فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الروايات والقصص > روايات و قصص منشورة ومنقولة

روايات و قصص منشورة ومنقولة تحميل روايات و قصص منوعة لمجموعة مميزة من الكتاب و الكاتبات المنشورة إلكترونيا



موضوع مغلق
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #4  
قديم December 30, 2008, 09:29 PM
 
رد: رواية ( ذاكرة الجسد ) .رواية رائعة للكاتبه أحلام مستغانمي ...كاملة !!

وهكذا عدت إلى ثانوية قسنطينة، بعدما أخلفت هاماً دراسياً، لأجد البرنامج نفسه وكتب الفلسفة نفسها والأدب الفرنسي في انتظاري..

وحدهم بعض رفاق الدارسة كانوا ما يزالون ضمن المتغيّبين، بين مساجين وشهداء.

أغلبهم طلبة في الصفوف العليا التي كان مقرراً أن تتخرج منها أول دفعة من المثقفين والموظفين الجزائريين المفرنسين.

وكان ذلك شرفهم، أولئك الذين راهن البعض على خيانتهم، فقط لأنهم اختاروا الثانويات والثقافة الفرنسية، في مدينة لا يمكن لأحد فيها أن يتجاهل سلطة اللغة العربية، وهيبتها في القلوب والذاكرة.

فهل عجب أن يكون من بين الذين سجنوا وعذّبوا بعد تلك المظاهرات، الكثير منهم، هم الذين كانوا بحكم ثقافتهم الغربية يتمتعون بوعي سياسي مبكر، وبفائض وطنية.. وفائض أحلام.

والذين أدركوا، والحرب العالمية تنتهي لصالح فرنسا والحلفاء، أنّ فرنسا استعملت الجزائريين، ليخوضوا حرباً لم تكن حربهم، وأنهم دفعوا آلاف الموتى في معارك لا تعنيهم، ليعودوا بعد ذلك إلى عبوديتهم.

كان في مصادفة وجودي مع (سي الطاهر) في الزنزانة نفسها شيء أسطوري بحد ذاته، وتجربة نضالية ظلَت تلاحقني لسنوات بكل تفاصيلها، وربما كان لها بعد لك أثر في تغيّر قدري. فهناك رجال عندما تلتقي بهم تكون قد التقيت بقدرك.

كان (سي الطاهر) استثنائياً في كلِّ شيء، وكأنه كان يعد نفسه منذ البدء، ليكون أكثر من رجل.

لقد خلق ليكون قائداً. كان فيه شيء من سلالة طارق بن زياد، والأمير عبد الطارق، وأولئك الذين يمكنهم أن يغيروا التاريخ بخطبة واحدة.

وكان الفرنسيون الذين عذّبوه وسجنوه لمدة ثلاث سنوات يعرفون ذلك جيداً. ولكنهم كانوا يجهلون أنّ (سي الطاهر) سيأخذ بثأره منهم بعد ذلك بسنوات، ويصبح الرأس المطلوب بعد كل عملية يقوم بها المجاهدون في الشرق الجزائري.

أيّ صدفة.. أن يعود القدر بعد عشر سنوات تماماً، ليضعني مع (سي طاهر) في تجربة كفاحية مسلحة هذه المرّة!

سنة 1955.. وفي شهر أيلول بالذات، التحقت بالجبهة.

كان رفاقي يبدأون سنة دراسية ستكون الحاسمة، وكنت في عامي الخامس والعشرين أبدأ حياتي الأخرى.

أذكر أنَّ استقبال (سي طاهر) لي فاجأني وقتها. لم يسألني عن أيّة تفاصيل خاصة عن حياتي أو دراستي. لم يسألني حتى كيف أخذت قرار التحاقي بالجبهة، ولا أيّ طريق سلكت لأصل إليه. ظلَّ يتأملني قبل أ، يحتضنني بشوق وكأنَّه كان ينتظرني هناك منذ سنة.

ثم قال:

- جئت..!

وأجبته بفرح وبحزن غامض معاً:

- جئت!

كان ( سي الطاهر) هكذا أحياناً، يكون موجزاً حتَّى في فرحته؛ فكنت موجزاً معه في حزني أيضاً.

سألني بعدها عن أخبار الأهل، وأخبار ( أمّا) بالتحديد، فأجبته أنها توفيت منذ ثلاثة أشهر. وأعتقد أنه فهم كلّ شيء، فقد قال وهو يربت على كتفي، وشيء شبيه بالدمع يلمع في عينيه:

- رحمها الله، لقد تعذبت كثيراً.

ثم ذهب في تفكيره بعيداً إلى حيث لا أدري..

بعدها حسدت تلك الدمعة المفاجئة في عينيه، والتي رفع بها أمي إلى مرتبة الشهداء. فلم يحدث لي أن رأيت (سي الطاهر) يبكي سوى الشهداء من رجاله. وتمنيت طويلاً بعد ذلك أن أمدد جثماناً بين يديه، لأتمتع ولو بعد موتي بدمعة مكابرة في عينيه.

ألكلّ هذا تقلصت عائلتي فجأة في شخصه، ورحت أتفانى في إثبات بطولتي له، وكأنني أريد أن أجعله شاهداً على رجولتي أ, على موتي؛ شاهداً على أنني لم أعد أنتسب إلى أحد غير هذا الوطن، وأنني لم أترك خلفي سوى قبر لامرأة كانت أمي، وأخٍ يصغرني اختار له أبي مسبقاً امرأة ستصبح أمه.

كنت ألقي بنفسي على الموت في كل مرّة، وكأنني أتحداه أو كأنني أريد بذلك أن يأخذني بدل رفاقي الذين تركوا خلفهم أولادهم وأهلهم ينتظرون عودتهم.

وكنت كل مرة أعود أنا ويسقط آخرون، وكأن الموت قرر أن يرفضني..

وكان (سي طاهر) بعد أكثر من معركة ناجحة اشتركت فيها، قد بدأ تدريجياً يعتمد عليَّ في المهمات الصعبة، ويكلفني بالمهمات الأكثر خطورة، تلك التي تتطلب مواجهة مباشرة مع العدو. ورفعني بعد سنتين إلى رتبة ملازم لأتمكن من إدارة بعض المعارك وحدي، وأخذ القرارات العسكرية التي يقتضيها كل ظرف.

بدأت وقتها فقط أتحول على يد الثورة إلى رجل، وكأن الرتبة التي كنت أحملها قد منحتني شهادة بالشفاء من ذاكرتي.. وطفولتي.

وكنت آنذاك سعيداً وقد بلغت أخيراً تلك الطمأنينة النفسية التي لا تمنحنا إياها سوى راحة الضمير.

لم أكن أعي أنّ طموحاتي لا علاقة لها بالمكتوب وأنّ القدر كان يتربص بي في ذلك الوقت الذي كنت أعتقد فيه أن لا شيء بعد اليوم يمكن أن يعيدني إلى حزني السابق.

وجاءت تلك المعركة الضارية التي دارت على مشارف "باتنة" لتقلب يوماً كل شيء..

فقد فقدنا فيها ستة مجاهدين، وكنت فيها أنا من عداد الجرحى بعدما اخترقت ذراعي اليسرى رصاصتان، وإذا بمجرى حياتي يتغير فجأة، وأنا أجد نفسي من ضمن الجرحى الذين يجب أن ينقلوا على وجه السرعة إلى الحدود التونسية للعلاج. ولم يكن العلاج بالنسبة لي.. سوى بتر ذراعي اليسرى، لاستحالة استئصال الرصاصتين. ولم يكن هناك من مجال للنقاش أو التردد. كان النقاش فقط، حول الطرق الآمنة التي يمكن أن نسلكها حتى تونس، حيث كانت القواعد الخلفية للمجاهدين.

وها أنذا أمام واقع آخر..

ها هو ذا القدر يطردني من ملجأي الوحيد، من الحياة والمعارك الليلية، ويخرجني من السرية إلى الضوء، ليضعني أمام ساحة أخرى، ليست للموت وليست للحياة. ساحة للألم فقط.. وشرفة أتفرج منها على ما يحدث في ساحة القتال. فلقد بدا واضحاً من كلام (سي طاهر) يومها، أنني قد لا أعود إلى الجبهة مرّة ثانية.

في ذلك اليوم الأخير، حاول (سي طاهر) أن يحافظ على نبرته الطبيعية، وراح كما كان يودعني كل مرة قبل معركة جديدة. ولكن هذه المرة كان يدري أنه يعدّني لتحمل معركتي مع القدر.

غير أنه كان موجزاً على غير عادته، ربما.. لأنه ليس هناك من تعليمات خاصة تعطى في هذه الحالات.. وربما لأنه كان يتكبد يومها أكبر خسارة بشرية ويفقد في معركة واحدة عشرة من خيرة رجاله بين جرحى وقتلي. وكان يدري، والثورة مطوقة من كل جانب، قيمة كلّ مجاهد وحاجة الثورة إلى كل رجل على حدة.

ولم أقل له شيئاً ذلك اليوم.. كنت أشعر، لسبب غامض، أنني أصبحت يتيماً مرة أخرى.

كانت دمعتان قد تجمدتا في عينيّ. كنت أنزف، وكان ألم ذراعي ينتقل تدريجياً إلى جسدي كله، ويستقر في حلقي غصة. غصّة الخيبة والألم.. والخوف من المجهول.

كانت الأحداث تجري مسرعة أمامي، وقدري يأخذ منحىً جديداً بين ساعة وأخرى، ووحده صوت (سي طاهر) وهو يعطي تعليماته الأخيرة، كان يصل إليَّ حيث كان، ليصبح صلتي الوحيدة مع العالم.

وبرغم ذلك، مازلت أذكر تماماً حضوره الأخير، عندما جاء يتفقدني قبل سفري بساعة، ووضع ورقة صغيرة في جيبي وبعض الأوراق النقدية، وقال وهو ينحني عليّ وكأنه يودعني سراً:

"لقد قُدّر لك أن تصل إلى هناك.. أتمنى أن تذهب لزيارتهم حين تشفى وتسلّم هذا المبلغ إلى (أمّا) لتشتري به هدية للصغيرة، وأود أيضاً أن تقوم بتسجيلها في دار البلدية لو استطعت ذلك.. فقد يمر وقت طويل قبل أ، أتمكن من زيارتهم..".

وعاد بعد لحظات وكأنه نسي شيئاً ليضيف شبه مرتبك وهو يلفظ ذلك الاسم لأول مرة..

".. لقد اخترت لها هذا لاسم.. سجلها متى استطعت ذلك وقبّلها عني.. وسلّم كثيراً على (أمّا).."

كانت تلك أول مرة سمعت فيها اسمك.. سمعته وأنا في لحظة نزيف بين الموت والحياة، فتعلقت في غيبوبتي بحروفه، كما يتعلق محموم في لحظة هذيان بكلمة..

كما يتعلق رسول بوصية يخاف أن تضيع منه..

كما يتعلق غريق بحبال الحلم.

بين ألف الألم وميم المتعة كان اسمك.

تشطره حاء الحرقة.. ولام التحذير. فكيف لم أحذر اسمك الذي ولد وسط الحرائق الأولى، شعلة صغيرة في تلك الحرب. كيف لم أحذر اسماً يحل ضده ويبدأ ب "أح" الألم واللذة معاً. كيف لم أحذر هذا الاسم المفرد _ الجمع كاسم هذا الوطن، وأدرك منذ البدء أن الجمع خلق دائماً ليقتسم!

بين الابتسام والحزن، يحدث اليوم أن أستعيد تلك الوصية:

"قبّلها عني.." وأضحك من القدر، وأضحك من نفسي، ومن غرابة المصادفات.


يتبع ........
__________________

&&&


أتمني ياعيوني أن تشعري بالفرحه
وأن تغمضي أهدابك
أتمني ياعيوني أن تمضي سنين العمر
ولا يمر العذاب بأعتااااابك
كفاكي بالله دمعا وشكوي تملئها السرااااب
أمضي ودعي الدمع وكفي ذكري لأحزانك

أفتحي حضنك وخديني
وجوة قلبك ضميني
نفسي أغمض مرة عيني
وألاقي دقاتك بتناديني
تعالي وضمي قلبي أكتر
ورجعيلي الحلم الأخضر

قلب مليان بالحب

التعديل الأخير تم بواسطة قلب حائر ; December 30, 2008 الساعة 11:18 PM
  #5  
قديم December 30, 2008, 09:33 PM
 
رد: رواية ( ذاكرة الجسد ) .رواية رائعة للكاتبه أحلام مستغانمي ...كاملة !!

ثمَّ أعود وأخجل من وقار صوته، ومن مسحة الضعف النادرة التي غلّفت جملته تلك، هو الذي كان يريد أن يبدو أمامنا دائماً، رجلاً مهيباً لا هموم له سوى هموم الوطن، ولا أهل له غير رجاله..

لقد اعترف لي أنَّه رجل ضعيف؛ يحنّ ويشتاق وقد يبكي ولكن، في حدود الحياء، وسراً دائماً. فليس من حقّ الرموز أن تبكي شوقاً.

إنه لم يذكر أمكِ مثلاً.. تراه لم يحنّ إليها، هي العروس التي لم يتمتع بها غير أشهر مسروقة من العمر وتركها حاملاً.

ولماذا هذا الاستعجال المفاجئ؟ لماذا لا ينتظر بعض الوقت ليرتِّب قضية غيابه لأيام، ويقوم هو نفسه بتسجيلكِ؟

لقد انتظر ستة أشهر، فلماذا لا ينتظر أسابيع أخرى.. ولماذا أنا بالذات..

أيّ قدر جعلني أحضر إلى هناك بتوقيتك؟

كلما طرحت على نفسي هذا السؤال، دهشت له وآمنت بالمكتوب.

فقد كان بإمكان (سي طاهر) برغم مسؤولياته أن يهرب ليوم أو ليومين إلى تونس. ولم تكن قضية عبور الحدود بحراستها المشددة ودورياتها وكمائنها لتخيفه، ولا حتى اجتياز (خط موريس) المكهرب والمفروش بالألغام، والممتد بين الحدود التونسية الجزائرية من البحر إلى الصحراء، والذي اجتازه فيما بعد ثلاث مرات، وهو رقم قياسي بالنسبة لعشرات المجاهدين الذين تركوا جثثهم على امتداده.

أكان حبّ (سي طاهر) للانضباط، واحترامه للقوانين هو الذي خلق عنده ذلك الشعور بالقلق بعد ميلادك، وهو يكتشف عاجزاً أنه أب منذ شهور لطفلة لم يمنحها اسماً، ولم يتمكن حتى من تسجيلها؟

أم كان يخاف، هو الذي انتظرك طويلاً، أن تضيعي منه إن هو لم يرسخ وجودك وانتسابك له على ورقة رسمية عليها ختم رسمي؟

أكان يتشاءم من وضعك القانوني هذا، ويريد أن يسجل أحلامه في دار البلدية، ليتأكد من أنها تحولت إلى حقيقة.. وأنَّ القدر لن يعود ليأخذها منه، هو الذي كان حلمه في النهاية أن يصبح أباً كالآخرين بعد محاولة زواج فاشلة لم يرزق منها ذرّية؟

ولا أدري إذا كان (سي الطاهر) في أعماقه يفضّل لو كان مولوده صبيّاً.. أدري فقط، كما علمت فيما بعد، أنه حاول أن يتحايل على القدر وأن يترك قبل سفره اسماً احتياطياً لصبي،متجاهلاً احتمال مجيء أنثى. وربما فعل ذلك أيضاً بعقلية عسكرية، وبهاجس وطني دون أن يدري.. فقد كانت أحاديثه وخططه العسكرية تبدأ غالباً بتلك الجملة التي كثيراً ما سمعته يردِّدها "لازمنا رجال يا جماعة.."

إذن، لهذا كان (سي طاهر) يبدو سعيداً ومتفائلاً في كلّ شيء في تلك الفترة..

فجأة تغيّر الرجل الصلب. أصبح أكثر مرونة وأكثر دعابة في أوقات فراغه.

شيء ما كان يتغير تدريجياً داخله، ويجعله أقرب إلى الآخرين، وأكثر تفهماً لأوضاعهم الخاصة.

فقد أصبح يمنح البعض بسهولة أكثر تسريحات لزيارة خاطفة يقومون بها إلى أهلهم، هو الذي كان يبخل بها على نفسه. لقد غيّرته الأبوّة المتأخرة، التي جاءت رمزاً جاهزاً لمستقبل أجمل..

معجزة صغيرة للأمل.. كانت أنتِ.

طلع صباح آخر..

وها هو ذا النهار يفاجئني بضجيجه الاعتيادي، وبضوئه المباغت الذي يدخل النور إلى أعماقي غصباً عني، فأشعر أنه يختلس شيئاً مني.

في هذه اللحظة.. أكره هذا الجانب الفضولي والمحرج للشمس.

أريد أن أكتب عنك في العتمة. قصتي معك شريط مصور أخاف أن يحرقه الضوء ويلغيه، لأنك امرأة نبتت في دهاليزي السرية..

لأنك امرأة امتلكتها بشرعية السرية..

لا بد أن أكتب عنك بعد أن أسدل كلّ الستائر، وأغلق نوافذ غرفتي.

ورغم ذلك.. يسعدني في هذه اللحظة منظر الأوراق المكدسة أمامي، والتي ملأتها البارحة، في ليلة نذرتها للجنون. فقد أهديتها لك مغلّفة بصورة مهذبة في كتاب..

وأدري..

أدري أنَّك تكرهين الأشياء المهذّبة جداً.. وأنَّك أنانية جداً.. وأن لا شيء يعنيك في النهاية، خارج حدودك أنت.. وجسدك أنت.

ولكن قليلاً من الصبر سيّدتي.

صفحات أخرى فقط.. ثم أعرِّي أمامك ذاكرتي الأخرى. صفحات أخرى لا بد منها، قبل أن أملأك غروراً.. وشهوة.. وندماً وجنوناً. فالكتب كوجبات الحبّ.. لا بدّ لها من مقدّمات أيضاً.. وإن كنت أعترف أنّ "المقدمات" ليست مشكلتي الآن بقدر ما يربكني البحث عن منطلق لهذه القصة.

من أين أبدأ قصتي معك؟

ولقصتك معي عدّة بدايات، تبدأ مع النهايات غير المتوقعة ومع مقالب القدر.

وعندما أتحدث عنك.. عمّن تراني أتحدَّث؟ أعن طفلة كانت تحبو يوماً عند قدمي.. أم عن صبية قلبت بعد خمس وعشرين سنة حياتي.. أم عن امرأة تكاد تشبهك، أتأملها على غلاف كتاب أنيق عنوانه "منعطف النسيان" .. وأتساءل: أتراها حقاً.. أنتِ؟ وعندما أسميك فبأي اسم؟

تُرى أدعوك بذلك الاسم الذي أراده والدك، وذهبت بنفسي لأسجله نيابة عنه في سجلات البلدية، أم باسمك الأول، ذلك الذي حملته خلال ستة أشهر في انتظار اسم شرعي آخر؟ "حياة"..

سأدعوك هكذا.. ليس هذا اسمك على كل حال. إنه أحد أسمائك فقط.. فلأسمينَّك به إذن مادام هذا الاسم الذي عرفتك به، والاسم الذي أنفرد بمعرفته. اسمك غير المتداول على الألسنة، وغير المسجّل على صفحات الكتب والمجلات، ولا في أيّ سجلات رسمية.

الاسم الذي مُنحته لتعيشي وليمنحك الله الحياة والذي قتلته أنا ذات يوم، وأنا أمنحك اسماً رسمياً آخر، ومن حقي أن أحييه اليوم، لأنه لي ولم يُنادِكِ رجل قبلي يه.

اسمك الطفولي الذي يحبو على لساني، وكأنك أنت منذ خمس وعشرين سنة. وكلما لفظته، عدت طفلة تجلس على ركبتي وتعبث بأشيائي وتقول لي كلاماً لا أفهمه..

فأغفر لك لحظتها كلّ خطاياك.

كلما لفظته تدحرجت إلى الماضي، وعدت صغيرة في حجم دمية.. وإذا بك ابنتي.

هل أقرأ كتابك لأعرف كيف تحولت تلك الطفلة الصغيرة إلى امرأة؟ ولكنَّني أعرف مسبقاً أنك لن تكتبي عن طفولتك.. ولا عن سنواتك الأولى.

أنت تملئين ثقوب الذاكرة الفارغة بالكلمات فقط، وتتجاوزين الجراح بالكذب، وربما كان هذا سر تعلقك بي؛ أنا الذي أعرف الحلقة المفقودة من عمرك، وأعرف ذلك الأب الذي لم تريه سوى مرَّات قليلة في حياتك، وتلك المدينة التي كنت تسكنينها ولا تسكنك، وتعاملين أزقَََّتها دون عشق، وتمشين وتجيئين على ذاكرتها دون انتباه.

أنت التي تعلقتِ بي لتكتشفي ما تجهلينه.. وأنا الذي تعلّقت بك لأنسى ما كنت أعرفه.. أكان ممكناً لحبنا أن يدوم؟

كان (سي طاهر) طرفاً ثالثاً في قصتنا من البدء حتى عندما لا نتحدث عنه، كان بيننا حاضراً بغيابه، فهل أقتله مرة ثانية لأتفرَّد بك؟

آه لو تدرين.. لو تدرين ما أثقل حمل الوصايا، حتَّى بعد ربع قرن، وما أوجع الشهوة التي يواجهها أكثر من مستحيل وأكثر من مبدأ فلا يزيدها في النهاية إلا ... اشتهاء!

كان السؤال منذ البداية..

كيف لي أن ألغي (سي طاهر) م ذاكرتي، وألغي عمره من عمري، لأمنح حبّنا فرصة ولادة طبيعية؟

ولكن.. ما الذي سيبقى وقتها، لو أخرجتك من ذاكرتنا المشتركة وحولتك إلى فتاة عادية؟

كان والدك رفيقاً فوق العادة .. وقائداً فوق العادة.

كان استثنائياً في حياته وفي موته. فهل أنسى ذلك؟

لم يكن من المجاهدين الذين ركبوا الموجة الأخيرة، لضمنوا مستقبلهم، مجاهدي (62) وأبطال المعارك الأخيرة. ولا كان من شهداء المصادفة، الذين فاجأهم الموت في قصف عشوائي، أو في رصاصة خاطئة.

كان من طينة ديدوش مراد، ومن عجينة العربي بن مهيدي، ومصطفى بن بولعيد، الذين كانوا يذهبون إلى الموت ولا ينتظرون أن يأتيهم.

فهل أنسى أنّه والدك.. وسؤالك الدائم يعيد لاسمه هيبته حياً وشهيداً؟

فيرتبك القلب الذي أحبّك حدّ الجنون. ويبقى صدى سؤالك مائلاً... "حدثني عنه.."

سأحدثك عنه حبيبتي.. فلا أسهل من الحديث عن الشهداء. تاريخهم جاهز ومعروف مسبقاً كخاتمتهم. ونهايتهم تغفر لهم ما يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا من أخطاء.

سأحدِّثك عن (سي طاهر)..

فوحده تاريخ الشهداء قابل للكتابة، وما تلاه تاريخ آخر يصادر الأحياء. وسيكتبه جيل لم يعرف الحقيقة ولكنه سيستنتجها تلقائياً.. فهناك علامات لا تخطئ.

مات (سي طاهر) طاهراً على عتبات الاستقلال. لا شيء في يده غير سلاحه. لا شيء في جيوبه غير أوراق لا قيمة لها.. لا شيء على أكتافه سوى وسام الشهادة.

الرموز تحمل قيمتها في موتها..

ووحدهم الذين ينوبون عنهم، يحملون قيمتهم في رتبهم وأوسمتهم الشرفيّة، وما ملأوا به جيوبهم على عجل من حسابات سرّية.

ست ساعات من الحصار والتطويق، ومنن القصف المركّز لدشرة بأكملها ليتمكن قتلته من نشر صورته على صفحات جرائد الغد كدليل على انتصاراتهم الساحقة على أحد المخرّبين و "الفلَّاقة" الذين أقسمت فرنسا أن تأتي عليهم..

أكان حقاً موت ذلك الرجل البسيط انتصاراً لقوة عظمى، كانت ستخسر بعد بضعة أشهر الجزائر بأكملها؟!

استشهد هكذا في صيف 1960، دون أن يتمتع بالنصر ولا بقطف ثماره.

ها هو رجل أعطى الجزائر كلّ شيء، ولم تعطه حتى فرصة أن يرى ابنه يمشي إلى جواره..

أو يراك أنت ربما طبيبة أو أستاذة كما كان يحلم.

كم أحبّك ذلك الرجل!

بجنون أبوّة الأربعين.. بحنان الذي كان يخفي خلف صرامته الكثير من الحنان، بأحلام الذي صودرت منه الأحلام، بزهو المجاهد الذي أدرك وهو يرى مولده الأول، أنه لن يموت تماماً بعد اليوم.

مازلت أذكر المرّات القليلة التي كان يحضر فيها إلى تونس لزيارتكم خلسة ليوم واحد أو ليومين.

وكنت وقتها أسرع إليه متلهِّفاً لسماع آخر الأخبار، وتطورات الأحداث على الجبهة. وأنا أجهد نفسي في الوقت نفسه حتى لا أسرق منه تلك الساعات القليلة النادرة، التي كان يغامر بحياته ليقضيها برفقة عائلته الصغيرة.

كنت أندهش وقتها، وأنا أكتشف فيه رجلاً آخر لا أعرفه.

رجل بثياب أخرى، بابتسامة وكلمات أخرى، وبجلسة يسهل له فيها إجلاسك على ركبته طوال الوقت لملاعبتك.

كان يعيش كل لحظة بأكملها، وكأنه يعتر من الزمن الشحيح كل قطرات السعادة؛ وكأنه يسرق من العمر مسبقاً، ساعات يعرفها معدودة؛ ويمنحك مسبقاً من الحنان زادك لعمر كامل.

كانت آخر مرة رأيته فيها، في يناير سنة 1960. وكان حضر ليشهد أهم حدث في حياته؛ ليتعرف على مولوده الثاني "ناصر"، فقد كانت أمنيته السرية أن يُرزق يوماً بكر. يومها لسبب غامض تأملته كثيراً.. وحدَّثته قليلاً.. وفضّلت أن أتركه لفرحته تلك، ولسعادته المسروقة. وعندما عدت في الغد، قيل لي إنّه عاد إلى الجبهة على عجل مؤكداً أنه سيعود قريباً لمدة أطول. ولم يعد..

انتهى بعد ذلك كرم القدر البخيل. فقد استشهد (سي طاهر) بعد بضعة أشهر دون أن يتمكن من رؤية ابنه مرّة ثانية.

كان ناصر آنذاك ينهي شهره الثامن، وأنت تدخلين عامك الخامس.

وكان الوطن في صيف 1960 بركاناً يموت ويولد كلّ يوم. وتتقاطع مع موته وميلاده، أكثر من قصة، بعضها مؤلم وبعضها مدهش..

وبعضها يأتي متأخراً كما جاءت قصتي التي تقاطعت يومها معك.

قصة فرعية، كتبت مسبقاً وحولت مسار حياتي بعد عمر بأكمله، بحكم شيء قد يكون اسمه القدر، وقد يكون العشق الجنوني..

ذاك الذي يفاجئنا من حيث لا نتوقع، متجاهلاً كلّ مبادئنا وقيمنا السابقة.

والذي يأتي متأخراً.. في تلك اللحظة التي لا نعود ننتظر فيها شيئاً؛ وإذا به يقلب فينا كلّ شيء.

فهل يمكن لي اليوم، بعدما قطعت بيننا الأيام جسور الكلام، أن أقاوم هذه الرغبة الجنونية لكتابة هاتين القصتين معاً، كما عشتهما معك ودونك، بعد ذلك بسنوات..

يتبع ......
__________________

&&&


أتمني ياعيوني أن تشعري بالفرحه
وأن تغمضي أهدابك
أتمني ياعيوني أن تمضي سنين العمر
ولا يمر العذاب بأعتااااابك
كفاكي بالله دمعا وشكوي تملئها السرااااب
أمضي ودعي الدمع وكفي ذكري لأحزانك

أفتحي حضنك وخديني
وجوة قلبك ضميني
نفسي أغمض مرة عيني
وألاقي دقاتك بتناديني
تعالي وضمي قلبي أكتر
ورجعيلي الحلم الأخضر

قلب مليان بالحب

التعديل الأخير تم بواسطة قلب حائر ; December 30, 2008 الساعة 11:20 PM
  #6  
قديم December 30, 2008, 09:35 PM
 
رد: رواية ( ذاكرة الجسد ) .رواية رائعة للكاتبه أحلام مستغانمي ...كاملة !!





رغبةً.. وعشقاً.. وحلماً.. وحقداً.. وغيرةً.. وخيبةً.. وفجائع حدّ الموت. أنت التي كنت تحبّين الاستماع إليّ.. وتقلبينني كدفتر قديم للدهشة.

كان لا بد أن أكتب من أجلك هذا الكتاب، لأقول لك ما لم أجد متَّسعاً من العمر لأقوله.

سأحدثك عن الذين أحبّوك لأسباب مختلفة، وخنتهم لأسباب مختلفة أخرى.

سأحدثك حتى عن زياد، أما كنت تحبِّين الحديث عنه وتراوغين؟ لم يعد من ضرورة الآن للمراوغة.. لقد اختار كلّ منا قدره.

سأحدثك عن تلك المدينة التي كانت طرفاً في حبّنا، والتي أصبحت بعد ذلك سبباً في فراقنا، وانتهي فيها مشهد خرابنا الجميل.

فعمّ تراك ستتحدثين؟ عن أيّ رجل منَّا تراك كتبت؟ مَنْ منَّا أحببت؟ ومن.. منّا ستقتلين؟

ولمن تراك أخلصت، أنت التي تستبدلين حبّاً بحبّ، وذاكرة بأخرى، ومستحيلاً بمستحيل؟

وأين أنا في قائمة عشقك وضحاياك؟

تراني أشغل المكانة الأولى، لأنني أقرب إلى النسخة الأولى؟

تراني النسخة المزورة ل (سي طاهر) تلك التي لم يحوّلها الاستشهاد إلى نسخة طبق الأصل؟

تراني الأبوة المزورة.. أم الحب المزوّر؟

أنت التي _كهذا الوطن_ تحترفين تزوير الأوراق وقلبها.. دون جهد.

كان "مونتيرلان" يقول:

"إذا كنت عاجزاً عن قتل من تدّعي كراهيته، فلا تقل إنَّك تكرهه: أنت تعهّر هذه الكلمة!".

دعيني أعترف لك أنني في هذه اللحظة أكرهك، وأنّه كان لا بدّ أن أكتب هذا الكتاب لأقتلك به أيضاً. دعيني أجرّب أسلحتك..

فربما كنت على حق.. ماذا لو كانت الروايات مسدّسات محشوّة بالكلمات القاتلة لا غير؟.

ولو كانت الكلمات رصاصاً أيضاً؟

ولكنَّني لن أستعمل معك مسدساً بكاتم صوت، على طريقتك.

لا يمكن لرجل يحمل السلاح بعد هذا العمر، أن يأخذ كلّ هذه الاحتياطات.

أريد لموتك وقعاً مدوياً قدر الإمكان..

فأنا أقتل معك أكثر من شخص، كان لا بد أن يجرؤ أحد على إطلاق النار عليهم يوماً.

فاقرأي هذا الكتاب حتى النهاية، بعدها قد تكفّين عن كتابة الروايات الوهمية.

وطالعي قصتنا من جديد..

دهشة بعد أخرى، وجرحاً بعد آخر، فلم يحدث لأدبنا التعيس هذا، أن عرف قصة أروع منها..

ولا شهد خراباً أجمل.

إنتهى الفصل الأول



__________________

&&&


أتمني ياعيوني أن تشعري بالفرحه
وأن تغمضي أهدابك
أتمني ياعيوني أن تمضي سنين العمر
ولا يمر العذاب بأعتااااابك
كفاكي بالله دمعا وشكوي تملئها السرااااب
أمضي ودعي الدمع وكفي ذكري لأحزانك

أفتحي حضنك وخديني
وجوة قلبك ضميني
نفسي أغمض مرة عيني
وألاقي دقاتك بتناديني
تعالي وضمي قلبي أكتر
ورجعيلي الحلم الأخضر

قلب مليان بالحب
موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
للكاتبه, أحلام, مستغانمي, الجسد, ذاكرة, رائعة, رواية, كاملة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رواية ::< أملي أن يأتي يوم غد أفضل >:: أول رواية ل شموع تبكي .. شموع تبكي روايات و قصص منشورة ومنقولة 2 May 24, 2012 02:25 PM
رواية |||<الزهور الذهبية>|||....لعنة الحب تنتقل عبر الأجيال....رواية طويلة من ثلاثة دفاتر tamahome روايات و قصص منشورة ومنقولة 187 February 6, 2012 10:23 PM
رواية نساء عند خط الاستواء ل زينب حفني رواية ممنوعة بو راكان كتب الادب العربي و الغربي 32 December 27, 2011 07:46 PM
عاجل (مطلوب رواية الاخرون للكاتبه صبا الحرز) ابغاها على الوورد الاسبانيه أرشيف طلبات الكتب 4 October 9, 2008 04:38 AM


الساعة الآن 07:06 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر