عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم May 8, 2014, 11:25 AM
 
رد: أهم قراءة أولى في الأدب المهجري

الأدب المهجري: تأّثره بالغرب وتأثيره فيه ( 1 )

بقلم الكاتب: د. نعيم نعيمه

شرط الكلام على تأّثر وتأثير بين فرد وفرد أو جماعة وجماعة أو بين حضارة وحضارة، أن يكون لكل من الاثنين المتفاعلين شخصية واضحة وكيان معروف وهوية محددة، ألا يتوّفر ذلك في أي من الاثنين المتفاعلين، انقلب الكلام من تأثير وتأّثر بينهما إلى متبوع وتابع وصانع ومصنوع، بل إلى مولى مقطوع النسب وسيد به وإليه يتم الانتساب. لقد كان من الغرب الحديث في أخريات القرن الثامن عشر أن فاجأ العربية وأهلها في عقر ديارهم وهم في غفلة شبه تامة، لا عنه وعن حقيقة آدابه وتراثه وحضارته فقط، بل عن واقع حالهم هم وحقيقة لغتهم وآدابهم وتراثهم، بل عن هويتهم ومكانهم في التاريخ. جلّ ما كانوا يعونه من أمرهم، شعور غائم أّنهم عثمانيون، وأن غربا يقتحم أبوابهم كما فعل نابوليون في مصر 1798 لا يعدو كونه غراما متطفلا عن أرض هي أرض السلطان، على حد ما قاله أهل الإسكندرية ومماليك القاهرة لمحّذريهم الانكليز من خطر الفرنسيين: "هذه بلاد السلطان، وليس للفرنسيين ولا لغيرهم عليها سبب فاذهبوا عّنا... إذا جاء جميع الإفرنج فلا يقفون في مقابلتنا وإّننا سندوسهم بخيولنا". فلا عرب بلاد السلطان يومها، والتركية لغة أمتهم الرسمية، كانوا بالنسبة إلى أنفسهم عربا وأهل عربية حية فاعلة، ليؤّثر الغرب الطارئ بلغتهم وآدابهم، ولا الغرب هذا كان بالنسبة إليهم، والإسلام مرتكز دولتهم، أكثر من إفرنجي غامض مضلل متطفل مصيره حوافر خيولهم، كي يكون له تأثير في إسلامهم أو كي يتأّثروا بشيء من تراثه وحضارته. قصة التأثير والتأّثر في الآداب العربية منذ الجبرتي إذن، بل ربما قصة التراث العربي الحديث جميعا، هي في مدى استفاقة العربية وأهلها على ذاتهم كشعب وكتارث من جهة، وفي درجة يقظتهم من جهة أخرى بفعل تلك الاستفاقة ونتيجة لها، على هوية الغرب وحقيقة تراثه وحضارته. إذ ليس لنقيض أن يفعل أو ينفعل بنقيضه إلا في مدى وعيه حّقا كم هو مختلف ونقيض. لذلك يقتضي كل بحث في موضوع الأدب العربي وتأّثره بالغرب أو تأثيره فيه أن يتمحور حول مسألة الهوية. بين عرب بلاد السلطان المتحفزين لإبادة الغرب الطارئ ودوسه بحوافر خيولهم وبين المهجريين النازحين عن تلك البلاد في نيويورك، "دردور" الحياة الغربية، كما وصفها ميخائيل نعيمه، وأحد أهم مجسات نبضها، قرن كامل. إّنه قرن تململ أهل العربية واستفاقتهم المتنامية على ذاتهم كشعب وتراث تحت ضغط المد الغربي المتفاقم وبسبب منه. وإّنه ليصعب الإلمام بطبيعة الأثر الذي كان للغرب على الأدب العربي خلال تلك الفترة، وما بعدها، بما فيه المهجريون ومدرستهم التي نعتبر مقال أمين الريحاني "خطبة في التساهل الديني" سنة 1900 فاتحة لها، من غير أن نرافق عند أبناء العربية مسارهم الجدلي مع الغرب وتنامي وعيهم له ولأنفسهم كما انعكس في تراثهم حّتى في ذلك التاريخ. لعلّ أبرز ما يستوقف الباحث عند الجيل الأول من أجيال ما يمكن أن نسميه "الجدلية العربية الغربية في أرض السلطان" أثران اثنان استثارت كلا منهما ظاهرة واحدة هي نابوليون والوجود الفرنسي في المشرق