فيسبوك تويتر RSS


  #1  
قديم November 2, 2017, 02:21 AM
 
Smile ولادات ومواليد الخوف بقلم د. محمد المخزنجي

ولادات ومواليد الخوف
بقلم
د. محمد المخزنجي

فى الرحبة قبل السابقة «ميراث الخوف بالألوان»، مررت سريعا على ضفدع من ضفادع الغابات المطيرة بأمريكا الجنوبية يُعتبر من أصغر الضفادع السامة الملونة، ويُسمَّى «الضفدع الذهبى»، نظرا لصفرته الصافية البراقة التى تُذكِّر بالذهب، ويفرز الضفدع الواحد منها عند تملك الخوف منه مليجراما واحدا من سم «التتراشوتوكسين» يكفى لقتل حتى عشرين إنساناً مرة واحدة، أو ما يعنى أن جراما واحدا من سم هذا الضفدع يكفى لقتل عشرين ألف إنسان من أشداء البشر، ولأن ثمة أبحاثا ربطت بين قوة اللون وشدة السم من ناحية، وبين شدة السم وشدة الخوف من ناحية أخرى، يُستنتَج أن هذا الضفدع الذهبى فتَّاك السم، هو من أشد الضفادع خوفا!

مفترسٌ جديد يدخل الغابة
وخوف هذا الضفدع الذهبى مُبرَّرٌ تماما، سواء من وحوش الحيوانات التى تهدد حياته فى الغابة، أو من الصيادين البدائيين أشباه العراة الذين يسكنون عند أطراف الغابة، والذين يمارسون عليه أشد أنواع التخويف والألم للحصول على سُمِّه، إن لطلاء سهامهم الصغيرة التى يطلقونها بالنفخ عبر أنابيب القصب ويصطادون بها ما يشل الفريسة فور إصابتها فلا تهرب، أو لبيع هذا السم لمندوبى شركات الأدوية العالمية والباحثين التابعين لها، حيث تُستخرَج منه مواد فائقة التخدير وواعدة فى علاج بعض الأمراض تدر عليهم الملايين، بل البلايين، فى صناعة الدواء ـ العالمية- التى تنافس أرباحها أرباح تجارة السلاح!





الضفدع القابلة يحمل بيض ذريته في كيس من هلام على ظهره حتى الفقس

سهل جدا أن يجمع هؤلاء الصيادون ما شاءوا من أعداد ذلك الضفدع الذهبى، حيث تقبض عليه أصابعهم الخبيرة بحيث لا تلامس ظهره الذى يفرز السم عبر ثغور نتوءاته، كما أن أصابعهم الخبيرة لا تضغط على جنبيه حتى لا يشعر بدنو أجله فيبدأ فرز السم دون أن يكونوا مستعدين لجمعه، بعدها يحبسونه فى قصبة مجوفة يسدون فتحتيها لدفعه إلى الإحساس بالخوف من إيحاء الظلمة وافتقاد المهرب، فيظن أنه قد تم ابتلاعه فى جوف أحد مفترسيه من الطيور أو الأفاعى، وبعد فترة من تضاعُف خوفِه داخل محبسه، يخرجونه من جوف القصبة، ليصعدوا بخوفه إلى حد الرعب..

يتعرَّق سُمَّاً على ظهره
بخبرتهم الحاذقة يمسك الصيادون بالضفدع الذهبى من جانبيه اللذين لا يفرز جلدهما السم، وبعود رفيع مدبب الطرف من الخشب يخترقون جلد ذقنه ليشق لحمه حتى يخرج من تحت أبطه، لا يقتلونه، لكنه فى غمرة كل هذا الألم يحس أنه يُقتَل، فيُشهر سلاحه الأخير فى وجه قاتله الذى يظنه من الطيور التى تتخطفه من السماء أو تباغته على الأرض، يتعرق ظهره برغوة بيضاء بها سم التتراشوتوكسين، فيكشطونها ويجمعونها ليدهنوا بها رؤوس سهامهم الدقيقة التى يطلقونها بالنفخ فتشل ما تصيبه من طرائدهم على الأشجار، قرودا كانت أو طيورا، أو يبيعونه لمندوبى شركات الدواء البليونية بأبخس الأثمان.
عادة، لا تموت الضفادع بعد جلسات انتزاع سمها البشعة هذه، فيطلقها الصيادون حيَّة فى الغابة، لكنها وهى لا تنسى خوف الظلمة ورعب النصل فى لحمها، تعاود مراكمة السم من جديد، ولابد أنها تنقل خبرة ذلك الخوف والرعب إلى جماعتها، خاصة أن هذه الضفادع من النوع الاجتماعى الذى يعيش فى جماعات تضم ما بين عشرة وعشرين فردا فى موضع واحد. كما أنها تنقل هذا الخوف إلى ذريتها عبر حرصها على تزويدها بما يراكم السم فى جسمها منذ خروجها من البيض، كما أشرت فى المقال السابق عبر إطعامها البيض غير المخصب والمحتوى على سم التتراشوتوكسين. لكن خوفها على صغارها من مصير ما ذاقته من رعب وألم لا يقف عند حدود تحصينهم بالسم، فتظل تحمل شراغفها الصغيرة على ظهرها، لا تفارقها أبدا، حتى تكبر ويُكتمَل نموها ويتكاثف سُمها، عندئذ يسمح لها الآباء بالنزول عن ظهورهم، لتتقافز بموروث الخوف الذى تحمله، وتتأهب لإفراز سمها عند ذروة الشعور بالخطر!





أنثى الضفدع الذهبى تظل تحمل شراغفها حتى يُكتمل نموهم ويشتد سمهم

بعيدا عن الغابة والخطر
وما أعجب أن هذه الضفادع الذهبية التى صار يقتنيها البعض فى حدائق بيوتهم للزينة، تكف من فورِها عن تكوين السم وإفرازه متى ما صارت فى مأمن، ربما لأن هذه البيئة لا توفر لها طعامها المفضل من النمل السام وبعض الخنافس التى تستخلص منها السم وتراكمه فى مخازنه السرية تحت جلد ظهرها، ثم إنها بطريقة ما - على الأغلب- لا تعود ترى ضرورة لتكوين هذا السم فى بيئة تخلو من المفترسين. ومن العجيب أيضا أنها إذا أُعيدت إلى الغابة تعود لتكوين السم حيث يُعاودها الخوف.
وظاهرة حمل الضفادع لصغارها على ظهرها خوفا عليهم لا تتوقف على هذا النوع من الضفادع الذهبية السامة. فثمة ضفدعة أخرى غير سامة تُكرِّر التعبير عن هذا الخوف الأمومى بحمل صغارها على ظهرها حتى بعد اكتمال تكوينهم إلى أن يصيروا شبابا، وهى ضفدعة تسمى «أميرة الضفادع» ربما لألوانها المشرقة من أخضر زاهٍ على الجسم، وبرتقالى متوهج ومبهج على أطرافها وفى عيونها، مع لمسة بالأزرق المضىء على أطراف أطرافها. كائن يبدو لطيفا وباعثا على الابتهاج، لكنه شديد الخوف والحذر إلى درجة التعاسة! وهناك ما هو أعجب..

ولادة من الظهر تحت الماء





أب يظل يحرس ذريته فى بيضها حتى الفقس والاكتمال دون أن يأكل تقريبا

ثمة نوع من ضفادع الطين، أو «العلاجيم»، يُسمَّى «علجوم سورينام» نسبة إلى البلد الذى يعيش فيه والواقع فى أمريكا الجنوبية شمال البرازيل، ويشتهر أيضا باسم «بِبا بِبا»، وهو يستوطن البرك الضحلة فى غابات هذه البلدة المطيرة، لونه بنى، وطوله ما بين 10 إلى 20 سنتيمترا، وعندما لا تكون أنثاه حاملا تبدو كما الذكر، سلخة جلد تشبه ورق الشجر برأس مثلث كبير وأقدام نجمية الأصابع وعينين مثل خرزتين داكنتين وسط لونها البنى الرمادى. وهى تقضى معظم حياتها تحت الماء منطرحة على القاع الطينى للبرك التى تستوطنها، ولا تظهر على سطح الماء إلا لتتنفس ثم تعود إلى قبوعها على القاع، تنتظر غذاءها من الأسماك والهوام المائية، مكتفية بفتح فمها الكبير حتى تقع فيه فريسة شاردة فتبتلعها، فهى.. لا لسان لها!





خوف الأميرة الصغيرة الشديد يدفعها لحمل صغارها على رأسها كل الوقت

عندما يأتى موسم التزاوج على البر يتغير جسم أنثى هذه الضفادع كثيرا، فلا تعود مسطحة كورقة شجر، بل تبدو منتفخة بوسادة شبه إسفنجية من لحمها تنمو فوق ظهرها، وما إن تضع البيض المُخصَّب الذى يصل عدده إلى مائة بيضه حتى ينقله الذكر إلى ظهرها، ثم يعتليها ليضغط ببطنه على هذا البيض الذى يبلغ عدده مائة بيضه، فتنغرس كل بيضة فى وسادة ظهرالأم تاركة وراءها فتحات مدورة سرعان ما تنمو عليها طبقة من جلد الأم، وتتحول هذه الوسادة الإسفنجية الحية إلى رحم تنمو فيه الأجنة دون أن تمر بطور اليرقة أو الشرغوف، بل تخرج الذرية من هذا الرحم- بعد أربعة أشهر كاملة - ضفادع صغيرة مكتملة التكوين فى مشهد عجيب، إذ تبدأ الولادة بانقشاع غطاء الجلد عن هذا الرحم على الظهر، ثم تطلع من كل فتحة مدورة يدان ممدودتان بأصابع نجمية من أيادى الضفادع الوليدة، ويتعاقب خروج الأيادى الممدودة من خنادق ظهر أمها، يليها اكتمال خروج الضفادع الصغيرة متقافزة فى مشهد حاشد أعجب ما يكون! ولادة جماعية من الظهر، ظهر الخوف.

تحملهم فى معدتها وتصوم




الخوف الذاهل فى عيون أطفال السبايا الأيزيديات الذين حرمهم مجرمو داعش من أمهاتهم وآبائهم فى مأساة اجتياح سنجار

وليس الظهر وحده هو الذى يتحول إلى رحم يحمل الصغار حتى يبلغوا أشدهم لدى هذه الكائنات البرمائية وارثة الخوف التاريخى فى ذاكرة جيناتها التى حفرها رعب ملايين السنين فى البحر والبر، فالأمعاء أيضا تتحول إلى أرحام تحمل الأجنة داخلها لدى نوع من الضفادع الأسترالية جاحظة العينين يسمى «الحامل فى معدتها» فما إن تضع الأنثى حملها من البيض المُخصَّب حتى تسارع بابتلاعه، وتستودعه فى جيب من معدتها لعدة أسابيع، وهذا يحتم عليها أن تصوم كل هذه الأسابيع فلا تأكل حتى لا تعمل إنزيمات الهضم ضد بيضها وما يخرج منه بعد الفقس، ومع خروج الصغار من البيض كاملى النمو، يكبرون بسرعة فيضغط جيب المعدة الذى يتمدد وينتفخ ضاغطا على رئتيها حتى يعيق تنفسها، فتلجأ للتنفس بأقل القليل من الهواء الذى تُتيحه لها إمكانية امتصاص ظهرها الرطب للنزر اليسير من الأكسجين إلى أن يأتيها الفرج، فتحين الولادة.. من الفم!
أى شدة، وأى ميراث للخوف يدفع الضفادع الأمهات لتحمل أجنَّتها هونا على هون فوق ظهورها وتحت جلدها وفى معداتها؟! وأى عجب فى أن أمهات الضفادع ليست وحدها التى تتحمل هذه الشِدَّة خوفا على صغارها، فثمة نوع من الضفادع يسمى «ضفدع داروين» لأن داروين كان أول من لفت النظر إلى غرابتها بعد رؤيته لها فى رحلته الاستكشافية عبر البحار وعلى اليابسة على ظهر السفينة «بيجل» والتى استمرت لخمس سنوات ابتداء من 27 ديسمبر من عام 1831، فهذه الضفادع تحمل ذكورها أجنة ذريتها فى جيوبها الصوتية تحت ذقونها. فما إن تضع الأنثى البيض ويخصبه الذكر حتى يسارع بابتلاعه، ويتخذ البيض مسارا يمضى فيه إلى الجيب الصوتى أو قربة الهواء التى ينفخها ويصنع من نفثها أصوات نقيقه؟ وما أشد بؤس الموقف عندما يتملك رعب شديد هذا الضفدع «الحامل» لذريته والمثقل بحِمل ميراث الخوف، فهو يطرحهم من فمه ضعافا ناقصين، دفعة واحدة، فيما يشبه إجهاض الرعب لدى إناث البشر وغير البشر، بدلا من أن يلدهم المسكين على مهل، فى نوبة وضع تستمر لعدة أيام، حتى لا يقضى عليه الإنهاك، وحتى يخرج الصغار سالمين بلا تضاغط أو تنافر، ليكبروا متآخين. لكنهم برغم ذلك يستمرون حاملين ذاكرة الخوف وآلية الدفاع البائسة فى غابات الخوف. تلك الآلية التى تأخذ شكلين لا ثالث لهما: إمَّا الهَم، أو السُم!

ميراث السم والهم.. والدم




الخوف الذاهل نفسه فى عيون أطفال الدواعش من أصول روسية بعد مقتل أو فرار أمهاتهم والآباء مع هزائم داعش الأخيرة

لقد وددت أن أكتب شيئا عن تلك الكائنات دون إسقاط على المتشابهات فى عالم البشر، فما فينا وفيها يكفيها ويكفينا، لكن الحظ الحزين ساقنى وأنا أتجول فى فضاء الإنترنت إلى صورتين لأطفال من زمننا العجيب لم أستطع تجاهلهما، إحداهما لأطفال من أبناء الإزيديات اللائى قنصهن الدواعش واتخذوا منهن بالقهر والرعب حريما وسبايا. والثانية ـ فى أكثر من فيديو ـ لأطفال من أبناء الدواعش الروس الذين فروا أو قُتلوا بعد هزائم الدواعش فى العراق وسوريا، وقد استعادتهم روسيا ووضعتهم فى مراكز رعاية طبية وترفيهية قُبل تسليمهم لذويهم فى الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة فى الاتحاد الروسى. وبرغم أن هؤلاء الأطفال قد ظهروا رافلين فى ثياب جديدة جميلة، وأُغدقت عليهم الألعاب والدمى، إلا أنهم لم يكونوا يبتسمون أبدا، حتى عند تسليمهم لجداتهم وخالاتهم وأعمامهم وعماتهم، بل كانوا أحيانا يبكون من شدة الاستغراب وافتقاد الأمهات. وكانت نظراتهم كما نظرات أطفال الإزيديات الذين حُرموا من أمهاتهم، شاردةً شرود الخوف وتوقع الخطر، وكأنهم عواجيز مستسلمين فى صمت أمام نوائب ومصائب لا قبل لهم بردها. أطفال عواجيز، من أبناء الجُناة كما أبناء الضحايا، ولا فرق. فتأمَّل، وتألَّم؟!

ملحوظة:
فاتنى أن أذكر معلومة مهمة عن الضفادع الذهبية التى اتخذ منها البعض إضافات جمالية فى حدائق بيوتهم فكفت عن تكوين السم تحت جلدها، وقد ذُكِر أنها لم تكتف بذلك فى عالمها الآمن البعيد عن الغابة، بل كانت بعد مُضى أسبوعين فى عيشها الجديد تتعرّف على من يرعاها من البستانيين أو أصحاب الحدائق، فتتبعهم كما لو كانت أطفالا يتبعون ذويهم!
رابط فيديو ولادة ضفادع سورينام من الظهر:
على الرابط التالى:


__________________
الحمد لله في السراء والضراء .. الحمد لله في المنع والعطاء .. الحمد لله في اليسر والبلاء


Save

التعديل الأخير تم بواسطة معرفتي ; November 2, 2017 الساعة 10:46 AM سبب آخر: إضافة رابط لموضوع سابق
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المخزنجي, بقلم د. محمد, ولادات, ومواليد الخوف

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ميراث الخوف بالألوان بقلم محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 1 November 20, 2018 08:30 AM
من المُستفيد؟ بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 0 July 27, 2013 02:30 AM
لُوجوُرِيا بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 0 July 27, 2013 12:43 AM
ارحلا بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 0 July 27, 2013 12:35 AM
مصر بين القنادس بقلم د. محمد المخزنجي معرفتي مقالات الكُتّاب 0 July 26, 2013 11:05 PM


الساعة الآن 08:11 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر