عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم January 22, 2018, 01:22 PM
 
Smile الهويات نائمة لعن الله من أيقظها بقلم الأديب والدبلوماسي عز الدين شكري فشير

الهويات نائمة لعن الله من أيقظها بقلم عز الدين شكري فشير
الهويات نائمة لعن الله من أيقظها بقلم عز الدين شكري فشير

الهويات نائمة لعن الله من أيقظها
بقلم
عز الدين شكري فشير

الأحد 24-12-2017

ليست القومية المجرم الوحيد فى مسلسل القتل الجماعى الذى يعيشه البشر. الهويات الدينية، والعرقية، والجهوية، وغيرها، تتحول أيضاً، وبسرعة مدهشة، إلى مسوغ للقتل الجماعى. لكل إنسان هويات متعددة فى نفس الوقت، فهو مثلاً عربى، ومصرى، وصعيدى، ومسلم، وسنى، ومن الهوارة، وشاب ينتمى لجيل جديد يشعر باختلافه عن القدامى، وهو أيضاً ينتمى لتيار سياسى معين يجمعه بأقرانه فى بقية مصر أو العالم العربى أو العالم، وغير ذلك من الهويات التى تتعايش مع بعضها البعض، أحياناً فى سلام وأحياناً مع بعض التناقضات والمشاحنات بين الإنسان ونفسه.
ثم يحدث أمر ما فى المجتمع من حوله، غالباً أزمة سياسية واقتصادية، تدفع هوية من هذه الهويات المتداخلة إلى تصدر مشاعره وتفكيره، هو وأقرانه. ويبدأون فى إعادة تقسيم الناس وفقاً لها. مثلاً، تبدأ الهوية الجهوية فى التصدر فيقسمون الناس إلى صعايدة وبحاروة، سيناوية وأهل وادى.. إلخ. أو تبدأ هويته الدينية فى التصدر، فيقسمون الناس من حولهم إلى مسلمين ومسيحيين، أو تطغى هويته الطائفية فيقسمون الناس إلى شيعة وسنة كما حدث فى العراق، أو تطغى الهوية العرقية فيقسمون الناس إلى عرب وأفارقة كما حدث فى دارفور، وهكذا.
الأستاذ عمر، مدرس الحساب، يصبح فجأة الأستاذ عمر «السنى»، فى حين يتحول عم على البقال إلى عم على «الشيعى»، والدكتورة فرح بنت الأستاذ مينا تصبح فرح «المسيحية»، وهكذا. إعادة تقسيم الناس وفق هوية واحدة هى الخطوة الأولى على طريق القتل.
الخطوة الثانية هى ربط هذه الهوية بالأزمة التى أيقظتها وجعلتها تتصدر الانتماءات الأخرى. يتم هذا الربط عادة من خلال عملية متدرجة من التحريض الخافت: يهمس الناس لبعضهم أن الفئة الفلانية (المسلمين، المسيحيين، السنة، الشيعة.. إلخ) أقوى أو أضعف، يستفيدون من الوضع القائم، أو يعانون من ظلمه، يستحقون أكثر مما هم فيه لأنهم أصحاب ماض مجيد وأشرف من الباقين، أو لا يستحقون ما هم فيه ولم يبلغوه إلا بالخديعة والخيانة. يستمر هذا التحريض الخافت حتى يستقر فى النفوس. أصبح هناك «نحن» و«هم». ولدت الضغينة تجاه الأستاذ عمر أو عم على أو الدكتورة فرح باعتبارهم ممثلين للهوية «الأخرى».
الخطوة الثالثة هى بداية تفسخ المجتمع وإعادة رسم علاقاته وفقاً لتقسيم الهوية الجديد. الزواج «المختلط» (الذى لم يكن «مختلطاً» قبل إيقاظ هذه الهويات) يتناقص، الصداقات وشراكات العمل العابرة لهذه الهويات تتقلص وتقع تحت ضغط، الجمعيات الخيرية توجه أعمالها لأبناء «هوياتها» دون الباقين (الجمعيات الإسلامية تغيث فقراء المسلمين، والمسيحية المسيحيين وهكذا)، وتنتشر المدارس الموجهة لأبناء كل «هوية»، إلى آخر مظاهر الاستقطاب والتفسخ. ومع الوقت، تتصلب العلاقات بين هذه الفئات وتتوتر.
الخطوة الرابعة هى التحريض النشط، والذى يقوم به متطرفون ضد «الفئة الأخرى». هؤلاء المتطرفون يصورون «الفئة الأخرى» ليس باعتبارها ظالمة وحسب، بل وتعد العدة «لتؤذينا» وتنقض «علينا»: تكدس السلاح فى المساجد أو الكنائس، أو تنشر الرذيلة أو الأمراض بيننا، أو تستنزف مواردنا، أو تتآمر مع أعدائنا.. إلخ. يواجه هؤلاء المتطرفون أقرانهم الذين يرفضون تقسيم الناس على أساس هوياتها هذه، ويعتبرونهم عدوهم الرئيسى: يتهمونهم بالسذاجة أو الغباء أو بالخيانة والعمل لصالح «الهوية الأخرى». وفى إطار حملة التحريض يقوم المتطرفون بتأويل كل ما يحدث ليتفق مع تحذيراتهم من مؤامرة «الطرف الآخر». لو اغتصب شاب فتاة قدموا الأمر باعتبار أن «المسلمين» أو «المسيحيين» أو «العرب» أو «الأفارقة»، «يغتصبون نساءنا». لو سرق شخص محلاً، لو تعارك شخصان، لو طرد صاحب عقار سكان شقة، أو نصب شخص على شريكه، أو أطلق واحد النار على غيره، أو استولى فلاح على أرض جاره أو سمَّ مواشيه، يقدمون هذا ليس باعتباره اعتداء فلان على علان، بل اعتداء «فئة» على «أخرى». الدكتورة فرح التى أجهضت مدام تهانى بالخطأ تتحول إلى «الأطباء المسيحيين يجهضون المسلمات»، أو «السنة نهبوا بقالة عم على الشيعى»، وهكذا.
الخطوة الخامسة هى الانزلاق فى العنف نفسه. مع كل حادثة يتم تأويلها باعتبارها صراعاً بين هويتين، يقوى موقف المتطرفين داخل ما أصبح الآن «فئة»، ويعلو صوتهم ويضعف موقف معارضيهم. وسرعان ما تقوم مجموعة من أصحاب الدماء الحامية والعقول النائمة بالرد على ما يتصورونه عدواناً من «الهوية الأخرى». الرد، وهو كلمة لطيفة لوصف الثأر، يُوجَّه لأى ممثل من أبناء الهوية المتهمة. مقابل بقالة «عم على» نبحث عن بقالة شخص «سنى» وننهبها، ومقابل خطأ الدكتورة فرح نبحث عن طبيبة مسيحية ونهاجمها، ومقابل اغتصاب فلانة نبحث عن امرأة من الفئة المعتدية ونغتصبها. تأتى أعمال الانتقام هذه لتؤكد صحة دعاوى المتطرفين فى الفئة الأخرى، وهو ما يدعو أصحاب الدم الحامى فيها للانتفاض بدورهم والرد على المعتدين، وهكذا، ينزلق المجتمع شيئاً فشيئاً إلى العنف القائم على الهوية.
فى أغلب الأحوال تحاول الدولة احتواء هذا العنف، وأحياناً تنجح- بدرجات متفاوتة. لكنها كثيراً ما تفشل وتبدأ عدوى الانقسام على الهوية فى التفشى داخل مؤسسات الدولة نفسها، حتى تجرها داخل دائرة العنف. إن حدث هذا فقد انتهى الأمر. يتفسخ المجتمع والدولة بإيقاع أسرع ويسيران فى طريق بلا عودة. لا شىء يُعيد لُحمة مجتمع قتل أبناؤه بعضهم على الهوية. كل الحالات التى وصلت لهذا فشلت فى إعادة بناء مجتمعاتها المحطمة: أقصى نجاح ممكن هو وقف العنف أو تقليصه، والحفاظ على سلام اجتماعى هش قابل للانفجار فى أى لحظة.
صراعات الهوية قد تكون داخلية، بسبب هويات صغيرة أو بسبب الهوية القومية نفسها، وقد تكون خارجية بين دولتين مثل قصة العرب والفرس، أو أحاديث المؤامرة الغربية التاريخية على العالم العربى.
والحل؟
الحل الفعَّال الوحيد هو تفادى الانزلاق فى حفرة الهوية.
كيف؟
بأن نتوقف عن شحن أنفسنا بأحاديث الهوية وتنشئة الأجيال الجديدة على أوهامها. أن نتوقف عن تقسيم أنفسنا والناس إلى هويات، فئات، وربطها بوضعنا السياسى والاقتصادى، أن ننقى مناهجنا التعليمية وأفلامنا ووسائل إعلامنا وخطابنا السياسى من أحاديث الظلم التاريخى والمجد الضائع وضرورة الثأر من «الآخرين».
كن ما تريد: مسلماً، عربياً، كردياً، شيعياً، نوبياً.. كن كما تحب لنفسك وترضى، لكن لا تقل لنفسك ولا لغيرك إن ذلك يرتب لك حقوقاً ليست لغيرك، أو يمنحك مهمة الثأر للتاريخ. كلنا لنا حقوق، كبشر، وعلينا السعى لحمايتها، لا على أساس هويتنا بل على قاعدة المواطنة والمساواة فى الحقوق والواجبات بين الناس، سواء داخل بلادنا أو بيننا وبين بقية العالم.

نقلا عن جريدة المصري اليوم
__________________
الحمد لله في السراء والضراء .. الحمد لله في المنع والعطاء .. الحمد لله في اليسر والبلاء


Save
رد مع اقتباس