العثماني، واحد للجبرتي في مصر وآخر لنقولا الترك، أحد شعراء بلاط الأمير بشير في لبنان. ففي الأول استفاضة في الكلام على ما كان للحملة النابوليونية من مساوئ وقباحات خاصة في ما يتعّلق بالقيم الأخلاقية والاجتماعية والروحية بحيث أن زوال تلك الحملة الملحدة يقرب من أن يكون قدرا إلهيا لصون نقاء حياة المصريين وشرف دينهم وتراثهم. لذلك لم يجد الجبرتي لتسمية كتابه خيرا من مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس. أما كتاب الترك تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية الذي يرجح أن يكون بتكليف من أميره الحريص، نظرا إلى موقعه الحساس، على معرفة طبيعة المستجدات حوله في المنطقة، فيتناول الحملة بروح أقل عداء وإن لم يكن أكثر قبولا. وإذا لم يغب عن باله أن نابوليون هو في الحقيقة ابن الثورة الفرنسية، يقبل على هذه الثورة، وبأسلوب لا يعوزه الذكاء، فيتحدث عن بعض مسبباتها ومرتكزاتها دون أن يذهل كما لم يذهل الجبرتي، عن أن جماعتها دهريون وأن خطرهم على الدين والأخلاق والمجتمع عميهم. ليس المقصود من الأثرين هنا التوقف عند المضامين، ذلك أن حقيقة الحملة وبطلها ومن ورائها الثورة الفرنسية بما أحدثته أو رمزت إليه من انقلاب هائل في مجرى الحياة الغربية برمتها، ظلت أبعد من أن يلم بها قلما الكاتبين. المهم في الأمر ما تجّلى واضحا عند الرجلين وعند أبناء جيل من متفقهي العصر حولهما، من تبديات شعور ال "نحن" وال "هم" فكانت تعني "الفرنجة" أو الغرب على وجه العموم، على تنسم، وإن بعد غامضا، لما يعنيه ذلك الغرب، خاصة غرب الحداثة بالمعنى العلمي والفكري والحضاري، وأما ال "نحن" وقد أصابتها الهزة وعصفت بسقفها ريح الحداثة فلم يعد بوسعها أن تبقى مستكينة تحت ذلك السقف مطمئنة إلى ثوابت وجودها ومطلقات قناعاتها ولا نهائية نظرتها إلى الكون والحياة. لقد تسبب الغرب في المنطقة، إضافة إلى الهزة العسكرية التي أحدثها مجيئه، بعدد من الأفكار والممارسات وطرائق الحياة التي كانت مغايرة، بل نقيضة للمعهود والمسّلم به والمتعارف عليه. وهكذا لم يعد ممكنا لهذه ال"نحن" باسم هويتها الضبابية القائمة أن تتعامل مع هذه المستجدات بمجرد التجاهر والرفض. فحّتى الرفض ذاته أصبح يقتضي العودة إلى الذات لتبرير ما هو مقبول. وهكذا دخلت الذات العربية ما بعد جيل الجبرتي والترك، وقد هزها الغرب وربما لأول مرة في تاريخها الحديث، جدلية الرفض والقبول. فالجبرتي مثلا، الذي كان في رأس ما أزعجه عند الفرنسيين فساد المرأة وتفّلتها في مقابل المرأة المسلمة المتميزة، يسترسل في الكلام على فظاعة هذا المسلك، وخطره على دين أهل الإسلام وأخلاقهم وقيمهم. ولا يخفى تشّفيه المثلج بابنة البكري التي خالطت، وعددا من مثيلاتها، الفرنسيين وتشبهت بهم، عندما دّقوا عنقها بعد رحيل الحملة وعودة مصر ثانية إلى سلامة ما كانت سابقا عليه. أما المفارقة ففي أن ما ارتاح له الجبرتي بعد جلاء الفرنجة من إغلاق لباب المرأة، ومن اطمئنان إلى سلامة هويتها من المؤّثرات الغربية، لم يكن إغلاقا على الإطلاق، بل كان فتحا لذلك الباب من حيث لم يدر الجبرتي يومها، على قضية مستحدثة لا عهد للتراث بها من قبل: إّنها المسألة النسانية التي ما لبثت أن شغلت فكر ما