عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم May 8, 2014, 11:51 AM
 
رد: نبذة مختصرة عن الأدب الماليزي



ثانيًا: الخصائص الروحيَّة (المضمونيَّة):
1- الاندماج مع الطبيعة:
طبيعة بلاد الملايو طبيعة شاعرة بما تضمُّه من مظاهر خلابة من الأشجار المورقة دائمة الخضرة، والمياه الجارية، والجبال الشاهقة، والحياة الوادعة الناعمة في أحضانها.

ولقد افتُتِن الشاعر الملايوي القديم بطبيعة بلاده، ومن ثَمَّ رأينا آثار ذلك باديةً في التراث الشعري الملايوي، حتى إنَّ شعراء بنتون جعلوا أغلب اعتمادهم على الطبيعة في استمداد صورهم وتصوُّراتهم، وفي تجسيد أفكارهم، وقد بَدَتْ عناية الشعراء المحدثين بالارتباط بالطبيعة واضحة منذ البداية، كما نرى في القصائد المبكِّرة لروَّاد حركة التجديد الإندونيسيين مثل: رستم أفندي وسنوسي بانيه، ولدى الشعراء الملايويين الروَّاد كذلك كبونجوك، وماسوري، وعثمان أوانج، وغيرهم.

إنَّ لُجوء الشاعر إلى الطبيعة لم يَبْدُ هُروبًا إليها من إحباطات الواقع وآلامه فحسب مثلما رأينا مثلاً لدى شعراء الاتجاه الرومانسي، وإنما اللجوء إلى الطبيعة هنا هو لجوء فطري ينسجم مع طبيعة النفس الملايويية ومكوناتها، ومن هنا لم تَبْدُ الظاهرة ردَّة فعل تتهاوَى بعد حينٍ إذا زالتْ أسبابها، وإنما خصيصة أصيلة تمتدُّ بجذورها إلى الماضي السحيق، وتزحف بآثارها إلى صفحات المستقبل؛ ومن ثَمَّ رأينا استِمرار الظاهرة في شعراء السبعينيَّات والثمانينيَّات على اختلاف ما بين تلك المراحل في العوامل الرئيسة الموجِّهة للطرح الشعري خِلالها، وهو دليل أصالتها وقوَّة تأصُّلها.

2- التوجُّه الاجتماعي النقدي:
تميَّز الشعر الحديث مبكرًا باتِّخاذه موقفًا وطنيًّا، زادَه قوَّة وتأصُّلاً تبنِّي جماعة (asas 50) لذلك النهج حين رفعت شعارها "الفن للمجتمع".

ولقد حمل شُعَراء المرحلة الثوريَّة - مرحلة الخمسينيَّات - همومَ الطبقات الفقيرة الكادحة من الفلاحين والصيَّادين وصِغار العمَّال والحرفيين؛ لأنهم هم أنفسهم وُلِدُوا وترَعرَعوا في أحضان تلك الطبقات، كما حملوا آلام المجتمع وآماله، في الحريَّة والاستقلال والحياة الآمِنة الكريمة المستقرَّة.

ومع الوقت، ونتيجةً لذيوع التوجُّه الإنساني في الآداب العالميَّة بعد الحرب الكونيَّة الثانيَّة، وشُيُوع الفكر الشيوعي ذي المنزع الأممي في طرحه كذلك، اتَّسعت رؤية شعراء المنطقة لتَسَع الهموم الإنسانيَّة بصفةٍ عامَّة، وإنْ كانت الهموم الآسيوية قد استأثرت بالجانب الأكبر من ذلك الجهد؛ بتأثير الدعاية اليابانيَّة من جهةٍ، وبظهور بوادر الاستقطاب العالمي بين شرق وغرب من جهةٍ أخرى، واللافت للنظر أنَّ الاستعمار وإنْ كان أسَّ البلاء، ومصدر الأدواء التي مُنِيتْ بها المنطقة، إلا أنَّه لم ينلْ ما يستحقُّ من قواصف الشعراء وانتقاداتهم نهاية الأربعينيَّات وأوائل الخمسينيات، وإن اشتدَّت نغمة الهجوم والتعريض به في مراحل متأخِّرة، وهي ظاهرةٌ لم يشذَّ عنها منسوبو الحركات الإصلاحية أو الإسلاميون - أيضًا - في عالم الملايو آنذاك، ومنهم مُحرِّرو "مجلة الإمام" التي تبنَّت فكر الحركة الإصلاحيَّة الإسلاميَّة الحديثة (فكر الأفغاني ومحمد عبده).

