عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم August 1, 2018, 01:22 PM
 
رد: تحميل الوضع ما بعد الحداثي ، جان - فرنسوا ليوتار ، نسخة كاملة معالجة ، pdf

حول كتاب جان ــ فرانسوا ليوتار : الوضع ما بعد الحداثى
بقلم شريف يونس



“أن تتكلم فهذا يعنى أنك تقاتل”
جان - فرانسوا ليوتار
ربما تكمن أهمية هذا الكتاب فى أنه يطرح رؤية جديرة بالاعتبار لوضع الثقافة والمثقف ـ كفئة من فئات العاملين بالعمل الذهنى : الإنتليجنسيا ـ فى عصر ما بعد الحداثة ، المسمى أيضاَ عصر المعلومات وعصر الاتصال وعصر ما بعد الصناعة وما بعد الأيديولوجيا ، ويسمى على المستوى المنهجى عصر ما بعد البنيوية أو التفكيك . ويقرر ليوتار فى مقدمته أنه قد كتب هذا الكتيب كتقرير عن حالة المعرفة فى المجتمعات الأكثر تطوراَ ، قدمه إلى مجلس الجامعات التابع لحكومة كيبيك (القسم الفرنسى من كندا) بناءً على طلب رئيسه فى عام 1979.
وترجع خلفية ليوتار السياسية إلى جماعة ثورية صغيرة اسمها "الاشتراكية أو البربرية" ، كان دوره فيها أثناء عضويته بها فى الخمسينات والستينات دراسة أوضاع أوربا الشرقية ، التى كانت نظمها الاستبدادية محل سخط اليسار الأكثر راديكالية فى فرنسا آنذاك . ومن هذا الموقع المتطرف على الحدود الواقعة بين الماركسية والفوضوية انتقل ليوتار تدريجيا إلى موقع إصلاحى على هامش النظام ، ليصبح بعد أحداث 1968 فى فرنسا أحد الشخصيات البارزة فى التيار المسمى "ما بعد الحداثة" ، الذى اجتاح الثقافة الأوروبية فى السبعينات وواصل مساره فى الثمانينات ، وانتقل إلى الولايات المتحدة وغيرها من بلدان العالم ، وأصبح مطروحا للنقاش حتى فى بلد طرفى إلى حد ما كمصر فى التسعينات.
ومن خلال مناقشة هذا الكتاب المهم أنوى إلقاء الضوء على تلك المفارقة التى وضعت "المثقف المصرى" فى عصر ما بعد الحداثة ، واختلاف رد فعله بالتالى عن تفاعل مثقف أوروبى ثورى/ إصلاحى ، من نمط ليوتار ، مع ما يطرحه الوضع ما بعد الحداثى من قضايا بشأن الثقافة والعلم ، ليس بغرض إدانة طرف ما ، ولكن بغرض كشف بعض أبعاد هذه المفارقة التاريخية .

يطرح ليوتار فى كتابه أو تقريره مشكلة السيطرة الاجتماعية على المعلومات، التى أصبحت أحد محاور صراعات السلطة والمكانة على المستوى الاجتماعى ، من خلال دراسة ما يسميه "مشكلة المشروعية" الخاصة بالعلم ؛ وينسبها إلى تفكك العلم من حيث حقوله ومؤسساته على حد سواء ، وما يمثله ذلك من تهديد للابتكار وتوجيه له لصالح مجموعات معينة . ويلاحظ ، اتساقا مع ذلك ، فتور معنويات العلماء وانخفاض الإنتاجية فى المختبرات والمعامل .
وللحيلولة دون ذلك يطرح ليوتار عدة مطالب : رفض كل محاولة لتحقيق الإجماع باعتبار ذلك أمرا ينطوى على إرهاب للفكر ، وإتاحة بنوك المعلومات للجمهور بغير قيود.
وبشىء من التفصيل يطرح ليوتار مشكلة المشروعية كالآتى:
ثمة رابطة قوية فى الثقافة الغربية ، يُرجعها ليوتار إلى أفلاطون ، بين مشروعية العلم ومشروعية المشروع السياسى والأخلاقى . فبرغم الاختلاف بين لغة تقرير ما هو صادق (ليس زائفا) ولغة تقرير ما هو عادل (ليس جائرا) ، فإنهما مرتبطان. فالسؤال عن السلطة (من الذى يقرر ما هى المعرفة ؟) مرتبط بالسؤال عن المعرفة (من الذى يعرف ما يجب تقريره؟) .
ثمة اختلاف واضح بين العلم والمعرفة . فالمعرفة ـ على حد تعبيره ـ تشمل مثلا كيف تعيش وكيف تسمع وكيف تستخدم الأشياء وما هى معايير الفعالية والعدل والسعادة والصوت واللون ... الخ . فالمعرفة إذن أوسع مدى ، ولكنها أيضا ذات طابع قومى أو محلى ؛ تسمح مثلا بمعرفة الأجنبى فورا . أما العلم فيقوم على البرهان . ويفترض الحوار حول البرهان أن المرجِع (أى موضوع المعرفة العلمية) لا يمكن أن يقدم أساسا لبرهانين متناقضين. ويستخدم ليوتار كلمة الافتراض هنا بالمعنى القوى للكلمة ؛ بمعنى أن العلم لا يستطيع أن يبرهن على صحة هذا الافتراض . كذلك يقوم العلم على لغة إشارية (تشير إلى الأشياء) ولا يستعمل اللغة التقعيدية (التى تشير إلى قواعد ومعايير وقيم) ، على خلاف المعرفة غير العلمية ، التى يقرر ليوتــار أنها تقوم على منطق الحكاية التى تجمع بين العبارات الإشارية والعبارات التقعيدية وغيرها . يضاف إلى ذلك بالطبع أن المعرفة العلمية ليس لها طابع قومى .
ويواصل ليوتار مقارنا بين المعرفة العلمية والمعرفة الحكائية ؛ فيقرر أن الحكاية لا تستعيد الماضى بهدف تحليله ، وإنما لتضعه فى أفق لا زمنى خالد ، كأساطير تمثل للجماعة المعنى الذى يقيم رابطتها الجماعية . كذلك فإن الحكاية مملوكة على المشاع ، لا تحتاج إلى ترخيص لترديدها ، وليست مقصورة على فرد دون الآخر، وليس لها إذن مصدر للمشروعية سوى ذاتها. ويتصور ليوتار أن الحكايات ، لهذه الأسباب ، متسامحة ، لا يستبعد بعضها البعض . أما العلم فعلى خلاف ذلك يتطلب مُرسلين ومستقبلين أندادا ، يتمتعون بمستوى معين من المعرفة العلمية يمنحهم مشروعية قبول أو رفض الأطروحات العلمية . كذلك فإن العلم له تاريخ، فلا يمكن الإتيان بنظرية علمية جديدة دون دحض القديمة ، الأمر الذى يتطلب معرفتها أولا . لذلك فإن العلم تحتكره صفوة تتمركز فى مؤسسات . يضاف إلى ذلك أن العلم - على نقيض الحكاية - يقف من حيث المبدأ خارج المجتمع ، لأنه يعرِّف نفسه كدراسة عقلية بحتة ، حتى فى حاله العلم الاجتماعى . ويبدو أن ليوتار يشير هنا إلى وضع العالِم ، أيا كان تخصصه ، بوصفه مراقبا خارجيا مهمته الدراسة ، لا الفعل.
بناء على رصد هذه الفوارق بين منطق العلم ومنطق الحكاية يتجه ليوتار إلى رصد العلاقة بينهما، فيقرر أن العلم ينتقد الحكاية ويرفضها ، بل يؤسس نفسه على هذا الرفض . فالعلم يسأل الحكاية عن مشروعيتها ، ولأن مشروعيتها لا تكمن إلا فى ذاتها (أو ربما فى الروابط الاجتماعية التى تعيد إنتاجها - ش) ، فهو يرفضها . ويقرر ليوتار أيضا أن هذه الخاصية هى مصدر إمبريالية الغرب .
ومع ذلك فقد استند العلم فى مولده إلى حكايات ، يرصد ليوتار منها - بشىء من التبسيط من جانبنا - حكايتين : حكاية الثورة الفرنسية ، التى تحكى عن الشعب البطل الذى يحصل على حريته (بطل التحرر) ويخلق المعايير الاجتماعية بإجماعه على قواعد معينة يتم التوصل إليها عن طريق المداولة والحوار، وبهدف تحقيق التقدم . ويقدم العلم لهذا الشعب المعرفة بالواقع التى على أساسها يقوم بالتشريع لنفسه . فالعلم أداة الشعب فى التحرر ، ولذلك يساند الشعب العلم ليدافع عن حقه فى المعرفة ، ويُزيح الكهنة والطغاة الذين يحولون دون حريته بحجب المعرفة . أما الحكاية الأخرى فهى الحكاية الألمانية ، واسمها حكاية (بطل المعرفة) ؛ فهنا تنتظم المعرفة بمجملها ، علمية وغير علمية ، فى نسق يرتبط بمثل أخلاقى أعلى للدولة والأمة يستنبط من ذاته كل شىء . فالمعرفة هنا معرفة تأملية ترتبط بمبدأ يعلو على الشعب والعلماء معا ، هو الحياة أو الروح ، وتلك هى - ببساطة - الفلسفة الألمانية فى طبعتها الهيجلية أساسا .