بعد الجبرتي من الطهطاوي مرورا بقاسم أمين واستطرادا حّتى العصر الحاضر. إلا أن مشكلة هذا الفكر جميعا ففي أّنه من منطلق الإيمان بوجود هوية ثابتة ومميزة للمرأة المسلمة وبوجوب بلورتها والحفاظ عليها في مقابل المرأة الغربية المباينة، عمد إلى تحريك تلك الهوية وإعادة رسمها باستمرار، بحيث غدت عند واحدة كنوال السعداوي في أخريات هذا القرن، غربية خالصة، زواجا وطلاقا وعملا وحرية واستقلالا وقيما وغيرها، تكاد لا تحمل من سماتها الأولى غير الاسم. فالمفارقة هي في أن المرأة الشرقية من حيث المبدأ لم تصبح غربية لأّنها تنكرت لذاتها وتغربت، بل أن الحرص على التباين من باب إعادة رسم الهوية وترسيخها هو الذي أفضى في نهاية الأمر إلى التماثل. والذي يقال في المرأة وقضيتها في ضوء جدلية الرفض والقبول، وال"نحن" وال"هم" التي دخلها أهل العربية منذ مطلع القرن الماضي، يصح أيضا وبالتمام في مجمل ما أتى به الغرب إلى الشرق من مقومات ترتكز إليها هويته الحضارية الحديثة: من شريعة وسلطة مصدرهما الشعب وليس الله، إلى علمانية تفصل في المجتمع بين الحياة الدينية والحياة المدنية، وفي المعرفة بين ما يتعّلق منها بالطبيعة وما يّتصل منها بعالم الماوراء، إلى تركيز على الفرد كقيمة نهائية، إرادة وحرية فعل وفكر واعتقاد، إلى الديموقراطية كسبيل أمثل للحكم، إلى الأمة المّتخذة من الأرض والتاريخ والنفع القومي مبدأ انتماء، إلى غير ذلك مما يتصل بهذه جميعا ويتفرع عنها ويكون ما اصطلح على تسميته الغرب الحديث. وأّنه من باب الحرص نفسه كما في المسألة النسائية على التباين بين ال"نحن" وال"هم" في كل هذه القضايا، أن أفضى الأمر بالنسبة إليها جميعا إلى تماثل يكاد يكون خالصا.

فالطهطاوي مثلا الذي عايش في باريس أواخر العشرينات من القرن الماضي نظرة أوروبا الوضعية العلمانية إلى المجتمع والشريعة والسلطة والفضائل والمعارف والعلوم، لم يستطع، على إعجابه بمنجزات الغرب، أن يتقبل النظرة الكامنة وراءها. وهكذا وجد نفسه مسوقا، مراعاة لهذا الإعجاب من جهة وحرصا على التميز هوية من جهة أخرى، إلى تحريك تلك الهوية معتبرا، وفي ذهنه كمسلم أن الله خالق كل شيء بما في ذلك الطبيعة، أن لا كبير فرق بين مبادئ القانون الطبيعي الوضعي ومبادئ القانون الإلهي المتمّثل في الشريعة الإسلامية، فاتحا هكذا الباب أمام الجيل اللاحق للتأكيد بلسان إمام ذلك الجيل الشيخ محمد عبده في مقولته فقد كان من شأن هذه المقولة عند الأجيال التالية من مريدي .« الإسلام دين العلم والعقل والمدنية » : الشهيرة الإمام، لا أن تعطي العقل والعلم والمدنية هوية إسلامية كما هو مقتضى التميز المطلوب، بل أن تضفي على الإسلام هوية علمية بالمعنى الغربي للعمل، فينتهي بذلك إلى التماثل الذي سبق رفضه. ذلك بين لا في تفسير الإمام عبده للقرآن الكريم فقط حيث يحاول فهم الكثير من آيات الكتاب في ضوء معطيات العلوم الحديثة، بل في أعمال تلامذته ومتأّثري مدرسته من قاسم أمين إلى علي عبد الرازق وحسين هيكل ولطفي السيد وطه حسين في القرن العشرين. إذا كان الإسلام هويتي التي بها أتميز، وكان في الوقت نفسه دين العلم والمدنية، مناص، إذا أدت العلوم الوضعية في الغرب إلى اعتماد العلمنة، من أن اعتبر الإسلام قائلا بها كذلك. وهكذا خرج كتاب عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم بأن الإسلام لم يكن دولة في الأصل إذ لا نص على الخلافة في القرآن ولا هي في السّنة ولا حصل بشأنها إجماع. بل "الحق أن الإسلام بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون"، التي كانت "نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد" وإذ زال هكذا كون الإسلام دينا ودولة انفتح الباب أمام المشرقي على مصراعيه كي يكون مسلما إيمانا وهوية، وعلمانيا في الوقت ذاته، ذا نظرة وضعية غربية خالصة إلى سائر شؤون الكون والحياة. أما وقد بلغ التمايز عند جيل عبد الرازق بمن فيهم لطفي السيد وحسين هيكل في الباكر من إنتاجه حد التماثل، خاصة في مجال الفكر القومي والقومية المصرية، فأي جدوى يمكن بعد أن تجنى من بقاء ال"هم" وال"نحن". وهكذا يأتي طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر تتويجا لهذا المسار، فيلغي الجدلية من جذورها ويدمج ال"نحن" بال"هم" على أساس أّننا والغرب أبناء حضارة واحدة والمقومات موحدة الجذور والمنطلقات والأهداف، فلا تمايز أو تماثل ولا رفض أو قبول، بل "سنسير سيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع" جاهدين في أن نمحو من قلوب المصريين، أفرادا وجماعات، هذا الوهم الآثم الشنيع الذي يصور لهم أّنهم خلقوا من طينة غير طينة الأوروبي وفطروا على أمزجة الأوروبية، ومنحوا عقولا غير العقول الأوروبية... علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء، قابلين ما في ذلك من حسنات وسيئات... علينا أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره وما يحمد فيها وما يعاب. إذا كانت جدلية الرفض والقبول قد أفضت بمسلمي العربية تحت شعار التمايز هوية وحضارة، إلى التماثل التام بل إلى الوحدة الخالصة فشرعنت دخول الغرب حضاريا إلى المنطقة من الباب الأوسع، فإّنها بالنسبة إلى مسيحي العربية منذ بدايات القرن وحّتى المهجرين قد سلكت، وإن على تواز، خطا آخر ترتبت عليه نتائج مختلفة. ذلك أن مبدأ ال"نحن" في المنطقة عند من استجار به من مسيحيي العربية في وجه ال"هم"، لم يكن الإسلام بل اللغة العربية. والأصعب والأصعب أن يفسر تفسيرا كاملا هذا الإقبال الملفت عند مثقفي المسيحيين المحليين منذ أوائل القرن الثامن عشر، على العربية وسائر علومها امتدادا من حلب إلى لبنان ولبنانيي مصر على امتداد القرن التاسع عشر. إن محاولات هؤلاء التعبيرية حّتى بدايات القرن الماضي ظّلت على وجه العموم ركيكة ومخلخلة مما جعل شاعر أحد بلاطات بغداد في حينه يحجم مثلا عن أن يحتفل بقصيدة شائعة ألا فاعفنا من رد شعر » : لأحد شعراء الأمير الشهابي في لبنان طلب إليه سيده داود باشا أن يعارضها، قائلا تنصرا. ألا إّنها ركاكة كان يحتدم خلفها جهد حار لتجاوزها إلى عربية أولى أصيلة خالصة تطلب لذاتها لا كوسيلة تقتضيها حاجة إلى إبلاغ، في ضوء هذا تفهم تلك الغيرة الشديدة مثلا التي يبديها نقولا الترك في إحدى قصائده على الشعر، بسبب قصور مجايليه الفاضح عن الوفاء بمقتضياته البنائية وصون مقدساته اللغطية وحرماتها. كما يفهم حرصه على التزام الأسلوب المقامي في التوجه إلى مولاه الأمير بشير وفي محاولاته الترفيه عنه.