وربما كانت الطبيعة الملايوية الدمثة التي تكرَه المواجهة، وتُؤثِر الصبر، والحركة الهادئة، مع شدَّة القبضة الاستعماريَّة وسطوتها، مع طُول المدَّة التي عاشَتْها المنطقة تحت نَيْرِ الاستعمار، وامتصاص الشعوب بعض أخلاقيَّات المستعمِر، ثم وُجود شكلٍ من أشكال التحالُف بين السلاطين والمستعمِرين، مع دَهاء المستعمر وبخاصَّة المستعمِر الإنجليزي، وظُهوره بمظهر مُنقِذ البلاد، ومنتشلها من وهاد التخلُّف والفقر والضياع، وصانع نهضتها الحديثة، إضافةً إلى ضعف الحركات الإسلاميَّة الواعية بصفةٍ عامَّة، ربما كانت هذه العوامل مجتمعةً ممَّا أوجد تلك الظاهرة المثيرة للاستغراب والتساؤل.

لقد وجد شعراء المرحلة مجالاً خصبًا لإنتاجهم الشعري في نقْد الواقع الاجتماعي لأمَّتهم الملايويَّة، وكأنهم اعتبروا أنَّ الأمَّة مُصابة بذلك الداء الذي أسماه "مالك بن نبي" (القابلية للاستعمار)، وأنَّ أنجع سُبُلِ التخلُّص من الاستعمار لا تكون إلا بِمُداواة المجتمع من تلك الحالة-المرض، وذلك بفضْح حقيقتها ومظاهرها، والأخْذ بيد أمَّتِهم للخُروج منها، وهي نظرةٌ واقعيَّة لا تخلو من منطقٍ، ولعلَّها أثمرت بالفعل بعضَ الثمار حين قامت الأحزاب الشعبية والجمعيات الأهلية كأدواتِ ضغطٍ لإنهاء الظاهرة الاستعماريَّة.

وبرغم الطبيعة الملايويَّة التي تنفر من المواجهة وتُؤثِر العافية فإنَّ أشعار النقد الاجتماعي قد تكاثَرتْ كثرةً لافتةً للنظر، ولعلَّ الشعراء أحسُّوا بفِطرتهم أنَّ لهذا المنزع ضرورة حضاريَّة لكبح جماح حركة الاندفاع نحو تقليد الغرب من جهةٍ، وتقوية النسيج الاجتماعي بتَنقِيته من آثار التخلُّف من جهةٍ أخرى، وتنوَّعت أساليب النقد الاجتماعي من الشكل المباشر شديد اللهجة إلى الشكل غير المباشر الهادئ الليِّن الذي يميلُ إلى إبداء الموقف، وإعطاء النُّصح أكثر من أيِّ شيء آخَر.

وقد استأثَرت الحكومات الملايويَّة إثْر قيامها بعدَ الاستقلال بقدرٍ غير ضئيلٍ من نقد الشعراء، وقد بدا بعضه لاذِعًا، وكان انتقاد الحكومات في الغالب يدورُ حول التقصير في إنجاز مشروعاتها، أو فشلها في الارتقاء بالإنسان الملايوي المتردِّية أحواله، والذي قامت تلك الحكومات الوطنيَّة أساسًا في سبيل إسعاده.

وقد ارتفعتْ نغمة النقد الاجتماعي في الخمسينيَّات والستينيَّات على وجْه الخُصوص[9]، ثم اتخذت أبعادًا أخرى في السبعينيَّات والثمانينيَّات مع ارتفاع صوت الاتجاه الإسلامي، وممارسته النقدَ الاجتماعي من منظور مُغايِر دُون إهمالٍ للمنظور السابق.

وممَّا استأثر بالاهتمام النقدي لدى شعراء المرحلة تكاسُل الشعب الملايوي عن ممارسة أدواره، والتمكين لنفسه في بلاده في مواجهة الأجناس المجلوبة التي باتتْ أكثر سَيْطرة وتمكُّنًا، وقد دَندَن الشعراء حول تلك القضيَّة مبكرًا، واستحثُّوا الشعب الملايوي على الدأب والحركة والنشاط؛ ليمتلك ناصيةَ أموره، ويَنال مكانته بين أولئك الغُرَباء، كما استأثرت المدينة بما تعنيه في الوجدان الشعري من زِحام وضوضاء وعلاقات اجتماعيَّة مترهِّلة، وأنماط حياة جديدة بعضها ضارٌّ بلا شك.

استأثرت المدينة باهتِمام الشعراء مبكرًا، فوجَّهوا سِهام انتقاداتهم للمدينة بصفةٍ عامَّة باعتبارها رمزًا للحياة الصاخبة والتفكُّك الاجتماعي والتدهور الخلقي[10]، في مقابل القرية التي باتَتْ رمزًا للبكارة الاجتماعيَّة، والطهارة والنَّقاء، ودِفء العلاقات الإنسانيَّة.

وجديرٌ بالذكر أنَّ ذلك المَلمَح الحضاري الرائع في نقْد الواقع، وتقديم البدائل ما أمكن بقي واحدًا من ملامح التجربة الشعريَّة الملايويَّة، بل إنَّ زخم الفكرة الإسلاميَّة التي راحَتْ تشقُّ طريقها بثَباتٍ في الساحة الملايويَّة قد أعطى لعمليَّة النقد الاجتماعي دفعة جديدة، وأبعادًا وآفاقًا أعمق.

3- الموقف المحايد من الدِّين:
المجتمع الملايوي بصفةٍ عامَّة مجتمع متديِّن، بل ربما كان أكثر شعوب منطقة جنوب شرق آسيا تدينًا فطريًّا، ولقد لاحَظ الاستعماريون الإنجليز تلك الظاهرة منذ البداية فحرصوا على التعامُل بحذر إزاءها، فنأَوْا بأنفسهم رسميًّا عن أنْ يكونوا مسؤولين عن الشؤون الدينيَّة بالبلاد التي احتلوها، وأسندوا تلك المهمة للسلاطين، واكتفوا بإدارة الأمور من وَراء الستار، وكان لتلك الصِّيغة التي انتهت إليها العلاقة بين المستعمر والسلاطين آثارها المباشرة على الحالة الدينيَّة بالمنطقة[11].

وبقدْر ما كان للتغريب الذي مارَسَه المستعمِر بدَهاءٍ في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية من آثارٍ سلبيَّة ملموسة لا تَخفَى على الأجيال الجديدة التي ترَعرَعتْ في كنفه، فإنَّه لم يستطع أنْ يُخَلخِل أسس الوجدان الديني إلى الحدِّ الذي يُوجِد حالاتٍ من الإلحاد التام، وهو ما أرجعه أساسًا إلى قوَّة وتأثير مؤسسات التطبيع الاجتماعي والديني وفي مقدمتها الأسرة.

من هنا لم تظهر في الساحة الأدبيَّة في تلك الفترة وبخاصَّة في المحيط الشعري أصواتٌ نافرة من الدِّين، ناقمة عليه، محمِّلة إياه أسباب التخلُّف والتدهور الاجتماعي، حتى إنَّ عبدالصمد سعيد الذي رأيناه في قصَّته المشهورة سالينا (Salina) وهي أضخم عملٍ أدبي في اللغة الملايوية في العصر الحديث - مستهينًا بالحلِّ الديني لأدواء المجتمع الحديث، بل مُتمرِّدًا ساخرًا إلى حَدٍّ ما على الرمز المعبِّر لذلك - لا نَكاد نلمس في أشعاره تلك الرُّوح التي بدَتْ في قصَّته إلا لمحات خاطفة يُمكِن تأويلها، بل إنَّ أشعار قاسم أحمد الذي تأثَّر بالاتجاهات الاشتراكيَّة وكاد أنْ يكون أمَّة واحده في هذا السبيل، لم تكدْ تظهر لدَيْه نغمة التهكُّم والاستهزاء بالدِّين أو التمرُّد على حقائقه إلا في قصيدته موت الإله (Tuhan mati) التي اعتَذَر عنه فيها أحدُ الباحثين لأنَّه لم يكن يقصد التهكُّم أو التمرُّد، وإنما قصد إظهار ضعْف الوازع الديني في نفوس أفراد المجتمع[12].

وأيًّا ما كان الأمر فلم يكن الدِّين - بصفة عامَّة - والإسلام على وجْه الخصوص غَرَضًا لهجومٍ مباشر أو تعريض فج في أيٍّ من الأعمال الشعرية الملايوية منذ صَحْوتها الحديثة وحتى اليوم، إلا أنَّ هذا لا يمنع وجودَ أمثلة دالَّة على وهن الحقيقة الدينية في النفوس وضعْف تأثيرها، وعدم الحِرص على الصدور عن رؤيةٍ دينيَّة في معالجة القضايا، وتناول الموضوعات.

ولا شكَّ أنَّ شعراء المرحلة المبكرة تأثَّروا بالشاعر الإندونيسي خير الأنوار الذي نحا منحًى وجوديًّا إلى حدٍّ كبير في أعماله، وبدا عميقَ التأثُّر بالتوجُّه الرومانسي في البيئة الهولندية في القرن السابع عشر، كما بدا متشكِّكًا إلى حَدٍّ ما فيما يتعلَّق بالحقائق الدينيَّة[13]، وإلى هذا التأثُّر في تقديري يرجع كثيرٌ من ظواهر الانفلات من قيود الالتزام الإسلامي في بعض التجارب الشعرية آنَذاك.

ويُذكَر في هذا الصدد أنَّ ولع شعراء المرحلة الثورية بالانحِياز للطبقات المسحوقة والمظاليم قد أنتج ظاهرة "قصائد المومسات" - إذا صحَّت التسمية -- وهي القصائد التي تناوَلَ فيها الشعراء مشكلات هذه الفئة الاجتماعيَّة بغير قليلٍ من التعاطُف، وبرغم فَجاجة هذا التوجُّه إلا أنَّه لا يُمثِّل في ذاته دلالةً على انحرافٍ كبير، وإنما هو صدورٌ عن موقف اجتماعي غالب ضاغط، وربما كان كذلك تأثُّرًا بالإنتاج الأدبي الغربي، وهي الأسباب نفسها التي أبرزت ظاهرة مُماثِلة في الساحة الأدبيَّة المصريَّة في الفترة ذاتها تقريبًا، أمَّا وصف التجارب العاطفيَّة في عِبارات غير محتشمة، وإنْ كان قليل الحدوث إلا أنَّه التوجُّه الأكثر دلالةً على ذلك الوهن الديني الحاصل.

وبصفةٍ عامَّة لم تبدُ في العطاء الشعري الملايوي ظاهرةُ استمداد الرموز والأساطير العائدة إلى التراث الكنسي الغربي اكتفاءً برموز التراث الملايوي الخاص، وبرغم أنَّ خير الأنوار قد تأثَّر إلى حَدٍّ ما بتلك الرموز والرؤية النصرانية عمومًا[14]، إلا أنَّ مَن تأثَّر به من شُعَراء الملايو قد سَلِمَ من ذلك في الأغلب حتى كاد أنْ يخلو ديوان الشعر الملايوي الحديث تمامًا من الرموز النصرانيَّة، وهي إيجابيَّةٌ تُضاف لرصيده بغير شك.

4- نُدرة استدعاء التراث الإسلامي:
يَلحَظ المطالع لدواوين الشعر الملايويَّة في حقبة الخمسينيَّات والستينيَّات ضعفًا واضحًا في الاستمداد من التراث الإسلامي الزاخر، بل يلحظ قلَّة الاكتراث بالاستناد إليه والتعويل عليه في بناء الرُّؤَى والتصوُّرات والمواقف إزاء القضايا المختلفة التي يتعرَّض لها، ويبدو القاموس الشعري لأغلب شُعَراء تلك الحقبة فقيرًا إلى حَدٍّ كبيرٍ في المفردات والرموز ذات الدلالات الإسلاميَّة[15].

وبرغم أنَّ التاريخ الملايوي وتراث المنطقة لم يكنْ غائبًا، إلا أنَّ حضوره كذلك لم يكن بالقدر الذي ينمُّ عن عنايةٍ كبيرة، وتقديرٍ عالٍ، ولربما كانت تجربة محمد حاجي صالح التي ظهرت متأخِّرة في السبعينيَّات حين قدَّم مجموعة أشعاره التاريخيَّة - أقول: ربما كانت هذه التجربة ملاحظةً منه لذلك النقص الكبير.

وإذا كان ضعفُ الارتباط بالتاريخ المحلي وعدم بروز الاعتزاز به يُبرِّره غلبة الأسطورة عليه، وقلَّة ما فيه من الإنجازات الحضاريَّة ذات القيمة الرفيعة، وبخاصَّة في الحقبة الإسلاميَّة التي ينتمي إليها شعراء الملايويين، بالإضافة إلى استئثار نزعة الاهتمام بالمستقبل باعتباره مسرحًا لإمكاناتٍ عديدة تستدرك ما فات، فإنَّ ضعف الاستمداد من التراث الإسلامي لا يبدو مُبرَّرًا لديَّ إلا بضيق الثقافة الإسلاميَّة لأولئك الشعراء، وقُصورها عن أنْ تكون مَوئِلاً يستمدُّون منه الرؤى والأفكار والرموز، وهو ما يُؤكِّده الناقد الماليزي المعروف مناسكنا بقوله: "إنَّ الجيل الجديد بدَا كما لو كان حريصًا على الابتعاد عن الفكر الإسلامي، ومن الأدباء آنذاك مَن كان يعتبر دخول عنصر إسلامي في عملٍ أدبي شيئًا يُضعِف قيمته، بالإضافة إلى أنَّ غالبيَّتهم لم ينالوا قسطًا كافيًا من التعليم الديني"[16].

ومن الطبعي أنَّ المؤسَّسات التربويَّة الدينيَّة التقليديَّة يَكادُ اهتمامها ينحَصِر في تنمية الوجدان الديني، وبثِّ المفاهيم الأساسية أو ما يُعرَف بفروض العين، مع ترك الفرصة لأصحاب المواهب الخاصَّة في مواصلة تحصيلهم العلمي بصورةٍ ذاتية؛ لتوسيع دائرة ثقافتهم الإسلاميَّة، وهو ما أشكُّ أنَّه كان في تلك الأجواء التي اكتنفت المرحلةَ محطَّ الاهتمام لدى الجيل الجديد الذي استأثرَتْ باهتمامه مظاهر الحياة الجديدة بدَواعِيها، ولا شكَّ أنَّ وهن ارتباط الروَّاد الذين أثرَوا التجربة الشعرية الملايوية بالثقافة الإسلامية - وهو الوهن الذي نلحظه بوضوحٍ في أشعارهم - قد انتقل إلى مَن بعدهم ممَّن تأثَّر بهم.

وربما كان للمادَّة الأدبيَّة التي توافَرتْ من خِلال الترجمة في معهد سلطان إدريس لتدريب المعلِّمين وغيره - ربما كان لها أثرٌ ما في ذلك؛ إذ إنَّ أغلبها كان يحمل الرؤية الغربيَّة، وكانت تتمُّ باختيار وتحت إشراف المعلِّمين الإنجليز بالمعهد؛ ومن ثَمَّ تمت عمليَّة تشكيل الوجدان الأدبي الحديث عبر تلك المواد المختارة التي كان لها ذُيُوع منذ العشرينيات[17].

وبرغم نُدرَة الاستِدعاء التراثي إلا أنَّ ذلك لا يعني انعدام استفادة البعض من التراث الإسلامي الزاخر، واللجوء إليه من حينٍ لآخَر، لاستعارة رمز أو قناع يُعبِّر الشاعر من خِلاله عن أفكاره، ومن الطبعي أنَّ العودة للتراث الإسلامي الملايوي كانت أكثر من الالتفات إلى التراث الإسلامي العام.

وبصفةٍ عامَّة: لم يبدُ الشعر في تلك الحقبة في محاولةٍ للوقوف موقف الدفاع عن الإسلام ضدَّ كلِّ ما يُشاع عنه، أو يُوجَّه إليه من سِهام الاتِّهامات، وندر - من ثَمَّ - في الديوان الشعري الملايوي آنذاك تجاربُ الدفاع عن التراث الإسلامي العام، أو الدفاع به، وهو الأمر الذي حاوَل شعراء السبعينيَّات تدارُكَه وبلغ التوجُّه - من ثَمَّ - أقصى نضجه بظهور الاتجاه الإسلامي في السبعينيَّات.

وبعدُ، فإنَّ التجربة الشعرية الملايوية - كما رأينا - تجربة ثرية بإنتاجها المتنوِّع، وخصائصها المميزة التي لفتَتْ إليها من قبلُ أنظار الكثيرين من نقَّاد الأدب وأساطينه شرقًا وغربًا، وقد تركت - ولم تزل - آثارها في الواقع الاجتماعي، وواكبت ورادت الحركة الوطنيَّة بالبلاد، وأسهمتْ في نهضتها وتقدُّمها بغير شكٍّ، وإذا كانت آثار التحوُّلات الكبرى التي طرأت على المنطقة قد انعكست سلبًا على مسيرتها نوعًا ما، إلا أنها تبقى ماضية واعدة بمستقبلٍ أكثر إشراقًا وحضورًا وفاعليَّة، ونأمُل أنْ تكون هذه الدراسة بما لمستْ من مواطن القوَّة والأصالة، وبما أبانَتْ من هناتٍ لم تزل بادية ملامحها - وسيلةً للتدارك والاستدراك، وهذا غاية ما يرجوه ناقدٌ حادبٌ بنقده، وهو عين ما تسعى إليه حركة أدبية ناشطة طَمُوح.

المصدر: مجلة الأدب الإسلامي - العدد 69، 1432هـ / 2011م.


</B>
رد مع اقتباس