وفى الحالتين يستند العلم إلى الدولة ، سواء كانت الدولة التى تمثل الشعب فى حكاية التنوير الفرنسية ، أو الدولة التى تمثل الروح فى الحكاية الألمانية .

والآن تتمثل مشكلة المشروعية على الوجه الآتى :
فى عصر سيادة حكايتى التنوير والروح كان العلم يكتسب منهما المشروعية الاجتماعية ، ولم يكن يستمدها من ذاته . غير أن العلم مع تقدمه طبَّق على نفسه قواعده العلمية وعزل نفسه عن الفلسفات التى منحته المشروعية . فمع اتصال العلوم فيما بينها وتداخل حدودها تفتتت الكليات الجامعية ونشأت المعاهد المتخصصة ، وبذلك انفصل العلم عن الكل الهيجلى المتمثل فى الجامعة . أما من حيث الصلة بحكاية التنوير ، فقد تبين أنه لا توجد رابطة واضحة بين العبارة العلمية الصحيحة والتشريع السليم ، إذ يمكن أن نبنى على نفس الحقيقة العلمية اختيارات اجتماعية مختلفة أو حتى متناقضة ، دون أن يكون العلم قادرا على حسم التناقض . يضاف إلى ذلك أن التحول نحو الاهتمام بوسائل الفعل وليس غاياته بسبب ازدهار التكنولوجيا أدى إلى سقوط الحاجة إلى الفلسفات الكبرى التى قدمت فيما سبق نوعا من المبررات الغائية للعلم . وبالتالى انعزلت الفلسفة فى المنطق وتاريخ الأفكار ، وأصبح العلماء أسرى تخصصاتهم التى تزداد تشعبا ، وتفتتت اللغة العلمية إلى لغات متخصصة .
وليس معنى ذلك أن العلم قد انفصل تماما عن المجتمع ، فما زال العلم فى حاجة للحصول على مشروعية اجتماعية تبرر حصوله على التمويل اللازم . وهو ما يتضح من لجوء العلماء إلى أجهزة الإعلام للحديث عن اكتشافاتهم ومزاياها . غير أن هذه المشروعية أصبحت ـ إن أمكن القول ـ "بالقطعة" ، لكل فرع علمى ولكل مشروع بحثى على حدة . وأصبح تنظيم هذا التكاثر الكبير للخطابات العلمية يتم عن طريق ما يسميه ليوتار بـ"الأدائية" .. أى وفقا لحسابات المدخلات والمخرجات : كم يتكلف ذلك وما هو العائد المنتظر منه ؟ وأصبح مطلوبا من العلم أن يكون قابلا لهذا القياس البراجماتى حتى ينال مشروعيته الأدائية .
ويرصد ليوتار تطورا آخر مصاحبا لذلك ، هو سقوط الحتمية العلمية ، حيث ثبت أن العلوم وأسسها المنطقية تتمتع بصحة محدودة ، لا مطلقة ، وبالتالى أصبحت النظريات السائدة فى كل فرع علمى تتحدد عن طريق إجماع الخبراء على أسس براجماتية بدلا من تصور أنها تستند إلى صواب مطلق . ويطلق ليوتار على هذا التطور "سقوط الـ ميتا - لغة" أو اللغة المؤسِّسة ، لأن القواعد التى يُقبل على أساسها البرهان العلمى الآن سقط الاعتقاد بصحتها المطلقة ، وأصبحت متغيرة بالنسبة للفروع المعرفية المختلفة . وبمعنى آخر فإن هذا اللفظ المجرد : العلم ، لم يعد يشير إلى منهج علمى واحد واضح بذاته يكمن خلف كل العلوم ، وإنما إلى مناهج عديدة تستند إلى إجماع العلماء فى كل علم على حدة . ومن شأن هذا التطور بالطبع أن يُفقد العلم أكثر فأكثر قاعدته الحكائية القديمة الموحدة التى كانت تمنحه المشروعية ، وأصبح سؤال المشروعية إذن باطنا فى العلم ذاته ، وجزءا لا يتجزأ منه .
يطرح ليوتار من خلال هذا التحليل مشكلة جوهرية : فأولا، سقط ارتباط التقييم العلمى (صادق/ خاطئ أو زائف) بالتقييم الأخلاقى (عادل/ جائر) ، لصالح ارتباط العلم بالتكنولوجيا ، أى بالثنائية الأداتية (فعال/ غير فعال) ، وذلك لأن التكنولوجيا أصبحت - مع تعقد العلم - ضرورية لإنتاج العلم نفسه بما توفره من أجهزة ضرورية لإجراء الأبحاث والتجارب . كذلك فإن المختبرات العلمية أصبحت عالية التكلفة ، وبالتالى أصبح العلم خاضعا لمنطق الثروة وأصبح قوة إنتاج ولحظة فى دوران رأس المال ، تقاس فائدته مثل فائدة أى من مكونات رأس المال بقدرته على زيادة الأرباح ، وبالتالى أصبح العلم يعمل من أجل دعم السلطة . ولذلك تختفى الجامعة الديمقراطية لضعف أدائها ، ويصبح هدف نظام التعليم بمجمله إمداد المجتمع بمهارات تشغل المواقع المطلوبة ، وأصبح الطالب بالتالى يبحث فى دراسته عما هو فعَّال ، لا عما هو صادق (بمعايير الصحة العلمية) أو عادل (بالمعيار الأخلاقى) .
وهنا يدافع ليوتار عن استقلال العلم ويقلب حكاية التحرر ؛ ففى حكاية التحرر - كما نتذكر - كان العلم يستمد مشروعيته من ضرورته للحرية ... أما الآن فإن ليوتار يدافع عن الحرية باسم ضرورتها للعلم . يواجه ليوتار التهديد الذى توحى به صيغة لومان Luman التى تقول بأن التغيرات الحديثة فى المعرفة والمجتمع ستؤدى إلى أن يصبح الإجماع مسألة إجراءات أدائية لمجرد استكمال الشكل وإضفاء المشروعية على النظام . ويتحسب ليوتار من نشوء تحالف العلم والتكنولوجيا تحت سيطرة رأس المال ، وما يترتب على ذلك من أن تصبح الخيارات المطروحة محسومة سلفا بفعل سلطة التكنوقراط . وهو يطرح المسألة كالآتى : أن سقوط الحكايات الكبرى وتحول العلم إلى جزر متناثرة من أنواع عديدة من المنطق ومبادئ الإجماع العلمى ، وهيمنة التكنولوجيا وضرورتها لتوفير إمكانيات تقديم البرهان على أى فرض علمى .. كل ذلك من شأنه أن يجعل التحكم فى الأساس التكنولوجى للبحث العلمى وسيلة لتقرير ما هو صادق علميا، لأن غير المرغوب فيه سيصبح غير قابل للبرهنة على صحته .
وفى مواجهة ذلك يؤكد ليوتار على أن العلم الحديث فى وضعه الحالى أصبح - على العكس - بسبب ميكنة جمع المعلومات ، يعتمد على الخيال والقدرة على ترتيب روابط بين سلاسل (علوم) مختلفة ، وبالتالى اختراع ألعاب لغة جديدة (أى علوم جديدة) ، أو ابتكار نقلة جديدة فى أى علم من العلوم ؛ ولأن سؤال المشروعية أصبح محايثا للعلم ، ولأن العلم المعاصر يقول بأن جميع الانتظامات هى حالات خاصة من الفوضى (نسبة إلى نظرية الفوضى فى الرياضيات) أو التناحر والصراع ، فإن النظرية أصبحت مفيدة علميا ليس بقدر مساهمتها فى دعم النظام ، ولكن بقدر قدرتها على توليد أفكار جديدة ، وإنتاج مجهولات أكثر من المعلومات . وذلك كله لا يتفق مع النسق الحتمى التجارى الأداتى القائم على حساب المدخلات والمخرجات ، والذى يفترض وجود نسق منتظم . فلا يوجد أى أساس للتنبؤ بالاكتشافات .. وبالتالى يسبق الابتكار بالضرورة المشاريع العلمية المحددة التى تطالب بتمويل محدد وواضح الهدف . ويطلق ليوتار على ذلك كله اسم "البارالوجيا" أو الخطاب الهامشى (بترجمة أحمد حسان) ، أى التفكير غير التقليدى الخارج على القواعد ، ويقدم هذه البارالوجيا إذن باعتبارها مطلب ضرورى للعلم فى اللحظة المعاصرة حتى يواصل تطوره .
وباختصار يقلب ليوتار حكاية التحرر : أصبح التحرر مطروحا كمطلب باسم العلم ومن أجله ؛ أصبح مطلوبا فتح خزائن المعلومات أمام الجميع ، كما يجب التخلى عن هدف الإجماع العلمى أو الاجتماعى ؛ فالإجماع ليس سوى حالة خاصة من حالات النقاش ، فغاية النقاش هى بالضبط ، وعلى العكس ، البارالوجيا ذاتها ... فهى المصدر الممكن لمشروعية العلم بوصفه نسقا مفتوحا ابتكاريا .
ومعنى ذلك كله بشكل واضح أن ليوتار يقدم هنا صيغة للقتال من أجل الحرية/ العلم . وكما يذكر فى بداية تقريره : “أن تتكلم فهذا يعنى أنك تقاتل” ، فكتابه "الوضع ما بعد الحداثى" هو دق لأجراس الخطر لأهداف معينة ، أمام احتمالين ممكنين للتطور الناتج عن الوضع ما بعد الحداثى، أحدهما يسميه ليوتار خيارا إرهابيا ، وبتجسد فى نظرية Luman عن الإجماع الناتج عن إجراءات إدارية ، لأنه يؤدى إلى تصفية الخصم الذى يخرج عن قواعد اللعبة الإدارية ، بمنع التمويل كما مر بنا ، أو حتى التصفية فى نطاق العلم نفسه ، باستبعاد الأفكار التى تهدد بنسف قواعد اللعبة وتهميشها وعزلها ، وإن كان يقر هو ذاته بأن هذا النوع الأخير من التصفية حقيقة اجتماعية وإن كانت لا تنتمى إلى "براجماتيات العلم" فى حد ذاتها ، وتعيقه .
ويقدم فريدريك جيمسون فى تصديره للكتاب مناقشة مهمة وممتعة تضع ليوتار فى إطار الفكر الفرنسى التحررى فى تاريخ مواجهته المتواصلة مع نموذج الكلية الفلسفية الألمانى وامتداداته حتى مدرسة فرانكفورت . ويلاحظ ببراعة أن منطق ليوتار نفسه يشير إلى أن الحكايات الكبرى لم تنته وإنما تحولت من إطار فكرى على السطح إلى طريقة باطنية فى التفكير والسلوك . كذلك يربط جيمسون ليوتار بتقاليد "الحداثة العليا" التى بدأت مع هذا القرن من خلال المدارس الفنية والأدبية ، السريالية وغيرها ، وقامت على مشروع افتراضى يقوم على تغيير العالم ومواجهة الحداثة عن طريق الثقافة . ومع ثبوت فشل تغيير العالم بالثقافة ، يتجه ليوتار إلى تحويل تلك الطاقة الثورية إلى العلم ، ومن ثم فهو يندرج - فى رأى جيمسون - ضمن أفق "الحداثة العليا" وليس "ما بعد الحداثة" . وأخيرا يقرر جيمسون أن ليوتار إنما يعلن من خلال تقريره هذا رفضه لأن يكون مُنظِّرا للتكنوقراطية والنظام ، غير أنه ينبه إلى أن مواجهة التهديد باحتكار المعلومات أصعب بكثير من أن ترتكز إلى البارالوجيا ، وإنما هى تحتاج إلى فعل سياسى أصيل .

ربما يبدو للوهلة الأولى أن القضية التى يطرحها هذا الكتاب غريبة عنا تماما . وبالفعل فإن السؤال عمن يحق له توجيه العلم ليس مطروحا هنا ، لأنه ، ببساطة ، لا يوجد أى طرف يمتلك أصلا القدرة على هذا التوجيه . وعلى سبيل المثال ، فحين عرفنا بنجاح استنساخ النعجة الشهيرة "دوللى" ، لم يكن بمقدور "قادة الرأى" هنا ، بصرف النظر عن اختلاف آرائهم وانتماءاتهم ، سوى إصدار بيانات وتحرير مقالات ، تحوى آراءً يعلم الجميع أن فاعليتها الموضوعية بصدد القضية المطروحة لا تساوى أكثر من صفر ! بغير أى أوهام فى أنها قد تؤثر على القرار الذى سيُتخذ بصدد الاستنساخ بأى مقدار .
ومع ذلك فمن المؤكد أن كل تدبير يُتخذ فى مركز العالم يتعلق بالمعرفة أو غيرها إنما يؤثر ، طال الزمن أم قصر ، على أبعد فرد فى أصغر قرية على سطح الكوكب . غير أنه إذا كان العلم لا يلعب دورا مهما فى حياتنا ، ولا يلعب إنتاجنا العلمى دورا مهما فى العالم ، فإن مثل هذه المناقشات ليست نوعا من العبث المحض .. فثمة حاجة ملحة من جانب حركة الثقافة المصرية ، فى ارتباطاتها مع السلطة ، لتناول مثل هذه القضايا من خلال إصدار تعليقات أخلاقية . فمن خلال هذا النوع من التعليقات تمارس الثقافة المصرية وظيفتها داخل السلطة ، وتنتعش من خلال إنتاج كتابات تُقرأ وتنتقد أو تؤيَّد . ذلك هو المقر المعترف به لـ "إبداعنا" ، والذى "يشرفنى" أننى مضطر لممارسته جزئيا الآن !!
ولكن ربما تطلب الأمر تناول إشكاليات خطاب ليوتار ذاته أولا ، لتعيين اختلاف مواقع الثقافة فى "عصر ما بعد الحداثة" .
نلاحظ أولا أن مناورة ليوتار لإنقاذ الحرية باسم العلم ترمى إلى إخراج العلم أولا من آليات المجتمع الرأسمالى المعاصر ، باسم المنطق الخاص بالعلم .. المسمى البارالوجيا . ويستطيع العلم أن يخضع لمنطقه الخاص ، ولو جزئيا ، بفتح بنوك المعلومات للجمهور ، و"نزع المشروعية" - إن أمكن القول - عن الإجماع كأفق للعلم . غير أن العلم ، حتى فى ظل حكاية التحرر ، كما يشير ليوتار ، ظل مرتبطا بالدولة والنظام . وبصفة عامة يظل العلم ، برغم خصوصيته ، منتَجا اجتماعيا كغيره من المنتجات الاجتماعية . ولم يحقق العلم تطوره المشهود إلا فى ظل الرأسمالية ، فمنطقه ليس خارجا عن المنطق العام للمجتمع الرأسمالى . وإذا كان ليوتار لا يطمح فى الواقع إلى قلب النظام بمجمله ، مكتفيا بالمقاومات الصغيرة (التى أوصى بها ميشيل فوكو أيضا) ، بهدف إتاحة متنفس لحرية العلم بالوسائل التى اقترحها .. فإن الأمر يستدعى التساؤل عما يبغيه ليوتار فعلا ، وما هى أسس خطابه ، من خلال النظر فى تفرقته بين الخضوع القديم والخضوع الحديث للعلم ، ومشروعه لتحريره ، أو الدفاع عن الحرية من خلال الدفاع عنه.
ويبدو أن المشكلة التى تواجهها الإنتليجنسيا الأوروبية ، أو الفرنسية بصفة خاصة ، إنما تتعلق بالتهديدات التى تحيق بالدولة الديمقراطية من جراء تنامى نفوذ الشركات الكبرى وثروتها . فالدولة ، من حيث هى جزيرة لحكاية الحرية ، مهددة ، والعلم أصبح يعتمد أكثر فأكثر على غيرها، و"الجامعة الحرة" أصبحت متهمة بانخفاض الأداء .. ويصاحب ذلك بالطبع بلترة proletarization الإنتليجنسيا .. فالعالِم يصبح ، مثله مثل عامل المصنع ، ترسا فى آلة علمية عبارة عن مختبر كبير تابع للشركة ، وتسقط بالتالى أوهام الإنتليجنسيا المثقفة (المختلفة عن العلماء) عن قيادة الرأى ، ويبرز من خلال ذلك شبح Luman وإجماعه الإدارى .
يضاف إلى ذلك أنه من المفهوم طبعا أن الحلول التى يقدمها ليوتار لا تنشئ مساواة إلا على طريقة "دعه يعمل" ـ أى التكافؤ النظرى للفرص . فاستخدام معلومات متاحة يتطلب تربية ووضعا اجتماعيا وعادات معينة ، وتحررا نسبيا من ثقل الضغوط الاقتصادية … الخ . وعلى سبيل المثال ، لم تجعل المكتبات العامة العظيمة من كل مواطن فرنسى مثقفا . ومن خلال ذلك يتضح أن مشروع ليوتار إنما يتصل بالدفاع عن مفهوم معين للحرية ، يقوم على وجود هامش مفتوح مبدئيا للمبدع الحِرَفى (أى المعتمد على نفسه خارج المؤسسات كالحرفيين المستقلين) ؛ هامش تكفله دولة الحرية البرجوازية كما نعهدها .. وهو الهامش الذى يعنى ببساطة فرصة أفضل للتفاوض بين المبدع والمؤسسة من خلال موقع مستقل نسبيا .. فالعبقرى الحِرَفى مآله فى النهاية هو النظام ومؤسساته ، حيث أنها ، وحدها ، التى تستطيع أن تحقق أفكاره المبدعة ، ولكن طبعا على النحو الذى يناسبها .
والأهم من ذلك أن ليوتار ، من خلال هذا التصور الحِرَفى المستند إلى الدولة الديمقراطية الذى يدافع به عن سلطة الإنتليجنسيا ، يضع تصوره عن نظرية ألعاب اللغة (أى إبداع اللغة فى المجالات العلمية وغيرها) ، حيث يصوِّر تنافس الآراء ـ بشىء من التبسيط منَّا ـ بنقلات لعبة الشطرنج ، تلك الحرب السلمية التى تستبعد العنف ، حيث يجلس كل لاعب بأدب شديد منتظرا انتهاء منافسه من التفكير .. وإتمام لعبته . وهو تصوير ربما لا يصدق إلا بصدد حوار بين أصدقاء ذوى قلب صاف وبغير أهداف مادية . ويعترف ليوتار بالفعل أن هذه الصورة إنما تتعلق بالممارسة العلمية فى حد ذاتها ، أى بوصفها علمية ، ولا تنطبق على الواقع الذى يحوى ، حتى داخل الوسط العلمى ، على ممارسات قمع لـ "ألعاب اللغة" الخطيرة التى تهدد بقلب نظريات بأكملها أو تغيير قواعد اللعبة . فمن خلال هذا التصور المنهجى يؤسس ليوتار خصوصية العلم كبؤرة مقاومة تتمتع باستقلال نسبى عن النظام .
وطبعا لا تجرى الأمور على هذا النحو .. فالإدانة التى لاحقت جارودى وهو يعبر عن رأيه ، أيا كان هذا الرأى ، ليست سوى أحد الأمثلة الأكثر بروزا على طبيعة الممارسة المعرفية فى المجتمع المعاصر فى أزهى صوره ديمقراطية ..
وأخيرا .. ربما توحى طريقة مناقشة ليوتار لقضيته بطريقة فى الكلام معروفة عندنا تماما .. فالبارالوجيا المحتفى بها يدافع عنها ليوتار بطريقة أداتية : حافظوا على الحرية حتى تحافظوا على التقدم العلمى .. هذه هى صيحة ليوتار . وهى طريقة فى الكلام تشبه ما يقوله البعض عندنا للحكومة : حافظوا على حد أدنى من دعم الفقراء حتى تحافظوا على استقراركم السياسى !!
فأن تتكلم على طريقة ليوتار يعنى أن تقاتل بطريقة صعبة للغاية وظهرك إلى الحائط ، كأحد أبطال نمط من الحرية الحِرَفية آخذ فى الزوال ..

سوف يلقى هذا التحليل ضوءا أوضح على الطريقة التى بها يتم تناول قضية ليوتار هنا . فبطل الثقافة عندنا ، ومنذ البداية ، ليس حِرَفيا مدعوما بمؤسسات ديمقراطية ، وإنما هو رجل دولة أو صفوة ذو طبيعة وتوجهات إصلاحية استنادا إلى الدولة ذاتها .. وذلك بصرف النظر عن التقسيمات بين علمانيين وإسلاميين ، وبين تقدميين ورجعيين ... الخ . بطل الثقافة عندنا يعتلى منبر الوطن أو الدين أو الاشتراكية ليتحدث باسم المطلق ، ويحول الأفكار إلى عقائد ، ويلصق بمبدئه القدرة على قيادة الدولة نحو توليها مهامها "الطليعية" المرجوة فى مواجهة الغرب واللحاق به وتمدين السكان وتوعيتهم وتثقيفهم () .
والمثقف يساوم الدولة هنا بوصفه صاحب مشروع أكثر سلطوية ، وليس من خلال قدرته العلمية .. فعبر المزيد من المطالبة بالتحكم فى السكان ، ومزيد من لوم الدولة على "رخاوتها" وضعف تدخلها وتخليها عن "مهامها التاريخية" ، ومزيد من لوم السكان على سلبيتهم ، يحصل المثقف على وضعه كقائد رأى . ليس المطروح هنا هو الحرية الحِرَفية ، وإنما الوصاية الإدارية ـ الثقافية . وتُستخدم جميع الوقائع على هذا النحو : الأفلام الجنسية الغربية التى ستهدم الأخلاق ، عبادة الشيطان التى تدل على تخلى الدولة عن وظيفتها فى حماية الأيديولوجيا الدينية أو الوطنية ، أو حتى التأثير البترولى المشجع للأصولية والذى يهدد وحدة الوطن ... الخ . ثمة مطالب من كل نوع مرفوعة باستمرار إلى الدولة لتمارس الوصاية وتقمع الطرف الآخر باعتباره عائقا أمام الهدف العظيم لما يسمى "المجتمع" وقيمه ومصالحه ... الخ .
وتعمل هذه الآلية من خلال افتراض ضمنى معين ، هو وجود ضرورة لحماية "ضعاف العقول" من العامة ، حتى لا يقعوا ، مثلا ، ضحية لـ "الأفكار المستوردة" أو "أمراء الإرهاب" ، أو .. أو ... وكل ذلك من خلال الدولة . وبالتالى فالمشكلة المثارة بصدد ثورة المعلومات والاتصال هنا هو كيفية الحد من مخاطرها على احتكارات الأيديولوجيات المختلفة . وبصفة عامة يمكن القول بأن كل استبداد يتطلب طبعة أو أخرى من فكرة "حماية الضعيف" .. فيا أيها الضعيف .. كم من كنوز القوة تنبثق منك دون أن تدرى !!!
ومن خلال هذه المقولة الضمنية والجوهرية : مقولة "المواطن ضعيف العقل" ، يستحيل أن تُطرح قضية المعلوماتية ضمن أفق مقولة الحرية ، ويستحيل فهم الإشكالية ذاتها . فالمثقف هنا يطالب بدور فى قيادة الدولة ، ومن خلال ذلك يطرح قضية المعلوماتية وفق نسق قيمى/ دينى ، نسق يتألف من حوار وصراع حول أديان مثل دين الحاكمية أو دين التنوير . والمعلوماتية ، فى ظل ترسانة صراع من هذا النوع ، لا بد وأن تُطرح كقضية تتعلق بالأخلاق .. وحماية الشباب ، سواء من "الانحراف الجنسى" أو من "التأثير على الانتماء الوطنى" . وثمة أمثلة لا تُعد على الحركة ضمن هذا الأفق .. فمنذ حوالى سنة أو أكثر قليلا ناقشت مجلة "الشباب" الحكومية "قضية" مراسلات الشباب عبر الإنترنت وغيره مع شباب الخارج واحتكاكهم بالتالى بتقاليد وديانات "غير مسموح بها" أو "خطرة" ، وكيفية حمايتهم .. إلى آخر هذا الهراء الثقافى السائد .
وبالمقابل يغيب تماما عن أفق النقاش تلك المفارقة الساخرة ، حيث ستشهد سنة 2004 محو أمية الكمبيوتر فى اليابان ، وستشهد أيضا ــ ما لم تحدث طفرة غير عادية فى الجهود الحكومية ـ أمية أبجدية لا تقل عن 40 % عندنا . تغيب القضية عن النقاش ، إلا على سبيل التندر واستخدامها كسلاح فى الصراعات ضد الأصولية ضمن مشروع اتهامها بالتجهيل . غير أن أثر استفادة قطاعات ضيقة من الإنتليجنسيا المصرية من التقدم العالمى واحتكاكها بعصر المعلوماتية ، وأثر ذلك على الخريطة الاجتماعية ، وحرمان الأغلبية من أى حق فى تقرير الأوضاع أو حتى فهمها .. فأمر لا يكاد يثير أى انتباه . فالتكنوقراطية هنا هى طموح للإنتليجنسيا المثقفة "التقدمية" ، وليست مشكلة تستدعى التفكير فى حلها.
والخلاصة أنه بينما يفكر المثقف الفرنسى جان - فرانسوا ليوتار فى المعلوماتية كإشكالية من إشكاليات "الوضع ما بعد الحداثى" كتهديد لحرية المثقف والعالِم ضمن المنظور الحِرَفى التقليدى للحرية ، يفكر المثقف المصرى فى ذات الإشكالية كمناسبة لدعم دوره السلطوى فى "حماية الشعب من نفسه" ، وتأكيد أهميته على صعيد الدولة . وفى الحالتين ثمة مشكلة عامة يطرحها العصر ، هى كيفية تجاوز قضايا الثقافة ، والحرية أيضا ، بتحريرها من الأفق القومى والمؤسسى، ومن الوصاية الصريحة - هنا - أو الضمنية - هناك - التى تنطرح بفعل وجود المثقف ضمن هذه الأطر ودوره التاريخى فيها .



المصدر
__________________
الحمد لله في السراء والضراء .. الحمد لله في المنع والعطاء .. الحمد لله في اليسر والبلاء


Save
رد مع اقتباس