ثم نبدأ فى الجزء التالى من ( الأدب المهجري: تأّثره بالغرب وتأثيره فيه2 )
الأدب المهجري: تأّثره بالغرب وتأثيره فيه2

بقلم الكاتب: د. نعيم نعيمه

ويقفز هذا الولاء الخالص للعربية وعلومها على أيدي الجيل اللاحق ممّثلا برجالات كناصيف اليازجي وفارس الشدياق وغيرهما قفزة تكاد تفوق كل توقع. ففي أعمال ك مجمع البحرين وسر الليال والجاسوس على القاموس والساق على الساق ومحيط المحيط ما يجعل أصحابها لا لغويين ممتازين فقط بل أئمة العربية في مختلف ديارها بلا منازع. وإن ما يلفت في كتاب ك مجمع البحرين، ليس فقط تلك الإحاطة الموسوعية بالعربية وفنونها وبمختلف ما يمكن لّلغوي أن يستحدثه من تحديات تعجيزية في هذه المجالات، بل أيضا توزيع مقاماته الستين على مختلف مدن العربية وقبائلها وديارها في أرضها التاريخية، من اليمن في أقصى الجنوب إلى الحجاز ومدنه ونجد وقبائلها إلى العراق وتخومه وسوريا وتوابعها وصولا إلى أنطاكية ونزولا إلى فلسطين وغزة ووادي النيل. إّنه ليصعب إزاء كل هذا ألا يخرج الباحث بأن هذا الإلحاح على اللغة وديارها عند مسيحيي العربية أكثر من مجرد هوس لغوي. فكأن فيه إثباتا لمبدأ هوية وتميز قوامه انتماء إلى أمة كانت العربية كما لم تزل علامتها الفارقة. فهي قوام ال "نحن" الذي في ضوئه يتم التميز عن ال"هم" ويتحدد مبدأ الفرض والقبول. أما أن هذه اللغة قد بدأت فعلا تتحول إلى عقيدة، فطلائعه ظاهرة واضحة عند غير واحد من الجيل اللاحق في حدود .« تنبهوا واستفيقوا أيها العرب » : منقلب القرن، كما في القصيدة الشهيرة لليازجي الإبن التي مطلعها إلا أن المفارقة في هذا المسار المسيحي، ليست في أّنه تحول باللغة إلى عقيدة فتحتم على العربية العقيدة أن تصطدم بعقيدة أخرى قائمة فعلا في صلبها وهي الإسلام، ذلك أن بالإمكان اعتبار الإسلام كما المسيحية المشرقية في جملة ما ينتمي إلى هذه العلامة الفارقة التي هي العربية، ولا حرج في اجتماع أبناء العقيدتين في ظلّ العقيدة اللغوية الجامعة. المفارقة الحّقة هي في أن ال"نحن" القائمة على اللغة كمبدأ هوية وتميز ستفضي إلى تصنيف ال"هم" من منطلق لغوي أيضا، فيغدو التمايز، أو مبدأ الرفض والقبول قائما على جدلية لغوية لا على جدلية مضامين. وهكذا لم يلبث العربي الجاهد في سبيل التميز هوية، أن غدا متميزا نطقا فقط. أما مضمون النطق، أما الناطق نفسه الذي ظلّ خارج الجدلية فلم يشمله الرفض وأضحى بالتالي غريبا خالصا. وبالغربنة هنا لا نعني فقط ما انتهى إليه نصارى العربية بعد منقلب القرن الماضي والعقود الأولى لهذا القرن من القول بالقومية عربية أكانت أم سورية أم محلية، أم بالاشتراكيات على أنواعها أثناء ذلك وبعده - وكل ذلك قائم على نظرة غربية خالصة، وإن معربنة، إلى الحياة المجتمع وطبيعة الأشياء- بل نعنيبا لغربنة أيضا، الفكر العربي المسيحي وما رافقه من أدب عربي على امتداد القرن التاسع عشر، من داروينية شبلي الشميل الاجتماعية، وسبنسرية يعقوب صروف وجماعة المقتطف وحّتى علمانية فرح انطون. إن هذا الفكر هو في حقيقة أمره فكر بالعربية لا فكر عربي. كذلك كان ما رافقه من أدب، أدبا بالعربية لا أدبا عربيا. ذلك أن الذي كانت تجسده الأقصوصة أو الرواية أو المسرحية أو غيرها من الفنون الأدبية المستحدثة والمقتبسة لم يكن شخصيات وأحداثا ومواجد عربية تقتضي بطبيعتها أساليب فنية بعينها للخروج متكاملة إلى النور، بل كان في مجمله أدبا غربيا يّتخذ من هذه الشخصيات وهذه الأحداث والمواجد ظاهرا عربيا. لقد كان من شأن مسرح مارون النقاش مثلا، أو روايات سليم البستاني ويعقوب صروف وحّتى محاولات جرجي زيدان في الرواية التاريخية، أن تسّلي العربي أو تمّتعه، أو تزيده ثقافة، معتمدة في ذلك المقتضيات الشكلية لهذه الفنون المستوردة. لكن ليس بينها واحدة تناولت النفس العربية لا كما يقتضيه الشكل بل كما تمليه الموجبات الضمنية لهذه الفنون، كأن نقبل على الذات العربية لا لنزيدها عن طريق الفن تسلية أو متعة أو معرفة أو ثقافة أو غير ذلك. فهذه شؤون كمية، الكم تعميمي، ولا شأن للفن الذي دأبه الفرادة، بعالم الكميات. فالفرادة تقتضي تناول الذات العربية لا من حيث الكم بل من حيث الكيف، فندخل إليها لا لنزيدها من هذا الأمر أو ذاك، بل لنبرز كم هي خصوصية في إقبالها على هذا الأمر أو ذاك وكم هي في كل ذلك فريدة ومتميزة ومستوجبة في تميزها تعبيرا متميزا. لم يكن متوقعا من الأدب العربي خلال القرن التاسع عشر وقد أفضت جدلية الرفض والقبول بأربابه، من حرص على التمايز إلى التماثل بل إلى الانصهار التام، أن يتكشف عن أي فرادة إن في مساره الإسلامي أو المسيحي.

فالانصهار الحضاري التام في المسار الإسلامي بين أبناء العربية والغرب الذي توجه أيديولوجيا طه حسين في العقد الرابع من القرن العشرين، كان قد انتهى إليه في العقد السادس من القرن الماضي، وإن بمنطق مختلف نسبيا، المعلم بطرس البستاني الذي يمكن أن يعتبر بحق إمام التجديد في حركة مسيحيي العربية آنئذ والروح الكامنة وراءها والمسددة لمسارها حّتى نهاية القرن. ففي محاولاته الحثيثة لجعل العرب ينفتحون على الغرب الحديث بعلومه وثقافته وحضارته من غير أن يشعروا هوية بالاغتراب، ذكر بما كان لأجدادنا أيام العباسيين من ثقة بالنفس في انفتاحهم على مختلف الحضارات الغربية وتعريبها وهضمها وتمثلها والبناء عليها. فانفتاحنا اليوم على تراث غريب لن يكون سوى انسجام مع ماضينا من جهة، واسترداد من جهة أخرى لحضارتنا نحن التي استدانها الغرب نفسه زمن كنا غافلين، وهاهو اليوم يعيدها إلينا مع فلتب ّ شر بنو سام لأن أولاد » : الفائدة. فالحضارة هذه إذن ليست اثنتين بل واحدة ولا فرق بين عربي وغربي عمهم بني يافت قد ابتدأوا يرجعون لهم ما أخذوه منهم مطبوعا وعلى ظهره اكتشافاتهم المتأخرة نظير فائدة لا .« رباء عن مدة أربعمائة سنة الهجرة اقتلاع، لذلك هي حنين إلى الجذور، من هنا كانت جدلية المغترب مع ديار غربته جدلية كيانية وجودية لا جدلية نظرية تتصل باللغة أو بالثقافة أو بالدين أو بالقومية أو غيرها من إيديولوجيات انتماء، كما كان واقع الأمر عند أهل العربية القائمين في ديارهم إذ واجهوا الغرب الحديث. فالمغترب قد يحتفظ في ديارغربته بلغته ودينه وثقافته وأيديولوجياته على أنواعها ويبقى مع ذلك غريبا، ذلك أن هذه جميعا إضافات على الذات من غير أن تكون هي الذات التي تحملها. في الجدليات تسقط الإضافات وتبقى الذات، فإن لم تكن ذات وكانت إضافات فقط عند أحد النقيضين، أفضى التباين إلى تماثل واتحاد، وهو ما كان من أمر مقيمي العربية مع الغرب الحديث وإنسانه. أما حنين المقتلع إلى جذوره، فهو في عمق حقيقته حنين إلى الذات التي كانت في الأصل قبل أن تطرأ عليها الإضافات: كانت في الأصل، فكانت لها بعد ذلك الإضافات: من إطلالتها الخاصة على الوجود، إلى تراثها المتميز الناتج عن خصائص كيانها وطبيعة تركيبها الروحي والذهني والشعوري لغة أكان أم دينا أم ثقافة أم حضارة. جدلية المهجريين في دار هجرتهم مع الغرب إذن لم تكن في عمقها جدلية إضافات، بل كانت عملية مواجهة بين ذات وذات، أو بين إنسان وإنسان؛ بين إنسان مشرقي عربي له مقوماته الذاتية الأصيلة التي تملي عليه نظرته الخاصة إلى الكون والحياة، وبين إنسان غربي له أيضا مقوماته ونظرته إلى الحياة والوجود. الإنسان، كسائر الكائنات جبلة وطبيعة، وأّنه من غير الممكن تغيير جبلة الأشياء من خارج طبيعتها. لذلك كان من شأن مواجهة الإنسان المهجري للغرب، وإن مست فيه بعض الإضافات كأن يستبدل عربيته بالانكليزية أو قناعته بغيرها من القناعات أو نظام حياته بنظام آخر، ألا تمس هويته التي كأّنها في الأصل بل أن تزيده نزوعا إليها وتشبثا بالولاء لها ووضوح رؤية لجوهر حقيقتها. ففيما كان مقيمو العربية ينزحون حضاريا في ديارهم فيها إلى تماثل مع غرب دخيل عليها، كان نزوح المهجريين من غرب هم فيه إلى التميز ذاتا وحضارة في شرق عربي ينتمون أصلا إليه. فكأن مشرقية المقيمين ما كانت إلا لتزيدهم تغربا وكأن تغرب المهجريين ما كان إلا ليزيدهم مشرقية. ففي حين كان طه حسين مثلا يدعو أبناء قومه في أواسط أن نسير سيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع... وأن نصبح أوروبيين في كل » الثلاثينات إلى كان ميخائيل نعيمه يخاطب أبناء بلاده بعد « ... شيء... ونسلك طريقهم... لنكون لهم شركاء في الحضارة مدينة » ، شهر من وصوله في حزيران 1932 إليها تاركا خلفه عشرين سنة من الاغتراب في نيويورك وأنتم يا أبناء بلادي ليس يؤلمني من أمركم شيئا على قدر ما » : كما أطلق عليها، قائلا « الآلات والأزمات يؤلمني تطلعكم إلى الغرب، وجهدكم في تقليد مدنيته المحتضرة، واحتقاركم لأنفسكم ولكل ما فيكم من غنى فطري وعري روحي... يا أبناء بلادي، لا يبهرنكم برق يلعلع في عيون المدنية الغربية- إّنه لبرق خلب، ولا يهولنكم رعد يزمجر .« في صدرها- إّنه لحشرجة الموت الآلات » وبعد عشر سنين من اغترابه في الثانية عشرة من عمره إلى نيويورك، وانخراطه في مدينة نفسها، يسلك أمين الريحاني في بعض قراءاته الإنكليزية ما ارتد به إلى قومه وهو بعد يكاد لا « والأزمات يعرف عن هويتهم شيئا. يغوص في لجة ما يقرأ في التراث الغربي فلا يلبث أن يجد نفسه منسربا فيه إلى صاحب كتاب « كارليل » المشرقي فكرا وتصوفا، إلى « أمرسن » مجاري تعود به إلى مشرقه العربي من في كتابه عن حمراء الأندلس، إلى غيرهم من الغربيين « إيرفن » الأبطال، وعلى رأسهم النبي محمد، إلى النزاعين إلى الشرق. وهكذا تجري الجدلية بالريحاني لا من التباين إلى التماثل والانصهار بل من التماثل، وكان كارليل أول من عاد بي من وراء البحار إلى بلاد العرب... لله أنت أيها » : ارتدادا إلى الذات المتميزة البلاد العربية التي لم يشأ الله أن أجهلك حياتي كلها، فبعث إلي، وأنا بعيد عنك، إنكليزيا يعرفني إلى رسولك وأمريكيا يصف لي محاسن أبنائك... فصرت أحلم بذلك المجد الماضي أحلاما تمّثلني حيا فيه أو تمثله حيا أمامي... وكنت لا أعرف من لغتي غير اليسير اليسير، فتغلغلت في سراديبها دون أن أرثي لحالي

قرأت اللزوميات معجبا بها، ثم قرأتها مترّنحا ورحت أفاخر بأّني من الأمة التي نبغ فيها هذا الشاعر الحر الجسور.« الحكيم يروي نسيب عريضة، الذي كان قد مضى عليه أيضا ما يقرب العقدين من « قصة الصمصامة » وفي بقوة » في نيويورك وانجذابه « الميتروبوليتان » الاغتراب في مدينة الآلات والأزمات، قصة زيارته لمتحف خفية إلى قفص من البلور منفرد... فيه سيف وحيد قد سلّ بعضه من غمده ألقى على قطعة من الحرير .« سيف أبي عبد الله آخر أمراء العرب في الأندلس » : ورقعة من تحته تقول « شرقية النسيج والزركشة وعندما يهز الحارس كنف الكاتب مشيرا إلى موعد الإقفال، ينتبه إلى أّنه قد مضى عليه ذاهلا ساعات أمام ذلك القفص، قص السيف عليه خلالها مفارقات تنّقله العجيب منذ عهده بالوجود من يد قحطان، جد العرب العاربة، إلى ابن ذي يزن فهانيء بن مسعود الشيباني ومعركة ذي قار، إلى خالد بن الوليد، فالقادسية وهكذا مرورا بجملة من أبطال العربية ووقائعها الفاصلة في التاريخ شرقا وغربا حّتى انتهاء آخر معاقل مجدها على يد الغرب في الأندلس. قد كان بالإمكان التوّقف عند هذا الحد من استنطاق عريضة للسيف واعتبار ذلك الاستنطاق خيالات مغترب يحن في ديار هجرية إلى قومه وحضارته. إلا أن في القصة، بغض النظر عن مستواها الفني، جملة رموز دالة تتخطى مسألة الحنين والتخيل لتنفذ إلى الذات العربية كما ترى نفسها في تكونها البدئي، وكما تتمثل تبعا لذلك دورها الخصوصي في الحياة والوجود. فعندما يروي السيف عن بدء تكوينه، وهو في قصة عريضة رمز العروبة منذ تفتحها على الوجود، نفهم أّنه لم يصنع كما تصنع سائر السيوف من معدن ترابي. إّنه ليس كنت » مجرد سيف آخر بين أسياف مماثلة عرفتها سائر الحضارات والشعوب في التاريخ أو ستعرفها بل في أول أمري نارا سائلة في أحد النجوم القصية يضيء نوري بين الدراري في السماء. ولأمر ما من أمور الباري الخفية أُهبطت إلى الأرض في هيئة نيزك... في بلاد العرب النبيلة في طليعة تاريخها، فعثر علي قين.« يماني... أتم صقالي فصاغني سيفا يخطف البصر وهكذا كانت العروبة منذ البدء كما يرمز إليها سيف عريضة، ذاتا رسولية خصوصيتها أن تنير الأرض باسم السماء وأن تبدد الظلمة باسم النور وأن ترتفع بالسفلى عن طريق ما هو أعلى. من هنا جاء إعلانها على لقد أرسل الله إليها نارا من » : لسان السيف منذ يومها الأول في ضبابية التاريخ، ولعلّ ذلك كان في عدن.« السماء لنشعل المسكونة، فلتستعد جيوشنا لافتتاح الأرض ويرمز جبران خليل جبران، بعد ما يقارب العقود الثلاثة من اغترابه في غرب العلم والمختبر والآلة، إلى هذا العلوي الذي هو هاجس الذات المشرقية، ب إرم ذات العماد المدينة الأسطورية المغيبة في مجاهل الربع الخالي. أّنها مدينة الكشف الروحي التي ما لم تبلغها الذات وتطل من خلالها على العالم ظلت جميع معارفها المتعّلقة بدنيا المحسوسات والمجسدات جهالات مموهة باليقين. ذلك أن الشفيف سابق للمكثف والرؤيات سابقة للمرئي الذي هو الصورة المكثفة المعتمة لنورانيتها، أو كما تقول آمنة العلوية، بطلة حوارية جبران التي.« أن الخيال حقيقة لم تتحجر بعد » : تمكنت من بلوغ أرم وعادت لتعلم في ضوء ما خبرت لعلّ هذه النزعة الإرمية بالضبط هي ما كان معول جبران في موضوع التأثير والتأّثر بين شرق العربية والغرب الحديث إذ ألح على أن تكون للشرق ذاته المميزة ومعدته الخاصة، حّتى إذا تناول شيئا من مطابخ بدون أضراس تقضم ولا معدة تهضم، فالطعام يذهب سدى » الغرب حوله إلى ذاته هو. فإذا كان هذا الشرق بل ينقلب سما قاتلا... أما الشرقيون في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه ولكنه لا يتحول إلى كيانهم الشرقي بل يحولهم إلى شبه غربيين. إن روح الغرب صديق وعدو لنا... صديق إذا فتحنا .« له قلوبنا وعدو إذا وهبنا له قلوبنا
رد مع اقتباس