عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم April 19, 2015, 12:56 PM
 
رد: واية رائحة الموت للكاتب عبدالله ناصر الداوود

- 2 –
في مساء يوم أحد ، اصطحبت غادة معي في مشوارٍ سريع ٍ إلى قريب لي لأعطيه غرضا ما ، كان عمرها وقتئذ سنة وستة أشهر ، وقفت بالسيارة أمام العمارة التي فيها شقته ، وجاء قريبي وأعطيته الغرض ، ومن عادته أن يلاعب غادة قليلا ، لكنها لم تتفاعل معه كعادتها ، أثار ذلك انتباهي . في طريق عودتنا إلى البيت لاحظت في وجهها شحوبا ، قلت لعله من آثار مرض الزكام الذي أصيبت به قبل أيام ، وعندما وصلت البيت حكيت ذلك لأمها الذي وافقتني على ذلك التفسير . سارت أيامها القادمة على ذلك الكسل والخمول والوجه الشاحب ، حتى جاء صباح يوم الجمعة ، فقد استيقظت معي في العاشرة صباحا ، وتناولنا إفطارنا معا ، وبدأت في قراءة الصحف ، بينما كانت تلعب بجانبي بوجهها الشاحب ، عندما عدت من صلاة الجمعة وجدتها نائمة ، استغربت الأمر ! فلم يكن من عادتها أن تنام مرة أخرى بعد استيقاظها ، فضلا عن نومها باكرا ليلة الجمعة ، واستمرت في نومها حتى الرابعة عصرا . في تلك الأثناء كنا نتناول غداءنا في صالة الشقة ، عندما استيقظت وأقبلت علينا بوجهها الشاحب المتكدر ، و بمشية غير متزنة ، فقدكانت المسافة من غرفتها إلى الصالة ثمانية أمتار تقريبا ، مشت خمسة منها ثم سقطت على الأرض وهي تبكي ، نهضت من مكاني وحملتها ووضعتها بجانبي . بدأت تظهر منا بعض التفسيرات لسقوطها : - لعلها شوكة في قدميها .. - بل لعلها قطعة زجاجة .. - أو لعلها دعست على شيْ آلمها .. - بل لعلها .. تحسست قدميها بيدي ، لا أثر لشيْ ، ولم تصرخ بمرور يدي عليها ، ومازلت تبكي متكدرة ، أكملنا غداءنا ، واستعدينا للخروج ، فلديهم زيارة لأقاربهم ، وبدأنا نعتبر الأمر عاديا كونه أمر عارض سيزول . في المساء اتصلت عليّ أمها ، لتخبرني أن البنت رغم أنها لم تمشي فقد بدت سعيدة ، وأنها تلعب مع الأطفال وتتفاعل معهم . في ظهر السبت ولما عدت من العمل ، كانت في الصالة هادئة ، جالسة بوجهها المتكدر ، سألت أمها عنها ، قالت : لما استيقظت لم تمش ، فحملتها ووضعتها في الصالة .. ذهبت إليها ، حملتها ، وقبلتها ، حاولت معها أن تمشي فرفضت كليا ، تحسست قدميها مرة أخرى ، لا يبدو هناك شيْ !حركت قديمها وحاولت منها أن تدفعني بقدميها ، فإذا هما قويتان وتحركهما بطريقة طبيعية ! لكن البنت في نهاية الأمر ترفض المشي على قدميها !! قررت الذهاب بها إلى طبيب ، ولكن ليس أي طبيب ، فالحالة ليست مرضا عاديا كزكام أوكحة ، بل هو أبعد من هذا ، إنها قضية مشي ، كان هناك طبيب له سمعة طيبة يعمل في مستوصف ، لكنها لا يعمل إلا ما بعد الثانية عشر ليلا .. ومع ذلك قررنا الذهاب إليه ، فهو الأفضل . في تمام الحادية عشر ليلا ، كنا في المستوصف ومعنا غادة التي مازالت مصرة على عدم المشي ، كان رقمنا أربعة في سجل المنتظرين ، ... في تمام الثانية عشرة وصل الطبيب ، وبعد نصف ساعة جاء دورنا ، كنا في لهفة تامة لمعرفة سر عدم المشي ، دخلنا على الطبيب ، أخبرناه بالأمر ، فحصها ، قال : لديها زكام سيذهب بمرور الأيام ، قلت: لا يهمني أمر الزكام المهم لماذا لا تمشي ؟! طلب الطبيب منها المشي ، فرفضت تماما ، أنزلتها وطلبت منها أن تمشي وشجعتها بحلوى ، رفضت أيضا ، فحص قدميها ، ثم قال : قد يكون هناك شيْ ما في قدميها ، والطفل يخاف أكثر لذا تجده يرفض المشي لوجود ما يؤلمه .. أكد لنا أن لا شيْ يعيقها عن المشي ، ولكن اصبرا عليها قليلا ، حتى يزول ما في قدميها أوتنسى أمره ، وستعود للمشي مرة أخرى . في تلك الليلة ، عاد إلينا بصيص أمل من كلام الطبيب ، فهو أدرى منا بأي حال ، ولعله كما قال أمر عارض وسيزول ، ولم نكن نعرف أن الأيام كانت تخبي لنا مناظر مرعبة




تـــــــــــــرى هالمــــــــــره مـــــــا راحـ احـــــــط البــــــارت الثـــــــالث الا لمــــــا اشـــــوف ردود نفـــــس النـــــاس...

– 3 –

عندما عدت من العمل ظهر يوم الأحد ، كانت غادة في الصالة جالسة ، كانت تحاول فتح بسكويتا ، فلاحظت أن يدها اليسرى ترتعش ، كما ترتعش يد المصاب بالشلل الرعاش ( باركسون ) ، هالني المنظر وأفزعني ، ترى ماذا يحدث ؟ وأي مرض هذا الذي تعاني منه البنت ؟! فتحت لها البسكويت ، ثم حملتها ، وذهبنا إلى المطبخ حيث أمها ، فسألتها عن البنت وماذا فعلت اليوم ؟ فقالت : استيقظت اليوم ، ولم تمش كعادتها ، فحملتها ووضعتها في الصالة. لم أخبرها برعشة اليد التي رأيت ، فلا أريد أن أزيدها خوفا وقلقا ، عدت للصالة ، جلست انظر إلى ابنتي بقلب وجل ، ومئات الاستفهامات تتصارع في ذهني ، آه لو كنت تتكلمين وتخبرينا ما بكِ ؟ ومم تشكين ؟ لاحظت أن يدها لم تعد ترتعش ، واكتشفت أنها إذا أرادت التركيز على شيْ ما فإن الارتعاش يعود إليها ، مما يزيد استفهاما جديدا على تلك الاستفهامات .

قررت أن أذهب بها إلى مستشفى الأطفال عصر اليوم ، عند الواحدة ظهرا ، ذهبت إلى غرفة النوم ، فأنا متعود أن أنام بعد الظهر ، رميت ذلك الجسد المتعب من العمل ، والذهن المتعب من كثرة التفكير ، والخوف مما يخبيه المستقبل ، وبعد كثرة التفكير استسلمت لنوم مضطرب .

بعد نصف ساعة فقط ، استيقظت على صوت بكاء ، أخذ قلبي يخفق بشدة ، وأنفاسي تتسارع ، فتحت عيني،وبدأ تركيزي يعود إلي ، كانت أمها تبكي وتقول : لابد أن نذهب بها إلى طبيب آخر ، فالبنت لها عدة أيام وهي لا تمشي ، جاء أولاد الجيران ، حاولت أن تمشي لكنها لم تستطع ، فكلما نهضت وقعت مرة أخرى ، فأخذت تزحف وهي جالسة ..! هل جرّب أحدكم أن يستيقظ على صوت أحد يبكي بحرقة ؟ كم هو مؤلم ! وكم هو مرعب ! أدعو الله من كل قلبي أن لا تروا ما رأيته .. فما رأيته شيْ فظيع لا يحتمل .. شعور لا يمكن وصفه يتراوح بين الفزع والاكتئاب . جلست على السرير وبدأت أفيق تماما ، طمأنتها أنني قد قررت أن نذهب بها مستشفى الأطفال عصر اليوم ، وستكون الأمور على خير إن شاء الله . نهضت من سريري ، وذهبت إلى حيث البنت ، كانت تتابع الأطفال بنظراتها دون أن تنهض لتلعب معهم ، عادت تلك الأسئلة تتصارع في ذهني مرة أخرى ، بدأت اتفحص قدميها مرة أخرى ، لعل وعسى ، مررت أصابعي ثم راحتي على أسفل قدميها ، لم يبدو شيْ ، ولم تتألم لوجود شيْ ، حاولت معها أن تنهض فرفضت ، ولكن مع ذلك كانت قدماها قويتان تحركهما وتدفعما بقوة .

في الخامسة عصرا ، انطلقت بنا السيارة إلى مستشفى الأطفال ، البنت في حضن أمها تمسح على شعرها وتقرأ عليها آيات من القرآن الكريم ، وندى في الخلف طفلة صغيرة ، لا تدرك ما يحدث أمامها ، ترقب بيعينيها البريئتين الشواراع والسيارات . بينما أطبق علي صمت مطبق ، أفكر في حل لهذا اللغز المحير ، عدت أحاول الإجابة ، لعله نقص فيتامين دال ، ولكن مستحيل فالبنت قد تحسنت جدا عن ذي قبل ، جلست أنظر إليها وأسألها في داخلي : -ترى ما بك يا ابنتي ، ماذا حلّ بك ؟ وماذا دهاك ؟ آه لو تتكلمين وتحكين لنا مم تشكين وبماذا تشعرين ؟ قلوبنا تخفق مما أصابك الذي لا نعلم له سببا ولا ندرك طبيعته وحقيقته . كانت البنت في حضن أمها ، بوجه شاحب وعينين تخفي في داخلهما الكثير من الأسرار ، كم تمنيت أن تبوح لنا ببعض ما فيهما ! خرجت من صمتي وبدأت أطلق على زوجتي عبارات التفاؤل ، رجلاه قويتان ، البنت سليمة بإذن الله ، لعله أمر عارض يذهب سريعا ، كنت اريد رفع المعنويات وبث قليلا من الحياة داخل السيارة التي ساد عليها الحزن والكآبة ، أب أرهقه التفكير وأم يعتصر قلبها الألم ، وطفلة غامضة لم تعد تمشي فجأة ، وتخفي سر ذلك في داخلها ، وطفلة أخرى تكبرها لا تدرك مدى مرارة ما يحدث أمامها .

وصلنا إلى المستشفى ، ونزلنا بقلوب تخفق لهفة لكشف السر وخوفا من مفاجأة مؤلمة ، كان المستشفى يعج بالأطفال وصراخهم يملأ المكان ، توجهت إلى مكتب الاستقبال ، سألنا الموظف عن اسم المريض ونوع الشكوى ، أخبرناه أن البنت لم تعد تمشي من يومين ، وبسرعة أشار إلى ممر وقال : هذه حالة اسعافية .. اذهبا من هنا .. أسرعنا الخطى نحو الممر ، كان في نهايته طبيب سعودي ، سألنا عن نوع الشكوى ، فذكرت له أن البنت لم تعد تمشي منذ يومين ، فأظهر اهتماما ثم أشار هو الآخر نحو ممر قائلا : من هنا لو سمحتم . كانت طريقتهما ، حتى وإن لم تكن مقصودةكافية لإثارة نوع من الخوف كان كافيا لأن تجهش الأم في بكاء خارق ، بينما تعلقت ندى بطرف ثوبي من الخلف وأخذت تبكي خوفا من بكاء أمها . وصلنا إلى المكان الذي أشار إليه الطبيب ، ووجدنا أنفسنا أمام طبيبة ،سألتنا عن نوع شكوانا ، فحكيت لها قضية المشي . كان يقف بجانب الطبيبة طالبان من كلية الطب بدا أنهما في سنة الامتياز ، فقد أخذت تشرح لهما عن حالة غادة ، حيث أخذت تخلط العربية بالانجليزية ، قائلة إن شكوى الأب بأن ابنته لا تمشي ، بينما هي خائفة وتطبق برجليها على جسم أبيها ..

أثارت الطبيبة غضبي ، فقد أخذت تشرح للطالبين ، ولم تراعي تلك الحالة السيئة التي كنا فيها ، وخاصة أنها كانت تشير بقلم رصاص على قدمي غادة التي ممسكة بي وتبكي خائفة ، وأمها تبكي هي الأخرى وندى أرعبها بكاء أمها ، فكان منظرنا يدعو للشفقة . قاطعت شرح الطبيبة غاضبا : ماذا سنفعل الآن ؟ قالت : لابد من تنويم الطفلة ليوم واحد حتى نعرف سبب عدم مشيها .. ثم أشارت إلى مكان نذهب إليه لنكمل إجراءات تنويم الطفلة . زاد بكاء الأم ، وزاد خوفي على ابنتي ، يبدو أن الأمر ليس بالهين ، مجرد فحص سريع ثم علاج ، أو تحليل ونتيجة ، بل الأمر أكبر من ذلك ، تنويم وعلاج قد يطول .




تــــــرى تعــــبت
رد مع اقتباس