عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم September 14, 2009, 04:19 AM
 
بين التاريخ و الواقع؟الجزا الاول كتاب رائع

بين التاريخ والواقع


الجزء الأول


د. راغب السرجاني








المقدمة


إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدًا.. وأشهد أنه لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
ثم أما بعد..
فإنه قد تبين لي بعد دراسة أحسبها مستفيضة، واطلاع لا بأس به، أنه لا جديد على الأرض!!.. فالتاريخ يكرر نفسه بصورةعجيبة.. ونفس الأحداث نراها من جديد رأي العين، فقط باختلاف يسير، يكاد لا يتعدى الأسماء و الأمكنة..
ولذلك فالمتعمق في التاريخ يقرأ ببساطة ما يحدث على وجه الأرض من أمور، ولا يُخدع بسهولة، مهما تفاقمت المؤامرات، ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.. فهو وكأنه فعلاً يرى المستقبل!! إنه يعرف بوضوح أين يضع قدمه، ويعرف كذلك كيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته.. فهو كالشمس الساطعة، تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد أثره إلى يوم تقوم الساعة،كيف لا؟!.. وقد ذكرنا من قبل أنه لا جديد على الأرض..
ويكفينا للدلالة على أهمية التاريخ أن نفقه الأمر الإلهي الحكيم: "فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الأعراف: 176)، فقصُّ القصة، أو رواية الرواية، لا يغني شيئاً إن لم يُتبَع بتفكر.. ودراسة التاريخ ليست دراسة تكميلية أو جانبية أو تطوعية، إنما هي ركن أساسي من أركان بناء الأمة القوية الصحيحة.
في جمعنا بين التاريخ والواقع نعرض لأمور لا تستقيم حياة المسلمين بغيرها، فنحن نعرض لأمور من العقيدة، وأمور من الفقه، وأمور من الأخلاق، وأمور من المعاملات، وأمور من الأحكام.. ونعرض كذلك لفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه الواقع.. أو إن شئت فقل:نعرض لكل أمور الدين..
هكذا علمنا الله Uفي كتابه الحكيم، فهو يقص القصة، ويعرض فيها الحُجَّة التي تقنع العقل،ثم يعرض فيها الرقيقة التي تلمس القلب، وقد يعرض فيها أمراً عقائدياً، وقد يعرض فيها حكمًا فقهيًا، ثم هو يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع، والماضي بالحاضر.. فتشعر أن التاريخ حيٌ ينبض، ولسانٌ ينطق.. وتكاد تجزم أنه لا يحدثنا عن رجال ماتوا ، ولا عن بلاد طواها التاريخ، إنما هو يحدثنا عن أحداثنا، وينبئنا بأنبائنا، ويخبرنا بأخبارنا.
والتاريخ – من هذا المنظور - ثروة مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود، وتفريغ وقت، وحشد طاقات، وتحتاج إلى عقول وقلوب وجوارح.
لقد واجه المسلمون في تاريخهم كل أشكال المآزق والمحن والمشكلات، كما واجهوا عديدًا من الأعداء، وقد أثمر ذلك تجارب ضخمة تضم في ثناياها ما واجهته البشرية على مدار تاريخها الطويل.
وقد قامت الحضارة الإسلامية في بقاع مختلفة من العالم: في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وكان تنوع الأصول العرقية المسلمين دافعًا لتنوع الثقافات، ومع ذلك فإنَّ الدين الإسلامي قد صهر الجميع في بوتقة واحدة يشعر الجميع فيها بشعور واحد؛ فيفرحون لنفس الأسباب، ويحزنون لنفس الأسباب؛ فهي إذن أمة واحدة منحت البشرية رصيدًا ضخمًا من التجارب الإنسانية.
والتاريخ الإسلامي هو - ولا شك في ذلك - أنقي وأزهي وأعظم وأدق تاريخ عرفته البشرية، وسعدت الدنيا بتدوينه... فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة ، وأمة خاتمة, وأمة صالحة، وأمة تقية نقية، وهو تاريخ أمة آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، داعية إلى كل خير، محاربة لكل شر.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ رجال ما عرف التاريخ أمثالهم أبداً، فهم رجال فقهوا دينهم ودنياهم، فأداروا الدنيا بحكمة، وعيونهم على الآخرة.. فتحققت المعادلة الصعبة العجيبة: عزٌ في الدنيا، وعزٌ في الآخرة، ومجد في الدنيا، ومجد في الآخرة، ومُلك في الدنيا، ومُلك في الآخرة.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ حضارة جمعت كل مجالات الحياة في منظومة رائعة راقية, جمعت الأخلاق و السياسة و الاجتماع و الاقتصاد والمعمار والقضاء والترفيه والقوة والإعداد والذكاء والتدبير.. جمعت كل ذلك جنباً إلي جنب مع سلامة العقيدة، وصحة العبادة،وصدق التوجه، ونبل الغاية.. وصدق الله تعالي إذ يقول: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً(.
هذا هو التاريخ الإسلامي في أصله وجوهره..
ولا يمنع ذلك أن هذا التاريخ العظيم يحوي أخطاءً، بعضها عظيم، ويشمل عيوباً بعضها خطير، وإنه لمن العبث أن ندعي أنه بياض بلا سواد..و نقاء بلا شوائب، لكن من الظلم البين أن نلصق أخطاء المسلمين بدين الإسلام..فالإسلام دينٌ لا ثغرة فيه، ولا خطأ فيه، ولا عيب فيه.. فهو دينمُحكَم تام كامل، أنزله الذي يعلم السر وأخفى..سبحانه هو الحكيم الخبير.. ومن خالف دين الإسلام من المسلمين فوباله على نفسه، وليس على الإسلام..
وكثيرًا ما يخالف الناس فتحدث هزات وسقطات، لكنها ما تلبث أن تتبع بقيام، وذلك إذا ثابوا إلي رشدهم، وعادوا إلي دينهم، وإلا استبدلهم القوي العزيز بغيرهم من المجاهدين الصابرين الطاهرين..
ثم وقفة وسؤال!!
هذه الثروة الثمينة، وهذا الكنز العظيم..ثروة التاريخ الإسلامي الطويل..
مَن مِن البشر في زماننا أَمِنَّاه عليها؟!
مَن مِن البشر أعطيناه مفاتيح الكنوز التاريخية لينقب فيها ويستخرج جواهرها ؟!
مَن مِن البشر أسلمناه أُذُننا و عقولنا وأفئدتنا ليلقي عليها ما استنبط من أحكام وما عقله من أحداث؟!..
وا عجباً لأمتنا!! ..لقد أعطت ذلك لحفنة من الأشرار.. طائفة من المستشرقين الأجانب، وطائفة من المفتونين بهم من أبناء المسلمين!!.. لقد تسلم هؤلاء كنز التاريخ، لينهبوا أجمل ما فيه، وليغيروا ويبدلوا ويزوروا !!.. حتى خرج التاريخ إلينا مسخًا مشوهًا عجيبًا.. وقُطعت بذلك حلقة المجد، وانفصل المسلمون في حاضرهم عن ماضيهم، كما تنفصل الروح عن الجسد تماماً بتمام..
لقد انتبه الشباب فوجدوا بين أيديهم سجلاً حافلاً من الصراعات والمؤامرات والخيانات والسرقات..صفحات سوداء تتلوها صفحات أسود..واحتار الشباب في تاريخهم، أيمسكونه على هونٍ، أم يدسونه في التراب ؟!! ..
يا للجريمة البشعة!!
فويلٌ ثم ويل لمن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم ..
وويل ثم ويل لأبناء المسلمين الذي فتنوا بمناهج العلمانية، فصاغوا التاريخ صياغة مشوهة مزورة محرفة، فحرموا المسلمين من أمثلة عملية تطبيقية رائعة لكل أمر من أمور الدين..
وويل ثم ويل لمن يقدر على التصحيح فلم يفعل ، ولمن يقدر على التوضيح و التبيين فلم يفعل..ولمن يقدر على النصح والإرشاد فلم يفعل..
يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ( إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذٍ ككاتم ما أنزل على محمدr )..
إن التاريخ الإسلامي ليس قصصًا للتسلية، وليس كذلك سبيلاً للفخر بأمجاد المسلمين الأوائل في أوقات قوتهم دون أن نتعلم منهم كيف أسسوا الدول والحضارات، وإنما هو – في حقيقته – دروس نتعلم منها كيف نقرأ الحاضر ونصنع المستقبل، ونعرف منها ماذا يريد أعداؤنا منَّا على الحقيقة، ونعرف لماذا علا أسلافنا في عهود قوتهم، ولماذا انتصر عليهم العدو في أوقات الضعف، ولماذا كان ذلك القوة، وكان الضعف من الأساس.
وبين أيدينا هذه المحاولة الطيبة التي تسعى لربط التاريخ بالواقع، والتي نُشِرت وما زالت تُنشَر على موقع (قصة الإسلامislamstory.com ( لتتجلَّى الحقائق ناصة أمام أعين الجميع، وليبصر من أراد البصر، وآتاه الله البصيرة؛ فيحيا من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.
والله أسأل أن يتقبَّل مني، ومن كل من أسهم في نشر هذه المادة، كما أسأله سبحانه أن ييسر لنا جميعاً الفقه لتاريخنا وواقعنا، وأن يستعملنا لخدمة شرعه، ورفعة دينه.. إنه ولي ذلك والقادر عليه..
فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله، إن الله بصير بالعباد..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..


الدكتور / راغب السرجاني





(1)


هذا ما وعدنا الله ورسوله[1]


لا يملك القارئ للتاريخ أمام ما يشاهده يوميًّا من حصار عالمي وإقليمي مضروب على أهل فلسطين الأبطال.. لا يملك قارئ التاريخ أمام تلك المشاهد اليومية إلا أن يتذكر حصارًا ضاغطًا مماثلاً، تحالفت عليه أحزاب العرب لإنهاء وجود الإسلام من أرض المدينة المنورة.. على عهد رسول الله r..
وإذا استثارتك حشود الدبابات اليهودية، وحشود القرارات الدولية التي تتضافر جميعًا على خنق الإباء الفلسطيني وتركيعه، بعد أن اختار (بأغلبية ساحقة) المقاومة سبيلاً لسياسته.. على الرغم من محاولات مستميتة طويلة لإقناعه بخيار السلام بدلالاته المعروفة.. إذا استثارك هذا الحصار الظالم لأهلنا في فلسطين، وظننت أنها النهاية، وأن أي احتمالات للنجاة أو السلامة تظل أوهامًا لا واقع لها ولا مجال.. فأنت في حاجة ماسَّة لاسترجاع تفاصيل ذلك الحصار الأول الذي ضربته أحزاب العرب على دولة الإسلام الوليدة في المدينة المنورة.. لشدَّة التشابه في الحالتين وفي الملابسات!!
فكما تحتشد كل هذه القوى وتتحزَّب لإزهاق الروح الفلسطينية الرافضة للاستسلام.. فقد تحزَّب عشرة آلاف مقاتل عربي (في عدد غير مسبوق عربيًّا!)، وضربوا حصارًا مشابهًا حول مدينة رسول الله r.. حتى وصف الله حال المؤمنين الواقعين تحت الحصار القاسي بقوله تعالى: "إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ.. وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ.. وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا!!.." ثم تعلِّق الآيات على هذا الموقف بوصف ربَّاني لما وصل إليه المسلمون: "هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا"..
ما أشبه الموقفين!.. ولكن العجيب في الموقف الأول (وهو ما نريد أن نتعلَّمه لحاضرنا اليوم) أنه لما اشتد الحصار، واجتمع على المسلمين البرد والجوع والخوف.. وافتقدوا كل مقومات النجاة الماديَّة – فضلاً عن الانتصار والغلبة – إذا برسول الله r لا يبشرهم فقط بالنجاة من حصار قريش وحلفائها.. بل يبشرهم بسيادة العالم!! كما روى أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن صخرة شقَّت على المسلمين وهم يحفرون الخندق، فجاء r يُعِينُهُم: "...فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ.. فَضَرَبَ ضَرْبَةً، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.. أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ!!.. وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا.. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ.. وَضَرَبَ أُخْرَى، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.. أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ!!.. وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا.. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ.. وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.. أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ!!.. وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا!!.."
وهي بشارات لا يتحمَّلها (بالنظر إلى مرارة الواقع) إلا قلب المؤمن الصادق وعقله.. فالمؤمن وحده هو الذي يمكنه التوفيق بسهولة بين زلزلة المحنة والابتلاء، وبين وعد النصر والتمكين.. ذلك أن الله علَّمه أن النصر والتمكين لا يأتيان إلا بعد عنف الزلزلة وقسوة الامتحان حتى يتميَّز الإيمان من النفاق..
وكلما اقترب النصر ازداد البلاء، حتى إذا وصل المسلمون إلى مرحلة الذروة في الابتلاء جاء نصر الله عز وجل في وقت لا يتوقعه مسلم ولا كافر.
يقول الله تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ"
متى يكون النصر قريبًا؟
يكون قريبًا إذا وصل المسلمون إلى مرحلة الزلزال.
يكون قريبًا عندما تصل الفتنة إلى ذروتها.
يكون قريبًا عندما يعلو نجم الباطل، وتنتعش قوته، وتتعاظم إمكانياته.
يكون قريبًا عند تجمُّع الأحزاب، وعند تحالف شياطين الإنس والجن لاستئصال المؤمنين...
عند هذه الأحداث يكون النصر قريبًا فعلاً.
ومن ثَمَّ لا يتسلَّل الإحباط واليأس مطلقًا إلى نفس المؤمن أمام وطأة الخَطب وقسوة الحصار.. بل هو يرى تلك المصاعب والمحن مقدمات ضرورية للنصر.. وعده بها الله ورسوله؛ فلا يزداد أمامها إلا ثباتًا واطمئنانًا وتسليمًا لأمر ربه.. وهو ما حكته الآيات عن موقف المؤمنين يوم الأحزاب: "وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا"..
أما المنافقون فلا مكان في قلوبهم المريضة لعظمة الله، ولا لصدق وعده!! فهم لا ينظرون إلى قوة الأعداء إلا بأبصارهم الكليلة المقطوعة عن جنود السموات والأرض التي بيد الله عز وجلَّ.. فإذا أبصروا أحزاب العدو تُحكم الحصار، وإذا مسَّهم الضر من جَرَّاء الحصار.. قالوا (كما حكى عنهم القرآن الكريم): "وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا".
فتخرج نار المحنة أسرار النفاق من أعماق النفوس.. وتتحرَّك الألسنة بالاستهزاء والريبة في وعد الله!! ويضطرب الإيمان الهش في القلوب.. وتزلُّ الأقدام، وتكتسي الوجوه بالهلع والخوف.. ويستشعرون استحالة النجاة – فضلاً عن النصر! – بل قد يسارعون بالولاء للعدو، والتبرُّؤ من جبهة الإيمان!!
وما كان لهذا التمايز الكبير بين ثبات المؤمنين وافتضاح المنافقين.. ما كان لهذا التمايز أن يقع لولا أن الخطب جلل، والحدث عظيم، والفتنة كبيرة.. ومن هنا يأذن الله للمحن أن تنزل بالمؤمنين – مع أنهم جنوده وأولياؤه – بل ويأذن لها أن تطول حتى ينقِّي لهيبها معدن الإيمان في النفوس من كل شوائب الدنيا.. وحتى تصفو النفوس من حظ النفوس.. ولا يعود فيها شيء إلا النظر لوجه ربها الكريم..
عندئذٍ – وعندئذٍ فقط – يجتبي الله هذه النفوس، ويتفضل عليها بنصره؛ فقد عادت أقوى وأقرب لخالقها.. وقد عادت أقدر على حمل أعباء النصر الثقيلة.. قال تعالى: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ..."
ولذلك لم تقم دولة الإسلام في المدينة إلا بعد نجاح المسلمين في الصبر والاستعلاء على ضراوة الحصار في شِعب أبي طالب ثلاث سنوات!! ولو شاء الله لخفَّف الحصار عنهم.. أو منعه من الأساس.
وكذلك لم تستطع دولة الإسلام الوليدة في المدينة أن تدخل مرحلة جديدة من الفتح والتمكين إلا بعد النجاح (بتفوُّق!) أمام امتحان الأحزاب وحصارهم.. فلما ردَّهم الله بغيظهم.. "لم ينالوا خيرًا!!.." قال رسول الله r (كما روى البخاري): "الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَنَا.. نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ!!".. وما كان r ليقولها جزافًا.. بل كانت إيذانًا ببدء عهد من القوة والنصر لم يدخله المؤمنون إلا من باب المحنة والحصار..
ليست آلام الحصار والقصف التي تعانيها أرض فلسطين – إذًا – إلا بشائر نصر قريب.. "..هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ.. وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ!!".
ولا يبقى على المؤمنين حول فلسطين إلا استكمال الاستعداد لنصر الله والعمل له:
بيقين راسخ يملأ القلوب.. وثقة مطمئنة تستقر في النفوس.
وبدعم متواصل بالمال وسائر الاحتياجات الملِحَّة..
ودعاء آناء الليل وأطراف النهار: أن يثبِّت الله المجاهدين، ويُنَزِّل على الأمة آيات نصره..
ونشر للقضية من منظورها الصحيح عبر شتَّى وسائل الإعلام المتاحة..
وبسلاح المقاطعة الصادقة كحدٍّ أدنى من المشاركة في الجهاد..
ونسأل الله عزَّ وجَلَّ أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.. وأن يرفع راية الموحِّدين.. وأن يربط على قلوب المجاهدين.


























(2)


ما ظننتم أن يخرجوا[2]


ما كان أحد من المسلمين يظن أن تصمد لبنان (مقاومة وشعبًا وحكومة) أمام هذا العدوان الصهيوني غير المسبوق.. وما كان أحد يتوقع أن يطول هذا الصمود شهرًا حتى يتكشَّف الفشل والعجز اليهوديَّان عن تحقيق أي هدف كانوا قد أعلنوا عنه مع بداية العدوان، بدءًا من استرداد الجنديين الأسيرين.. وانتهاءً بسحق القدرة القتاليَّة لحزب الله، وتمهيد الأرض لشرق أوسط جديد (منزوع السلاح والكرامة!).. حتى يُضطر محرِّكو السياسة الدوليَّة أن يستولدوا في لهاث وعجلة قرارًا دوليًّا (لا يعترضه الفيتو هذه المرة!!) لحفظ القطرات الباقية من ماء وجه الصهاينة، وليعيد ستر عورة الجبن اليهودي التي كشفتها صواريخ المقاومة الإسلاميَّة وصمودها.

نعم.. ما كان المسلمون – حتى الصادقون منهم – يظنُّون أن تندحر تلك الهجمة الصهيونية عن لبنان على هذا النحو الذي رفع رأس كل مؤمن شريف، وأعاد إليه نسمات أمل غائب منذ أزمان... بل ما كان اليهود أنفسهم يتوقَّعون مثل هذا الصمود من جنود "حزب الله" الذين لا يعْدون – في نظرهم – مجرد "ميليشيا مسلَّحة".. حتى تتواتر تصريحات الساسة والقادة العسكريين اليهود تُعرب عن هذه الدهشة وذلك الذهول الذي أصابهم إزاء صمود حزب الله!!.. فما يظن اليهود أن يصمد أحد أمام القنبلة الذكيَّة، أو أمام قصف طائرات ال(F16)، وانهمار القنابل العنقوديَّة والقذائف التي تتجاوز الأطنان!!.. وما كانوا يحتسبون أن تتساقط أحجار جدار الأمن المزعوم الذي أوهموا شعبهم الغازي أنه يُحصِّنهم ويحميهم انطلاقًا من التفوُّق العسكري والاستخباراتي الهائل، والذي يميِّز الدولة اليهوديَّة عن سائر دول الجوار على الأقل!..

ما كان أغلب طرفَي الصراع يظن أن يقع ما وقع.. تمامًا كما حكى الله تعالى عن معركة قديمة وقعت بين أهل الحق.. بقيادة سيِّد الخلق صلى الله عليه وسلم وبين أهل الباطل – ممثَّلين في يهود بني النضير -..
فلقد أفصح بنو النضير عن غدرهم في أوائل العام الرابع الهجري (شهر ربيع الأول)مستغلِّين ظروفًا حرجةً، أضعفت – إلى حدٍّ ما – قوة المسلمين وهيبتهم، فما كان منهم (اتباعًا لنهج الغدر الذي لا يتخلَّف عن سلوكهم) إلا أن عزموا على قتل رسول الله r رغم ما بينهم وبينه من العهد والأمان.. ولما أطْلع الله رسوله على غدرهم.. نبذ إليهم عهدهم؛ فلا قيمة لعهد لا يحترمه أطرافه، ولا جدوى من سلام ينتهكه بعض من أبرموه كلما واتتهم الفرصة..
وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب على بني النضير، وأمر المسلمين بحصارهم؛ حفظًا لكرامة الأمة من أن يجترئ عليها عدوُّها حين يظن منها الضعف.. مع أن الفجوة العسكرية والماديَّة بين المسلمين واليهود كانت هائلة لصالح اليهود، وما كانت حقائق هذه الفجوة غائبة عن المسلمين، بل إن الشكوك كانت تساورهم في أن يتمكَّنوا من إخراج بني النضير (وهو الهدف الذي أعلنه رسول الله r لحملته عليهم).. وقد وصفت الآيات الكريمة من أوائل سورة الحشر شكوك المؤمنين في إخراج اليهود.. قال تعالى: "ما ظننتم أن يخرجوا..!!".

على أن هذا الظن الذي ظنَّه المسلمون لم يمنعهم من حسن الأخذ بأسباب النصر، والتي يأتي على رأسها:
حسن الإيمان بالله، وعمق الصلة به.. اللذين تجسَّدا – مثلاً – في طاعة الأمر النبوي بالخروج إلى القتال برغم تفوُّق العدو..
وإلى جانب الإيمان بالله فقد ظهرت وحدة الصف التي تُعدُّ ثاني أدوات القوة بعد الإيمان.. والتي لم يشذَّ عنها إلا المنافقون الذين سنرى – في مقال قادم – كيف ارتموا مباشرة في أحضان العدو، وعاهدوهم على النصرة ضد المسلمين!!..
ويأتي بعد الإيمان ووحدة الصف حُسن الاستعداد والأخذ بالأسباب.. وقد ظهر ذلك في غزوة بني النضير حين استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاح الحرب النفسيَّة؛ فأمر بتقطيع النخيل الذي يمتلكه اليهود؛ إضعافًا لمعنويَّاتهم، وخزيًا لهم.. وقد وصف رب العالمين أثر ذلك على نفوسهم، وما لحقهم من خزي.. قال تعالى: "مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ".


وكما ظن المؤمنون ألَّن يخرج اليهود، فقد ظنَّ اليهود أيضًا أن قوَّتهم ستحميهم، وأن حصونهم مانعتهم من الله.. وهذا شأن أهل الباطل المنقطعين عن الله والإيمان به.. يحسبون قوَّتهم شيئًا، وما هي إلا كبيت العنكبوت "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون!!".
اغترَّ اليهود – إذًا – بحصونهم، فجاءهم الله من جهة لم يُحصِّنوها، ولم يَحتسبوا أن يُهزَموا من قِبَلِها.. أتاهم الله من جهة قلوبهم الخربة.. "وقذف في قلوبهم الرعب!!" وانهار "جيش الدفاع اليهودي" في بني النضير!!.. وطلبوا التسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يُؤَمِّن خروجهم من المدينة، وأخذوا "يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ..." تلك البيوت التي حصَّنوها طويلاً؛ حتى ظنُّوها مانعَتَهُم من الله!!..
إن الله ناصرٌ دينه بأسلحته هو – سبحانه -، وبجنوده الذين لا يعلمهم إلا هو.. ومن بين جنود الله "الرعب!!".. الذي نصَر الله به نبيَّه r في مواطن كثيرة، والذي ينصر الله به – وبغيره – كل من سار على نهج نبيِّه r في حسن الصلة بالله، وتوحيد الصفوف، واستكمال العُدَّة "قدر الاستطاعة".
ما شهدته ساحات الجهاد في لبنان وفلسطين في الأسابيع الماضية يؤكد هذا المعنى؛ فمنذ بدء المعارك والشهادات اليهوديَّة تتوالى مؤكِّدة براعة المقاومة الإسلامية، والدهشة البالغة من كفاءتها القتاليَّة.. يشهد بذلك (على سبيل المثال) الجنرال اليهودي "عامي إيالون" الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات (الشاباك)، وقائد البحريَّة السابق، فيعترف بالتفوُّق الذي حققه المجاهدون في عمليَّتَي المقاومة في فلسطين ولبنان، واللتان أسفر عنهما أسر ثلاثة من جنود الصهاينة.. ويقول: إنها من نوع عمليَّات الكوماندوز الخطيرة، وأنه كعسكريٍّ مُخَضْرَم كان سيشعر (بالفخر!!) لو أنه هو الذي قادها!!!...
هذه شهادة مبكِّرة صدرت في أوائل المعارك الضارية، تُظْهِر انقلابًا هائلاً في موازين القوة.. حيث يشهد جنرال في الجيش الذي "لا يُقْهَر!!" بالتفوُّق لجنود جماعات مقاومة محدودة القوة جدًّا، بل ومُحاصرة من جميع الجهات... ولن يتَّسع المقال لعرض كل ما نقلته وسائل الإعلام بعد وقف المعارك في لبنان من هلع جنود اليهود وبكائهم، وتفجُّر الوضع الداخلي في دولة العدو سياسيًّا وعسكريًّا؛ كردِّ فعل للهزيمة التي مُنُوا بها، واعترف بها رؤساؤهم.
وعلى الرغم من حجم الدهشة مما أسفرت عنه الحرب الأخيرة إلا أن الله عزَّ وجَلَّ في كتابه – في سياق الحديث عن إجلاء بني النضير – يوضِّح ما تزول به الدهشة.. حين يقول سبحانه: "هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ.." فهو صاحب المعركة، ومُدَبِّر شأنها كلِّه.. وهو على كل شيء قدير.. وبيده قلوب العباد، وجنود السموات والأرض.. وما على المؤمنين الصادقين إلا أن يُحسنوا الإيمان بهذه الحقائق، ويتوكَّلوا على ربِّهم في جهاد عدُوِّهم؛ فقد أثبتت المعركة الأخيرة إمكانيَّة هزيمته.. حين سقط من جنوده وشعبه 156 قتيلاً، ولاذ مليونا شخص بالملاجئ شهرًا كاملاً.. بينما نزح أكثر من ثلاثمائة ألف آخرين من مدنهم الشماليَّة هلعًا من صواريخ حزب الله.. هذا فضلاً عن خسائر المعدَّات من طائرات حربيَّة، وعشرات الدبابات (الميركافا).. إلى جانب ملايين الدولارات التي كان الاقتصاد اليهودي ينزفها يومِيًّا من جرَّاء الحرب!!
وما أحوجنا – في الختام - إلى تدبُّر التعليق القرآني على قصَّة إجلاء بني النضير في ختام الآية التي عرضت هزيمتهم.. حيث يقول رب العالمين سبحانه: "يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ.."

فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار







(3)

هم العدو فاحذرهم[3]

كما يزداد المعدن نقاءً من شوائبه كلما ازداد انصهارًا بلهب النار.. كذلك يزداد الصف المسلم المواجه لعدوِّه نقاءً من شوائب النفاق كلما اشتد لهيب الأزمات والمحن.. ولا تتوقف التنقية حينئذٍ عند حدِّ انكشاف الهلع وضعف اليقين في نفوس المنافقين.. بل يزداد التمايز وضوحًا عندما يُسارع المنافقون المذعورون – لا إلى الانزواء فقط – بل إلى الارتماء المشين في أحضان العدو صراحة!!.. وتبنِّي مواقفهم، والشفقة على خسائرهم.. فضلاً عن القيام بدور المتحدِّث باسمهم والناصح الأمين لهم...!!
ومع مرارة مواقف أهل النفاق هؤلاء، ومع ما ينتج عادة حيال الخيانة من قلق في الصف المسلم نتيجة فَقْد بعض القوة والنصرة التي كانت تُرجَى من أمثال هؤلاء.. مع كل ذلك إلا أن الخير يظل دائمًا في أن تتبدَّى هذه الخفايا قبل المواجهة الفاصلة، حتى لو فقد المسلمون الآن عدد هؤلاء وطاقاتهم.. فما كانت هذه الطاقات ولا تلك الأعداد بالتي تُغني عن المسلمين شيئًا؛ فما هم إلا كالطبل الأجوف الذي ربما يلفت الأسماع والأبصار إلى صوته الصاخب، دون أن يكون منطويًا على كبير فائدة.. حتى إن الله ليصفهم في آية عجيبة من كتابه بقوله تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ...] فالشكل الخارجي قد يُعجِب، وقد يوحي بالجدوى والقوة.. [وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ!!] فلهم طريقة في الحديث قد تُغْرِي بالإنصات، وقد توهم أن وراءها حكمة وعقلاً.. وما ذاك إلا "لَحْنُ القَوْلِ" الذي يُميِّز حديثهم دائمًا، كما أخبر الله تعالى في آية أخرى..
أما الحقيقة.. أما الوزن وأما القيمة.. فلا شيء!!.. "كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ!!" لا تملك حتى أن تقف بنفسها.. والداخل هواءٌ وجُبْن وهلع: [يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ..] ويخشون في كل لحظة افتضاح كذبهم المستور بغشاء رقيق من النفاق..
ما كان الله ليدع نفوسًا خربة كهذه مستورة بالتظاهر بالإسلام مع كل ما تُشكِّله من مخاطر على سلامة الصف المسلم الذي لا يُرجى له أن يصمد أمام عُدوان الباطل فحسْب.. بل أن يهزم الباطل في عُقر داره ليرفع راية الحق..
إن الله عزَّ وجَلَّ حذَّر المؤمنين من بقاء المنافقين مستترين يوم قال: [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ..] وكان من رحمته أن تُصِيب المحن الجزئية أمة الإسلام حتى تكون لحظات كاشفة لا يستغني عنها المؤمنون، ولذلك قال تعالى: [مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ].
ولقد كانت محنة لبنان الأخيرة – والتي استعرضنا بعض جوانبها المضيئة في المقال السابق – إحدى هزَّات الزلزلة التي تتساقط معها أوراق النفاق الذابلة من شجرة الإيمان الراسخة.. لقد كانت لحظة كاشفة فعلاً – كعادة سنن الله دائمًا في المحن – رأينا فيها أمثلة كنا نقرأ أشباهها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو في سياق علاج القرآن لأحداث تلك السيرة العطرة؛ فكان العجب يتملَّك القلوب والعقول.. حتى أراد الله أن يُري المؤمنين مِصداق ما حذَّرتهم منه آياته..
رأى المؤمنون ألسِنَةً وأقلامًا من الإعلاميين أو السياسيين أو علماء السلطة، لهم قدرة عجيبة على تجميل المنكر، وتبرير الخيانة، وتزيين الفضيحة.. ويمتلكون مهارات فريدة في التلاعب بالألفاظ؛ فيسمُّون الجبن حكمةً، والقعودَ عن الحق بُعْدَ نَظَرٍ، والخيانةَ ذكاءً.. ويصبح كذلك عندهم الجهادُ تهورًا، والدفاع عن الحقوق إرهابًا، واسترداد الأراضي المحتلة والأسارى المعذَّبين مغامراتٍ غير محسوبة!!!..
وبما لهم من حلاوة لسان وحسن بيان (ولحنٍ في القول!!) يخدعون البسطاء من أبناء الأمة - وما أكثرهم! – فيحسبونهم حكماء عقلاء.. وأذكياء نجباء، وهم أبعد ما يكون عن هذه الصفات الجليلة.. روى أحمد عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ"..
وتعجَّب المؤمنون من رفض هذه الطائفة للجهاد والبذل برغم كل ما تعرض له لبنان وفلسطين.. والحق أن هؤلاء قد يعيشون في ذلة شديدة وخضوع لكل من هب ودب على وجه الأرض، ومع ذلك فهم لا يأخذون أبدًا قرار الجهاد، ولا قرار الانتقام للدين وللوطن، ولا قرار تحمل المسؤولية.. وقد يثير كل ذلك استغراب المؤمنين، فيقولون: كيف يتحمل هؤلاء هذه المهانة؟!!
والحق أن قرار الجهاد قرار شريف.. لا يأخذه إلا شريف!!
ما تخلَّفت هذه السنَّة قط عن أخلاق المنافقين أمام كل مواجهة مع الباطل، وما توقَّف لُهاثُهُم يومًا في سبيل المسارعة في موالاة الأعداء، وتبنِّي مواقفهم.. أكثر مما يتبنَّونها هم أنفسهم.. وها قد رأينا في أحداث لبنان الأخيرة دهشة قيادات العدو ووسائل إعلامه من ذلك الدعم الذي تلقَّوه ممن كان يُفْتَرَض فيهم نُصْرة لبنان وفلسطين؛ لكونهم من بني جلدتهم وقوميتهم.. فضلاً عن دينهم!!..
على ذات الدرب سار من قبل "عبد الله بن أبيٍّ" ورهط النفاق في عهد النبوَّة.. فقد رأيناهم يوم غزوة بني قينقاع (2ه) حين أراد الرسول صلى الله عليه وسلَّم إنزال العقاب باليهود جرَّاء خيانتهم للعهد.. فإذا برأس النفاق ينبري مدافعًا عن اليهود، وشافعًا لهم – بسوء أدبه!! – عند النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: "إني امرؤٌ أخشى الدوائر" وسمَّى اليهود: (مواليه!!) أي: أنصاره.. حتى قال الله تعالى في شأنه وشأن من تبعه بإساءة: [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ.. يَقُولُونَ: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ!!..]
ويتكرَّر نفس الموقف في مواجهة أخرى بعد عامين، في غزوة بني النضير (4ه).. بعد أن هَمَّ اليهود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم – وهي الغزوة التي ذكرنا طرفًا منها في المقال السابق – فحاصرهم حصارًا شديدًا، فما أوشكوا على التسليم حتى جاءتهم رسائل النفاق والخيانة من ابن أُبيٍّ وأصحابه: أن اثبتوا!!.. نحن معكم!!.. [لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ...]
إنها ذات المواقف!.. بل إن تكرارها يوحي إليك كأن بعض الألفاظ تتكرَّر.. وهي كذلك بالفعل!!.. ليظل التحذير الإلهي ماثلاً لكل أمة مؤمنة تحمل لواء الحق عبر التاريخ.. من أوبئة النفاق وشروره؛ حتى يطارد المؤمنون النفاق في نفوسهم وفي صفوفهم.. كما يجاهدون الباطل من حولهم.. بل أشد!!.. فليست مصادفة أن تتركَّز إشارة العداء في الآية الكريمة على المنافقين بأسلوب القصر، حيث يُعَقِّب ربنا بعد استعراض صفاتهم التي توقفنا أمامها آنفًا.. بقوله سبحانه:
[هُمُ الْعَدُوُّ.. فَاحْذَرْهُمْ!! قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟!]




(4)


بنو قينقاع وبيت حانون والبون الشاسع!![4]

كلما رأيت تبجحًا من اليهود، وتطاولًا منهم عادت ذاكرتي بسرعة إلى سيرة الهادي لهذه الأمة، بل الهادي للعالمين رسول الله صلَّى الله عليه وسلم؛ فعند الحيرة في التحليل أو أخذ القرار نعود إلى المواقف المتشابهة في السيرة لنخرج بالرأي الأصوب, والقرار الأحكم...
والآن ونحن نستمع لأخبار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وخاصةً بلدة بيت حانون؛ حيث تجتاح قوات الاحتلال الإسرائيلي البلدة ضمن مخطط لاجتياح أجزاء من قطاع غزة قد تشمل فيما بعد رفح وغيرها؛ وذلك -كما يرى المحللون بهدف إخضاع الفلسطينيين بقوة السلاح، وإسقاط الحكومة الفلسطينية، إلى جانب الضغط على الفصائل التي تأسر الجندي الإسرائيلي (جلعاد شاليت) من أجل إطلاق سراحه.
أقول: ونحن نستمع لهذه الأخبار الدامية التي تؤذي أسماعنا بأنباء مقتل ما يقارب الثمانين شهيدًا, ومائتي جريحٍ، تعود بنا الذاكرة إلى حدثٍ من أحداث السيرة هو أقل مما يحدث في بيت حانون بعشرات المرات, ولكن سنرى كيف تصرَّف الرسول صلى الله عليه وسلَّم معه، لندرك الفارق بين المفروض الذي يجب أن يحدث والواقع الذي نعيشه الآن، وندرك البون الشاسع الذي يفصلنا عن عصر الرجولة والنخوة.
قبيلة بني قينقاع كانت من القبائل اليهودية القاطنة في المدينة المنورة، والتي ارتبطت بمعاهدة مع الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) والمسلمين. وبعد غزوة بدر، وانتصار المسلمين على قريش بفضل الله ومِنَّته، انفجرت براكين العداوة في صدور يهود بني قينقاع، وجاهروا الرسول بالعداوة، بل وأقدموا على جريمة نكراء حيث راود صائغ يهودي في سوق بني قينقاع امرأةً مسلمةً عن كشف وجهها، أثناء شرائها مصاغٍ منه، فلما أَبَتْ ربط بعضهم طرف ثوبها بخمارهادون أن تشعر فلما قامت انكشفت عورتها، فصرخت، فجاء مسلم وقتل التاجر اليهودي؛ فتعاون اليهود على قتل المسلم، وانتهى الأمر بحصار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.
وبدأ الحصار في يوم السبت نصف شوال سنة 2 ه، بعد أقل من شهر من غزوة بدر الكبرى، وظل صلى الله عليه وسلم محاصرًا لبني قينقاع أسبوعين كاملين، إلى أن ظهر هلال ذي القعدة، وقذف الله عز وجل الرعب في قلوب اليهود، فنزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وكان حكمه صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت هو قتلهم لهذه المخالفة الشنيعة التي فعلوها، ليس فقط لكشف وجه المرأة المسلمة، ولا لقتل المسلم، لكنها تراكمات طويلة؛ فهم منذ أن دخل الرسول صلى الله عليه وسلم وهم في مخالفات مستمرة وسب علنيٍّ لله ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وللصحابة، وإثارة الفتن بين المسلمين، فكان لابد من وقفة معهم.

إن من طبائع اليهود الثابتة التي لا ينفكون عنها بحالٍ من الأحوال؛ التطاول الدائم، واتخاذ المواقف المعادية كلما زاد سكوت المسلمين عن تعدياتهم، وقد رأينا هذا من اليهود قديماً وحديثاً، وسنظل نراه منهم إلى يوم القيامة.
رأينا في العصر الحديث عندما خالف اليهود القوانين الإسلامية، وبدءوا بالهجرة إلى فلسطين مع أن هذا الأمر كان ممنوعاً عليهم، ولكن لأن المسلمين سكتوا عن هذا الأمر تملَّك اليهود الاقتصاد الفلسطيني في داخل فلسطين، ثم جلبوا السلاح الخفيف، ثم الثقيل، وبعدها أنشئوا إسرائيل سنة 1948، ثم حرب 1956، و1967، و1982في لبنان، وأخيراً حرب لبنان2006 كما تابعنا جميعاً؛ فكلما سكت المسلمون-إذن- تعدَّى اليهود تعدِّيًا أكبر وأخطر .
كنا في الماضي نطالب بالعودة إلى حدود التقسيم، ثم بعد ذلك نطالب بالعودة إلى حدود 67، ثم نطالب بالعودة إلى حدود انتفاضة2000، وإذا كان اليهود اليوم يقيمون جداراً عازلاً، فإننا ربما نطالب في المستقبل بالعودة إلى حدود الجدار العازل؛ فهذا التساهل مع اليهود هو الذي أَدَّى إلى ما آلت إليه أحوالنا اليوم، هو ما أدَّى إلى الاعتداءات المتكررة التي أصبحت لا تلفت أنظار أحد من المسلمين، هو ما أدى لتكرار الاجتياحات، وتدمير البنية التحتية الفلسطينية، وأهم من ذلك إراقة دماء آلاف الشهداء المسلمين في فلسطين.
إن أحداث بيت حانون دليل واضح على تخاذل المسلمين الذي بدأ منذ عقود، وهذا التخاذل هو الرابط العكسي بين أحداث بيت حانون، وغزوة بني قينقاع، إذ تجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل هذه المآسي، وأخذ قراراً سريعاً وحاسماً بحصار بني قينقاع، ومعاقبتهم بالقتل جزاءً وفاقًا لولا ما حدث من تدخل رأس النفاق عبد الله بن أُبَيٍّ بن سلول الذي ألح على النبي صلَّى الله عليه وسلم في أن يهبهم له ويعفو عنهم؛ فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أمرهم بالخروج؛ فخرجوا إلى الشام؛ وهلكوا هناك، بينما أدى بنا التخاذل إلى الصمت، بل والمشاركة من البعض بالموافقة وغض الطرف من أجل إسقاط الحكومة الفلسطينية الإسلامية غير المرغوب فيها من هذا البعض.
فأين تحرك المسلمين من هذه المأساة الدامية؟!
إن الإسلام يفرض علينا أن نهب لنصرة إخواننا ضد عدوان غاصب مدمر، يستقوى بأعداء آخرين أشد بطشاً، يمددونه بالسلاح والأموال والتأييد "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا"(النساء:75).
كيف لا نتحرك لوقف العدوان على إخواننا، ونحن نرى القنابل العنقودية وغيرها تدك بيوت الأبرياء العزل، فتحيلها حُطاماً، وتمزق أجسادهم، قد يتكاسل البعض أو يجبن، ثم يعتذر بأن قوة اليهود طاغية وقوة المسلمين ضعيفة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم هاجم اليهود وحاصرهم وأجلاهم بعدما كاد يقتلهم ويفنيهم, وقد كانوا في غاية القوة حتى أنهم قالوا له: "يَا مُحَمَّدُ لَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ(يقصدون في بدر) كَانُوا أَغْمَارًا لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ، وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا". لقد جمع صلى الله عليه وسلم الصحابة بعدما بلغه غدر بني قينقاع، وجهَّز جيشًا وانتقل سريعًا إلى حصونهم ، وحاصر صلى الله عليه وسلم الحصون وفي داخلها بنو قينقاع وأصرَّ صلَّى الله عليه وسلم على استكمال الحصار حتى ينزل اليهود على أمره صلى الله عليه وسلم.
وقد حرَّك الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الجيش بكاملة من أجل أن امرأة واحدة كُشفت عورتها، وما يؤلمني كثيرًا ليس فقط ما أرى من كشف عورات المسلمات في بقاع الأرض، ولكن أن تنتهك الحرمات إلى درجة القتل، وإلى درجة الاعتداء على المرأة، وإلى أمور يستحي الإنسان من ذكرها، يحدث هذا كله وجيوش المسلمين تغط في نومها.
ونلاحظ في موقف النبي صلى الله عليه وسلم مدى عزة وكرامة الدولة الإسلامية، فقد حدث نوع من الامتهان لهذه الكرامة بهذه العملية الفاجرة من اليهود؛ فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بمنتهى الجدّية، وانتقل بجيشه إلى حصار بني قينقاع مع احتمال إسالة دماء كثيرة، نتيجة القتال مع بني قينقاع وهم من أصحاب السلاح والقلاع والحصون والبأس الشديد في الحرب، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل هذا-رغم قيمته- ثمن بسيط للغاية في مقابل حفظ كرامة الدولة الإسلامية.
أما في وقتنا الحاضر فما أكثر أبناء سلول الذين يضعون أيديهم في أيدي اليهود، ويريدون منع المسلمين من الثأر والقصاص! فهل نستجيب لهم؟ وهل قد ماتت النخوة فينا؟!!




