفحص عن ذلك وإثباته على نحو ما جرت به العادة وشهادة شهوده حكما شرعيا وثبوتا مستوفيا برفع يد ومسئولية الريس سعود البرمبالى ريس المراكب المعاش عن أى دعوى أو تمحيص بخصوص الغارقة أسماء بنت عكاشة وخلو سبيله بالطريق الشرعى وأنها غرقت بقضاء الله وقدره والتمس الريس سعود حجة شرعية من مولانا بعدم معارضته أو الادعاء عليه ومنع ذلك منعا شرعيا مستوفيا مرعيا فأجابه لما سأل بعد أن ثبت لديه أبقاه الله ثبوتا شرعيا وأشهد على نفسه الكريمة بذلك مولانا أفندى المومى إليه وجرى ذلك وتحرر فى عاشر رمضان المعظم سنة ثمانية وسبعين من الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام ) .

. . مالت رأسى إلى المكتب وغرقت فى سبات وصمت عميقين وشدهت روحى إلى حيث ابتلع النيل أسماء وتمثلت نفسى مخاوفها واضطرابها فى رحلة هروب لا تعرف لها حدا ولا تملك فيها لنفسها دفعا وقد أسلمت نفسها ومصيرها إلى تصاريف الأيام والأقدار ، وخلتها وقد راعها ما جهدت نفسها للخلاص منه وما هان لديها من الخطر حين أدركت مغبة اقتراب ابن خالتها الكحلاوى وفداحة تخيلها لنفسها مقودة إلى من جهدت جهدها وبذلت أمنها وغاليها لدفع غائلته وتوقى صائلته وذلك حينما أبصرته وتيقنت منه وتحسبت لما سيؤول حالها إليه إن أمكن منها وأعادها إلى بلدها وأبيها وابن عمها فرخص لديها عمرها وطاب لها مصيرها فألقت بنفسها إلى فيضان متراكم متدافع من الماء والموج فابتلعها النهر وضن بها فأخفاها فى جوفه وذهبت إلى حيث لا يعود ذاهب .

....يأتى صوت مدام نادية مترفقا حانيا مشفقا على وقد استغرقت فى سبات وألم غبت بهما عن الوجود تنبهنى إلى أن الساعة قد جاوزت السادسة وأنه قد آن الأوان لإغلاق القاعة فأجيبها دون أن أعى فتشده وتبهت لغرابة ما أقول وتهز رأسها غير فاهمة ولا مدركة وعاجزة أمام تساؤل لبثت أرده بلا وعى مرات عددا وقد تمثلت فى قسمات وجهى أبلغ آيات الاعتصار والألم والروع ،
أكان عليها أن تغرق لتنجو ؟ أم كان عليها أن تنجو لتغرق ، أكان عليها أن تغرق لتنجو؟ أم كان عليها أن تنجو لتغرق، أكان عليها أن تغرق لتنجو؟؟؟؟؟ ...
أ د عبد الحميد سليمان
الدمام 20 من رمضان المعظم 1428




سفيرالعاشقين October 14, 2011 05:56 PM

رد: أسماء ـ أقصوصة من الدكتور عبد الحميد سليمان
 
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

همس الهداية October 19, 2011 09:29 AM

رد: أسماء ـ أقصوصة من الدكتور عبد الحميد سليمان
 
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .


الساعة الآن 03:00 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر