مجلة الإبتسامة

مجلة الإبتسامة (https://www.ibtesamah.com/)
-   شعر و نثر (https://www.ibtesamah.com/forumdisplay-f_132.html)
-   -   الومضة الشعرية...(انكشاف العتمة وتوهج الذات)..محمدعبد الرضا شياع. (https://www.ibtesamah.com/showthread-t_269665.html)

سلمى فاروق April 18, 2011 02:59 PM

الومضة الشعرية...(انكشاف العتمة وتوهج الذات)..محمدعبد الرضا شياع.
 
الومضة الشعرية..(انكشاف العتمة وتوهج الذات)
"محمد عبد الرضا شياع"

محمد عبد الرضا شياع
الحوار المتمدن - العدد: 1680 - 2006 / 9 / 21




شهد الشّعر العربي عبر تاريخه الطّويل الإبدالات التي تغيّرت معها مواطن القراءة مثلما تغيّرت مواقع الإبداع سواء تعلق الأمر بشكل النّص أم بمحتواه، بداخل النّص أم بخارجه، حيث يتشكّل النّص، أساساً، من خلال شبكة من العلائق للعناصر البانية له، حاضرة كانت أم غائبة...
لقد رافق هذه الإبدالات وغيرها قراءات نقدية وسمت النّص بميسمها، واختلفت في تحديد مواطن شعريته التي تقوم على المفارقة أو الفجوة: مسافة التّوتر مثلما يرى كمال أبو ديب(1) الذي يقول (( إنّ الفجوة: مسافة التّوتر لا تنشأ من وجود المادة اللغوية معزولة بل من وجودها العلائقي، أي من شبكة العلاقات القائمة بين المادة اللغوية وبين النّص الذي تتحرك المادة فيه وتتفاعل معه ))(2) وهذا يعني أنّ العمل المُبدَع يتعالى على التّسمية: سيان أن نقول شعراً أو نثراً. وبين هذا وذاك تعثر غايتنا، هنا والآن، على خطوتها المنتظرة المتمثلة في البحث عن شعرية النّص المسمى قصيدة الومضة المترعة بـ ( حرقة الأسئلة الشّعرية وتوهج الذّات )، والتي نتغيا معاينتها عند شعراء ينتمون إلى أجيال مختلفة، مثلما ينتمون إلى جغرافيّات متعددة، وإن كان يوحدهم اللغة والهدف، لا بل المقصد الإبداعي.
لعلّ لفظ الومضة قادم من رحم البناء اللغوي والتّكثيف الدّلالي المنطوي عليه، والمتجسد في أقل عدد من المفردات الموحية، (( ويرجع ذلك إلى أمر غاية في الدّقة والأهمية، مرده، في الحقيقة، إلى طريقة اشتغال الكلام قصد تحقيق كيان متفرد هو النّص الشّعري الأصيل )).(3)
يزخر تراثنا بهذا النّوع من العطاء الأدبي وربما هو الذي كان يصطلح عليه بـ ((الرّسائل _ البرقيات أو التّوقيعات))(4) ومن أمثلة هذه التّوقيعات ما كتبه أحد الخلفاء إلى أحد ولاته: ((كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت))(5) أو ما وقّـع به أحد الخلفاء عندما أُرسلت إليه مظلمة بكلمة واحدة تقول: ((كفيت))(6).
إنّ هذا النّوع من البرقيات يقوم على الإيجاز والتّكثيف وذلك يصح على قصيدة الومضة، لاسيما إذا ما أضفنا إليها قدرتها على الإيحاء. وهو ما سنقف عنده في النّماذج التي تم اختيارها للمقاربة.
يُعَدّ الشّاعر العراقي عبد الوهاب البياتي من جيل رواد القصيدة الحديثة (التّفعيلة) وقد شُغل بهذا النّوع من الإبداع، الأمر الذي نجده مبثوثاً في دواوينه، وبالتّحديد نتاج الثّمانينات والتّسعينات من القرن الماضي، ونكتفي في هذا المقام بقراءة واحدة من قصائده، وهي:
إلى نجيب محفوظ (7)
ثرثرة فوق النّيل ؟
أم وجع القلب الإنساني المخذول ؟
وهزيمة جيل ؟
أم نار أطفأها في العوامة
أمر يحتمل التّأويل؟
يروم البياتي في هذه القصيدة الكشف عن عالم نجيب محفوظ, وكلّ ما يكتنف هذا العالم من عمق في الرّؤيا, وتنوع في الفكر والفلسفة. بعبارة أخرى: إنّه يريد عبر هذه الومضة الشّعرية أن يزجّ بالقارئ في كلّ المواقف والقضايا التي ينطوي عليها عالم نجيب محفوظ الإبداعي, وهو عالم حافل بالصّور الإنسانية الكبرى: الحبّ, الموت, الصّراعات, الهزائم, الانكسارات, الفتوّات... الخ، وبهذا التّكثيف يكون الشّاعر قد تخلّص من الوقوع في شباك الثّرثرة الشّعرية التي تفقد القصيدة جماليتها وقدرتها على النّفاذ السّريع إلى نفس القارئ.
ليس بعيداً عن البياتي، يظلّ الشّاعر العراقي زكي الجابر مهووساً بهذا النّوع من الشّعر، فنقرأ له هذا الافتتان في أكثر من مكان، ونرى قصائده الثّلاثة المنشورة في الملحق الثّقافي للميثاق الوطني بالمغرب (8) جديرة بالمقاربة، وهي:
القصيدة الأولى: التّفاحة
وهذه التّفاحة الحمراء
أقسمها شطرين
بيني وبين من أحّبها
في ليلة ظلامها ضياء
وصمتها غناء
خشية أن تعود في أكفنا
حجارة صماء!
تستمد هذه القصيدة تأثيرها من خلجات النّفس وأحلامها السّابحة في فضاءات الخيال. إنّها تدفق شعري يعانق فيه الخيال الواقع. تقوم الصّورة فيها على التّلقائية ((غير أنّ التّلقائية هنا, ينبغي ألا تؤخذ عبارة مرادفة للاعتباطية. فهي تحتكم إلى منطقها وقوانينها الخاصّة, ذلك المنطق القائم على التّجربة والمعاناة, وتلك القوانين المرتبطة بالعناصر المكوّنة للعمل الإبداعي))(9). فهي ومضة شعرية تضيء خبايا الذّات وتبوح بما يعتلج داخل النّفس. تتأسس الشّعرية فيها على الصّفاء والألق، حيث الجمع بين المتضادات في المعنى والتّقريب بين المتنافرات في الدّلالة. فبين الهم والفرح والرّهبة والنّشوة تجد الشّعرية ملاذها. الشّعرية التي تتأسّس على الفجوة: مسافة الوتر عبر الصّور المتضادّة: "... في ليلة ظلامها ضياء/وصمتها غناء..." فهذا التّضاد يخلق متعة ونشوة لدى المتلقي يجعله يتأمل البناء الجديد للغة الشّعرية الذي لا يختلف عن بناء لغة النّثر من حيث المعنى، وإنّما يكمن الاختلاف في السّياق الجديد، أي السّياق الدّلالي الإيحائي الذي نقله الشّاعر إليه. وهذه الصّورة التي رسمها زكي الجابر بخيال الشّاعر المبدع تبوح بصورة الإنسان الذي يصهره الألم الخلاّق فتتحوّل عنده لغة الحكي إلى لغة الإبداع.
إنّ السّياق الذي تخضع إليه الصّورة الشّعرية عبر العناصر المتضادّة لم يكن نتيجة وعي مقصود من قبل الشّاعر, لأنّ الشّاعر لحظة كتابة القصيدة يكتب بالوعي الشّعري لا بالوعي العقلانيّ فيكون الاتّحاد بين الذّات والموضوع، والذي تذوب على أساسه عملية الفصل بين الثّنائيات. أي انحياز المعنى إلى المعنى فيتم التّوحد بين الأشياء رغم تنافرها. فالأشياء في الكون تعيش لحظة خفاء لمعناها بينما تعيش الدّلالة الشّعرية لحظة التّجلي. والشّاعر- بطبيعة الحال- لا يدرك ما يدركه المتلقي. لأنّ المتلقي يستقبل العمل الإبداعي بعقله الواعي فيحسّ بالفوارق بين الأشياء, بينما يكتب الشّاعر بعقله الباطني. لذلك فإنّ استيعاب العملية الإبداعية يتطلب من القارئ وعياً إبداعياً يمكّنه من سبر أغوار النّص والوصول إلى ضفته الأخرى.
القصيدة الثّانية: السّندباد
يا أيها المغامر السّندباد
هناك شيء دونه تموت
وثم أشياء لها تحيا
وثم وجه تافه
لا يستحق حتى بصقة الإهانة!
فامكث هنا!
فعندنا بقيّة من زاد
حكاية لم تروها شهرزاد.
تقوم هذه القصيدة على الكشف والمغامرة، على الرّغم من أنّها تبدو خضوعة لقصدية الشّاعر لما تنطوي عليه من توظيف للتراث، إلا أنّ تلقائية البناء وانسيابية الإيقاع لا تدلان على أنّ القصيدة قائمة على الافتعال. فأبياتها القليلة المتماسكة تجعلها بعيدة عن الصّنعة والسّبك الواعي. وتدفق الصّور يوحي بأنّها بنيت على ما تنطوي عليه كهوف ذاكرة الشّاعر من ترسبات ثقافية, فجاءت بوحاً في لحظة تجل جعلتها وعاء تتبلور فيه الدّلالات, وبذلك تعثر القصيدة على فتنتها وفاعليتها في الآخر. فهي تلتذ بدفق سجيتها الحكائية وترانيمها الإيقاعية الجميلة التي تمنحها توتراً شعرياً به تكون كياناً زاخراً بشعريته.
القصيدة الثّالثة: الوردة
الوردة الحمراء
تركتها لقبلة الفراشة
ففي رحيقها شرائبها
من سكر وماء
لكنّ تلك الزّهرة البيضاء
أجمل ما في الأرض من نساء
عانقتها.. وافيتها
بحرقة الدّماء
فاحترقت
وارتفعت برأسها
تضاحك السّماء
زاهية حمراء.
في هذه القصيدة قوة للعاطفة وتدفق وتكثيف للرّؤيا على الرّغم من أنّ الشّاعر لا يسمي الأشياء بأسمائها. لأنّ تسمية الأشياء من طبيعة العلم. أما استخدام الألفاظ المجازية فهو من طبيعة الشّعر. وهذا هو الانزياح الذي أكده نقاد الشّعر الحديث، بوصفه ضرورة من ضرورات الشّعر.. والحديث في هذه القصيدة عن الوردة يشتمل في مضمونه على صفات إنسانية خالصة. فالوردة كناية عن المرأة، وفي هذا انجذاب وغواية ونداء للذات في لحظة عشق دافئة تتيه فيها الرّوح في صحراء العدم..
إنّ موضوعات القصائد الثّلاث، ما هي إلا صرخة لنداء الذّات، تتسرب عبر ومضات شعرية، وصور خاطفة، تنم عن قدرة عالية في الخلق الإبداعي لحالات إنسانية تجد ملاذها في الحبّ الذي يعيش جنيناً في أحشاء الكون وفي بهاء النفوس.
في هذا الاتجاه نجد الكاتب الليبي إبراهيم الكوني يلعب على التّعدد الدّلالي للغة، وهو ما تكتسبه اللغة الشّعرية عبر التّكثيف البنائي للكلمات، وبالتّالي صدمة الإيحاء، إذ يقول: الألحان(10)
بيـان المخلوق _ لسـان،
وبيـان خالق المخلوق _ الألحان.
المعروف أنّ ((اللسان متعدد الجوانب، غير متجانس _ يشتمل على عدة جوانب في آن واحد _ كالجانب الفيزياوي "الطبيعي" والجانب الفسلجي "الوظيفي" والجانب السّايكولوجي "النّفسي"))(11). واللسان أكبر من اللغة فهي جزء محدد منه، وهو ((ملك للفرد والمجتمع لايمكن أن نصنفه إلى أيّ صنف من أصناف الحقائق البشكية، لأنّنا لا نستطيع أن نكشف عن وحدته))(12). في حين أنّ الألحان تعني هالة أو حزمة من المعاني الرّامزة المنداحة في الآفاق، والتي تصافح آذان المتلقين مهما كانوا، وكيف كانوا فتمنحهم بهاء وألقاً. أي أنّ الألحان عصية على التّحديد والتّقييد، وبذلك تكون هذه الومضة برقاً يحمل في أطياف ضوئه ارتعاشات الألق وفورة الوجدان، حيث ثمة أشياء تمتزج مع أشياء أخرى قد تتناسق معها أو قد تختلف لا يهم مادام المقصد ناجزاً... ويستمر الكوني لاعباً على هذا الوتر الدّلالي، فيقول:
الوعد(13)
تَعدنا الدّنيا بأكثر]كذا[ مما تهب.
يهبنا البحر بأكثر]كذا[ مما يَعِد.
مبرهناً على أنّ الأشياء لا تقاس بظواهرها أو بحجمها، وإنّما بقدر عطائها. فالبحر أعمق من الدّنيا، هذه التي تتطلب منا تطهيراً داخلياً لنمنحها ما يمنح البحر، لعلّها تجود بما كان مرتجى. وفي هذه "الومضة" ما يدعو إلى معاينة التّناقض وتعميقه، فقد يؤدي تعميق التّناقضات إلى تجسيد عناصر الوحدة، أو كما يرى كارل يونغ أنّ ((الوعي واللاوعي لا يتناقضان، بل، على العكس، يتكاملان ليكوّنا كلاً: الفردية))(14) التي يتجاوز فيها المرء أناه الواعية، فتتناوس الذّات مع واقعها الموضوعي، لترى مالا تراه من قبل. بيد أنّ إبراهيم الكوني يعمّق جدلية التّناقض هاته وهو يقرأ ماهية:
الامتلاك(15)
لا نستطيع أن نمتلك الوردة
ونُبقي في آنٍ
على حياة الوردة.
وكأنّه متسربل في هذه الظّاهرة التي يبدو أنّه يعيش_ من خلالها_ حالة قبض على جمرات الواقع المرئي واللامرئي، وهي حالة تضاهيها صيحات أندريه بروتون في "الخطوات الضائعة"(16) حيث يردد:
لماذا نحن؟
ولمَ نقبلُ أن نخدم؟
ولم نترك كلّ أمل؟
من هذا القلق بالذّات،
ولدت المسألةُ التي تشغلنا؟
لكنّ الكوني لم يستمر في تقريع الذّات وقراءتها انطلاقاً من وعيه بها، وبأبعادها النّفسية، بل يجنح هذه المرة للذود بالقرآن الكريم ليكون له منطلقاً، وكأنّه يريد تحقيق صحة ما ذهب إليه، حينما يرنو إلى ال :
تغيير(17)
لا نحتاج إلى تغيير العالم،
إنْ استطعنا تغيير ما بأنفسنا.
فكلامه هنا مستمد من قوله تعالى:((إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم))(18). فالمرجعية النّصية واضحة هنا. بيد أنّه يظلّ سائراً في ضوء الهالة القرآنية وهو يسعى إلى تغيير حقيقي للذات لتبلغ مالا تبلغه الأفكار والكلمات، وهو يرصد هذه الذّات عبر:
نفوس الناس(19)
أيسر أن نغيّر ما بأنفسنا،
مِنْ أن نغيّر ما بنفوس الناس.
يبدو أنّ الشّاعر إبراهيم الكوني يعيش حالة بين حالتين: الرّضى وعدمية اليأس، أي أنّ الإنسان إذا عاد إلى ذاته كبرت طاقته، وإذا ذهب إلى الآخرين يعوزه التّطلع، وهي حالة الطّهرنة الذّاتية التي تسمو فيها الذّات وتتجاوز جراحها التي يمكن أن تكون سِفراً لجراح الآخرين.
إنّ هذه الومضات التي كتبها الأديب الليبي إبراهيم الكوني لهي إضاءات وقراءات لواقع تُقرأ فيه الذّات قبل الآخر، وكأنّ الكون يبدأ تغييره من هنا: أنا الإنسان.
هذا ما نرصده عند شاعر ليبي آخر هو محيي الدين المحجوب الذي يرى أنّ الذّات الإنسانية لا تملك غير ذاتها تورّثها للآخرين، هذا ما نقرؤه في ومضته الشّعرية:
إرث(20)
ليس لديّ ما أورّثه
سوى شهقة
متعددة الأهواء
تشيّد رئتي.
نعم إنّه إرث متعدد الأهواء: المقاصد، الرّموز، الدّلالات... فهذه الشّهقة ما هي إلا عودة الدّاخل إلى الخارج، حيث الكتابة الإبداعية علاقة جدلية بين الدّاخل والخارج فلا يكتب الكاتب إلا بعد الامتلاء، وما يملأ الأعماق قراءة لواقع معيش تستنشقهُ الذّات الكاتبة، فتنصت لصداه في دواخلها، لتعيد هذا الصّدى ثانية إلى حيز الوجود.
لكنّنا إذا قرأنا هذه الشّهقة الكلمة "المحور" في هذه الومضة سنجدها بوصلة العبور بين الوعي واللاوعي، فالوعي ليس سوى المظهر السّطحي لحياة تجري في الأعماق، وإذا ما توغلنا أكثر في اكتشاف الحياة الدّاخلية للإنسان، وتماشينا مع فرويد في كشف الغرائز المكبوتة سنجد أنّ ((للأنا جذوراً عميقة، لأنّ وراءها "الذّات" التي هي جوهر النّفس وميدان اللاوعي))(21) حينئذ ستكون شهقة المحجوب شهقة للذات الإنسانية، وقراءة معمّقة لبواطنها الدّفينة التي لا يمكن أضاءتها بغير الكلمات، والتي حشدها الشّاعر في ملفوظاته الوامضة، وبذلك يكون الإنسان وريثاً شرعياً للإنسان في أرخبيل الحياة هذا. وهو ما نعاينه ثانية إذ يأخذنا الشّاعر نحو وجهة أخرى من عالم اللاشعور، حيث يومض قائلاً:
في غفلة من حلمي(22)
لسبب ما
أوشي بي للعتمة
أردت في غفلة من حلمي
أن أفرك عينيّ
لارتباك الصباح.
لاريب أنّ خيال الإنسان أوسع من أيّ عنصر آخر يوظّفه لإدراك الواقع، بل يدفع الخيال الإنسان لتلمس ما وراء الواقع عبر التّشوف ونقر الخاطر والحلم، ومادام وقوفنا، هنا، منحصراً في حضرة الحلم الذي لا يبرح فضاء الخيال، فإننا نرى ما رآه جيرارد ده نرفال من أنّ ((الحلم وسيلة الدّخول إلى الذّات وصولاً إلى المعرفة العليا))(23) ولا نقصد أبداً بالمعرفة العليا غير تضاريس الكلام المتمعّن في جغرافية الداخل: الذّات الكاتبة، وبالتّالي الذّات الإنسانية.
إنّ الشّاعر الذي وشي به للعتمة أراد أن يغافل حلمه لينهد لمصالحة الضّياء، وعليه فإنّ للحلم سلطة إذن، ولتقويض هذه السّلطة كان لابد من الاحتيال ( في غفلة ) وكأنّ للحلم يقظته أيضاً، لكن ليست اليقظة الأسيرة الواقع العملي الذي يتحرك فيه المرء مشدوداً بمصالحه اليومية وقضاياه الحياتية، بل ذهاب هناك بعيداً حيث الصّور التي تطمح أعماق الذّات إلى معانقتها. لكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا يريد الشّاعر الفرار والعودة إلى الضّوء، إلى الوعي؟ إنّ إعادة قراءة هذه الومضة توصلنا إلى ضفة أخرى من القراءة، حيث الحلم أضواء وصور، والعتمة عكس ذلك تماماً، وهذا ما يتحقق في الأحلام. فالشّاعر قد أوقظ من حلمه وتراه يحث خطاه ناشداً العودة إليه، وهو غاية ما يتمنى. لأنّه لا شيء أجمل من أن يحلم الإنسان، ففي هذا السّياق يقول فرويد: (( في وصول الإنسان إلى هذا الكون، يصل إلى وعي قوي لذاته الدّاخلية، لكننا، إرادياً، نترك في الظّل، هذا الكون، وننصرف إلى الحياة والنّجاح، مما يتطلبه كائننا))(24). وقد يكون في رأي فرويد هذا ما أراد الشّاعر الوصول إليه، حيث انفلات لغة الشّاعر من قيد اللغة الواصفة التي تسمي الأشياء بأسمائها، وعليه تظلّ قراءاتنا ناصتة لدبيب الدّلالات الهاجعة في ظلّ النّص، والتي تقودنا لحلم آخر، لكنّه حلم مركّب هذه المرة لا تشيّده سوى جغرافية الدّاخل كما أومأنا،إذ يقول المحجوب:
لعلّي في حلمي(25)
أشيّد منارة لأحلامي
لعلّي في حلمي
أحتاج إلى
بصيص ضوء.
لعلّ هذا الحلم وذاك يقوداننا إلى التّساؤل: هل يمكن أن يكون تناوس بين أحلام المرء؟ وهل يمكن أن تكمّل الأحلام بعضها؟ وما طبيعة الأحلام المتكررة، بل والمركّبة التي يقرأ بعضها بعضاً؟ أسئلة لابد قد شُغل بها غيرنا، وإذا كان قد وقع هذا فعلاً ونحن غافلون عنه، فإننا نستطيع البوح بأنّ أحلام المحجوب يربطها خيط شفيف، ربما هو بصيص الضّوء الذي يبحث عنه، والذي لا مشاحة في أنّه منبعث من الذّاكرة التي لا تحتفظ بالصّور كلّها، وبالتّالي تظلّ الذّات مشدودة بما فُقد، لعلّها تجمعها ثانية ولو عبر الحلم، لتجعل منها منارة تكون رمزاً لصور لا يمكن لملمتها إلا عبر تطلعات ذات تحلم باستمرار، لا يكون الحلم أداة معرفة بيدها تحقق مبتغاها من خلاله فحسب، بل أداة تحليل أيضاً.
من هنا نستطيع القول إنّه لا يمكن كتابة الومضة الشّعرية إلا من خلال اللغة الملبّدة بأبعادها الرّمزية التي تكون فيها الدّلالات فناراً يشع في كلّ اتجاه، والتي لابد لها من التّعتق في كهوف ذاكرة الذّات النّاصتة لدواخلها، والمتوهجة بمعانقة أكوان تظلّ دائماً متعلقة بحرقة السّؤال الشّعري...

الهوامــــــــش:
1_ كمال أبو ديب- في الشّعرية, مؤسسة الأبحاث العربية, بيروت, ط.1, 1987.
2_ المرجع نفسه، ص: 94.
3_ محمد لطفي اليوسفي_لحظة المكاشفة الشّعرية: إطلالة على مدار الرّعب، الدّار التّونسية للنشر، تونس، 1992، ص: 141.
4_ انظر د. حامد أبو أحمد-عبدالوهاب البياتي في إسبانيا, المؤسسة العربية للدراسات والنّشر, ط.1, 1991, ص:64.
5_ انظر المرجع نفسه، الصّفحة نفسها.
6_ انظر المرجع نفسه، الصّفحة نفسها.
7_ عبد الوهاب البياتي-بستان عائشة-المؤسسة العربية للدراسات والنّشر, بيروت, ط.3, 1994، ص :39.
8_ زكي الجابر_قصائد، الملحق الثقافي_جريدة الميثاق الوطني(المملكة المغربية)، 19/20مارس 1995.
9_ د. أحمد الطّريسي أعراب- بين الرّؤية والرّؤيا في التّصور المنهجي, الموقف، ع.2 ، 1987, ص:61.
10_ إبراهيم الكوني_أبيات، دار الملتقى للطباعة والنّشر، بيروت_قبرص، 2000، ص: 200.
11_ فردينان دي سوسور_علم اللغة العام، ترجمة الدّكتور يوئيل يوسف عزيز، مراجعة النّص العربي الدّكتور مالك يوسف المطلبي، بيت الموصل، 1988، ص: 27.
12_ المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
13_ إبراهيم الكوني، م.س، ص: 202.
14_ إيفون دوبليسيس_السّوريالية، ترجمة هنري زغيب، منشورات عويدات، بيروت_باريس، 1983، ص: 117.
15_ إبراهيم الكوني، م.س، ص: 204.
16_ إيفون دوبليسيس_م.س، ص: 118.
17_ إبراهيم الكوني، م.س، ص: 205.
18_ الرّعد, الآية:11.
19_ إبراهيم الكوني، م.س، ص: 206.
20_ محيي الدّين المحجوب_الغيمة في يدي، منشورات مجلة المؤتمر، سلسلة تعنى بتقديم نماذج من الإبداع الليبي الحديث والمعاصر، 2002، ص: 92.
21_ انظر إيفون دوبليسيس_م.س، ص: 106.
22_ محيي الدّين المحجوب_م.س، ص: 88.
23_ إيفون دوبليسيس_م.س، ص: 37.
24_ المرجع نفسه، ص: 38.
25_ محيي الدّين المحجوب_م.س، ص: 26.
*نشر هذا البحث في مجلة دراسات وهي مجلة فصلية بحثية محكّمة تصدر عن المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر.السنة السادسة.العدد الثاني والعشرون .الخريف 2005ف.
*****************
*******
***
*

سلمى فاروق April 18, 2011 03:14 PM

رد: الومضة الشعرية...(انكشاف العتمة وتوهج الذات)..محمدعبد الرضا شياع.
 
كائنات الشـــــّــعر الجديدة
...(الومضة قصيدة القرن الحادي والعشرين)...
مروان خورشيد عبد القادر.

قراءة في كتاب "قصيدة الومضة - دراسة تنظيرية تطبيقية" للمؤلفين الدكتور هايل محمد الطالب والدكتور الشاعر أديب حسن محمد
ظلّ العرب عبر تاريخهم الشعري الطويل ،غير عابئين وغير مهتمين بتطوير شكلهم الشـــــــعري المعتاد حتى منتصف القرن الماضي أو أقلّه بقليل..حين وجدوا ظلالهم عاجزة عن تخطي أسوار قلاع أسلفاهم الشـــــعرية وإلى أن تحركت اللغة التي ظلّت إلى وقت طويل راكدة تجترّ مفرداتها لمديح سلطان أو رثاء فقيد أو هجاء عدو مبين.
خلال هذه القرون لم يتجرأ شـــــــاعر أن يخترق هذه الأســـــوار حتى جاء السياب ورفاقه فحركوا مواقع تفعيلاتهم لتغدوا حرّة تســـــــبح في ملوحة بحار أبو خليل الفراهيدي وهذه الخطوة كانت فاتحة اهتمام الأجيال اللاحقة بأشكال شعرية جديدة وكائنات جديدة. وظلّ النقاد منهم وخاصة الشعراء يتهافتون على أحقيتهم في ريادة هذا الشكل أو ذاك ومَنْ أُتهم بأن قصيدته عرجاء لا تقف على قافية واحدة مستقيمة اتهم غيره لاحقاً بأن قصيدته خرســــــــاء وفي كل الأحوال " أطرش من لا يسمع صوت الشعر الحقيقي بغض النظر عن شكله " وهكذا اشتغل الشعراء على ارثهم فكان الشعر وكانت كائناته تتوالد تلقائياً دون مخاضات كبيرة تذكر.
ولأن الحياة تتقدم ولغتها تتطور عبر ايقاعات جديدة ابتداءاً من ايقاع القبيلة والبداوة إلى ايقاع المدينــــة الأولى فالمدينة الحديثة .. خرجت القصائد من بلاط الســلاطين إلى أصحابها الحقيقين ولأنهم مداسين بأحذية الزمن القاسية كان لا بد مع استنزاف الساعات الطويلة بجميع أشــــــــكالها العامودية والجدارية والرملية ..تحت هدير آلات العصر الجديد وضجيجها..أقول كان لا بد من دقائق قليلة للشعر " فجاء ازدهار هذا الشكل الشـــعري الجديد ( قصيدة الومضة ) سعياً لكسب معركة التلقي في زمن عزف فيه الناس عن القراءة وأصبحت اللغة الاســــــــــــــهابية القديمة غير متلائمة مع المتطلبات العصرية الجديدة،حيث المؤثرات البصرية تلتهم وقت الانسان ولا تترك له سوى النزر اليســــــير من الوقت ولكي يستعيد النص قارئه لا بد من خطاب جديد على المســـتويين الشكلي البنيوي والموضوعي " .. حتى رسائلنا الطويلة التي كنّا نكتبها مســــتمتعين بطول أخبارنا وعرضها عبر البريد الورقي وبكلفة طابع رخيص أصبحت اليوم رسائل جداً قصيرة ووامضة عبر البريد الرقمي.
هذا المدخل يوجد المبرر الأكبر لوجود قصيدة قصيرة طغت الومضة على تســـــميتها ويوجد بالمقابل لها مثل هذا الكتاب الذي بين أيدينا ليكون رائداً في اســــــــــــتباحة الضوء عليها " قصيدة الومضة - دراسة تنظيرية تطبيقية " للمؤلفين الدكتور الناقد هايل محمد الطالب والدكتور الشـــــــــاعر الناقد أديب حسن محمد، الصادر عن النادي الأدبي في المنطقة الشرقية للسعودية عام 2009.
فهذا الكتاب جاء بالكثير عن قصيدة الومضة مقارنة مع قلة الدراســـات المتوفرة حول هذا الموضوع. وقبل أن نعرض ملاحظاتنا عن هذا الكتاب لا بد من تقديم عرض سريع ومكثف لما جاء به أو فيه.
لقد جاء الكتاب في 180 صفحة من القطع الكبير مغلفة بنافذة تســـربل الضوء وترشحه على جدار متين شاملاً في سياقه على مقدمة وقســــــمين، في المقدمة عن قصيدة الومضة تم استخلاص تعريف لها وعلاقتها بالقصة القصيرة جداً ( ق.ق.ج) وبقصيدة النثر.
ثم قسم الكتاب إلى قسمين، في الأول بحث تنظيري شامل للخصائص الفنية والتواصلية لهذه القصيدة وفي الثاني بحث تطبيقي عليها.
في القســـــــــم الأول
ودون مقدمات يعرض المؤلفان الخصائص الفنية والتواصلية مبتدئة بأثر العنون في قصيدة الومضة و أنماط هذه العناوين ( المنجز أو التفسيري - الانزياحي المتمنع - السريالي الغرائبي - المُقْتَطع - وأخيراً العنوان الأبيض أو اللاعنوان )، بعد ذلك يتحدثان وبتسلسل عن التكثيف وطاقة المفردة ثم التضاد والتوازي والنزعة التشـــــكيلية والغموض أو الايحاء، أيضاً عن الدرامية والتكرار فالنزعة الصوفية والعفوية وجماليات التلقي والفضاء الأبيض وأخيراً الفاعلية والتأثير في قصيدة الومضة.
في القســــــــــم الثاني
وهو بحث تطبيقي على قصيدة الومضة يدرسان في التطبيق الأول الومضة والبداهة ليعتبرا الشاعر السوري الراحل رياض صالح الحسين ممثلاً لقصيدة البداهة التي تشبهنا عبر مجموعته " وعلٌ في الغابة " والشـــــــــــاعرة الكويتية سعدية مفرح ممثلة للبداهة الأنثوية عبر مجموعتها " آخر الحالمين كان " والشاعر الســـــــــعودي أحمد الزهراني ممثلاً لبداهة الاحتجاج اليومي عبر مجموعته " بياض " وما بعدها.
في التطبيق الثاني تعرضا لعلاقة الومضة بالمشهدية (اللقطة) من خلال تجربة الشاعر اللبناني جوزيف حرب عبر مجموعته " الخضر والمزمار" حيث برزت المشــهدية في هذه المجموعة عبر علاقتها بالاحتفاء بالطبيعة ثم الانوثة والموت والمشهدية في المفارقة ومركزية القافية الدلالية.
القصيدة " الومضة " خارج بيت الطاعة كانت التطبيق الثالث عبر مجموعة " الملاك الشـــــهواني ، فيض المواقف ومخاطبات العاشقين" للشـــاعر العراقي أسعد الجبوري حيث تحدثا عن الكتابة التي لا تتصالح مع الأخرين في هذه المجموعة وعن اللغة وحقول الألغام فيها ثم عن بناءها الفني.
