عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم November 6, 2015, 11:55 AM
 
هل نقضي على طفولة أبنائنا وبناتنا دون أن ندري ؟؟!

هل نقضي على طفولة أبنائنا وبناتنا دون أن ندري؟

هذا هو السؤال الذي يطرحه هينينج سوزيباخ، في كتابه (حبيبتي صوفي – خطاب إلى ابنتي)، هو على يقين بأن الآباء والأمهات يحبون أطفالهم، ولكن هذا الحب المبالغ فيه، هو الذي يجعلهم يحرصون بشدة على مستقبلهم، وإعدادهم للغد، وينسون الحاضر واليوم، وأن الطفل أكثر بكثير من حصيلة إنجازاته الدراسية، وأن الطفولة مرحلة هامة في حياة الإنسان، لا يمكن تعويضها، مهما كانت المكاسب الأخرى التي تحققت في تلك الفترة من العمر.


عصر الإنجازات

اقترح المؤلف، الذي يكتب في صحيفة (دي تسايت) الأسبوعية المرموقة، على ابنته البالغة من العمر اثنتا عشرة سنة، في يوم أربعاء، أن تذهب معه إلى حمام السباحة، فإذا بها تجيب بتلقائية شديدة وبصرامة لا تقبل النقاش، إن أي نشاط غير مدرسي، لا مكان له في وسط الأسبوع، ولا يمكن ممارسته إلا في عطلة نهاية الأسبوع.

نظر الأب في جدول المواعيد، فوجد أن اليوم الدراسي لابنته يستمر من الصباح الباكر، حتى الحصة السابعة، وأن لديها الكثير من الالتزامات الأخرى، مثل تدريبات الموسيقى وممارسة الرياضة، علاوة على عمل الواجبات المدرسية، ولذلك فإنه لا مكان للعب أو الاستمتاع بوقت فراغ، ولذلك فإنها لا تقابل أي صديقة لها في أيام الدراسة، وحتى في نهاية الأسبوع ترتبط هي وكل صديقاتها بالكثير من الالتزامات الأخرى استعدادًا للأسبوع التالي، بحيث تحتاج إلى إجراء اتصالات هاتفية كثيرة مع صديقاتها، حتى تجد من لديها من الوقت ما يكفي للقاء.
أفاق الأب على هذا الواقع، الذي يعكس تغلغل المفاهيم الاقتصادية في كافة جوانب الحياة، حتى التعليم أصبح الهدف منه إعداد شباب مؤهل للالتحاق بسوق العمل، بحيث ترسخت لدى الكثيرين من الآباء والأمهات قناعات بأن عليهم أن يبذلوا أقصى ما في وسعهم لتزويد أطفالهم باللغات الأجنبية والمهارات الكثيرة التي سيحتاجون إليها مستقبلاً، فيشددون على التفوق المدرسي، ويلقنون أطفالهم أهمية الفوز في سباق الحياة والتغلب على المنافسين.


نماذج عجيبة

يضرب المؤلف أمثلة توضح ما يعنيه من هيمنة المفاهيم الاقتصادية على الحياة، فيذكر أن روضة أطفال في العاصمة الألمانية برلين، اسمها (أطفال على مسار تخطي الآخرين)، تقبل الأطفال من عمر سنتين، يتلقون فيها دروسًا في التكنولوجيا والاقتصاد وعلم البلاغة وعلم التواصل، علاوة على مادة (أهداف واستراتيجيات الحياة)، كما يذكر أن هناك روضة لأطفال الصفوة، تحمل اسم (Little Giants)، أي (العمالقة الصغار)، يتعلم فيها الأطفال التنافس ومقارنة بعضهم ببعض، قبل أن يتعلموا التعايش سويًا. فهل نستغرب بعدها من نشأة مجتمع ليس فيه تراحم بين أفراده؟

ويصبح الأمر أكثر غرابة، حين نعرف أن شركة أمريكية اسمها بابي بلس تقدم ما يعرف باسم (prenatal education system)، وهي عبارة يصعب ترجمتها، وتبدو غير معقولة، لكنها تعني حرفيًا، ما يمكن أن نطلق عليه (نظام تعليمي لمرحلة ما قبل الولادة).

وهذا النظام عبارة عن جهاز لبث موجات صوتية في بطن الأم، وهو على شكل حزام ترتديه الأم الحامل، تصدر منه نغمات، تهدف إلى إثراء حواس الجنين، بحيث لا تقتصر فقط على ما يصله من أصوات البيئة التي تتحرك فيها الأم طوال اليوم.

وتكتب شركة بابي بلس على موقعها في الإنترنت، إنه بفضل حزام البطن، فإن الأطفال الذين مروا بهذه التجربة، قد وصلوا إلى مراحل نمو ذهنية أسرع من غيرهم، وأنهم يمتلكون قدرات عقلية أكثر شمولاً من سواهم، ومقدرة على التركيز لفترات أطول، واستعدادًا أفضل للمدرسة، وقدرة أعلى على الإبداع والاستقلالية»، مع العلم بأن شعار الشركة هو: (Babies are born to learn) أي (يولَدُ الأطفال الرُضَّع ليتعلموا). ويرد الكاتب ساخرًا، «لقد كنت أعتقد من قبل، أنهم يولدوا لكي يعيشوا».


ديكتاتورية النوايا الحسنة

يشير الكاتب إلى أن الآباء والأمهات يحرصون من فرط حبهم لأطفالهم على حمايتهم من أي شرور، فيرفضون أن يذهب الأطفال بمفردهم إلى المدرسة سيرًا على الأقدام، مهما كانت المسافة بين البيت والمدرسة قصيرة، ويرى أن ذلك يتسبب في أضرار كبيرة، فإنه يحرم الطفل من الاعتماد على نفسه، ويحول بينه وبين التعرف على أطفال آخرين، وأن يجرب أن يسير في طريق خطأ، ثم يتعلم من أخطائه، وأن يركل الحجارة بالحذاء، ثم يرى عواقب ذلك، وأن يستمع إلى الكلمات البذيئة، ويعرف أنها غير لائقة.

يرى سوزيباخ أن الأطفال يخضعون إلى رقابة الأهل في البيت، ثم رقابة المعلمين في المدرسة، ثم رقابة المدربين في التمارين الرياضية، حتى في أماكن لعب الأطفال دومًا هناك كبار يتابعون كل ما يبدر منهم من تصرفات أو كلمات، ودومًا يعامل الكبار هؤلاء الأطفال باعتبارهم نسخة مصغرة من الكبار، أي يفرضوا عليهم نفس القواعد السارية على الكبار، فإذا بدر منهم أي تصرف بدا للكبار غير منطقي أو غير مفيد، بدأوا في توجيه النصح أو ربما التقريع

متناسين أن الطفل يحتاج إلى التعرف على العالم بنفسه، لا أن يتلقى دومًا دروسًا جاهزة من الآخرين.

من حق الطفل أن يجري لمجرد الجري، دون أن يكون قاصدًا الوصول إلى هدف ما، ومن حقه أن يتسلق شجرة، لكي يتعلم التسلق، لا أن يحضر ثمرة، من حقه أن يصعد السلالم المتحركة في الاتجاه العكسي، لكي يعرف أن ذلك ليس مفيدًا، ومن حقه أن يمسك القلم، ويرسم خطوطًا لا علاقة بينها، لكي يتعلم إمساك القلم، لا أن يرسم لوحة فنية، من حق الطفل أن يضحك مع صديق له على أشياء تبدو لنا ساذجة، لكنها بالنسبة له هامة، أن يجد من يشاركه مشاعره وسعادته، حتى ولو كان السبب غير مفهوم للكبار.

أما من يسير مع هذا العصر، فإنه يستخدم التقنيات التي تنتجها شركة (iCare)، التي تعني (أنا أهتم)، والتي تزود الآباء والأمهات بشريحة إلكترونية، يمكن وضعها في ملابس الطفل، بحيث يتابعون مسار حركته، بل يمكنهم مشاهدة ذلك خطوة بخطوة على خرائط جوجل، وإذا خرج عن الطريق الواصل بين البيت والمدرسة، يصدر الجهاز إنذارًا للوالدين، وقد بلغ الأمر بوالدين إنجليزيين أن قررا زرع هذه الشريحة تحت جلد طفلتهما، بحيث تكون الرقابة تامة.

ويستنكر المؤلف ذلك بشدة، ويرى أن هذا التعامل لا يستحقه إلا المجرمون، وأن الخوف الشديد على الأطفال، قد يؤدي إلى حرمانهم من حريتهم، وينسب إلى الأديب الألماني الشهير عبارة «لنكن صادقين، إن الحياة دومًا تنضوي على مخاطر على الحياة»، ثم يضيف مستشهدًا بعالم التربية البولندي يانوش كورشاك «خوفًا من أن يخطف الموت الطفل من بين أيدينا، نخطف منه الحياة».


ربما تكون الطرق الملتوية أفضل

تعلمنا أن «المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين»، ولكن أقصر طريق ليس دائمًا أفضل طريق، لأنه يحرمنا من رؤية أشياء لم نكن نعرفها، يحرمنا من عنصر المفاجأة، ويحرمنا من الاكتشاف والابتكار واكتساب القدرة على التعامل مع الأشياء غير المتوقعة، وهذا عنصر آخر في رسالة المؤلف لابنته، ويضرب على ذلك أمثلة بعظماء واجهوا صعوبات، ثم توصلوا إلى ما عجز عنه المتفوقون دراسيًا.

مستشار الرايخ الألماني الأسبق أوتو فون بيسمارك رسب في المدرسة وهو طفل، وكذلك الموسيقار الشهير ريتشارد فاجنر، والشاعر جيرهارد هاوبتمان، أما يوشكا فيشر، الشاب الفوضوي، الناشط في جماعات حماية البيئة، فقد غادر المدرسة بعد الصف العاشر هربًا، دون أن يحصل على شهادة دراسية، ولكنه أصبح بعد ذلك وزيرًا لخارجية ألمانيا، واستطاع تغيير الكثير، بالرغم من فشله السابق، أو ربما بسبب ذلك.
يحذر سوزيباخ ابنته وكل قراء الكتاب أن يسيئوا فهم كتابه، فهو ليس دعوة للكسل، وفقدان الطموح، وعدم الاجتهاد في المدرسة، بل هو دعوة إلى الاعتدال وتحقيق التوازن بين الاستعداد للغد، والعيش في اليوم، بين أن تكون الطفولة عتبة للشباب، وأن تكون مرحلة في حد ذاتها تستحق الاستمتاع بها.
رد مع اقتباس