(5)


فيتو أمريكا واستكبار القوة!![5]

يندهش السذج من الناس، وقد نرى بعض المحللين السياسيين -كذلك - مندهشين، ومنددين ومستنكرين للفيتو الأمريكي على قرارٍ لمجلس الأمن بإدانة هجمات إسرائيل الوحشية على بيت حانون، وما خلَّفته من شهداء، ودمار، وتخريب، وكأنهم –هؤلاء السذج والمحللين- كانوا ينتظرون من أمريكا أن تقف بجانب المظلوم، وتلتزم بالحق والعدل.
ولكن القاريء الجيد الواعي للتاريخ، يعلم أنه كان من المستحيل أن تتخذ أمريكا موقفاً أفضل من هذا الموقف، بل إن البديل أن تتخذ أمريكا موقفاً أسوأ من ذلك، فحركة التاريخ تحمل من أمثال هذه المواقف آلافًا، وقفت فيها القوة ضد الحق مستكبرةً، وممثلة لظلم القوة، أو قوة الظلم.
لقد بدأ تاريخ العداء المرير منذ عهد سيدنا نوح عليه السلام؛ فوقفت قوة الأغلبية ضد الحق الذي جاء به نوح عليه السلام وآمن به القليل.. صراع طويل لمدة قرون، أوضح بشكل جليٍّ أن الصراع بين قوى الظلم والاستكبار من ناحية، وبين قوة الحق من ناحية أخرى.. صراع مرير وطويل طول الحياة البشرية على الأرض.
وفي عهد جميع الأنبياء ظهر ذلك الصراع، قوم عاد وثمود بما أُوتوا من قوةٍ وجبروت وقفوا ضد الأنبياء: هود وصالح عليهما السلام ومن آمن معهما، ورفضوا الإيمان حتى جاء أمر الله؛ فأهلكهم بكوارث لم تفلح قوتهم في صدها كثيراً أو قليلاً.
وقد ظهر العداء ضارياً في قصة سيدنا موسى مع فرعون وقومه، إذ تمثل العداء في تخطيطهم لقتل سيدنا موسى عليه السلام، ثم في تكذيبه عندما جاءهم داعِيًا للإيمان، ومحاولة إبطال دعوته بالسحر، فلما كانت المفاجأة وآمن السحرة، وارتد كيد فرعون وملئه في نحورهم، كانت القوة الحربية هي رمز العداء والاستكبار حيث خرج الجيش الفرعوني العرمرم للفتك بسيدنا موسى ومن معه، لولا أن جاء نصر الله بإهلاك القوم الكافرين.
ولكن هل كان ذلك العداء جهلاً منهم بالحق، ولعدم وضوح الرؤية لديهم؟
كلا، لم يكن الأمر كذلك، بل كانوا يعلمون أن ما يدعوهم إليه سيدنا موسى هو الحق الذي لاشك فيه، ولكنه الاستكبار كما قال تعالى:"وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين" (النمل:14).
ظل الاستكبار هو الحائل الرئيسي بين أصحاب القوة والإيمان بالحق على مدار العصور، رغم دعوة جميع الأنبياء، حتى جاء عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ صدر من كل مستكبر عاتٍ - رَفَضَ الإيمان، وأصرَّ على الكفر – ما يدل على أنه يعلم الحق، ولكن الكبر هو الذي يمنعه، ظهر هذا في قول أبي جهل للأخنس بن شريق عندما سأله رأيه فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن؛ فقال:"تنازعنا نحن وبنو عبد مناف ٍالشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان؛ قالوا: مِنَّا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه! واللهِ لا نسمع منه ولا نصدقه".
إنه الكبر- إذن- والرغبة في السيادة والشرف، وذلك ما دفع كل من كان مثله من سادة قريش للاستمساك بالكفر رغم معرفتهم بالحق، كعتبة بن ربيعة الذي قال في القرآن:"سمعت قولاً ماسمعتُ مثلَه قَطُّ، واللهِ ما هو بالشعر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فواللهِ ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأٌ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلكُه مُلْكُكُم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به"، ومع ذلك خرج عتبة في غزوة بدر لقتال المسلمين، وقتل في المبارزة بيد أسد الله حمزة بن عبد المطلب، فما الذي أخرجه؟!! إنه الاستكبار.
ويأتي حيي بن أخطب سيد بني النضير من اليهود؛ ليوضح ذلك الدافع بأظهر عبارة عندما سأله أخوه ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته - والله - ما بقيت!
ظنَّ – لاستكباره- أن قوته تمكنه من إطفاء نور النبوة، فلما سقط في أيدي النبي صلى الله عليه وسلم بعد حروب وعداوة وكيدٍ منه، وأُخِذَ للقتل، نظر للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "أما - واللهِ – ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يَخذِلِ اللهُ يُخْذَلْ"، وهذا اعتراف صريح منه بأن النبي صلى الله عليه وسلم على الحق، ولكن الكِبْرَ يمنعه من اتباعه.
كان استكبار القوة – إذن – هو ما دفع هؤلاء وغيرهم لمواجهة الحق، وعداوته والكيد له في كل موطن، واستمر ذلك الدافع عبر التاريخ، فلم يجرؤ الصليبييون على مهاجمة بلاد الإسلام إلا عندما شعروا بقوتهم وضعف المسلمين، فاجتاحوا المشرق الإسلامي، وزودهم استكبارهم بقدرة كبيرة على سفك الدماء، وامتهان الحرمات وانتهاكها، فالمستكبر لا يرى للضعيف فضيلة ولا حرمة ولاذمة، "لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة…". وكذلك كان التتار الذين قتلوا الملايين من المسلمين في شهور قلائل، ونهبوا خيرات كل مكان ذهبوا إليه في بلاد الإسلام.
ثم جاء العصر الحديث، وازدهار عصر الاستعمار الأوروبي الصليبي للعالم الإسلامي، وكان استكبار القوة هو الدافع أيضاً لهذا الكم من الدماء التي أُسِيلَتْ، والأعراض التي انتهكت، والخيرات التي نُهِبَتْ.
وكان للاستعمار الجديد، وما وصل إليه من غرور القوة دور في التطور الجديد الذي يرسخ للاستكبار، وهذا التطور هو وضع قواعد دائمة للسيطرة على العالم كله، خاصة الإسلامي، وتمثَّلَ ذلك في إنشاء الأمم المتحدة، بمنظماتها المختلفة، وعلى رأسها مجلس الأمن الذي يُعتَبَرُ مجلسَ إدارة العالم، وهذه المنظمات هي المخلب الذي يسيطر به الأقوياء المستكبرون –أعداء الإسلام في العصر الحديث- على العالم كله.
دشنت دول الاستكبار العالمي لنشأة لأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وأنشأت مجلس الأمن، الذي يتكون من خمسةَ عشرَ عضواً، ولكي تعطي نفسها أداةً لفرض هيمنتها على الشعوب قامت تلك الدول باختراع حق الفيتو (النقض) لها وحدها، وهي خمس دول كلها ذات عداوة للإسلام طويلة أو قصيرة، وهي (أمريكا- الاتحاد السوفيتي(روسيا) - إنجلترا - فرنسا - الصين).
وحق الفيتو يَمنحُ هذه الدول حق النقض لأي قرار تتخذه بقية الدول، فيصبح القرار كأن لم يكن، وقد كان للولايات المتحدة الأمريكية نصيب الأسد في استخدام حق الفيتو في الصراع الإسلامي الصهيوني (بالطبع ضد مصلحة المسلمين) فقد استخدمته 82 مرة معظمها لحماية إسرائيل من (مجرد) التنديد.
فحق الفيتو إذن لا يحكمه ميزان الحق، وإنما ميزان القوة، فمن الساذج الذي ما زال مندهشًا؟!!
إننا من خلال هذه التِّطوافة العاجلة في صفحات التاريخ نتبين أنه لا أمل في السعي وراء حقوقنا المسلوبة في أروقة الأمم المتحدة، وإنما يجب أن نقول كما قال السابقون:
ما حَكَّ جِلدكَ مثلُ ظُفرِكْ فتَوَلَّ أنت جميعَ أمرِكْ























(6)


أمريكا وإسرائيل وحصان طرواده[6]

التنوع والتلون من أهم سمات الباطل في مواجهة الحق، فالباطل لم يقتصر يومًا في مواجهته للحق على ميدان واحد، بل إنه يعتمد على توسيع المواجهات، وسلوك جميع السبل الممكنة لهزيمة الحق وأهله، من أجل تشتيت قوى الحق، ومحاولة مفاجأتها من ثغرةٍ لم تتوقعها، لتصيب منها غِرَّة يسهل منها القضاء عليها كما يتخيل أهل الباطل.
فالمتتبع للتاريخ و مراحله المختلفة يرى المواجهة بين الحق والباطل تتخذ شكل الحرب بالسلاح حينًا، وذلك حين يرى أهل الباطل من أهل الحق ضعفًا شديدًا يُسهِّل لهم في نظرهم القضاء عليهم، ومنهم مَن يسلك سبيل الحيل والمكر والمؤامرات ؛ وذلك حين يكون العدو أضعف من أن يواجه قوة الحق؛ فلا يجد سبيلا إلا الدس والتآمر.
ومن أهل الباطل من يواجه الحق و أهله بوسيلة أخرى، وهي تغيير مناهج التعليم لديهم، حتى يقوموا بعملية غسيل للمخ تصيب الأجيال الناشئة بفقدان لذاكرة الأمة، وتبني لديهم قناعاتٍ كاذبة تحيل العدو صديقًا، و السُّمَّ ترياقًا، وطريق الهلاك سبيلاً للنجاة!
وهناك شكل آخر للمواجهة ، حيث يعمد أهل الباطل إلى التعاون مع حكام البلد المقصود بالعداوة، ويستميلونهم إما ترغيبًا أو ترهيبًا، حتى يضعوا أنفسهم في خدمة أعداء بلادهم، ويمكنوا لهم في هذه البلد.
ولكن أسوأ أشكال المواجهة على الإطلاق هو أن يخرج العدو من اللعبة ظاهرًا، ويوكِّل غيره في القيام بدوره، وهؤلاء إما أن يكونوا من حكام البلد الذين يبدون في صورة الزعماء الملهمين الذين يقودون بلادهم إلى التحرر، وإما أن يكونوا من الجاليات الأجنبية الموالية للعدو، أو من الأقليات الدينية أو العرقية.
وقد ضرب لنا التاريخ أمثلة متنوعة على هؤلاء وهؤلاء، فالروم استخدموا قبائل الغساسنة و كِندة و بني كلب، وهم جميعًا من العرب، في تسيير الأمور في الجزيرة العربية، وفي صَدِّ هجمات العرب عن حدود الدولة الرومية.
حتى أن واحدًا من الغساسنة قام بما لم يقم به إمبراطور الروم نفسه: فعندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم(الحارث بن عمير الأزدي) إلى ملك الروم، أو بُصْرَى، تعرض له(شُرَحبِيل بن عمرو الغساني)فقتله، ولم يُقتَلْ لرسول الله رسولٌ غيرُه! ..
وشبيهٌ بذلك ما قام به الفرس من استخدام(بني شيبان) على حدودهم، حتى أنهم لما عرض عليهم رسولُ الله الإسلامَ، وأن يمنعوه ممن يريده بسوء، وافقوا أن يمنعوه من العرب، أما الفرس فلا!! وكذلك فعل الفُرسُ مع المناذرة، إذ أقاموا لهم إمارة في (الحيرة) تقوم على حماية حدودهم من هجمات العرب،كما يفعل الغساسنة على الحدود الرومية، ومن ذلك أيضًا تبعية(اليمن) للفرس، حتى أنه لما وصلت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كسرى غضب ومزقها، وأرسل إلى(باذان) عامله على اليمن يأمره بأن يرسل رجلين من عنده ليأتيا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إليه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه قائلاً: "مزق الله ملكه"، وحدث هذا، إذا وثب عليه ابنه فقتله..!
كان ذلك في العهد النبوي ، على صاحبه أفضل الصلاة و السلام، وظل هذا الأسلوب متبعًا في العصور التالية، ومن ذلك مثلاً ما حدث في العصر العثماني، إذ استخدمت الدول الأوروبية ضمن ما استخدمت من أساليب الحرب الجاليات الأجنبية، والأقليات الدينية في ضرب الخلافة العثمانية من الداخل، ولا يزال التاريخ يذكر "مذبحة الإسكندرية" التي اتخذتها أساطيل إنجلترا و فرنسا ذريعةً ضمن ذرائعها لاحتلال مصر عام 1882م، وكان سبب المذبحة قيام رجل من(مالطة) من رعايا بريطانيا بقتل أحد المصريين، فشَبَّ نزاع تطور إلى قتال سقط خلاله العشرات من الطرفين قتلى وجرحى..
وقد تحولت الجاليات الأجنبية إلى جزء من أعمدة الحكم، وتم تعيين عدد منهم كوزراء في الحكومة المصرية آنذاك بل إن أول رئيس وزراء مصري كان( نوبار باشا) وهو من أصول أرمنية، وقد عملت هذه القوى الأجنبية على التعامل مع الأقليات المسيحية من أهل البلاد؛ ليكونوا كحصان طروادة الذي يمكِّن للقوى المعادية للإسلام من السيطرة على بلاد المسلمين ومقدَّرَاتهم، فقد مَكَّن اللورد كرومر - الحاكم الفعلى لمصر - للأقباط حتى وصل عدد الوزراء الأقباط في مصر في بداية القرن العشرين إلى ما بين الستة والثمانية في كل وزارة، حتى تولى قبطي هو(بطرس غالي) رئاسة الوزراء في مصر في الثالث عشر من نوفمبر سنة 1908م في سابقة لم تتكرر، وبتوليه رئاسة الوزراء ظهرت علاقته الفاضحة بالإنجليز، حيث قام بالدور الخياني المطلوب منه على أتم وجه، فكان هو القاضي في (محاكمة دنشواي) الشهيرة الذي حكم على المصريين المظلومين بالإعدام، والساعي لمد امتياز قناة السويس، وإتمام الاتفاق الثنائي مع الإنجليز الذي يخرج بمقتضاه السودان عن السيطرة المصرية إلى الإدارة الإنجليزية صراحةً مع تحمل مصر كافة الأعباء العسكرية والمادية في إعادة فتح السودان، وغير ذلك من الأدوار، حتى تم اغتياله، وبدأت الاضطرابات الطائفية من الأقباط.
وقد استخدم الاستعمار الأوروبي نفس الأسلوب في محاولته اقتطاع الشام من الخلافة العثمانية، إذ تدخلت كل دولة في شئون الخلافة بدعوى حماية الأقلية الدينية التي تتبعها في مذهبها، فتدخلت فرنسا لحماية الكاثوليك، وروسيا لحماية الأرثوذكس.. وهكذا ..
ذلك الأسلوب الاستعماري البغيض أحيته الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين بتبنيها ورعايتها لإسرائيل، فرغم معرفتنا أن اليهود الآن هم من يسيطرون على القرار السياسي في أمريكا، وأنهم اخترقوا العقيدة المسيحية بابتكار مذهب الأصولية الإنجيلية الذي يحتم على المؤمنين من النصارى مناصرة إسرائيل، إلا أننا نرى أيضًا أن البداية لم تكن كذلك، بل كان منشؤها أن مصالح الفريقين قد التقت؛ فالشرق الإسلامي عالم مهم وحيوي لأمريكا من حيث وجود النفط في أراضيه بكثرة، ومن حيث الخلاف العقائدي في المقام الأول، ومن حيث كونه ساحة لصراع النفوذ بين أمريكا وروسيا خلال ما سُمِّيَ بالحرب الباردة؛ لذا كانت أمريكا تبحث عن موطيء قدمٍ فيه، فلما لجأ إليها اليهود هي وبريطانيا كان الترحاب والإقبال على رعاية الدولة الغاصبة، وإمدادها بكل ما تحتاج!!
وقد آتت الثمرةُ أُكُلَها لأمريكا حتى الآن، فمنذ قيام إسرائيل، وقد صارت أمريكا حاضرة في المشهد العربي والإسلامي بقوة، وظلت تتحكم في المنطقة كلاعب أساسي بمشاركة الاتحاد السوفيتي، ثم كلاعب أوحد بعد انهياره؛ فتدبر الانقلابات التي جَرَّتِ الويلات على المسلمين، وتقيم نظم حكم موالية لها، وإن تظاهرت بعداوتها، كما ضمنت تيارًا متدفقًا من النفط بأرخص الأسعار، وأصبحت صاحبة الكلمة الأولى على كل نظم الحكم في العالم العربي.
إن تجربة أمريكا مع إسرائيل في المنطقة تكرار لتاريخ مَضَى، ولكنه يأبى إلا أن يكرِّر نفسه، فهل نعي نحن المسلمين ذلك؟!، وهل يدرك أولو الأمر أن العاقل من يتعظ بغيره لا من يتعظ به غيره؟!!






















(7)


أحفاد كعب بن الأشرف وقضية الحجاب!![7]

ذكرنا في المقال السابق أن التنوع والتلون من أهم سمات الباطل في مواجهة الحق، ولكن يبقى أن هناك – دائمًا - طرقًا ووسائل ثابتة للباطل في هذه المواجهة، اعتمدها زعيم أهل الباطل إبليس منذ خروجه عن طاعة الله عز وجل، واتخاذه عداوة بني آدم دِينًا.
وقضية إنكار الحجاب واعتباره ردة ثقافية، والتي أثارها أحد الوزراء المصريين تبين أن من وسائل الباطل الثابتة على مدار الأزمان إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا بكل الوسائل الممكنة، المعروفة والمستحدثة.
إن مواجهة الباطل للحق عسكريًا ليست مضمونة النتائج في كثير من الأحوال، ففي وقت قوة الحق يكون النصر حليفه، وفي وقت ضعفه ربما تشحذ الحروب همم أبنائه لمواجهة عدوهم؛ لذا لابد من وسيلة لتخدير أعصاب جنود الحق، وإلهائهم عن المواجهة الحقيقية والاستعداد لها.
وهذا السلاح الذي يستخدمه أعداء الحق إشاعة الفاحشة من الخطورة بمكانٍ حتى أنه استدعى تحذيرًا إلهيًّا خالدًا على مَرِّ الأزمان يحذر وينبه: "يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا..."{الأعراف:27}.
إنها وسيلة ثابتة في المنهج الإبليسي إذن، يستعملها الشيطان وأولياؤه من الكفار والمنافقين، فقوم لوطٍ جاءوا بفاحشةٍ ما سبقهم بها من أحدٍ من العالمين، وكانت هي الطامة التي سببت هلاكهم، وقد شغلت عليهم تلك الفاحشة تفكيرهم، لدرجة أنهم كانوا يفعلونها جهارًا، وفي أماكن تجمعهم ولا يختفون بها، بل ويعتدون على الرجال في الطريق بالفاحشة عنوة.
وعلى مدار التاريخ كان ذلك السلاح الفاتك- إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا -كان حاضرًا في مواجهات الباطل مع الحق بقوة، مع اختلاف القائمين به وتنوعهم، ففي العهد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام كان أحد يهود بني النضير يقود حربًا ضروسًا ضد المسلمين، ليست قبيلة بني النضير بكاملها لكن واحدًا منها، وكان اسمه كعب بن الأشرف وهو من قادة وزعماء بني النضير، وكان يصرّح بسب الله عز وجل وسب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار في هجاء الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكتف بهذا الأمر بل إنه ذهب ليؤلب القبائل على الدولة الإسلامية، وذهب أيضًا إلى مكة المكرمة وألّب قريشًا على المسلمين، وبدأ يذكِّرهم ويتذاكر معهم قتلاهم في بدر، بل فعل ما هو أشد من ذلك وأنكى - وهو كما نعرف من اليهود، ويعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرسل من رب العالمين - فعندما سأله القرشيون وهم يعبدون الأصنام قالوا له: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه وأي الفريقين أهدى سبيلا؟
فقال الكافر: أنتم أهدى منهم سبيلًا.
وفي ذلك أنزل الله عز وجل:
[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا] {النساء:51}.
وهذا الكلام الذي قاله كعب لقريش شجعهم على حرب المسلمين.
بل فعل هذا الكافر أمورا تخرج عن أدب العرب وعن فطرتهم سواء في إسلامهم أو في جاهليتهم، فقد بدأ يتحدث بالفاحشة في أشعاره عن نساء الصحابة رضي الله عنهن وعن أزواجهن جميعًا.
ويظهر من خلال موقف كعب بن الأشرف مدى الانحراف الجنسي ومحاولة إثارة الغرائز واستخدام ذلك في إفساد الأرض، فنحن نجده يتحدث عن نساء الصحابة رضي الله عنهن؛ يتحدث بالفاحشة وبما لا يستقيم مع صاحب فطرة سليمة، فكانت هذه إحدى طرق اليهود التي استخدموها قبل النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصره وبعده، كما فشا فيهم الزنا.
قال صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ".
وكان هذا شيئًا عامًّا في تاريخهم وإلى الآن، فمعظم وسائل الإعلان من سينما وغيرها من برامج وأفلام إباحية تمت بصلة قوية إلى اليهود؛ فأكثر من 50 % من وسائل الإعلام في العالم مملوكة لليهود، وما بين 80 إلى 90 % من الإعلانات التي تقدم في هذه الوسائل من البرامج أو الأفلام تقوم أساسًا على إثارة الغرائز والجنس والنساء، ولا بد أن ينتبه المسلمون إلى هذا الأمر جيدًا.
كما شهد العهد النبوي موقفًا آخر حيث قام رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول بمحاولته الدنئية الشهيرة لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا من خلال حادث الإفك، إذ اتهم أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها بارتكاب الفاحشة مع الصحابي الجليل صفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق، ونشر ذلك الإفك ليطعن شرف رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، وليثلم جدار الشرف في الجماعة المسلمة كلها، فإذا كانت أم المؤمنين ذاتها وقعت في ذلك الذنب فما بالك بمن دونها؟!!
ومن هنا استحق ابن سلول وأمثاله من المنافقين ذلك التهديد العنيف بالعقاب في الدنيا والآخرة "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" {النور: 19}.
فمجرد حب إشاعة الفاحشة يستحق صاحبه ذلك العذاب، فما بالك بمن يقوم بنشر الفاحشة فعلاً ؟!!
واستمر ذلك التوجه عند أهل الباطل على مدار التاريخ، ومن ذلك ما حدث في بدايات القرن العشرين من موجة الدعوة إلى خلع الحجاب التي تبنتها بعض المنظمات النسائية في أوروبا التي راعها كونُ الحجاب هو الزي الرسمي والشعبي لكل فئات نساء المجتمع المسلم، فاستقطبت بعض الشخصيات من النساء والرجال فيما يشبه غسيل المخ، ليصيروا دعاةً ضد العفة والفضيلة عن قصدٍ منهم أو عن جهل.
ومع تقدم التقنيات في النصف الثاني من القرن العشرين صارت الحرب في سبيل إشاعة الفاحشة أشد كثافة، وأكثر تطورًا، فمع ظهور وانتشار التلفاز والسينما دأب المنافقون وسادتهم على نشر الرذيلة، وتجميلها من خلال الإعلام، وما يقدمونه من أفلام تُهَوِّن من شأن التبرج والزنا وشرب الخمور، وتجعل كل هذه الفواحش من الأمور المعتادة التي يلجأ إليها أغلب أبطال العمل الفني، ومع ذلك يظهرونهم بالمظهر الطيب السعيد الناجح في كل مجالات حياته، من أجل أن يقوم المشاهدون بتقليدهم.
ومع انتشار الفضائيات صارت الكليبات العارية هي عنوان العديد من القنوات التي صارت تدغدغ مشاعر الشباب والفتيات والرجال والنساء على حَدًّ سواء، مما نرى صداه وتأثيره على زي الفتيات في الطرقات.
وفي مجال الانترنت أظهرت دراسة حديثة أن العالم العربي هو الأول في العالم من حيث البحث عن كلمة (جنس) على شبكة الإنترنت، كما بلغ عدد المواقع الجنسية على الشبكة في أواخر عام 2003م 2.4 مليون موقع، كما أن مستخدمي الشبكة حول العالم يتبادلون 2.5 مليار رسالة جنسية يوميًا.
كل ما مضى يبين لنا سِرَّ الحرب الضروس على الحجاب الذي فرضه اللهُ عزَّ وجل على الفتيات والنساء المسلمات.
إن هذه الحرب هدفها الأول هو إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، حتى تخمد قوة الحق في نفوس المؤمنين، وتثور قوى الغريزة، فيسوقهم أعداؤهم كما يسوقون ذوات الأربع.
وقد اتخذت هذه الحرب ميادين عدة، ففي أوربا بدأت فرنسا داعية الحرية في فرنسا بمنع المسلمات ارتداء الحجاب في المدارس، لأن فيها ما يقرب من ثمانية ملايين مسلم يمثلون أكبر جالية إسلامية في أوربا، وفرنسا تريد إذابة كل ما يتعلق بالإسلام من قلوبهم، وتريد أن تدمر الأخلاق الإسلامية في نفوسهم، ثم حذت عدة مقاطعات ألمانية حذوها رغم أن ألمانيا تتظاهر بأنها لاتريد العداء مع المسلمين!
أما في العالم الإسلامي فالمنافقون يقومون بهذا الدور على أكمل ما يريده أعداء الله؛ لأن لهم عقليةً واحدة، وهدفًا واحدًا هو إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وتحت هذا الهدف يندرج القانون التونسي الذي يمنع الحجاب من عشرات السنين، ويعتبره زيًّا طائفيًّا حتى اليوم.
وفي مصر يندرج تحته منع الحجاب في المدارس بقرار أحد وزراء التعليم المشهود لهم بكراهية الإسلام نظامًا وأحكامًا.
ثم ما حدث أخيرًا من تصريح لأحد الوزراء بأن الحجاب ردة للوراء، وتصريح آخر لأحد الممثلين بأن المرأة المحجبة معاقة ذهنيًا.
ولاتزال البرامج التليفزيونية تستضيف أهل النفاق الجدد الذين يستعرضون جهلهم في إنكار فرضية الحجاب، ويكذبون ما جاء من عند الله عز وجلَّ، ويستشهدون بآراء إخوانهم من مكذبي القرآن ليبطلوا كلام الله سبحانه وتعالى، والله غالب على أمره ولكن أكثرهم لا يعلمون.
إنهم يريدون العُري، يريدوننا قومَ لوطٍ آخرين نأتي المنكر علانية، يشعرون بالضيق إذا رأوا مظاهر العفة سائدة في المجتمع، إنهم - لا شك - يستمتعون – بل ويستفيدون - من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وهدفهم الأسمى أن يهدموا بنيان المجتمع المسلم، فقد فهموا جيدًا أنَّ مَن يريد تقويض أركان مجتمع ما استعصى على الهزيمة والتغيير؛ فعليه أن يهدم حصن الأخلاق والعفة فيه....









(8)


لماذا السودان؟!![8]

نتابع جميعاً - منذ سنوات – ذلك الاهتمام المحموم من القوى الغربية، وعلى رأسها أمريكا بالسودان، وما يجري فيه من أحداث وصراعات، وتابعنا ذلك التدخل الدولي من أجل الوصول لحل لمشكلة الجنوب، والحرب الدائرة فيه منذ أكثر من عشرين عاماً، ذلك التدخل الذي أسفر عن اتفاق للسلام بشروط مجحفة تُعَدُّ مقدمةً لانفصال الجنوب عن الشمال، وإقامة دولة مسيحية فيه.
ولم يهدأ ذلك التسابق المحموم بعد توقيع الاتفاقية، ودخولها حيز التنفيذ، ولكنه بحث عن جبهة أخرى يستغلها في تحقيق هدفه، وكانت هذه الجبهة هي إقليم (دارفور)، حيث اتهمت أمريكا والدول الكبرى ما أسمتهم(بميلشيات الجنجويد) عربية الأصل بإقامة مذابح جماعية، مدعومةً من الحكومة السودانية، وشن حرب إبادة عرقية لقبائل أخرى من أصول أفريقية.
ورغم أن الجميع مسلمون، وأن الخلافات بين القبائل في إقليم (دارفور) قديمة، وكلها بسبب الاعتداءات التي تحدث من الرعاة على حقول المزارعين؛ لأجل إطعام قطعانهم، ويتم حلها بمجالس عرفية أحكامها ملزمة للطرفين، رغم كل ذلك إلا أن القوى الاستعمارية وعلى رأسها أمريكا نسجت خيوط حرب عرقية، وحوادث اغتصاب يقوم بها مسلمون ضد مسلمين آخرين ومسلمات، وانبرت هذه الدول للدفاع عن حقوق هؤلاء المظلومين المسلمين ضد إخوانهم الظالمين المسلمين أيضاً.
وإذا كنا نعلم علم اليقين أن أمريكا ومعها أوروبا لا تفتآن تحاربان المسلمين، وتبيداهم في كل مكان من الأرض تصل أيديهما إليه. فما بالهما في قضية (دارفور) تأتيان للتدخل من أجل حماية لفريق من المسلمين؟!! إن الأمر يمثل لغزاً لمن لا يدرك الأسباب الحقيقية للتدخل الصليبي، فتعالوا نعرف أبعاد هذا التدخل ومراميه.
فيما يظهر لنا فإن لهذا التدخل أربعة أسباب مهمة وأساسية:
أولها: خوف الدول الصليبية الاستعمارية من انتشار المدِّ الإسلامي في أفريقيا وسطاً وجنوباً، وخاصة في جنوب السودان، فهذه الدول التي ظلت تدعم التمرد في جنوب السودان طوال عشرين عاماً أو يزيد - حتى استطاعت الوصول لاتفاق السلام الذي يمهد لانفصال الجنوب - تطمح بعد هذا الانفصال إلى تحقيق حُلمها بإقامة دولةٍ مسيحيةٍ في جنوب السودان. هذه الدولة مُخطَّط لها أن تحقق عدة أهداف إستراتيجية منها:
· أن تكون حاجزاً منيعاً أمام انتشار الإسلام في أفريقيا.
· أن تمنع التواصل بين أي محاولات مستقبلية من المسلمين للتواصل مع الشعوب المسلمة المضطهدة وسط وجنوب قارة أفريقيا.
· إبقاء دول الشمال المسلم في حالة قلق وعدم استقرار مستمرَّيْن، عن طريق تصدير الاضطرابات من هذه الدولة التي ستكون مرتعاً لأجهزة الاستخبارات العالمية.
ثانيها: قضية البترول السوداني، ومحاولات الاستيلاء عليه، من الشركات الكبرى بهذه الدول الاستعمارية الصليبية، حيث يصل الإنتاج الحالي إلى 300 مليون برميل /في اليوم، وباحتياطي أولي مقداره 600 مليون برميل /في اليوم، وتقع الاكتشافات النفطية بالجنوب، وجنوب شرق، وجنوب غرب، حيث جنوب دارفور، ذي المساحة الشاسعة، والبترول الواعد الذي يمد أمريكا حالياً- من خلال أنبوبة النفط الممتدة بداية من تشاد- بحوالي 16% من احتياجاتها الاستهلاكية اليومية من البترول البالغة حالياً 19 مليون برميل يومياً.
وهناك ما هو أخطر من البترول.. حيث يختلط تراب إقليم دارفور باليورانيوم بكثرةٍ تجعله محط أنظار كل القوى الكبرى عالمياً وإقليمياً.
ثالثها: السيطرة على منابع النيل: وهذه السيطرة لها أهداف متنوعة منها:
· الضغط على مصر والسودان سياسياً، حيث سيصبح مصيرهما مرتبطاً بالدولة المسيحية المسيطرة على مجرى النيل، ومن ثَمَّ مرتبطاً بالدول الكبرى، ورغباتها، وعندها يصير القرار السياسي مرهوناً برغبات هؤلاء، وتفقد مصر والسودان استقلاليتهما عملياً، أو تضطران لخوض غمار حربٍ أمام القوى الكبرى دفاعاً عن الحياة ذاتها.
· تقديم مياه النيل هدية إلى إسرائيل التي مازالت تحلم، وتخطط بوصول مياه النيل إليها ليروي ظمأ المحتلين، وييسر سبل العيش والزراعة لهم بأرخص الأثمان.
رابعاً: الاستفادة من خصوبة أراضي السودان سلة غذاء العالم العربي، في توفير الغذاء بأنواعه لكل الدول الاستعمارية المشاركة في إشعال الأزمة، مع إبقاء الوضع في شمال السودان على ما هو عليه من عدم استخدام هذه الأراضي بالصورة التي تخدم السودان، والعالم الإسلامي، وذلك من خلال إبقائه في دوامة الصراع، والضغط عليه باستخدام سلاح المياه.
إذن تتبدَّى الصورة في حقيقتها مختلفة عن الجزء الظاهر منها... الذي تظهر فيه الولايات المتحدة وأوربا، وهي ترتدي عباءة الأم الحنون التي تعطف على المساكين الذين يتعرضون للاضطهاد والإبادة، حيث يظهر الشكل الحقيقي لثعلبٍ ماكر يداور ويناور من أجل التهام ذلك الجزء من العالم الإسلامي، لتنفتح له أبواب أخرى ظل يخطط لفتحها طويلاً حتى آن الأوان.
العراق وأحفاد ابن العلقمي!![9]
لعل من الظواهر التاريخية النادرة أن ينفرد قُطرٌ من الأقطار بتكرار تجربة تاريخية معينة بتفاصيلها وشخوصها، فالمعتاد أن التاريخ يكرر نفسه، ولكن يكون مسرحه العالم كله لا في بلدٍ محدد بعينه، ولكنَّ الظاهرة التي نتحدث عنها، تكررت في بلدٍ واحدٍ هو العراق بنفس التفاصيل، ونفس صفات الشخصيات.
وهذه الظاهرة هي وجود الوزير الخائن الذي يعاون المحتل الغاصب على بلوغ مراده من احتلال البلد المسلم، واستباحته والسيطرة على مقدراته، وقتل أهله، وخاصةً حاكمه السابق؛ فيقدمه للعدو شامتًا سعيدًا ليقتلوه، ثم يعينوه مكانه؛ ليصبح هو – فيما يظن - السيد المطاع.
إن أحداث هذه القصة قد جرت في العراق الشقيق المنكوب عند هجوم هولاكو بجيش التتار عام 656ه على بغداد، حيث كان المعاون الأكبر والأكثر خطراً للتتار هو الوزير الشيعي الخائن مؤيد الدين بن العلقمي؛ فقد اتصل هولاكو بمؤيد الدين بن العلقمي، مستغلاً فساده وتشيعه وكراهيته للسنة، واتفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد، والمساعدة بالآراء الفاسدة، والاقتراحات المضللة التي يقدمها للخليفة العباسي المستعصم بالله، وذلك في مقابل أن يكون له شأن في (مجلس الحكم) الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة، والتخلص من الخليفة..وقد قام الوزير الفاسد بدوره على أكمل ما يكون.. وكان له أثر بارز على قرارات الخليفة، وعلى الأحداث التي مرَّت بالمنطقة في تلك الأوقات..
فقد عَمَدَ هولاكو إلى أن يطلب من الوزير الفاسد (مؤيد الدين بن العلقمي) أن يقنع الخليفة العباسي (المستعصم بالله)أن يخفض من ميزانية الجيش، وأن يقلل من أعداد الجنود، وأن لا يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب،بل يُحوِّل الجيش إلى الأعمال المدنية من زراعة وصناعة وغيرها،دون كبير اهتمام بالتدريب والقتال والسلاح والجهاد!!وقد قام الوزير العميل مؤيد الدين بن العلقمي بذلك فعلاً، وهذا لا يُستغرَب من مثله، وقد قام الخليفة – للأسف - بخفض ميزانية التسليح، وقام أيضاً بتقليل عدد الجنود، حتى أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام المستنصر بالله والد المستعصم بالله سنة640هجرية، لا يزيد عن عشرة آلاف فارس فقط في سنة 654هجرية!!وهذا يعني هبوطًا مُرَوِّعًا في الإمكانيات العسكرية للخلافة.. ليس هذا فقط بل أصبح الجنود في حالة مزرية من الفقر والضياع، حتى إنهم كانوا يسألون الناس في الأسواق!! وأُهمِلت التدريبات العسكرية، وفقد قواد الجيش أية مكانة لهم، ولم يعد يُذكَر من بينهم من له القدرة على التخطيط والإدارة والقيادة، ونسي المسلمون فنون القتال والنزال، وغابت عن أذهانهم معاني الجهاد..!!

وقد كان مما أوحى به ذلك الشيطان ابن العلقمي إلى وليه هولاكو أن يشترط على الخليفة في المفاوضات أن يستدعى من بغداد بعض الرجال بعينهم، وهؤلاء هم الرجال الذين ذكر ابن العلقمي أسماءهم لهولاكو، وكانوا من علماء السُّنة، وكان ابن العلقمي يُكِنُّ لهم كراهية شديدة، وبالفعل تم استدعاؤهم جميعًا، فكان الرجل منهم يخرج من بيته ومعه أولاده ونساؤه فيذهب إلى مكان خارج بغداد عيَّنَه التتار بجوار المقابر، فيُذبَح العالم كما تُذبَح الشياه، وتؤخذ نساؤه وأولاده إما للسبي أو للقتل..!!لقد كان الأمر مأساة بكل المقاييس.

كما أصدر هولاكو قرارًا بأن يُعيَّن مؤيد الدين بن العلقمي الشيعي رئيسًا على مجلس الحكم المعين من قِبَل التتار على بغداد، على أن توضع عليه بالطبع وصاية تترية.
ولم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار بكل تأكيد، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، ووصل إلى الإهانة المباشرة للرئيس الجديد مؤيد الدين العلقمي، ولم تكن الإهانة تأتي من قبل هولاكو، بل كانت تأتي من صغار الجند في جيش التتار؛ وذلك لتتحطم نفسيته، ولا يشعر بقوته، ويظل تابعًا للتتر!!
وقد رأته امرأة مسلمة وهو يركب على دابته، والجنود التتر ينتهرونه ليسرع بدابته، ويضربون دابته بالعصا.. وهذا بالطبع وضع مهين جدًّا لحاكم بغداد الجديد.. فقالت له المرأة المسلمة الذكية: "أهكذا كان بنو العباس يعاملونك؟!!"
لقد لفتت المرأة المسلمة نظر الوزير الخائن إلى ما فعله في نفسه، وفي شعبه.. لقد كان الوزير معظمًّا في حكومة بني العباس.. وكان مُقدَّماً على غيره.. وكان مسموع الكلمة عند كل إنسان في بغداد، حتى عند الخليفة نفسه..
أما الآن، فما أفدح المأساة..!!إنه يُهانُ من جندي تتري بسيط لا يعرف أحد اسمه..بل لعل هولاكو نفسه لا يعرفه..! وهكذا دائمًا من باع دينه ووطنه ونفسه، يصبح بلا ثمن حتى عند الأعداء، فالعميل عند الأعداء لا يساوي أية قيمة إلا وقت الاحتياج، فإن تم لهم ما يريدون زالت قيمته بالكلية..
وقد وقعت كلمات المرأة المسلمة الفطنة في نفس مؤيد الدين بن العلقمي، فانطلق إلى بيته مهمومًا مفضوحًا، واعتكف فيه، وركبه الهَمُّ والغَمُّ والضيق.. لقد كان هو من أوائل الذين خسروا بدخول التتار.. نَعَمْ هو الآن حاكم بغداد.. لكنه حاكم بلا سلطة.. إنه حاكم على مدينة مدمرة.. إنه حاكم على الأموات والمرضى..!!
ولم يستطع الوزير الخائن أن يتحمل الوضع الجديد.. فبعد أيام من الضيق والكمد.. مات ابن العلقمي في بيته..!!
مات بعد شهور قليلة جدًّا من نفس السنة التي دخل فيها التتار بغداد.. سنة656هجرية.. ولم يستمتع بحُكمٍ ولا مُلْكٍ ولا خيانة..!! وليكون عبرة بعد ذلك لكل خائن..
"وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد"
فهل يتعظ أحفاد ابن العلقمي في العراق الآن، وقد أصبحوا متنفِّذِين تحت سلطان الأمريكان، يتلقون منهم الأوامر، ويعلنون على الملأ رغبتهم في بقاء المحتل الأمريكي البغيض؟!!
هل يتعظون بعد أن تخلصوا من حاكم العراق الطاغية القديم؛ ليصبحوا هم الطغاة الجدد؟!!
إنَّ في التاريخ دروسًا وعِبرًا لمن يريد، ولكننا تعلَّمنا أنه لايعتبر به إلا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..











(9)

نعم قد نحزن لموت صدام[10]


فوجئت الأمة العربية والإسلامية في صباح أول أيام عيد الأضحى المبارك لعام 1427 من هجرة النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم بنبأ جلل..
لقد تم تنفيذ حكم الإعدام شنقًا لزعيم دولة عربية مسلمة شقيقة..
لقد أُعدم صدام حسين الرئيس السابق للجمهورية العراقية المحتلة منذ شهر أبريل عام 2003م، عندما سقطت العاصمة العراقية بغداد في يد الجيش الأمريكي..
وبدأ المسلمون عيدهم بمتابعة مشاهد الإعدام التي تم بثها على مختلف المحطات الفضائية، والتي ظهر فيها صدام متماسكًا وهو يصعد إلى منصة الإعدام، حيث جهر بالشهادتين قبيل تنفيذ الحكم..
ومما لا شك فيه أن صدام حسين كان حاكمًا مستبدًا شديد القسوة على معارضيه، حيث سجن منهم الكثير ونكل بالكثير، وعلى سبيل المثال نذكر لصدام هجومه على قرية حَلَبْجَة العراقية بهدف القضاء التام على أي معارضة كردية لحكمه، مما تسبب في استشهاد خمسة آلاف مواطن كردي وإصابة عشرة آلاف آخرين..
كما لا نستطيع أن ننسى أن صدام تسبب في جرِّ المنطقة العربية إلى حرب الخليج في عام 1991م، وذلك بعد أن تم استدراجه لغزو دولة عربية مسلمة وهي الكويت، مما تسبب في شقّ الصف العربي المسلم، وجرّ الشعب العراقي إلى سلسلة من المآسي والمعاناة التي ما زال يتجرعها إلى الآن..
ولكن السؤال..
هل كان صدام حسين هو الطاغية الوحيد في العالم الإسلامي؟
وبالتأكيد الإجابة هي لا، فما أكثر الطغاة في عالمنا العربي والإسلامي..
إن الشعوب العربية والإسلامية من أكثر شعوب العالم التي عانت على أيدي حكامها المتجبرين، فلا يوجد شعب مسلم إلا وذاق أهلُه مرارة السجن والاعتقال والتعذيب ومصادرة الأموال، بل ويصل الأمر إلى القتل والإعدام لمجرد الاختلاف في الرأي مع النظم الحاكمة، التي أعطت لآرائها وسياساتها منزلة إلهية مقدسة لا يجوز معارضتها..
ومما لا شك فيه أن ذهاب الطغاة يورث سعادة في قلوب الناس، ومع ذلك نجد في النفس الكثير من الأسى والحزن بموت صدام على هذا النحو ولعل من أسباب هذا الحزن غياب العدالة..
فلماذا العراق بالذات؟
ولماذا صدام تحديدًا الذي تم اختياره لإنقاذ البشرية من ظلمه؟
هنا نجد الفرق واضحًا بين عدالة الله المطلقة المجردة من أي هوى، وعدالة البشر التي تخضع بالكلية لحسابات المصالح وتتحكم فيها أهواء البشر..
أيضًا مما يدعو للأسى هو إعدام حاكم دولة عربية مسلمة في ظل احتلال بلاده وعلى يد أعوان هذا المحتل الغاصب، كما أن توقيت تنفيذ حكم الإعدام يحمل الكثير من مظاهر الإهانة والاستخفاف بمشاعر أبناء الأمة الإسلامية بكاملها..
بالإضافة إلى أن تعمّد إعدامه كالأضحية في يوم النحر الأكبر يحمل رسالة واضحة إلى أبناء العالم الإسلامي، بأنه من يرفع رأسه سنقطعها، ومن يقاوم سيذبح، والويل لمن يخرج عن الطريق الذي رسمه الأمريكان، حيث لن يجد له وليًا ولا مرشدًا..
أليس في ذلك ما يورث الحزن؟
ولعله مما يدعو للأمل معرفة أن هذا الحادث بل وأسوأ منه قد مرّ على الأمة الإسلامية في تاريخها، ولكن بفضل الله استطاعت النهوض مرة أخرى والقيام من كبوتها..
ولعل أكثر المواقف شبهًا بحادثة إعدام صدام هو ما حدث مع المستعصم بالله خليفة المسلمين، والعجيب أنه حدث في العراق أيضًا، وبطريقة مهينة كالتي مات بها صدام حسين، وإن كانت إهانة الأمة الإسلامية بموت صدام هي في توقيت إعدامه، فإن إهانتها بموت المستعصم كانت في الوسيلة التي اختارها المحتل لقتله..
لقد تم وضع المستعصم في جوال وتم ركله بالأقدام حتى الموت!!
ورغم ما روي عن المستعصم من أنه كان قارئًا للقرآن ومحبًا لمجالس العلم؛ إلا أنه كان قائدًا فاشلاً، لم لم يستطع تربية شعبه على الجهاد، ولم يجعل دولته قوية أو يحصن أسوارها، ولم يقدّر بدقة قوة أعدائه، فلم يكن الحاكم المسلم المخلص لشعبه المنفّذ لتعاليم دينه، فكان جزاؤه إهانته وسقوط دولته، ومشاهدة وقائع قتل أبنائه وأحبابه وأصحابه ومَلَئِه بعينيه، ثم في النهاية بطريقة موته..
ومع كون المستعصم حاكمًا فاشلاً، وشخصية ليست على قدر المسئولية، إلا أن العالم الإسلامي كله قد حزن عليه ليس حبًا فيه وفي نظام حكمه ولكن لأنه كان رمزًا للخلافة العباسية العريقة، وأيضًا لأنه قُتل على يد مجموعة من الهمج الذين لا يريدون للأرض خيرًا ولا صلاحًا، كما أنه قتل في عقر دار المسلمين..
ما أشد التشابه بين الحدثين!!
وما أشد الحزن الذي في قلوبنا على الزعيمين، مع أننا وبوضوح نرفض سياستهما جملة وتفصيلاً..
كما أننا لن ننخدع بأن محاكمة صدام كانت عادلة، وبأن القضاة والمنفذين هم عراقيون وليسوا من الغزاة كالتتار وغيرهم..
فنحن جميعًا نعلم وهم أنفسهم يعلمون أنهم دمىً تحركها أصابع الأمريكان في السرّ أحيانًا، وفي العلن أغلب الأحيان..
لقد استفزّ موت المستعصم وخراب بغداد واحتلال العراق المسلمين آنذاك فخرج من بينهم قطز وأصحابه، فأزاحوا الغمة عن كاهل الأمة، وأعادوا المجد والكرامة والهيبة للمسلمين..
كان هذا في القديم..
فمن يا تراه قطز هذا الزمان..
ومن أين سيخرج؟؟؟
ويسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبًا.



















(10)


العراق وأحفاد ابن العلقمي!![11]

لعل من الظواهر التاريخية النادرة أن ينفرد قُطرٌ من الأقطار بتكرار تجربة تاريخية معينة بتفاصيلها وشخوصها، فالمعتاد أن التاريخ يكرر نفسه، ولكن يكون مسرحه العالم كله لا في بلدٍ محدد بعينه، ولكنَّ الظاهرة التي نتحدث عنها، تكررت في بلدٍ واحدٍ هو العراق بنفس التفاصيل، ونفس صفات الشخصيات.
وهذه الظاهرة هي وجود الوزير الخائن الذي يعاون المحتل الغاصب على بلوغ مراده من احتلال البلد المسلم، واستباحته والسيطرة على مقدراته، وقتل أهله، وخاصةً حاكمه السابق؛ فيقدمه للعدو شامتًا سعيدًا ليقتلوه، ثم يعينوه مكانه؛ ليصبح هو – فيما يظن - السيد المطاع.
إن أحداث هذه القصة قد جرت في العراق الشقيق المنكوب عند هجوم هولاكو بجيش التتار عام 656ه على بغداد، حيث كان المعاون الأكبر والأكثر خطراً للتتار هو الوزير الشيعي الخائن مؤيد الدين بن العلقمي؛ فقد اتصل هولاكو بمؤيد الدين بن العلقمي، مستغلاً فساده وتشيعه وكراهيته للسنة، واتفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد، والمساعدة بالآراء الفاسدة، والاقتراحات المضللة التي يقدمها للخليفة العباسي المستعصم بالله، وذلك في مقابل أن يكون له شأن في (مجلس الحكم) الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة، والتخلص من الخليفة..وقد قام الوزير الفاسد بدوره على أكمل ما يكون.. وكان له أثر بارز على قرارات الخليفة، وعلى الأحداث التي مرَّت بالمنطقة في تلك الأوقات..
فقد عَمَدَ هولاكو إلى أن يطلب من الوزير الفاسد (مؤيد الدين بن العلقمي) أن يقنع الخليفة العباسي (المستعصم بالله)أن يخفض من ميزانية الجيش، وأن يقلل من أعداد الجنود، وأن لا يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب،بل يُحوِّل الجيش إلى الأعمال المدنية من زراعة وصناعة وغيرها،دون كبير اهتمام بالتدريب والقتال والسلاح والجهاد!!وقد قام الوزير العميل مؤيد الدين بن العلقمي بذلك فعلاً، وهذا لا يُستغرَب من مثله، وقد قام الخليفة – للأسف - بخفض ميزانية التسليح، وقام أيضاً بتقليل عدد الجنود، حتى أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام المستنصر بالله والد المستعصم بالله سنة640هجرية، لا يزيد عن عشرة آلاف فارس فقط في سنة 654هجرية!!وهذا يعني هبوطًا مُرَوِّعًا في الإمكانيات العسكرية للخلافة.. ليس هذا فقط بل أصبح الجنود في حالة مزرية من الفقر والضياع، حتى إنهم كانوا يسألون الناس في الأسواق!! وأُهمِلت التدريبات العسكرية، وفقد قواد الجيش أية مكانة لهم، ولم يعد يُذكَر من بينهم من له القدرة على التخطيط والإدارة والقيادة، ونسي المسلمون فنون القتال والنزال، وغابت عن أذهانهم معاني الجهاد..!!
وقد كان مما أوحى به ذلك الشيطان ابن العلقمي إلى وليه هولاكو أن يشترط على الخليفة في المفاوضات أن يستدعى من بغداد بعض الرجال بعينهم، وهؤلاء هم الرجال الذين ذكر ابن العلقمي أسماءهم لهولاكو، وكانوا من علماء السُّنة، وكان ابن العلقمي يُكِنُّ لهم كراهية شديدة، وبالفعل تم استدعاؤهم جميعًا، فكان الرجل منهم يخرج من بيته ومعه أولاده ونساؤه فيذهب إلى مكان خارج بغداد عيَّنَه التتار بجوار المقابر، فيُذبَح العالم كما تُذبَح الشياه، وتؤخذ نساؤه وأولاده إما للسبي أو للقتل..!!لقد كان الأمر مأساة بكل المقاييس.

كما أصدر هولاكو قرارًا بأن يُعيَّن مؤيد الدين بن العلقمي الشيعي رئيسًا على مجلس الحكم المعين من قِبَل التتار على بغداد، على أن توضع عليه بالطبع وصاية تترية.
ولم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار بكل تأكيد، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، ووصل إلى الإهانة المباشرة للرئيس الجديد مؤيد الدين العلقمي، ولم تكن الإهانة تأتي من قبل هولاكو، بل كانت تأتي من صغار الجند في جيش التتار؛ وذلك لتتحطم نفسيته، ولا يشعر بقوته، ويظل تابعًا للتتر!!
وقد رأته امرأة مسلمة وهو يركب على دابته، والجنود التتر ينتهرونه ليسرع بدابته، ويضربون دابته بالعصا.. وهذا بالطبع وضع مهين جدًّا لحاكم بغداد الجديد.. فقالت له المرأة المسلمة الذكية: "أهكذا كان بنو العباس يعاملونك؟!!"
لقد لفتت المرأة المسلمة نظر الوزير الخائن إلى ما فعله في نفسه، وفي شعبه.. لقد كان الوزير معظمًّا في حكومة بني العباس.. وكان مُقدَّماً على غيره.. وكان مسموع الكلمة عند كل إنسان في بغداد، حتى عند الخليفة نفسه..
أما الآن، فما أفدح المأساة..!!إنه يُهانُ من جندي تتري بسيط لا يعرف أحد اسمه..بل لعل هولاكو نفسه لا يعرفه..! وهكذا دائمًا من باع دينه ووطنه ونفسه، يصبح بلا ثمن حتى عند الأعداء، فالعميل عند الأعداء لا يساوي أية قيمة إلا وقت الاحتياج، فإن تم لهم ما يريدون زالت قيمته بالكلية..
وقد وقعت كلمات المرأة المسلمة الفطنة في نفس مؤيد الدين بن العلقمي، فانطلق إلى بيته مهمومًا مفضوحًا، واعتكف فيه، وركبه الهَمُّ والغَمُّ والضيق.. لقد كان هو من أوائل الذين خسروا بدخول التتار.. نَعَمْ هو الآن حاكم بغداد.. لكنه حاكم بلا سلطة.. إنه حاكم على مدينة مدمرة.. إنه حاكم على الأموات والمرضى..!!
ولم يستطع الوزير الخائن أن يتحمل الوضع الجديد.. فبعد أيام من الضيق والكمد.. مات ابن العلقمي في بيته..!!
مات بعد شهور قليلة جدًّا من نفس السنة التي دخل فيها التتار بغداد.. سنة656هجرية.. ولم يستمتع بحُكمٍ ولا مُلْكٍ ولا خيانة..!! وليكون عبرة بعد ذلك لكل خائن..
"وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد"
فهل يتعظ أحفاد ابن العلقمي في العراق الآن، وقد أصبحوا متنفِّذِين تحت سلطان الأمريكان، يتلقون منهم الأوامر، ويعلنون على الملأ رغبتهم في بقاء المحتل الأمريكي البغيض؟!!
هل يتعظون بعد أن تخلصوا من حاكم العراق الطاغية القديم؛ ليصبحوا هم الطغاة الجدد؟!!
إنَّ في التاريخ دروسًا وعِبرًا لمن يريد، ولكننا تعلَّمنا أنه لايعتبر به إلا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. (10)

(11)


وصدق اليهودي الكاذب!![12]

يُعَدُّ الكذب من الصفات الخبيثة الراسخة في النفس اليهودية، وهو كذب لا يتوقف عند حدٍّ أو مقدَّس، فهو يتجاوز الكذب على الناس حتى يصل إلى الكذب على الله سبحانه وتعالى، يقول تعالى: "ويقولون على الكذب هم يعلمون" آل عمران:75.
ومع ذلك فأحيانًا تخرج كلمات صدقٍ من هؤلاء الكاذبين، وهذه الكلمات توضح حقيقة الصراع، وأسباب النصر والغَلَبَة، ومن ذلك ما ورد عن شيخ من شيوخهم ساءه أن يرى المسلمين متآخين سعداء؛ فقد مَرَّ شاس بن قيس وكان شيخًا يهوديًا، عظيم الكفر، شديد الضغَن على المسلمين، شديد الحسد لهم على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: "قد اجتمع مَلأ بني قيلة بهذه البلاد. لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار" وهذه هي كلمة الصدق التي نعنيها، ولنا عليها تعليق بعد قليل.. ثم ماذا فعل اليهودي؟ لقد أمر فتىً شابًّا من يهود كان معه؛ فقال: اعْمِدْ إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يومَ بُعَاثَ وما كان قبله، وأَنْشِدْهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعلْ، فتكلَّمَ القوم عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا حتى تَوَاثَبَ رجلان من الحيين على الرَّكب: أوس بن قيظِيّ أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجَبَّار بن صخر، أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة، فغضب الفريقان جميعًا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة الحَرَّة السلاحَ السلاحَ.
فخرجوا إليها، فبلغ ذلك رسولَ الله صلّى الله عليه وسلَّم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: "ياَ معشر المسلمين اللهَ اللهَ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللهًُ، وأَلَّف بين قلوبكم"؛ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيدٌ من عدوهم، فبكوا وعانَقَ الرجال من الأوس والخزرج بعضُهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سامعين مطيعين قد أطفأ اللهُ عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس.
إن ما يهمنا من هذه القصة ليس هو الإقرار بحتمية الصراع بين الإخوة - فهذا ليس القاعدة - وإنما يهمنا أولاً: معرفة أن النفوس البشرية تتباين في أفكارها ومشاربها ورغباتها، وأنها إما أن تتفق فيحدث الود المتبادل، وإما أن تختلف فيحدث التنازع الذي قد يكون فكريًّا، وقد يتطور ليصير صراعًا عنيفًا يسقط فيه القتلى والجرحى..
ومن هنا فليس من المستغرب أن يحدث صراع بين الإخوة في قُطرٍ من الأقطار، فاللهُ عز وجل يقول: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما..."، فحَكَمَ لهما عز وجل بالإيمان رغم حدوث القتال بينهما، وقد أخبر الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثه: "وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ؛ وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ - وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، أَوْ قَالَ: مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا".. صحيح مسلم.
وثانيًا: أن هذا الصراع قد حدث في بعض مواقف التاريخ الإسلامي وإن لم يكن بنفس دموية وكثرة وقوعه في التاريخ غير الإسلامي .
ويهمنا ثالثًا: أن نعلن مدى صدق كلمة شاس بن قيس"... لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار... "؛ فقد صدق ذلك الكذوب؛ إن وحدة المسلمين هي الخطر الماحق لقوة اليهود، وإن فُرقتَهم – أي المسلمين - هي السبيل الوحيد الذي يُمكِّن اليهود من السيطرة عليهم وعلى الناس جميعًا في ظل عدم قناعة اليهود بالعيش السلمي مع الآخرين، وإيمانهم باعتبار الآخرين أعداءً، ومن ثَمَّ ضرورة إخضاعهم بكل وسيلة ولو كانت دنيئة.
كما يهمنا رابعًا: معرفة وسائل الحل التي نفذها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم للقضاء على المشكلة مبكرًا، وذلك لنستطيع الإفادة منها في حل الصراع الدائر بين حركتي فتح وحماس في فلسطين، والذي يستنزف الجهود الفلسطينية، ويؤخر إمكانية تحقيق التحرير لكامل التراب الفلسطيني الإسلامي..
إن مفاتيح حَلِّ مشاكل الصراع بين الأشقاء في الوطن الواحد كما تبرز من خلال معالجة الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تتمثل في:
أولاً: وجود شخصية متجردة تسعى للإصلاح الحقيقي دون اتباع للهوى، أو مجاملة لأحد الأطراف على حساب الحق، وهذه الشخصية يجب أن تكون متمتعة بثقة الطرفين، كما يجب أن تكون ذات فطنةٍ وبصيرة وقدرة على النفاذ إلى حقائق الأمور وأسباب المشكلات، ووسائل الحل، وقد مثَّل الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الشخصية في القصة المذكورة..
ثانيًا: الإسراع بالحل فورًا دونما انتظار لسقوط ضحايا، أو وقوع إصابات، فبمجرد وصول خبر المواجهة إلى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أسرع بالخروج إلى الأنصار لمنع هذه المواجهة..
ثالثًا: التذكير بالله عَزَّ وجَلَّ، فعندما وصل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مكان المواجهة أخذ يقول: "يا معشر المسلمين، اللهَ اللهَ..."، وفي ذلك التذكير ما فيه من ردٍّ للنفوس إلى الإيمان..
رابعًا: التذكير بقبح نتائج الصراع بين الإخوة، ومن ذلك: قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لهم: "... أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم..."، فالعودة للجاهلية بالنسبة للأنصار والصحابة عامة تعني فقدان الإيمان، والعودة للضلالة التي عاشوا يرزحون تحت وطأتها سنين طويلة..
ومن نتائج الصراع القبيحة أيضًا ضعف الشوكة، وذلك في قول الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "... وأَلَّفَ به بين قلوبكم..." فبعد التآلف سيحلُّ التنازع والشقاق ومعهما الضعف والهوان..
ومن النتائج القبيحة للصراع عدم وضوح الرؤية بالنسبة للمتصارعين، فقد استنقذهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ من الكفر، ولكنهم بتنازعهم هذا يطرحون عنهم نور الإيمان جانبًا، ويعودون للتيه في وديان الضلالة، وتغيب عنهم النظرة الصحيحة للأمور، وتطيش الموازين، فيرون الإخوة أعداءً، والأعداء أصدقاء..
إن دروس هذا الموقف كما ذكرنا ذات فائدة في حل النزاع الدائر بين فتح وحماس، وإن الشخصية المتجرِّدة النزيهة التي تستطيع الأخذ بين الفريقين إلى شاطئ الأُخوَّة لموجودةٌ بكثرة في الأراضي الفلسطينية، وفي العالم الإسلامي.. المهم أن تخلص النوايا للإصلاح، وألا يكون هناك مَن يشعل هذه الخلافات لأغراضٍ شخصية، وإن وُجِد فيجب على الجميع أن يدركوا أهدافه، ويُبطِلوا مخططه.
وقد يقول قائل: ولكن ماذا نفعل إذا رفض أحدُ أطراف النزاع التذكير بالله، كأن يكون هذا الطرف علمانيًّا مثلاً، أو غيرَمسلمٍ؟ والإجابة عن هذا السؤال تستدعي الانتظار للمقال القادم بإذن الله عَزَّ وجَلَّ..










(12)


صورة


لجورج بوش


الكراهية وحدها لا تكفي!![13]



لعل أصداء زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى أمريكا اللاتينية قد وصلت إلى أطراف العالم أجمع، وعرف الجميع أن الشعور بالكراهية تجاه سياسة أمريكا المتكبرة في العالم ليس خاصاً فقط بالعالم الإسلامي، ولكنه يشمل العالم أجمع، مسلمين وغير مسلمين، وعرباً وغير عرب، وقريبين وبعيدين.
إن الظلم لا يقبله صاحب فطرة سليمة، والآلام التي خلَّفتها أمريكا هنا وهناك تثير - كما رأينا - غضب الكثيرين، ولكننا نشاهد بأعيننا أنه برغم هذا الغضب وهذه الكراهية فإنَّ السياسة الأمريكية ما زالت مستمرة على نفس النهج ، ومازال الظلم مترسخاً، والحق ضائعاً!
إنَّ الحقيقة التي لا مراء فيها أن الكراهية وحدها لا تكفي لرفع الظلم!
إن الظلم قد عمَّ وانتشر، في العراق وأفغانستان، وفي فلسطين والصومال، وفي أمريكا اللاتينية وآسيا.. الظلم في كل أطراف المعمورة، فهل آن الأوان أن يُرفَع هذا الظلم ويزول؟
إن السُّنة الإلهية الماضية أن الظلم لا يُرفع وحده، وأن الظالم الذي فرض ظلمه بالقوة لا يمكن أن يُرفَع ظلمه إلا بالقوة أيضاً.. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ" ( أي كما لعن بني إسرائيل).
أرأيتم كيف يكون رفع الظلم ؟!
إن الكراهية وحدها لا تكفي!!
إننا شاهدنا في هذه الزيارة الأمريكية لخمس دول لاتينية رفضاً شعبياً حاسماً لهذه الزيارة، ومع ذلك شاهدنا استقبالاً حافلاً بالابتسامات والورود من زعماء هذه الدول وحكوماتها! إن البداية لابد أن تكون من الداخل.. لابد أن نُعالج أمراض الفصام التي بين الشعوب وحكامها.. لابد أن تكون الحكومة ممثلاً حقيقياً عن الشعب، تنقل فكرته، وتدافع عن رغباته، وتحرص على تحقيق آماله، وإلا فلا معنى لوجودها، فليست إمكانيات الدول قد خُلِقَت لتُسخَّر من أجل حفنة قليلة من أصحاب المصالح الخاصة..
والشعوب التي لا تجد توافقًا بين رغباتها وآمالها وبين حكامها لابد أن تسعى لأحد أمرين: إما إقناع حكومتها بطريقة أو بأخرى بما ترغب فيه، وإما أن تُغيِّر هذه الحكومة! وقبل أن يحدث ذلك لن تستجيب أمريكا ولا غيرها إلى مظاهرات الشعوب هنا وهناك.. إن لسان حال أمريكا يقول: إذا كان الظلم واقعًا عليكم من أبناء جِلدَتِكم وحكومتكم نفسها، وقد قبلتم هذا الظلم ورضيتم به، ولم تتحركوا لرفعه، فكيف تطلبون مني أن أكون أكثر شفقةً بكم من أهلكم؟!! وكيف تتوقعون أن أرفع بنفسي ظلمًا أوقعته بكم؟!!
ومرة أخرى: إن الكراهية وحدها لا تكفي لرفع الظلم!
لابد من حركة إيجابية منظَّمة موحَّدة مخلصة تهدف إلى إحقاق الحق، ونصرة المظلوم.. لابد من توعية عامة للشعوب بحقوقها المسلوبة، فكم من حقوقٍ تضيع وأصحابها لا يعرفون أنها من حقهم أصلاً!! لابد من دراسة متأنية لتجارب التغيير هنا وهناك..
وخلاصة القول:
لابد لمن أراد أن يَرفع الظلم عن كاهله وكواهل الناس أن يكون فاعلاً لا مفعولاً به!!
وكلٌ ميسر لما خلق له!















(13)


الصِّين والمسلمون ودورة التاريخ!![14]

من المسلَّمات في الدراسات التاريخية، وفي الواقع البشري أن للتاريخ دوراتٍ، تتداول فيها الأمم قيادة البشرية، وهذا التداول الذي يتم بإرادة إلهية يدفع الله – عزَّ وجلَّ – به الفساد عن الناس؛ مصداقًا لقوله تعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحج:40]، كما قد ينتج عن هذا التداول والتدافع أضرارٌ للبعض، فهناك – دائمًا - قويٌّ منتصرٌ يجني ثمار جهده، كما أن هناك ضعيفًا خاسرًا يقع تحت سلطان القوي.
وقد كان التاريخ دائمًا- شاهدًا على هذا التداول، فكان شاهدًا على نفوذ وجبروت المصريين القدماء ثم نهايتهم على أيدي البطالمة، كما شهد التاريخ عُلُوَّ الرومان وطغيانهم، وتجبرهم في الأرض ومعاناة الناس من قسوتهم وجبروتهم، كذلك شهد التاريخ نفس الأمر بالنسبة للدولة الفارسية حتى جاء الإسلام والمسلمون فأزالوا الطغيان الرومي والفارسي، وأشرق نور العدل على البشرية، وعرف البشر معنى المساواة، وتذوقوا معاني جديدة لم يتذوقوها من قبلُ، وطرقت أسماعَهم ألفاظٌ لم يألفوها كالرحمة والعدل والحرية والشورى.
وظل المسلمون في المقدمة حتى تخلوا عن المنهج الرباني، فكان لزامًا أن تُطَبَّق عليهم السُّنَّة الإلهية في التداول والتدافع، فكان أن سقطت الخلافة الإسلامية العثمانية وتمزقت، وتفرَّق المسلمون أياديَ سَبَأ، وورثت بريطانيا وفرنسا ميراث الخلافة الإسلامية، وأصبحتا القوتين العظميين، حتى من قبل سقوط الخلافة بعشرات السنين، وذلك إبَّان ضعفها.
وجرت هذه السُّنة – سُنة التداول بين الأمم - على بريطانيا وفرنسا كما جرت على غيرهما من المسلمين وغير المسلمين، فجاءت الحرب العالمية الثانية، وظهر الوارثون الجدد: أمريكا والاتحاد السوفيتي، فعاثا في الأرض فسادًا، وملآها رعبًا، ولم يتعلَّما من كل تجارب التاريخ، فجرت السنة على الاتحاد السوفيتي وسقط، وجاء دور الولايات المتحدة التي كلَّما مرت السنون تهاوت، وكلَّما شعرت بالأرض تميد تحت قدميها حاولت التغطية على ضعفها بمزيد من التجبر و الطغيان.
إنه من بَدَهِيات القول أن أمريكا تتهاوى وتترنح، والسنة الإلهية في التداول واقعة عليها لا محالة، ولكنْ مَنِ العملاق الذي يبدو في الصورة الآن ينمو ويكبر ويتحدى، ويزيد من إمكانياته، وقوته ليحتل الصورة كاملة عقب سقوط الولايات المتحدة الوشيك؟
إنه الصين... نعم لقد أعدَّت الصين نفسها جيدًا، حتى تقوم بذلك الدور، وتستعصي على محاولات أمريكا إقصاءها، لقد مدَّ الأخطبوط الصيني أذرعه في مختلف بلاد العالم عن طريق منتجاته المتنوعة حتى أضحت الصين من أقوى دول العالم اقتصاديًا، بل هي الأولى من حيث النمو بمعدلات غير مسبوقة.
ولكن الصين لم تكتفِ بالقوة الاقتصادية الكاسحة، فهي تسعى للعب الدور الأول عالميًا، وتريد أن تكون القطب الأعظم إن لم يكن الأوحد؛ لذا كان من الطبيعي أن تسعى لتنمية وتضخيم قواها العسكرية، وهذا ما كان!
فقد قرأنا منذ أيامٍ أنَّ الصين قد زادت ميزانيتها العسكرية لهذا العام بنسبة 18% تقريبًا، ليصبح حجم الإنفاق العسكري الصيني 45 مليار دولار في العام الجاري، وهذه الزيادة تعني أن الصين تخطو خطواتها الأخيرة نحو استغلال ترنُّح الولايات المتحدة الأمريكية، وقرب سقوطها، لتحتل مكان الصدارة والرِّيادة في المستقبل القريب.
هذه هي الصورة بالنسبة إلى الصين، فما حقيقة الصورة بالنسبة لنا نحن المسلمين؟
إن حالة الخمول التي يعيشها الكثير من المسلمين تعني أننا قد نكون بصدد استمرار المعاناة والمهانة والضغوط في المرحلة القادمة؛ لأننا لم نقم بما يجب علينا أن نقوم به، لم نقم بما قامت به الصين من إعدادٍ للقوة بمختلف أنواعها، ولم نرجع في ذات الوقت إلى مصدر قوتنا وعزتنا: الإسلام دين الله عز وجل، وتعاليمه وأخلاقه التي تدعو إلى قيادة البشرية وإخراجها من عبادة العباد إلى عبادة رَبِّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الدنيا والآخرة، كما تدعو المسلمين إلى الإمساك بأَزِمَّة التقدم في كل المجالات. فنحن ما زلنا نُرَاوح مكاننا، ولو شئنا لكُنَّا الآن في المكانة السامقة، ندق بأيدينا أبواب المستقبل، وننتزع مقعد القيادة من قوى الشرق والغرب عن جدارة واستحقاق... فهل نفعل؟!!





(14)


قصة الصومال!! (1من2)[15]


ظل الصومال بمشاكله يشغل العالم لفتراتٍ طويلةٍ خلال القرن الفائت وما قبله، ويبدو أنه سيظل كذلك في المستقبل المنظور، فموقع الصومال موقع حيوي للقوى الكبرى، ولجاراتها – وخاصة إثيوبيا - على حدًّ سواء.
يحتل الصومال موقعًا فريدًا ومتميزًا شرقي القارة الأفريقية في منطقة القرن الأفريقي ويُطِلُّ بسواحل طويلة على المحيط الهندي؛ لذا كان مطمعًا لجارته إثيوبيا الدولة الداخلية المختنقة بعيدًا عن أي محيطات أو بحار، كما كان مطمعًا للقوى الاستعمارية الكبرى التي أرادت تأمين الطريق إلى مستعمراتها في الشرق كما فعلت بريطانيا عام 1839م، حيث أقامت حامية عسكرية على أرض الصومال لتوفر لجنودها الغذاء خاصة من لحوم الأغنام الصومالية المشهورة، واقتطعت من أرض الصومال قطعة تضم منطقة (أوجادين) وسمَّت هذه القطعة بالصومال البريطاني، كما ألحقت منطقة (أوجادين) خاصة بإثيوبيا، وعلى هذا المنوال سارت فرنسا، فقامت عام 1860م باحتلال جزءٍ من الأراضي الصومالية أسمته الصومال الفرنسي(جيبوتي فيما بعدُ). كما قامت إيطاليا بالشيء ذاته، فأقامت صومالاً ثالثًا أطلقت عليه الصومال الإيطالي عام 1889م.
لكن في عام 1936م قرَّرت إيطاليا توسيع نفوذها في الصومال على حساب الاحتلال البريطاني فاجتاحت جيوشها منطقة (أوجادين) الملحقة بإثيوبيا، تحت ادِّعاء إعادة الأمور إلى نصابها، ومن ثَمَّ قامت بإعادة هذه المنطقة للصومال، وأطلقت على المنطقة (الصومال الإيطالي وإقليم أوجادين) اسم منطقة شرق أفريقيا الإيطالية.
أصبح إقليم (أوجادين) بؤرةَ الصراع في القرن العشرين بين الصومال وإثيوبيا، هذا الصراع الذي تدثَّر بعباءة الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين: أمريكا والاتحاد السوفيتي؛ فاندلعت حرب كبيرة بين إثيوبيا والصومال تحت شعار الأحقية في إقليم (أوجادين) واستمرت تلك الحرب من عام 1964م حتى 1967م، حيث دعمت الولايات المتحدة إثيوبيا، في حين قام الاتحاد السوفيتي وجمهورية الصين الشعبية بدعم الصومال حتى أُنهِكَت قوى الدولتين المتحاربتين فقبلا بوقف إطلاق النار، رغم أن المشكلة الرئيسية لم تجد حلاً مما جعل الوضع قابلاً للانفجار مرةً أخرى في أي وقت.
وفي التسعينيات من القرن العشرين قام اللواء محمد سياد بري - الذي استولى على الحكم في الصومال عام 1969م - بإلغاء الأحزاب، وإحكام القبضة الأمنية على البلاد، وإعلان التمسك بالأفكار الشيوعية في محاولةٍ منه للتقرب من الاتحاد السوفيتي، وقام كذلك بدعم كلٍّ من الفصائل الصومالية والمعارضة الإثيوبية المتواجدة في إقليم (أوجادين)، وطالًبَ إثيوبيا باستعادة الإقليم، وهو ما رفضته الأخيرة فاشتعلت الحرب الثانية بين الدولتين عامي 1977م و 1978م.
استطاعت القوات الصومالية تحقيق نتائج مبهرة في بداية المعركة، واحتلت أجزاء واسعة من الأراضي الإثيوبية غير أن تدخُّل أمريكا لصالح إثيوبيا، وإمدادها لها بالعتاد والسلام كان كفيلاً بتغيير نتائج المعركة لصالح إثيوبيا، مما حدا بسياد بري إلى اتخاذ قرارٍ بوقف القتال؛ مما تسبب في ضياع حلم الجيش الصومالي باستعادة (أوجادين) والذي كان على وشك التحقق.
كان التوقف عن القتال بمثابة الصفعة المهينة لأحلام وطموحات المؤسسة العسكرية الصومالية، وقد دفعها ذلك الشعور إلى التمرد على سياد بري حتى تمكنت من إنهاء نظام حكمه عام 1991م.
بعد سقوط سياد بري وهروبه خارج البلاد غرق الصومال في أَتُون حرب أهلية طاحنة قادها أمراء الحرب، الأمر الذي دمَّر مرافق البلاد، وتسبب في مقتل وإصابة عشرات الآلاف غير المشردين.
وقد تخلَّل ذلك دخول القوات الأمريكية متسترة بعباءة الأمم المتحدة، ولكنها مُنِيَت بهزيمة ساحقة أمام مقاومة الشعب الصومالي مما أجبر أمريكا على الفرار من الصومال.
تسبَّبت الحرب الأهلية في تمزُّق الصومال إلى إمارات خاضعة لأمراء الحرب المنتفعين منها، الباحثين عن السلطة والثروة معًا، أما الشعب فقد عاش حياة بائسة مشردًا فقيرًا مفتقدًا للأمن على أرواحه وأمواله وأعراضه.
كانت إثيوبيا هي المستفيد الأكبر من تمزُّق الصومال وتفتته بين أمراء الحرب، حيث تخلَّصت من الجيش المنظم الذي كان يطالب بحقوق الصومال التاريخية في (أوجادين) بموافقة الحكومة الانتقالية الصومالية في نهاية التسعينات.
وكان لابُدَّ لهذا الطوفان من الدماء الصومالية أن يتوقف، وكان لابد فيمن يتدخل لإيقاف ذلك الدم أن تكون صفحته بيضاء، ويده نقية من الخوض في تلك الدماء....وقد كان!!

للمقال بقية في الأسبوع القادم بإذن الله للحديث عن المحاكم الإسلامية...
.(15)



قصة الصومال!!(2من2)[16]


كانت المحاكم الإسلامية هي البديل عن أمراء الحرب، كانت هي المنقذ ذا الصفحة البيضاء واليد النقية من دماء الصوماليين، فبعد سقوط نظام سياد بري 1991م وانسحاب الولايات المتحدة من قوات حفظ السلام، واستمرار الحرب الأهلية ما يقرب من أربعة عشر عامًا كانت المحاكم الإسلامية الشرعية هي نظام القضاء في الصومال، ورأى القائمون على هذه المحاكم من العلماء أن يوسِّعوا دورها تلبيةً لحاجات الشعب المطحون؛ فبدأت المحاكم في تقديم خدمات مثل التعليم والرعاية الصحية، وأصبحت تمثل – أيضًا - دور الشرطة، واستطاعت بكفاءة أن تسد مسألة الفراغ الأمني والقانوني، وأن تحد من نفوذ أمراء الحرب الأقوياء، وقامت بدور بارز في حماية الضعفاء بعد الانهيار الكامل لدعائم الدولة الصومالية.
دفع نجاح تجربة المحاكم إلى انتشارها في ربوع العاصمة مقديشيو، ثم اتحدَّت بالتحالف ما بين رجال الدين وطبقة التجار.
تتكون المحاكم الإسلامية من أربع عشرة محكمةً تجمع أطرافًا محلية، ترتبط عشر محاكم منها بقبيلة واحدة هي قبيلة (الهُويَة) التي تسيطر على مقديشيو، كما أن هناك بعض المحاكم المستقلة عن اتحاد المحاكم الإسلامية. ويرأس هذه المحاكم الشيخ شريف شيخ أحمد، ويرأس مجلس الشورى فيها الشيخ طاهر عويس، وتهدف المحاكم الإسلامية إلى بسط القانون والنظام والعمل على غلبة الولاء الديني الإسلامي على الولاء القبلي.
كما يعتبر قادة الحركة أن من أهداف الحركة الأساسية إتاحة الفرصة للشعب الصومالي لتقرير مصيره بنفسه بعد أن عانى من تسلط أمراء الحرب سنوات طوالاً، ويقول شريف شيخ أحمد: إن المحاكم الإسلامية ليست حركة سياسية، بل هي شكل من أشكال الثورة الشعبية التي فجرها الشعب الصومالي بعد أن سَئِمَ ستة عشر عامًا من الفوضى والقتل والنهب والاختطاف.
تتكون سلطة المحاكم من هيئتين تشريعية وتنفيذية, تقوم الأولى على مجلس شوري من 88 شخصا عينتهم الكتل المنضوية تحت لواء المحاكم وتضم قبائل وتجارًا وعلماء دين ومثقفين.
ولصعوبة التئام مجلس الشورى باستمرار شكل مجلس شورى مصغر لمساندة السلطة التنفيذية بشكل دائم واختير للمجلس الأخير اسم "اللجنة الدائمة" برئاسة عويس أيضًا.
وفي القرارات المصيرية تجتمع اللجنة الدائمة مع أعضاء المجلس التنفيذي بكامل أعضائها للبَتِّ فيما هو مطروح.
أما المجلس التنفيذي فأشبه بالحكومة وهو يضم رئيسه شيخ شريف شيخ أحمد ونائبين هما النائب الأول عبد الرحمن جنقو والنائب الثاني عبد القادر علي عمر إضافة إلى أمين عام ورؤساء المكاتب التي تشبه الوزارات لتخصصها بالمجالات الخدمية والسياسية.
كان ردُّ الفعل الدولي لقيام المحاكم الإسلامية وانتصاراتها على أمراء الحرب متوقَّعًا إلى حَدٍّ كبير، فنظرًا لكراهية الغرب لكل ما هو إسلامي، ومحاولته تشويه كل ما يتصل بالإسلام بسبب، فقد بدأ طوفان الشائعات والاتهامات الأمريكية والأوربية للمحاكم؛ فتارة يقولون إنها – طالبان أخرى تريد أن تقيد حريات الصوماليين، وتفرض عليهم نموذجًا للإسلام يرفضه الغرب، وتارة أخرى يتهمونها بإيواء عناصر من تنظيم القاعدة ذلك الشبح الذي تستخدمه أمريكا لتخويف العالم من الإسلام، والحصول على تفويض بملاحقة كل مَن تبغضه في أي مكان في العالم دون مراعاةٍ لسيادة الدول، ورغم نفي قادة الحركة لكلا الاتهامين إلا أن الغرب الذي غضب من انتصارات قادة المحاكم اتخذ قرارًا جديًا وفوريًا بالسماح لإثيوبيا ذات الأطماع الواسعة في الصومال بإدخال قواتها لاحتلاله تحت غطاء مساندة الحكومة الصومالية وبدعم كامل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا.
وتحت هذا الغطاء حدثت أعنف المجازر في تاريخ الصومال، وتم تهجير مئات الآلاف من أبناء الشعب الصومالي المسكين؛ مما حوَّل الأمر من مواجهة بين القوات الإثيوبية الداعمة للقوات الحكومية الصومالية وبين المحاكم الإسلامية إلى مواجهة شاملة بين تلك القوات والشعب الصومالي بأكمله؛ فقامت قبيلة الهوية كبرى قبائل العاصمة الصومالية بالدعوة إلى قتال القوات الإثيوبية بالصومال وهي الدعوة التي أيدها عدد من علماء الدين الصوماليين.
كما طالب شيوخ القبيلة - في اجتماع بمقديشو - المجتمعَ الدوليَّ والعالمَ العربي والإسلامي بالتحقيق فيما وصفوه بأعمال إبادة في الصومال.
كما وجَّه شيوخ الهوية انتقاداتٍ إلى أوغندا التي أرسلت جنودها للمشاركة في قوات الاتحاد الأفريقي. وأكدت القبيلة الصومالية أنَّ مطار مقديشو الذي يسيطر عليه الجنود الأوغنديون استُخدِمَ كقاعدة انطلاق للطيران الإثيوبي الذي قام بعمليات قصف جوي خلال المعارك الأخيرة.
واتهم المشاركون في الاجتماع أيضا كينيا بشن حملة اعتقالات في صفوف الصوماليين الفارين من المعارك.
وقد دفعت قسوة المعارك بعض الشخصيات إلى تغيير موقفها الداعم لإثيوبيا؛ فقد شهدت الأيام الأخيرة تحولاً في موقف حسين عيديد نائب رئيس الحكومة الانتقالية الصومالية الذي دعا من العاصمة الإريترية أسمرا إلى انسحاب الجيش الإثيوبي من الصومال، واتهمه بارتكاب جرائم إبادة ضد الصوماليين.
وأدَّت المعارك إلى نزوح نحو خمس سكان العاصمة الصومالية خلال الشهرين الماضيين بحسب آخر تقديرات لمفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين. وأكدت المفوضية في بيان لها أن 208 ألف شخص هجروا منازلهم في مقديشو منذ الأول من فبراير الماضي.
ووسط كل هذا كان موقف المحاكم الإسلامية ثابتًا باستمرار الجهاد ضد القوات الإثيوبية والقوات الحكومية العميلة؛ فقد توعَّد الشيخ حسن طاهر أويس بمواصلة قتال القوات الإثيوبية حتى تخرج من الأراضي الصومالية، وقال: إنه لن يكون هناك تفاوض مع الحكومة المؤقتة إلا بعد خروج الإثيوبيين. وأشار إلى أن من يقاتل القوات الإثيوبية هو الشعب الصومالي كله وليس المحاكم الإسلامية وحدها، واتهم الحكومة المؤقتة بأنها أصبحت أداة في يد الإثيوبيين.
لقد انتصرت إثيوبيا والحكومة الصومالية المؤقتة في تلك الجولة، وبدأ مقاتلو المحاكم في الكرِّ والفرِّ ابتغاء طرد المعتدين حتى أجلوهم عن الكثير من المواقع، ولكنَّ الخاسر الوحيد في تلك المعارك كان هو الشعب الصومالي.



(16)


الصومال: ماذا بعد؟ (3 من 3)[17]

تحدثنا في المقالين السابقين عن الصومال، مبينين تاريخه مع الاحتلال، وأهم القوى السياسية والعسكرية به، ورأينا الدور الذي لعبته المحاكم العسكرية في إقرار الأمن بالصومال بعد سنوات دامية عاشها الصوماليون.
ورأينا حرص إثيوبيا والولايات المتحدة على تبديد ذلك الأمان، والقضاء على الاستقرار الذي وفرته المحاكم الإسلامية، من أجل مصالحها في الصومال مستخدمة في ذلك أعوانها من أمراء الحرب السابقين.
ومن ثَمَّ أمامنا وقفة لابد أن نقفها لندرك الأسباب التي أوصلت الصومال إلى هذا الوضه المتدهور.
1 انعزال الصومال عن محيطها العربي:
يُعَدُّ الصومال إحدى الدول الأعضاء بالجامعة العربية، ومع ذلك فلم يكن للجامعة دور يُذكَر منذ نشأتها في تحقيق استقلال الصومال، ولا معاونته على التخلص من الحكم الاستبدادي لسياد بِرِّي.. وعندما دخلت قوات الولايات المتحدة لاحتلال الصومال تحت مظلة الأمم المتحدة عام 1992م، وقفت الجامعة العربية موقف المتفرج من الأحداث.
وليس أدلَّ على ذلك الانعزال - الذي يقابله إهمال وتخاذل عربي - من أنه بالرغم من اهتمام القمة العربية المنعقدة في بيروت في مارس 2002م بقضية الصومال، واعتمادها مبلغ 56 مليون دولار لدعم جهود المصالحة هناك، ثم تأكيد هذا الأمر في اجتماع اللجنة المكلَّفة بمتابعة الوضع في الصومال على مستوى المندوبين الدائمين (11 دولة)، بل واعتمادها تعيين مبعوث خاص للأمين العام للجامعة لمتابعة الملف الصومالي؛ فإن الاعتمادات المالية لم يصل منها شيء للحكومة الصومالية!
ولم يكن هذا بالشيء الجديد على الدول العربية، فقد تعطَّل مؤتمر (بيداوا) للمصالحة الوطنية بسبب عدم توافر الدعم المالي لعقد المؤتمر، والذي بلغ 5.4 مليون دولار آنذاك، لولا تعهد قطر وليبيا - بصورة منفردة - بتوفير هذا المبلغ.
والمثير للدهشة بل للاستنكار أن الدول العربية لم تكتفِ بإهمال الصومال وعدم مساعدته، بل قامت بخنقه اقتصاديًّا، فأوقفت دول الخليج الصادرات الصومالية إليها، وطبَّقت عدة دول عربية حظرًا تجاريًا أسفر عن خسارة الصومال لمئةٍ وسبعين مليون دولار كانت كفيلة - لو توافرت - بأن يعيش شعب الصومال ظروفًا أفضل.
إذن فقد بلغت حالة الانعزال عن المحيط العربي أَوْجَها، ومن ثَمَّ يصبح الحديث عن تحقيق التقارب - فضلاً عن الاندماج والوحدة - بين الصومال والعالم العربي بعيدًا جدًا، وهذا في الواقع هو حقيقة الموقف العربي بأكمله، فالعالم العربي كله ممزَّق ومنقسم على نفسه، ولا يستطيع التوحُّد في الوقت الحالي، ففضلاً عن اختلاف وتضاد مصالح الحكام، هناك حالة لا مبالاة كبيرة بين الشعوب بشأن حال الأمة، فإذا كان الحكام قد أهملوا الصومال، فإنَّ الشعوب قد أهملت دورها أيضًا في الضغط على الحكام ليتخذوا مواقف إيجابية نحو إخوانهم المسلمين المعذَّبين!!
إنَّ الوحدة العربية والإسلامية مرتبطة بيقظة مجموع الأمة - وليس الحكام فقط - ، وسعيها في تحقيق الوحدة. وهذه اليقظة تبدأ من أول مستوى يهم المسلم، وهو صلة الرَّحِم؛ فإن المسلم الذي لا يهتم بصلة الرحم، ولا يهتم بحال جيرانه في المسكن لا يمكن أن يهتم بأحوال المسلمين في بقاع الأرض، حيث لا يراهم ولا يدري بمعاناتهم.

2 انتشار الجهل:
نظرًا لطول فترة الاحتلال الأجنبي للصومال، الذي تلاه حكم ديكتاتوري في عهد سياد بري، ثم تلته الفوضى الضاربة في البلد حتى الآن؛ نظرًا لكل ذلك؛ فقد ضربت الأمِّيَّة أطناب ذلك البلد المسكين حتى بلغت نسبتها 75% من عدد السكان، وهي نسبة رهيبة تعبِّر بصدقٍ عن حال ذلك البلد المنكوب بالجهل والتخلف، وبسبب انتشار الأمية، وضعف المستوى العلمي في الصومال يلجأ مَن يريد الدراسة مِن أبنائه إلى الخارج، وفي الغالب لا يعودون بعد استكمال دراستهم؛ فيظل التخلف العلمي كما هو.

3 التمزق:
عانى الصومال كثيرًا تحت الاحتلال، ولم يكن ذلك كافيًا في نظر المحتلين حتى سلَّموا البلاد إلى ديكتاتور يحكم بالحديد والنار. في ذات الوقت كانت أثيوبيا وكينيا وهما من دول الجوار قد اقتطعتا إقليمين من أقاليم الصومال، وهما: إقليم (أوجادين) لأثيوبيا، وإقليم (النفد) لكينيا، وصارت كلُّ منهما ذات نفوذ في البلد المنكوب، وخاصة إثيوبيا التي لها أعوان من الحكومة الحالية التي كانت معارضة لنظام سياد بري، وبعد سقوط نظام سياد بري تنفَّس الصوماليون الصَّعَداء، وظنوا أنهم مقبلون على عهدٍ من الاستقرار ظلوا يحلمون به عقودًا، ولكن هيهات.. فإنَّ ثمار النظم الديكتاتورية مُرَّة، وقد أثمرت انشقاقاتٍ، ومحاولات للاستقلال عن الصومال، فنشأت (بونت لاند) و(جمهورية أرض الصومال)، وأقامت الأولى كما يقال علاقاتٍ مع إسرائيل، وأصبحت مقديشيو العاصمة تمثل ما تبقى من الصومال الأم.

الحلول:
يعتمد حل مشكلات الصومال على محاور عدة فمن جهة يكمن الحل في تنشيط الشعور بالأخوَّة الإسلامية على كافة المستويات والأصعدة بدءًا من الأهل والأرحام مرورًا بالجيران في السكن والوطن، وانتهاءً بالشعوب الإسلامية في كل مكان. أما أزمة الجهل والأمية فلا حَلَّ لها إلا بتولي نظام حكم مخلص يعمل على إخراج الصومال من أزمته، ويوفر حالة من الاستقرار؛ تُمَكِّن طيور الصومال المهاجرة من العودة للقيام بواجبها نحو بلدها، والأخذ بيده في طريق النهضة.
وفيما يتعلَّق بالتمزق فلن يخرج الصومال من هذا النفق المظلم إلا عندما يُعلِي الجميع المصلحة العامة على المصالح الشخصية الضيقة، ويتم توحيد الصومال مرةً أخرى تحت نظام حُكمٍ وطني حُر، يجمع شتات الصوماليين، ويعمل على استعادة أراضيه المسلوبة، ويجتهد في رفع المعاناة عن كاهل الشعب الصومالي، ووقتها سيكون الصومال إضافة حقيقية للعالم العربي والإسلامي، وتشرق شمس الاستقرار فوقه بعد طول غياب.













(17)


انتحار مسئول!![18]


فُجع العالم العربي بخبر انتحار وزير الزراعة الياباني إثر تورطه في قضية مالية.
ولم يكن سبب تلك الفجيعة هو الصدمة من تورط وزيرٍ في فضيحة، ولكن السبب هو اختلاف منهج العرب في مواجهة الفساد عن منهج اليابانيين، فاليابانيون لا يرحمون الفاسدين، ولا يتهاونون مع الفساد؛ بل يضربون على أيدي كل من يخون الأمانة، ولا يسمحون له أن ينعم بفساده، أو أن يفَّر به.
إن نظرة المجتمع الياباني للمسؤول الفاسد نظرة شديدة الاحتقار؛ لذا فإن من يتورط من المسئولين في أي فضيحة يعلم أنه قد جاء كبيرة من الكبائر بالنسبة لمجتمعه؛ ومن ثَمَّ فإنه لا يجرؤ على تخيل الحياة وسط هذا المجتمع مرة أخرى، بينما تتراوح نظرة المجتمع العربي - في عمومه - بين السلبية؛ حيث إنه لا يستطيع محاسبة ذلك المسؤول - وبين الإعجاب المفضي للتقليد؛ تمامًا كما صوَّر الشاعر ذلك الوضع بقوله:
إذا كان رَبُّ البيتِ بالدُّفِّ ضاربًا فشيمةُ أهلِ البيتِ كلِّهم الرقصُ
ولا شك أن منهج اليابان في مقاومة الفساد هو أحد أسباب تفوقها على الأمم، وهذه سنة إلهية لا تتخلف ولا تتبدل، كما أنه لا شك في أن تهاون العالم العربي مع الفساد والفاسدين من أهم أسباب تخلُّفه، ففي العالم العربي حيث يرتع الفاسدون، يصبح الفساد هو القاعدة، والصلاح والطهارة هما الاستثناء، ويتبجح الفاسد بفساده؛ حيث يدرك أنه لن يحاسبه أحد.
إن ما أصاب العالم العربي من فسادٍ شديدٍ نخر في عظامه كان كفيلًا بأن يصبح العالم العربي في ذيل دول العالم من حيث الصلاح والشفافية، ويشهد على ذلك تقرير الشفافية الدولية لعام 2006م؛ حيث جاءت أولى الدول العربية في المركز الحادي والثلاثين على مستوى العالم من حيث الشفافية وهي دولة الإمارات العربية بدرجة (6.2) من عشرة وهي كما نلاحظ درجة متدنية للغاية، بينما حصل أغلب الدول العربية على أقل من خمس درجات، وهي درجة تبين كيف استشرى الفساد في البلاد العربية، وما ذلك إلا لشيوع التستر على الفساد في هذه الدول.
إن التاريخ ليشهد على سقوط الأمم الفاسدة بفعل فسادها، فهذه هي الدولة الرومانية التي ضرب فيها الفساد بمعوله، يعمها الفساد، فصارت الدولة تنهب أموال رعاياها المساكين عن طريق الضرائب المتنوعة حتى على الأموات، وتُجيع أهل مستعمراتها ليطعموا أهل العاصمة من قمحهم وغَلاّتهم.
هذه الدولة سقطت سقوطًا مريعًا، ولم تستطع أن تستمر؛ لأن الفساد أسقط أركانها.
أما الدولة الفارسية، فقد بلغ سيل الفساد فيها الزُّبي، وأخذ كسرى يجمع من الأموال والمتاع ما لا يتخيله بشر، وكان أمراؤه وقادته ينهبون ما شاؤوا من رعيتهم، ولا يجسر أحدٌ على التعرُّض لهم، ولكل هذا لم تستطع تلك الدولة الصمود أمام الجيوش الإسلامية التي تحلَّت بالتقوى والصلاح، فانهار بنيان الدولة الفارسية وهرب ملكها، وتفرقت جيوشها، ولم تقم لها قائمة مرةً أخرى حتى اليوم.
وهذه السنة الإلهية لا تستثنى أحدًا، ولا تحابي أحدًا حتى لو كان مسلمًا؛ لذا فعندما انتشر الفسادُ انتشارًا سريعًا قبل الحروب الصليبية؛ سقطت إمارات الشام الممزقة بأيدي الصليبيين، ولجأ الأمراء الفاسدون إلى الصليبيين يضعون أيديهم في أيديهم ضد إخوانهم المسلمين.
وعندما تكرر الأمر، وانتشر الفساد بين المسئولين في الخلافة العباسية، وصار الأمراء والخليفة يغترفون من خزائن بيت مال المسلمين دون وجه حق، جاء طوفان التتار فقضى على هؤلاء وذبحهم، وأسقط الخلافة.
ومن العجيب أن تكون أحوال العالم العربي هكذا رغم حرص الرسول r على محاربة الفساد، ولو في بداياته وأبسط صوره؛ فيروي البخاري عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قال:
اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ rرَجُلًا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ؛ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ؛ قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا"، ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ؛ فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي. أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ. وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ"، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟". بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي.....
هكذا وبكل وضوح يستنكر الرسول r أن تصير المسئولية سبيلاً للإثراء غير المشروع.
إن انصلاح حال الأمة الإسلامية رهين بالعودة إلى الأصول التي وضعها الإسلام، ومن هذه الأصول؛ طهارة اليد؛ حيث ينبغي أن يحرص كل مسلم على أن يكون ماله حلالاً لا شبهة فيه، ومن هذه الأصول أيضًا محاسبة الفاسد وعقابه، وقد رأينا ذلك الوزير الفاسد الذي انتحر خوفًا من مواجهة عقاب المجتمع لتورطه في فضيحة مالية - وليس في استيراد مبيدات مسرطنة غرست المرض الخبيث في أجساد مئات الآلاف من رعيته، وليس في استيراد شتلات فاسدة، أو غيرها من المحاصيل التي أفشلت كُلَى الآلاف من المواطنين.
لابد أن يكون عقاب الفاسدين شديدًا، لكي ترتدع نفوسهم عن الفساد ومع ذلك فإننا لا ندعو المسؤولين العرب للانتحار عند ظهور فسادهم؛ لأن هذا الأمر يعني فقدنا لغالب المسئولين في العالم العربي!!!



















(18)


حماس والاختيار الصعب !![19]


مِمَّا لا شك فيه أنَّ ما يجري في فلسطين من أحداث متشابكة معقدة يجعل الناظر إلى هذه الأحداث والمحلِّل لها في شدة الحيرة، ومن هنا يظهر التباين في الرأي بين المتابعين إزاء فهمها وتحليلها، وتصور الحلول الناجعة لها، وهذا ما حدث في الاستبيان الذي وضعه الموقع في الأسبوع الماضي حول (الحل العملي لمشكلة فلسطين)، فإزاء الاختيارين الموضوعين في الاستبيان، وهما: انسحاب حماس وعودتها للمقاومة، أو استمرار حماس رغم الأزمة، كانت نسبة المؤيدين للاختيار الأول 33.9%، في حين اختار 66.1% الاختيار الثاني.
وهذه النتيجة تضعنا أمام عدد من الحقائق التي يجب أن نتفهمها، وهي:
1- أنه يبدو ومن الاستبيان أن التوجه العام يميل نسبيًا نحو إكمال حماس في السُّلطة، وعدم تخليها عن المسئولية مهما كانت العقبات، ومهما كانت التضحيات، وهذا الاختيار لا ينبع إلا من الثقة في طهارة حركة (حماس)، واليقين بسلامة منهجها، وحُسْنِ تطبيقها لهذا المنهج في الفترة التي تولَّت فيها الوزارة رغم ما واجهها ولا يزال من معوقات.
كما يعبر هذا الاختيار عن خشية أصحابه من أن يؤدي انسحاب حماس من السلطة _ إن حدث إلى عودة أصحاب المصالح الذين يتاجرون بمعاناة الشعب الفلسطيني، ويُثْرون على حساب أزماته داخليًّا، و يتنازلون عن غالب حقوق الشعب الفلسطيني خارجيًّا، ويبيعونها للعدو دون مقابلَّ اللهُمَّ إلا مصالحهم الشخصية.
2- يبدو من الاستبيان كذلك أنَّ هناك اتجاهًا لا بأس به يميل للاختيار الآخر وهو انسحاب حماس من السُّلطة، وعودتها للمقاومة، وأصحاب ذلك الاختيار ربما يرون أن الانغماس في العمل السياسي بقواعده الحالية لابُدَّ أن يلازمه التلوث بأدران السياسة المكيافيلِّية التي تشبَّع بها جُلُّ من خاض ذلك المجال، هذه السياسة التي لا تقيم وزنًا لأحكام الشرع، ولا للضوابط الأخلاقية، كما يرى أنصار هذا الاختيار أنَّ حلَّ القضية الفلسطينية لا يكون إلا بالمقاومة المسلحة التي تَقُضُّ مضاجع العدو، وتحيل ليلَه نهارًا، وأمنَه فزعًا.
3- يتضح من ذلك الاستقراء أنَّ كُلاًّ من المؤيد لاستمرار حماس بالسلطة، والرافض لذلك يحترم ويقدر قيمة حماس، ولكن الاختلاف في الرأي مرده الاختلاف في وصف العلاج الصحيح للأزمة.
ومن جانبنا نقول: إنَّ كلا الاختيارين الاستمرار أو الانسحاب والعودة للمقاومة له أدلَّة شرعية جيدة تؤيده، وليس كون أحد الآراء صحيحًا يستلزم خطأ الرأي الآخر؛ فربما كان الرأيان صحيحين، ولكنَّ أحدهما أولى من الآخر، أو أصلح في مرحلةٍ ما، فإذا تغيرت الأوضاع قد يصبح الرأي الثاني أولى وأنجع؛ فالعمل السياسي والمقاومة الجهادية كلاهما مأثور عن رسول الله r، ومن أراد التحقق من ذلك فعليه الرجوع لمعاهدات الرسول r مع اليهود والنصارى والمشركين، وهذا يمثل الجانب السياسي، وَلْيَعُدْ كذلك إلى باب الجهاد والغزوات والسرايا، ليطَّلع على الجانب الآخر من الصورة.
وإذا كان لكل اختيارٍ أدلته الشرعية، وسوابقه في السُّنة النبوية، فإنَّ المحكَّ في اختيار القرار الأنسب للظروف هو وجود فئة من المخلصين الفاهمين للأحكام الشرعية وكيفية تنزيلها على الواقع، فيقدمون رأيًا، ويؤخرون آخر حسب المصلحة العامة.
ونحن لا نشك في أنَّ رجال حركة (حماس) من هذه النوعية المتميزة من الرجال، ولكن لدينا نداء نحب أن نتوجه به إليهم، وهو أن يضعوا نُصْبَ أعينهم عند إقدامهم على أحد الخيارين بعض الضوابط والثوابت الأساسية التي لا يمكن التنازل عنها، وعلى رأس هذه الضوابط ضابطان مهمان، هما:
1- التمسك بالكتاب والسُّنَة اللذين أمر اللهُ U بالتمسك بهما وطاعتهما، وتوعَّد من أعرض عنهما بالضنك في الحياة الدنيا، وبالعمى في الآخرة، فقال سبحانه: "Ç`yJsùyìt7©?$#y#yèdŸxsù@ÅÒtƒŸwur4s+ô±oÇÊËÌÈô`tBuruÚtôãr&`tã̍ò2ÏŒ¨bÎ*sù¼ã&s!Zpt±ŠÏètB%Z3Y|ʼçnãà±øtwUuruQöqtƒÏpyJ»uŠÉ)ø9$#4yJôãr&"(طه: 123،124).
2- حفظ الدماء خلال ما يحدث من صراعات، وخاصةً دماء المسلمين، وضبط النفس لأقصى درجة حتى لا تحدث فتنة داخلية، قد تكون أشد ألف مرَّة على الشعب الفلسطيني من الفتن الخارجية.
وفي ختام المقال أطلب من عموم المسلمين ألا يجعلوا ألسنتهم أسلحةً وسهامًا مصوبةً إلى صدور العاملين للإسلام المجاهدين في سبيله، وليضع كل واحدٍ نفسه في ظروفهم قبل أن يُصدِر الأحكام عليهم، فشتَّان بين مَنْ يُصدِر حُكمًا أو قرارًا من غرفته المكيفة، أو صومعته المنعزلة، وبين من يصدر القرار وهو في ميدان المعركة، وقد وضع صدره أمام مدافع العالمين!!
أبدًا... لم تكن مفاجأة!![20]

من الغريب أن يندهش بعض الناس لما حدث في غزة، ولاستيلاء حماس على مقرَّات المخابرات والأمن الوقائي التي طالما أذاقت الفلسطينيين سوء العذاب، وكانت أوكارًا لتدبير المؤامرات ضد الشعب الفلسطيني، وضد المندِّدين بالاحتلال الصهيوني، وضد من يقف أمام تعاون هذه الأجهزة وقادتها مع الاحتلال، ثم ضد حكومة حماس التي انتخبها الشعب الفلسطيني بأغلبية كاسحة، إيمانًا منه بمشروعها الإسلامي، واحترامًا لتاريخها الجهادي، ورغبةً في التخلص من الفساد والفاسدين عملاء الاحتلال.
أقول: إنَّ من الغريب أن يندهش بعض الناس لكل ما حدث، ذلك لأنَّ اندهاشهم هذا دليل على عدم استطاعتهم قراءة الواقع الدولي والإقليمي والمحلي على حدٍّ سواء.
فالواقع أنه لم يكن من المتوقَّع أن تقبل حركة (فتح) بنتائج الانتخابات التشريعية النزيهة التي جاءت بحركة حماس للوزارة، والمجلس النيابي، لأن حركة فتح التي كانت حركة وطنية تحريرية قد تحوَّلت إلى وكرٍ عميقٍ من أوكار الفساد: المالي والسلطوي، فضلاً عن تغلغل العمالة للعدو وسط عدد غير قليل من كوادرها، ومصالح هؤلاء العملاء، وغيرهم من الفاسدين ماليًًا والذين اتخذوا السلطة في فلسطين المحتلة مغنمًا، تقتضي الانقلاب على الشرعية، ونشر الإرهاب بالسلاح بين أفراد الشعب الفلسطيني، حتى يستطيعوا استعادة نفوذهم، واستئناف نهب أموال الشعب الفلسطيني بالإتاوات، والاستيلاء على أموال الإعانات الخارجية، وحتى يستأنفوا طريق تعاونهم المخابراتي مع العدو الصهيوني ضد الحركات التحريرية الإسلامية والوطنية.
ولا شك أنَّ في حركة (فتح) بعض المخلصين لوطنهم، ولكنهم بالتأكيد وحسبما أكدت الأحداث قلَّة غير ذات قوة أو نفوذ، بينما السيطرة والنفوذ والمال في أيدي العملاء المسيطرين على الحركة.
إذن كان الطبيعي أن يتحوَّل أولئك العملاء في حركة فتح إلى شوكة في حلق الشعب الفلسطيني عامَّة، وحركة حماس خاصَّة؛ فبدأت تلك العناصر في إثارة القلاقل داخل الأرض المحتلة؛ ما عُرِف بحالة الفلتان الأمني، كما استمرَّت حالة عدم الخضوع لسلطة وزير الداخلية في حكومة حماس، ثم المستقل في حكومة الوحدة الوطنية؛ مما دفعه إلى الاستقالة، كما قام نفرٌ من القادة العملاء بإثارة جموع شباب فتح، وتهيئتهم لحرب أهلية مستعينين فيها بملايين الدولارات التي جاءتهم من الولايات المتحدة؛ وشحنات الأسلحة التي وصلتهم عبر إسرائيل – العدو المستمر للمسلمين عامة، وللشعب الفلسطيني خاصة - ليستطيعوا الانقلاب على حماس.
وفوق ذلك كان التعاون المخابراتي غير المسبوق بين فتح وكل من إسرائيل وأمريكا في أوجه؛ بغية القضاء على حماس، وسائر حركات المقاومة؛ ليخلو الجو للعملاء من حركة فتح ليتولوا بأنفسهم تصفية القضية الفلسطينية.
ولم يكن من المتوقع أن تقبل الأنظمة العربية بأن تستقر حركة (حماس) في قيادة النظام السياسي الفلسطيني، ولا عجب؛ فهذه الأنظمة - من جهٍة - في صراعٍ مرير مع الحركات الإسلامية بها، وترفض أن تسمح لها بحرية الحركة والدعوة، فضلاً عن حرية العمل السياسي، كما ترفض أي دعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية في بلادها، ومن جهة أخرى فقد جاءت حركة (حماس) عن طريق انتخابات حرة لا تقبل هذه الأنظمة بتنظيم مثلها منذ عشرات السنين، ومن ثَمَّ فإنها تخشى نجاح نموذج (حماس) في حكم فلسطين المحتلة، فتتطلع الشعوب العربية إلى تكرار ذلك النموذج، وتطالب به حكامها؛ لذا كان من الطبيعي أن تتحرك تلك النظم لإسقاط (حماس) وتجربتها، وذلك بدعم متمردي وعملاء فتح، وبالتعاون مع العدو الصهيوني، وبفرض الحظر الاقتصادي الشامل على فلسطين المحتلة، كي تتفاقم حاجات الناس، فينقلبوا على حماس وقادتها، بل وصل الأمر إلى قيام تلك النظم بتدريب قوات فتح لكي تواجه قوات حماس في صراع دموي مباغت تقضي به عليها.
كذا لم يكن من المتوقع أن تصمت إسرائيل على وصول حركة حماس للسلطة في الأرض المحتلة، وكيف لا؟! وهي (حركة حماس)قد أذاقت إسرائيل مرارة الصواريخ والعمليات الاستشهادية، وقذف الله عزَّ وجلَّ في قلوب مواطنيها الرعب من هذه الحركة، حتى صاروا على يقين من قرب زوال دولتهم على أيدي حماس، وحركات المقاومة الإسلامية الأخرى.
لم تكن إسرائيل تحتمل حركة حماس، وهي في صفوف المعارضة، على عكس (فتح) التي استطاعت إسرائيل استقطاب عددٍ كبيرٍ من قادتها، فصاروا هم نوابها داخل الأراضي الفلسطينية، والقائمين على تنفيذ سائر خططها، فكيف وقد فاجأها زلزال الانتخابات التشريعية التي جاءت بحماس؟!
إزاء ذلك الزلزال تحرَّكت إسرائيل، وكان تحركها على عِدَّة محاور، فعلى حين أوعزت إلى عملائها بإثارة القلاقل داخل الأراضي الفلسطينية، وترويع المواطنين وإثارة الفلتان الأمني؛ قامت هي بالاجتياحات الوحشية للأراضي الفلسطينية، والاغتيالات المتتالية لقادة المقاومة، كما قامت بفرض حصار اقتصادي طويل الأمد على الضفة الغربية وقطاع غزة، وقامت كذلك بإمداد عملائها من فتح بكميات ضخمة من الأسلحة، ليستطيعوا – كما تظنُّ- مواجهة حركة حماس، هذا فضلاً عن التعاون الأمني والمخابراتي في سبيل التخلص من قادة المقاومة.
وبطبيعة الحال لم يكن من المتوقع أن تقبل أمريكا والدول الغربية المعادية للإسلام ولحريات الشعوب الإسلامية بهذا الانتصار الكاسح لحماس في الانتخابات الحرة؛ لذا فقد قامت بفرض حصارٍ اقتصادي شامل من أول يوم بعد الانتخابات، كما قامت - في إجراء ظالم باغٍ - بتجميد الأرصدة الفلسطينية لدى بنوك الغرب، كما تولَّت دعم الفصيل العميل في حركة فتح.
لم يكن من المتوقع أن تقبل كل هذه الأطراف بوجود فصيل إسلامي مقاوم نزيه في السلطة؛ وذلك ليس غريبًا أو عجيبًا، لأن ذلك هو السُّنة الإلهية في مثل هذه الأحوال: أن أعداء الإسلام والعملاء والخونة لا يقبلون أبدًا بوجود نموذج إسلامي للحكم لا يستطيعون أن يستميلوه إلى صفهم، وليس موقف مساومة قريش لرسول الله r منَّا ببعيد، وقد ثبت رسول الله r ولم يقبل المساومة، فكانت النتيجة تكذيب قريش له، وإيذاءه، والتشنيع عليه، وتعذيب أصحابه، ثم الحصار الاقتصادي، وهذا ما حدث مع حركة حماس بالضبط..
إذن لم يكن ما حدث في غزة صراعًا بين الأشقاء كما يتصور البعض، بل هو صراع بين قوة الحق وقوى الباطل الممثلة لجهات عديدة يشارك أغلبها في القتال من وراء الستار أحيانًا، ومن أمامه غالبًا.
إننا في نهاية هذا المقال ندعو لحماس بالتأييد والنصر والثبات على الحق، كما ندعو لفتح بالرجوع إلى الحق، والمثوبة إلى الرشد في اختيار سبيلهم؛ فممّا يحزن المسلمين جميعًا أن تتحوَّل تلك الحركة من حركة نضالية تسعى لتحرير وطنها إلى كيانٍ يحرِّكه العملاء، ندعو لهم بالعودة إلى طريق الجهاد، وإلاّ فليحذروا ... فإنَّ الله U لا يترك المتخاذلين العملاء دون عقاب، والتاريخ شاهد على ذلك. نسأل الله U أن ينصر الحقَّ نصرًا عزيزًا مؤزرًا، وأن يخذل الباطل؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.


(19)


أبدًا... لم تكن مفاجأة!![21]


من الغريب أن يندهش بعض الناس لما حدث في غزة، ولاستيلاء حماس على مقرَّات المخابرات والأمن الوقائي التي طالما أذاقت الفلسطينيين سوء العذاب، وكانت أوكارًا لتدبير المؤامرات ضد الشعب الفلسطيني، وضد المندِّدين بالاحتلال الصهيوني، وضد من يقف أمام تعاون هذه الأجهزة وقادتها مع الاحتلال، ثم ضد حكومة حماس التي انتخبها الشعب الفلسطيني بأغلبية كاسحة، إيمانًا منه بمشروعها الإسلامي، واحترامًا لتاريخها الجهادي، ورغبةً في التخلص من الفساد والفاسدين عملاء الاحتلال.
أقول: إنَّ من الغريب أن يندهش بعض الناس لكل ما حدث، ذلك لأنَّ اندهاشهم هذا دليل على عدم استطاعتهم قراءة الواقع الدولي والإقليمي والمحلي على حدٍّ سواء.
فالواقع أنه لم يكن من المتوقَّع أن تقبل حركة (فتح) بنتائج الانتخابات التشريعية النزيهة التي جاءت بحركة حماس للوزارة، والمجلس النيابي، لأن حركة فتح التي كانت حركة وطنية تحريرية قد تحوَّلت إلى وكرٍ عميقٍ من أوكار الفساد: المالي والسلطوي، فضلاً عن تغلغل العمالة للعدو وسط عدد غير قليل من كوادرها، ومصالح هؤلاء العملاء، وغيرهم من الفاسدين ماليًًا والذين اتخذوا السلطة في فلسطين المحتلة مغنمًا، تقتضي الانقلاب على الشرعية، ونشر الإرهاب بالسلاح بين أفراد الشعب الفلسطيني، حتى يستطيعوا استعادة نفوذهم، واستئناف نهب أموال الشعب الفلسطيني بالإتاوات، والاستيلاء على أموال الإعانات الخارجية، وحتى يستأنفوا طريق تعاونهم المخابراتي مع العدو الصهيوني ضد الحركات التحريرية الإسلامية والوطنية.
ولا شك أنَّ في حركة (فتح) بعض المخلصين لوطنهم، ولكنهم بالتأكيد وحسبما أكدت الأحداث قلَّة غير ذات قوة أو نفوذ، بينما السيطرة والنفوذ والمال في أيدي العملاء المسيطرين على الحركة.
إذن كان الطبيعي أن يتحوَّل أولئك العملاء في حركة فتح إلى شوكة في حلق الشعب الفلسطيني عامَّة، وحركة حماس خاصَّة؛ فبدأت تلك العناصر في إثارة القلاقل داخل الأرض المحتلة؛ ما عُرِف بحالة الفلتان الأمني، كما استمرَّت حالة عدم الخضوع لسلطة وزير الداخلية في حكومة حماس، ثم المستقل في حكومة الوحدة الوطنية؛ مما دفعه إلى الاستقالة، كما قام نفرٌ من القادة العملاء بإثارة جموع شباب فتح، وتهيئتهم لحرب أهلية مستعينين فيها بملايين الدولارات التي جاءتهم من الولايات المتحدة؛ وشحنات الأسلحة التي وصلتهم عبر إسرائيل – العدو المستمر للمسلمين عامة، وللشعب الفلسطيني خاصة - ليستطيعوا الانقلاب على حماس.
وفوق ذلك كان التعاون المخابراتي غير المسبوق بين فتح وكل من إسرائيل وأمريكا في أوجه؛ بغية القضاء على حماس، وسائر حركات المقاومة؛ ليخلو الجو للعملاء من حركة فتح ليتولوا بأنفسهم تصفية القضية الفلسطينية.
ولم يكن من المتوقع أن تقبل الأنظمة العربية بأن تستقر حركة (حماس) في قيادة النظام السياسي الفلسطيني، ولا عجب؛ فهذه الأنظمة - من جهٍة - في صراعٍ مرير مع الحركات الإسلامية بها، وترفض أن تسمح لها بحرية الحركة والدعوة، فضلاً عن حرية العمل السياسي، كما ترفض أي دعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية في بلادها، ومن جهة أخرى فقد جاءت حركة (حماس) عن طريق انتخابات حرة لا تقبل هذه الأنظمة بتنظيم مثلها منذ عشرات السنين، ومن ثَمَّ فإنها تخشى نجاح نموذج (حماس) في حكم فلسطين المحتلة، فتتطلع الشعوب العربية إلى تكرار ذلك النموذج، وتطالب به حكامها؛ لذا كان من الطبيعي أن تتحرك تلك النظم لإسقاط (حماس) وتجربتها، وذلك بدعم متمردي وعملاء فتح، وبالتعاون مع العدو الصهيوني، وبفرض الحظر الاقتصادي الشامل على فلسطين المحتلة، كي تتفاقم حاجات الناس، فينقلبوا على حماس وقادتها، بل وصل الأمر إلى قيام تلك النظم بتدريب قوات فتح لكي تواجه قوات حماس في صراع دموي مباغت تقضي به عليها.
كذا لم يكن من المتوقع أن تصمت إسرائيل على وصول حركة حماس للسلطة في الأرض المحتلة، وكيف لا؟! وهي (حركة حماس)قد أذاقت إسرائيل مرارة الصواريخ والعمليات الاستشهادية، وقذف الله عزَّ وجلَّ في قلوب مواطنيها الرعب من هذه الحركة، حتى صاروا على يقين من قرب زوال دولتهم على أيدي حماس، وحركات المقاومة الإسلامية الأخرى.
لم تكن إسرائيل تحتمل حركة حماس، وهي في صفوف المعارضة، على عكس (فتح) التي استطاعت إسرائيل استقطاب عددٍ كبيرٍ من قادتها، فصاروا هم نوابها داخل الأراضي الفلسطينية، والقائمين على تنفيذ سائر خططها، فكيف وقد فاجأها زلزال الانتخابات التشريعية التي جاءت بحماس؟!
إزاء ذلك الزلزال تحرَّكت إسرائيل، وكان تحركها على عِدَّة محاور، فعلى حين أوعزت إلى عملائها بإثارة القلاقل داخل الأراضي الفلسطينية، وترويع المواطنين وإثارة الفلتان الأمني؛ قامت هي بالاجتياحات الوحشية للأراضي الفلسطينية، والاغتيالات المتتالية لقادة المقاومة، كما قامت بفرض حصار اقتصادي طويل الأمد على الضفة الغربية وقطاع غزة، وقامت كذلك بإمداد عملائها من فتح بكميات ضخمة من الأسلحة، ليستطيعوا – كما تظنُّ- مواجهة حركة حماس، هذا فضلاً عن التعاون الأمني والمخابراتي في سبيل التخلص من قادة المقاومة.
وبطبيعة الحال لم يكن من المتوقع أن تقبل أمريكا والدول الغربية المعادية للإسلام ولحريات الشعوب الإسلامية بهذا الانتصار الكاسح لحماس في الانتخابات الحرة؛ لذا فقد قامت بفرض حصارٍ اقتصادي شامل من أول يوم بعد الانتخابات، كما قامت - في إجراء ظالم باغٍ - بتجميد الأرصدة الفلسطينية لدى بنوك الغرب، كما تولَّت دعم الفصيل العميل في حركة فتح.
لم يكن من المتوقع أن تقبل كل هذه الأطراف بوجود فصيل إسلامي مقاوم نزيه في السلطة؛ وذلك ليس غريبًا أو عجيبًا، لأن ذلك هو السُّنة الإلهية في مثل هذه الأحوال: أن أعداء الإسلام والعملاء والخونة لا يقبلون أبدًا بوجود نموذج إسلامي للحكم لا يستطيعون أن يستميلوه إلى صفهم، وليس موقف مساومة قريش لرسول الله r منَّا ببعيد، وقد ثبت رسول الله r ولم يقبل المساومة، فكانت النتيجة تكذيب قريش له، وإيذاءه، والتشنيع عليه، وتعذيب أصحابه، ثم الحصار الاقتصادي، وهذا ما حدث مع حركة حماس بالضبط..
إذن لم يكن ما حدث في غزة صراعًا بين الأشقاء كما يتصور البعض، بل هو صراع بين قوة الحق وقوى الباطل الممثلة لجهات عديدة يشارك أغلبها في القتال من وراء الستار أحيانًا، ومن أمامه غالبًا.
إننا في نهاية هذا المقال ندعو لحماس بالتأييد والنصر والثبات على الحق، كما ندعو لفتح بالرجوع إلى الحق، والمثوبة إلى الرشد في اختيار سبيلهم؛ فممّا يحزن المسلمين جميعًا أن تتحوَّل تلك الحركة من حركة نضالية تسعى لتحرير وطنها إلى كيانٍ يحرِّكه العملاء، ندعو لهم بالعودة إلى طريق الجهاد، وإلاّ فليحذروا ... فإنَّ الله U لا يترك المتخاذلين العملاء دون عقاب، والتاريخ شاهد على ذلك. نسأل الله U أن ينصر الحقَّ نصرًا عزيزًا مؤزرًا، وأن يخذل الباطل؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.


(20)


انتخابات تركيا.. وعودة الإسلام!![22]


إن الإسلام سيظل في قلوب المسلمين وعقولهم هو المنهج الوحيد الذي يجب اتباعه، ولا يجوز اللجوء لغيره، هو المنهج الذي يحمل الحلول لمشاكل الحياة قديمها وحديثها، وهو الذي يوفر للمسلمين القوة والعزة والكرامة، بينما يقودها غيره للمهانة والتبعية الذليلة لأعداء الأمة.
ومهما حاول أعداء الإسلام أن يُقصُوا هذا الدين عن حياة المسلمين، فإن محاولتهم ستبوء في النهاية بالفشل، ومهما جهدوا لإقناع الشعوب المسلمة بأن الإسلام لا يصلح لهذا العصر، وأنه لابد من الاقتداء بالغرب؛ فإن جهودهم ستذهب أدراج الرياح.
هذه هي خلاصة نتائج الانتخابات التركية الأخيرة، وهي أيضًا خلاصة قصة تركيا مع الإسلام، منذ القدم؛ فتركيا الحالية لم يكن لها وجود كدولة قبل الإسلام، ولا في عصوره الأولى حتى حدثت القصة الشهيرة بانتقال بعض القبائل ذات الأصل التركي من بلادها خوفًا من اكتساح التتار، حيث وجدوا معركة بين جيش السلاجقة المسلمين، وجيش الروم، فانضموا لإخوانهم المسلمين، وتحقق النصر لهم بفضل الله U، فكافأهم السلطان السلجوقي بإقطاعهم أرضًا في ذلك المكان وجعل كبيرهم (عثمان بن أرطغرل) الذي تنسب إليه الدولة العثمانية أميرًا على هذه الإمارة الناشئة، فكانت نشأة الدولة العثمانية مرتبطةً بالإسلام والجهاد في سبيل الله وقائمةً عليهما، ثم دارت الأيام، واتسعت تلك الإمارة حتى صارت دولة تقوم على أساس الإسلام، وتحمَّلت هذه الدولة عبء نشر الإسلام في أوروبا، وقامت بفتوحات كبيرة وعظيمة توَّجها السلطان محمد الفاتح بفتح القسطنطينية.

ثمَّ تحولت الدولة إلى خلافة تسعى إلى توحيد العالم الإسلامي تحت راية واحدة، وتحت منهج واحد هو الإسلام، ومن هنا صارت تلك الخلافة الإسلامية العثمانية هدفًا لأعداء الإسلام من الصليبيين واليهود، الذين أخذوا يتآمرون عليها، ويكيلون لها الضربات، في الوقت الذي كان هناك العديد من الأخطاء التي تفشَت في جسد الخلافة العثمانية، وتحتاج العلاج السريع قبل أن تتسبب في تضعضع بنيانها.

وفي المرحلة الأخيرة من مؤامرة الإجهاز على الخلافة العثمانية رأى الأعداء أن يصنعوا بطلاً وهميًا لينبهر به الأتراك، وليروا فيه القائد الفذَّ، وفي حقيقة الأمر يقوم ذلك الرجل بالقضاء التام على الخلافة العثمانية، ولم يجد الغرب الصليبي واليهود أفضل من مصطفى كمال أتاتورك اليهودي المتظاهر بالإسلام للعب ذلك الدور، وقد أجاده؛ فألغى الخلافة، واللغة العربية، ومنع الحجاب والأذان، واضطهد كل من قاوم جهوده الخبيثة.
وانتقلت تركيا الحديثة من الإسلام إلى أحضان العلمانية المعادية للإسلام، وصار تقديس كمال أتاتورك ومبادئه المنحرفة أساسًا من أسس الدولة، وعمل كل من تولَّى الحكم على إضعاف الروح الإسلامية بكل الطرق، فماذا كانت النتيجة؟
انهيار في كل نواحي الحياة: الاقتصادية؛ حيث ارتفعت نسبة التضخم إلى معدَّلات غير مسبوقة، وتفشَّت البطالة بشكلٍ مريعٍ. وفي المجال الأخلاقي انحطت الأخلاق إلى هاوية سحيقة، وانتشرت المخدرات والموبقات، وتحوَّلت تركيا من خلافة عظمى تسيطر على مساحة شاسعة من العالم في ظل الإسلام إلى دويلة ضعيفة منهارة لا تكاد تملك أمرها في ظل العلمانية.

ولكن كان هناك في ذات الوقت من يجاهد لإبراز الروح الإسلامية عند الأتراك، ويأخذ بأيدي محبي الإسلام المضطهدين، فكان هناك بديع الزمان النورسي، ثم جاء الأستاذ نجم الدين أربكان الذي حمل لواء الدعوة إلى تحكيم الإسلام في الحياة، وتحمَّل الأذى في سبيل ذلك؛ فظهر نبت الإسلام في القلوب مرة أخرى، ومن كان مختفيًا بإسلامه أظهره وعاد الحجاب شيئًا فشيئًا، وبدا أنَّ الإسلام في طريقه إلى حياة الأتراك بعد أن عمر قلوبهم؛ فكانت انتفاضة العلمانية ممثلة في الجيش التركي، الذي قام بالانقلاب على حكم أربكان الذي كان نائب لرئيس الوزراء بعد انتخابات حرة.
وحاول الجيش والقوى العلمانية إيقاف المد الإسلامي؛ فحكموا على أربكان بالسجن، والمنع من مزاولة العمل السياسي، متصورين أنهم بذلك يستطيعون قمع الإسلام، وإخراجه من مظاهر الحياة مرة أخرى، ومتوهمين أن القضاء على شخص الداعي أربكان كفيل بالقضاء على الإسلام في نفوس الأتراك، جاهلين أن الإسلام لم يفارق قلوب الأتراك منذ إلغاء الخلافة، وتطبيق العلمانية، وأن العودة للإسلام لا سبيل لإيقافها؛ ومن هنا فبعدما منعوا أربكان بانقلاب وأحكام ظالمة نشأت أحزاب إسلامية جديدة قد تختلف مع أربكان في بعض الرؤى السياسية، وقد نختلف معها أحيانًا في بعض توجهاتها وسياساتها، ولكنها في المجمل تمثل الإسلام أمام المجتمع القوى السياسية التركية، ومن هنا التف حولها الشعب التركي معلنًا تمسكه بالإسلام، ورغبته في عودة تركيا إلى أحضان العالم الإسلامي، ومعلنًا رفضه للعلمانية القميئة التي ظلت جاثمة على صدره أكثر من ثمانين عامًا صُودِرت فيها حريتُه، وانتُهِكَت فيها أحكامُ الإسلام كثيرًا.
ولابد لكل النظم الحاكمة التي تبنَّت العلمانية في الدول الإسلامية – وإن تظاهرت بغير ذلك - أن تنظر بعين الاعتبار لتجربة الشعب التركي الذي قاوم كل جهود العلمنة، وأظهر أن الإسلام مُكوِّن مهم في حياته، بل هو المكون الأساسي الذي لا تستقيم الحياة بدونه؛ لتعرف هذه النظم أنَّ شعوبها لديها أضعاف ما لدى الشعب التركي من حبٍّ للإسلام، وتمسكٍ به؛ فينبغي عليها إن أرادت لبلادها التقدم والازدهار أن تلبي رغبة هذه الشعوب في الانتخابات الحرة التي يقول فيها كلمته دون ضغطٍ أو تزوير، وفي العمل بالإسلام الذي تتوق إليه نفوس شعوبها.
كما يجب على الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي أن تستفيد من هذه التجربة بمعرفة كيفية عرض الإسلام على الشعب، وتقديمه في صورته الحقيقية، وكيفية التغلغل في أوساط شعوبها، وإدراك مشاكلها الحقيقية، وكيفية حلها؛ حتى يعلم مَن يجهل أنَّ الإسلام جاء لتنظيم شؤون الدنيا على ما يريد الله U، لا للاهتمام بأمور الآخرة فحسب.
إن نتائج الانتخابات التركية ذات معانٍ عميقة وموحية تتلخص فيما ذكرنا في بداية المقال؛ فارجع إليه، واقرأه مرةً أخرى لتفهم حقيقة ما جرى في انتخابات تركيا.











(21)


بلغاريا والعرب ودماء أطفال المسلمين!![23]


تُعتَبَر قصة أطفال ليبيا الأربعمائة المصابين بالإيدز، وما استتبعها من الحكم بالإعدام ثم تخفيفه إلى المؤبَّد الذي صدر على الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني الذي مُنِحَ الجنسية البلغارية، ثم الجهود الحثيثة للإفراج عن هذا الفريق الطبي المتهم بنقل الإيدز لهؤلاء الأطفال، ثم التوصل لاتفاق تم بموجبه الإفراج عنهم مع وعدٍ بسجنهم في بلغاريا، تعتبر هذه القصة فصلاً جديدًا من فصول الاستهزاء بدماء المسلمين مارسته بلغاريا وعديد من الدول الأوروبية، بل والعربية، ومنها ليبيا التي حدثت فيها المشكلة بكل تفاصيلها.

أمّا موقف بلغاريا فهو موقف الغرب الصليبي المستهزئ بدماء المسلمين المستبيح لها منذ ظهور الإسلام، وبدء الصراع بينه وبين الصليبية، فما حدث من تراجعٍ بلغاريٍ عن أحد بنود الاتفاق مع ليبيا بأن يُسجَن الممرضات والطبيب في بلغاريا بعد إخراجهم من ليبيا، وإصدار السلطات هناك عفوٍ عامٍّ عنهم، ومنح الطبيب الفلسطيني الجنسية البلغارية، كل ذلك يمثل استهانة كبيرة بالمسلمين، واطمئنان شديد لرد فعلهم - وخاصة ليبيا - والغريب في القضية أن يصدر هذا من دولة كبلغاريا ضعيفة في كل الجوانب الاقتصادية والسياسية، والعسكرية، والثقافية، وهذا يدل على أن المسلمين قد بلغوا حالة من الضعف والهوان جرَّأت عليهم كل الناس القوى منهم والضعيف.

ويتسق موقف أوربا عامةً، وفرنسا خاصةً مع هذا الموقف الصليبي، فهذه الدول التي ما فتئت تتحدث عن حقوق الإنسان، وانتهاكات الطفولة، وكثير من المبادئ التي صدعوا بها رءوس العالم كانوا أول من انتهك كل هذه الحقوق حينما لم يهتموا ببحث القضية بمنظور صحيح، فالثابت لدينا أن هناك حكمًا قضائيًا من الواجب على حُماة حقوق الأطفال أن يحترموا هذا الحكم، وإن كانوا يرون المحاكمة غير عادلة لانتفاء ضمانات العدالة، أو أن النظام في ليبيا لا يعطي القضاء استقلالاً حقيقيًا؛ فكان من الواجب عليهم أن يحاكموا هذا الفريق الطبي بمجرد وصوله محاكمة حرَّة عادلة علنية؛ لتظهر الحقيقة، أمّا أن يعفوا عنهم دون محاكمة فهي رسالة واضحة بأن الدم المسلم لا يساوي عندهم شيئًا، مهما أظهر الرئيس الفرنسي - المتعصب ضد المسلمين – استنكاره الزائف للتصرف البلغاري.

إنَّ السلوك الغربي الصليبي في هذه القضية يقودنا تلقائيًّا إلى مقارنة موقفهم هذا بموقفهم من قضية (لوكيربي)؛ حيث فُرِضَت العقوبات ضد ليبيا سنين طوالاً ذاق فيها الشعب الليبي الأَمَرَّيْن، حتى قبلت السلطة الليبية بتسليم بعض مواطنيها المتهمين من قِبل الغرب بتفجير الطائرة، وتمت محاكمتهم محاكمة غير عادلة على مرأى ومسمع من العالم كله، ورغم أنه لم يثبت ضدهم شيء إلا أن المحكمة الغربية أدانتهم، وهم يقضون حكمًا بالسجن مدى الحياة، كما أرغمت أوربا النظام الليبي على دفع تعويضاتٍ بعشرات الملايين لضحايا التفجير، فأوربا الصليبية لم تترك ما تراه حقوقًا لرعاياها، بل أعلنت الحرب الاقتصادية، وجوَّعت الملايين من أبناء الشعب الليبي المسلم من أجل عدد من رعاياها، ولكنها تتسابق في إهدار حقوق مئات الأطفال الليبيين الذين كُتِب عليهم الموت بعد حياة مريرة سيقضونها هم وذووهم يعانون مرض الإيدز القاتل.
وأمّا الموقف الليبي فهو رغم غرابته واستنكارنا له يتفق مع سوابق له متعددة لا مجال لذكرها الآن، فبعد أن أدانت المحاكم الليبية ذلك الفريق الطبي إذا بالنظام يتراجع فجأة عن تنفيذ الحكم بهم، وفجأة يتم اتفاق مع بلغاريا وغيرها من الدول الأوروبية، وفجأة يتغير رأي أسر الأطفال ضحايا الإيدز، فيقبلون التعويض بعد رفضٍ حاسمٍ سابقٍ - ونحن نعرف كيف يتم تغيير رأي الضحايا في العالم العربي- ويتنازلون عن حقوقهم وحقوق أبنائهم مقابل مبالغ مالية.
كما خرج الإعلام الليبي يبشرنا ببنود الاتفاق مع أوربا من حيث تحديث المستشفيات والنظم الطبية على نفقة فرنسا، وغيرها.
ولكن ما يثير السخرية هو أن يستنكر النظام الليبي العفو البلغاري الصادر عن الفريق الطبي، وكأنه كان ينتظر منهم أن يعاقبوهم أو حتى يحاكموهم.
أمّا ما يثير الاشمئزاز حقًا، فهو تصريح مسئول ليبي رفيع مؤخرًا أن ليبيا هي التي اختلقت قضية الممرضات، وهذا التصريح جريمة في حدِّ ذاته، فهو إمّا أن يكون كاذبًا وفي هذه الحالة يصير التصريح إهدارًا لحقوق هؤلاء الأطفال البائسين وأسرهم، وإما أن يكون صادقًا، فيكون إدانة بالكذب والتلفيق للنظام بأكمله، وإدانة بالسكوت على الظلم لذلك المسئول الذي كتم الشهادة طوال هذه السنوات.

والموقف العربي لا يقلُّ سوءًا عن الموقف الأوروبي والليبي، فبينما لم نجد تعليقًا لأية دولة عربية على القضية طوال السنوات الماضية، وجدنا بعض الدول تكثف جهودها لإقناع النظام الليبي بإتمام الاتفاق، حتى وجدنا دولة عربية تشارك في دفع مبلغ التعويض الذي من المفترض أن تدفعه بلغاريا.
إن هذه القصة لابد أن تثير فينا غضبةً قويةً لدماء المسلمين كافَّة التي انتهكها الغرب، ولابد أن تصل للغرب رسالة مفادها: إنكم بذلك تزرعون عداوتكم في قلوب المسلمين الذين سيرون دماءكم رخيصة كما ترون دماءهم، وهذا ما قد يفتح بابًا لن يستطيع أحدًا إغلاقه، كما يجب على النظم العربية أن تدرك واجبها نحو حماية دماء رعيتها وكرامتها، وأنها عندما تفرِّط في ذلك فإنها تهدر شرعيتها – إن كان ثمة شرعية لها- ، أما النظام الليبي فلابد أن يدرك أن ما يكثر تقديمه من تنازلاتٍ مجانية (كالإعلان عن إيقاف البرنامج النووي الليبي، أو تسليم المتهمين في قضية لوكيربي، ودفع التعويضات لأهالي الضحايا، مع إنكار ارتكاب الجريمة)، كل ذلك لن يجعل النظام صديقًا للغرب، فالغرب الصليبي عدو دائم للمسلمين، ولكن على النظام تعزيز علاقته بشعبه بنشر الحرية الغائبة، وإرساء الشورى، والحفاظ على كرامة ودماء أبناء الوطن، ذلك فقط ما يجعل للنظام قيمة كبيرة في أعين العالم كافَّة.










(22)


الأمة الإسلامية في مواجهة التنصير!![24]

أثارت قضية الشاب المرتد المتنصِّر محمد حجازي، ودعواه القضائية المتبجحة للحصول على حكم قضائي يثبت ارتداده، أثارت شجونًا كثيرة، وقضايا خطيرة في ذات الوقت، فالأمة الإسلامية التي جعلها الله Uخير الأمم بشرط القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هذه الأمة تخلَّت عن هذا الواجب، فهاجمها المنكر من كل حدبٍ وصوب.
إن الأمة الإسلامية كانت شعاع نورٍ أطلقه الله Uليبدد ظلمة الشرك والجاهلية؛ فانطلق المسلمون يخرجون العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولكن عندما تخلَّت بعض الأجيال عن دورها العظيم في هداية البشرية، فإن أعداء الأمة قد تداعت عليها كما تداعي الأكلة إلى قصعتها، ينهشون فيها من كل جانب، ويخرجون أبناءها من عبادة الله U وحده إلى عبادة الصليب والبشر،أو إلى البهائية، أو غير ذلك من صور الشرك، وذلك تحت سمع وبصر الأمة كلها.
إن دور الأمة الإسلامية في حماية دينها، والحفاظ على أبنائها من الوقوع في براثن المنظمات التنصيرية دور كبير ومهم لابد أن تعيه الأمة جيدًا؛ لتقوم به كما ينبغي عليها، كما لابد أن تعي الدور القديم المتنامي لخطط التنصير التي اجتاحت العالم الإسلامي منذ مئات السنين.
لقد بدأ التنصير مبكرًا بعد فشل الحروب الصليبية، إذ اقتنعت أوروبا، وكذلك بعض مسيحيي الشرق، بأن القضاء على الإسلام – كما يحلمون - لن يكون باستخدام القوة التي أثبتت فشلها، فاستخدام القوة يحفِّز المسلم للجهاد والتضحية في سبيل دينه، ولكن رأوا أن تحقيق ذلك الهدف لن يتأتَّى إلا بإبعاد المسلمين عن دينهم وإدخالهم في المسيحية، أو على الأقل بتمييع العقيدة في نفوس المسلمين، وذلك ما أعلنه القس صمويل زويمر أحد أشهر من مارسوا التنصير، وذلك في مؤتمر القدس للتنصير عام 1935م.
وذلك أيضًا ما ذكره مسئول كبير بالكنيسة المصرية في كلمته في الكنيسة المرقصية الكبرى بالإسكندرية في مارس عام 1973م، إذ قال: "كذلك يجب مضاعفة الجهود التبشيرية الحالية؛ إذ إن الخطة التبشيرية التي وُضِعَت بُنِيَت على أساس هدفٍ اتُّفق عليه للمرحلة القادمة، وهو زحزحة أكبر عدد من المسلمين عن دينهم، والتمسك به، على ألاّ يكون من الضروري اعتناقهم للمسيحية، فإن الهدف هو زعزعة الدين في نفوسهم، وتشكيك الجموع الغفيرة منهم في كتابهم وصدق محمد r، وقد أورد فضيلة الشيخ الغزالي نصَّ الكلمة كاملة في كتابه الرائع (قذائف الحق)، وفيها ما يبين العداوة الشديدة الكامنة في نفوس البعض نحو الإسلام، ويُظهِر حجم الكيد والتخطيط الذي يقومون به ضده.
إن الكنيسة – كما ثبت من التحقيقات في قضية محمد حجازي - تنفق عشرات الملايين دون حساب من أجل استغلال الحالة المادية الضعيفة للمسلمين في تنصيرهم، وهذه الأموال تأتي – كما ذكر المسئول الكنسي في كلمته – من عدة جهات على رأسها أمريكا، وهنا لابد أن نتساءل: أين دور الدولة في كل ما يحدث؟! كيف تترك أبناءها يُستَغَلُّون لصالح مخططات مشبوهة؟! إن لم يكن لدى المسئولين حمية دينية للإسلام، أليس لديهم خوف على الوطن؟! أو حتى على أنفسهم؟ وقد تحدث نفس المسئول عن مخطط استعادة مصر من الغزاة المسلمين، أليس في هذا ما يثير خوف المسئولين؟! لقد كانت صدمة شديدة عندما قرأنا أن المتنصِّر محمد حجازي لم يكن يريد إعلان ردته، وأنَّ هناك مسئولاً قياديًّا بارزًا بالدولة هو الذي حرَّضه على ذلك، بل وأخذ يضغط عليه معلِنًا استعداده لتحمُّل كافة نفقات الدعوى، إلى هذا الحد بلغ الكيد للإسلام بين بعض من يُفترَض أنهم مسئولون في هذا البلد!!
إنَّ على الدولة مسئوليةً في حفظ عقيدة ودين رعيتها وشعبها لا تقل عن مسئولية توفير الطعام والمسكن والملبس، بل تزيد؛ فلماذا لا تُسخِّر الدولة وسائل الإعلام في تعليم صحيح الإسلام لأفراد المجتمع؟! وكيف تكون وسائل الإعلام في بلد مسلم من أدوات نشر الرذيلة والأخلاق الرديئة؟! ولماذا يتم تفريغ مناهج التعليم من مضامينها الإسلامية، واستبدال مناهج متميعة عقائديًّا بها؟!
إنَّ مسئولية الدولة ضخمة – كما ذكرت – في حفظ العقيدة الإسلامية فضلاً عن نشرها؛ فإن الدولة المسلمة الحقة هي التي تعمل على نشر الإسلام في ربوع الأرض.
إنه ليس من المقبول أو حتى من المفهوم أن تسلِّم الدولة من أسلم من النصارى للكنيسة؛ لتعذبهم وترغمهم على الارتداد إلى الكفر كما حدث مع السيدتين المسلمتين: وفاء قسطنطين وماري عبد الله، بينما تترك من ارتدَّ عن الإسلام حرًّا، أو – وهذا أدهى وأَمَرّ - لتجعل منه بعض وسائل الإعلام المشبوهة بطلاً!!
ولا يمكن أن يغيب عنّا دور المجتمع المسلم الذي يرى ما يحدث ويصمت، كيف للمسلم الغيور على الإسلام أن يلتزم الصمت تجاه محاولات إخراج المسلمين إلى الكفر؟! لماذا لا يقوم المسلم بواجبه نحو نصيحة أخيه المسلم؟! ولماذا لا يكفله إن رأى به حاجة وفقرًا حتى لا يسمح لدعاة الأديان الأخرى أن يستقطبوه تحت ضغط العوز وشدة الفقر.
ولا يصح أن ننسى دور الأزهر وعلماء الإسلام؛ فلقد ظلَّ صوت الأزهر عاليًا شامخًا في الحق، يجمع الأمة حوله في أوقات أزماتها؛ ليأخذ بيدها إلى سبيل النجاة.
إن دور الأزهر والعلماء دور عظيم، ونحن نثق بأن هناك من العلماء من هو جدير بقيادة الأمة، وإقالتها من عثرتها، ونحن ندعو هؤلاء أن ينهضوا، ليتصدروا الصفوف، ويقوموا بمهمتهم التي سيسألهم الله U عنها.
وكلمة أخيرة.. إلى ذلك الشاب الذي ترك الهدى إلى الضلال، وفضل الظلمة على النور، أقول له: مازال هناك أمل لك في أن تنجو؛ فإن الله U يقبل توبة العبد ما لم يُغرغِر؛ فأدرك نفسك، وارجع إلى واحة الإيمان، فإني أشفق عليك من يوم القيامة، إذ يتبرأ منك المسيح عيسى عليه السلام، فتصيبك حينها حسرة تظلُّ معك في جهنَّم أبدَ الآبدين... أسأل الله لك الهداية، وأسأله نصر الإسلام والمسلمين.





















(23)


تحويل القبلة وكشف الأوراق!![25]

في أحداث السيرة النبوية مواقف صنعها الله U لتكون اختبارًا لأفراد الجماعة المسلمة، فيمحص الصفوف، وينفي عنها الخبث، كما يكشف بها سبحانه وتعالى أوراق أعداء الأمة من منافقين، ومشركين؛ وذلك لكي تنشأ هذه الأمة نقية خالصة لله عز وجل خاضعة لأمره سبحانه دون شك أو ارتياب.
ومن هذه المواقف الجليلة والفاصلة في تاريخ الأمة، حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام في النصف من شعبان من العام الثاني للهجرة، حيث كان المجتمع المسلم مازال حديث البناء نسبيًا في المدينة المنورة، ومازالت قريش والعرب متربصين به، وينتظرون له أي هفوة للتشنيع عليه، كما أن اليهود في المدينة المرتبطين مع المسلمين بمعاهدات ومواثيق كانوا في باطنهم يحملون أشد العداوة لهم، ويتلهفون على أية فرصة للإساءة إلى الإسلام والمسلمين، مقترين في أنفسهم أنهم ما عقدوا هذه المعاهدات إلا لضعفهم عن مواجهة المسلمين؛ وإثارة الشبهات حول الإسلام في ذات الوقت كان هناك بعض حديثي الإسلام الذين لم يثبت الإسلام في قلوبهم بعد، ويمكن أن تؤثر فيهم بعض الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام.
إذن كان المناخ في المدينة مهيًأ لإجراء الاختبار الكاشف لأوراق كل فريق، وجاء الأمر بتحويل القبلة ليعلن بدء الاختبار فعليًا؛ قال تعالى: "لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ" (البقرة: 143)، وبدأ كل فريق في كشف أوراقه كانت البداية من المؤمنين المخلصين الذين صبروا مع رسول الله r، وثبتوا أمام كل ما مضى من محن الإيذاء، والتكذيب والتعذيب، والتضحية بالجاه والمال والرياسة، بل والتضحية بالأهل، والوطن، وهؤلاء لم يكن الاختبار الجديد عسيرًا عليهم، لذا فإنهم – كشأنهم منذ أسلموا- سلموا لأمر الله عز وجل، ونفذوه موقنين أنه الحق، فصلوا مع رسول الله r العصر -وهي أول صلاة يصليها متوجهًا إلى الكعبة- ثم داوموا على القبلة الجديدة، ثابتين على عقيدتهم.
بل كان من هؤلاء المؤمنين الصادقين من ضرب المثل في التصديق والإتباع، مع الأخذ في الاعتبار جاء فجأةً، ودون تمهيد مسبق؛ فلم تؤثر عليهم المفاجأة، ولم يصدمهم الحدث، وهم بنو حارثة الذين وصلهم الخبر وهم يصلون عصر نفس اليوم؛ إذ مر أحد المسلمين الذين صلَّوا مع رسول الله r، فوجدهم يصلون إلى بيت المقدس؛ فقال: "إن رسول الله r قد أُنزِل عليه الليلةَ قرآن، وقد أُمِرَ أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام؛ فاستداروا إلى الكعبة"؛ فسمِّي مسجدهم من يومها: "مسجد القبلتين".
فهكذا كان شأن المؤمنين الصادقين، فكيف كانت حال من لم يستقر الإيمان في قلوبهم بعد، أو كانوا مذبذبي الإيمان؟
لقد قلق هؤلاء من مصير من مات من المسلمين قبل تحويل القبلة، هل تقبل صلاتهم أم لا؟ كما تساءلوا عن جزاء صلاتهم السابقة نحو بيت المقدس، وكأنهم ظنوا أن الصلاة إلى القبلة السابقة كانت اجتهادًا من رسول الله r بغير وحي من الله؛ لذا لن يثابوا عليه بل قد يعاقبون، وهذه الفئة تظهر دائمًا في المجتمع المسلم وقت المحن، إذ تزيغ الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر؛ فيبدأ هؤلاء في التشكك والظن في الثوابت.
أما الفئة الثالثة في المدينة فكانت اليهود هؤلاء الذين كانوا فرحين مبتهجين عندما اتخذ الرسول r بيت المقدس قبلة عقب الهجرة، لأنها قبلتهم، قطنوا أن الرسول r سيتبعهم في دينهم بعد فترة، فلما جاء الأمر بتحويل القبلة أصيبوا بالإحباط واليأس من غرضهم؛ فأطلقوا لسانهم ليشككوا المسلمين في دينهم، قائلين:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}(البقرة: 142)؛ فجاء الرد الإلهي { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(البقرة: 142)، وأنزل {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}(البقرة: 177)؛ يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهننا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يومٍ مراتٍ إلى جهات متعددة؛ فنحن عبيده وفي تصريفه".
أما قريش التي كانت متربصة بالمسلمين؛ فقد قالت: رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله، ولكن الله سبحانه وتعالى رد عليهم:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(البقرة: 150)؛ فنعتهم الله U بالظلم؛ ليكشف مكنون قلوبهم.
وانكشف باطن الكافرين، ومُحِّص المذبذبون، ومَرَّ الاختبار بعد أن تعلم منه المسلمون واستفادوا ما ينبغي علينا الاستفادة به؛ من أهمية اليقين والتسليم لأمر الله U، والانقياد لأوامره، وأهمية الثبات أمام الشبهات التي يلقيها أعداء الأمة دون انقطاع، وعدم التأثر بها، بل الرد عليها، لنحمي ضعاف الإيمان من التأثر بها ونسأل الله عز وجل النصر للإسلام والمسلمين.


























(24)


آثار هجمات سبتمبر 2001م على الشعب الأمريكي!![26]


لم يكن تفجير برجي مركز التجارة العالمي مجرد حادث أحاط به الغموض حتى الآن؛ من حيث حقيقة هوية مرتكبيه، وأهدافهم، والجهة التي ينتمون إليها؛ ففي حين اتهمت أمريكا تنظيم القاعدة بتنفيذ الهجمات، أشار عدد من كبار الكتاب والمحلِّلين الأمريكيين إلى أنَّ أجهزة أمنية أمريكية مدعومة بسياسيين كبار، وبالموساد هي التي قامت بالعملية، وإلصاقها بالمسلمين لأهداف معينة اتضحت للجميع بعد ذلك، معتمدين في تحليلهم ذاك على أدلة كثيرة قوية.
أقول: لم تكن أحداث 11 سبتمبر مجرد حادث، بل كانت نقطة فاصلة وعلامة فارقة في حياة الشعب الأمريكي؛ فقد كانت الحادثة بداية سنين من الحُكم الديكتاتوري الذي لم تعرفه أمريكا منذ الحرب الأهلية الأمريكية، فلقد استخدم حُكامها فزَّاعة الإرهاب الإسلامي المزعوم لأجل سلب حريات المواطن الأمريكي بموافقته؛ فلقد تم إصدار العديد من التشريعات التي تبيح التنصت، وتقييد الحريات دون ضابط أو رقيب، كقانون الأدلة السرية الذي يسمح باعتقال من تشتبه الشرطة فيه لمدد طويلة دون إطلاعه على أسباب اعتقاله؛ مما فتح الباب للظلم الواسع، والأهواء الشخصية؛ فتم التوسع في الاعتقال لأقل شبهة، ولأطول المدد. وقد أخذ الشعب الأمريكي يتنازل عن حريته شيئًا فشيئًا؛ لأن حكامه لعبوا على وتر الإرهاب؛ فأفزعوه، وأخذ هو يدفع الثمن، وبدلاً من أن تصبح امريكا واحة الحرية كما يريد الشعب الأمريكي صارت سجنًا كبيرًا للأمريكيين يعيشون فيه خائفين فزعين.

هذا فوق الاعتمادات الخيالية بمئات المليارات التي سُحِبت من الميزانية العامة لأجل الحرب، ولأجل من اتخذوا قرار الحرب؛ لتصب في خزائن شركاتهم الخاصة، أو التي يتقاضون منها الرشاوى المليونية، مثل ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي الذي منح عقودًا كبيرة في عملية إعادة إعمار العراق لشركة هاليبورتون التي كان يرأس مجلسها التنفيذي قبل أن يصبح نائبًا للرئيس؛ يقول الكاتب الفرنسي إريك لوران في كتابه (عالم جورج بوش السري): "حصلت شركة هاليبرتون على أهم العقود وأجزاها في مجال إعادة إعمار العراق. وذلك حتى قبل أن يهدأ هدير الآلة الحربية، وفي ظروف غير مألوفة البتة؛ فأميركا تُعَدُّ من أكثر البلدان شفافية، وخاصة في مجال المناقصات، ومع ذلك فلم تواجه هاليبرتون أي منافس على السوق العراقية المغرية. وقد طالب عضوان في الكونغرس الأمريكي بالتحقيق فيما إذا كان نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني قد تلقى معاملة خاصة مقابل التوقيع على عقودلشركة كان يتولى رئاسة مجلسها التنفيذي سابقًا.
ولا شك أن المواطن الأمريكي هو الذي دفع تكلفة هذه الرشاوى والحروب في صورة ضرائب باهظة تم تحميلها على عاتقه، وقد قبل بذلك رغم حساسية وخطورة قضية رفع الضرائب عنده لا لشيء إلا بسبب التلويح له بفزَّاعة الإرهاب.

ولكن أهم تغيير حدث في الساحة الأمريكية الداخلية هو صعود التيار اليميني المسيحي المتطرف الذي يُسيِّر السياسة بناءً على رُؤًى توراتية منحرفة، يحاول أن يُخضِع لها العالم، ويحاول - باستخدام قوة أمريكا - أن يفرض هيمنته وسياسته التي هي في مجملها خادمة مخلصة لإسرائيل. هذا التيار استطاع بجدارة أن يكتسب عداوة الجميع في داخل وفي خارج أمريكا على حدٍّ سواء؛ حتى صارت هناك جبهة معادية لأمريكا بطول العالم وعرضه من العالم الإسلامي وحتى أمريكا الجنوبية، وإن كان بعض رموز هذا التيار قد سقطوا في الفترة الماضية في فضائح فساد أو غيره، فإنه ما زال أمام أمريكا الكثير لكي تتخلص من آثار هذا التيار.
ولكن قد يكون هذا الحادث خيرًا على الشعب الأمريكي خاصة والغربي عامة؛ فيندفع إلى التخلص من سيطرة المتطرفين، كما يندفع لدراسة الإسلام ليعرف حقائقه الناصعة، وقد رأينا بشائر ذلك بالفعل؛ إذ زاد الطلب على شراء المصاحف، وعلى الكتب التي تشرح الإسلام، كما تضاعفت نسب الدخول في الإسلام في أمريكا والغرب عامة.
نسأل الله U أن يهدي الناس جميعًا، وأن يعيد للأمة الإسلامية أمجادها وعزتها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


(25)


تحرير سيناء ومعادلة النصر!![27]


شتان الفارق بين عشية 5 يونيو 1967م، وعشية العاشر من رمضان 1393ه الموافق السادس من أكتوبر 1973م، إذ كانت مشاعر الحزن والإحباط وخيبة الأمل هي السائدة في الأُولى، على حين كانت مشاعر الفرحة والأمل، والشكر البالغ لربِّ العالمين سبحانه وتعالى هي السائدة في الليلة الثانية.
فمن أين جاء هذا الفارق الشاسع بين الحالين؟
في الخامس من يونيو 1967م أُصِيب العالم العربي وخاصة مصر بهزيمة فادحة من العدو الصهيوني كان قوامها كالآتي:
خسرت مصر 80 بالمئة من معداتها العسكرية، وحوالي 11 الف جندي (أي ما يعادل حوالي 7 بالمئة من كل تعداد الجيش المصري)، وخسرت كذلك 1500 ضابط، وتم أسر 5000 جندي و500 ضابط مصري، وجُرِحَ 20 ألف جندي مصري، وخسر الأردن سبعة ألاف جندي، وجُرِحَ 20 ألفًا من جنوده، وخسرت سورية 2500 جندي، وجُرِح 5000 من جنودها، وفقدت نصف معداتها من دبابات وآليات ومدفعية وغيرها في هضبة الجولان؛ حيث غنمتها القوات الإسرائيلية، كما تم تدمير كل مواقعها في الهضبة المشار اليها، بينما كانت خسائر العراق الذي شارك بشكل رمزي (مثل لبنان حينها) عشرة قتلى و30 جريحا...
وبلغ مجموع خسائر الدول العربية (مصر والأردن وسورية) 400 طائرة، وأكثر من مليار دولار من الأسلحة التي دُمِّرت مع الساعات الأولى للمعارك (في بعض المصادر ملياري دولار)، بينما خسرت اسرائيل 338 جندي على الجبهة المصرية، و300 على الجبهة الأردنية، و141 على الجبهة السورية.
وبالإضافة إلى ذلك كانت خسارة الأرض، حيث ضاعفت إسرائيل من مساحتها ثلاثة أضعاف ما كانته يوم الرابع من حزيران يونيو عام 1967م، واحتلَّت صحراء سيناء برمَّتها الى قناة السويس، والجولان، والضفة الغربية لنهر الأردن، وقطاع غزة التابع حينها لمصر، إضافة إلى عدد من المناطق المتفرقة مثل منطقة مزارع شبعا وغيرها.
وقد كان مما ضاعف من آثار هذه الكارثةعلى العرب والمسلمين أنها حدثت في حين كان جميعهم ينتظرون أن تدخل الجيوش العربية القدس، وتسحق إسرائيل، وتلقي بها في البحر؛ فقد كان الجميع يعيشون في وهم ضخم صنعه لهم المسئولون، وصوروا لهم فيه أن قوة هذه الدول لا تُقهَر، وأن إسرائيل لا حول لها ولا قوة، وذلك على عكس الواقع.

كان هذا هو الواقع عام 67، بينما في رمضان عام 1393ه كانت الحال على النقيض؛ إذ حقق الجيش المصري والسوري بفضل الله U نصرًا كبيرًا دمَّر فيه خط بارليف "الحصين"، خلال ستساعات فقط من بداية المعركة وأوقعت القوات المصرية خسائر كبيرة في القوة الجويةالإسرائيلية، ومنعت القوات الإسرائيلية من استخدام أنابيب النابالم بخطة مدهشة، كماحطمت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهَر في مرتفعات الجولان وسيناء، وأُجبرتإسرائيل على التخلِّي عن العديد من أهدافها مع سورية ومصر، كما تم استرداد قناةالسويس وجزء من سيناء في مصر، ومدينة القنيطرة في سورية.
ولكن الفارق في الحقيقة ليس ناتجًا عن الاختلاف بين حالتي النصر والهزيمة فقط، وإنما يكمن السبب في الأوضاع التي سبَّبت الهزيمة في 67، والأخرى التي جاءت بالنصر في العاشر من رمضان.
الفارق في أنَّ هناك معادلةً للنصر غابت عناصرها في يونيو 67؛ فانكسر الجيش، وضاعت سيناء، بينما تواجدت هذه العناصر في رمضان 1393ه؛ فكان النصر. والسؤال هو: ما عناصر هذه المعادلة؟
لا يغيب عن عاقل أنَّ أول عناصر هذه المعادلة هو صدق الإيمان بالله U، والتوكل عليه؛ والرغبة في الجهاد في سبيله؛ فعلى حين كانت السيادة في المجتمع عام 67 للأفكار المادية متمثلة في الاشتراكية والوجودية والعلمانية، حتى صار قدوة المثقفين هو الفيلسوف الوجودي الملحد جان بول سارتر الذي استضافته الدولة رسميًّا، وكان المثل الأعلى للقادة السياسيين هو اليهودي مصطفى كمال أتاتورك الذي ألغى الخلافة الإسلامية، وحارب الإسلام محاربةً عنيفة، كما صارت الإباحية والعري سلوكًا طبيعيًّا معترفًا به على مستوى غالبية المجتمع.
وكان مجموع الشعب بما فيه الجيش في غيبة عن المعاني الإيمانية، واليقين الصادق في الله U، حتى صار الالتزام بتعاليم الإسلام رجعيةً وتخلفًا، بل تهمة يتبرَّأ منها الكثيرون، وكانت كلمة الجهاد في سبيل الله غريبة عن الأسماع فضلاً عن القلوب.
على حين كانت الحال كذلك غداة 5 يونيو 67، كانت الأحوال مختلفة في العاشر من رمضان 1393ه؛ فلقد تحققت عناصر المعادلة؛ فعادت جموع الشعب إلى معاني الإيمان الحقيقية، وأدركت أن النصر بيد الله وحده، وأن البُعد عن منهج الله في الحياة، والاعتماد على المبادئ المستوردة الغريبة على أُمَّتِنا لم تَجْنِ منه الأمة إلا الانحرافات والهزائم.
كما عادت روح الجهاد الغائبة إلى نفوس كلٍّ من الشعب والجيش، وكان الفضل في ذلك بعد الله U لعلماء الأمة، الذين أخذوا يغرسون حُبَّ الجهاد في نفوس الشعب من خلال المساجد، وفي نفوس الجنود في ثكنات الجيش، حتى صارت قلوب الجنود شُعَلاً إيمانية متفجرة؛ فقد كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مجاهدًا بلساه وقلبه في صفوف الجيش كإمام وعالم يقود الصفوف في الصلاة، ويأخذ بأيدي الجنود والقادة إلى الله U، ويعلمهم أن الشهادة في سبيل الله هي أسمى المراتب التي يجب أن يضحي المسلم بروحه في سبيلها.
كما كانت الروح الإيمانية بارزةً في نفوس القادة العسكريين؛ فهذا هو البطل الفريق عبد المنعم رياض يذكر أهمية الاستعداد والأخذ بالأسباب لنستحق النصر الذي وعدنا الله به؛ فيقول: "إذا وفرنا للمعركة القدرات القتالية المناسبة، وأتحنا لها الوقت الكافي للإعداد والتجهيز، وهيأنا لها الظروف المواتية فليس ثمة شك في النصر الذي وعدنا الله إياه"، فهو هنا ينسب النصر المنتظر إلى الله U وحده، وليس لعبقرية القيادة كما كان الوضع أيام يونيو 67.
بالإضافة إلى ذلك كانت ألسنة الجميع جيشًا وشعبًا، جنودًا وقيادة تلهج إلى الله U بالدعاء، متضرعة باكية راجية النصر على العدو، والشهادة في سبيله.
وقد تُوِّج ذلك كله بصيحة (الله أكبر) التي أطلقها الجنود ساعة العبور مؤمنين بمعناها حقيقةً لا تظاهرًا، وذلك ما جعلهم يُقبلون على ميدان القتال بقلب جسور يؤمن أنَّ لكل نفس أجلاً لا تتقدم عنه ولا تتأخر، ومن ثمَّ كانت الجائزة الإلهية حاضرة، متمثلةً في النصر الكبير الذي غيَّر من الأوضاع التي كانت قائمة، وأزاح الاحتلال الإسرائيلي عن سيناء، وحطَّم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر.
والعنصر الثاني في معادلة النصر كان هو تحقيق الوحدة بين المسلمين؛ إذ شهدت أيام رمضان 1393ه وحدةً نادرة على المستويين: الداخلي والخارجي؛ فداخليًّا ورغم أن البلد كانت تموج بتيارات سياسية وفكرية مختلفة إلا أننا لم نجد صراعًا، ولا تنابذًا، بل تعاونًا واتحادًا، وعلى المستوى الخارجي كانت الوحدة في المواقف بارزةً؛ ومن آثارها الأنواع المختلفة من المساعدات التي قدمته الدول الإسلامية لمصر؛ فقد تبنَّى الملك فيصل رحمه الله قرارًا بمنع البترول عن الدول المؤيدة لإسرائيل، داعيًا الدول العربية المنتجة للبترول إلى ذلك قائلاً مقولته الشهيرة: "نحن كنّا ولا نزال بدوًا, وكنّا نعيش في الخيام, وغذاؤنا التمر والماء فقط، ونحن مستعدون للعودة إلى ما كنّا عليه".
كما قدمت بعض الدول الإسلامية مساعدات اقتصادية؛ فخلال الأيام الأولى للحرب قدمت ليبيا بمبلغ 40 مليون دولار، و4 ملايين طن من الزيت، و قدمت المملكة العربية السعودية مبلغ 200 مليون دولار، وقدمت دولة الإمارات مبلغ 100 مليون دولار.
وعلى صعيد المساعدات العسكرية؛ فقد ذكر الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان القوات المسلحة المصرية في حرب العاشر من رمضان في كتابه (مذكرات حرب أكتوبر) أنَّه توالت على الجبهة المصرية الأسلحة الآتية:
* سرب ميج 21 جزائريٌّ.
* سرب سوخوى 7 جزائريّ.
* سرب ميج 17 جزائريّ.
* سربي ميراج ليبيين واحد يقوده طيارون ليبيون وآخر يقوده مصريون.
* سرب هوكر هنتر عراقي.
* لواء مدرع جزائري.
* لواء مدرع ليبي.
* لواء مشاة مغربي.
* لواء مشاة سوداني.
* كتيبة مشاة كويتية.
* كتيبة مشاة تونسية.
أمّا الجبهة السورية؛ فقد وصلها ما يأتي:
* ثلاثة أسراب ميج 21 عراقية.
* سرب ميج 17 عراقي.
* فرقة مدرعة عراقية.
* فرقة مشاة عراقية.
* لواءين مدرعين أردنيين.
* لواء مدرع مغربي.
وذلك كله يجب ألا يُغَيِّب عنّا أهمية العنصر الثالث في معادلة النصر، ألا وهو الأخذ بالأسباب المادية؛ ففي الوقت الذي أُهمِل فيه هذا العنصر تمامًا في يونيو 67؛ إذ كان أغلب الجيش غائبًا عن التدريبات الجادة والمناورات العسكرية، والقادة مشغولون بملذاتهم، والأسلحة عتيقة، ولا أحد يفكر في تحديثها، أو في تحديث الخطط العسكرية، أو في محاسبة المقصرين والمهملين، بل يتم التستر عليهم، ومكافأتهم على تقصيرهم؛ لأنهم من أهل الثقة، كان الوضع مختلفًا في حرب العاشر من رمضان؛ إذ أصبح هناك اهتمام مستمر بالتدريب المستمر البدني والعسكري؛ فتم التدريب على اقتحام الساتر الترابي، وخط بارليف، كما تم الاهتمام بتطوير قدرات المقاتل، واهتمَّت القيادة يتطوير الأسلحة القديمة، وحاولت جلب كل ما تستطيعه من الطرز الحديثة منها.
وقد اهتمت القيادة السياسية والعسكرية بالعمليات المخابراتية لاستجلاب المعلومات الخطيرة، التي تؤثر في سير الحرب، وشهدت تلك الأيام تنفيذ أعظم خطة خداع وتمويه في التاريخ العسكري الحديث؛ شاركت فيها أجهزة المخابرات ورئيس الدولة نفسه؛ بما كفل الاطمئنان الكامل للعدو الصهيوني بينما كانت الاستعدادات تتم في مصر وسوريا على قدمٍ وساق.

لقد كان نصر العاشر من رمضان نموذجًا لنتيجة محاولة استكمال معادلة النصر، وحين تتم عناصر المعادلة كاملةً فسوف نرى نتيجة أعظم بإذن الله U.
نسأل الله U أن يُعيد ذكرى هذه الأيام على الأمة الإسلامية بانتصارات مجيدة يتم فيها تحرير كل أراضي المسلمين من العدو الصهيوني.














(26)


فتح الأندلس.. يغير خريطة الحضارة والثقافة في العالم!![28]


لم تكن حرب العاشر من رمضان هي النموذج الوحيد لانتصارات المسلمين الكبرى في رمضان؛ فهذا الشهر الكريم هو شهر الانتصارات الكبرى؛ إذ تحقق فيه أعظم الانتصارات للمسلمين؛ كغزوة بدر، وفتح مكة، وعين جالوت؛ فلم يكن هذا الشهر عند المسلمين شهر قعود وكسل، بل جهاد ودعوة.
واليوم نتحدث عن انتصار من تلك الانتصارات العظيمة، وهو فتح الأندلس الذي بدأ في مثل هذه الأيام المباركات في العشر الأواخر من رمضان سنة 92ه.
يُعَدُّ فتحُ الأندلس من الانتصارات الكبرى، ليس للمسلمين فقط، لكن للعالم بأسره؛ وهذا لأن طريق العالم كله اختلف بعد فتح الأندلس الذي يمثل أكثر الأماكن التي انتشرت فيها الحركة العلمية الإسلامية، وظهر فيها علماء في كل مجالات الشريعة والحياة، مثل ابن خلدون، والزهراوي، وابن رشد، وعلماء آخرون في الجغرافيا، والفلك، والهندسة. فكل هذه العلوم نمت في الأندلس بشكل بارز جدًّا، وانتقلت من الأندلس إلى أوروبا، وعلى أكتاف هذه العلوم قامت الحضارة الأوروبية الحديثة في القرنين: السادس والسابع عشر.
يذكر المؤرخ الفرنسي رينو[29] حال أوربا قبل الإسلام، فيقول : طفحت أوربا في ذلك الزمان بالعيوب والآثام، وهربت من النظافة والعناية بالإنسان والمكان، وزخرت بالجهل والفوضى والتأخر، وشيوع الظلم والاضطهاد، وفشت فيها الأمية[30]. ويصف البكري[31] بعض أصناف الصقالبة سكان المناطق الشمالية في أوربا، فيقول: لهم أفعال مثل أفعال الهند، فيحرقون الميت عند موته، وتأتي نساء الميت يقطعن أيديهن ووجوههن بالسكاكين، وبعض النساء المحبات لأزواجهن يشنقن أنفسهن على الملأ، ثم تُحرق الجثة بعد الموت، وتوضع مع الميت.
كان فتح الأندلس ودخول الإسلام خيرًا كثيرًا للعالم؛ لأنه أحدث تغيرًا كبيرًا في مسيرة العالم كله نحو العلوم ونحو الأخلاق والسلوك العام في التعامل؛ فقد علَّم المسلمون في الأندلس الأوربيين مباديء السلوك الراقي، ويكفي أن أضرب مثلاً بأن الأوروبيين الموجودين في شمال إسبانيا قبل دخول الإسلام كانوا لا يغتسلون إلا مرة أو اثنتين في السنة لا يغتسل ويعتبر ذلك من البركة! إلى أن وجد المسلم يتوضأ خمس مرات في اليوم ويغتسل في مناسبات عديدة تبلغ أكثر من 18 غُسلاً.

انتقلت هذه النظافة إلى أوروبا وغيرت سلوكيات الأوروبيين، كما انتقل التعامل بالرحمة بين أفراد الأسرة إلى أوروبا، وبدأت الأسرة الأوروبية تتأثر بالجو الإسلامي، وحتى النظام والإضاءة في الشوارع ونظام الري والصرف في الزراعة. انتقلت الحياة اليومية للمسلمين إلى أوروبا بعد دخول الإسلام لأرض الأندلس.
إسبانيا تحتفل بعبد الرحمن الناصر
تغيرت قصة الأندلس بعد دخول الإسلام، فأصبح الأندلس بلدًا راقيًا متحضِّرًا، وبعد حوالي مائتي سنة أصبح الأندلس الدولة الأولى في العالم في عهد عبد الرحمن الناصر رحمه الله والذي أعلن الخلافة الأموية في الأندلس، وأصبح أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى بلا منازع لدرجة أن الأسبان سنة 1961م احتفلوا بمرور ألف سنة على وفاته اعترافًا بفضله على الحضارة الإسبانية والأوربية.
ومع هذا الخلق كان هناك نشر للعلم الحياتي من طب وفلك وجغرافيا وكيمياء. لقد تغيرت الدنيا كثيرًا بعد رمضان سنة 92ه، ومن أهم الأشياء التي يذكرها التاريخ مكتبة قرطبة ثم بعد ذلك المكتبة الأموية. وقد كانت مكتبة قرطبة المكتبة الثالثة على مستوى العالم تضم نصف مليون كتاب في وقت لم تكن فيه طباعة، وبهذا فالرقم مذهل ، ولو بحثنا عن المكتبة الأولى والثانية في العالم لوجدنا أن الأولى كانت مكتبة بغداد التي أغرقها التتار في نهر دجلة، والثانية مكتبة دار الحكمة في القاهرة، والثالثة مكتبة قرطبة التي اختفى ذكرها في التاريخ؛ لأنه عندما أُسقِطت قرطبة بواسطة الصليبيين سنة 636 من الهجرة قبل سقوط بغداد بعشرين سنة فقط أحرق الصليبيون كل الكتب الموجودة في مكتبة قرطبة لدرجة أن كمبيس - وهو أحد القساوسة في الجيش الصليبي - أحرق في يوم واحد ثمانين ألف كتابٍ في أحد ميادين قرطبة، وعندما أسقطوا أشبيلية سنة 646 ه بعد قرطبة بعشر سنوات أحرقوا كل الكتب في أشبيلية، لاعتقادهم الجازم أن نشأة هذه الأمة وصدارتها وقوتها تكمن في علومها سواء كانت علوم الشرع أو علوم الحياة، ومادام الاثنان موجودين فستظل هذه الأمة قوية وعندما أحرق الصليبيون هذه الكتب وأغرقوها أرادوا قطع تلك الأمة عن جذورها، ولكنهم جهلوا أن تلك الأمة لا يمكن أن تموت.
لقد كان فتح الأندلس هو بداية عهد النهضة والعلم والمعرفة والحضارة الغربية، ولو لم يتم لكانت أوربا ما تزال تعيش في دركات الجهل والتخلُّف؛ لذا لابد أن يعرف المسلمون قيمة ما قدَّموه للدنيا، وأهمية أن يعودوا للعب دورهم الحضاري. أسأل الله عز وجل أن يعيد للأمة عزتها ونهضتها.

























(27)


عين جالوت والقضاء على القوى العظمى!![32]


عندما نتحدث عن عين جالوت التي سقط فيها جيش التتار فإننا نتحدث عن موقعة غيرت خريطة العالم بالفعل، ورفعت عن كاهل الأمة الإسلامية وغير الإسلامية كابوسًا من أكبر الكوابيس التي مرَّت بها.. فقد عانى العالم كله معاناةً شديدةً من كارثة كادت تقضى على كل صور ومظاهر الحاضرة في العالم لولا موقعة عين جالوت التي ردت للناس الأمن والأمان في العالم كله. إننا نتحدث – في الواقع – عن نجاح الأمة الإسلامية في تخطي أزمة كبيرةٍ كانت كفيلةً بالقضاء عليها، ونتحدث عن الأسباب والوسائل التي أتاحت هذا النجاح.
التتار.. دولة ظهرت على حدود الصين في منغوليا سنة 603 من الهجرة، وقد أنشأ هذه الدولة أحد أكبر سفاحي ومجرمي العالم "جنكيزخان"، الذي كان شخصية دموية إلى أقصى درجات التخيل، كما كان ذا قدرةٍ كبيرةٍ على القيادة والتجميع؛ فجمع أعدادًا هائلة من التتار، وفي غضون عشر سنوات تقريبًا استطاع أن يضم كل منغوليا التي ظهر فيها، وكل الصين وكوريا وتايلاند وكمبوديا كل ذلك دولة واحدة أصبح رئيسها جانكيزخان الذي بدأ بعد ذلك يتطلع إلى ما بعدها. كانت المملكة الخوارزمية وهي جزء من الممالك الإسلامية (وهي الآن كازاخستان وأوزبكستان وباكستان وأفغانستان) ملاصقةً لبلاد جنكيز خان، فبدأ يغزوها، واستطاع بالفعل أن يجتاح العالم الإسلامي اجتياحًا غير متخيَّل لدرجة أنه في سنة 617 من الهجرة استطاعت جيوشه أن تحتلَّ من العالم الإسلامي من غرب الصين إلى شرق العراق، وتلك مساحة لا تُتَخيَّل من الأرض والكثافة السكانية العالية.. وقد كانت جيوشه في منتهى القوة والعنف والإرهاب.. وهذا يظهر الوضع الذي كان عليه المسلمون.. ضعف شديد.. فرقة وبعد المسئولين عن الدين.. وتمسك المسلمين بالدنيا.. وانفصال الحكام عن المحكومين.. أمور وأمراض كثيرة أدَّت لهذا الهوان الذي وصلت إليه الأمة وبالتالي اجتاحت جيوش التتار كل هذه المساحات..
استطاع التتار أن يُدخِلوا في حكمهم خلال هذه السنة 617 من الهجرة كازاخستان وباكستان وأوزبكستان وأفغانستان وتركمانستان، وأجزاء ضخمة جدًا من إيران، وأذربيجان كلها، وأرمينيا (وكانت نصرانية) والكرج (دولة جورجيا حاليًا) الآن، والشيشان وداغستان وجنوب روسيا كل هذا في عام واحد.. اجتياح تام.. دموية التتار الشديدة تجعل من السهل أن نذكر أن التتار ما دخلوا بلدًا إلا وقتلوا كل سكانها رجالاً ونساء وأطفالاً محاربين ومدنيين كل شيء يقتل يأخذ البلد بكل ثرواتها ويزيح السكان من طريقه..
من أشهر الأمثلة غزو مدينة "مرو" الإسلامية والتي كانت من حواضر العلم والثقافة والاقتصاد وهي تقع بين التركمانستان وإيران وهذه المدينة كان سكانها تسعمائة ألف، خرج مائتا ألف منهم لمحاربة التتار، وفنوا عن آخرهم، ودخل التتار وحاصرو المدينة وأعطوا الأمان لأهلها، وخرج أهل المدينة بعهد الأمان، لكن التتار كالعادة خانوا العهد وسفكوا دم سبعمائة ألف مسلم؛ قتلوا المدينة كلها ولم يبقَ بها حي واحد.. وهكذا في أكثر من مدينة..
لم يكتفِ التتار بغزو العالم الإسلامي فقط، وإنما جاوزوه بعد ذلك إلى أوروبا لهذا أقول أن المعاناة التي عانى منها الناس ليست معاناة إسلامية فقط لكنها معاناة إنسانية عالمية من جيوش التتار حتى أصبحت دولة التتار سنة 639 من الهجرة تصل من كوريا شرقا إلى بولندا غربًا.. وبعد ذلك وفي سنة 656 من الهجرة استطاعوا إسقاط الخلافة العباسية وقتل الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين وبذلك سقط الكيان الذي يجمع الأمة الإسلامية أكثر من 500 سنة وأكثر وعندما دخلوا بغداد قتلوا مليون مسلم وسكان بغداد في ذلك الوقت 3 مليون قتلوا ثلث السكان وكانت أكبر مدينة في العالم وبعد موقعة التتار اختفى ذكرها من الكتب ولم يعد إلا في القرن العشرين.. لأن معظم السكان ماتوا، بمن فيهم من العلماء والفقهاء والحكام والأمراء والوزراء والمفكرين، بالإضافة إلى تدمير الثروات والقصور والديار، وأشهر ما دمر في بغداد هي المكتبة عندما ألقوا بعصارة فكر الإنسانية كلها في نهر دجلة ليختفي بذلك كمٌّ هائل من العلوم ليس في علوم الشريعة فقط لكن في كل مجالات الحياة علوم فقط وتفسير وأخلاق وعقيدة بالإضافة لعلوم الطب والفلك والهندسة وكيمياء وفيزياء وجغرافيا وكل علوم الحياة.
قطز.. وبناء الأمة
لم يتخيل أحد أن مصر أو أية قوة في العالم الإسلامي يمكن أن تقف أمام هذا الكائن الضخم، لكن "قطز" رحمه الله بدأ بسياسة في منتهى الروعة في تأهيل الوزراء والأمراء والجيش والشعب لهذه الموقعة.. واستغرقت فترة التأهيل عشرة أشهر فيها وجَّه الشعبَ فيها توجُّهًا إسلاميًّ واضحًا.. جعل القضية قضية إسلامية في المقام الأول يصرف فيها المسلم دمه وروحه وماله من أجل الله U، فقد كان القتال الذي سبق، وسقوط المسلمين فيه؛ لأن المسلمين كانوا يدافعون عن دنياهم ولا يدافعون عن دينهم حتى الشعوب نفسها لم تكن في ذهنها قضية الدين.
بدأ قطز ينمِّي فيهم الروح والحمية، وحرَّك في الناس روح الإيمان، كما كان للعلماء دور مهم في مصر؛ فقد أعطى قطز للأزهر وعلمائه دورًا كبيرًا في توجيه الأمة، وإعادة بنائها روحيًّا، وكان على رأس هؤلاء العلماء "العز بن عبد السلام " سلطان العلماء الذي كان يحب قطز حبًا شديدًا، ويرى أنه أفضل المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز.. وبدأ العلماء يقومون بدورهم نحو الشعب وبدأوا يرفعون من قيمة الجهاد في سبيل الله..
كان هناك عامل كبير في إيقاظ روح الجهاد في الأمة، وهو القدوة؛ فقطز لم يجلس في قصره الآمن يحرِّك الجيوش، وهو بمعزل عن الخطر، ولكنه فعل مثلما كان يفعل رسول الله r؛ إذ كان يفعل كل شيء بيده قبل يد الصحابة.. هكذا فعل قطز أول ما صعد لكرسي الحكم قال: لم أصعد لهذا الكرسي إلا لقتال التتار بنفسي..
كما كان قطز رحمه الله ينصت لكلام العلماء، وينفذه؛ لذا وافق العزَّ بن عبد السلام عندما رفض فرض الضرائب على الشعب لتجهيز وإعداد الجيش إلا بعد أن ينتهي المال من بيت المال ويرد الوزراء والأمراء الأموال التي أخذوها من بيت مال المسلمين، فعندما سمع قطز تلك الفتوى قال: "أنا أول من يفعل ذلك".
بعد ذلك خطا قطز خطوة رائعة في تاريخ الإنسانية لأنه بدأ يوحد الصف مع المسلمين الذين كانوا على أيبك وكان بينهم خلاف وصراع شديد.. نسى كل الخلافات وأصدر عفوا حقيقيًا عمَّن كان على خلاف شديد معه قبل ذلك..
المهم أن قطز في النهاية كون جيشًا من المسلمين المصريين والشاميين.
بعد خروج الجيش لحرب التتار اختار قطز مكان الموقعة في فلسطين رغم أن كل الأمراء رفضوا أن تكون الحرب في فلسطين، لكن قطز رحمه الله حول الأمر إلى قضية إسلامية بالإضافة إلى البعد الأمني القومي لمصر التي لا تقبل بوجود عدو قوي يحتل فلسطين، وتبقى هي في أمان؛ فلا شكَّ أنَّ أمانها سيكون مهددًا.. المهم وحد قطز الجيوش، وخرج بها، واختار مكان الموقعة في عين جالوت ورتب جيوشه ترتيبًا محكمًا وأعد العدة بشكل في منتهى الروعة عسكريًا وتنسيقًا للجيش ومن ناحية الخطة وسبق إلى مكان المعركة قبل جيش التتار؛ وذلك يوم 25 من رمضان سنة 658 من الهجرة في موقعة من أشرس المواقع في تاريخ البشرية، وشهد التتار أبشع كابوس في حياتهم عندما قيض الله U لعباده النصر المؤزَّر في مثل هذه الأيام المباركات.
لقد كانت أحوال المسلمين في أيام غزو التتار غير مسبوقة ولا ملحوقة من حيث السوء والضعف، ولكنهم استعانوا بالله فنصرهم، واليوم الأمة الإسلامية تواجه شدائد واختبارات ومحنًا عظيمة، ولكنها لا ترقى لما كانت عليه أيام التتار؛ لذا فهي تستطيع بإذن الله U أن تخرج منها لو أحسنت التوكل على الله، وأخذت بأسباب النصر: من الوحدة، والاستعداد الإيماني والعسكري.
نسأل الله U أن ينصر الإسلام والمسلمين.



























(28)


أعياد المسلمين وترسيخ معنى التكافل[33]

يحرص الإسلام على بناء مجتمعٍ قويٍّ قادرٍ على مواجهة التحدِّيات والأزمات المختلفة، مجتمع حضاري راقٍ، يرحم القويُّ فيه الضعيفَ، ويعطف الغنيُّ على الفقير، ويعطي القادرُ ذا الحاجة، كما يحرص على بناءِ مجتمعٍ أخلاقيٍّ متقاربٍ ومتحابٍّ ومتعاونٍ على الخير وفعل المعروف؛ ومن ثَمَّ جَاءَ بمنهجٍ رائع في بناء المجتمع البشريِّ كُلِّه، وجَعْل كل فرد فيه متعاونًا مع غيره على الخير العام، مُغِيثًا له حال الحاجة والاضطرار إن قيمة التكافل بين الناس، وخُلُقَ إغاثة الملهوف من الأمور التي لا يقوم المجتمع المسلم إلا بها، إنها قيم إنسانية اجتماعية راقية، وقد سبق الإسلام في تطبيقها على أرض الواقع سبقًا بعيدًا، فكانت النماذج الرائعة في الصدر الأول من الإسلام خير مُعَبِّرٍ عن هذا الخُلُق الكريم ولقد سلك التشريع الإسلاميُّ لتشجيع المسلمين على التمسُّك بذلك الخُلُق طُرُقًا متنوعة، واتَّخذ وسائل متعددة؛ ذلك لأنه دين عمليٌّ يربط الفكرة بالعمل، كما يربط كذلك النظرية بالتطبيق، وليس مجرد خيال يداعب أحلام المصلحين، ومن ثَمَّ كانت هذه الوسائل التي اعتمدها الإسلام في ترسيخ هذا
المعنى ابتداءً في أذهان المسلمين، ولذلك أيضًا جاءت النصوص متوافرة، تؤكِّد هذا المعنى وتعضِّده، كما كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقًا عمليًّا للعمل التكافليِّ والإغاثيِّ ومن هذه الوسائل ربط الإنفاق في سبيل الله بأعياد المسلمين، وذلك في عيدي الفطر والأضحى، وهما عيدان عظيمان للمسلمين يأتيان بعد عبادات عظيمة كذلك؛ فعيد الفطر يأتي بعد شهر رمضان المعظم وأداء فريضة الصيام، وعيد الأضحى يأتي في نهاية العشر الأوائل من ذي الحجة مع كل ما فيها من أعمال
الخير وخاصة لأولئك الذين يؤدون شعيرة الحج؛ فيأتي الحث على الإنفاق في هذه الأعياد كنوع من الشكر على أداء هذه العبادات العظيمة، وخاصة أن نفوس المسلمين تكون قد هُذِّبت في هذه الأيام الفاضلة، فيسهل عليها الإنفاق والعطاء ولا يكتفي التشريع الإسلامي بالحض على الإنفاق بصورة
مطلقة هكذا، ولكن يقننه في صور محددة تجعل المسلم حريص كل الحرص على أدائها، وبذلك
لا يضيع حق الفقراء في المجتمع، ولا يتسرب الغل والحسد إلى قلوبهم، وهذا لا شك ينعكس على سعادة وأمن واستقرار المجتمع ففي عيد الفطر يفرض الله عز وجل على المسلمين أن يدفعوا زكاة الفطر للفقراء والمساكين، فيقول ابن عباس رضي الله عنهما: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر؛ طُهْرَةً للصائم من اللغو والرفث، وطُعْمَةً للمساكين، مَنْ أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات وقد فرضها الشرع على كل المسلمين المالكين لما يزيد عن قُوتِهِم وقوت أولادهم يومًا وليلة؛ وهذا يعني أنّ جلّ المسلمين يستطيع أداءها، وبذلك يشترك المجتمع المسلم كله في عملية العطاء هذه، ويظللهم فيها كلام الرسول صلى الله عليه سلم الذي يرقق قلوبهم ويحثهم على الإنفاق؛ حيث يقول: ;أغنوهم في هذا اليوم; يقصد الفقراء، ويقول أيضًا:;أغنوهم عن طواف هذا اليوم;؛ أي عن البحث عن الصدقة والعطايا.
أما في عيد الأضحى فإنه يُسَنُّ لهم سُنّة الأُضحية، وتُعَدُّ الأضاحي أحد موارد التكافل الاجتماعي؛ حيث يتمُّ التوزيع منها على الفقراء والمساكين، والتوسعة عليهم وإدخال السرور على قلوبهم بإطعامهم من لحومها في يوم العيد، قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وعن أبي جعفر الطبري، عن الربيع قال: إذا صلَّيْت يوم الأضحى فانحر [تفسير الطبري: 24/653 وحثَّ النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه على الأضحية، فبيَّن فضلها وثوابها العظيم عند الله فعَنْ عَائِشَةَ عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ ، أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا، وَأَنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا
[الترمذي: 1493، البيهقي 18794].
ثم قدَّم القدوة والمثل للمسلمين وضحَّى بكبشين أملحين أقرنين؛ واحد عن نفسه، والآخر عن أُمَّتِه فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أنس بن مالك قَالَ: ;ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ; ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْن أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا
[البخاري: 5244، مسلم: 1966].
فمن عظمة الشريعة أنها حثَّت الأضحية في هذا اليوم،فهذا يوم عيد لدى المسلمين ولا يجب أن يَشعر
الفقير فيه بالحاجة والعَوَز؛ لذلك كان توزيعها يحمل في جوهره تكافلاً تفيد منه الجماعة ماديًّا خُلُقيًّا، فعن ابن عباس عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأضحية: ;... وَيُطْعِمُ أَهْلَ بَيْتِهِ الثُّلُثَ، وَيُطْعِمُ أَهْلَ بَيْتِهِ الثُّلُثَ، وَيُطْعِمُ فُقَرَاءَ جِيرَانِهِ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى السُّؤَّالِ بِثُلُثٍ [المغني: 11/109]
وذلك ليتحرَّى المسلم في احتفاله بالعيد عن ذوي الحاجة والبائسين من أقاربه أو مواطنيه، فينضح عليهم من معين برِّه، ويخفِّف عنهم ألم حرمانهم، ويُشرِكهم في فرحة العيد ومناسبته السعيدة، وبذلك أيضًا يَشعر الفقراء أنهم من الجماعة، لهم عليها أن تتذكَّرهم وترعاهم، فيُجدِّد الفقراء
حبَّهم للأغنياء، وثقتهم بهم، والتفافهم حولهم، كما يُجدِّد الأغنياء وفاءهم وودادهم لأحبائهم وأقاربهم المحتاجين.
والأضحية بهذا ثمثِّل رافدًا قويًّا من روافد التكافل الاجتماعي، وتَزيد من أواصر التقارب والتآلف بين أفراد المجتمع المسلم.
وهكذا ربط الإسلام أعياد المسلمين بتقوية العلاقة بين أفراد الأمة، وإبراز روح التكافل والتعاون، وما أسعد مجتمعًا عاش بهذه القيم،وما أعظم جزاءه عند الله عز وجل.






(29)


قصة الأكراد (1 من 6)[34]


قرأ الجميع واستمعوا في نشرات الأخبار خلال الأيام الماضية إلى طلب الحكومة التركية الإذن من البرلمان لشن غارات عبر الحدود العراقية ضد المتمردين الأكراد في إقليم كردستان العراق، ثم تمت موافقة البرلمان الأربعاء 17 /10 /2007م بأغلبية ساحقة، واندهش الجميع بسببب عدم معرفتهم بحقيقة الأكراد، ولا أسباب الخلاف؛ فوسائل الإعلام تصور الأكراد على أنهم إرهابيون متمردون على تركيا، ولكننا نكتشف أن الأكراد يعيشون في عدة دول أخرى أيضًا، كما أنهم يتهمون تلك الدول - في نفس الوقت - بانتهاك حرياتهم واستقلالهم، فما حقيقة الأمر؟! ونسمع – كذلك – من يتهم الأكراد بمحاولة الاعتماد على أمريكا من أجل الانفصال عن العراق وتركيا؛ فما الصواب في كل ما نسمعه؟! هذا ما يأتي هذا المقال ليبينه من خلال توضيح أصول الأكراد، وبلادهم، ومذهبهم، وقضاياهم التي يسعون لحلِّها، ومطالبهم التي يحرصون عليها، وأماكنهم التي يعيشون فيها، وموقعهم في عالم السياسة اليوم. بإيجاز هذه هي قصة الأكراد.
برز الأكراد في التاريخ الإسلامي من خلال دولة كبرى كانوا هم مؤسسيها، وقامت هذه الدولة بجهود كبيرة في توحيد مصر والشام بينما كانت الخلافة العباسية في حالة ضعفٍ شديد، وتصدت هذه الدولة للصليبيين في مصر والشام، وتمكنت من الانتصار عليهم في معارك عظيمة في (حطين) و(المنصورة)، واستمرت الدولة ما يقرب من مائة عام من 569ه إلى 661ه .هذه الدولة هي الدولة الأيوبية التي أسسها القائد المسلم الكردي الفذُّ صلاح الدين الأيوبي – والذي ربما لايعلم الكثيرون أنه كان كرديًّا – وقد نشأ هذا البطل في تكريت بالعراق، وجاء مصر مع عمه أسد الدين شيركوه، وتمكن من إسقاط الدولة العبيدية الإسماعيلية وإقامة دولة سنية، ثم تمكن من توحيد مصر والشام في دولةٍ قوية انتصرت على الصليبيين، وتولت أسرته الكردية الحكم من بعده حتى نهاية الدولة، وقيام دولة المماليك.
ومن أهم العلماء الأكراد في التاريخ الإسلامي، والذين لهم أثر كبير الإمام أحمد بن تيمية، والشيخ بديع الزمان النورسي.
يتفق أغلب الباحثين على انتماء الأكراد إلى المجموعة الهندوأوروبية، وأنهم أحفاد قبائل الميديين التي هاجرت في مطلع الألف الثانية قبل الميلاد واستطاعت أن تنشر نفوذها بين السكان الأقدمين وربما استطاعت إذابتهم لتتشكل تركيبة سكانية جديدة عرفت فيما بعد بالأكراد. وتنتمي اللغة الكردية إلى مجموعة اللغات الإيرانية التي تمثل فرعًا من أسرة اللغات الهندوأوربية وهي التي تضم اللغات الكردية والفارسية والأفغانية والطاجيكية، وقد مال أكراد العراق وإيران إلى اللغة العربية؛ فهجروا الأبجدية الخاصة بهم، وبدأوا يستخدمون الأبجدية العربية في كتابة لغتهم، بينما ظل أكراد تركيا وسوريا يستعملون الأبجدية اللاتينية، وأما أكراد الاتحاد السوفيتي فكانوا يستعملون الأبجدية الروسية[35].
ولم تشكِّل كردستان (الموطن الأساسي للأكراد) بلدًا مستقلاً ذا حدود سياسية معينة في يوم من الأيام، على الرغم من أنه يسكنها شعب متجانس عرقًا. وظهرت كلمة "كردستان" كمصطلح جغرافي أول مرة في القرن ال12 الميلادي في عهد السلاجقة، عندما فصل السلطان السلجوقي سنجار القسم الغربي من إقليم الجبال وجعله ولاية تحت حكم قريبه سليمان شاه، وأطلق عليه كردستان. وكانت هذه الولاية تشتمل على الأراضي الممتدة بين أذربيجان ولورستان (مناطق سنا، دينور، همدان، كرمنشاه.. إلخ) إضافة إلى المناطق الواقعة غرب جبال زاجروس، مثل شهرزور وكوي سنجق. وكلمة كردستان لا يُعتَرف بها قانونيًّا أو دوليًّا، وهي لا تُستَعمل في الخرائط والأطالس الجغرافية. كما أنها لا تُستَعمل رسميًّا إلا في إيران.
وتتوزع كردستان بصورة رئيسية في ثلاث دول هي العراق وإيران وتركيا مع قسم صغير يقع في سوريا، فيما يوجد عدد من الأكراد في بعض الدول التي نشأت على أنقاض الاتحاد السوفياتي السابق. وتشكل كردستان في مجموعها ما يقارب مساحة العراق الحديث. وتضم كردستان الكبرى إداريًّا 46 إمارة مستقلة أهم مدنها: ديار بكر، وديندر، وشاريزور، ولور، وأرديال[36].
ويشغل الأكراد 19 ولاية من الولايات التركية البالغ عددها 90، تقع في شرقي تركيا وجنوبيها الشرقي، ويعيش الأكراد بشكل متفرق في دول أخرى أهمها أرمينيا وكذلك في أذربيجان وباكستان وبلوشستان وأفغانستان.
وتختلف التقديرات بشأن عدد الأكراد بين 27 إلى 40 مليونًا[37]، موزعين بنسبة 46% في تركيا، و31% في إيران، و18% في العراق، و5% في أرمينيا وسوريا.
وأغلب أقاليم كردستان غنية بالثروة المعدنية والمناجم خاصةً مناطق ديار بكر وماردين، ورغم وجود هذه المناجم والمعادن فلا تزال الصناعة في كردستان متأخرة؛ حيث تنعدم الصناعات الثقيلة، ولا يوجد أثر للصناعات العملاقة؛ وذلك بسبب الظروف السياسية، اما الصناعات اليدوية والخفيفة فهي منتشرة بكثرة لا سيما صناعة السجاد المنتشرة في جميع البيوت الكردستانية[38].
يعتنق الأكراد الإسلام بأغلبية ساحقة، وذلك على المذهب السني الشافعي، وهناك عدد قليل للغاية من الشيعة يعيشون في جنوب كردستان، والنصرانية شبه معدومة بينهم، فالنصارى في كردستان هم من السريان الذين كانوا يسمون بالأثوريين والآن يسمون أنفسهم أشوريين، وهم يعيشون في النصف الشمالي من كردستان العراق، وكذلك الكلدان وهم أقل من الأشوريين ويعيشون في مدينة السليمانية. كما توجد بعض الملل والعقائد المارقة من الإسلام كالكاكائيَّة وطائفة أهل الحق وأغلبهم يعيشون في الجزء الجنوبي من كردستان العراق وإيران، ولكن بأعداد نادرة.
كان الأكراد يعيشون في كنف الإمبراطورية الفارسية كرعايا؛ ومن هنا بدأت علاقتهم بالإسلام أثناء الفتوحات الإسلامية في فارس في عهد الفاروق عمر t.
في هذا الوقت توالت الانتصارات الإسلامية على القوات الفارسية في معارك القادسية وجلولاء ونهاوند (فتح الفتوح). وكان من نتائجها أن حدث احتكاك بين المسلمين الفاتحين وبين الأكراد.
وقد فُتِحَت غالبية المناطق الكردية من مدن وقرى وقلاع في أقاليم الجبال الغربية ومناطق الجزيرة الفراتية وأرمينيا وأذربيجان صُلحًا، ماعدا مناطق قليلة فُتِحَت عنوة؛ إذ لاقى المسلمون فيها مقاومةً عنيفةً.
وبحلول عام 21ه دخلت غالبية المناطق الكردية في الإسلام، ودخل الأكراد في دين الله أفواجًا. وقد دخل غالبية الأكراد في الإسلام طوعًا، وكان لهم إسهام بارز في الفتوحات.
ظلَّ الأكراد يتمثلون روح الإسلام، كما أنهم أصبحوا جنودًا للخلافة الإسلامية في شتى عصورها، ولم تؤثر فيهم الاحتكاكات العقائدية والحزبية والمذهبية التي طغت على العديد من القوميات التي تؤلِّف المجتمع الإسلامي آنذاك، بل أصبحوا سندًا ومُدافعًا أمينًا عن الثغور الإسلامية في وجه الروس والبيزنطينيين وحلفائهم من الأرمن والكرج (الجورجيين)، أما دورهم في مقاومة الصليبيين والباطنيين تحت قيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي فأشهر من أن يُعرَف.
وفي العصور العباسية كان لهم دور مشهود في الدفاع عن حياض الخلافة، وحتى عندما شكَّلوا إمارات خاصة بهم كغيرهم من الأمم أيام تدهور الخلافة العباسية في العصر البويهي (334-447 ه) فإنهم بقوا على إخلاصهم لرمز الإسلام آنذاك (الخلافة العباسية)، ولم يحاولوا القيام بحركات التمرد والانفصال أو احتلال بغداد مثل أمم أخرى كالفُرس والبويهيين، وكان في استطاعتهم فعل ذلك لو أرادوا، ولكنه الإخلاص للإسلام وللخلافة العباسية لا غير.
أمّا جذور المشكلة الكردية في العصر الحديث؛ فذلك ما نتحدَّث عنه في المقال القادم بإذن الله.
























(30)


قصة الأكراد (2 من 6)[39]

بدأت المشكلة الكردية بصورة واضحة في العصر الحديث عند اصطدام الدولتين الصفوية الشيعية والعثمانية السنية عام (1514م) في معركة جالديران التي كانت كبيرة وغير حاسمة، كان من نتائجها تقسيم كردستان عمليًّا بين الدولتين الصفوية والعثمانية.
فقد كانت كردستان قبل سنة (1514م) تسود فيها إمارات مستقلة مشغولة بتنظيم شئونها الداخلية، لكن سوء معاملة الشاه إسماعيل الصفوي، إضافةً إلى الاختلاف المذهبي جعل سكان إمارات الأكراد وبلاد الجزيرة في انتظار من يخلصهم من الحكم الصفوي، بالإضافة إلى جهود الشيخ إدريس البدليسي الذي ندبه السلطان العثماني لإقناع أمراء الأكراد ورؤساء العشائر وحكام المقاطعات بالانقلاب على حكم الشاه؛ لكل هذا بدأت المدن الكردية تثور على الحكم الصفوي مثل: ديار بكر، وبدليس، وأرزن، وميافارقين، وكركوك، وأردبيل[40].

تقسيم كردستان
في عام (1515م) قام العلامة إدريس، بعد تفويضه من قبل السلطان العثماني، بعقد اتفاقية مع الأمراء الأكراد، يتضمن اعتراف الدولة العثمانية بسيادة تلك الإمارات على كردستان، وبقاء الحكم الوراثي فيها، ومساندة الأستانة لها عند تعرضها للغزو أو الاعتداء مقابل أن تدفع الإمارات الكردية رسوم سنوية كرمز لتبعيتها للدولة العثمانية، وأن تشارك إلى جانب الجيش العثماني في أية معارك تخوضها الإمبراطورية، إضافة إلى ذكر اسم السلطان والدعاء له من على المنابر في خطبة الجمعة.
وقد تضمن هذا الاتفاق اعترافًا من الدولة العثمانية بالسلطات الكردية، ولم يكن ذلك شيئًا يسيرًا في مسيرة الأكراد؛ إذ قدَّم لهم اعترافًا بوجود المشكلة الكردية، يقتضي حلها، حتى لو كان الحل وقتيًّا‍!!
ولكن في عام (1555م) عقدت الدولتان العثمانية والصفوية اتفاقية ثنائية بين السلطان العثماني سليمان القانوني والشاه طهماسب عُرِفت باتفاقية "أماسيا"[41]، وذلك بعد ثلاث حملات عسكرية قام بها السلطان سليمان، واستولى فيها على مدينة تبريز عاصمة الصفويين، وعديد من المدن؛ ولكن في كل مرة كان الصفويون يستغلون عودته لبلاده، وينقضون على هذه المدن مرةً أخرى، وفي آخر حملة وصلته رسل طهماسب وهو في مدينة أماسيا التركية؛ فوقَّع معهم المعاهدة هناك، وهي أول معاهدة رسمية بين الدولتين. وتمَّ بموجبها تكريس تقسيم كردستان رسميًّا وفق وثيقة رسمية، نصت على تعيين الحدود بين الدولتين، وخاصة في مناطق شهرزور، وقارص، وبايزيد (وهي مناطق كردية صرفة)؛ مما شكَّل صفعة لآمال الأكراد في الحصول على استقلالهم.

وقد تمَّ توقيع عدة معاهدات تالية لتلك الاتفاقية؛ منها معاهدة "زهاو" أو تنظيم الحدود عام (1639م)، وتم التأكيد على معاهدة أماسيا بالنسبة لتعيين الحدود؛ مما زاد من تعميق المشكلة الكردية، ثم عقدت بعد ذلك معاهدات أخرى مثل "أرضروم الأولى" (1823م)، و"أرضروم الثانية" (1847م)، واتفاقية طهران (1911م)، واتفاقية تخطيط الحدود بين الدولتين: الإيرانية والعثمانية عام (1913م) في الأستانة، وكذلك بروتوكول الأستانة في العام نفسه.
أسهمت هذه المعاهدات في تكريس تقسيم إقليم كردستان، وقد زاد من حدة مشاعر الغضب الكردية بدء الأفكار القومية في الانتشار في الشرق مع بدايات القرن التاسع عشر؛ حيث بدأت الدول الأوروبية تحتك بكردستان عن طريق الرحّالة الأجانب والإرساليات التبشيرية، وكذلك عن طريق بعض القنصليات، وأهمها البريطانية والروسية والفرنسية ثم الأميركية.
وقد مارست كل هذه الجهات أدوارًا مهمةً في تحريض العشائر الكردية ضد الدولة العثمانية خاصةً، ثم الإيرانية، لكي يحصلوا على مزيد من الامتيازات، أو يزداد نفوذهم في الدولة العثمانية خاصة؛ وذلك بغية تحقيق هذه الدول الأوروبية مآربها في إثارة القلاقل داخل الدولة العثمانية؛ لتتمكن من إضعافها عن طريق إثارة المشاكل الداخلية.
دخلت القضية الكردية منعطفًا جديدًا مع اشتداد الصراع الدولي في المنطقة، وخاصةً بين بريطانيا وروسيا؛ إذ أخرج هذا الصراع القضية الكردية من الحيز الإقليمي إلى النطاق الدولي، فقد بدأت روسيا ثم بريطانيا في وقت مبكر اتصالاتهما بالأكراد كما حاولت فرنسا الأمر ذاته.
كما كانت أميركا موجودة في المنطقة على عكس ما كان شائعًا من تطبيقها لمبدأ "مونرو" الذي يؤكد على عدم التورط في المشاكل السياسية خارج أميركا.
في ذات الوقت التقت رغبات الدول العظمى بمحاولات بعض الأكراد التقرب من الأجانب، من أجل البحث عن حلٍّ للقضية الكردية؛ حيث كانت جهود الدبلوماسي الكردي شريف باشا واضحة في هذا المجال، إذ حاول الاتصال بالإنجليز عام (1914م) لكي يعرض خدماته، لكن الحكومة البريطانية لم تستجب له.
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م لم يكن للأكراد مصلحة فيها، وبرغم ذلك وجد الأكراد أنفسهم وقد جرفتهم أحداث الحرب للاشتراك في القتال على الجبهتين: القوقازية والعراقية؛ فقد انضم الأكراد إلى جانب تركيا في الحرب، حيث تمكن الأتراك من توجيههم لقتال الأرمن والأثوريين (الأشوريين)[42] الذين خانوا تركيا، وتمردوا عليها، وانضموا إلى جبهة الحلفاء المعادية. وقد أُصيب الأكراد بخسائر فادحة شأنهم في ذلك شأن الشعوب الأخرى التي تورطت في الحرب، ولكنهم قد أثبتوا أنهم مفيدون للأتراك في أداء المهمات التي أُنِيطت بهم[43].
ضُرِبَت الجهود الكردية للاستقلال في مقتل إثر اتفاقية سايكس بيكو عام (1916م)؛ حيث اجتمع وزراء الخارجية الروسية والبريطانية والفرنسية، ودارت بينهم مباحثات سرية حول الترتيبات المقبلة للشرق الأوسط، بعد أن أصبحت هزيمة ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية وشيكة، وتضمنت الاتفاقية تقسيم تركة الدولة العثمانية، وبما أن القسم الأكبر من كردستان كان تحت السيطرة العثمانية، فقد شملها التقسيم، وهذا الوضع الجديد عمَّق بشكل فعّال من تعقيد المشكلة الكردية؛ حيث تُعَدُّ معاهدة سايكس بيكو أول معاهدة دولية اشتركت فيها ثلاث دول كبرى، وحطمت الآمال الكردية في تحقيق حلمهم في تقرير المصير.

ما بعد الحرب
تحرك الأكراد لاستثمار الظروف الدولية وهزيمة الدولة العثمانية بالحرب العالمية الأولى لنيل مطالبهم والاستفادة من مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون بحق الشعوب في تقرير المصير، وقد تحرك الأكراد وبذلوا جهودًا مضنية لإيصال صوتهم إلى مؤتمر الصلح في باريس عام (1919م)، ولا سيما بعد أن صرح رئيس الولايات المتحدة الأميركية ويدرو ويلسون بحق الشعوب في تقرير مصيرها في بنوده الأربعة عشر المشهورة، ولم يكن للأكراد كيان سياسي مستقل حتى يشارك وفدهم رسميًّا في ذلك المؤتمر، شأنهم شأن القوميات والشعوب المضطهدة الأخرى، ولذلك خَوَّل الشعب الكردي من خلال العشائر والجمعيات السياسية شريف باشا لتمثيلهم والمطالبة بالمطالب الكردية المشروعة.
بدأ الأكراد يركزون جهدهم لمطالبة الهيئات الدولية التي احتلت الأستانة بتوحيد المناطق الكردية ومنحها حكمًا ذاتيًّا؛ فراجعوا اللجان الأوروبية والأمريكية التي تكونت لاستفتاء الشعوب التي انفصلت عن الإمبراطورية العثمانية لهذا الغرض، كما رأى مفكرو الأكراد وجوب الاتجاه بمساعيهم الوطنية إلى خارج الدولة العثمانية بعد أن رفضت وزارة فريد باشا منح الاستقلال الذاتي للأكراد[44]. وقد ركز الأكراد اهتمامهم نحو مؤتمر الصلح الذي انعقد في باريس في مارس 1919م، خاصة وأن هذا العام قد حفل بالآمال بالنسبة للأكراد والعرب والأرمن، فقد أقبلت هذه السنة ومعها وعود ويلسون بتقرير مصير الشعوب[45].
وقد أصدر الحلفاء بعد استكمال تحضيراتهم للمؤتمر قرارًا في شهر يناير1919م نص على ما يأتي: "… إن الحلفاء والدول التابعة لهم قد اتفقوا على أن أرمينيا وبلاد الرافدين وكردستان وفلسطين والبلاد العربية يجب انتزاعها بكاملها من الإمبراطورية العثمانية".
وانطلاقًا من هذا القرار قدم الممثل الكردي شريف باشا مذكرتين مع خريطتين لكردستان إلى المؤتمر، إحداهما بتاريخ (21/3/1919م)، والأخرى يوم (1/3/1920). كما طلب من القائمين على شئون المؤتمر تشكيل لجنة دولية تتولى تخطيط الحدود بموجب مبدأ القوميات، لتصبح كردستان المناطق التي تسكن فيها الغالبية الكردية، وإضافة إلى ذلك فقد جاء في المذكرة الأولى "إن تجزئة كردستان لا يخدم السلم في الشرق…".
كما جاء في المذكرة الثانية "إن الترك يتظاهرون علنًا بأنهم مع المطالب الكردية، وأنهم متسامحون معهم، لكن الواقع لا يدل على ذلك مطلقًا…". كما طلب شريف باشا رسميًّا من رئيس المؤتمر جورج كليمنصو أن يمارس نفوذه مع حكومة الأستانة لمنع اضطهاد الشعب الكردي، وجاء في رسالته إلى رئيس المؤتمر: إنه منذ أن تسلمت جماعة الاتحاد والترقي (العلمانيون) السلطة، فإن جميع الذين يحملون آمال الحرية القومية قد تعرضوا للاضطهاد المستمر، وإنه من الواجب الإنساني في المجلس الأعلى أن يمنع إراقة الدماء مجددًا، وإن السبيل لضمان السلم في كردستان هو التخلي عن مشروع تقسيم هذه البلاد (أي كردستان).
ودل كل ذلك على أن المشكلة الكردية تقدمت خطوة كبيرة إلى الأمام في أعقاب الحرب. وعندما رأى شريف باشا أن تعاطف الدول الأوروبية كبير نحو القضية الأرمنية - ربما بسبب الانتماء الديني للأرمن- استطاع عقد معاهدة ائتلافية بينه وبين نوبار باشا رئيس الوفد الأرمني في ديسمبر سنة 1918م بباريس لحل المسائل المتنازع عليها بين الأكراد والأرمن حلاًّ سلميًّا بدون ترك فرصة للتدخل فيها من القوى الأخرى، وعلى أساس أن تكون كردستان دولة مستقلة عن الدولة الأرمنية المزمع تأليفها[46].
تُرى ماذا حدث في مؤتمر باريس؟ وما موقف الدول الأوربية من القضية الكردية؟ وما موقف الأتراك؟ هذا ما سنتناوله في المقال القادم بإذن الله.





















(31)


قصة الأكراد (3 من 6)[47]


يعيش الأكراد في أربع دولٍ بصورة أساسية، وقد عرفوا الإسلام خلال الفتوح الإسلامية في فارس أيام الصِّدِّيق والفاروق، ويلتزمون بالمذهب الشافعي السني، وكانوا مخلصين دائمًا لدولة الخلافة الإسلامية. انضم الأكراد للدولة العثمانية في صراعها ضد الصفويين الشيعة، ولكن الدولتين اتفقتا في (أماسيا) على تقسيم كردستان، كما انضم الأكراد لتركيا في الحرب العالمية الأولى، ثم بدأوا يطالبون بالاستقلال من خلال المؤتمرات الدولية.
معاهدة سيفر (1920م)
نجح شريف باشا ممثل الأكراد في إدخال ثلاثة بنود تتعلق بالقضية الكردية في معاهدة سيفر التي أبرمها الحلفاء بباريس في أغسطس 1920م، وقد كرس ذلك عملية تدويل القضية الكردية بصورة رسمية، رغم أن الدولة العثمانية حاولت مرارًا أن تصف القضية الكردية بأنها قضية داخلية تستطيع الدولة حلها.
وكان من الممكن أن تصبح معاهدة سيفر محطة مهمة في تاريخ القضية الكردية، حيث نصت على تحقيق حل المشكلة الكردية على مراحل، وإذا اجتاز الأكراد هذه المراحل - وطالبوا بالاستقلال، ورأت دول الحلفاء أهلية الأكراد لذلك - يصبح الاستقلال أمرًا واقعيًّا، وعلى الحكومة التركية الاعتراف بذلك. لكن كان رد تركيا على المعاهدة عنيفًا، ووصف كمال أتاتورك المعاهدة بأنها بمثابة حكم الإعدام على تركيا، وحاول بمختلف الوسائل وضع العراقيل لمنع تطبيق المعاهدة.
وهكذا لم تر معاهدة سيفر النور؛ بسبب صعود نجم "مصطفى أتاتورك" والحركة الكمالية، وتوسيع مناطق نفوذها، وكذلك لرغبة أوروبا في إبراز مصطفى كمال كبطل؛ لدعمه في حربه على الإسلام والخلافة الإسلامية في تركيا مقر الخلافة؛ لذا لم يكن من مصلحتهم إضعافه بتمكين الأكراد من الحصول على استقلالهم.
لكل ذلك لم يمر عام ونصف العام على توقيع معاهدة سيفر حتى طرحت فكرة إعادة النظر فيها، وجاءت هذه المواقف من قبل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، واتخذ المجلس الأعلى للحلفاء قرارًا بهذا الشأن يوم (25 من يناير 1921م)، إضافة إلى توجيه الدعوة إلى وفد حكومة أنقرة لحضور المؤتمر القادم، الأمر الذي دلّ على اعتراف الحلفاء بالواقع الجديد في تركيا.
مؤتمر لندن (1921م)
عقد مؤتمر بلندن في فبراير 1921م لبحث المشاكل العالقة، ومن ضمنها المشكلة الكردية، حيث اعتزم الحلفاء إعطاء تنازلات مهمة في هذه القضية، لكن الحكومة التركية أصرت على أن المسألة يمكن حلها داخليًّا، لا سيما وأن الأكراد لهم الرغبة في العيش مع إخوانهم الأتراك حسبما زعمت آنذاك. وأثناء انعقاد مؤتمر لندن، عقدت حكومة أنقرة عددًا من الاتفاقيات الدولية التي كرست الشرعية الدولية القانونية للنظام الجديد في تركيا، ثم قامت الحكومة الجديدة بإلغاء جميع الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها حكومة الأستانة ومن ضمنها معاهدة سيفر. كل ذلك أدى إلى تعزيز مكانة الحكومة التركية الجديدة، وبذلك فشل مؤتمر لندن؛ لتوجه ضربة إضافية للآمال القومية الكردية.
معاهدة لوزان (1923م)
جاءت فكرة عقد معاهدة لوزان بعد تنفيذ المسرحية التي خططت لها المخابرات الإنجليزية من أجل هدم الإسلام، والقضاء على الخلافة الإسلامية في تركيا؛ بإبراز اليهودي الحقود مصطفى كمال أتاتورك كبطل مغوار استطاع إنقاذ شرف الدولة العثمانية من الحلفاء واليونان الذين احتلوا أزمير بتمكين من بريطانيا عام 1920م، وتوغلوا في الأناضول؛ فقام مصطفى كمال باستثارة روح الجهاد في الأتراك، وخدعهم برفع القرآن، ورد اليونانيين على أعقابهم، وتراجعت أمامه قوات الحلفاء بدون أن يستعمل أسلحته، وأخلت له المواقع؛ وعندها بزغ نجم مصطفى كمال في العالم الإسلامي كله، ولُقِّب بالغازي، ومدحه الشعراء، وأشاد به الخطباء[48].
ونصت معاهدة لوزان الموقعة في (24 من يوليو 1924م) على أن تتعهد أنقرة بمنح سكان تركيا الحماية التامة والكاملة، ومنح الحريات دون تمييز، من غير أن ترد أية إشارة للأكراد فيها، كما لم تجرِ الإشارة إلى معاهدة سيفر، وعدَّ الأكراد هذه المعاهدة ضربةً قاسية ضد مستقبلهم ومحطمة لآمالهم.
عملت بريطانيا بعد المعاهدة على إلحاق جنوب إقليم كردستان - والمعروف بولاية الموصل – بالعراق، بينما اعتبر الأتراك أن بقاء أكراد الموصل خارج نطاق سيطرتهم يمهد السبيل أمامهم لإثارة أكراد تركيا؛ لذا طالبوا بضم ولاية الموصل إلى أراضي تركيا[49].
وصلت المفاوضات لطريق مسدود؛ فأحالت بريطانيا القضية إلى عصبة الأمم التي أمرت بتشكيل لجنة لبحث القضية؛ وذلك من أجل استنفاد الوقت، وخلق أوضاع جديدة على أرض الواقع؛ حتى لا تعود الولاية لتركيا، وهذه هي طريقة الاحتلال دائمًا.
قامت هذه اللجنة باستطلاع آراء أهل الموصل في القضية؛ فمنهم من كان يريد الرجوع إلى الحكم التركي بدافع الدين الإسلامي، ورفض حكم الإنجليز غير المسلمين، بينما كانت الأقليات المسيحية واليهودية تصر على عدم العودة للحكم التركي[50]. أمَّا الأكراد الذين يؤلِّفون ثلاثة أخماس الولاية فكانوا ضد الحكم العربي والتركي، وكان كبار الملاَّك منهم هم الطبقة الوحيدة المؤيدة للحكومة العربية، وترى تبعية الولاية لحكومة بغداد[51].
في ذلك الوقت قامت ثورة كردية بزعامة الشيخ سعيد بيران في مارس 1925م ضد السلطات التركية، واتهمت تركيا الحكومة البريطانية بتحريض الأكراد على الثورة، ورغم عدم وجود أدلة على ذلك، إلا أن الثابت أن بريطانيا قد قابلت الثورة بارتياح[52].

بداية من عام 1931م بدأ الأكراد في القيام بالثورة ضد الدولة الإيرانية والعراقية والتركية؛ وذلك بقياد عائلة البارزانيين الذين ظهروا على مسرح الأحداث منذ 1908م، والذين عُرِفوا بالسيادة والقيادة الدينية والعسكرية، وكان من أبرزهم الشيخ عبد السلام الذي قاد الأكراد لمقاومة القوانين الجديدة التي فرضها نظام تركيا الفتاة العلماني، وأعلن الثورة المسلحة ضدهم حتى تمَّ الصلح عام 1909م، ولكن السلطات التركية قامت بعد ذلك بإعدامه عام 1914م؛ لتقدمه بمطالب كردية خاصة بجمع الضرائب بما يوافق الشريعة الإسلامية، وإنفاقها في إصلاح المرافق في كردستان، وطلب تعيين مفتيين على المذهب الشافعي، وطلب اعتماد التعليم في كردستان باللغة الكردية، وكذلك لرفضه إرسال متطوعين للقتال مع الجيش التركي في الحرب العالمية الأولى[53].
وكان منهم الشيخ أحمد البارزاني الذي اتصف بالقسوة حتى مع الأكراد، ثم ظهر المُلا مصطفى البارزاني على مسرح الأحداث من هذا الوقت ولفترة طويلة خاض فيها معارك كثيرة، وأعلن التمرد على الحكومة العراقية، وتنقَّل بين العراق وتركيا وروسيا، وحُدِّدَت إقامته لمدة عشر سنوات في الناصرية، ثم السليمانية، ثم فرَّ من منفاه؛ ليتزعم الحركة الثورية الكردية[54]، ويؤسس الحزب الديمقراطي الكردستاني.
دعَّم مصطفى البارزاني قواته بعد ذلك، ودخل في معارك كثيرة مع الجيش العراقي مستعينًا بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة التي كانت ضد العراق، ومستعينًا كذلك بإمدادات عسكرية كبيرة من إيران التي كانت تعادي العراق، ولكن من يعتمد على الولايات المتحدة لا بد أن يخسر في النهاية؛ إذ قامت أمريكا برعاية اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران في 6 من مارس 1975م عن طريق وزير خارجيتها اليهودي الشهير هنري كيسنجر؛ ومن ثَمَّ سحبت إيران الشاه أسلحتها، وتركت الأكراد فريسةً لهجوم عراقي كاسح أسفر عن هزيمة تامة لقوات البارزاني، وانتهاء الثورة الكردية بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني في هذا الوقت تمامًا، ولجوء البارزاني إلى إيران[55].
وقد نشأت بعد هذه الهزيمة تيارات سياسية مختلفة انبثق عنها أحزاب جديدة، فما هذه القوى وتلك الأحزاب؟ هذا ما نتحدث عنه في المقال القادم بإذن الله.
















(32)


قصة الأكراد (4 من 6)[56]


يعيش الأكراد في أربع دولٍ بصورة أساسية، انضم الأكراد للدولة العثمانية في صراعها ضد الصفويين الشيعة، ولكن الدولتين اتفقتا في (أماسيا) على تقسيم كردستان، كما انضم الأكراد لتركيا في الحرب العالمية الأولى، ثم بدءوا يطالبون بالاستقلال من خلال المؤتمرات الدولية، وعندما لم يحصلوا على بغيتهم قاموا بعدة حركات ثورية بقيادة البارزانيين، واستعانوا خلالها بإيران وأمريكا، التي خذلتهم برعايتها لاتفاقية 6 من مارس 1975م بين العراق وإيران، وتركتهم فريسة لهجوم عراقي كاسح أسفر عن هزيمة تامة لقوات البارزاني، وانتهاء الثورة الكردية بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني في هذا الوقت تمامًا، ولجوء الملا مصطفى البارزاني إلى إيران[57].

خيَّمت حالة من الإحباط والذهول على حركة المقاومة الكردية إثر انهيار الثورة الكردية، وإعلان القيادة العشائرية الكردية إنهاء الكفاح المسلح، وتسريح قوات البشمركة (الفدائيين)، وإنهاء النضال السياسي أيضًا، غير أن بعض القوى حاولت استئناف الحركة مرةً أخرى؛ ففي يونيو 1975م أُعلِن قيام الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني (الرئيس العراقي الحالي)، وكان هذا الاتحاد يشمل:
1- الحركة الاشتراكية الكردستانية.
2- العصبة الماركسية – اللينينية الكردستانية[58].
كان هذا الاتحاد إذن يساري النزعة بدرجة متطرِّفة، وكان من منهجه - بطبيعة الحال – القضاء على الإمبريالية، والطبقات البرجوازية، والملكية العقارية، وكذلك القضاء على الإقطاعية والعلاقات العشائرية في كردستان، وإقرار حق الشعب الكردي في الحكم الذاتي ضمن جمهورية عراقية مستقلة، وإجراء الإصلاح الزراعي.
وقد أنشأ الاتحاد الوطني قوة عسكرية خاضعة له تسمى قوات (الأنصار).
وفي الوقت الذي كان الملا مصطفى البارزاني يعيش لاجئًا في إيران ثم الولايات المتحدة؛ كان أبناؤه والبقية الباقية من العناصر القيادية في الحزب الديمقراطي الكردستاني، تحاول استئناف العمل من إيران[59].

وفي نوفمبر 1975م تم تشكيل القيادة المؤقتة للحزب الديمقراطي الكردستاني من هذه العناصر القيادية المثقفة التي اختارت مسعود البارزاني (رئيس إقليم كردستان الحالي وابن الملا مصطفى البارزاني) رئيسًا مؤقتًا للحزب، ولكن كان هذا التشكيل يحمل في طياته بذور الانشقاق؛ لوجود اتجاهات فكرية متباينة[60].
وقد تحقق الانشقاق بالفعل بعد مؤتمر الحزب الذي انعقد ما بين 4 و11 من نوفمبر 1979م؛ إذ انسحبت العناصر اليسارية في الحزب بسبب اتجاه مسعود البارزاني وأخيه الأكبر إدريس إلى التعاون مع الثورة الإيرانية ضد أكراد إيران، وأسست تلك العناصر حزب الشعب الديمقراطي الكردستاني.

حفلت الساحة الكردية بالعديد من الأحزاب التي خالفت المنهج الإسلامي كالأحزاب الثلاثة السابقة، وغيرها خاصة اليسارية؛ فأسست الشبيبة الكردية (نوادي الثقافة الثورية الديمقراطية) وظهرت جمعية النساء الثورية الديمقراطية، وجمعية المعلم الديمقراطي وغيرها من التنظيمات اليسارية؛ لذا كان من الطبيعي أن تظل تعاني من الانشقاقات والمؤامرات، وغياب الهوية.
وفي خِضَمّ هذا الحراك انبثق حزب العمال الكردستاني (PKK) من منظمة شيوعية تركية كانت تُدعَى منظمة الشباب الثوري، وأُعلِن عن إنشائه يوم 27 من نوفمبر 1978م، واختير عبد الله أوجلان رئيسًا له. ويُعرَف عن الحزب توجهه الماركسي اللينيني؛ ومن أهدافه الجوهرية إنشاء دولة كردستان الكبرى المستقلة.
وقد تحول الحزب بسرعة من مجموعة قليلة من الطلاب الماركسيين غير المؤثرين في الساحة السياسية الكردية، إلى أهم تنظيم سياسي يقود عملاً مسلحًا يحظى بتعاطف الكثير من كرد تركيا وخصوصًا العمال والمثقفين والفلاحين.
ومنذ سنة 1984م بدأ الحزب نشاطه العسكري داخل كردستان، وقد أعانت تضاريس المنطقة الوعرة متمردي الحزب في حربهم ضد الجيش التركي. وقد اتخذوا من كردستان العراق منطقة تحمي قواعدهم الخلفية، كما أقاموا تحالفًا مع الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي بزعامة البارزاني.
وكانت الحكومة التركية قد أعلنت عن تطبيق قانون الطوارئ في الأقاليم الكردية سنة 1979م، وقررت التدخل العسكري المباشر في المنطقة منذ سبتمبر1980م.
وقد تجاوز عدد عناصر جيش حزب العمال في التسعينيات 10 آلاف مقاتل. ورغم التوجه اليساري للحزب فإنه لم يحصل على تمويل من المنظومة الاشتراكية بل اعتمد في تمويل عملياته وإعداد مقاتليه على مصادره الخاصة، وتتهمه الأوساط التركية بأن تمويله مشبوه وغير شرعي.

وكان عقد الثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي أكثر فترات الصراع بين الأكراد والجيش التركي دموية؛ فقد قام الجيش التركي بتعقب المسلحين، واتُّهم بتدمير آلاف القرى الكردية، وتهجير العديد من الأسر إلى داخل تركيا. كما تذهب بعض الإحصاءات إلى أن مجموع من قتلهم المسلحون الكرد يبلغ 40 ألف شخص.
ولم تقتصر عمليات مسلحي حزب العمال العسكرية على الجيش التركي بل شملت المدنيين أتراكًا وكُردًا، وخصوصًا المتعاونين مع الحكومة التركية، كما شملت بعض السائحين الأجانب. وقد وجهوا ضرباتهم لبعض المصالح التركية في البلدان الغربية.
تم اعتقال زعيم حزب العمال عبد الله أوجلان بنيروبي يوم 15 من فبراير 1999م بعد 15 سنة من العمل العسكري المسلح، وحكم عليه بالإعدام في يونيو من نفس السنة. وقد خفف الحكم من الإعدام إلى السجن المؤبد بجزيرة صغيرة في بحر مرمرة.
ومنذ اعتقال ومحاكمة أوجلان أخذت القضية الكردية بما فيها العمل العسكري منعطفًا جديدًا وإن لم يستمر، من أبرز معالمه:
1- إعلان الأكراد عن وقف إطلاق النار من جانب واحد في سبتمبر 1999م، وهو الإعلان الذي لم يصمد بعد ذلك.
2- حل حزب العمال الكردستاني (PKK) وإنشاء حزب مؤتمر الحرية والديمقراطية الكردستاني (كاديك) في نوفمبر 2003م؛ تفاديًا لإدراجه على قوائم الجماعات الإرهابية، ليغير اسمه مرة ثانية فيصير المؤتمر الشعبي الكردستاني (KONGRA GEL).
وقد أُدرِجَ حزب كاديك أو كونغرا جيل (الصيغة الجديدة لحزب العمال الكردستاني) ضمن قائمة المنظمات الموضوعة أوروبيًّا وأميركيًّا على لائحة التنظيمات الإرهابية.
وكان عثمان أوجلان الأخ الأصغر لعبد الله أوجلان قاد الحزب، ثم انشق عنه مشكّلاً حزب الوطنيين الديمقراطيين الكرد ذا التوجه القومي والمتبني النهج السلمي لحل القضية الكردية.
ومنذ يونيو 2004م عاد الوضع العسكري في منطقة كردستان تركيا للتأزم بعد خمسة أعوام من الهدوء، فاستأنف المسلحون الكرد الهجوم على الجيش التركي، وظهر تنظيم عسكري جديد أطلق عليه اسم صقور الحرية بكردستان، تصفه تركيا بكونه استمرارًا لحزب العمال الكردستاني.
وقد استمرت الأوضاع بين كرٍّ وفرٍّ بين الحزب والجيش التركي، حتى آلت إلى ما هي عليه الآن من قيام قوات الحزب بقتل جنودٍ أتراك انطلاقًا من الأراضي العراقية، وتهديد الحكومة التركية باكتساح شمال العراق؛ للقضاء على قواعد حزب العمال.
ولكن القوى الكردية الفاعلة في المجتمع الكردي ليست يسارية فقط؛ فهناك قوى إسلامية ظاهرة يتم التعتيم الإعلامي عليها وعلى جهودها البارزة في خدمة الأكراد، مثل: الاتحاد الإسلامي الكردستاني، وهو الذي سنخصص المقال القادم للحديث عنه بإذن الله.




(33)


قصة الأكراد (5 من 6)[61]


يعيش الأكراد في أربع دولٍ بصورة أساسية، انضم الأكراد للدولة العثمانية في صراعها ضد الصفويين الشيعة، ولكن الدولتين اتفقتا في (أماسيا) على تقسيم كردستان، كما انضم الأكراد لتركيا في الحرب العالمية الأولى، ثم بدءوا يطالبون بالاستقلال من خلال المؤتمرات الدولية، وعندما لم يحصلوا على بغيتهم قاموا بعدة حركات ثورية بقيادة البارزانيين، واستعانوا خلالها بإيران وأمريكا، التي خذلتهم برعايتها لاتفاقية 6 من مارس 1975م بين العراق وإيران، وتركتهم فريسة لهجوم عراقي كاسح أسفر عن هزيمة تامة لقوات البارزاني، وانتهاء الثورة الكردية بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني في هذا الوقت تمامًا، ولجوء الملا مصطفى البارزاني إلى إيران[62]. وقد تشكَّل في كردستان العديد من الأحزاب السياسية ذات الميليشيات العسكرية، وكان أغلبها ذا توجهات يسارية، مثل: الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني، والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني، وحزب العمال الكردستاني (PKK) بقيادة عبد الله أوجلان.
واليوم نتحدث عن أقوى الأحزاب الإسلامية في كردستان، وهو الاتحاد الإسلامي الكردستاني.
تأسس الاتحاد الإسلامي الكردستاني في 6/ 2/ 1994م بعد حصول الإقليم على الحكم الذاتي إثر هزيمة نظام صدام حسين أمام التحالف الدولي؛ وذلك استجابة لعمق الانتماء للإسلام داخل الشخصية الكردية.
ويرأس الاتحاد الأمين العام صلاح الدين محمد بهاء الدين الذي نشأ على أيدي والده أحد علماء الكرد المعروفين، وقد اختير في انتخابات حرة بنسبة 93%، وأعيد انتخابه في المؤتمر الثاني المنعقد بتاريخ 20/8/ 1996م بنسبة 96%، وأعيد انتخابه في المؤتمر الثالث المنعقد في 3/ 9/ 1999م بنسبة 91%.

ويتأثر الحزب بأفكار الصحوة الإسلامية التي قادها في العراق الشيخ محمد محمود الصواف مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في العراق مع الشيخ أمجد الزهاوي[63].

سلك الاتحاد الإسلامي السبيل السياسي، ورفض أن يكون له ميليشيا مسلحة على عكس بقية الأحزاب بما فيها الأحزاب الإسلامية الأخرى كحركة الوحدة الإسلامية، والجماعة الإسلامية في كردستان العراق.
صار الاتحاد القوة السياسية الثانية في إدارتي الإقليم؛ وذلك بحسب نتائج الانتخابات البلدية التي أُجريت خلال الأعوام الماضية؛ حيث جاء في المرتبة الثانية بعد الاتحاد الوطني الكردستاني في محافظتي كركوك والسليمانية، وكذا في محافظتي دهوك وأربيل بعد الحزب الديمقراطي الكردستاني؛ مما يعكس شعبية ضخمة للحزب في مواجهة الحزبين الأولين صاحبي التاريخ السياسي الطويل في الحياة الكردية.

منهج الاتحاد الإسلامي:
يعتمد الاتحاد منهج الإصلاح الإسلامي في جميع المجالات؛ إذ ينبني منهجه على الركائز التالية:

1- الإصلاح السياسي الإسلامي:
تُعتَبَر السياسة في مفهوم الكثيرين بعيدة تمامًا عن الإسلام ومبادئه النقية، وهذا ما يسعى الحزب لتغييره نهائيًّا؛ إذ الإصلاح في القرآن مفهوم عام وشامل يُعنَى بالمفاهيم الحديثة للتغير بأساليب مدنية سياسية نحو الأحسن. وهذا يعني أن تكون السياسة جزءًا من العمل والنضال الإسلامي[64].

2- التعددية:
يؤمن الاتحاد الإسلامي الكردستاني بالتعددية السياسية، والأهم أنه يمارسها بالإقرار العملي، وقد شهدت الأحزاب السياسية الأخرى بانفتاح الحزب على الساحة السياسية في كردستان.
ويعتبر الحزب أن القوى السياسية الأخرى أصحاب اجتهادات خاصة لتحقيق أهداف سياسية معينة؛ لذا لا يخونهم، أو يخرجهم عن الدين.

3- الشورى:
يعتمد الاتحاد الإسلامي الشورى وسيلةً للإصلاح السياسي، ونظامًا للممارسة السياسية، في إطار عدم مخالفة الشريعة الإسلامية؛ فهو يقبل بها في إطار حرية الفكر، وحرية التعبير، واختيار الممثلين عن الشعب، ولكن يرفض منها ما يمنح حق التشريع المطلق للشعب، ويُلغي حكم الشريعة الإسلامية[65].

القناة التليفزيونية:
اتخذ الاتحاد الإسلامي الكردستاني العديد من الوسائل لأداء رسالته، وكان من ذلك أن بدأ في 1/7/ 1996م يبث قناة السليمانية التليفزيونية على مدار 7 – 8 ساعات يوميًّا، تضم العديد من البرامج برؤية ومرجعية إسلامية.
وتُعَد هذه القناة منافسًا جيدًا لقنوات الأحزاب الأخرى، ويتضح ذلك من خلال الشعبية والجماهيرية التي تحظى بها برامج القناة بين الأكراد في المنطقة. وتتنوع المواد التي تقدمها القناة ما بين الأخبار، والرياضة، والبرامج السياسية، والبرامج التربوية، والشرعية، والتعليمية، وبرامج الأطفال، والبرامج الأدبية، والبرامج الفلكلورية، ومباريات كرة القدم، وبرامج المرأة والطفل، وغير ذلك من مواد، وجميعها يتم اختيارها وفق ضوابط إسلامية.


رؤية الاتحاد الإسلامي الكردستاني للقضية الكردية:
جسَّد الاتحاد الإسلامي الكردستاني خلال ثلاثة عشرَ عامًا نموذجًا مثاليًّا للحزب الذي يوازن بين المرجعية الإسلامية والهوية القومية؛ فهو يناضل في سبيل المشروع الإسلامي، وفي نفس الوقت يناضل من أجل رفع الظلم عن الشعب الكردي، وفي سبيل حقوقهم المشروعة التي لا تعني الانفصال عن العراق، أو غيره من الدول التي يعيش فيها الأكراد؛ فهو يتبنى ويدافع عن وحدة الأراضي العراقية، ووحدة القوميات في إطار حفظ واحترام الخصوصية تحت سقف الوطن الواحد.
وقد كانت المرجعية الإسلامية عاملاً مساعدًا في إيصال صوت الشعب الكردي، والتعريف بقضيته في أرجاء العالم الإسلامي من خلال المؤتمرات والندوات والعمل الإعلامي[66].

كان هذا عرضًا سريعًا لأهم الأحزاب السياسية الإسلامية على الساحة الكردية، والذي يمثل بحقٍّ نموذجًا للأحزاب الإسلامية الغيورة على دينها، والساعية لإقرار الحق في أية جهة كان.

وفي المقال القادم – وهو المقال الأخير في سلسلة الأكراد بإذن الله – نتناول رؤيتنا لمستقبل القضية الكردية، وطموحاتنا لحل المشكلة وفق المعايير والضوابط الإسلامية.


















(34)


رؤيتنا حول قصة الأكراد (6 من 6)[67]


بعد استعراضنا لجذور القضية الكردية، وأبعادها المختلفة ينبغي التصدي لعرض رؤيتنا لمستقبل المشكلة الكردية، وما هي صائرة إليه في المستقبل بإذن الله.
بدايةً المشكلة معقدة، ولعلها تستمر فترةً طويلةً أخرى، وهذا ما تدل عليه المعطيات الحالية للقضية، وما تؤكده في نفس الوقت نتيجة الاستبيان الذي طرحناه للتصويت في الموقع؛ إذ صوَّت ما يزيد عن 76% على خيار استمرار المشكلة.
كما لا بد من الإقرار بأن المشكلة الكردية نشأت نتيجةً لضعف الخلافة العثمانية، ثم إسقاطها، وتحكم القوى الصليبية فيها، وفي العالم بأسره، وأن هذه الخلافة لو ظلَّت قويةً على حالها لحصل الأكراد على حقوقهم كاملة كمواطنين في الدولة الإسلامية، لا فرق بينهم وبين غيرهم، ولما تعنَّتت دولهم معهم في حدود المطالب المشروعة التي ينبغي لكل مواطن أن يحصل عليها؛ كأحقية الأكراد - كمواطنين - في تولِّي المناصب العُليا في الدولة التي ينتمون إليها، ولو حدث ذلك لما برزت لديهم مطالب الانفصال والاستقلال؛ فإن المسلمين جميعًا جسدٌ واحد؛ قال الله U: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ"[68]. والأكراد منذ القدم معروفون بتدينهم، وارتباطهم الشديد بأمتهم الإسلامية؛ وذلك ما جعلهم أحرص الناس على الارتباط بالخلافة العباسية في فترات ضعفها، في الوقت الذي هبَّ فيه كل أمير، وكل صاحب بدعة إلى الانفصال عنها – كما ذكرنا في المقال الأول من هذا الملف.
كما أن من أسباب تفاقم المشكلة اختراق الأفكار القومية واليسارية لعقول نفر من الأكراد؛ مما قاد هؤلاء النفر إلى التخلي عن انتمائهم الإسلامي على حساب انتمائهم العِرقي القومي، وتلك مصيبة ابتُلِي بها العالم الإسلامي منذ أوائل القرن العشرين على أيدي الاستعمار الغربي الذي أراد تفتيت وحدة الأمة الإسلامية العقائدية بهذه الدعوات العصبية المنتنة.
وبناءً على ما سبق، فإنه ليس من المقبول لحل القضية الكردية أن يتم التغافل عن مشاكل الأكراد ومعاناتهم المستمرة منذ زمن، كما أنه ليس من المقبول في الوقت ذاته أن يكون هناك انفصال لجنس الأكراد عن الدول الإسلامية التي يعيشون فيها؛ فإن ذلك يشجع كل جنس من الأجناس المشكِّلة لجسد الأمة على أن ينفصل عنها مكوِّنًا دولة عِرقية لا مكان فيها لغير هذا الجنس؛ وهذا باب عظيم من أبواب تدمير الأمة، فضلاً عن أن ذلك يقطع صلة الأكراد بالمحيط الإسلامي، ويقيم الحواجز السياسية والنفسية بينهم وبين إخوانهم.
ونحن لا نستطيع أن نعوِّل – في الوقت الراهن، وفي هذه الظروف العصيبة التي تمر بها الأمة من تمزق وتشرذم، وسيطرةٍ للأعداء عليها – على فكرة أن يتحد المسلمون، ويعيدون الخلافة من جديد؛ فذلك – رغم أنه المطلب الأساسي لكل الغيورين على الأمة – مطلب بعيد؛ لذا فالتعويل عليه في حلِّ مشاكل الأكراد الآنيَّة ما هو إلا تسويف لهذه المشاكل.
ولذلك فإن رؤيتنا لحل المشكلة الكردية تتضح في النقاط التالية:

أولاً: الإبقاء على القضية حيةً وسط جموع المسلمين؛ وذلك عن طريق التوعية المستمرة، والفهم الواضح لجذور المشكلة الكردية، وتطوراتها على مرِّ السنين، وحقيقة أطراف الصراع، وأهدافهم العاجلة والآجلة.

ثانيًا: يجب المحافظة على طرح قضية الأكراد في لقاءات منظمة المؤتمر الإسلامي باستمرار، مع تفعيل دور المنظمات الإسلامية للقيام بدورها نحو الأكراد، وخاصة الجامعات الإسلامية الكبرى؛ كجامعة الأزهر، والجامعة الإسلامية بالمملكة العربية السعودية، والجامعة الإسلامية بباكستان التي يجب أن تقدم المنح الدراسية للطلاب الأكراد؛ لكي يتم التواصل الغائب بين الأكراد والعالم الإسلامي.

ثالثًا: نشر الوعي الإسلامي الصحيح في وسط الأكراد؛ ليكون منطلقهم في مطالباتهم بحقوقهم إسلاميًّا يَدين بوحدة الأمة الإسلامية، والحفاظ على قوتها، وليس قوميًّا يدعو للعصبية الجاهلية، ويحرِّض على الانفصال، وتشتيت قوى الأمة أكثر مما هي عليه بالفعل؛ مما يصب في مصلحة أعدائها، وهذا النشر للوعي لن يتم إلا بالتواصل المستمر عن طريق وسائل الإعلام المتاحة؛ كالفضائيات، والكتب، والمجلات، ومواقع الإنترنت، وخاصةً لو تم استخدام اللغة الكردية فيها.
كما يتم ذلك الهدف أيضًا بإقامة مدارس إسلامية تربي النشء الكردي على المبادئ الإسلامية الصحيحة، وكذا إقامة فروع للجامعات الإسلامية في أراضي الأكراد.

رابعًا: ممارسة الضغوط الإعلامية على الحكومتين: التركية والعراقية؛ من أجل إعطاء الأكراد حقوقهم كمواطنين، فهذه الضغوط قد تسفر عن نتائج إيجابية.

خامسًا: طرح الحلول العادلة البديلة للانفصال في هذه المرحلة؛ وذلك كالحصول على حكم ذاتي، أو تخصيص حصة برلمانية لهم، أو عدد من الوظائف القيادية في الدولة، واعتماد اللغة الكردية لغة دراسة في مدارس الأكراد بجوار اللغة العربية.
وهذه الإجراءات - وإن كانت في الظروف العادية تُعتَبَر إجراءات تعزز الطائفية - نرى أن اتخاذها في ظروف الأكراد بصورة استثنائية ولمدة محددة، قد يُسهم في تدارك الكثير من الظلم الذي وقع عليهم، كما يُعزِّز من شعورهم بالانتماء إلى بلادهم، ويُشعرهم بالمواطنة الحقيقية.

سادسًا: يجب على الأكراد وقياداتهم أن يشتركوا في إنجاح الحلول المطروحة؛ وذلك بتخفيض سقف مطالباتهم، والامتناع عن الدعوة للانفصال عن الأمة، وكذلك توقف القيادات عن التعاون مع أعداء الأمة كأمريكا وإسرائيل اللتين تستغلان الورقة الكردية في تفتيت الأمة الإسلامية أكثر، كما أنهما خذلتا الأكراد قبل ذلك – كما ذكرنا سابقًا في مقالاتنا.

هذا ما نراه من أفكار لحل المشكلة الكردية، نسأل الله U أن يكون صوابًا، ونسأله أن يوحِّد الأمة الإسلامية على الحق والخير، وعلى الأخوة في سبيله، وأن ينصرها على أعدائها؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.










(35)


قصة مشرف (1 من 2)[69]


تردد اسم الجنرال برويز مشرف كثيرًا خلال الشهور الماضية، بل خلال السنوات الماضية منذ قاد انقلابًا على رئيس الوزراء – آنذاك – نواز شريف؛ متهمًا إياه بمحاولة إسقاط الطائرة التي كان يستقلُّها مشرف من سريلانكا.
كان مشرف قائدًا للجيش الباكستاني إبّان القتال العنيف بين الهند وباكستان في عام 1999م في مرتفعات كارغيل التي انتهت بانسحاب المقاتلين الكشميريين منها بضغط من رئيس الوزراء نواز شريف. واتهمت الهند باكستان في ذلك الوقت باختراق الخط الفاصل، في حين نفت باكستان الاتهام.
وبعد انقلابه على نواز شريف في أكتوبر 1999م؛ عين نفسه رئيسًا لباكستان بعد استفتاء شعبي في السادس والعشرين من يونيو2001م إثر اتهام المعارضة السياسية له بفقدان الشرعية لتمثيل باكستان في لقاء القمة مع الهند.
وُلِدَ برويز مشرف في عائلة مسلمة من الطبقة الوسطى في منطقة دارياغانج بالعاصمة الهندية دلهي يوم 11 أغسطس 1943م، وهو ثاني ثلاثة أبناء لوالد دبلوماسي كان يعمل في وزارة الخارجية. وبعد تقسيم الهند وولادة باكستان عام 1947م نزحت عائلته من دلهي واستقرت في مدينة كراتشي أول عواصم باكستان المستقلة. وبسبب طبيعة عمل الوالد الدبلوماسي، عاش برويز الصغير في تركيا بين عامي 1949 و1956م.
بعد العودة من تركيا درس مشرف في مدرسة سانت باتريك الخاصة في كراتشي، وتخرج فيها عام 1958، ومنها انتقل إلى مدرسة مسيحية خاصة أخرى، هي كلية فورمان المسيحية في مدينة لاهور عاصمة إقليم البنجاب (شمال البلاد). وفيها أكمل دراسته الثانوية. وعام 1961م التحق بالأكاديمية العسكرية الباكستانية في كاكول، وانتظم لاحقاً في سلاح المدفعية, وفي ما بعد تخرج في كلية الأركان العامة في كويتا (عاصمة إقليم بلوشستان)، ثم كلية الدفاع الوطني في راولبندي، ولاحقاً الكلية الملكية للدراسات الدفاعية في بريطانيا. وخلال سنوات خدمته النشيطة في الجيش، كان يُعتبر ضابطًا حديثًا على الطراز الغربي، حيث وجهات النظر الليبرالية كانت شائعة جدًّا بين ضباط الجيش الباكستاني قبل حكم ضياء الحق. وكان مشرف نفسه قد درس في معاهد التعليم العسكري في بريطانيا.
ولم يكن مشرف، الابن الأوسط، الأكثر تألقًا في عائلته، ولكنه حقق أمجادًا شخصية في النشاطات الرياضية للمدرسة. ويشير زملاؤه الضباط إلى أنه "لم تكن هناك لعبة لم يكن قادرًا على ممارستها"، بل إنه حقق فوزًا في رياضة كمال الأجسام في السنوات الأولى من حياته ضابطًا في الجيش. وجاء من عائلة مثقفة من الطبقة الوسطى تتمتع بمواقف ليبرالية. وكانت أمه تعمل أيضًا وتقاعدت من عملها في منظمة العمل الدولية عام 1986م. وقد ترقَّى الجنرال مشرف في الجيش، على الرغم من حقيقة أنه لا ينتمي إلى طبقة الضباط البنجاب المهيمنة على الجيش الباكستاني، وإنما لعائلة تتحدث الأوردو في كراتشي، من الجماعات التي لا تحتل مكانة مهمة في الجيش.
وكان مشرف قد شارك في الحرب الهندية الباكستانية عام 1965م ضابطًا برتبة ملازم ثانٍ في فوج المدفعية الميداني، ولاحقًا في الحرب الهندية الباكستانية عام 1971م قائدًا لسرية في القوات الخاصة الباكستانية، وللأسف فإن هذه الحرب انتهت بهزيمة باكستان واستسلامها.

عُيِّن الميجور جنرال مشرف في يناير 1991م قائدًا لفرقة مشاة. ولاحقًا رُقي إلى لفتنانت جنرال. وفي أكتوبر 1995م، تولَّى قيادة الفيلق الهجومي في الجيش الباكستاني في شمال البلد.

وقد كتب الرئيس الباكستاني مذكراته بعنوان (على خط النار)، وفيها يروي أحداثًا كثيرة يمكن الاعتماد عليها في تكوين صورة واضحة عن شخصيته؛ ففي مذكراته يروي حادثة منعه من دعوة موسيقيين إلى برنامج ثقافي في كلية الدفاع الوطني عندما كان يعمل مُعلمًا عام 1980م؛ فيقول: "في عام 1980 كنا نُعِدُّ للاحتفال بالعيد الخامس السبعين لتأسيس الكلية. وكان من المقرر أن يحضر المناسبة الرئيس ضياء الحق. ولهذا كنت أُعِد برنامجًا خاصًا للأمسية. وقد فعلت ذلك عبر أداء تقوم به جماعة فنية باكستانية. وكانت هذه الجماعة تضم أفضل الموسيقيين والراقصين من النساء والرجال.
وقبل يومين من المناسبة تلقيت مكالمة هاتفية مستعجلة من آمر الكلية، أبلغني أن الرئيس لا يحب تقديم أي غناء أو رقص على الأقل من جانب النساء"، وفي هذا الموقف ما يعبِّر بوضوح عن الفارق الضخم بين شخصية ضياء الحق ~ وشخصية الجنرال مشرف.


ترقَّى الجنرال مشرف إلى منصب رئيس الأركان عام 1998م عندما استقال قائد جيش باكستان القوي الجنرال جيهانجير كرامات، بعد يومين من الدعوة إلى إعطاء الجيش دورًا أساسيًّا في عملية صنع القرار في البلاد.
وأشار بعض المعلقين المستقلين إلى أن رئيس الوزراء آنذاك نواز شريف اختار الجنرال مشرف قائدًا للجيش، لأنه بالضبط لا ينتمي إلى طبقة الضباط البنجاب، وقالوا: إن رئيس الوزراء كان يعتقد أن الخلفية العِرقية لمشرف ستجعله عاجزًا عن بناء قاعدة قوة، ولكنه رغم ذلك استطاع تكوين قاعدة تأييد له داخل الجيش؛ مما أثار قلق رئيس الوزراء نواز شريف الذي خاف على منصبه من تطلعات الجنرال برويز مشرف.

بدأت المواجهة بين مشرف ونواز شريف حينما أعلن رئيس الوزراء آنذاك عن قراره بتنحية برويز مشرف من رئاسة قيادة الأركان.وفي حين رفض جنرالات الجيش قبول إقالة مشرف، كان الأخير الذي كان خارج البلد يصعد إلى طائرة ركاب عادية للعودة إلى باكستان، فأمر نواز شريف مطار كراتشي بعدم السماح للطائرة بالهبوط على مدارجه، ولكن جنرالات الجيش قاموا بانقلاب اتخذوا فيه قرارًا بتنحية رئيس الوزراء، ووضعه تحت الإقامة الجبرية، ثم أُرسِل لاحقًا مع أسرته إلى المنفى في السعودية، ومنها إلى العاصمة البريطانية لندن. وبوصوله إلى السلطة، أصبح مشرف خامس عسكري يصل إلى سدة الحكم منذ عام 1956م؛ حيث حكم العسكر 30 سنة، بينما حكم المدنيون 13 سنة فقط منذ الاستقلال.

ولعلَّ أبرز ما سيحفظه التاريخ من سيرة برويز مشرف موافقته على مطالب أميركا بالسماح لها باستخدام الأراضي الباكستانية لضرب حركة طالبان التي رفضت تسليم بن لادن بعد اتهام أميركا له بتفجيرات نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر 2001م..
كانت باكستان بعد تفجيرات سبتمبر تقف خلف طالبان في أفغانستان، ولكن بعد عدة زيارات سرية أمريكية لدولة باكستان تغير الموقف تمامًا، وأصبحت باكستان تحت حكم مشرف هي المحارب والمواجه والمرشد للقادم الأمريكي والغربي في مواجهة طالبان، بل ومساعدًا بكل المعلومات والتسهيلات اللازمة للقضاء عليها!
ثم ظهرت الأسرار خارجة من أطوارها مسرعة وبغير تمهل لتعلن أن المسئول الأمريكي حذَّر الرئيس الباكستاني بأنه إذا لم تتخلَّ باكستان عن مساندة طالبان ثم الوقوف في الجانب الأمريكي من الصراع فإن أمريكا علي استعداد لأن تعيد باكستان إلي العصر (الحجري) في دقائق معدودة! وإن القنبلةالذرية الباكستانية مازالت في طور لعب الأطفال والتي سمح بها للتوازنات الدوليةالسياسية!
وللأسف ارتجف قلب برويز مشرف أمام التهديد الأمريكي، ولم يكن اللجوء إلى موازين الله I واردًا على خاطره، ولا حتى الموازين السياسية والعسكرية الحقيقية التي تجعل من باكستان قوة كبيرة، وتمنع الولايات المتحدة بشكل كبير من المغامرة بالهجوم عليها لو هدَّد مشرف باللجوء للخيار النووي، بل كانت موازين أمريكا هي الحاضرة في ذهنه؛ لذا انقلب على طالبان التي كان أشدَّ مناصريها، وعلى الأحزاب الباكستانية المعارضة لسياسته تلك، بل على الشعب بأكمله، وأصبحت القنبلة النووية الباكستانية - التي استبشر بها المسلمون خيرًا – مجرد ألفاظ لا قيمة لها في موازين القوة بسبب برويز مشرف.

تُرى: كيف قاد مشرف البلاد بعد انقلابه على رئيس الوزراء؟
وكيف تعامل مع الهند العدو اللدود لباكستان؟
وما موقفه من الحريات في بلاده؟
هذا ما سنتحدث عنه في المقال القادم بإذن الله تعالى.












(36)


قصة مشرف (2من 2)[70]


قام برويز مشرف بالانقلاب على رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف، وأرسله إلى المنفى، وتفرَّد بحكم باكستان، وبينما كان الشعب الباكستاني، والعالم الإسلامي كافَّة ينتظر من الرئيس الباكستاني موقفًا صلبًا تجاه العدوان الأمريكي المزمع على أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م؛ إذا بمشرَّف يُبدي تخاذلاً غير مسبوق، وانقلابًا في المواقف السياسية جعله يقف في صف أمريكا ضد أفغانستان، ونظام طالبان الذي كان مشرف – كما ذكرنا – أشدَّ مناصريه، وانضمت باكستان للتحالف الدولي القادم برئاسة أمريكا للعدوان والتخريب، واحتلال أفغانستان؛ كمقدمة لاحتلال العالم الإسلامي عسكريًّا وسياسيًّا، ونهب خيراته اقتصاديًّا.
صار نظام مشرف هو رأس الحربة في الحرب الأمريكية على أفغانستان؛ وذلك عندما أبدى برويز مشرف موافقته على مطالب أميركا بالسماح لها باستخدام الأراضي الباكستانية لضرب حركة طالبان التي رفضت تسليم ابن لادن بعد اتهام أميركا له بتفجيرات نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
وقد أدَّى دعم مشرف للحرب الأميركية على أفغانستان إلى تحالف ستة أحزاب إسلامية باكستانية في حزب واحد معارض باسم مجلس العمل الموحد.

ورغم العداء التاريخي المستحكم بين الهند وباكستان إلا أنه وفقًا للنظام الأمريكي العالمي الجديد، ورغم عدم تقدم الهند بأية بادرة لحل مشكلة كشمير المتنازع عليها بينها وبين باكستان؛ صافح مشرف رئيس الوزراء الهندي أتال بيهاري فاجبايي في 5 من يناير 2002م، وذلك في ختام خطابٍ ألقاه أمام قمة رابطة دول جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (سارك) قال فيه: إنه يمد "يد الصداقة إلى رئيس وزراء الهند". وتأتي هذه المصافحة عقب استبعاد فاجبايي عقد أي لقاء رسمي منفرد مع الرئيس الباكستاني إثر الهجوم الذي تعرض له البرلمان الهندي في 13 من ديسمبر 2001م، واتهمت باكستان بالوقوف وراءه.
وفي 25من نوفمبر 2003م أُعلِن وقف القتال عبر الحدود بين الهند وباكستان، وهو أول وقف للنار كامل ورسمي بين البلدين منذ العام 1989م، ويأتي توقيع الهدنة بين جيشي البلدين بمبادرة من مشرف.
وكانت تلك المواقف علامة فارقة في تاريخ الصراع الهندي الباكستاني؛ إذ دشَّنت مرحلة جديدة انحسر فيها الدور الإقليمي لباكستان لحساب الهند، والتفت الرئيس الباكستاني للتضييق على حريات شعبه؛ من أجل أن يعيش في السلطة فترةً أطول مستعينًا بالأمريكان؛ ففي 29 من ديسمبر 2002م أقرَّ البرلمان الباكستاني تعديلات دستورية تعطي صلاحيات واسعة لمشرف بما في ذلك سلطة إقالة الحكومة المنتخبة، وفقًا لاتفاق كان قد وقعه مشرف مع أحزاب المعارضة الإسلامية يتخلَّى بموجبه عن قيادة الجيش مع نهاية العام 2004م مقابل تمرير التعديلات؛ وذلك حتى يعود الحكم مدنيًّا، ولكن مشرف الذي عشق السلطة نكث بوعده ولم ينفذ الاتفاق، واحتفظ بالقيادتين: العسكرية والسياسية مشكِّلاً إحدى الديكتاتوريات الكبرى التابعة لأمريكا في العالم الإسلامي، كما أن مشرف قد غيَّر بتصرفه ذلك قواعد النظام السياسي الباكستاني الذي كان برلمانيًّا يعطي السلطة الأكبر لرئيس الوزراء؛ فحوَّله مشرف إلى نظام رئاسي يخضع الجميع فيه لسلطة رئيس الجمهورية.

وعلى صعيد آخر، وفي محاولة لإثبات الولاء لأمريكا قام مشرف بمصافحة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق المجرم أرييل شارون على هامش القمة العالمية للأمم المتحدة في 14 من سبتمبر 2005م، وهو أول رئيس باكستاني يصافح مسئولاً إسرائيليًّا.

كانت كل تصرفات مشرف تصيب الشارع الباكستاني بالصدمة، وتدفعه للثورة عليه، وقد ظلَّ المِرجل يغلي، ومشرف ينفخ في النار حتى جاء عام 2007م، وحاول مشرف تطويق القضاء الباكستاني النزيه المتمثل في قوة المحكمة العليا التي كانت تعارض قراراته الديكتاتورية، وتقضي بعدم دستوريتها؛ فقام بإقالة القاضي افتخار تشودري رئيس المحكمة العليا في التاسع من مارس 2007م، إلا أن قضاة المحكمة قرروا في العشرين من يوليو من العام نفسه - في حكم وُصِف بالتاريخي- إعادة القاضي افتخار تشودري إلى منصبه رئيسًا للمحكمة, وإسقاط المتابعات القضائية التي فتحتها الحكومة في حقه بتهم الفساد، وكانت تلك صفعة لمشرف لم ينسها للقضاة، ولا لرئيسهم.
اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الباكستانية في عام 2007م، وبينما كان الدستور الباكستاني يمنع مشرف من إعادة الترشح لها مع احتفاظه بمنصب قائد الجيش، ثارت قطاعات عديدة من الشعب الباكستاني ضد محاولة مشرف الترشح للانتخابات مطلقًا؛ فحاول مشرف الالتفاف على الحركة الجماهيرية الرافضة له؛ فعقد اجتماعات سرية مع خصومه السابقين كرئيسة الوزراء السابقة زعيمة حزب الشعب المعارض المقيمة بالمنفى بينظير بوتو المتهمة بالفساد، وذلك في يوليو 2007م.
ولما لم تفلح تلك المحاولات، وتصاعدت مطالب الشعب والسياسيين بعدم ترشح مشرف للرئاسة؛ قامت اللجنة الانتخابية في باكستان الموالية لمشرف بتعديل قانون الانتخابات بحيث يسمح لمشرف بالترشح لمنصب رئاسة الجمهورية مع الاحتفاظ بمنصبه قائدًا للجيش, فيما اعتبرته المعارضة "خرقًا فاضحًا" للدستور، فقدم 85 نائبًا باكستانيًّا من المعارضة استقالتهم من البرلمان احتجاجًا على قبول اللجنة الانتخابية أوراق ترشح مشرف لدورة رئاسية جديدة؛ وذلك في أوائل شهر أكتوبر 2007م، وقبل الانتخابات الرئاسية بأيام قليلة. كما قامت مظاهرات ضخمة، خاصةً من جانب المحامين الباكستانيين؛ فألقت قوات الأمن القبض عليهم، واعتقلت العديدين منهم، إلا أن قاضي المحكمة العليا افتخار تشودري - وفي تحدٍّ واضح لسلطات الرئيس الباكستاني - أمر بإطلاق سراح أكثر من مائة معارض اعتقلتهم السلطات الباكستانية لاشتراكهم بتلك المظاهرات.

لم ينس مشرف للمحكمة العليا ورئيسها مواقفهم ضد ديكتاتوريته؛ لذا قام بعزل جميع قضاة المحكمة، وتحديد إقامتهم في منازلهم، وعلى رأسهم رئيس المحكمة افتخار تشودري، وقام بتعيين عدد من القضاة الفاسدين الموالين له، والذين قاموا برفض جميع الطعون الدستورية التي قُدِّمت ضد ترشحه للرئاسة.
وفي السادس من أكتوبر أعلنت اللجنة الانتخابية الباكستانية انتخاب مشرف رئيسًا للبلاد لولاية دستورية ثانية لمدة خمس سنوات؛ وذلك من خلال تصويت مجلس النواب الذي يسيطر مشرف على الأغلبية فيه.
وفي الثالث من نوفمبر قام مشرف بفرض حالة الطوارئ في البلاد؛ وذلك إثر تصاعد الاحتجاجات ضده، كما أصدر منتصف الشهر قرارًا بحل البرلمان مع انتهاء فترة ولايته القانونية.
ولقد قام مشرف بالاستقالة من قيادة الجيش؛ خضوعًا للضغوط الداخلية، ومظاهرات المعارضة، وطوائف المجتمع، وقام بتسليم القيادة للجنرال إشفاق كياني في 28 من نوفمبر 2007م، وقد وعد برفع حالة الطوارئ قريبًا، كما وعد بإجراء انتخابات تشريعية في شهر يناير من عام 2008م.
ولكن هل يكون تنازل مشرف عن قيادة الجيش بداية استقرار لباكستان، أم يكون في ذلك نهايته السياسية على يد انقلاب مماثل لما قام به قبل ذلك؟ وهل ما زال مشرف ورقة رابحة للأمريكان، أم سيتخلون عنه، ويتركونه لانتقام شعبه، كشأنهم دائمًا مع من يخدمونهم على حساب شعوبهم؟ هذا ما ستجيب عنه الأشهر القادمة بإذن الله. نسأل الله U أن يحفظ باكستان وشعبها، وسائر بلاد المسلمين، وأن يوفق أهلها لاستغلال قوة بلادهم لصالح الإسلام والمسلمين.




















(37)


بين الجهاد والعمل الصالح!![71]


إنَّ من أكثر ما يلفت الانتباه من حديث رسول الله r في هذه الأيام قوله r : "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ". يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ".
ففي هذا الحديث يفتح رسول الله r الباب أمام عقول المسلمين ليقارنوا بين الثواب العظيم للجهاد، وبين ثواب العمل الصالح في العشر الأوائل من ذي الحِجَّة؛ فالمسلمون يعتقدون - بالفطرة الإيمانية – أن الجهاد أعظم من كل عبادة؛ وذلك تصديقًا لحديث الرسول r : "ذُرْوَةُ سَنَامِ الإِسْلاَمِ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ"، وذلك فهم صحيح في حالتين:
الأولى: التي ذكرها الحديث الأول: "...إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ".
صورة للراية والسيف

الثانية: إذا تعيَّن الجهاد على المسلم؛ وذلك باجتياح العدو لبلاد المسلمين، أو إذا كلَّفه الإمام بالجهاد؛ لكفاءته، واحتياج المسلمين إليه، ووقتها يصير الجهاد أعلى المراتب، ولا يدانيه شيء من العبادات؛ حتى إن رسول الله r عندما خرج لفتح مكة – وكان في رمضان – أمر الصحابة بالإفطار، وتَرْك الصوم – رغم أنه فريضة عظيمة -، وفي الطريق كرَّر عليهم أمره مرة ثانية، ولمّا أُبلِغ بأن بعض المسلمين خالف أوامره، واستمر على صيامه؛ قال r : "...أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ".فالجهاد هنا يَجُبُّ عبادة الصوم إذا أدت لتضييع الجهاد أو إضعاف المجاهدين.

أمَّا إذا لم يتيسر الجهاد، أو كان غير متعيِّن؛ فإن بقية العبادات لها بجانبه شأن كبير؛ وها هو الرسول r يبين ما لهذه العبادات من مكانة عند الله U في أيام العشر حتى إنها تفوق أجر المجاهد إلا في الحالة التي ذكرها الرسول r .
إن المسلم لابد أن يضبط أولوياته على أحكام الشرع الكريم، وأن يعرف مكانة كل فعل، وأن يفقه أن واجب الوقت من العبادات يفوق ما عداه، فوقت الصلاة للصلاة، وليس لقراءة القرآن مثلاً، ووقت الحج لا تفوق الحجَّ عبادةٌ ولا تقاربه، ولو ترك القادرُ حِجَّ الفريضة ليقوم بالدعوة إلى الله مثلاً في بلده أو في أي بلد آخر؛ فقد أخطأ، وربما أَثِم.

كما أن هناك أمرًا يجب الانتباه إليه، فبعض المسلمين أو كثير منهم قد يربط طاعته لله U، وقيامه بالعمل الصالح، قد يربط ذلك بحدوث أمر كبير في حياته؛ قد يكون صعب المنال، أو يقترب من المستحيل؛ فالبعض يربط سيره على منهج الله U بأن يفتح الله U باب الجهاد لتحرير المسجد الأقصى مثلاً، أو يربط الإنفاق في سبيل الله تعالى بأن يصير ثريًّا واسع الثراء، وصاحب ملايين، والبعض قد يربط تلك الطاعة والاهتداء إلى منهج الله U بأن ييسر الله له الحج، ولو كان فقيرًا معدمًا، ثم يبقى هؤلاء على حالهم الكسول عن طاعة الله، التي تُمنِّي نفسها بمعالي العبادة، بينما هي لا تقوم بالحدِّ الأدنى منها، وما فيها دنيء.
إن هؤلاء - في واقع الأمر - غير جادين في رغبتهم في التقرب إلى الله U، ولو كانوا جادين لانتظموا في الطاعة على حالهم تلك، وكم رأينا من أناس سوَّفوا الطاعة، وعلَّقوها على العمرة أو الحج، ثم رزقهم الله تلك العبادة، ومع ذلك رجعوا سيرتهم الأولى، ولم ينتفعوا بالعبادة التي أجَّلوا الطاعة من أجلها.
وحديث الرسول r حول أيام العشر خير ما يرد ما يتعلَّل به هؤلاء؛ فباب الطاعة مفتوح على مصراعيه، بل لهم في هذه الأيام ثواب لا يُتَصوَّر يفوق أجر الجهاد نفسه.

إن الله U لم يترك لمسلم سبيلاً للتقاعس عن الطاعة، بل فتح باب الأمل - لمن لم يستطع الحج، أو الجهاد - في أجر عميم، وثواب جزيل، وهكذا ينبغي أن نفهم حديث رسول الله r حول أيام العشر؛ فمن مَنَّ الله U عليه بالجهاد في سبيله؛ فليسأل الله الشهادة في هذه الأيام، ومن لم يستطع فليداوم على أنواع الطاعات؛ فإنَّ الله U مكافئه، وكلٌّ مُيَسَّر لما خُلِق له.






(38)


حِجَّة الوداع ووحدة المسلمين[72]


في أيَّامٍ مباركاتٍ كأيامنا هذه، كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يستعدُّ لأداء مناسك حجَّة الوداع، التي بيَّن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفيَّة أداء المناسك على وجهها الصحيح، كما بيَّن - وهذا من أهمِّ الأمور - مَنهج الأُمَّة الإسلاميَّة في الوصول إلى أهدافها.
لقد خطب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحَجَّة ثلاث خطب، وكان طابع الخطب الثلاث التي خطبها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم يختلف إلى حدٍّ ما عن خطبه السابقة في فترة المدينة المنورة، وكان يغلب على طابع هذه الخطب الثلاث أنها موجهة إلى الأمة الإسلاميَّة في زمان قوَّتها وتمكُّنِها، لقد كانت نصائح في غاية الأهمِّيَّة لكلِّ جيل إسلامي مُكِّن في الأرض.
لقد خاطب صلى الله عليه وسلم قبل ذلك الأفراد، وخاطب المستضعفين في الأرض، وخاطب المُحاصَرين، وخاطب المحارِبين، وخاطب الدعاة، وخاطب المصيبين، والمخطئين، واليومَ يخاطب صلَّى الله عليه وسلَّم الممكَّنين في الأرض، يَضَعُ أيدِيَهم على القواعد التي بها يستمرُّ تمكينهم ويتَّسع، ويُحذِّرهم من الأمور التي تُذهِب هذا التمكين، وتُسقط الدولة الإسلاميَّة، ويشرح لهم بوضوح دور الدولة الإسلاميَّة الممكَّنة في الأرض، لقد كان خطابًا لأُمَّة ناجحة، بلغت الذِّروة في التشريع، فقد كَمُل التشريع في هذه الحَجَّة، وبلغت الذروة في الحضارة، والذروة في القيم والأخلاق، والذروة في الفهم والتطبيق.
وعلى المسلمين أن يفقهوا جيِّدًا أنه بغير هذه القواعد، والأسس لن تُبنى لهم أُمَّة، ولن تقوم لهم قائمة، ومن هذه القواعد الجامعة:

الوَحْدَة والمساواة بين المسلمين:
وصية في غاية الأهمية، وهي الوَحْدَة بين المسلمين، ومع كثرة التوصيَّات بالوَحْدَة في كل حياة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إلا أنه كان لا بُدَّ من إعادة التوصية في الأيام الأخيرة، وإعادة التركيز عليها والتذكير بها.
إن الأُمَّة المتفرِّقة لا تقوم أبدًا، لا ينزل نصر الله عزَّ وجلَّ على الشراذم، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم في خُطبه في حَجَّة الوداع: "تَعْلَمُنَّ أَنَّ كُلَّّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ".
إنه التأكيد على حقيقةٍ حَرَصَ عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أوَّل أيَّام الدعوة، في فترة مكة، وفي فترة المدينة، واذكروا عتق العبيد في مكة، واذكروا المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، واذكروا الميثاق بين الأوس والخزرج، لقد كانت عَلاقة مُمَيِّزة فعلاً للدولة الإسلاميَّة أن الجميع فيها إخوة، الحاكم أخو المحكوم، القائد أخو الجندي، الكبير أخو الصغير، العالم أخو المتعلم، إنها أُخُوَّة حقيقيَّة بلغت حدّ التوارث في أوائل فترة المدينة، ثم نُسِخَ الحكم وبقِيَت الأُخوَّة في الدين.
ثم إنه التأكيد على معنى آخر من معاني الأُخُوَّة كان واضحًا في خُطبة الوداع، وهو أن هذه الأُخُوَّة ليست خاصَّة بعِرْقٍ مُعَيَّن، أو نسب مُعَيَّن، أو عنصر مُعَيَّن، أو قبيلة، أو دولة، أو طائفة، إنها المساواة بين المسلمين جميعًا من كل الأصول؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى".
الله أكبر، هل في العالم مثل ذلك؟!
مهما تشدَّق المتشدِّقون، ومهما تكلَّم المتكلِّمون، ومهما حاولوا التجميل والتزيِين، تبقى الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، وهو أن الطبقيَّة ما زالت متفشيَّة في كل أركان الأرض تقريبًا، مهما سُنَّت القوانين المانعة لذلك في أمريكا، وفي فرنسا، وفي إنجلترا، وفي روسيا، وفي ألمانيا، وفي كل مكان؛ الأبيض أبيض، والأسود أسود، الغني غني، والفقير فقير، العنصر والجنس والطائفة علامات مميِّزة لا مهرب منها.
أمّا الأُمَّة الإسلاميَّة، فهي خليط عجيب من شتَّى أجناس وعناصر الأرض، وقد ربطت عناصر هذا المزيج برابطة العقيدة، ورغم ذلك لم تجبرهم على نظام واحد للحياة؛ فكل جنس، بل كل إنسان إذا كان له موروثه الحضاري الخاص الذي لا يتعارض مع مبادئ الإسلام؛ فإن الإسلام لا يجبره على تغييره؛ فالإسلام يتسع للأنماط الحضارية المختلفة، وهذا من عوامل تفوقه وتميزه؛ لذا رأينا الناس يدخلون في دين الله أفواجًا؛ فالمصري بجانب المغربي، والشامي بجانب العراقي، والأوروبي بجانب الإفريقي، كل واحد له ملبسه الخاص، ونظام حياته الخاص، ولا يتعارض هذا مع ذاك.
ويوم تستبدل الأُمَّة الإسلاميَّة هذه العقيدة السليمة الرابطة بينها بقوميَّة معينة، أو عنصريَّة خاصة يوم تسقط الأُمَّة الإسلاميَّة لا محالة.

لقد فَتَحَت الدولة الإسلاميَّة (فارس)، فما مرَّت شهور قلائلُ، أو سنوات على الأكثر، إلا وأصبح الفرس من المسلمين، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، ذابوا ذوبانًا طبيعيًّا تمامًا في المجتمع المسلم، وما شعروا بأية غربة عن المسلمين من الأصول العربيَّة، وخَرَجَ منهم البخاري، ومسلم، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وغيرهم، وغيرهم، هذه هي عظمة الإسلام التي أكَّد عليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في خُطَبه في حَجَّة الوداع.
ولقد ذاقت الأمة – وما تزال – الويلات نتيجة الدعوات العصبية التي اجتاحت بلاد المسلمين، وعقول بعض المفكرين في القرنين: التاسع عشر والعشرين؛ فبَعُدَت المسافات القريبة، وتنافرت القلوب، ونفخ الشيطان في نار العصبية ليمزق الأمة شر ممزَّق.

ولقد أَفِكَ قومٌ قصروا هذه الوَحْدَة على العرب دون غيرهم من منطلق القوميَّة العربيَّة، أو على الأتراك دون غيرهم من منطلق القوميَّة التركيَّة، أو على البربر دون غيرهم من منطلق القوميَّة البربريَّة، أو على أي عنصر، أو قبيلة، أو دولة، لقد سَمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك جاهليَّة، فقال فيما رواه أبو داودَ عن أبي هريرةَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجاهلية – أي: فخرها وتكبُّرها - وَفَخْرَهَا بِالآبَاِء، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلاَنِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ".
وها هو ذا صلَّى الله عليه وسلَّم في خُطبته ينهى عن الجاهليَّة تمامًا بكُلِّ صورها: "أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ".
ألا ما أجمل الإسلام!!
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن تعود الوحدة بين المسلمين قويةً، وأن ترجع أمة الإسلام عزيزةً كما كانت. إنه ولي ذلك والقادر عليه.



(39)


المسلمون والعيد[73]


لا شك أن الإسلام قد شرع العيدين: الفطر والأضحى لإسعاد المسلمين، وأن الشرع الحكيم قد حضَّ المسلمين على التمتع الحلال بهذين العيدين؛ فقد روى الإمام مسلم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله". وعنعقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب".
وليس معنى أن أيام العيد أيام فرحة وتمتع أن يكسل المسلم فيها عن التقرب إلى الله عزَّ وجلَّ؛ فهي أيام شكر لله على النعمة أيضًا، وقد جاء في الحديث الشريف الذي ذكرناه أولاً أنها أيام ذكر لله عزَّ وجلَّ أيضًا.
والطاعات المتاحة في أيام العيد كثيرة، فهناك صلاة العيد، والذِّكر، والأضحية، وصِلَة الأرحام، والترويح عن النفس والأسرة.
كل هذه طاعات، ولكنَّ العبرة بمن يحسن ترتيب الأولويات في الطاعة؛ لذا فقد وضعنا في الأسبوع الماضي استبيانًا حول أفضل الطاعات، وأثقلها في الميزان من بين ثلاث طاعات، هي: صلاة العيد، وصلة الأرحام، والترويح عن النفس؛ وكان غرضنا من هذا الاستبيان قياس فقه الأولويات عند القرَّاء ومتابعي الموقع كشريحة من المجتمع المسلم، وقد حصلت صلة الأرحام على نسبة 78.3% من الأصوات، بينما حصلت صلاة العيد على نسبة 16.1%، وجاء الترويح عن النفس في مؤخرة الاختيارات بنسبة 5.5% من الأصوات.
وهذه النتيجة تعكس مستوى مرتفعًا من فقه الأولويات لدى المشاركين، ولكن هذا المستوى ليس سائدًا في المجتمع؛ إذ يعاني من خلل كبير في هذا الفقه؛ فصلاة العيد - مثلاً - سُنَّة يهتم الكثيرون من المسلمين بالحفاظ عليها، ويقومون مبكِّرًا لأجلها، وقد يسهرون الليل رغبةً في إدراكها، وهذا الحرص أمر محمود؛ فإنها عبادة محدَّدة بوقت لا يتكرَّر طوال العام، كما أنها تسهم في غرس الوحدة، وروح الاجتماع على الخير بين المسلمين، ولكن – للأسف – فمن هؤلاء الحريصين على صلاة العيد من يهمل أداء الصلوات المفروضة جماعةً في المسجد، أو قد يكون تاركًا للصلاة أصلاً، ومع ذلك يحافظ على هذه السُّنَّة، وهذا خللٌ في الأولويات كبير؛ فقد روى الإمام البخاري رحمه الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي الذي يرويه عن رب العِزة سبحانه وتعالى: "...وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه".فالله عزَّ وجلَّ رغم أنه يحب العبد الذي يتقرَّب إليه بالنوافل كصلاة العيد، إلا أن أحب ما يتقرَّب به العبد لله عزَّ وجلَّ هو الفرائض.
والترويح عن النفس شيء محمود؛ لأنه يجدِّد العزم على الطاعة، ويقضي على رتابة الحياة، ويبعث المسلم نشيطًا، ولكن هل تستوي تلك الأعمال الصالحة مع صلة الأرحام - مثلاً - التي لاذت برب العزة سبحانه وتعالى، كما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ فقَالَتْ: "هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَذَاكِ لَكِ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ".
هذه الفريضة العظيمة التي وعد الله عزَّ وجل من يؤديها ببسط الرزق، وطول العُمر؛ فيما أخبرنا به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلَّم، قائلاً: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"[74]. وعاقب على قطعها كذلك بأشد العقاب، وهو الحرمان من الجنة، فقال: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ"[75]. هذه الفريضة كثير من المسلمين يضيِّعها بينما يحرص على أداء سُنَّة صلاة العيد، والترويح عن نفسه.
إن المسلم لا بد أن يفقه الأولويات، وأن يعرف ماذا من الأعمال ينجيه يوم القيامة، وأي الأعمال يُقَدَّم على الآخر عند تزاحمها، كما يجب أن يعلم أن الفرائض مقدمة على كل النوافل، والله عزَّ وجلَّ مُثيبه على الحفاظ على الفرائض، ولو قصَّر في بعض النوافل، بينما هو في خطرٍ شديد لو ضيَّع فريضةً واحدة، مهما كان قد أتى به من النوافل. وقد أوردت لنا السيرة النبوية المطهرة نموذجًا على هذا في قصة ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه؛ فقد أخرج الحاكم في مستدركه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم علينا فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد جالس مع أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب". فقال: محمد؟ قال: "نعم". قال: يا محمد، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدن عليَّ في نفسك؛ فإني لا أجد في نفسي. قال: "سل عما بدا لك". قال: أنشدك الله، إلهك وإله من قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولاً؟ قال: "اللهم نعم". قال: أنشدك الله إلهك، وإله من قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نعبده ولا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأوثان والأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم". ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وفرائض الإسلام، كلها ينشده عند كل فريضة، كما أنشده في التي كان قبلها حتى إذا فرغ، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، لا أزيد ولا أنقص. ثم انصرف راجعًا إلى بعيره، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين ولَّى: "إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة". وكان ضمام رجلاً جَلْدًا أشعر ذا غديرتين، ثم أتى بعيره، فأطلق عقاله حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به وهو يسب اللات والعزى، فقالوا: مَهْ يا ضمام، اتقِ البرص، والجذام، والجنون. فقال: ويلكم! إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. فوالله ما أمسى ذلك اليوم من حاضرته رجل ولا امرأة إلا مسلمًا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه"[76].
فهذا ضمام رضي الله عنه يشهد شهادة التوحيد أمام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ويشهد أنه سيؤدي الفرائض، ويجتنب المحرمات دون زيادة أو نقص، ومع ذلك يقول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: "إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة". وهذا هو الفهم الذي يجب أن نفهمه، حتى لا نكون كالذي يجتهد في قيام الليل، ويقاوم النوم، وتعب الجسد، ويرفض الراحة، ثم إذا به ينام عن صلاة الفجر، ويصلِّيها قضاءً بعد شروق الشمس. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُفقّهنا في دينه، وأن يرزقنا الحرص على أداء الفرائض والنوافل كليهما، وكل عام وأنتم بخير، وتقبَّل الله منَّا ومنكم.



(40)


قصة الاتحاد الأوربي[77]


تسعى الدول دائمًا إلى القوة، وتبحث عن أسبابها، ومن أجل ذلك تقدم هذه الدول بعض التضحيات التي تُضطرُّ إليها؛ كي تصل إلى ذلك الهدف: القوة.
ولمَّا كانت القوة مرادفة للوحدة – غالبًا – فإن القادة العقلاء الذين يبحثون عن القوة يحاولون دائمًا سلوك سبيل الوحدة مع الدول التي توجد بينها وبين بلادهم عوامل مشتركة؛ كالدين، واللغة، والحوار، والتاريخ المشترك.
وقد عاشت أوربا تاريخًا طويلاً حافلاً بالصراعات والانقسامات؛ مما جعلها تربة خصبة للجهل والتخلف، وقضى على أفكار التقدم التي حملها عددٌ من المصلحين في بعض عصورهم. وفي ذات الوقت عاصرت أوربا أزهى عصور الوحدة الإسلامية، ورأت في الأقطار الإسلامية المتحدة تحت راية خلافة واحدة خير نموذج لأثر الاتحاد على قوة الدول؛ إذ ظلَّت أوربا – في ظل عداوتها للإسلام – تحت وقع الهزائم المستمرة من الخلافة الإسلامية، وبينما كان العالم الإسلامي يعيش ذروة المجد والعلم والثقافة، كانت أوربا ترزح تحت وطأة الجهل والخرافة.
أدركت أوربا أثر الوحدة في انتصارات المسلمين، وأثر التمزق والتشتت في ضعفها هي؛ فبدأت في عهد متأخر كثيرًا تحاول إيجاد الوحدة، والترابط بين أقطارها، وبينما انفرط عِقد الخلافة الإسلامية، وتمزقت دولها، بسبب البعد عن منهج الله عزَّ وجلَّ، وبسبب اختلاف قلوب قادتها، وميلهم للدنيا، بينما كان ذلك يحدث، كانت أوربا تبدأ في محاولات الوحدة.
تصل مساحة قارة أوربا إلى حوالي 10.79 مليون كم2 (7.1 % من مساحة الأرض). وهي ثالث قارة من حيث عدد السكان في العالم، إذ يزيد عدد سكانها على 700 مليون نسمة (11 % من سكان الأرض)، ويزيد عدد دولها على أربعين دولة؛ مما يبين المجهود الهائل الذي يجب بذله من أجل التوحد.
ويتحدث الأوربيون بالعديد من المجموعات اللغوية كمجموعة اللغات السلافية، واللغات الأورالية، واللغات الألطية، واللغات البلطية، واللغات الكلتية، واللغة اليونانية، واللغة الألبانية، واللغة الأرمينية، وكل مجموعة من هذه اللغات تتوزع في مناطق عديدة من القارة، كما أن للغة العربية تأثيرًا على بعض اللغات الأوربية كالمالطية والإسبانية والألبانية.
ولا تدين أوربا بدين واحد، بل تتنوع فيها الأديان، بل وتتنوع المذاهب داخل الدين الواحد؛ فهناك مثلاًالمسيحية الكاثوليكية، ومن الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من أتباع الكاثوليكية في القارة هي: البرتغال وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا وجنوب هولندا وإيرلندا وأسكتلندا وجنوب ألمانيا وجنوب سويسرا وإيطاليا والنمسا وسلوفينيا وهنغاريا ( المجر) وكرواتيا وسلوفاكيا والتشيك وبولندا وغرب أوكرانيا ورومانيا وبعض مناطق لاتفيا ولتوانيا. كما توجد أقليات كاثوليكية في إنجلترا وويلز وبعض مناطق أيرلندا الشمالية.
وهناك كذلك المسيحية البروتستانتية، ومن الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من أتباع البروتستانتية في القارة: النرويج وآيسلندا والسويد وفنلندا وإستونيا ولاتفيا والمملكة المتحدة والدنمارك وألمانيا وهولندا وسويسرا. وتُوجد أقليات بروتستانتية في فرنسا والتشيك وهنجاريا وأيرلندا.
كما تُوجد الأرثوذكسية المسيحية في: ألبانيا وأرمينيا وروسيا البيضاء والبوسنة والهرسك وبلغاريا وفنلندا وجورجيا واليونان ومقدونيا ومولدوفا ورومانيا وروسيا وجمهورية صربيا والجبل الأسود وأوكرانيا.
ويأتي الإسلام كأحد أديان القارة الأوربية، ومن الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من المسلمين في القارة: ألبانيا، والبوسنة والهرسك، وبلغاريا، ومقدونيا، وقبرص، وتركيا. وعلى مستوى القارة بشكل عام فإن 5 % من مواطني دول الاتحاد الأوربي يدينون بالإسلام، ويتركز العديد من المسلمين في ألمانيا (3.878 %)، وفرنسا ( 5 إلى 10 %)، والمملكة المتحدة (2.7 %)، وإن كان الأوربيون – وخاصةً حكامهم – على تربص بالإسلام والمسلمين، ولا يسمحون للمسلمين بلعب دور كبير في الحياة السياسية، فضلاً عن رفضهم لوجود دولة مسلمة ضمن دول الاتحاد.
كما تُوجد بعض الأديان الأخرى في أوربا كما يلي:
اليهودية ويتركز أتباعها في روسيا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، والهندوسية ويتركز أتباعها في المملكة المتحدة وهولندا، والسيخية[78].
إن كل هذا التنوع يدعم الاتجاه الانفصالي بين دول أوربا؛ إذ تكاد لا تتفق في شيء من عوامل الوحدة، وليس بينها عامل مشترك واحد، ولكن العقول المنفتحة التي تنشد القوة لشعوبها ودولها، والقادة الساعين للتقدم والازدهار لبلادهم لا يتوقفون عند الحواجز مهما صعُبَت، ولا يستكثرون الجهد مهما شقَّ عليهم؛ لذا بدأ حكام أوربا سعيهم نحو الاتحاد.

تكررت المحاولات في تاريخ القارة الأوربية لتوحيد أمم أوربا، فمنذ انهيار الإمبراطورية الرومانية التي كانت تمتد حول البحر الأبيض المتوسط، مرورًا بإمبراطورية شارلمان الفرنجية قبل ظهور الدولة القومية الحديثة. وفيما بعد حدثت محاولات لتوحيد أوربا، لكنها لم تتعدَّ الطابع الشكلي والمرحلي.
ولكن بوجود مجموعة من اللغات والثقافات الأوربية المتباينة، قامت هذه التجارب على الإخضاع العسكري للأمم الرافضة؛ مما أدَّى إلى غياب الاستقرار، وبالتالي كان مصيرها الفشل في النهاية، منها محاولة نابليون في القرن التاسع عشر، والأخرى في أربعينيات القرن العشرين على يد هتلر، وهما تجربتان لم تتمكنا من الاستمرار إلا لفترات قصيرة وانتقالية.واحدة من أول أفكار التوحيد السلمي من خلال التعاون والمساواة في العضوية قدمها المفكر السلمي فيكتور هوجو عام 1851م دون أن تحظى بفرصة جادة في التطبيق.
وبعد كوارث الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ازدادت بشدّة ضرورات تأسيس ما عُرف فيما بعد باسم الاتحاد الأوربي، مدفوعًا بالرغبة في إعادة بناء أوربا، ومن أجل القضاء على احتمال وقوع حرب شاملة أخرى. أدَّى هذا الشعور في النهاية إلى تشكيل جمعية الفحم والفولاذ الأوربية عام 1951م على يد كلٍّ من ألمانيا (الغربية)، وفرنسا، وإيطاليا، وبلجيكا، وهولندا، ولوكسمبورج.

أسَّست الدول الأوربية أول وحدة جمركية عُرِفت باسم المؤسسة الاقتصادية الأوربية (European Economic Community)، وتُسمَّى في المملكة المتحدة بشكل غير رسمي ب "السوق المشتركة"؛ وذلك في اتفاقية روما للعام 1957م، وطُبِّقت في الأول من يناير 1958م. هذا التغيير اللاحق للمؤسسة الأوربية يشكل العماد الأول للاتحاد الأوربي.
كانت الشراكة الاقتصادية مرحلة بدأ بها القادة الأوربيون كخطوة مبدئية على طريق الوحدة، ولم يكتفوا بها؛ لذا فبعدما توثقت عُرا الصلات بين اقتصاديات تلك الدول، وصارت القوة الاقتصادية لكل دولة منها مرهونة بقوة اقتصاديات شريكاتها الأوربيات بدت الحاجة ملحة، والأجواء مهيأة لخطوة جديدة؛ ففي عام 1986م تمَّ البدء بإصدار جوازات السفر الأوربية، ورُفِعَ العلم الأوربي على أنغام السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، وهي تمثل السلام الأوربي، كما دخل القانون الأوربي الموحَّد حيز التنفيذ ليزيل العوائق التجارية المصطنعة ما بين الدول الأعضاء؛ لكي تتمكن البضائع ورءوس الأموال والخدمات، وكذلك الأفراد من التنقل والعيش والعمل بحريّة دون قيود في أيٍّ من الدول الأعضاء.
وعلى المسار السياسي تم في 7 من فبراير 1992م توقيع معاهدة الاتحاد الأوربي في مدينة ماستريخت الهولندية.
وقد دخلت هذه المعاهدة حيز التنفيذ في الأول من نوفمبر 1993م. ويرجع تأخُّر تطبيقها إلى تأخر قبول الدنماركيين للمعاهدة وشروطها، وبسبب قضية دستورية ضدها أقيمت في ألمانيا.

ومن أهم مبادئ الاتحاد الأوربي نقل صلاحيات الدول القومية إلى المؤسسات الدولية الأوربية. لكن تظل هذه المؤسسات محكومة بمقدار الصلاحيات الممنوحة من كل دولة على حدة؛ لذا لا يمكن اعتبار هذا الاتحاد على أنه اتحاد فيدرالي؛ حيث إنه يتفرد بنظام سياسي فريد من نوعه في العالم.

وللاتحاد الأوربي نشاطات عديدة، أهمها كونه سوقًا موحدةً ذات عملة واحدة هي اليورو الذي تبنت استخدامه ثلاث عشرة دولة أوربية من أصل ال27 الأعضاء، وبدأ التداول الرسمي له في الأول من يناير 2002م، كما أنَّ له سياسة زراعية مشتركة، وسياسة صيد بحري موحدة.

لم يضع الاتحاد الأوربي بادئ الأمر أية شروط إضافية لانضمام الدول المرشحة للعضوية، ما عدا الشروط العامة التي تمَّ تبنِّيها في الاتفاقيات المؤسسة للاتحاد، لكن الفرق الشاسع في المستوى الاقتصادي والسياسي بين دول أوربا الوسطى والشرقية ودول الاتحاد، دفع مجلس الاتحاد الأوربي في عام 1993م ليضع ما يعرف شروط كوبنهاجن، وهي تنقسم إلى:
شروط سياسية: على الدولة المترشحة للعضوية أن تتمتع بمؤسسات مستقلة تضمن الديمقراطية، وأن تقوم على دولة القانون، وأن تحترم حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات.

شروط اقتصادية: وجود نظام اقتصادي فعَّال يعتمد على اقتصاد السوق، وقادر على التعامل مع المنافسة الموجودة ضمن الاتحاد.

شروط تشريعية: على الدولة المترشِّحة للعضوية أن تقوم بتعديل تشريعاتها وقوانينها بما يتناسب مع التشريعات والقوانين الأوربية التي تمَّ وضعها وتبنِّيها منذ تأسيس الاتحاد.

وهذا جدول يبين تاريخ انضمام الدولة الأوربية إلى الاتحاد الأوربي منذ كان سوقًا مشتركة إلى أن صار اتحادًا.

الدولة
سنة الانضمام
الدولة
سنة الانضمام
إيطاليا
1952/1958م.
النمسا
1995م
ألمانيا
1952/1958م.
إستونيا
2004م
بلجيكا
1952/1958م.
بولندا
2004م
فرنسا
1952/1958م.
جمهورية التشيك
2004م
لوكسمبورج
1952/1958م.
الجمهورية السلوفاكية
2004م
هولندا
1952/1958م.
سلوفينيا
2004م
المملكة المتحدة
1973م
قبرص
2004م
الدنمارك
1973م
لاتفيا
2004م
اليونان
1981م
ليتونيا
2004م
إسبانيا
1986م
مالطا
2004م
البرتغال
1986م
هنغاريا
2004م
أيرلندا
1993م
رومانيا
2007م
السويد
1995م
بلغاريا
2007م
فنلندا
1995م




نتائج التوسع في عضوية الاتحاد الأوربي:
إن الاتحاد الأوربي ما زال يعاني من إجهاد وتكلفة عملية التوسيع الأخيرة في مايو 2004م، والتي انتقل بموجبها عدد أعضاء الاتحاد من 15 بلدًا إلى 25 بلدًا، وبالانضمام الأخير الذي أصبح بعده يشمل 27 بلدًا، يكون عدد سكان الاتحاد قد بلغ نحو 489 مليون نسمة. إضافةً إلى ذلك يخشى بعض الأعضاء مثل فرنسا، أن يشكل انضمامُ دول ضعيفةِ الدخل الفردي إلى حظيرة الاتحاد، عبئًا اقتصاديًّا ثقيلاً، ويُعقِّد إدارة وتسيير مؤسساته، كما تخشى هذه الدول أن يؤدي توسيع الاتحاد إلى تقليص سلطتها، وشلّ عملية اتخاذ القرارات داخل مؤسسات الاتحاد.
وقد انعكس هذا القلق إزاء الشكل المقبل الذي سيتخذه الاتحاد في رفض الفرنسيين والهولنديين لمشروع الدستور الأوربي المقترح في استفتاء عام 2005م، ومنذ ذلك الحين تعالت الأصوات المنادية داخل الاتحاد بضرورة إبطاء وتيرة التوسيع. والواقع أن هذا التردد، الذي أجَّجته المخاوف إزاء الهجرة وإزاء أداء أوربا الاقتصادي المتواضع، قد ألقى بظلاله على قبول رومانيا وبلغاريا، اللتين انتُقدتا بسبب الفساد الذي ما زال مستشريًا منذ الفترة الشيوعية[79].
ومن خلال القضايا والمشكلات السياسية الدولية الجارية،لم يُظهِر الاتحاد الأوربي حتى الآن قدرة على منافسة الولايات المتحدة سياسيًّا أو عسكريًّا؛ حتى إننا عندما أجرينا استبيانًا على الموقع خلال الأسبوع الماضي موضوعه:
الاتحاد الأوربي بعد توسيع عضويته:
سيتحرر من أمريكا ( )
سيظل تابعًا لأمريكا ( )
سيعاني من الضعف ( )


جاءت نسب التصويت 32.3% للاختيار الأول، و55.2% للاختيار الثاني، و12.5% للاختيار الثالث؛ مما يعني أن 67.7% من المشاركين يرون أن الاتحاد الأوربي سيظل ضعيفًا وتابعًا حتى بعد توسيعه؛ وذلك يرجع - بالطبع - إلى الضعف السياسي الظاهر للاتحاد أمام الولايات المتحدة؛ حتى في القضايا التي تمسُّ مصالحه، إضافةً إلى تسابق بعض رؤساء دول الاتحاد إلى الارتماء في أحضان الولايات المتحدة، وتفضيلهم التبعية لها على تقوية موقف بلادهم؛ كما فعل رئيس الوزراء الإنجليزي السابق توني بلير، وكما يفعل الآن الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي.
ورغم هذه المسألة إلا أننا لا يسعنا إلا أن نُقِرَّ أنَّ هذه الخطوات الهائلة التي اتخذتها الدول الأوربية على طريق الوحدة لَتدلُّ على عزيمة جبارة، وضعت الوحدة هدفًا أسمى يُبذَل من أجله الغالي والنفيس، كما تدل على تخطيط دقيق ودراسة واعية لمقتضيات الوحدة، وتنفيذ واعٍ لما يُقَرَّر، إضافةً إلى مرونة عالية تسمح بالتنازل عن بعض الخصوصية القائمة لكل دولة في سبيل تحقيق التكامل والاتحاد مع بقية الدول الأوربية. ويثير هذا فينا المقارنة مع ما أنجزته جامعة الدول العربية التي أُنشِئَت عام 1945م، ومنظمة المؤتمر الإسلامي التي أُنشِئَت عام 1969م، وكلاهما تعاني منذ نشأتها من الخلافات السياسية بين الدول الأعضاء، ومن فوضى تنظيمية؛ تجعل كل دولة تفعل ما يحلو لها بغضِّ النظر عن القرارات التي اتخذتها المنظمة؛ فصارت كل أو جُلُّ قراراتهما حبرًا على ورق، ولم نجد على مدار تاريخهما إنجازًا يُذكَر لإحداهما.
إنه ليس خطأ المنظمات في حدِّ ذاتها، وإنما خطأ الدول العربية والإسلامية التي تتظاهر بالوحدة بينما كل واحدة منها تُولِّي وجهها شطرًا غير الأخرى؛ فتفرقت القلوب، وتحكمت الأهواء الشخصية، ولم يُراعِ أحدٌ المصلحة العامة للدول الإسلامية، وللمسلمين جميعًا، ولمقدساتهم.
إن الوحدة جزء أصيل من ديننا، ومع ذلك فيبدو أنه علينا - ما دمنا لم نتعلَّم الدرس من الإسلام وتشريعاته - أن نتعلَّم الدرس من غيرنا، الذي تعلَّم منَّا سابقًا أهمية الوحدة وسُبُل الوصول إلينا، ونحن الآن أحوج لذلك الدرس.











(41)


هجرة وهجرة!![80]


الهجرة إلى الله عزَّ وجلَّ من أسمى المعاني الإيمانية، ومن أعظم التضحيات التي يمكن أن يقدمها العبد إرضاءً لله سبحانه وتعالى، ومن ثَمَّ وعد اللهُ عز وجل الذين هاجروا بأعظم الثواب، وأرفع الدرجات، فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58].وقال أيضًا: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[النحل: 41]. وقال أيضًا: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].
وهذا الثواب العظيم سببه تلك التضحية الكبرى التي يقدمها العبد، الذي يترك بلده وداره وماله، وربما زوجه وأهله وأبناءه ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، ونصرة لدينه، ورفعًا لراية الإسلام.
وقد ضرب لنا الصحابة رضوان الله عليهم المُثُل العليا في ذلك الميدان؛ إذ تركوا مكة وهاجروا بدينهم إلى المدينة، وصاغوا أروع القصص في التضحية؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه يهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم تاركًا أهله، ومنفقًا ماله في سبيل الله تعالى؛ فيروي ابن إسحاق عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها، قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلّهُ وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتّةُ آلاَفٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدّي أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: وَاَللّهِ إنِّي لاَ أَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِه. قَالَتْ: قُلْت: كَلاَّ يَا أَبَتِ، إنّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: فَأَخَذْت أَحْجَارًا فَوَضَعْتهَا فِي كُوّةٍ فِي الْبَيْتِ الّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْت عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمّ أَخَذْت بِيَدِهِ، فَقُلْت: يَا أَبَتِ، ضَعْ يَدَك عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلاَغٌ لَكُمْ. وَلاَ وَاَللّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنِّي أَرَدْت أَنْ أُسَكِّنَ الشّيْخَ بِذَلِكَ[81].
وهذا صهيب الرومي رضي الله عنه يروي قصة هجرته فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُ دار هجرتكم سبخة[82] بين ظهراني حرة، فإمّا أن تكون هَجَرَا أو تكون يثرب". قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر رضي الله عنه، وكنت قد هممت بالخروج معه، فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم ولا أقعد، فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه، ولم أكن شاكيًا، فقاموا فلحقني منهم ناس بعدما سرت بريدًا ليردوني، فقلت لهم: هل لكم أن أعطيكم أواقي[83] من ذهب وتخلون سبيلي، وتفون لي؟ فتبعتهم إلى مكة، فقلت لهم: احفروا تحت أسكفة[84] الباب؛ فإن تحتها الأواق، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتحول منها - يعني قباء -، فلما رآني قال: "يا أبا يحيى، ربح البيع" ثلاثًا. فقلت: يا رسول الله، ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام[85].
كانت الهجرة إذن سبيلاً عظيمًا من سبل الجهاد لنشر الإسلام، ومصطلح الهجرة لذلك مصطلح عزيز غالٍ، له مكانة سامية عند جميع المسلمين.
وقد عاد مصطلح الهجرة للظهور في عالم المسلمين مرة أخرى في السنين القليلة الماضية، ولكن في هذه المرة لم يكن المقصود بالهجرة إعلاء الدين بدرجة خالصة، إنما قد يهاجر من بلد مسلم إلى بلد مسلم آخر سعيًا وراء رزقه، وقد تكون هذه الهجرة إلى المدينة المنورة ذاتها كما كانت أيام الهجرة الأولى، لكنها ليست خالصةً كما كانت؛ فالهدف الأول فيها طلب المال، وهو ليس حرامًا إِنْ أتى من حلال، ولكن لا يجب على المرء أن يخدع نفسه بأنه ذهب إلى هناك في سبيل الله، ودليل ذلك أنه لو أُتيح له فرصة عمل بأجر أعلى أو ظروف أفضل في مكان آخر؛ فإنه سيترك المدينة المنورة إلى غيرها من المدن.. ومن هنا فإننا لا نستطيع إسقاط الآيات والأحاديث التي وردت في فضل الهجرة على هذه المواقف إلا إذا كانت الهجرة من البلد للفرار بالدين أساسًا، وإن كان الراتب أقل والظروف أصعب.
وأشق من ذلك ما نراه أحيانًا من هجرة بعض المسلمين إلى بلاد الغرب للإقامة الدائمة فيها طلبًا للرزق وارتقاءً بالمستوى المادي، أو سعيًا وراء العلم، أو الحرية الشخصية، أو للزواج من أجنبية.
وكل ما مضى من أسباب قد يكون لا غبار عليه، ولا حُرمة فيه، وقد يدخل في باب الجواز، ولكن لا يدخل في باب الهجرة التي قصدها الشرع، ويدل على ذلك قول رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"[86].
وهذا اللفظ "فهجرته إلى ما هاجر إليه" يدل على أن الهجرة للدنيا أو التزوج ليس حرامًا، "وَإِنَّمَا أَشْعَرَ السِّيَاق بِذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ طَلَبَ الْمَرْأَة بِصُورَةِ الْهِجْرَة الْخَالِصَة، فَأَمَّا مَنْ طَلَبَهَا مَضْمُومَة إِلَى الْهِجْرَة فَإِنَّهُ يُثَاب عَلَى قَصْد الْهِجْرَة لَكِنْ دُون ثَوَاب مَنْ أَخْلَصَ، وَكَذَا مَنْ طَلَبَ التَّزْوِيج فَقَطْ لاَ عَلَى صُورَة الْهِجْرَة إِلَى اللَّه؛ لأَنَّهُ مِنَ الْأَمْر الْمُبَاح الَّذِي قَدْ يُثَاب فَاعِله إِذَا قَصَدَ بِهِ الْقُرْبَة كَالإِعْفَافِ"[87].
ولكن طلب هذه الدنيا ينبغي ألا يتم بصورة تخالف العهود والنظم الخاصة بكل دولة، كما يحدث من بعض الشباب الذين ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم، ولم يجدوا لهم عملاً كريمًا، ولم يبحث لهم المسئولون عن سبيل يعولون منه أسرهم، ويكوِّنون مستقبلهم، فحاولوا التسلل لبلاد أخرى دون موافقة سلطات هذه البلاد، وهذا فيه مخالفة لنظم تلك الدول، والشرع الإسلامي يحترم ما تضعه الدول من أنظمة ما دامت لا تخالف الشرع؛ لذا ينبغي على هؤلاء الشباب البحث عن سبيل ليس به مخالفة.
إننا نعرف مدى ما أصاب هؤلاء الشباب والرجال من ضيقٍ في العيش، يتحمل مسئوليته المسئولون الذين لم يقوموا بواجبهم في خدمة شعوبهم، بل ربما شاركوا في التضييق على هذه الشعوب رعاية لمصالحهم الخاصة، وتلك جريمة يتحملون وزرها أمام رب العالمين سبحانه وتعالى، ولكن على من يغامرون بمخالفة قوانين الدول الأخرى، وربما تعرَّضوا للسجن أو الترحيل إن وصلوا إليها سالمين على أفضل الأحوال، أو للموت في الطريق غرقًا في البحر، أقول: على هؤلاء أن يسلكوا طريقًا أخرى لطلب الرزق، ولا ييئسوا؛ فاللهُ هو الرزاق ذو القوة المتين. نسأل الله عزَّ وجلَّ الصلاح للمسلمين جميعًا في الدنيا، والجنة في الآخرة.







(42)


عاشوراء وهلاك فرعون![88]

لا شك أن يوم هلكة الظالمين يوم عيد!!
وحتى لو كان المظلومون غير مسلمين فإننا نكره هذا الظلم وندينه، ونفرح بإزالته ونسعد، فالظلم مقيت بكل أنواعه؛ لذلك يقول الله عز وجل في الحديث القدسيالذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغًا عن رب العزة : "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا".
ولذلك عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة بعد هجرته من مكة وجد أن اليهود تصوم يوم عاشوراء، وهو العاشر من المحرم، فقال كما يروي البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "ما هذا؟" قالوا: هذا يومٌ صالح، هذا يوم نجَّى اللهُ بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه.
وكان صيامه في بادئ الأمر فرضًا على المسلمين، ثم لما فرض صيام رمضان جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام عاشوراء نافلةً، لكنه أراد أن يحفز المسلمين على عدم ترك صيامه، فقال كما يروي مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه: "صيام عاشوراء يكفر سنة ماضية".
ولا بد لنا أن نتساءل: لماذا هذا الاهتمام الكبير، والاحتفال المهيب بيوم عاشوراء؟!
إن العبرة الواضحة، والهدف الجلي لهذا الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد ألا تمر هذه الذكرى على أذهان المسلمين دون تدبر وفهم؛ إنه أراد لنا أن نجلس لدراسة هذا الحدث ولو مرة في كل عام، ذلك أن الحدث ضخم والعبرة عميقة.
لقد مرَّ على بني إسرائيل زمانٌ شعر فيه الكثيرون أن النصر بعيد، وأن الأمل يكاد أن يكون مفقودًا في تغيير الواقع، وأن فرعون سيظل جاثمًا على أنفاس شعبه أبد الدهر، وأن الجنود الظالمين سيظلون في أماكنهم مهما حاول الضعفاء من بني إسرائيل.
ثم ماذا حدث؟!
إننا جميعًا رأينا، وفهمنا، ولكن كثيرًا ما ننسى!
إننا رأينا فرعون يقود جيشه في غرور وكبر ليقتحم البحر بعد أن رأى معجزة انشقاقه، فيهلك ويهلك معه جنده وأعوانه في لحظة واحدة؛ رأينا هذا الحدث وفهمنا أن الله قادر على كل شيء، وأدركنا بوضوح أن الظالمين لا بد لهم من رحيل، وأنه مهما طالت فترات حكمهم وطغيانهم فإنهم إلى زوال. وما أروع ما قاله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
إن هذا ما كان يريد رسولنا الأكرم والأعظم أن نتذكره.
إن الأمل لا ينبغي أبدًا أن يموت في قلوبنا، فمهما مرَّ على المؤمنين من أزمات فإنهم يخرجون منها بفضل الله وقوته. قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].
ثم إن سنة إهلاك الظالمين ليست حدثًا فريدًا حدث في أيام موسى عليه السلام عندما هلك الطاغية المتكبر فرعون، بل حدثًا متكررًا يحدث بشكل كثيف في أحداث الدنيا؛ ولذلك يقول ربُّنا سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء : {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ} [الأنبياء: 11].
وما أعمق الكلمة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قُتل أبو جهل في يوم بدر عندما كبَّر، ثم قال : "هذا فرعون هذه الأمة".
لقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمة واحدة بين الفرعون الأول الذي كثر ذكره في صفحات القرآن الكريم، وبين الطاغية الجديد أبي جهل؛ ليرسخ في أذهاننا أن الصورة التي ذكرها ربنا لفرعون في كتابه ليست مجرد تأريخ لأحداث الماضي، إنما هي وصف دقيق لنمط الفراعنة المتكبرين، وشرح مفصل لسيرة حياتهم، وطريقة تفكيرهم، ووسائل طغيانهم، ومواقف المؤمنين منهم، ثم هي في النهاية توضيح جلي لخاتمتهم مهما تكبروا، ولنهايتهم مهما ظلموا.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الرائعة جعل لنا القرآن الكريم كتابًا واقعيًّا ينبض بالحياة، فكل مسلم يفتح هذا الكتاب ويقرأ صفحات فرعون سيسقطها على فرعون زمانه ومكانه، وما أكثر الفراعنة! وما أكثر الثياب التي يلبسونها، فتارةً يأتي في ثياب الكفرة الوثنيين، وأخرى يأتي في ثياب الصليبيين، وثالثة يأتي في ثياب التتار، ورابعة في ثياب المستعمرين الأوربيين، بل كثيرًا ما يأتي في ثياب المسلمين!!
حقًّا.. ما أكثر الفراعنة!!
لكن من المؤكد أن لهم جميعًا نهاية، فالله عز وجل لا يخلف الميعاد.
إن هذا هو المعنى الذي حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إدخاله في عقولنا، وهذا هو السبب الذي من أجله نحتفل بهذا اليوم، وهذه هي العبرة التي يجب أن نأخذها من الحدث، ولا ينبغي لنا أن نترك وسائل الإعلام، أو بعض الطوائف والفرق أن تأخذنا بعيدًا عن هذا الهدف؛ ولا ينبغي لنا أن نتركهم يعبثون بأذهاننا، وينحرفون بغاياتنا ومبادئنا عما أراده لنا رسولنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم.
إن يوم عاشوراء يومٌ صالح؛ فيه رُفع الظلم، وفيه نُصر الإيمان، وفيه ظهرت قدرة رب العالمين.
ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا يومًا عظيمًا كهذا اليوم، تُرفع فيه رايات العزة والمجد للمؤمنين من أبناء هذه الأمة الكريمة. اللهم آمين!


















هذا الكتاب

إنَّ التاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة.. ونفس الأحداث نراها من جديد رأي العين، فقط باختلاف يسير، يكاد لا يتعدى الأسماء و الأمكنة..
ولذلك فالمتعمق في التاريخ يقرأ ببساطة ما يحدث على وجه الأرض من أمور، ولا يُخدع بسهولة، مهما تفاقمت المؤامرات، ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.. فهو وكأنه فعلاً يرى المستقبل!! فهو كالشمس الساطعة، تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد أثره إلى يوم تقوم الساعة.
إن التاريخ الإسلامي – في حقيقته – دروس نتعلم منها كيف نقرأ الحاضر ونصنع المستقبل، ونعرف منها ماذا يريد أعداؤنا منَّا على الحقيقة، ونعرف لماذا علا أسلافنا في عهود قوتهم، ولماذا انتصر عليهم العدو في أوقات الضعف، ولماذا كان ذلك القوة، وكان الضعف من الأساس.
وبين أيدينا هذه المحاولة الطيبة التي تسعى لربط التاريخ بالواقع، والتي نُشِرت وما زالت تُنشَر على موقع (قصة الإسلامislamstory.com ( لتتجلَّى الحقائق ناصعة أمام أعين الجميع، وليبصر من أراد البصر، وآتاه الله البصيرة؛ فيحيا من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.

الدكتور / راغب السرجاني


[1] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 13/7/2006


[2] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 8/9/2007


[3] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 15/9/2007


[4] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 9/11/2006

[5] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 16/11/2006

[6] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 23/11/2006


[7] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 30/11/2006

[8] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 11/12/2006

[9] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 16/1/2007


[10] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 2/1/2007


[11] تم نشر هذا المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 16/1/2007

[12] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 20/2/2007


[13] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 13/3/2007


[14] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 25/3/2007


[15] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 16/4/2007


[16] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 30/4/2007


[17] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 15/5/2007


[18] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 30/5/2007


[19] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 10/6/2007


[20] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 21/6/2007


[21] تم نشر هذا المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 21/6/2007

[22] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 29/7/2007


[23] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 5/8/2007


[24] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 30/8/2007


[25] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 30/8/2007


[26] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 30/8/2007


[27] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 24/9/2007


[28] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 4/10/2007


[29]جوزيف رينو، مؤرخ فرنسي اهتم بالتأريخ للفتوحات الإسلامية لفرنسا وأوربا ، توفي عام 1986م.

[30]جوزيف رينو: تاريخ غزوات العرب، ص 295.

[31] أبو عبيد البكري: عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (- / 487 ه)، مؤرخ جغرافي، ثقة. أشهر مؤلفاته المسالك والممالك.. انظر الأعلام للزركلي 4/98

[32] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 10/10/2007


[33] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 13/10/2007

[34] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 22/10/2007


[35]د/ حامد محمود عيسى: المشكلة الكردية في الشرق الأوسط ص4،3.

[36]السابق نفسه ص14.

[37]أحمد تاج الدين: الأكراد.. تاريخ شعب وقضية وطن، ص 41.

[38]السابق نفسه ص43.

[39] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 30/10/2007


[40]د/ محمد سهيل طقوش: العثمانيون من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة ص 145، 146.

[41]مدينة تركية.

[42]طائفة من النصارى السريان.

[43]د/ حامد محمود عيسى: المشكلة الكردية في الشرق الأوسط ص27.

[44]مذكرات رفيق حلمي ص195.

[45]د/ حامد محمود عيسى: المشكلة الكردية في الشرق الأوسط ص56.

[46]السابق نفسه، ص57.

[47] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 6/11/2007


[48]د/ جميل عبد الله محمد المصري: حاضر العالم الإسلامي 1/ 111.

[49]د/ حامد محمود عيسى: المشكلة الكردية في الشرق الأوسط، ص65.

[50]عبد الحميد العلوجي، وخضير غلاب: الأصول التاريخية للنفط العراقي، ص15.

[51] د/ فاضل حسين: مشكلة الموصل، ص5.

[52]جواهر لال نهرو: لمحات من تاريخ العالم، ص259.

[53]د/ حامد محمود عيسى: المشكلة الكردية في الشرق الأوسط ص152: 154.

[54]السابق نفسه، ص158: 166.

[55]السابق نفسه، ص236: 240.

[56] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 11/11/2007


[57]د/ حامد محمود عيسى: المشكلة الكردية في الشرق الأوسط، ص236: 240.

[58]السابق نفسه، ص247.

[59]كريم زه ندى: حول الحركة التحررية، ص40.

[60]البديل الثوري، ص30: 32.

[61] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 25/11/2007


[62]د/ حامد محمود عيسى: المشكلة الكردية في الشرق الأوسط، ص236: 240.

[63] محمد صادق أمين: الاتحاد الإسلامي الكردستاني.. تميز في العطاء والبناء، ص13: 18.

[64]السابق نفسه، ص18: 20.

[65]السابق نفسه، ص22، 23.

[66]السابق نفسه، ص40، 41.

[67] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 29/11/2007


[68](الأنبياء: 92).


[69] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 4/12/2007


[70] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 8/12/2007


[71] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 11/12/2007


[72] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 17/12/2007


[73] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 23/12/2007


[74]البخاري.

[75]البخاري.

[76]الحاكم في المستدرك.

[77] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 31/12/2007


[78]موسوعة ويكيبيديا على شبكة الإنترنت، الرابط: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7

[79]دان بيليفسكي، مراسل "نيويورك تايمز" في بروكسل، الرابط:

[80] تم نشر المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 9/1/2007


[81]ابن هشام: السيرة النبوية 1/488.

[82]السَبَخة : الأرضُ التي تعْلُوها المُلُوحة، ولا تكادُ تُنْبِت إلا بعضَ الشجَر.

[83]الأواقي: جمع أوقية، وهي أربعون درهمًا.

[84]الأسكفة: عتبة تكون تحت الباب.

[85]الحاكم في المستدرك: 13/176، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرِّجاه (أي البخاري ومسلم).

[86]أبو داود: السنن 6 / 437.

[87] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، باب بدء الوحي 1/2.

[88] تم نشر هذا المقال على موقع www.islamstory.com بتاريخ 17/1/2007

التعديل الأخير تم بواسطة سـمــوري ; October 9, 2009 الساعة 03:10 PM سبب آخر: بيانات شخصية
رد مع اقتباس