أما التطبيق الأخير " الأشكالي" عن قصيدة الومضة فكانت على تجربة الجيل الجديد ( جيل التسعينيات كما يحلو للدكتور الشاعر أديب حسن محمد ترويجه منذ أكثر من عشرة أعوام مدعياً حســـــــــب ظني وأتمنى أن يكون له هذا ريادته لهذا الجيل على الأقل في سوريا ) فاختيرت مجموعة " الرنين " للشاعر السوري الجميل أيمن أبراهيم معروف ليســــــــهبا عن الأيقاعية العالية والتكرار في قصيدة الومضة عند معروف. واختيرات مجموعة " زوادة الأيماء " للشــاعر السوري عيسى اسماعيل ليدللا فها على الكلمة / النواة الدلالية في قصيدة الومضة. ثم عرضا الثنائيات الضدية في قصيــــــــــدة الومضة ( الخيانة/الوفاء) (الموت/الحياة) وكان تحت التطبيق لذلك قصائد مختارة للشــــعراء عيسى الشيخ حسن ومحمد سعيد حمادة ومحمد خير داغستاني.
وأيضاً أختيرت قصائد الشعراء نضال بشارة وحســام الدين الفرّا وزينب عسّاف ( اللبنانية) ومازن الخطيب ومحمد المطرود وأديب حســـــــن محمد لتشهد على حضور اللقطة الجزئية والطرافة الفنية في قصيدة الومضة عندهم. وعن علاقة الومضة بالتناص كانت قصائد بنيان السلامة حاضرة وعن ترافق اسماء العلم مع هذا الشكل الشعري اختيرت ومضتين مختارتين للشاعر أديب حسن محمدوالشاعر عيسى الشيخ حسن وفي آخر فقرات هذا القســم وهذا الكتاب يؤكدان " المؤلفان" على تفرد الجيل من خلال الومضة الحاضرة بين التأويل المفتوح والتأويل المغلق فاختيرت قصائد للشعراء هنادي زرقة وبشير العاني وطارق عبد الواحد واياد خزعل وعبد الوهاب العزاوي وحمزة رســـــــــــــتناوي ونبيل صبح ولقمان محمود وأخيراً " اللبناني" ماهر شرف الدين.
بعد هذا العرض التفصيلي لما جاء في هذا الكتاب القيم لا بد لــــــــكل منّا ملاحظات حوله.. ولأننا دعينا لتقديم الكتاب وقراءته بجدية أكثر فلا بد لنا من تدوين هذه الملاحظات في هذه الورقة ولكم ذلك ايضاً.
دعونا في البداية نعترف بريادة هذا الكتاب في دراسة هذا النمط الشـــــــعري الجديد " قصيدة الومضة" وبشـــــهادة اكثر من قارئ ودارس ونعترف بالجهد الكبير المبذول في انجاز هذا العمل من قبل المؤلفين وخاصة الدكتور الشــــــاعر أديب حسن محمد فأنا أعلم إن هذا الكتاب هو مشروعه بالدرجة الاولى وقد أشتغل عليه أكثر من عشرة أعوام وكان في البدء مخطوطاً أقل تفصيلاً نال عنه جائزة دبي الثقافية عام 2004 ، ثم عمل مع الدكتور هايل محمد الطالب على تطوير البحث فغدا أكثر تفصيلاً وأكثر متعة.
من الإضاءات اللافتة أيضاً القدرة العالية على تفكيك الومضة واستنباط الفكرة المســــــــــــاقة إلينا بأقل التكاليف وأيسر الطرق. وهو ما يجعل الكتاب مصدراً أساسياً من مصادر الدراســــــــات القادمة حول هذا النمط الشعري. و اللافت في القسم الأول التنظير الاكاديمي كي تمنح قصيدة الومضة شرعيتها ككائن مســــــتقل من خلال عرض الخصائص الفنية والتواصلية لها والتي تقاطعت في بعض منها مع الخصائص الفنية للقصيدة الأكثر طولاً وللقصيدة بشكل عام.
أما أغلب الملاحظات السلبية التي سترد عن هذا الكتاب وقد قرأت أكثر من مقال حوله منشــــــور هي في اختيار الأسماء والنماذج بالإضافة إلى المساحة الجغرافية لهذه النماذج.
ففي القسم الأول (في التنظير) استحضروا أسماء كثيرة ومن أكثر من جيل ، كان التوفيق نصيب أغلبها إلا القليل كان الاســـتدلال بهم غير مصيب. كاستشهادهم ببعض التجارب التي ما راهنت على وجودها حتى مع نفسها " إلا أنها من الجيل التسعيني المزعوم" فنشروا بعض القصائد هنا وهناك دون أن يكون لهم قدماً تحت الشمس كأختيارهم للشاعر علي أحمد الخطيب مع تقديرنا لهذا الشاعر الجميل.
أيضاً ورود الشـــــــاعر الكردي الكبير شيركوبيكس وفي أكثر من مكان مقابل غياب الشاعر سليم بركات وخاصة في ومضاته النثرية الكثيرة ( الاسس والأحماض) علماً أن الشــــــــــاعر شيركوبيكس يعتبر حجر أساس في الشعر الكردي الحديث وأن نشر بعض قصائده المكتوبة بالعربية أما الشــــــاعر سليم بركات فان حضوره كان ســيعطي شرعية خاصة لقصيدة الومضة ككائن جديد من بوابة الحداثة الشعرية النثرية التي يتزعمها سليم بركات بجدارة.
من الملاحظ أيضاً ضبابية المساحات الجغرافية للنماذج المختارة. فأغلبها كانت من ســـــوريا (80 % من الأســــــــــــــــماء) والباقي من العراق ولبنان و كويت والسعودية و أمثلة خجولة من مصر ( أحمد بخيت والسواركة) و تونس و المغرب، فإذا كنا بصدد دراسة تطور أشــكال القصيدة العربية ( كما بدا من مقدمة الكتاب ) فلماذا تمّ التركيز على جغرافية دون أخرى وخاصة تكثيف الدراسة على الشعر الســوري حتى أنني أتقصد في ورقتي هذه أن أورد جنســـية الشاعر السورية بكثرة كي أدلل على عدم صوابية أختيار العنوان في التطبيق الأخير " قصيدة الومضة عند الجيل الجديد" وكان الأصح هو " قصيدة الومضة عند جيل التســــــــعينيات في الشعر السوري" فهناك جيل بأكمله بعد التسعينييات غيب عن هذه الدراسة ثم ماذا يفيدنا اختيار الشاعر اللبناني ماهر شرف الدين وزوجته مع هذا الكم الهائل للشعراء السـوريين حتى أنه هناك أســـــــــــماء أكثر أهمية ومن نفس الجيل غيبت مثل الشاعر هوشنك أوسي وفتح الله الحسيني وحسين حبش و......
نعم هذا الكتاب سيبعد عن تناوله قراء كثر ، فكيف لدارس في المغرب مثلاً أن يستشـــــهد بما جاء فيه لدراسة قصيدة الومضة العربية لذلك كنت أفضل أن يشـــــــــــــار في الكتاب إلى الحدود الجغرافية لهذه الدراسة أو كنت أفضل أن تنوع الأسماء والنماذج لتشمل التجارب الشعرية في جميع الدول العربية .
أخيراً وبرغم هذه الملاحظات نكيل و بأطنان لمؤلفي الكتاب الشــــــكر على هذه الدراسة القيمة والتي ســـــتكون نقطة انطلاق لمّاحة وبراقة طالما سيكون لهذا الكائن الشعري الجديد مكاناً في قلب قصيدة القرن الحادي والعشرين وما بعده.
**********
*****
**
*

سلمى فاروق April 18, 2011 03:18 PM

رد: الومضة الشعرية...(انكشاف العتمة وتوهج الذات)..محمدعبد الرضا شياع.
 
شعرية التقابل والتضاد...د .. سمر الديوب.



شعرية التقابل والتضاد

ملحق ثقافي
24/8/2010م
د. سمر الديوب: يعني الحديث عن التوقيعة، أو الومضة، حديثاً عن النزعة البلاغية الشعرية، وعن تقنية الانزياح، والإيحاء، والتكثيف اللوني، واستنطاق رموز الطبيعة وصورها.

وقد جنح الشعر العربي الحديث نحو القصيدة القصيرة، ونحو التكثيف والتركيز. فقد غدت القصيدة تعبيراً عن لحظة انفعالية محددة، وأضحت هذه القصيدة شديدة الشبه بفن التوقيع؛ لتكثيفها، وإيجازها.‏
ويمكن أن نعيد التوقيعة في شعر الحداثة إلى فن التوقيعات النثرية في العصر العباسي، فثمة تشاكل بين شعر التوقيعة وأدب التوقيعات من جهة الغنى المعنوي، والدفق العاطفي، والتكثيف. وثمة من يرى أنها متأثرة بقصيدة الهايكو اليابانية بما يميزها من صفاء الصورة. وهذه القصيدة مقطعة شعرية قصيرة يهتم ناظمها بغنائية الموضوع أكثر من اهتمامه بمعيارية الشكل، في حين أن إيقاعية الشعر العربي ذاتية قائمة على المقطعية. ويمكن أن نرى أن شعرية التوقيعة ناجمة عن التراثين العربي والعالمي.‏
ولعل أهم أسباب الانتقال إلى القصيدة الومضة أو التوقيعة انتقال الشعر من المباشرة والخطابية إلى الإيحاء، أو الانتقال من الشعر الذي يلقى أمام متلقين في مهرجانات شعرية لغاية التوعية والتنوير والدعوة إلى موقف إلى قصيدة تقرأ في جو خاص. وقد شهد عصرنا تواتراً في الأحداث الساخنة التي لم تعد تسمح بنظم القصائد الطوال، الأمر الذي أدى إلى وجود سمة الانفعالية والتعبير المقتضب والموحي. فظهرت قصيدة التوقيعة وهي ذات مجموعة من التوقيعات النفسية المؤتلفة في صورة كلية واحدة، وهو أمر يعني أن للصورة أهمية استثنائية في قصيدة التوقيعة.‏
ويتطلب هذا اللون من الشعر المأزوم ذي اللحظة الانفعالية المحددة فطنة وذكاء من الشاعر، ونباهة من المتلقي؛ لأن قصيدة التوقيعة تبنى بناء توقيعياً، أي بناء صورة كلية للقصيدة من خلال صورة واحدة تقدم فكرة وانطباعاً بتكثيف شديد.‏
يعرّف الشاعر عز الدين المناصرة التوقيعة بقوله: «قصيدة قصيرة مكثفة تتضمن حالة مفارقة شعرية إدهاشية، ولها ختام مدهش مفتوح، أو قاطع، أو حاسم، وقد تكون قصيدة طويلة إلى حد معين، وقد تكون قصيدة توقيعة إذا التزمت الكثافة، والمفارقة، والومضة، والقفلة المتقنة المدهشة.»‏
ويرى بعض النقاد أن الشاعر عز الدين المناصرة واضع مصطلح التوقيعة في منتصف الستينيات في قصيدته «توقيعات». لكن المتتبع حركة الشعر العربي يرى أن د. طه حسين قد كتب في هذا النوع في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، ونقله إلى العربية نثراً في مقدمة كتابه «جنة الشوك»، ودعا إلى الاهتمام بهذا النوع الأدبي، والإضافة إليه؛ كونه يحتاج إلى قدر كبير من المعاناة، والتكثيف البلاغي، والمفارقة التي تعد روح التوقيعة أو الأبيجراما – على حد تعبير كولردج -. وقد خصص الشاعر الدكتور عز الدين إسماعيل ديواناً بعنوان «دمعة للأسى - دمعة للفرح» احتفى فيه بالتوقيعة، ومما جاء فيه: بحثتُ في كل الجهات/ سألتُ كل من لقيت/ وحينما يئست وانسحبت/ جاء من يسألني/ ما سرّ هذه الكآبة.‏

لكن الشاعر المناصرة من الشعراء الذين جربوا مشابهة الأنماط الشعرية في الحداثة الغربية، وإعادة تمثلها عربياً، وإعادة إنتاجها شعرياً. فقصيدته هايكو مبنية على نظام قصيدة هايكو اليابانية التي تعتمد على الأبيات الثلاثة:‏
باب ديرنا السّميك/ الهاربون خلف صخرك السميك/ افتح لنا نافذة في الروح‏
وقد سمى قصائده توقيعات؛ لاعتقاده أن هذا الشكل الشعري يشبه التوقيع في توخي الإيجاز، وعمق المعنى، وكثافة الإيحاء. فيحوّل عبر التوقيعة شعريته إلى خطاب اتصالي يثير انفعالات المتلقي، ويجعله يشاركه مشاعر الشعب المحتل، وعذابات المنفى.‏
ومن أبرز شعراء التوقيعة محمود درويش، ومظفر النواب الشاعر العراقي الذي يعد شاعر توقيعات بامتياز، فقد قضى سنوات من حياته متنقلاً بين دمشق وليبيا بعيداً عن وطنه العراق، وروز شوملي، وأحمد مطر الذي تميزت توقيعاته بالمفارقة السياسية: صباح هذا اليوم/ أيقظني منبه الساعة/ وقال لي: يا بن العرب/ قد حان وقت النوم! إنها رؤيته المجتمعَ العربي الذي يراه يغطّ في نوم عميق لا توقظه المنبهات.‏
ومن المغرب الأقصى شعراء نظموا قصيدة التوقيعة متأثرين ببعض شعراء المشرق العربي، والتراث العالمي مثل حسن نجمي، ونجيب خداري، وجلال الحكماوي، ومحمد بو جبيري.‏
واتكأ شعراء التوقيعة على حقول دلالية محددة أبرزها: الزمن والحزن والموت. وقد سميت توقيعة؛ لأن الشكل الشعري يشبه التوقيع في الرغبة في الإيجاز، وكثافة العبارة، وعمق المعنى. فتثير التوقيعة لدى المتلقي الدهشة، وتدخله إلى عالم الشاعر، وتنجم شعريتها عن موقف انفعالي، وقد تأتي في خاتمة المقطع أو القصيدة، وقد تكون القصيدةُ قصيدةَ توقيعة/ ومضة. فأما التوقيعة التي تأتي في خواتيم القصائد، أو المقاطع فتحمل الكثير من الإشارات والرموز؛ لذا تتركز فيها بؤرة الشعرية. يقول سالم جبران في ختام قصيدة بقاء:‏
سأظل هنا/ أمسك جراحي/ وألوح بالأخرى/ لربيع يحمل لبلادي/ دفء الشمس وباقات الأزهار.‏
وفي هذا المجال نجد أننا أمام تداخل في المصطلحات، إذ يمكن أن تتشاكل قصيدة التوقيعة مع القصة القصيرة جداً من جهة كونها تحمل زخماً تكثيفياً إيحائياً ومعنوياً. فيمكن أن ننظر إلى التوقيعة على أنها نموذج يماثل البناء السردي للقصة القصيرة جداً، يثبت تجاور الأجناس الأدبية في شعر الحداثة. أما التوقيعة التي تأتي في نهاية القصيدة أو المقطع فهي جزء من قصيدة تسير في تسلسل وهدوء إلى أن تأتي التوقيعة، فتحدث فجوة توتر هي شرط الشعرية، أو ما يسمى بالسمة الانفجارية في التأمل والدلالة والإيحاء. ويمكن أن نقول إن التوقيعة هي التي تحدث التوتر الشعري، فالتباين فيها يولّد حال إدهاش، ومتعةَ قراءةٍ تجعل هذه القراءة كاشفة.‏
وقد تكون القصيدة قصيرة لكنها لا تكون قصيدة توقيعة. فقد لا تكون مكثفة، ولا موحية، فتخرج وهذه الحال من دائرة شعرية التوقيعة.‏
أما قصيدة التوقيعة التي لا تكون نهاية مقطع، أو قصيدة فهي قصيدةُ ومضة مكثفة، خاتمتها مفتوحة على تأويلات، تمثل مفارقة شعرية. فكل توقيعة قصيدة قصيرة لكن ليست كل قصيدة قصيرة توقيعة؛ لأن هذه القصيدة أشبه بالبرقية، تقدم صورة واحدة، أو انطباعاً واحداً باقتضاب شديد يهدف الشاعر من خلاله إلى إحداث تأثير جمالي لدى المتلقي، وتقدم لقطة سينمائية درامية تهتم بالإيقاع الموسيقي في التشكيل الفني. يقول سالم جبران:‏
كما تحب الأم/ طفلها المشوّها/ أحبها ../ حبيبتي بلادي‏
يحمل هذا التشبيه لبلاده بالطفل المشوه إيحاءات متعددة. إنه الاحتلال الذي شوه التاريخ، وطمس معالم الحضارة... لكن الشاعر يحب بلاده كما تحب الأم طفلها المشوه، وفي هذا الاختزال ما فيه من الإيحاء والجمالية، والقدرة على شد المتلقي.‏
وفي توقيعة مشهورة لتوفيق زيّاد يقول:‏
أهون ألف مرة/ أن تدخلوا الفيل بثقب إبرة/ وأن تصيدوا السمك المشوي/ في المجرة/ أهون ألف مرة/ أن تطفئوا الشمس وأن/ تحبسوا الرياح/ وأن تشربوا البحر، وأن/ تنطقوا التمساح/ أهون ألف مرة/ من أن تميتوا باضطهادكم/ وميض فكرة/ وتحرفونا عن طريقنا الذي اخترناه/ قيد شعرة!‏
إنها فكرة المقاومة التي مهما اجتهد المحتل فلن يستطيع زعزعة ثوابتها لأن الشعب نذر نفسه لها.‏
لم يعد شاعر الحداثة يحفل بالخطابية في شعره بل التفت إلى الإيحاء؛ لأن قصيدته وليدة ظرف مختلف، فما يشهده عصرنا من أحداث ساخنة لم يعد يسمح بالتطويل الشعري، ويقتضي هذا الأمر أن تكون القصيدة مكثفة موحية مؤلفة من عدد من التوقيعات لها شعريتها الخاصة. إنها شعرية الومضة، شعرية التقابل والتضاد المعبرة عن الحال النفسية المتأزمة لدى الشعراء: تأزم في الزمان والمكان، تعدد في الظلال الرؤياوية، استرسال سردي، فتأزم، فتشوق إلى النهاية التي تبلغ عندها الأبيات ذروة الختام. إنها المفاجأة الأسلوبية. وهنا نتساءل: هل هي جمالية شعرية جزئية، أو جمالية سياق عام؟‏
يكون التركيز على جمالية السياق؛ ليكون لخطاب الشاعر وظيفة انفعالية تولد وظيفة تنبيهية لدى المتلقين يصل بعد السرد الشعري إلى لحظة الإدهاش. ولعل أجمل ما في شعرية التوقيعة أنها تولي أهمية كبرى للمتلقي، فيُظهر الشاعر درجة من الذكاء تتطلب بالمقابل من المتلقي أن يكون على درجة عالية من النباهة؛ ليستوعب التوقيعة المتضمنة رمزاً وسخرية، والمولدة غير المُنتظر بالمنتظر -على حد تعبير جاكبسون-. إنها شعرية ناجمة عن السياق العام في القصيدة، وتمثل الحداثة الشعرية في الشكل والبناء.‏





الساعة الآن 06:27 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر