فيسبوك تويتر RSS


  #13  
قديم March 12, 2009, 02:49 AM
 
رد: ممكن رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران

نيويورك مساء السبت 21 أيار 1921

يا مي يا صديقتي

" كثيراً وبحنو – كثيراً وبحنو" , هذه حقيقة بسيطة ظهرت لي منذ حين فانفتحت في روحي نوافذ وأبواب جديدة , ولما قررتها رأيتني واقفاً أمام مشاهد ما كنت أحلم بوجودها في هذا العالم.

" كثيراً وبحنو – كثيراً وبحنو" , ومن هذا الكثير وهذا الحنو قد تعلمت الصلاة بفرح والحنين بطمأنينة والامتثال بدون انكسار. لقد عرفت أن الرجل المستوحد يستطيع أن يغمر وحدته بنور " الكثير" ويزيل الاجهاد في عمله بحلاوة " الحنو" . وعرفت أن الغريب المستوحش يستطيع أن يكون أباً وأخاً ورفيقاً وصديقاً- وفوق كل ذلك أن يكون طفلاً فرحاً بالحياة. " كثيراً وبحنو" إن في هذا الكثير وهذا الحنو أجنحة تخيم وأيادٍ تبارك. صحتي اليوم أحسن مما كانت عليه منذ شهر , لكنني لم أزل مريضاً, وهذا الجسم الضعيف ما برح بدون نظام وبدون وزن وبدون قافية. وأنت تريدين أن أقول لك مم أشكو , فإليك خلاصة ما قاله الأطباء :

" اضطراب عصبي سببه الاجهاد ونقص في التغذية أدى إلى اضطراب في الجهاز العام للقلب فكان تسرع النبض نتيجة حتمية له, وقد بلغت نبضاته 115 في الدقيقة في حين أن النبض الطبيعي هو في حدود (80)."

أي يا ميّ, ففي العامين الغابرين قد حمّلت جسمي فوق طاقته, فكنت أصور ما دام النور وأكتب حتى الصباح وألقي المحاضرات وأختلط بجميع أنواع البشر – وهذا العمل الأخير هو أصعب شيء أمام وجه الشمس- وكنت اذا جلست إلى مائدة الطعام أشغل نفسي بالكلام والمتكلمين حتى تحضر القهوة فأتناول منها الشيء الكثير وأكتفي بها طعاماً وشراباً. وكم مرة عدت إلى منزلي بعد منتصف الليل وبدلاً من الخضوع إلى سنة الله في أجسامنا كنت أنبّه ذاتي بالحمامات الباردة وبالقهوة القوية وأصرف ما بقي من الليل كاتباً أو مصوراً – أو على الصليب. ولو كنت شبيهاً بقومي سكان شمال لبنان لما قبضت عليّ العلة بهذه السرعة. هم كبار الأجسام أقوياء البنية أما أنا فبعكس ذلك ولم أرث عن أولئك الأشداء حسنة واحدة من حسناتهم الجسدية. ها قد أشغلت فسحةً كبيرة بالكلام عن مرضي, وكان الأحرى بي أن لا أفعل – ولكن ما العمل وأنا لا أستطيع إلا الجواب على كل سؤال من سؤالاتك الممنطقة بحلاوة الاهتمام " والرغبة والتمني".

أين الرسالة الطويلة المقطعة المكتوبة بقلك رصاص وعلى ورق بلدي مربع التسطير في حديقة جميلة أمام صف من الذهبيات؟ أين رسالتي يا مي؟ لماذا لم تبعثي بها إلي؟ أريد الحصول عليها, أريدها بكلياتها وجزئياتها. أتعلمين مقدار رغبتي في الحصول على تلك الرسالة بعد أن قرأت نتفة منها- تلك النتفة القدسية التي جاءت فجراً ليوم جديد. أتعلمين أنه لولا خوفي من كلمة " وبجنون" لكنت بعثت إليك ليلة أمس برقية أرجوك فيها تسليم الرسالة إلى البريد؟

أترين فيَّ الطيبة يا ميّ؟ وهل أنت بحاجة إلى الطيبة؟ هذا كلام جارح بعذوبته فبما أجيب عليه؟ إذا كان في كياني يا صديقتي ما أنت في حاجة إليه فهو لك بكليته . ليست الطيبة فضيلة بحد ذاتها أما عكسها فجهالة- وهل تقطن الجهالة حيث " كثيراً وبحنو"؟

إذا كانت الطيبة في محنة الجميل وفي التهيب أمام النبيل وفي الشوق إلى البعيد والخفي- إذا كانت الطيبة في هذه الأشياء فأنا إذن من الطيبين, أما إذا كانت في غير هذه الأشياء فأنا لا أدري ما ومن أنا. وإني أشعر يا مي أن المرأة السامية تستلزم وجود الطيبة في روح الرجل حتى ولو كان جاهلاً.

حبذا لو كنت الساعة في مصر. حبذا لو كنت في بلادي قريباً ممن تحبهم نفسي. أتعلمين يا مي أنني في كل يوم أتخيل ذاتي في منزل في ضواحي مدينة شرقية وأرى صديقتي جالسة قبالتي تقرأ في آخر مقالة من مقالاتها التي لم تنشر بعد, فنتحدث طويلاً في موضوعها ثم نتفق على إنها أحسن ما كتبته حتى الآن. وبعد ذلك أنتشل من بين مساند فراشي بعض الأوراق وأقرأ قطعة كتبتها أثناء الليلة الغابرة فتستحسنها صديقتي قليلاً ثم تقول في سرها " يجب ألا يكتب وهو في هذه الحالة. إن تراكيب هذه القطعة تدل على الضعف والوهن والتشويش- عليه ألا يأتي بعمل فكري حتى يتعافى تماماً"- تقول صديقتي هذا في سرها وأنا أسمعه في سري فأقتنع بعض الاقتناع ثم لا ألبث أن أقول بصوت عالٍ " أمهليني قليلاً, أمهليني أسبوعاً أو أسبوعين فأتلو عليك قطعة جميلةً , جميلة للغاية". فتجيبينني بصراحة " يجب أن تمتنع عن الكتابة والتصوير وكل عمل آخر عاماً أو عامين, وإن لم تمتنع فأنا عليك من الساخطين!" – تلفظ صديقتي كلمة " الساخطين" بلهجة ملؤها " الاستبداد المطلق" ثم تبتسم كالملاكة فأحتار دقيقة بين سخطها وابتسامها, ثم أجدني فرحاً بسخطها وابتسامها- وفرحاً بحيرتي.

وعلى ذكر الكتابة – أتدركين مقدار سروري وابتهاجي وافتخاري بما ظهر لك من المقالات والحكايات في الشهور الأخيرة؟ ما قرأت لك قطعة إلى وشعرت بنمو وتمدد في قلبي, وما قرأتها ثانية إلا وتحولت عمومياتها إلى شيء شخصي فأرى في الأفكار والقوالب ما لم يره سواي وأقرأ بين السطور سطوراً لم تكتب إلا لي. أنت يا مي كنز من كنوز الحياة, بل وأكثر من ذلك- أنتِ أنتِ, وإني أحمد الله لأنك من أمة أنا من أبناها ولأنك عائشة في زمن أعيش فيه. كلما تخيلتك عائشة في القرن الماضي أو في القرن الآتي رفعت يدي وخفقت بها الهوا كمن يريد أن يزيل غيمة من الدخان من أمام وجهه.

بعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع أذهب إلى البرية فأسكن بيتاً صغيراً منتصباً كالحلم بين البحر والغابة – وما أجمل تلك الغابة , وما أكثر أطيارها وأزهارها وينابيعها. كنت في الأعوام الغابرة أسير وحيداً منفرداً في تلك الغابة. وكنت أذهب عشية إلى البحر وأجلس كئيباً على الصخور أو أرمي بنفسي إلى الأمواج كمن يريد أن يتملص من الأرض وأشباحها. أما في هذا الصيف فسأسير في الغابة وأجلس أمام البحر وفي روحي ما ينسيني الوحدة وفي قلبي ما يشغلني عن الكآبة.

أخبريني يا ميّ ما أنت فاعلة في هذا الصيف؟ أذاهبة إلى رمل الاسكندرية أم إلى لبنان؟ أذاهبة وحدك إلى لبناننا؟ أي متى يا ترى أعود إلى لبنان؟ أتستطيعين أن تقولي لي أي متى أتخلص من هذه البلاد ومن القيود الذهبية التي حبكتها منازعي حول عنقي؟

أتذكرين يا مي قولك لي مرة أن صحفياً في بيونيس آيريس قد بعث إليك برسالة يطلب فيها رسمك ومقالة من مقالاتك؟ لقد فكرت مرات عديدة في طلب هذا الصحفي وفي ما يطلبه جميع الصحفيين وكنت في كل مرة أقول متحسراً " لست بصحفي! لست بصحفي! لذلك يتعذر عليّ أن أطلب ما يطلبه الصحفيون. لو كنت صاحب مجلة أو محرر جريدة لطلبت رسمها بكل حرية, وبدون خجل, وبدون وجل, وبدون توطئة منسوجة من الألفاظ المرتعشة" كنت ولم أزل أقول هذا في قلبي, فهل سمع الذين اتخذوا قلبي وطناً لهم؟

ها قد انتصف الليل وللآن لم أخط الكلمة التي تلفظها شفتي وتلفظها تارة همساً وطوراً بصوت عالِ. إني أضع كلمتي في قلب السكينة فالسكينة تحتفظ على كل ما نقوله بحنو وحرقة وإيمان. والسكينة يا ميّ تحمل صلاتنا إلى حيث نريد أو ترفعها إلى الله.

أنا أذهب إلى فراشي. وسوف أنام الليلة طويلاً . وسوف أقول لكِ في الحلم ما لم أخطه على هذه الورقة. مساء الخير يا مي. الله يحرسكِ



جبران

********




نيويورك صباح الاثنين 30 أيار 1921


يا مي , يا ماري , يا صديقتي

( ماري هو اسم مي الأصلي , إلا أنها اختارت الثاني مختصرة اسم ماري إلى مي وهو الاسم العربي الجميل الذي تغنى به الشعراء. وقد غلب عليها واشتهرت به وأصبح اسمها الأدبي والشخصي.)

استيقظت الساعة من حلم غريب. ولقد سمعتك تقولين لي في الحلم كلمات حلوة ولكن بلهجة موجعة, والأمر الذي يزعجني في هذا الحلم ويزعجني جداً – هو أنني رأيت في جبهتك جرحاً صغيراً يقطر دماً. ليس في حياتنا شيء أدعى إلى التفكير والتأمل من الأحلام. وأنا من الذين يحلمون كثيراً, بيد أنني أنسى أحلامي إلا إذا كانت ذات علاقة بمن أحبهم. لا أذكر أنني حلمت في ماضيَّ حلماً أوضح من هذا الحلم, لذلك أراني مشوشاً مضطرباً مشغول البال في هذا الصباح. ماذا تعني رنة التوجع في كلماتكِ الجميلة؟ وما معنى الجرح في جبهتكِ؟ و أيّ بشري يستطيع أن يخبرني مفاد انقباضي وكآبتي؟

سوف أصرف نهاري مصلياً في قلبي. أصلي لأجلكِ في سكينة قلبي. وسوف أصلي لأجلنا.

والله يباركك يا ميّ ويحرسك



جبران



نيويوورك 9 أيار 1922


صديقتي الفاضلة.

تسألينني يا سيدتي ما إذا كنت وحيد الفكر والقلب والروح , فبما يا ترى أجيبك؟ أشعر أن وحدتي ليست بأشد ولا أعمق من وحدة غيري من الناس. كلنا وحيد منفرد. كلنا سر خفي. كلنا محجوب بألف نقاب ونقاب, وما الفرق بين مستوحد ومستوحد سوى أن الأول يتكلم عن وحدته والثاني يظل صامتاً. وقد يكون في الكلام بعض الراحة, وقد يكون في الصمت بعض الفضيلة.

لا أدري يا سيدتي ما إذا كانت وحدتي بما فيها من الكآبة مظهراً " لهوى بعض شخصياتي" أو برهاناً على عدم وجود شخصية في هذا الكائن الذي أدعوه " أنا" , لا, لا أدري. ولكن إذا كانت الوحدة عنوان الضعف فأنا بدون شك أضعف الناس.

أما مقالة" نفسي مثقلة بثمارها" فلم تكن " أنة شاعر في ساعة غمّ عابرة" بل " صدى لعاطفة عمومية قديمة مستتبة شعر ويشعر بها الكثيرون", وسيدتي تعلم أن ميلنا إلى سكب ما في أرواحنا في كؤوس الآخرين لأشد بما لا يقاس من الرغبة في الارتواء مما يسكبه الآخرون في كؤوسنا. تلك صفة لا تخلو من الغرور في بعض الأحايين ولكنها طبيعية.

ما أحسن قولكِ" إن كربة الوحدة وتباريحها تشتد وسط الجماهير". هذه حقيقة أولية . فكم مرة يجلس الواحد منا بين أترابه ومريديه فيحدثهم ويجادلهم ويشاركهم بالأقوال والأعمال- يفعل كل ذلك بإخلاص ومسرة, ولكن فعله لا يتعدى حدود الذات المقتبسة من عالم المظهر , أما ذاته الأخرى, ذاته الخفية, فتبقى ساكنة مستوحدة في عالم المصدر.

الناس, وأنا منهم, ميالون إلى الدخان والرماد, أما النار فيخافونها لأنها تبهر العين وتحرق الأصابع. الناس, وأنا منهم, منصرفون إلى درس ثنايا قشور بعضهم بعضاً , أما اللباب فيتركونه وشأنه لأنه لا يقع تحت حواسهم. وكيف يستطيع اللباب أن يظهر إلا بكسر القشرة؟ وليس من الأمور الهينة أن يمزق المرء قلبه ليرى الناس مكنونات قلبه. وهذه هي الوحدة يا سيدتي, وهذه هي الكآبة.

قد أسأت التعبير- وبشيء من القصد- عندما قلت لكِ في أواخر الصيف الغابر " منذ ستة أسابيع وأنا أحاول الكتابة إليكِ" كان يجب أن أقول" من ستة أسابيع وأنا أستأجر بعض الناس للاهتمام برسائلي لأن أعصاب يميني لم تكن صالحة للكتابة" ولم أحلم قط بأن لفظة " أحاول" ستتحول إلى مبضع في يد صديقتي. كنت أتوهم أن الأرواح المجنحة لا تسجن في قفص من الألفاظ. وكنت أتوهم أن الضباب لا يتحجر وكنت أتوهم وأتوهم وأجد الراحة والطمأنينة في أوهامي, حتى إذا ما طلع الفجر واستيقظت وجدتني جالساً على رابية من رماد وفي يدي قصبة مرضوضة وعلى رأسي اكليل من الشوك.. لا بأس فأنا المخطىء , أنا , أنا المخطىء يا " مي" .

أرجو أن تحقق الأيام رغبتك في السفر إلى أوربا . سوف تجدين , خصوصاً في إيطاليا وفرنسا, من مظاهر الفن والصناعة ما يسرك ويبهجك. هناك المتاحف والمعاهد, وهناك الكنائس القديمة الغوطية, وهناك آثار نهضة القرنين – الرابع عشر والخامس عشر , وهناك أفضل ما تركته الأمم المغلوبة والأمم المنسية. أوربا يا سيدتي مغارة لص غاوي خبير يعرف قيمة الأشياء النفيسة ويعرف كيف يحصل عليها.

كان بقصدي الرجوع إلى الشرق في الخريف الآتي. ولكن بعد قليل من التفكير وجدت أن الغربة بين الغرباء أهون من الغربة بين أبناء وبنات أمي. وأنا لست ممن يميلون إلى الهيّن ولكن القنوط فنون كالجنون.
تفضلي بقبول تحيتي مشفوعة بأحسن تمنياتي والله يحفظك.


المخلص
جبران خليل جبران



**



نيويورك 5 تشرين الأول 1923


لا يا مي , ليس التوتر في اجتماعاتنا الضبابية بل في اجتماعاتنا الكلامية. ما لقيتكِ في ذلك الحقل البعيد الهادئ إلا وجدتك الصبية العذبة العطوفة التي تشعر بكل الأشياء وتعرف كل الأشياء وتنظر إلى الحياة بنور الله وتغمر الحياة بنور روحها. لكن ما اجتمعنا بين سواد الحبر وبياض الورق إلا رأيتكِ ورأيتني أرغب الناس في الخصام والمبارزة – المبارزة العقلية المفعمة بالقياسات المحدودة والنتائج المحدودة.

الله يسامحكِ. لقد سلبتني راحة قلبي, ولولا تصلبي وعنادي لسلبتني إيماني.من الغريب أن يكون أحب الناس إلينا أقدرهم على تشويش حياتنا.
يجب ألا نتعاتب , يجب أن نتفاهم. ولا نستطيع التفاهم إلا إذا تحدثنا ببساطة الأطفال. أنتِ وأنا نميل إلى الإنشاء بما يلازم الإنشاء من المهارة والتفنن والتنميق والترتيب. قد عرفنا, أنتِ وأنا, أن الصداقة والإنشاء لا يتفقان بسهولة. القلب يا مي شيء بسيط ومظاهر القلب عناصر بسيطة, أما الإنشاء فمن المركبات الاجتماعية. ما قولكِ في أن نتحول عن الإنشاء إلى الكلام البسيط؟

" أنت تحيين فيَّ وأنا أحيا فيكِ , أنتِ تعلمين ذلك وأنا أعلم ذلك".

أليست هذه الكلمات القليلة أفضل بما لا يقاس من كل ما قلناه في الماضي؟ ماذا يا ترى كان يمنعنا عن التلفظ بهذه الكلمات في العام الغابر؟ أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية أم ماذا؟ منذ البدء عرفنا هذه الحقيقة الأولية فلماذا لم نظهرها بصراحة المؤمنين المخلصين المتجردين؟ لو فعلنا لكنا أنقذنا نفسينا من الشك والألم والندم والسخط والمعاكسات, المعاكسات , المعاكسات التي تحول عسل القلب إلى مرارة وخبز القلب إلى تراب. الله يسامحك ويسامحني.

يجب أن نتفاهم , ولكن كيف نستطيع ذلك بدون أن يقابل الواحد منا صراحة الآخر بالتصديق التام؟ أقول لكِ يا ماري, أقول لك أمام السماء والأرض وما بينهما, أنني لست ممن يكتبون " القصائد الغنائية" ويبعثون بها إلى الشرق وإلى الغرب كرسائل خصوصية, ولست ممن يتكلمون صباحاً عن نفوسهم المثقلة بالأثمار وينسون مساءً نفوسهم وأثمارها وأثقالها, ولست ممن يلمسون الأشياء المقدسة قبل أن يغسلوا أصابعهم بالنار, ولست ممن يجدون في أيامهم ولياليهم الفسحات الفارغة فيشغلونها بالمداعبات الغزلية, ولست ممن يستصغرون أسرار أرواحهم وخفايا قلوبهم فينشرونها أمام أية ريح تهب, أنا كثير الأشغال مثل بعض الرجال الكثيري الأشغال, أنا أتوق إلى العظيم والنبيل والجميل النقي مثل بعض الرجال الذين يتوقون إلى العظيم والنبيل والجميل والنقي, وأنا غريب مستوحد مستوحش مثل بعض الرجال المستوحدين المستوحشين رغم سبعين ألف صديقة وصديق. وأنا مثل بعض الرجال, لا أميل إلى البهلوانيات الجنسية المعروفة عند الناس بأسماءٍ حسنة ونعوت أحسن, وأنا يا مي مثل جاركِ وجاري, أحب الله والحياة والناس, ولحد الآن لم تطلب مني الأيام أن ألعب دوراً لا يليق بجاركِ أو بجاري.

لما كتبت إليك في البداية كانت رسالتي دليلاً على ثقتي بك, لما جاوبتني كان جوابك دليلاً على الشك. كتبت إليك مضطراً فأجبتني متحذرة. حدثتك عن حقيقة غريبة فأجبتني بكل لطف قائلة " عافاك يا شاطر, ما أحسن قصائدك الغنائية." أنا أعلم جيداً أنني لم أتبع إذ ذاك السبل المألوفة. وأنا لم أتبع ولن أتبع السبل المألوفة. وأنا أعلم أن تحذرك كان من الأمور المنتظرة, وهذا, هذا هو سبب ألمي , لأنني لم أنتظر المنتظر. لو كتبت لغير ميّ لكان عليّ أن أنتظر المنتظر. ولكن هل كان بإمكاني إظهار تلك الحقيقة لغير ميّ ؟

والغريب أنني لم أندم بعد ذلك. لا لم أندم بل بقيت متمسكاً بحقيقتي راغباً في إظهارها لكِ, فكتبت إليكِ مرات عديدة وكنت أحصل بعد كل مرة على الجواب اللطيف, ولكن من غير ميّ التي أعرفها. كنت أحصل على الجواب اللطيف من كاتمة أسرار ميّ , وهي صبية ذكية تعيش في القاهرة بمصر. ثم ناديت وناجيت, وكنت أحصل على الجواب نعم كنت أحصل على الجواب ولكن ليس من تلك التي " أحيا فيها وتحيا فيَّ " بل من امرأة متحذرة متشائمة تأخذ وتعطي معي كأنها المدّعي العمومي وكأنني المُدّعى عليه.

وهل أنا ناقم عليكِ؟

كلا , لكنني ناقم على كاتمة أسراركِ.

وهل حكمت عليك حكماً عادلاً أم غير عادل؟

كلا, لم أحكم أبداً. إن قلبي لا ولن يسمح بإيقافك أمام منصة القضاء, قلبي لا ولن يسمح لي بالجلوس عليها. إن ما بنا يا ميّ يقصينا عن جميع المحاكم. ولكن لي رأي في كاتمة أسراركِ وهو هذا :

كلما جلسنا لنتحدث تدخل علينا حضرتها وتجلس قبالتنا كمن يستعد لتدوين وقائع جلسة من جلسات مؤتمر سياسي. اسألك, اسألك يا صديقتي, هل نحن بحاجة إلى كاتمة الأسرار؟ هذا سؤال مهم. إذا كنتِ حقيقةً بحاجة إلى كاتمة أسراركِ فعليَّ إذاً أن أستدعي كاتم أسراري لأنني أنا أيضاً أريد تسيير أشغالي على الطراز الأول! أتريدين كاتم أسراري أن يكون معنا؟

انظري يا ميّ: ههنا طفلان جبلاويان يمشيان في نور الشمس, وهناك أربعة أشخاص امرأة وكاتمة أسرارها ورجل وكاتم أسراره. ههنا طفلان يسيران يداً بيد, يسيران بإرادة الله إلى حيث يريد الله, وهناك أربعة أشخاص في مكتب يتجادلون ويتحاجون ويقومون ويقعدون وكل منهم يحاول إثبات ما يظنه حقاً له على حساب ما يظنه بُطلاً في الآخر. ههنا طفلان, وهناك أربعة أشخاص, فإلى أية جهة يميل قلبك؟ قولي لي إلى أية جهة؟

آه لو كنتِ تعلمين مقدار تعبي مما لا لزوم له. لو كنت تعلمين مقدار حاجتي إلى البساطة. لو كنت تعلمين مقدار حنيني إلى المجرد, المجرد الأبيض, المجرد في العاصفة , المجرد على الصليب, المجرد الذي يبكي لا يستر دموعه , المجرد الذي يضحك ولا يخجل من ضحكة- لو تعلمين , لو كنت تعلمين.

" وماذا أنا فاعل في هذا المساء"؟

ليس الوقت مساءً. نحن في الساعة الثانية بعد منتصف الليل فإلى أي مكان تريدين أن نذهب في هذه الساعة المتأخرة ؟ الأفضل أن نبقى هنا , هنا في هذه السكينة العذبة. هنا نستطيع أن نتشوق حتى يدنينا الشوق من قلب الله. وهنا نستطيع أن نحب البشرية حتى تفتح لنا البشرية قلبها.

ها قد قبّل النعاس عينيك.

لا تنكري أن النعاس قد قبل عينيك. لقد رأيته يقبلهما. قد رأيته يقبلهما هكذا, هكذا كما يقبلون , فالقي رأسك هنا, إلى هذه الجهة ونامي, نامي صغيرتي, نامي فأنت في وطنكِ.

أما أنا فسوف أسهر , سوف أسهر وحدي . علي أن أبقى خافراً حتى الصباح. قد ولدت لأبقى خافراً حتى الصباح.

الله يحرسكِ. الله يبارك سهري . الله يحرسك دائماً.



جبران
  #14  
قديم March 12, 2009, 02:57 AM
 
رد: ممكن رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران

نيويورك بين 1 و 3 كانون الأول 1923


ما أعذب رسالتكِ في قلبي . ما أحلاها في قلبي يا ميّ .

ذهبت إلى البرية منذ خمسة أيام , ولقد صرفت الأيام الخمسة مودعاً الخريف الذي أحبه, ورجعت إلى هذا الوادي من ساعتين , رجعت مثلجاً , مجلداً , ذلك لأنني قطعت مسافةً أطول من تلك المسافة الكائنة بين الناصرة وبشرّي في سيارة مكشوفة ... ولكن ... ولكن رجعت فوجدت رسالتكِ , وجدتها فوق رابية من الرسائل , وأنتِ تعلمين أن جميع الرسائل تضمحل من أمام عينيَّ عندما أتناول رسالة من محبوبتي الصغيرة , فجلست وقرأتها مستدفئاً بها . ثم أبدلت أثوابي . ثم قرأتها ثانيةً , ثم ثالثةً , ثم قرأتها ولم أقرأ شيئاً سواها . وأنا يا مريم لا أمزج الشراب القدسي بعصير آخر .

أنت معي في هذه الساعة . أنتِ معي يا مي , أنتِ هنا , هنا , وأنا أحدثكِ ولكن بأكثر من هذه الكلمات, أحدث قلبكِ الكبير بلغة أكبر من هذه اللغة , وأنا أعلم أنكِ تسمعين, أعلم أننا نتفاهم بجلاءٍ ووضوح , وأعلم أننا أقرب من عرش الله في هذه الليلة منا في أيّ وقت من ماضينا.

أحمد الله وأشكره . أحمد الله وأشكره , فقد رجع الغريب إلى وطنه وعاد المسافر إلى بيت أمه وبيه .

في هذه الدقيقة مرّت بخاطري فكرةٌ جليلة , جليلة جداً . فاسمعي يا صغيرتي الحلوة : إذا تخاصمنا في المستقبل ( هذا إذا كان لا بد من الخصام) يجب أن لا نفترق مثلما كنا نفعل في الماضي بعد كل معركة. يجب أن نبقى, برغم الخصام, تحت سقف بيت واحد حتى نملّ الخصام فنضحك , أو يملنا الخصام فيذهب هازّاً رأسه.

ما قولك في هذا الرأي؟

لنتخاصم ما شئنا وشاء الخصام, فأنت من إهدن وأنا من بشري, ويبدو لي أن المسافة إرثية! ولكن مهما جرى في أيامنا الآتية علينا أن نبقى ناظرين إلى وجهينا حتى تمرّ الغمامة. وإذا جاءت كاتمة أسرارك وجاء كاتم أسراري, وهما دائماً سبب خصامنا, يجب أن نخرجهما من بيتنا بكل لطف, ولكن بأسرع وسيلة.

أنت أقرب الناس إلى روحي , أنتِ أقرب الناس إلى قلبي ونحن لم نتخاصم قط بروحينا أو بقلبينا. لم نتخاصم بغير الفكر والفكر شيءٌ مكتسب , شيءٌ نقتبسه من المحيط , من المرئيات , من مآتي الأيام . أما الروح والقلب فقد كانا فينا جوهريين علويين قبل أن نفتكر.

وظيفة الفكر الترتيب, وهي وظيفة حسنة ولازمة لحياتنا الاجتماعية ولكن لا مكان لها في حياتنا الروحية القلبية . يستطيع الفكر " الجليل" أن يقول " إذا تخاصمنا في المستقبل يجب ألا نفترق" , يستطيع الفكر أن يقول كلمة واحدة عن المحبة لا يستطيع أن يقيس الروح بمقاييس كلامه ولا يستطيع وزن القلب بموازين منطقه.

أحبُّ صغيرتي, غير أنني لا أدري بعقلي لماذا أحبها, ولا أريد أن أدري بعقلي. يكفي أنني أحبها. يكفي أنني أحبها بروحي وقلبي, يكفي أنني أسند رأسي إلى كتفها كئيباً غريباً مستوحداً فرحاً مدهوشاً مجذوباً , يكفي أن أسير إلى جانبها نحو قمة الجبل وأن أقول لها بين الآونة والأخرى " أنتِ رفيقتي , أنتِ رفيقتي".

يقولون لي يا ميّ أنني من محبّي الناس, ويلومني بعضهم لأنني أحب جميع الناس , نعم , أحب جميع الناس, وأحبهم بدون انتخاب وبدون غربلة, وأحبهم كتلةً واحدة , أحبهم لأنهم من روح الله ولكن لكل قلب قبلة خاصة , لكل قلب وجهة ذاتية يتحول إليها ساعات انفراده , لكل قلب صومعة يختلي فيها ليجد راحته وتعزيته, لكل قلب قلب يشتاق إلى الاتصال به ليتمتع بما في الحياة من البركة والسلامة أو لينسى ما في الحياة من الألم.

شعرتُ منذ أعوام بأنني وجدت وجهة قلبي , وكان شعوري حقيقة بسيطة واضحةً جميلة, لذلك تمردت على القديس توما عندما جاء مشككاً مستفحصاً. وسوف أتمرد على القديس توما وبنصر القديس توما حتى يتركنا في خلوتنا السماوية مستسلمين إلى إيماننا السماوي.

ها قد بلغنا ساعةً متأخرة من الليل ولم نقل بعد سوى القليل القليل مما نريد أن نقوله. الأفضل أن نتحدث ساكتين حتى الصباح . وعند الصباح ستقف صغيرتي المحبوبة بجانبي أمام أعمالنا الكثيرة . وبعد ذلك, بعد إنقضاء النهار ومشاكله , سنعود ونجلس أمام هذا الموقد ونتحدث.

والآن قرّبي جبهتك , كذا, والله يباركك , والله يحرسكِ



جبران



*******




مساء الأحد

نيويورك 2 كانون الأول الساعة العاشرة



لقد كان يومنا هذا مفعماً بالأعمال. منذ الساعة التاسعة صباحاً حتى هذه الساعة ونحن نودع قوماً لنسلم على قوم آخرين. غير أنني كنت أنظر نحو رفيقتي بين الدقيقة والدقيقة وأقول لها: أحمد الله وأشكره، أحمد الله وأشكره فقد تلاقينا ثانيةً في غابتنا وفي جيب كل منا رغيف من الخبز بدلاً من كتاب أو لوح تصوير. أحمد الله وأشكره فقد عدنا لنرعى قطيعنا في الوادي الهادئ بعد أن كنا أستاذين في مدرسة! أحمد الله وأشكره لأن مريم الحلوة تسمعني صامتاً مثلما أسمعها صامتةً، وتفهمني مشغوفاً مثلما أفهمها عطوفة.

لقد حمدت الله وشكرت النهار وطوله لأن مي كانت طول النهار تتكلم بلساني وتأخذ بيدي وتعطي بيدي. وكنت طول النهار أنظر بعينيها فأرى اللطف في وجوه الناس، وأصغي بأذنيها فأسمع العذوبة في أصواتهم.

وأنتِ تسألين عن صحتي، وعندما تسألين عن صحتي تتحول بنيّتي إلى أم كلها حنان. صحتي جيدة جداً. فقد ذهبت تلك العلة وتركتني قوياً متحمساً رغم البياض الذي تركته في شعر صدغيَّ! والغريب أنني دوايت نفسي بنفسي فكنت عملياً اجرائياً بعد أن تقرر لدي أن الأطباء خياليون هائمون في أودية الظنون والتخمين. لقد كانوا يهتمون بدرس النتائج ويحاولون ازالتها بالعقاقير أما الأسباب فلم يحفلوا بها. ولما كان "صاحب البيت أدرى بالذي فيه" ذهبت إلى البحر والغاب وصرفت بينهما ستة أشهر متوالية فزالت الأسباب وزالت النتائج.

ما قولك في وضع كتاب في "الطب الحديث"؟ هل تشاركيني بتأليفه؟...

أمامنا الآن مسألة مهمة علينا أن نبحث فيها: تذكرين طبعاً أنكِ أظهرت لي منذ أسابيع "سراً" هائلاً. وتذكرين أنك لم تظهري " السر" إلا بعد أن أقبل " شروطكِ" ، والغريب أنني قبلتها قبل أن أعرفها. فما هي تلك الشروط؟ تفضلي يا ستي مريم وقولي لي ما هي شروطك فأنا مستعد لتنفيذها. لقد ترددت كثيراً في إماطة النقاب عن " السر" فأصبحتِ بدون شك مشتاقةَ إلى تمزيق النقاب عن الشروط. قولي ماذا تريدين؟ وما هي الضمانات أو التعويضات التي ترغبين فيها؟ إنما الشروط شروط، وعلى المغلوب قبولها وتنفيذها- يكفي العالم مشكلة الروهر. ( نهر في ألمانيا يجتاز منطقة صناعية غنية بمناجم الفحم والمعادن معروفة باسمه وقد احتلتها فرنسا نتيجة لعدم تنفيذ بنود معاهدة فرساي.)

ولكن – ولكن لا أخفي عنكِ أنني بعد تحقيق تلك الشروط سأنظر في أمر هذه النقرة، أو شبه النقرة، التي تضحك من ذقني! أتظنين أنني أصبر على شيء منخفض في ذقني يضحك مما برز منها؟ كلا !

سوف أستر هذه النقرة الشريرة التي لا تحترم محيطها "الموقر بجموده ونقمته" ، سوف أدفنها في لحية كثيفة وطويلة، سوف أكفنها بما ابيضّ من شعري ثم أضعها في تابوت مما بقي من سواده. نعم سوف أثأر لنفسي من هذه النقرة الوقحة التي تجهل أنها ملتصقة بمن إذا غضب غضبت الكائنات، وإذا ابتسم ابتسمت معه!

سنعود غداَ إلى حديثنا، أما الآن فلنصعد إلى السطح ونقف أمام نجوم الليل هنيهةً.. قولي لي يا صغيرتي المحبوبة، هل الليل أعمق وأروع من قلب الانسان؟ وهل مواكب النجوم أهيب وأجمل مما يتمشى في قلب الانسان؟ وهل في الليل أو بين النجوم أقدس من هذه الشعلة البيضاء المرتعشة في يد الله؟



******



3 كانون عند منصف الليل


بما أجيب على كلماتك بشأن كتاب " النبي"؟ ماذا أقول لكِ؟ ليس هذا الكتاب سوى القليل من الكثير الذي رأيته وأراه في كل يوم في قلوب الناس الصامتة وفي أرواحهم المشتاقة إلى البيان. لم يقم في الأرض من استطاع أن يأتي بشيء من عنده كفرد واحد منفصل عن الناس كافةً. وليس بيننا من يقد على أكثر من تدوين ما يقوله الناس له على غير معرفة منهم.

إنما " النبي" يا مي أول حرف من كلمة.. توهمت في الماضي أن هذه الكلمة لي وفيَّ ومني، لذلك لم أستطيع تهجئة أول حرف من حروفها، وكان عدم استطاعتي سبب مرضي، بل وكان سبب ألم وحرقة في روحي. وبعد ذلك شاء الله وفتح عينيّ فرأيت النور، ثم شاء الله وفتح أذنيَّ فسمعت الناس يلفظون هذا الحرف الأول، شاء الله وفتح شفتيّ فرددت لفظ الحرف: رددته مبتهجاً فرحاً لأنني عرفت للمرة الأولى أن الناس هم هم كل شيء وأنني بذاتي المنفصلة لست شيئاً. وأنتِ أعرف الناس بما كان في ذلك من الحرية والراحة والطمأنينة، أنتِ أعرف الناس بشعور من وجد نفسه فجأة خارج حبس ذاتيته المحدودة.

وأنتِ يا ميّ، أنتِ صغيرتي الكبيرة، تساعدينني الآن على الاصغاء إلى الحرف الثاني، وسوف تساعدينني على لفظه، وستكونين معي دائماً.

قربي جبهتك يا مريم، قربيها ففي قلبي زهرة بيضاء أريد أن أضعها على جبهتك. ما أعذب المحبة عندما تقف مرتعشة مخجولة أمام نفسها.

والله يباركك. الله يحرس صغيرتي المحبوبة، والله يملأ قلبها بأناشيد ملائكته




جبران


********


نيويورك 31 كانون الأول 1923


تلقت مي مغلف صدر بتاريخ 31 كانون الأول 1923 يتضمن بطاقة بريدية تحمل رسالة قصيرة بدأها في أسفل الصورة وأتمها على ظهرها هذا نصها:

كان هذا الوادي في الصيف الغابر يذكرني بأودية لبنان الشمالي.

لا، لا أعرف عيشاً أهنأ من عيش الأودية. وأحب الأودية يا ماري في الشتاء، ونحن أمام موقد، ورائحة السرو المحروق تملأ البيت، والسماء تنثر الثلوج خارجاً، والريح تتلاعب بها، وقناديل الجليد مدلاة وراء زجاج النوافذ، وصوت النهر البعيد وصوت العاصفة البيضاء يتآلفان في مسامعنا.. ولكن إذا لم تكن صغيرتي المحبوبة قريبة مني فلا كان الوادي، ولا الثلج، ولا رائحة عود السرو، ولا بلور قناديل الجليد ولا أنشودة النهر، ولا هيبة العاصفة... بعدا " لها كلها" إذا كانت صغيرتي المباركة بعيدة عنها وعني.

وأسعد الله مسا الوجه الحلو المحبوب



جبران


حاشية- كنت في الماضي أحصل على قصاصات الورق من " مكتب القصاصات". وقد قطعت اشتراكي بهذا المكتب في العام الغابر. كنت قد مللت الجرائد وأقوالها، وفي الملل شيء من النعاس الروحي. فسامحيني، سوف أحاول الحصول على بعض القصاصات.

******



نيويورك 26 شباط 1924


نحن اليوم رهن عاصفة ثلجية جليلة مهيبة، وأنتِ تعلمين يا ماري أنني أحب جميع العواصف خصوصاً العواصف الثلجية. أحب الثلج، أحب بياضه وأحب هبوطه وأحب سكوته العميق. وأحب الثلج في الأودية البعيدة المجهولة حيث يتساقط مرفرفاً ثم يتلألأ بنور الشمس ثم يذوب ويسير منشداً أغنيته المنخفضة.

أحب الثلج وأحب النار، وهما من مصدر واحد، ولكن لم يكن حبي لهما قط سوى شكل من الاستعداد لحب أقوى وأعلى وأوسع.

ما ألطف قول من قال:


يا ميّ عيدك يوم *** وأنت عيد الزمان

وما أعظم الفرق بين هذا البيت العربي و "بيتٍ" لشاعر أماركي من قصيدة بعث بها إليَّ في الآونة الأخيرة، قال:

Your Honour and reward *** That you shall be crucified


" في الصلب شرفك وثوابك"

لا بأس- على أنني أخشى بلوغ النهاية قبل الحصول على هذا الشرف وهذا الثواب.

لنعد هنيهة إلى "عيدك" أريد أن أعرف في أي يوم من أيام السنة قد ولدتْ صغيرتي المحبوبة. أريد أن أعرف لأنني أميل إلى الأعياد وإلى التعييد. وسيكون لعيد ماري الأهمية الكبرى عندي. ستقولين لي " كل يوم يوم مولدي يا جبران" وسأجيبك قائلاً " نعم، وأنا أعيّد لك كل يوم، ولكن لا بد من عيد خصوصي مرة كل سنة".

سررت بإبلاغك إياي أن ذقني ليست لي. سررت جداً جداً، وأظن أن تسليم ذقني أول تلك " الشروط" الدولية. لقد كانت هذه الذقن مسرحا للاهتمام غير اللازم وللتعب غير اللازم. والآن وقد صارت ذقني في حوزة سواي عليَّ أن أرفع عنها يدي- ومنجلي! فليحتمل من يملكها مسؤولياتها. بارك الله فيها لمن يملكها. ولي من ذكائك المدهش ما يوقفني عن الإسهاب في هذا الموضوع الزراعي.

كذا- أما بخصوص الخلاف الذي كان بين إهدن وبشري فقد زال بكليته، ولقد قرأت في بعض الصحف أن "جمعية الشبيبة البشراوية" دعت " جمعية الشبيبة الإهدنية" إلى وليمة في مار سركيس بشري، وبعد ذلك بأيام دعت الشبيبة الإهدانية البشراوية إلى وليمة في مار سركيس إهدن. أنا أعتقد أن الخصام قد ابتدأ بالسركسيين القديسن، غفر لهما الله، وظل الخصام على قدم وساق حتى قام من البلدتين فتيان لا يعرفون شيئاً عن السراكيس. ولكن الوفاق بين إهدن وبشري لا يعني أننا ( أنتِ وأنا) لن نحتاج في المستقبل إلى صندوق الذهب "الحلو المليح" لا ، لا يعني هذا أبداً، فأنت وأنا سنبقى متكلين على صندوق الذهب حتى يتكل كل منا على رفيقه.

انظري يا محبوبتي العذبة كيف قادنا المزاح إلى قدس أقداس الحياة: عندما بلغتُ هذه الكلمة " رفيقة" ارتعش قلبي في صدري فقمت ومشيت ذهاباً وإياباً في هذه الغرفة كمن يبحث عن رفيقه. ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة في بعض الأحايين- وما أشبه تلك الكلمة الواحدة برنين جرس الكنيسة عند الغروب. إنها تحول الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت، ومن العمل إلى الصلاة.

تقولين لي أنك تخافين الحب. لماذا تخافينه يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مدَّ البحر؟ أتخافين طلوع الفجر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لما يا ترى تخافين الحب؟.

أنا أعلم أن القليل في الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني. أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير. نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال. أقول يا ماري أن في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلاً من أظلال الله فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله.

لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.

اسمعي يا ماري: أنا اليوم في سجن من الرغائب. ولقد ولدتْ هذه الرغائب عندما ولدتُ. وأنا اليوم مقيد بقيود فكرة قديمة، قديمة كفصول السنة، فهل تستطيعين الوقوف معي في سجني حتى نخرج إلى نور النهار، وهل تقفين إلى جانبي حتى تنكسر هذه القيود فنسير حرَّين طليقين نحو قمة الجبل؟

والآن قربي جبهتكِ. قربي جبهتك الحلوة- كذا، كذا. والله يبارككِ والله يحرسكِ يا رفيقة قلبي الحبيبة.



جبران


******


نيويورك 2 تشرين الثاني 1924



يا ماري- أنتِ تعرفين سبب سكوتكِ أما أنا فأجهله. وليس من العدالة أن يكون جهل المرء مصدرا لتشويش أيامه ولياليه.
الأعمال والأقوال بالنيات، ولقد كانت نيتي ولم تزل في راحة الله. أخبريني يا صغيرتي المحبوبة عما حدث لك أثناء العام الغابر. أخبريني واكسبي أجري.
والله يحرسك ويملأ قلبك من أنواره.


جبران




******



نيويورك 9 كانون الأول 1924



ما أعذب صغيرتي المحبوبة تذكرني في صلاتها كل يوم. ما أعذبها وما أكبر قلبها وما أجمل روحها.

ولكن ما أغرب سكوت صغيرتي المحبوبة، ما أغرب سكوتها. ذلك السكوت الطويل كالأبدية العميق كأحلام الآلهة- ذلك السكوت الذي لا يترجم إلى أية لغة بشرية. ألا تذكرين أنه لما جاء دورك في الكتابة لم تكتبي؟ أولا تذكرين أننا تعاهدنا على معانقة الصلح والسلام قبل أن يعانق الليل الأرض؟

وأنت تسألين عن حالي، وعن "خاطري"، وعن الأمور التي تشغلني، أما حالي فهو مثل حالكِ تماماً يا ماري. أما خاطري فلم يزل في الضباب حيث اجتمعنا- أنتِ وأنا- منذ ألف سنة. أما الأمور التي تشغلني في هذه الأيام فهي من الأمور المضطربة المشوشة، تلك الأمور التي لا بد لمن كان مثلي من اجتيازها، رغب فيها ، أو لم يرغب.

الحياة يا مريم أغنية جميلة، فبعضنا يجيء نبرةَ في تلك الأغنية وبعضنا يجيء قراراً. ويبدو لي يا مريم أنني لست بالنبرة ولست بالقرار. يبدو لي أنني لم أزل في الضباب، في ذلك الضباب الذي جمعنا منذ ألف سنة.

على أنني رغم كل شي أشتغل مصوراً أكثر الأيام وفي بعض الأيام أهرب إلى مكان بعيد في البرية وفي جيبي دفتر صغير- وسوف أبعث إليك بشيء من ها الدفتر يوماً ما.

هذا كل ما أعرفه الآن عن "أنا" فلنعد إن شئتِ إلى موضوعنا المهم، لنعد إلى حبيبتنا الحلوة: كيف حالك وكيف حال عينيكِ؟ وهل أنت سعيدة في القاهرة مثلما أنا سعيد في نيويورك؟ وهل تمشين ذهاباً وإياباً في غرفتك بعد منتصف الليل؟ وهل تقفين بجانب نافذتك بين الآونة والأخرى وتنظرين إلى النجوم؟ وهل تلتجئين بعد ذلك إلى فراشك، وهل تجففين ابتسامات ذائبة في عينيك بطرف لحافكِ- هل أنتِ سعيدة في القاهرة مثلما أنا سعيد في نيويورك؟

أفكر فيك يا ماري كل يوم وكل ليلة، أفكر فيك دائماً وفي كل فكر شيء من اللذة وشيء من الألم. والغريب أنني ما فكرت فيك يا مريم إلا وقلت لك في سري " تعالي واسكبي جميع همومك هنا، هنا على صدري" وفي بعض الأحيان أناديك بأسماء لا يعرف معناها غير الآباء المحبين والأمهات الحنونات.

وها اني أضع قبلة في راحة يمينكِ، وقبلة ثانية في راحة شمالكِ، طالباً من الله أن يحرسك ويبارككِ ويملأ قلبكِ بأنواره، وأن يبقيكِ أحب الناس إلى



جبران



*****



نيويرك 12 كانون الثاني 1925



يا ماري- كنت في السادس من هذا الشهر أفكر فيك كل دقيقة بل كل لحظة، وكنت أترجم كل ما يقوله لي القوم إلى لغة ماري وجبران- وتلك لغة لا يفهمها من سكان هذا العالم سوى ماري وجبران... وأنت تعلمين طبعاً أن كل يوم من أيام السنة هو يوم مولد كل واحد منا...

إن الأماركيين أرغب شعوب الأرض في التعييد وفي إرسال الهدايا والحصول عليها. ولِسرٍّ خفي عني يعطف الأماركيون عليّ خلال هذه المواسم، وفي السادس من هذا الشهر أوقعتني شدة عطفهم مخجولاً أمام نفسي مغموراً بعرفان الجميل. ولكن يعلم الله أن الكلمة الحلوة التي جاءتني منك كانت أحب لدي وأثمن عندي من كل ما يستطيع الناس جميعهم أن يفعلوا أمامي. الله يعلم ذلك، وقلبك يعلم.

وبعد التعييد جلسنا، أنت وأنا، بعيدين إلا عما بنا وتحدثنا طويلاً، وقلنا مالا يقوله سوى الحنين، وقلنا مالا يقوله سوى الأمل. ثم حدقنا بنجم بعيد وسكتنا. ثم عدنا إلى الكلام فتحدثنا حتى الفجر. وكانت يدكِ المحبوبة فوق هذا المكان الدقاق حتى الفجر.

والله يرعاك ويحرسك يا مريم. والله يسكب أنواره عليك. والله يحفظك لمحبك.



جبران



******




نيويورك 6 شباط 1925



وتلقت مي مغلفاً بتاريخ 6 شباط 1925 يتضمن بطاقة بريدية تمثل القديسة "آن" بريشة " ليوناردو دافنشي" خط جبران على ظهرها رسالة هذا نصها:

يا ماري ما رأيت أثراً من آثار "ليوناردو دافنشي" إلا وشعرت بقوة سحره تتمشى في باطني، بل وشعرت بجزء من روحه يتسرب إلى روحي. كنتُ صبياً عندما رأيت للمرة الأولى بعض رسوم هذا الرجل العجيب. تلك ساعة سأذكرها ما حييت فقد كانت من تلك الأيام بمقام الأبرة المغنطيسية من سفينة تائهة في ضباب البحر.

وجدت هذه البطاقة اليوم بين أوراقي فرأيت أن أبعث بها إليكِ لتخبرك عن بعض تلك العوامل التي كانت تسيّر شبابي في أودية الكآبة والوحدة والشوق إلى مالا أعرفه.

والله يحرسك



جبران



******



نيويورك 23 آذار 1925


يا ماري

قد سببت لك تلك المحفظة الصغيرة القلق والانزعاج، فاغفري لي. ولقد توهمت أنني أرسلتها على أحسن السبل وأسهلها فجاءت النتيجة بالعكس، فسامحيني يا صديقتي الحلوة واكسبي أجري.

إذاً قد قصصت شعرك؟ قد قصصت تلك الذوائب الحالكة ذات التموجات الجميلة؟ ماذا يا ترى أقول لك؟ ماذا أقول وقد سبق المقص الملام؟ لا بأس، لا بأس. عليّ أن أصدق ما قاله لك ذلك المزين الروماني ... رحم الله آباء جميع الرومانيين...

ولم تكتفي صديقتي المحبوبة بأنها أخبرتني عن تلك الخسارة الفادحة بل شاءت أن تزيد "على الطين بلة" فأخذت تحدث "فناناً شاعراً شغف بشعر الحضارة والشقرة، فهو لا يروقه إلا الشعر الذهبي، ولا يترنم إلا بجمال الشعر الذهبي، ولا يحتمل في الوجود إلا الرؤوس ذات الشعر الذهبي"

ربي وإلهي، اغفر لماري كل كلمة من كلماتها وسامحها واغمر هفواتها بأنوارك القدسية. أرها بالحلم أو باليقظة كثوليكية عبدك جبران في كل ما يتعلق بالجمال. إبعث رباه ملكاً من ملائكتك ليقول لها إن عبدك هذا يسكن صومعة ذات نوافذ عديدة، وإنه يرى مظاهر حسنك وجمالك في كل مكان وفي كل شيء. وإنه يترنم بجمال الشعر الحالك مثلما يترنم بالشعر الذهبي. وإنه يتهيب أمام العيون السوداء مثلما يتهيب أمام العيون الزرقاء، وأطلب إليك ربي وإلهي أن توعز إلى ماري ألا تهين وتحتقر الشعراء والفنانين بشخص عبدك جبران... آمين.

وبعد هذه الصلاة أتحسبين أنني أستطيع الكلام عن الذقون المطبوعة؟ كلا! غير أنني سوف أبحث في هذه المدينة عن مزين روماني وأسأله ما إذا كان بإمكانه تحويل الذقون المطبوعة إلى ذقون سهلة مستديرة- على البيكار! هذا ولما كنت ضليعاً بفن الجراحة فأنا لا أخشى عملية جراحية!

لنعد الآن إلى حال عينيك.

كيف حال عينيكِ يا ماري؟ أنتِ تعلمين، أنتِ تعلمين بقلبك أن حال عينيك يهمني إلى درجة قصوى. وكيف تسألين هذا السؤال وأنت تشاهدين بعينيك ما وراء الحجاب.أنت تعلمين أن القلب البشري لا يخضع إلى نواميس القياسات والمسافات وأن أعمق وأقوى عاطفة في القلب البشري تلك التي نستسلم إليها ونجد في الاستسلام لذة وراحة وطمأنينة مع أننا، مهما حاولنا لا نستطيع تفسيرها أو تحليلها. يكفي أنها عاطفة عميقة قوية قدسية. فلم السؤال ولم الشك؟ ومن منا يا ماري يستطيع أن يترجم لغة العالم الخفي إلى لغة العالم الظاهر؟ من منا يستطيع أن يقول "في روحي شعلة بيضاء أما أسبابها فكذا وكذا، وأما معناها فكذا وكذا، وأما نتائجها فستكون كذا وكذا"؟ كفى المرء أن يقول لنفسه " في روحي شعلة بيضاء".

قد سألت عينيك يا ماري لأنني كثير الاهتمام بعينيك، لأنني أحب نورهما، وأحب النظرات البعيدة فيهما، وأحب خيالات الأحلام المتموجة حولهما.

ولكن اهتمامي بعينيك لا يدل على أنني قليل الاهتمام بجبهتك وأصابعك.

الله يباركك يا ماري المحبوبة، ويبارك عينيك وجبهتك وأصابعك والله يحفظك دائماً



جبران

*****



نيويرك 30 آذار 1925



يا ماري

نعم. قد كنت صامتاً أثناء أربعة أسابيع، أما السبب فهو الحمى الاسبانية – لا أقل ولا أكثر.

أنا أستصعب، أستصعب جداً، الشكوى من علة تلم بي. فإذا مرضت رغبت في أمر واحد وهو الاختفاء عن عيون الناس- حتى عن عيون الذين أحبهم ويحبونني. وفي شرعي أن أحسن دواء للداء هو الانفراد التام.

أما صحتي الآن فهي حسنة، بل أكثر من حسنة، ولا أكتمك أنها قد صارت بهموطية! ( هكذا كان جبار بشراوي يصف صحته عندما يسأله الناس عنها)

السائح ( جريدة مهجرية ) الممتاز قد صدر متأخراً كالعادة. وقد خاطبت صاحب السائح هذا الصباح بواسطة التلفون فقال لي إنه قد بعث إليك، ولم يزل يبعث إليك، أعداد جريدته ممتازة كانت أم غير ممتازة.

أما قولك يا مريم الحلوة أن صاحب " السائح" ناقم عليك لأنك لم تبعثي إليه بمقال لعدده الممتاز فمن المبالغة الهائلة. أتظنين أن رجلاً في نيويورك ينقم عليك طالما وأنا في نيويورك؟ قد قلت ألف مرة ومرة " نحن لسنا بمعامل أدبية. نحن لسنا آلات تلقمونها الحبر والورق من جهة لتستخرجون المقالات والقصائد من جهة ثانية. نحن نكتب عندما نريد أن نكتب، لا عندما تريدون أنتم، فاعملوا المعروف معنا واتركوننا وشأننا، فنحن في عالم وأنتم في عالم آخر، فلا منكم إلينا ولا منا إليكم."- ما قولك في هذه اللهجة السربستية؟- ولكن فعلاً- بدون مزاح- ألا ترين أن أكثر أصحابي المجلات والجرائد يتوهمون أن فكرة الكاتب مثل الفونوغراف ذلك لأنهم ولدوا بفكرة فونوغرافية؟

نحن هنا في أوائل الربيع، ففي الهواء سحر ويقظة. وفي الروح فجر وشباب. أما الذهاب إلى البرية فشبيه بزيارة كهان وكاهنات عشتروت وتموز مغارة أفقا.

وبعد أيام معدودة سيقوم يسوع من بين الأموات ليعطي الحياة لمن في القبور، فتزهر أشجار اللوز والتفاح، وتعود الأنغام إلى السواقي والأنهار.

ستكونين معكي كل يوم من أيام نيسان. وستكونين معي بعد أن ينقضي نيسان- كل يوم وكل ليلة.

والله يحرسك ويحفظك يا مريم المحبوبة.



جبران



*******



نيويورك أيار 1925




ما قولك في رجل يستيقظ من غفلته صباحاً فيجد إلى جانب فراشه "رسالة" من صديقة يحبها فيقول بصوت عالٍ "صباح الخير، أهلاً وسهلاً" ثم يفتح الرسالة بلجاجة العطشان- فماذا يجد؟ لا أكثر ولا أقل من قصيدة جغرافية لشوقي بك!!!-!!
لا بأس- سوف أبحث فأحصل على قصيدة عامرة طويلة ممتعة لناسج بردها حليم أفندي دموس فأشرحها شرحاً كافياً وافياً وأبعث بها إليك! " وأخذ الثار مش معيار"
لو جاءت قصيدة شوقي في أول نيسان لاستظرفت النكتة وقلت في سري: "ما أحسنها صبية، وما أعرفها بأحوال البريد الدولي"، ولكن القصيدة جاءت في أول أيار، شهر الورود، فماذا يا ترى أفعل سوى أن أعض شفتي حانقاً متوعداً مفعماً فضاء منزلي بالضجيج.

أجل، سوف أدرس فلسفة "سن بسن وعين بعين" فأبعث إليك بكل ما تتكرم علينا قرائح أمراء الشعر العربي.
أسألك الآن- كيف أستطيع أن أصرف ما بقي من هذا النهار كما يجب أن أصرفه قبل أن أغفر لك وأسامحك؟ إن قصيدة أمير شعرائكم قد ألقت حفنة من التراب في فمي، وعليّ أن أقرأ عشرين قصيدة لكيتس وشالي وبليك، وقصيدة واحدة لمجنون ليلى!!

وبالرغم من كل شيء، افتحي كفك... كذا، كذا، كما يفعلون؟؟؟
__________________
  #15  
قديم March 12, 2009, 02:57 AM
 
رد: ممكن رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران

نيويورك بين 1 و 3 كانون الأول 1923


ما أعذب رسالتكِ في قلبي . ما أحلاها في قلبي يا ميّ .

ذهبت إلى البرية منذ خمسة أيام , ولقد صرفت الأيام الخمسة مودعاً الخريف الذي أحبه, ورجعت إلى هذا الوادي من ساعتين , رجعت مثلجاً , مجلداً , ذلك لأنني قطعت مسافةً أطول من تلك المسافة الكائنة بين الناصرة وبشرّي في سيارة مكشوفة ... ولكن ... ولكن رجعت فوجدت رسالتكِ , وجدتها فوق رابية من الرسائل , وأنتِ تعلمين أن جميع الرسائل تضمحل من أمام عينيَّ عندما أتناول رسالة من محبوبتي الصغيرة , فجلست وقرأتها مستدفئاً بها . ثم أبدلت أثوابي . ثم قرأتها ثانيةً , ثم ثالثةً , ثم قرأتها ولم أقرأ شيئاً سواها . وأنا يا مريم لا أمزج الشراب القدسي بعصير آخر .

أنت معي في هذه الساعة . أنتِ معي يا مي , أنتِ هنا , هنا , وأنا أحدثكِ ولكن بأكثر من هذه الكلمات, أحدث قلبكِ الكبير بلغة أكبر من هذه اللغة , وأنا أعلم أنكِ تسمعين, أعلم أننا نتفاهم بجلاءٍ ووضوح , وأعلم أننا أقرب من عرش الله في هذه الليلة منا في أيّ وقت من ماضينا.

أحمد الله وأشكره . أحمد الله وأشكره , فقد رجع الغريب إلى وطنه وعاد المسافر إلى بيت أمه وبيه .

في هذه الدقيقة مرّت بخاطري فكرةٌ جليلة , جليلة جداً . فاسمعي يا صغيرتي الحلوة : إذا تخاصمنا في المستقبل ( هذا إذا كان لا بد من الخصام) يجب أن لا نفترق مثلما كنا نفعل في الماضي بعد كل معركة. يجب أن نبقى, برغم الخصام, تحت سقف بيت واحد حتى نملّ الخصام فنضحك , أو يملنا الخصام فيذهب هازّاً رأسه.

ما قولك في هذا الرأي؟

لنتخاصم ما شئنا وشاء الخصام, فأنت من إهدن وأنا من بشري, ويبدو لي أن المسافة إرثية! ولكن مهما جرى في أيامنا الآتية علينا أن نبقى ناظرين إلى وجهينا حتى تمرّ الغمامة. وإذا جاءت كاتمة أسرارك وجاء كاتم أسراري, وهما دائماً سبب خصامنا, يجب أن نخرجهما من بيتنا بكل لطف, ولكن بأسرع وسيلة.

أنت أقرب الناس إلى روحي , أنتِ أقرب الناس إلى قلبي ونحن لم نتخاصم قط بروحينا أو بقلبينا. لم نتخاصم بغير الفكر والفكر شيءٌ مكتسب , شيءٌ نقتبسه من المحيط , من المرئيات , من مآتي الأيام . أما الروح والقلب فقد كانا فينا جوهريين علويين قبل أن نفتكر.

وظيفة الفكر الترتيب, وهي وظيفة حسنة ولازمة لحياتنا الاجتماعية ولكن لا مكان لها في حياتنا الروحية القلبية . يستطيع الفكر " الجليل" أن يقول " إذا تخاصمنا في المستقبل يجب ألا نفترق" , يستطيع الفكر أن يقول كلمة واحدة عن المحبة لا يستطيع أن يقيس الروح بمقاييس كلامه ولا يستطيع وزن القلب بموازين منطقه.

أحبُّ صغيرتي, غير أنني لا أدري بعقلي لماذا أحبها, ولا أريد أن أدري بعقلي. يكفي أنني أحبها. يكفي أنني أحبها بروحي وقلبي, يكفي أنني أسند رأسي إلى كتفها كئيباً غريباً مستوحداً فرحاً مدهوشاً مجذوباً , يكفي أن أسير إلى جانبها نحو قمة الجبل وأن أقول لها بين الآونة والأخرى " أنتِ رفيقتي , أنتِ رفيقتي".

يقولون لي يا ميّ أنني من محبّي الناس, ويلومني بعضهم لأنني أحب جميع الناس , نعم , أحب جميع الناس, وأحبهم بدون انتخاب وبدون غربلة, وأحبهم كتلةً واحدة , أحبهم لأنهم من روح الله ولكن لكل قلب قبلة خاصة , لكل قلب وجهة ذاتية يتحول إليها ساعات انفراده , لكل قلب صومعة يختلي فيها ليجد راحته وتعزيته, لكل قلب قلب يشتاق إلى الاتصال به ليتمتع بما في الحياة من البركة والسلامة أو لينسى ما في الحياة من الألم.

شعرتُ منذ أعوام بأنني وجدت وجهة قلبي , وكان شعوري حقيقة بسيطة واضحةً جميلة, لذلك تمردت على القديس توما عندما جاء مشككاً مستفحصاً. وسوف أتمرد على القديس توما وبنصر القديس توما حتى يتركنا في خلوتنا السماوية مستسلمين إلى إيماننا السماوي.

ها قد بلغنا ساعةً متأخرة من الليل ولم نقل بعد سوى القليل القليل مما نريد أن نقوله. الأفضل أن نتحدث ساكتين حتى الصباح . وعند الصباح ستقف صغيرتي المحبوبة بجانبي أمام أعمالنا الكثيرة . وبعد ذلك, بعد إنقضاء النهار ومشاكله , سنعود ونجلس أمام هذا الموقد ونتحدث.

والآن قرّبي جبهتك , كذا, والله يباركك , والله يحرسكِ



جبران



*******




مساء الأحد

نيويورك 2 كانون الأول الساعة العاشرة



لقد كان يومنا هذا مفعماً بالأعمال. منذ الساعة التاسعة صباحاً حتى هذه الساعة ونحن نودع قوماً لنسلم على قوم آخرين. غير أنني كنت أنظر نحو رفيقتي بين الدقيقة والدقيقة وأقول لها: أحمد الله وأشكره، أحمد الله وأشكره فقد تلاقينا ثانيةً في غابتنا وفي جيب كل منا رغيف من الخبز بدلاً من كتاب أو لوح تصوير. أحمد الله وأشكره فقد عدنا لنرعى قطيعنا في الوادي الهادئ بعد أن كنا أستاذين في مدرسة! أحمد الله وأشكره لأن مريم الحلوة تسمعني صامتاً مثلما أسمعها صامتةً، وتفهمني مشغوفاً مثلما أفهمها عطوفة.

لقد حمدت الله وشكرت النهار وطوله لأن مي كانت طول النهار تتكلم بلساني وتأخذ بيدي وتعطي بيدي. وكنت طول النهار أنظر بعينيها فأرى اللطف في وجوه الناس، وأصغي بأذنيها فأسمع العذوبة في أصواتهم.

وأنتِ تسألين عن صحتي، وعندما تسألين عن صحتي تتحول بنيّتي إلى أم كلها حنان. صحتي جيدة جداً. فقد ذهبت تلك العلة وتركتني قوياً متحمساً رغم البياض الذي تركته في شعر صدغيَّ! والغريب أنني دوايت نفسي بنفسي فكنت عملياً اجرائياً بعد أن تقرر لدي أن الأطباء خياليون هائمون في أودية الظنون والتخمين. لقد كانوا يهتمون بدرس النتائج ويحاولون ازالتها بالعقاقير أما الأسباب فلم يحفلوا بها. ولما كان "صاحب البيت أدرى بالذي فيه" ذهبت إلى البحر والغاب وصرفت بينهما ستة أشهر متوالية فزالت الأسباب وزالت النتائج.

ما قولك في وضع كتاب في "الطب الحديث"؟ هل تشاركيني بتأليفه؟...

أمامنا الآن مسألة مهمة علينا أن نبحث فيها: تذكرين طبعاً أنكِ أظهرت لي منذ أسابيع "سراً" هائلاً. وتذكرين أنك لم تظهري " السر" إلا بعد أن أقبل " شروطكِ" ، والغريب أنني قبلتها قبل أن أعرفها. فما هي تلك الشروط؟ تفضلي يا ستي مريم وقولي لي ما هي شروطك فأنا مستعد لتنفيذها. لقد ترددت كثيراً في إماطة النقاب عن " السر" فأصبحتِ بدون شك مشتاقةَ إلى تمزيق النقاب عن الشروط. قولي ماذا تريدين؟ وما هي الضمانات أو التعويضات التي ترغبين فيها؟ إنما الشروط شروط، وعلى المغلوب قبولها وتنفيذها- يكفي العالم مشكلة الروهر. ( نهر في ألمانيا يجتاز منطقة صناعية غنية بمناجم الفحم والمعادن معروفة باسمه وقد احتلتها فرنسا نتيجة لعدم تنفيذ بنود معاهدة فرساي.)

ولكن – ولكن لا أخفي عنكِ أنني بعد تحقيق تلك الشروط سأنظر في أمر هذه النقرة، أو شبه النقرة، التي تضحك من ذقني! أتظنين أنني أصبر على شيء منخفض في ذقني يضحك مما برز منها؟ كلا !

سوف أستر هذه النقرة الشريرة التي لا تحترم محيطها "الموقر بجموده ونقمته" ، سوف أدفنها في لحية كثيفة وطويلة، سوف أكفنها بما ابيضّ من شعري ثم أضعها في تابوت مما بقي من سواده. نعم سوف أثأر لنفسي من هذه النقرة الوقحة التي تجهل أنها ملتصقة بمن إذا غضب غضبت الكائنات، وإذا ابتسم ابتسمت معه!

سنعود غداَ إلى حديثنا، أما الآن فلنصعد إلى السطح ونقف أمام نجوم الليل هنيهةً.. قولي لي يا صغيرتي المحبوبة، هل الليل أعمق وأروع من قلب الانسان؟ وهل مواكب النجوم أهيب وأجمل مما يتمشى في قلب الانسان؟ وهل في الليل أو بين النجوم أقدس من هذه الشعلة البيضاء المرتعشة في يد الله؟



******



3 كانون عند منصف الليل


بما أجيب على كلماتك بشأن كتاب " النبي"؟ ماذا أقول لكِ؟ ليس هذا الكتاب سوى القليل من الكثير الذي رأيته وأراه في كل يوم في قلوب الناس الصامتة وفي أرواحهم المشتاقة إلى البيان. لم يقم في الأرض من استطاع أن يأتي بشيء من عنده كفرد واحد منفصل عن الناس كافةً. وليس بيننا من يقد على أكثر من تدوين ما يقوله الناس له على غير معرفة منهم.

إنما " النبي" يا مي أول حرف من كلمة.. توهمت في الماضي أن هذه الكلمة لي وفيَّ ومني، لذلك لم أستطيع تهجئة أول حرف من حروفها، وكان عدم استطاعتي سبب مرضي، بل وكان سبب ألم وحرقة في روحي. وبعد ذلك شاء الله وفتح عينيّ فرأيت النور، ثم شاء الله وفتح أذنيَّ فسمعت الناس يلفظون هذا الحرف الأول، شاء الله وفتح شفتيّ فرددت لفظ الحرف: رددته مبتهجاً فرحاً لأنني عرفت للمرة الأولى أن الناس هم هم كل شيء وأنني بذاتي المنفصلة لست شيئاً. وأنتِ أعرف الناس بما كان في ذلك من الحرية والراحة والطمأنينة، أنتِ أعرف الناس بشعور من وجد نفسه فجأة خارج حبس ذاتيته المحدودة.

وأنتِ يا ميّ، أنتِ صغيرتي الكبيرة، تساعدينني الآن على الاصغاء إلى الحرف الثاني، وسوف تساعدينني على لفظه، وستكونين معي دائماً.

قربي جبهتك يا مريم، قربيها ففي قلبي زهرة بيضاء أريد أن أضعها على جبهتك. ما أعذب المحبة عندما تقف مرتعشة مخجولة أمام نفسها.

والله يباركك. الله يحرس صغيرتي المحبوبة، والله يملأ قلبها بأناشيد ملائكته




جبران


********


نيويورك 31 كانون الأول 1923


تلقت مي مغلف صدر بتاريخ 31 كانون الأول 1923 يتضمن بطاقة بريدية تحمل رسالة قصيرة بدأها في أسفل الصورة وأتمها على ظهرها هذا نصها:

كان هذا الوادي في الصيف الغابر يذكرني بأودية لبنان الشمالي.

لا، لا أعرف عيشاً أهنأ من عيش الأودية. وأحب الأودية يا ماري في الشتاء، ونحن أمام موقد، ورائحة السرو المحروق تملأ البيت، والسماء تنثر الثلوج خارجاً، والريح تتلاعب بها، وقناديل الجليد مدلاة وراء زجاج النوافذ، وصوت النهر البعيد وصوت العاصفة البيضاء يتآلفان في مسامعنا.. ولكن إذا لم تكن صغيرتي المحبوبة قريبة مني فلا كان الوادي، ولا الثلج، ولا رائحة عود السرو، ولا بلور قناديل الجليد ولا أنشودة النهر، ولا هيبة العاصفة... بعدا " لها كلها" إذا كانت صغيرتي المباركة بعيدة عنها وعني.

وأسعد الله مسا الوجه الحلو المحبوب



جبران


حاشية- كنت في الماضي أحصل على قصاصات الورق من " مكتب القصاصات". وقد قطعت اشتراكي بهذا المكتب في العام الغابر. كنت قد مللت الجرائد وأقوالها، وفي الملل شيء من النعاس الروحي. فسامحيني، سوف أحاول الحصول على بعض القصاصات.

******



نيويورك 26 شباط 1924


نحن اليوم رهن عاصفة ثلجية جليلة مهيبة، وأنتِ تعلمين يا ماري أنني أحب جميع العواصف خصوصاً العواصف الثلجية. أحب الثلج، أحب بياضه وأحب هبوطه وأحب سكوته العميق. وأحب الثلج في الأودية البعيدة المجهولة حيث يتساقط مرفرفاً ثم يتلألأ بنور الشمس ثم يذوب ويسير منشداً أغنيته المنخفضة.

أحب الثلج وأحب النار، وهما من مصدر واحد، ولكن لم يكن حبي لهما قط سوى شكل من الاستعداد لحب أقوى وأعلى وأوسع.

ما ألطف قول من قال:


يا ميّ عيدك يوم *** وأنت عيد الزمان

وما أعظم الفرق بين هذا البيت العربي و "بيتٍ" لشاعر أماركي من قصيدة بعث بها إليَّ في الآونة الأخيرة، قال:


Your Honour and reward *** That you shall be crucified

" في الصلب شرفك وثوابك"

لا بأس- على أنني أخشى بلوغ النهاية قبل الحصول على هذا الشرف وهذا الثواب.

لنعد هنيهة إلى "عيدك" أريد أن أعرف في أي يوم من أيام السنة قد ولدتْ صغيرتي المحبوبة. أريد أن أعرف لأنني أميل إلى الأعياد وإلى التعييد. وسيكون لعيد ماري الأهمية الكبرى عندي. ستقولين لي " كل يوم يوم مولدي يا جبران" وسأجيبك قائلاً " نعم، وأنا أعيّد لك كل يوم، ولكن لا بد من عيد خصوصي مرة كل سنة".

سررت بإبلاغك إياي أن ذقني ليست لي. سررت جداً جداً، وأظن أن تسليم ذقني أول تلك " الشروط" الدولية. لقد كانت هذه الذقن مسرحا للاهتمام غير اللازم وللتعب غير اللازم. والآن وقد صارت ذقني في حوزة سواي عليَّ أن أرفع عنها يدي- ومنجلي! فليحتمل من يملكها مسؤولياتها. بارك الله فيها لمن يملكها. ولي من ذكائك المدهش ما يوقفني عن الإسهاب في هذا الموضوع الزراعي.

كذا- أما بخصوص الخلاف الذي كان بين إهدن وبشري فقد زال بكليته، ولقد قرأت في بعض الصحف أن "جمعية الشبيبة البشراوية" دعت " جمعية الشبيبة الإهدنية" إلى وليمة في مار سركيس بشري، وبعد ذلك بأيام دعت الشبيبة الإهدانية البشراوية إلى وليمة في مار سركيس إهدن. أنا أعتقد أن الخصام قد ابتدأ بالسركسيين القديسن، غفر لهما الله، وظل الخصام على قدم وساق حتى قام من البلدتين فتيان لا يعرفون شيئاً عن السراكيس. ولكن الوفاق بين إهدن وبشري لا يعني أننا ( أنتِ وأنا) لن نحتاج في المستقبل إلى صندوق الذهب "الحلو المليح" لا ، لا يعني هذا أبداً، فأنت وأنا سنبقى متكلين على صندوق الذهب حتى يتكل كل منا على رفيقه.

انظري يا محبوبتي العذبة كيف قادنا المزاح إلى قدس أقداس الحياة: عندما بلغتُ هذه الكلمة " رفيقة" ارتعش قلبي في صدري فقمت ومشيت ذهاباً وإياباً في هذه الغرفة كمن يبحث عن رفيقه. ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة في بعض الأحايين- وما أشبه تلك الكلمة الواحدة برنين جرس الكنيسة عند الغروب. إنها تحول الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت، ومن العمل إلى الصلاة.

تقولين لي أنك تخافين الحب. لماذا تخافينه يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مدَّ البحر؟ أتخافين طلوع الفجر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لما يا ترى تخافين الحب؟.

أنا أعلم أن القليل في الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني. أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير. نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال. أقول يا ماري أن في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلاً من أظلال الله فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله.

لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.

اسمعي يا ماري: أنا اليوم في سجن من الرغائب. ولقد ولدتْ هذه الرغائب عندما ولدتُ. وأنا اليوم مقيد بقيود فكرة قديمة، قديمة كفصول السنة، فهل تستطيعين الوقوف معي في سجني حتى نخرج إلى نور النهار، وهل تقفين إلى جانبي حتى تنكسر هذه القيود فنسير حرَّين طليقين نحو قمة الجبل؟

والآن قربي جبهتكِ. قربي جبهتك الحلوة- كذا، كذا. والله يبارككِ والله يحرسكِ يا رفيقة قلبي الحبيبة.



جبران


******


نيويورك 2 تشرين الثاني 1924



يا ماري- أنتِ تعرفين سبب سكوتكِ أما أنا فأجهله. وليس من العدالة أن يكون جهل المرء مصدرا لتشويش أيامه ولياليه.
الأعمال والأقوال بالنيات، ولقد كانت نيتي ولم تزل في راحة الله. أخبريني يا صغيرتي المحبوبة عما حدث لك أثناء العام الغابر. أخبريني واكسبي أجري.
والله يحرسك ويملأ قلبك من أنواره.


جبران




******



نيويورك 9 كانون الأول 1924



ما أعذب صغيرتي المحبوبة تذكرني في صلاتها كل يوم. ما أعذبها وما أكبر قلبها وما أجمل روحها.

ولكن ما أغرب سكوت صغيرتي المحبوبة، ما أغرب سكوتها. ذلك السكوت الطويل كالأبدية العميق كأحلام الآلهة- ذلك السكوت الذي لا يترجم إلى أية لغة بشرية. ألا تذكرين أنه لما جاء دورك في الكتابة لم تكتبي؟ أولا تذكرين أننا تعاهدنا على معانقة الصلح والسلام قبل أن يعانق الليل الأرض؟

وأنت تسألين عن حالي، وعن "خاطري"، وعن الأمور التي تشغلني، أما حالي فهو مثل حالكِ تماماً يا ماري. أما خاطري فلم يزل في الضباب حيث اجتمعنا- أنتِ وأنا- منذ ألف سنة. أما الأمور التي تشغلني في هذه الأيام فهي من الأمور المضطربة المشوشة، تلك الأمور التي لا بد لمن كان مثلي من اجتيازها، رغب فيها ، أو لم يرغب.

الحياة يا مريم أغنية جميلة، فبعضنا يجيء نبرةَ في تلك الأغنية وبعضنا يجيء قراراً. ويبدو لي يا مريم أنني لست بالنبرة ولست بالقرار. يبدو لي أنني لم أزل في الضباب، في ذلك الضباب الذي جمعنا منذ ألف سنة.

على أنني رغم كل شي أشتغل مصوراً أكثر الأيام وفي بعض الأيام أهرب إلى مكان بعيد في البرية وفي جيبي دفتر صغير- وسوف أبعث إليك بشيء من ها الدفتر يوماً ما.

هذا كل ما أعرفه الآن عن "أنا" فلنعد إن شئتِ إلى موضوعنا المهم، لنعد إلى حبيبتنا الحلوة: كيف حالك وكيف حال عينيكِ؟ وهل أنت سعيدة في القاهرة مثلما أنا سعيد في نيويورك؟ وهل تمشين ذهاباً وإياباً في غرفتك بعد منتصف الليل؟ وهل تقفين بجانب نافذتك بين الآونة والأخرى وتنظرين إلى النجوم؟ وهل تلتجئين بعد ذلك إلى فراشك، وهل تجففين ابتسامات ذائبة في عينيك بطرف لحافكِ- هل أنتِ سعيدة في القاهرة مثلما أنا سعيد في نيويورك؟

أفكر فيك يا ماري كل يوم وكل ليلة، أفكر فيك دائماً وفي كل فكر شيء من اللذة وشيء من الألم. والغريب أنني ما فكرت فيك يا مريم إلا وقلت لك في سري " تعالي واسكبي جميع همومك هنا، هنا على صدري" وفي بعض الأحيان أناديك بأسماء لا يعرف معناها غير الآباء المحبين والأمهات الحنونات.

وها اني أضع قبلة في راحة يمينكِ، وقبلة ثانية في راحة شمالكِ، طالباً من الله أن يحرسك ويبارككِ ويملأ قلبكِ بأنواره، وأن يبقيكِ أحب الناس إلى



جبران



*****



نيويرك 12 كانون الثاني 1925



يا ماري- كنت في السادس من هذا الشهر أفكر فيك كل دقيقة بل كل لحظة، وكنت أترجم كل ما يقوله لي القوم إلى لغة ماري وجبران- وتلك لغة لا يفهمها من سكان هذا العالم سوى ماري وجبران... وأنت تعلمين طبعاً أن كل يوم من أيام السنة هو يوم مولد كل واحد منا...

إن الأماركيين أرغب شعوب الأرض في التعييد وفي إرسال الهدايا والحصول عليها. ولِسرٍّ خفي عني يعطف الأماركيون عليّ خلال هذه المواسم، وفي السادس من هذا الشهر أوقعتني شدة عطفهم مخجولاً أمام نفسي مغموراً بعرفان الجميل. ولكن يعلم الله أن الكلمة الحلوة التي جاءتني منك كانت أحب لدي وأثمن عندي من كل ما يستطيع الناس جميعهم أن يفعلوا أمامي. الله يعلم ذلك، وقلبك يعلم.

وبعد التعييد جلسنا، أنت وأنا، بعيدين إلا عما بنا وتحدثنا طويلاً، وقلنا مالا يقوله سوى الحنين، وقلنا مالا يقوله سوى الأمل. ثم حدقنا بنجم بعيد وسكتنا. ثم عدنا إلى الكلام فتحدثنا حتى الفجر. وكانت يدكِ المحبوبة فوق هذا المكان الدقاق حتى الفجر.

والله يرعاك ويحرسك يا مريم. والله يسكب أنواره عليك. والله يحفظك لمحبك.



جبران



******




نيويورك 6 شباط 1925



وتلقت مي مغلفاً بتاريخ 6 شباط 1925 يتضمن بطاقة بريدية تمثل القديسة "آن" بريشة " ليوناردو دافنشي" خط جبران على ظهرها رسالة هذا نصها:

يا ماري ما رأيت أثراً من آثار "ليوناردو دافنشي" إلا وشعرت بقوة سحره تتمشى في باطني، بل وشعرت بجزء من روحه يتسرب إلى روحي. كنتُ صبياً عندما رأيت للمرة الأولى بعض رسوم هذا الرجل العجيب. تلك ساعة سأذكرها ما حييت فقد كانت من تلك الأيام بمقام الأبرة المغنطيسية من سفينة تائهة في ضباب البحر.

وجدت هذه البطاقة اليوم بين أوراقي فرأيت أن أبعث بها إليكِ لتخبرك عن بعض تلك العوامل التي كانت تسيّر شبابي في أودية الكآبة والوحدة والشوق إلى مالا أعرفه.

والله يحرسك



جبران



******



نيويورك 23 آذار 1925


يا ماري

قد سببت لك تلك المحفظة الصغيرة القلق والانزعاج، فاغفري لي. ولقد توهمت أنني أرسلتها على أحسن السبل وأسهلها فجاءت النتيجة بالعكس، فسامحيني يا صديقتي الحلوة واكسبي أجري.

إذاً قد قصصت شعرك؟ قد قصصت تلك الذوائب الحالكة ذات التموجات الجميلة؟ ماذا يا ترى أقول لك؟ ماذا أقول وقد سبق المقص الملام؟ لا بأس، لا بأس. عليّ أن أصدق ما قاله لك ذلك المزين الروماني ... رحم الله آباء جميع الرومانيين...

ولم تكتفي صديقتي المحبوبة بأنها أخبرتني عن تلك الخسارة الفادحة بل شاءت أن تزيد "على الطين بلة" فأخذت تحدث "فناناً شاعراً شغف بشعر الحضارة والشقرة، فهو لا يروقه إلا الشعر الذهبي، ولا يترنم إلا بجمال الشعر الذهبي، ولا يحتمل في الوجود إلا الرؤوس ذات الشعر الذهبي"

ربي وإلهي، اغفر لماري كل كلمة من كلماتها وسامحها واغمر هفواتها بأنوارك القدسية. أرها بالحلم أو باليقظة كثوليكية عبدك جبران في كل ما يتعلق بالجمال. إبعث رباه ملكاً من ملائكتك ليقول لها إن عبدك هذا يسكن صومعة ذات نوافذ عديدة، وإنه يرى مظاهر حسنك وجمالك في كل مكان وفي كل شيء. وإنه يترنم بجمال الشعر الحالك مثلما يترنم بالشعر الذهبي. وإنه يتهيب أمام العيون السوداء مثلما يتهيب أمام العيون الزرقاء، وأطلب إليك ربي وإلهي أن توعز إلى ماري ألا تهين وتحتقر الشعراء والفنانين بشخص عبدك جبران... آمين.

وبعد هذه الصلاة أتحسبين أنني أستطيع الكلام عن الذقون المطبوعة؟ كلا! غير أنني سوف أبحث في هذه المدينة عن مزين روماني وأسأله ما إذا كان بإمكانه تحويل الذقون المطبوعة إلى ذقون سهلة مستديرة- على البيكار! هذا ولما كنت ضليعاً بفن الجراحة فأنا لا أخشى عملية جراحية!

لنعد الآن إلى حال عينيك.

كيف حال عينيكِ يا ماري؟ أنتِ تعلمين، أنتِ تعلمين بقلبك أن حال عينيك يهمني إلى درجة قصوى. وكيف تسألين هذا السؤال وأنت تشاهدين بعينيك ما وراء الحجاب.أنت تعلمين أن القلب البشري لا يخضع إلى نواميس القياسات والمسافات وأن أعمق وأقوى عاطفة في القلب البشري تلك التي نستسلم إليها ونجد في الاستسلام لذة وراحة وطمأنينة مع أننا، مهما حاولنا لا نستطيع تفسيرها أو تحليلها. يكفي أنها عاطفة عميقة قوية قدسية. فلم السؤال ولم الشك؟ ومن منا يا ماري يستطيع أن يترجم لغة العالم الخفي إلى لغة العالم الظاهر؟ من منا يستطيع أن يقول "في روحي شعلة بيضاء أما أسبابها فكذا وكذا، وأما معناها فكذا وكذا، وأما نتائجها فستكون كذا وكذا"؟ كفى المرء أن يقول لنفسه " في روحي شعلة بيضاء".

قد سألت عينيك يا ماري لأنني كثير الاهتمام بعينيك، لأنني أحب نورهما، وأحب النظرات البعيدة فيهما، وأحب خيالات الأحلام المتموجة حولهما.

ولكن اهتمامي بعينيك لا يدل على أنني قليل الاهتمام بجبهتك وأصابعك.

الله يباركك يا ماري المحبوبة، ويبارك عينيك وجبهتك وأصابعك والله يحفظك دائماً



جبران

*****



نيويرك 30 آذار 1925



يا ماري

نعم. قد كنت صامتاً أثناء أربعة أسابيع، أما السبب فهو الحمى الاسبانية – لا أقل ولا أكثر.

أنا أستصعب، أستصعب جداً، الشكوى من علة تلم بي. فإذا مرضت رغبت في أمر واحد وهو الاختفاء عن عيون الناس- حتى عن عيون الذين أحبهم ويحبونني. وفي شرعي أن أحسن دواء للداء هو الانفراد التام.

أما صحتي الآن فهي حسنة، بل أكثر من حسنة، ولا أكتمك أنها قد صارت بهموطية! ( هكذا كان جبار بشراوي يصف صحته عندما يسأله الناس عنها)

السائح ( جريدة مهجرية ) الممتاز قد صدر متأخراً كالعادة. وقد خاطبت صاحب السائح هذا الصباح بواسطة التلفون فقال لي إنه قد بعث إليك، ولم يزل يبعث إليك، أعداد جريدته ممتازة كانت أم غير ممتازة.

أما قولك يا مريم الحلوة أن صاحب " السائح" ناقم عليك لأنك لم تبعثي إليه بمقال لعدده الممتاز فمن المبالغة الهائلة. أتظنين أن رجلاً في نيويورك ينقم عليك طالما وأنا في نيويورك؟ قد قلت ألف مرة ومرة " نحن لسنا بمعامل أدبية. نحن لسنا آلات تلقمونها الحبر والورق من جهة لتستخرجون المقالات والقصائد من جهة ثانية. نحن نكتب عندما نريد أن نكتب، لا عندما تريدون أنتم، فاعملوا المعروف معنا واتركوننا وشأننا، فنحن في عالم وأنتم في عالم آخر، فلا منكم إلينا ولا منا إليكم."- ما قولك في هذه اللهجة السربستية؟- ولكن فعلاً- بدون مزاح- ألا ترين أن أكثر أصحابي المجلات والجرائد يتوهمون أن فكرة الكاتب مثل الفونوغراف ذلك لأنهم ولدوا بفكرة فونوغرافية؟

نحن هنا في أوائل الربيع، ففي الهواء سحر ويقظة. وفي الروح فجر وشباب. أما الذهاب إلى البرية فشبيه بزيارة كهان وكاهنات عشتروت وتموز مغارة أفقا.

وبعد أيام معدودة سيقوم يسوع من بين الأموات ليعطي الحياة لمن في القبور، فتزهر أشجار اللوز والتفاح، وتعود الأنغام إلى السواقي والأنهار.

ستكونين معكي كل يوم من أيام نيسان. وستكونين معي بعد أن ينقضي نيسان- كل يوم وكل ليلة.

والله يحرسك ويحفظك يا مريم المحبوبة.



جبران



*******



نيويورك أيار 1925




ما قولك في رجل يستيقظ من غفلته صباحاً فيجد إلى جانب فراشه "رسالة" من صديقة يحبها فيقول بصوت عالٍ "صباح الخير، أهلاً وسهلاً" ثم يفتح الرسالة بلجاجة العطشان- فماذا يجد؟ لا أكثر ولا أقل من قصيدة جغرافية لشوقي بك!!!-!!
لا بأس- سوف أبحث فأحصل على قصيدة عامرة طويلة ممتعة لناسج بردها حليم أفندي دموس فأشرحها شرحاً كافياً وافياً وأبعث بها إليك! " وأخذ الثار مش معيار"
لو جاءت قصيدة شوقي في أول نيسان لاستظرفت النكتة وقلت في سري: "ما أحسنها صبية، وما أعرفها بأحوال البريد الدولي"، ولكن القصيدة جاءت في أول أيار، شهر الورود، فماذا يا ترى أفعل سوى أن أعض شفتي حانقاً متوعداً مفعماً فضاء منزلي بالضجيج.

أجل، سوف أدرس فلسفة "سن بسن وعين بعين" فأبعث إليك بكل ما تتكرم علينا قرائح أمراء الشعر العربي.
أسألك الآن- كيف أستطيع أن أصرف ما بقي من هذا النهار كما يجب أن أصرفه قبل أن أغفر لك وأسامحك؟ إن قصيدة أمير شعرائكم قد ألقت حفنة من التراب في فمي، وعليّ أن أقرأ عشرين قصيدة لكيتس وشالي وبليك، وقصيدة واحدة لمجنون ليلى!!

وبالرغم من كل شيء، افتحي كفك... كذا، كذا، كما يفعلون؟؟؟
__________________
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ممكن, جميل, جبران, رسائل, زيادة, وجبران

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
النبي - رائعة جبران خليل جبران advocate كتب الادب العربي و الغربي 64 February 19, 2013 07:47 PM
الاجنحة المتكسرة - جبران خليل جبران المقدام الروايات والقصص العربية 8 November 24, 2009 10:06 PM
مناجاة ارواح - جبران خليل جبران advocate الروايات والقصص العربية 5 September 18, 2009 11:42 PM
عيسى ابن الانسان ........رائعة جبران خليل جبران !! nebr كتب الادب العربي و الغربي 5 July 4, 2009 10:45 AM
البدائع والطرائف - جبران خليل جبران advocate كتب الادب العربي و الغربي 6 January 20, 2008 10:04 PM


الساعة الآن 02:18 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر