عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم April 23, 2009, 08:51 PM
 
المقامة السّوقيّة

حَدَّثَ فارِسُ بنُ قَيسٍ قالَ: كُنّا في زَمانِ قَر وَالقَيظُ لا يَذَر، وَالشَّمسُ في كَبِدِ السَّماءِ تَرصُدُنا كَأَنَّها لاجتِماعِنا تَحسُدُنا، نَعمَلُ بِجِد وَنُتقِنُ وَنَكِد، فَلَمّا أَنهَيتُ العَمَل وَكِدتُ أُصيبُ الأَمَل، قَفَلتُ إِلى داري كَالأَسير وَمَنَّيتُ نَفسي بِبَردِ الماءِ وَلَذاذَةِ الغِذاءِ وَلينِ السَّرير، فَلَمّا دَخَلتُ وَسَلَّمتُ وَداعَبتُ وَكَلَّمتُ، قُلتُ لِحَليلَتي: أَلَنا مِن سِحرِ يَداكِ نَصيب أَم نَدَعُ آمالنا تَخيب؟، قالَت: وَاللَهِ ما خَيَّبتُهُ وَبِروحي طَيَّبتُهُ وَمالي لا أُرضي رَجُلاً أَحبَبتُهُ، وَلَولا نَفادُ الزاد لَما أَخلَفتُ الميعاد فَلَو ذَهَبتَ إِلى السُّوقِ تَجلُبُ لَنا مِنَ الخُبزِ أَليَنَهُ وَمِنَ اللَحمِ أَسمَنَهُ وَمِنَ الماءِ أَبرَدَهُ وَمِنَ التَّمرِ أَسوَدَهُ، فَقُلتُ: أَبشِري وَأَخَذتُ المالَ لِأَشتَري فَجَعَلتُهُ في الحافِظَةِ وَخَرَجتُ إِلى السّوقِ وَقَد امتَلَأَ بِالبَشَر وَالحَرُّ قَد انكَسَر، فَلاحَ لي جَمعٌ مِنَ النّاسِ يَتَزاحَمون كَأَنَّهُم عَلى الحَوضِ وارِدون فَيَمَّمتُ شَطرَهُم وَحَذَوتُ حَذوَهُم فَلَمّا غَزَوتُهُم رَأَيتُ شَيخاً قَد أَدبَرَ اللَيلُ عَن رَأسِهِ وَأَشرَبَهُ الضَّنى مِن كَأسِهِ مُمَزَّقُ الثّياب مُنتَعلُ التُّراب راجِياً الثَّواب يَحمِلُ طَبلاً وَعِصِيّ وَمَعَهُ صَبِيّ، صَغيرٌ وَسيم ذَكِيٌّ كَليم لا يَكادُ يَلتَئِمُ ثَغرُهُ وَلا تَتَوارى ثَناياهُ، ضاحِكَ السِّن يَرتَقِبُ المَن وَيُتقِنُ الفَن، وَمَعَهُم كَلبٌ قَصيرُ الرِّجلَينِ طَويلُ الأُذُنَينِ قَليلُ النِّباحِ كَثيرُ الجِماحِ، فَلَمّا انتَظَمَ الناسُ وَسَكَنوا وَأَصغَوا وَقَطَنوا قالَ الصَّبِيُّ: أَيُّها النّاس، ما قَولُكُم في هَذَين؟ قَالوا: كَلبٌ هَزيل وَابنُ سَبيل قالَ: أَرَأَيتُم كَلباً يَعي ما يُقال؟ قالوا: مُحال، قالَ: فَكَيفَ إِن وَعى ما يُقال؟ قالوا: يَكُن لَكَ فينا قَبول قالَ: وَيَكونُ إِلى فَضلِ مالِكُم وصول؟ قالوا: نَعَم، فَأَومَأَ إِلى الشَّيخِ فَضَرَبَ الشَّيخُ عَلى طَبلهِ فَرَفَعَ الكَلبُ رِجَله فَناداهُ الصَّبي وَقالَ: قِف يا "شَنقَر"، فَرَفَعَ الكَلبُ قَدَماهُ الأَوَّلَتان وَوَقَفَ عَلى الأَخيرَتان فَاندَهَشَ النّاسُ وَصاحوا، فَقالَ الصَّبِيُّ: حَسبُكُم ، فَهُنا مَا يَسُرُّكُم، ثُمَّ صاحَ: تَقَدَّم يا "شَنقَر" فَتَقَدَّمَ الكَلبُ في الحال، فَازدادَ العَجَب وَاستُعجِمَ السَّبَب، ثُمَّ قالَ الصَّبِيُّ: أَرَأَيتُم كَلباً يَرقُصُ هَونا، أَو يَختارُ لَونا، قالوا: لا وَاللَه، فَنادى الشّيخَ: عَلَيكَ بِالطَبل وَصاحَ في الكَلبِ: ارقُص يا "شَنقَر" فَأَخَذَ الكَلبُ يَمشي عَلى رِجلَين وَيَهُزُّ رِجلَين وَيُحَرِّكُ رَأسَهُ يَميناً وَشِمالاً حَتّى تَوَقَّفَ الطَّبلُ فَسَكَنَ الكَلبُ، ثُمَّ أَخرَجَ الصَّبِيُّ مِن جِرابِهِ خِرقَةً حَمراءَ وَخِرقَةً صَفراءَ وخِرقَةً سَوداءَ ، فَوَضَعَها أَمامَ الكَلبِ وَصاحَ: هاتِ الخِرقَةَ الحَمراءَ، فَذَهَبَ الكَلبُ غَيرَ مُتَرَدِّد فَأَتى بِالخِرقَةِ الحَمراءَ وَمازالَ النّاسُ يَعجَبونَ وَيُذهَلونَ فَلَمّا انقَضى العَرضُ سَكَنَ إِلى الأَرضِ وَقالَ: هَذا ما وَعَدتُكُم فَأَما ما وَعَدتُم فَقَد حَلَّلتُكُم وَيَكفيني أَن أَدخَلتُ السُّرورَ عَلى قُلوبِكُم ثُمَّ انصَرَفَ وَمَعَهُ الشَّيخُ وَالكَلبُ، فَانصَرَفتُ لِأَشتَري ما نَوَيتُ وَبِينَما أَنا أَمشي إِذ صاحَ رَجُلٌ: سُرِقَ مالي، ثُمَّ صاحَ آخَرُ كَذَلِكَ فَصاحَ ثالِثُ: تَفَقَّدوا أَموالَكُم فَإِن في السّوقِ لِصّا، فَتَفَقَّدتُ الحافِظَةَ فَلَم أَجِدها فَعَلِمتُ أَنَّها حِيلَة وَقَد كانَ العَرضُ وَسيلَة، فَنَدِمتُ عَلى ما كانَ وَقُلتُ في نَفسي:

كُلُّ ما لا خَيرَ فيه = بادِراتُ الشَّرِّ فيه
لا تُضِع وَقتَكَ فيه= وَاجتَنِب ما قَد يَليه
كَم رَأَينا مِن غُلامٍ = كانَ ذا أَمرٍ سَفيهِ
يُحسِنُ الإِعرابَ لَكِن = قَد نَما غَيٌّ بِفيهِ

منقول للأمانة
وهي عبرة
__________________

زوروا مدونتي و تابعوا محاولاتي


علّها تمتع أو تحدث الاضافة

https://buchahd.maktoobblog.com
رد مع اقتباس