عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم May 29, 2014, 03:47 PM
 
كيف نقص قصة لأطفالنا ؟


الحلقة الأولى




فرَغ من صلاة العصر في جماعة كعادته في المسجد الذي يَبعُد عن البيت بحوالَي مائتَي متر، عاد مشغول البال بورْد القرآن اليوميِّ الذي يؤدِّيه في ذاك الوقت، تُنادي عليه أمه، وقبل أن يَنفرد بنفسه في غرفته الخاصة يُهروِل إليها مُسرعًا: نعم يا أمي.

الأم: ماذا تحب من طعام على مائدة الإفطار اليوم، فإني أعلم شغفك بالخضراوات؟

عبدالله: لا بأس يا أمي بعض "الفاصوليا" مِن يدك المباركة يكون للطعام مَذاقه المُمتِع.

يدخل غرفته، يُسعده كثيرًا الاسترخاء على ظهرِه مُتفكِّرًا قبل بدء القراءة، لعلَّ من قابله من الأصحاب في المسجد قبل الصلاة وبعدها وما دار بينهما من حوار في أمور الدين والدنيا يشغله قليلاً، يألَف كثيرًا هذا الاسترجاع، تمرُّ عليه المواقف كشريط إخباري، يَلتقِط من هواء الغرفة نسماتٍ عميقةً يعلن خروجها بعد ذلك عن استوائه جالسًا؛ استعدادًا لاستئناف نشاط جديد، إنه وِرْد اليوم.

أين مصحفي؟!

بسم الله الرحمن الرحيم:
﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾[الحجر: 1 - 4].

يظل سابحًا مع الآيات حتى يصل إلى قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الحجر: 80].

بدأتْ حينها التساؤلات تنساب على وعْيه في موجات متتالية:
ما هذا الحجر؟
ومن أصحابه؟
وماذا يعني قوله: ﴿ الْمُرْسَلِينَ ﴾؟ ولماذا لم يقل ربُّنا: نبيَّهم أو رسولهم؟!

هنا توقَّف الصوت الذي يُسمِع كلَّ مَن في البيت، حتى الأم في مكان طهْو الطعام ينطلق لسانها بالذِّكْر والاستغفار مع قراءته، أخوه الأصغر - الذي كان يُعدُّ طبق المهلبية الذي يعشقه - يتوقَّف ذاهبًا إلى غرفة أخيه: ما بالك يا عبدالله؟ هل نمْتَ؟ لا يا محمَّد؛ لكنِّي شردتُ قليلاً.

يعود من إجابة محمد إلى حالته التساؤليَّة تلك، سبحان الله! ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ﴾.

حتمًا أنا بحاجة إلى كتاب تفسير يُسعِف تساؤلاتي هذه: "الجلالَين" للسيوطي والمحلِّي، أين أنت؟

ها هو ذا، أصحاب الحجر، أصحاب الحجر، نعم: الحجر: وادٍ بين المدينة والشام، وهم ثمود، هكذا عثر، وهكذا استقرَّت عيناه في ذاك التفسير المختصر الذي يُطلَق عليه: تفسير الرُّبع.

يا إلهي، إني أعرف أن قوم ثمود قد أرسل الله إليهم نبيًّا هو صالح - عليه السلام - فلماذا إذًا قال ربُّنا: ﴿ الْمُرْسَلِينَ ﴾؟!

مَن يأتيني بالجواب؟


آه يا عقلي، لقد سمعت حديثًا لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - نطَق به خطيب الجمعة على المنبر منذ ثلاثة أسابيع، وكان عنوان الخطبة: محمد خاتم الأنبياء:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نحن - معاشر الأنبياء - أبناء علاّت؛ أمهاتهم شتى، ودينهم واحد)).

عرَفتُ ساعتها أن أبناء العلات هم الإخوة لأب واحد والأمهاتُ مختلفة؛ أي: إنَّ جميع الأنبياء مُشترِكون في دعوة قومهم إلى التوحيد؛ فكلهم نصحوا قومهم بأن يقولوا: لا إله إلا الله، إيمانًا واعتقادًا وتخلُّصًا من كل شرْك وكُفرٍ، لكن لكل أمَّة شَريعتها الخاصة التي تُناسِبها، وهو معنى قوله تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].

أخذتْ كلُّ هذه الخواطر تتداعى إلى عقله في سكونه ووقوفه أمام هذه الآية، حينها أدرك مدى الأثر الذي تُلقيه على قارئها ومُستمِعها معًا هذه الآية: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

سبحان الله! فكأن ربَّنا يقول لنا: إن قوم صالح - وهم أصحاب الحجر - بتكذيبهم لنبيِّهم قد كذبوا كلَّ الأنبياء من أول آدم حتى خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنهم جميعًا قد بُعثوا بالتوحيد الخالص لله - سبحانه وتعالى.

ما أجمل ما قرأتُ وعرفت!

جرس الهاتف يدقُّ، مَن يا ترى؟

يا ألله أستاذ عبدالرحمن معلِّم اللغة العربية في المرحلة الثانوية.

أستاذي الجليل السلام عليكم ورحمة الله.

كل عام أنت بخير.

هداه ربه إلى الحديث مع معلِّمه حول هذه الآية في سورة الحجر.

أستاذه يطوِّف به في حقل البلاغة العربية؛ ليأخذ من مبحث البيان فيها معنى جديدًا يُضاف إلى تفسير هذا النص القرآني.

إن الآية ها هنا تَندرِج تحت نوع من أنواع المجاز المُرسَل يُطلِق عليه البلاغيون: (المجاز المرسل ذو العلاقة الكلية)؛ أي: عندما نُطِلق الكل ونريد الجزء، ففي هذه الآية أطلق الكل ﴿ الْمُرْسَلِينَ ﴾، والمقصود الجزء (رسول الله صالح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام).

يا رب، ما أجمل أن نقرأ ونتعلم! وصلى الله وسلم على القائل: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).

نعم، ستأتي اللحظة المناسبة للحديث عن هذه الآية... أخَذ يُفكِّر.

وجدْتها، بعد انتهاء الإفطار؛ إنه وقت مثالي للكلام مع وجود أبي وأمي وأخي محمد وأخي الأكبر محمود الذي يأتي مِن عمَله قُبيل أذان المغرب مباشرة، ساعتها سأغيِّر مجرى الحديث بعيدًا عن المعتاد من الحوار؛ ليكون موضوع اليوم: وقفة مع آية.

الله، ما أروع أن نترقى مع القرآن من درجة القراءة إلى درجة المعرفة والعلم، ثم بعد ذلك نَنقل ما تعلمنا إلى القريبين منّا!

هكذا قال عبدالله لنفسه هذه الكلمات وهو بصُحبة ورده القرآني اليومي.




الحلقة الثانية


يعجبه كثيرًا السيرُ الهادئ في سكينة وتأملٍ بين جنبات المسجد الكبير الذي يقع في منتصف القرية، سبحان الله! بيوتُ الله في الأرض المساجدُ؛ كما أخبر بذلك رسولُنا ومعلِّمنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- عمرُ هذا المسجد - وَفْق إحدى الروايات - يقترب من ستمائة عام، جميعها خواطر تداعتْ إلى ذهنه وهو يردِّد أذكار الصباح بعد أدائه فريضة الصبح، ظل الحال كذلك حتى استوقفه صوتٌ من قريب يجلس في أحد الأركان يتلو في كتاب الله بصوت بين الجهر والخفوت، لكن يمكن للآذان التقاطُه وتمييز ما ينطق به، إن صاحبه يقرأ في سورة الزخرف ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾ [الزخرف: 57].

أخذ محمد يحدِّث نفسَه قائلاً: فرقٌ كبير بين (يصِدون) بكسر الصاد، و(يصُدون) بضمها، سبحان الله! لقد مررتُ على هذه الآية كثيرًا ولم ألتفت إلى معنى هذا الفعل المرتبط بأهل مكة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر إذًا يحتاج إلى صديق نثق به، إنه كتاب التفسير الذي طالما أسعفني في مثل هذه المواقف؛ "تفسير الجلالين" أين أنت؟

خرج لتوِّه من المسجد وهو يشكر في نفسه صاحبَ هذا الصوت القارئ أنْ نبَّهه دون أن يشعر إلى ضرورة البحث والمعرفة في هذه الآية، وصل إلى بيته، دخل غرفته، "الجلالين" في مكانه المعتاد فوق المنضدة بالقرب من المكان المخصص داخل الحجرة لأداء الصلوات النوافل، الزخرف الآية (57) ها هي ذي؛ يصدون: يفرحون، هكذا عثر على المعنى، لكن تبقى حالة القلق كما هي، ما معنى هذه الآية، الأمر بحاجة إلى مزيد من الجهد، هل أوقظ أخي أحمدَ الذي يدرس اللغة العربية والثقافة الإسلامية في الجامعة؟ إنه يميل إلى النوم لبعض الوقت بعد أدائه صلاة الصبح معي، ينصرف أولاً ويتركني في المسجد، يسأل نفسه هذا السؤال، نعم، ولعلها فرصة ليتوضأ ويقرأ ما تيسر من القرآن قبل أن ينصرف إلى جامعته، أحمدُ أحمد، أهمَّني أمرٌ بعد الصلاة اليومَ وأحتاج إليك؛ لكن لن أحدثك بشيء حتى تقوم وتتوضأ، بالفعل يستجيب أحمد للنداء الذي أقلقه من أخيه محمد، يعود بعد حين.

تفضل يا محمد، استمعت اليوم في المسجد إلى آية؛ لكني لم أفهم مقصودها بشكل واضح، كان القارئ يقرأ في سورة الزخرف حتى وصل إلى قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾، لاحَظ على وجه أحمد ابتسامة خفيفة أعقبها شرودٌ لدقائقَ معدودة، هل تعرف يا محمد أن هذه الآية قد سمعتُها منذ زمن ليس بالبعيد يرددها أستاذ الدراسات الإسلامية عندي في الكلية وهو يستشهد بها على منهج من مناهج تفسير القرآن الكريم؟ إنه منهج الإمام أبي حيان -رحمه الله- صاحب تفسير "البحر المحيط"، كان أستاذنا يقول: إن هذا الرجل له مقولة شهيرة حول القرآن الكريم تقول: "القرآن يفسر بعضه بعضًا"؛ أي: إن آيات القرآن كي تُفهَم، فهي بحاجة إلى أخواتها في السورة نفسها أو في سور أخرى، يتحدث أحمد وأخوه محمد يجلس منصتًا باهتمامٍ وسعادة؛ لأن أخاه الأكبر يتكلم معه بهذه الرحمة وهذا الجد.

فإذا نظرنا -يا محمد- إلى هذه الآية في سورة الزخرف نجدها تأخذنا إلى آية تفسرها في سورة الأنبياء، هي قوله تعالى: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 98]، إن التعبير (يصدون) الذي قرأت -يا محمد- وعرفت أنه يعني (يفرحون) سببُه أن كفار مكة لما سمعوا هذه الآية في سورة الأنبياء، قالوا لنبينا -صلى الله عليه وسلم- استهزاءً وسخريةً منه ومن دعوته: رضينا بأن نكون مع عيسى ابنِ مريم في النار؛ فقد عُبِد هو الآخر من دون الله كما عُبدت آلهتنا، يقصدون بذلك الأصنام كما تعرف.

ولا شك -يا محمد- في أن قولهم مردود عليهم؛ لأن عيسى -عليه السلام- برئ مما فعله قومُه في حياته ومن بعده، واستمع معي إلى قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 116، 117].

أرأيت - يا محمد - كيف أن القرآن نصٌّ متكامل الأجزاء ومترابط في آياته؟ هكذا انتهت جلستُه مع أخيه الأكبر أحمدَ، ساعتها أدرك أن عليه أن يتعامل مع القرآن بروح جديدة تقتضي التأملَ والتدبر في كل ما يقرأ؛ فقد تكون آية في سورة مفسرة وشارحة لآية في سورة أخرى.

جزاكم الله خيرًا يا صاحب الصوت الذي استمعتُ إليه في المسجد ويا أخي أحمد، كلاكما علَّمني اليوم شيئًا، هكذا ردَّد بينه وبين نفسه وهو ينصرف من عند أخيه عائدًا إلى غرفته.


</b>



رد مع اقتباس