فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الموسوعة العلمية > معلومات ثقافيه عامه

معلومات ثقافيه عامه نافذتك لعالم من المعلومات الوفيره في مجالات الثقافة و التقنيات والصحة و المعلومات العامه



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم April 24, 2008, 05:51 PM
 
Boy كتابة الشخصية الذاتية Cv

( سيرة كتابة .. سيرة حياة ..)


(1)

أريد أن أبدأ .. أن أبرأ من هاجس الانكسار .. هكذا تبدو الورقة بمثابة سيف قاطع مسلط علي العنق ، ويبدو فعل الكتابة أقرب إلي محاولة مستمرة لرأب صدوع النفس .. الخطوة الواهنة ليس لها سطوة حبر المطابع . أعرف أن للحياة حكمة علينا أن نكتشفها . للصدفة قوانينها الصارمة ، وإلا لما كان الموت عندي هو البداية هو بوابة خضراء للمرور إلي عوالم تضج بالحركة والحياة .
اللغة هي المادة الخام الأولية التى سنحاول من خلالها أن نفهم ونري ونكتشف ، وهي التى ستمدنا بكل هذا الزخم من الرؤي والتحولات أتذكر " الطريق إلي غريكو " وكيف حاول كازنتراكي أن يرتد إلي سنوات طويلة سابقة ليقرأ حياته . كان علي شفا الاحتضار لقد هتف فى توسل : لا تحكموا علىّ بأعمالى ، ولا تحكموا من وجهة نظر الإنسان ، بل احكموا علىّ من وجهة نظر الله .. ومن الهدف المختصر وراء أعمالى". علي نيل القاهرة صارحنى سعدى يوسف الشاعر العراقي المعذب بالمنافى أن رحلته الإبداعية بدأت لعباً ، وانتهت لعباً ، لكن فى المنطقة الوسطى يكمن الجهد الحقيقي للإبداع ويخص اللغة .
أليس هذا قريباً مما قاله لي ناقد عربى حصيف هو عبد الله الغذامي فى حديث آخر أجريته معه فى الرياض أن الإنسان لغة واللغة هنا ليست بمعناها التقليدي ، بل تمتد لتشمل العادات والتقاليد والأهازيج والأمثولات الشعبية ، كلها كما نري تجليات إنسانية ، كاشفة ودالة علي تفاعلات اجتماعية وتاريخية وثقافية ، الكتابة بهذه الكيفية محاولة للعب الإنسانى الذي يستهدف الكشف ، لكن اللعب يستفيد من الصدفة ويحورها ويختزلها أو يوسعها بحثاً عن المتعة .
قال لي جورج طرابيشي أن مأزقنا الأساسي هو محاولة نفى الآخر وهي إشكالية تستخدم غالباً ضد تواصل الحضارات ، وعندما تتحول الإشكالية لتأسيس قطيعة معرفية ، عندها تصبح تلك الإشكالية خطر علينا .
بين تلك المقولات أود أن أدخر جهداً أساسياً لأن أقول كلمتي ، ليس بتلك الصيغ النهائية الجازمة التى تعرف اليقين الكامل بل بطريقة تجمع بين الذكريات التى هي محاولة أبدية لتثبيت اللحظة وبين الشفافية فى الدخول إلي عوالم الحلم أريد أن أؤكد علي أمر أساسي فى هذه الشهادة : إنني لا أملك يقيناً كاملاً لأصف معارفي أو أتلفظ بحقيقة ما . إنها محاولة أولي لأن أفهم ذاتى وربما إلي حد كبير ، الصدفة وأن لا شئ فى العالم أكثر غموضاً وخفاء من فهم واستبصار الإنسان بموقفه فى سياق صيرورة أكبر منه .
الميلاد خروج للنور ، وإعلان للألم ، بالأمس فقط كنت أهرب من كتابة هذه الشهادة ، وجاءت عبارة علي لسان ممثلة فرنسية لا أذكر اسمها ، رأيت أن أبدأ بها كلامي تقول معقبة علي سلسلة أحداث دامية " لابد أن أملك قلباً شجاعاً لأسامح الآخرين " .
قلت فى نفسي : ولابد أن أملك روحاً أكثر تحرراً لأسامح نفسي ، فثمة انكسارات واحباطات ، وهزائم جيل لم يظفر يوماً بالحد الأدني من العدل والجمال والحق والكتابة ، نحاول أن نرأب الصدع ، أن نحرر أنفسنا من الصمت ، الكاتب فى ورطة وأهم اختراع قام به هو إيجاد " القناع " به ينفصل عن العالم ، ولا يخضع لغيبوبة اليقين المطلق ولا يحني الرأس للأسلاف كرهاً أو طواعية . قال لي الباحث الفلسطيني عبد الرحمن بسيسو مرة وأنا أحاوره إن اكتشاف القناع يعادل فى الشعر اكتشاف الإنسان البدائي للنار أكتم فى صدري هاجساً يؤرقني كثيراً ، وهل غادر الإنسان بدائيته ؟ إفتح تلفازك ، وارقب نشرات الأخبار ، انتبه إلي هذا الفزع العالمى ، وانظر هل هي أقنعة الهروب من المواجهة أم أقنعة تجميل الوجه القبيح ؟ فى طفولتي المبكرة أدركت قبح العالم ، وعلي مشارف المظلوم مقام " المنية " الشهير صعدت إلي أعلي أغصان شجرة توت ، تتدلى أوراقها لتلامس سطح الأرض أردت أن أتحرر أكثر من سطوة القهر ، جربت أن أصعد أكثر فانكسر الغصن ، ووقعت ، وامتلأت بالرضوض ، لكنى شعرت بروحي تتخفف كثيراً من هذا العسف اليومي .
هكذا كانت الكتابة ومضة إله وإشارة مكابدة ثم صعود للأعالى ومفارقة للألم الذي يعصف بالأرواح ولكن لنبدأ الحكاية من أولها .

(2)

ذكريات الطفولة منجم لا ينضب ، لها صلة بالكتابة أو هي المعرفة التي لم تدون حتى الآن هي محل ثقة الروح لا العقل ، لها طيف أثير يتخلل المكان ، ويزكيه بنار الوجود . قلت أن الموت هو البداية ، هذا ما حدث بالفعل ، إذ معه بدأت الرحلة ، تضببت المرئيات ، ولكنها ظلت تمرق فى الذاكرة ، لكنه موت غير مؤلم مطلقاً ، تصورت أنه استدعاء ، قسرى لإنسان بسيط لأمر ما فى السماء ، فهو منحة لا محنة .
لقد رحل أبى صانع الأحذية ، وأنا أحبو فى الشهور الأولي ففتحت عيني علي قمر مكتمل وبهاء عجيب ، تراتيل " الفارة " والسراق " فى حارة دمياطية يعشق " أسطواتها " العمل ، أتذكر علي الدوام ذلك الهدوء الذي يهبط فى لطف علي أرجاء الحارة التي يتميز سكانها بشهامة أولاد البلد . لقد مات أبي منذ أشهر قلائل وبمرور السنوات امتلكت نقوداً فضية مصكوكة بصورة الملك ، ملك ذهب بعد مجيئي إلي الدنيا بستة أشهر ، لكنه ما زال يبدي تلك الابتسامة الفاترة التي تنم عن لا مبالاة . كنت أغتاظ كلما وصلت إلي يدي قطعة نقود فضية أو نحاسية مطموسة الملامح وأشعر بالغبطة لاستدارة الحافة ونقرشتها .
طفولة كلها شقاوة وبهجة ، ولكن أجمل الأوقات فى شهر رمضان حين تدير البيوت جميعها – وكأنها علي اتفاق مسبق – مؤشر الراديو ليذيع القرآن الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت ، وقتها ننطلق جميعاً إلي " جامع البحر " ونتأمل المدفع القديم ذي العجلات علي الشاطئ الآخر حيث مقام الشيخ الصياد بناحية السنانية ، ونرقب الطريق الذي يأتي منه الشاويش ببذلته الكاكية ، يظل يسير علي حافة النيل جيئة وذهاباً ، وهو يرقب ساعته ونعرف اللحظة الحاسمة ، نقتنصها كطائر خرافي هب فجأة، وحملنا إلي السموات البعيدة ، يضع قنبلة الصوت ، ويحك بعصاه السحرية " رأس البمبة " فنري الوميض قبل أن يرجنا الصوت المدوي من الأعماق ، ويتصاعد النداء الروحاني " الله أكبر " ونطير إلي بيوتنا فنجد الكبار فى انتظارنا وأبواب البيوت مفتوحة تحضننا فى دفء عجيب.
مدينتي دمياط تعشق العمل ، ومنذ الطفولة المبكرة نزلت إلي الورشة لأعمل حملت علي أكتافى أطقم الصالونات ، وقرص السفرة وقطع الدواليب المفككة ، وسرت عشرات المشاوير فى رضا وهدوء لكن الأمل لم يخل من تمرد ، فقد كنت أتمني أن ألعب مع أصحابي " بلتك" و " السبع طوبات " و " الكرة بالميس " وكلها لعبات شعبية كلها صخب ومنازعات مضمرة ، كم مرة اختبأت فى عباءة الليل واختطفت الدقائق لأشارك فى تلك اللعبات التى كانت تخطف قلبي .
كان " المعلم " كريماً إذ كان يكتفى فى العادة بقرص أذني لأن "رمضان كريم " وكان أجمل شئ يقدمه لنا مع سهر الليل أكواب زجاجية ملونة مليئة " بالخشاف " فى موعد محدد مع موسيقي " ألف ليلة وليلة " تتوقف شواكيش الصبية عن الدق وتبدأ شهر زاد الكلام ولا يوقفها إلا صياح الديك الذي صرت أمقته وتأكدت أنه نفس الديك المتغطرس الذي يقف دوماً علي حافة سور بيت أبي صير ، وحاولت أن أقتص منه ، رميته بقطع الطوب فطار وسقط وسط الشارع ، ولم يمس بسوء ، فقط حصلت علي نصيبي من التوبيخ والتأنيب ، وسألت عن الرجل الذي نقل الحكايات " ألف ليلة وليلة " إلي الراديو ، وعرفت أنه طاهر أبو فاشا ، نفس الرجل الضحوك الذي يجلس فى عطلة العيد – عيد الكعك لا اللحم- ليسامر زكريا الحزاوي وسعد الدين عبد الرازق وعبد الوهاب شبانه . وغيرهم ، ولا يكف الرجل لحظة عن الضحك والصهللة وقرض الشعر ولا زال مقهي شاهين وحتى هذه اللحظة علي مرمي حجر من بيت جدي القديم ، والذي باعته العائلة بمائتى جنيه فرحة بالمبلغ المحترم وما زال داخلي أثر بكاء أن شيئاً عزيزاً قد بددته الأيام .
أعود للورشة ففى الواحدة أو بعدها بقليل تأتي صينية الشاي ويجد كل منا كوبه .. كان كوبي هو الصغير لكنه يكفيني تماماً ، وكانت ابنة المعلم جميلة جداً ، أو ربما ظننتها كذلك لأنها كانت تخصني بكمية كبيرة من اللوز والبندق والفستق .
كنت أذهب في الثالثة صباحاً تقريباً لأحضر السحور وكانت اللمة محببة ، والطعام يتصاعد منه البخار ، فالمنزل قريب من الورشة ، كل الدكاكين تعمل ، والدقات ايقاعها يطرز الزمن القديم برائحة وطعم معتق. أشعر أنني واحد من هؤلاء الأسطوات رغم بدني النحيل جداً – وقتها بالطبع – ودخولى بالدراجة في ابن " العدوي " الذي أصر علي أن أتلقي عقابى الفوري فانتفض معلمى وأسبغ علي حمايته وكان كل أخواتي يعملون فى محلات وورش الأثاث والأحذية ، ونعود يوم الخميس بالجُمعة – عشرة قروش كاملة – فنفرح ونحول يوم الجمعة إلي يوم الفسحة ..نركب اللنش بعد الكوبرى القديم بقرش واحد ، ونقضي اليوم بطوله علي شاطئ البحر ، وكما نطلق عليه اسم المالح ، ونعود إلي المدينة نشاهد الشمس ، وهي مضرجة فى احمرارها القاني وأسراب السمان تنطلق قادمة من الشمال لتقع في الشباك المنصوبة ، كنت أراها مجهدة وهي تتخبط فى الخيوط المتدلية فأسرح طويلاً :
- كيف كان حالي لو كنت مثل هذا الطائر المسكين ؟
ظللت أراقب المشهد وصعدت إلي سطح البيت أسأل نفسي ذات الأسئلة المحيرة عن وقوع الطيور المسكينة فى أسر الشباك المنصوبة . كتبت ذلك فى ورقة بحبر أزرق ينزف حزناً قلت إنه الشعر ، رأيت أن الفخ منصوب بإحكام ليس للطيور وحدها بل للبشر ، قلت هذا ودفعت القصيدة للفتاة الجميلة – ابنه المعلم – فابتهجت جداً ، علم الأب فكان أول تأنيب فى حياتي بسبب الشعر ، وقتها أدركت أن الموت شئ سخيف وأن وجود الأب فى هذه المواقف أمر ضروري . لكن المعلم الذي طردني لأسبوعين أعادني إلي الورشة لأن البنت كانت تبكي واعتقد أن البكاء قد استمر منذ عام 1958 وحتى هذه اللحظة .

-3-

سأخرج من حرج تداعيات الطفولة الذاتية لكاتب يبحث عن معنى الانكسار عشية هزيمة الخامس من يونيو 1967 . فتي فى السادسة عشرة تماماً يمضى فى عتمة الحروف ليخمش وجه الليل باحثاً عن سبيل لكسر طوق الصمت .
كان العام السادس عشر لكنه علي أي حال ليس نفس عام أحمد عبد المعطي حجازي المحمل بعذابات فسيولوجية ونفسية مختلفة تماماً . في أحد أجران القمح فى قرية ( كفر البطيخ ) ، ومع الكتابات الأولي يستمع إلىّ عبد الرحمن الأبنودى ، ويقدمني لأول مرة فى حياني لألقي قصيدة علي جموع الفلاحين هناك .
كان عود إبراهيم رجب يدندن فى تلك الليلة أغنيته الجميلة عن " بيوت السويس " كان ثمة جرح فى الفؤاد ، وزلزلة فى الأعماق لكنه الشعر العصى يولد وسط الإحساس الوطني بالصمود ، ويلتف حوله الشعراء الكبار شباب غاضب يريد أن يحمل السلاح فعلاً ، وقتها – ولزمن طويل سيأتي بعد ذلك – أدرك أن الشعر مكانه هنا علي رصيف المعركة وليس فى الغرف المغلقة ، أو القاعات المكيفة ، ويتزايد ذلك الإحساس بعد أسبوعين من تلك الأمسية يقدمني شيخ شعراء دمياط ( محمد النبوي سلامه ) فى مقهي ( دعدور ) أحد أشهر مقاهى المدينة العتيقة لأقول الشعر بدلاً منه وأرتبك وأشعر بالورقة تهتز فى يدي ، وأنني أحمل هموماً أكبر من سني ، لكنني واحد من هذا الجمع ، وهنا يتأكد لى أن القصيدة هي زخم هذا الواقع ، قد تنقضه وتهدم أركانه ، لكنها فى كل الأحوال ليست ألاعيب شكلانية ولا تهاويم فى الفراغ ، إن حياتها ترتهن بالصدق والجمال والروح المقاتلة .
من رصيف المعركة بدأت رحلتي مع الكتابة وتلقفني التجمع الأدبي العتيد كثيرون رأوا فىّ موهبة إبداعية طازجة تملك الكثير من عنفوان التمرد والقليل توجس ريبة أن أكون شاعر القصيدة الواحدة ، ونفر نادر نصحني أن أهتم بدروسي لأن ظروفى الحياتية الصعبة تتطلب همة فى الدرس ، والتحصيل لكنني شعرت أن بداخلي أشياء حبيسة تود أن تنطلق طاقة شعرية مخيفة تهلكني إن صمت .. كنت مهزوماً علي المستوي الشخصى لأنني لم أعثر علي حب جدير بالسهر والمتعة والعذاب . كان لي قميص واحد ، وبنطلون واحد ، وبلوفر أحمر تآكل عند الكوع وفى حجرتي عشرات الدفاتر الممتلئة بأشعار غاضبة .
في تلك الأثناء قابلت صديقي ( محمد علوش ) ، وكان قد عاد إلي الشعر بعد تجربة دالة خضتها معه حين كنا بالصف الرابع الابتدائي . لقد ناوشتنا الأوهام بأن تلك المقطوعات الموزونة محض شعر جميل ، فذهبنا سوياً إلي مطبعة " نصار " بالشرباصى وشببنا علي الأطراف ، ليرانا الرجل ، قلنا له أننا نريد طبع هذا الكتاب ، تناول الرجل الكراسة وقلبها في اهتمام ، وقرأ سطوراً من هنا وهناك ، وخرج الرجل الطيب ليربت علي أكتافنا ، وينصحنا بأن الوقت مبكر للغاية . علي أية حال كانت أول تجربة عملية للنشر ، وقد باءت بالفشل !
عاد إذن ( علوش ) بعد دخول الجامعة ليقول شعراً مختلفاً وفى يناير 1973 أو بعد ذلك بقليل ألتقي مع جيلي من مبدعي المدينة نشعر بأن اللغة واحدة ، والهموم متقاربة ، فنجتمع كل يوم ، وحتى الساعات الأولي من الصباح نقرأ القصائد والقصص ، ونشاهد الأفلام . يجادل بعضنا البعض فى عنف ، نتشاجر من أجل نص نختلف حوله . نتصالح فى اليوم التالى ، نسافر إلي المحلة الكبرى والمنصورة وبورسعيد نلتقي بالمبدعين الصغار علي عتبات الإبداع ، نسمع عن المنسي قنديل وسعيد الكفراوى وجار النبي الحلو فنركب القطار إلي المحلة ونلتقي فيها بأحمد الحوتي ومحمد فريد أبو سعده ورمضان جميل ، ونعود بعدها بأسبوع إلي مدينة أخري ،وهكذا تقترن الكتابة بالحركة والإبداع باللقاء والصحبة.
نصدر العدد الأول من " جماعة 73 " ويدشن محسن يونس المجلة بمقدمة نارية متماسكة فكرياً ، تعلن عن مولد جماعة مختلفة في الفكر ، طموحة لإبداع مغاير ، وتمتد الأيدي الخائفة لتحرق الأعداد التى لم توزع بعد بتعليمات فوقية صارمة ، رغم أن النصوص لم تكن مقلقة ولا عدوانية مطلقاً ولكنها تحمل جرأة البدايات الجادة القوية وتكون البداية صادمة لكنها علي أية حال مؤشر هام لذلك التوجس الذي سيظل ملازماً كتابات ذلك النفر الشارد القابض علي جمر الكلمات ، أذكر من تلك الجماعة أسماء محمد علوش ، محسن يونس ، مصطفي العايدي ، السيد النعناعي . البعض كما تلاحظون قد توقف كلية عن الكتابة ، والبعض مضى فى غيه وغضبه ، وكنت كلما شاهدت ناراً صغيرة تذكرت مجلتنا الشهيدة ، وعصف بي الحزن عصفاً شديداً .

-4-

الخلق غير الموت . هذا هو الدرس الأول الذي علمتنا اياه الجماعة الشعبية ، اقترنت بداياتنا مع شعر العامية بالبحث عن جماليات الألفاظ ، وقع الكلمة ، وإيقاعها . تلاشي ذلك الخوف التقليدي من أن نقع فى فخ التفرقة القسرية بين ما هو رفيع ووضيع ؟ من أصعب الأشياء أن تعيش عبداً لفكرة واحدة ، كان من الشائع فى ثقافتنا أن نمجد شوقى وحافظ والمتنبى وأن نسقط من ذائقتنا بيرم التونسي وجاهين وفؤاد حداد ، لكن المختبر الإبداعي الذي دخلناه عن طواعية جعلنا ندرك أن الفروق فى الدرجة وليست فى النوع . ها نحن ندخل المقاهي البلدية و " الغرز " فى أقاصي المدينة ننصت لحوار العامة ، ونتسقط الكلمات المهجورة ربما الدمياطية إلي أقصي درجات الخصوصية فندونها فى دفتر صغير ونعرفها ونبحث عن الجذر اللغوي ونضعها فى سياق أجرومية عامية .
عدة سنوات نمارس نفس الفعل لنتأكد أن العامية المصرية لها عبقريتها المتفردة وأننا لو دققنا فى مفردات حياتنا لاكتشفنا ثراء معتقداتنا وارتباطها بحضارة المصري القديم : الخوص علي المقابر ، والقط الأسود الذي يتبعنا ، واسم الله علي أخيك عند التعثر ، والسبع حبوب عند الميلاد ، ورمي " الخلاص " فى النهر ، ليست فقط ظواهر وطقوس شعبية بل هى جزء من أسطورة أكبر تظلل حياتنا .
ثمة وسائل لمساءلة التاريخ المسئول عن نفى ثقافة حية لصالح ثقافة أخري مجلوبة ، لا أري أن ثمة مؤامرة معلنة أو مضمرة لكنها عملية إزاحة ، أدت إلي تحويل الثقافة الشعبية إلي جزء من الهامش واحتلال المتن بالكامل .
فى تجوالي مع محمد علوش فى المقاهي عثرنا علي حكمة الجماعة الشعبية ، وازددنا احتراماً لأصولنا : ابن عروس والنديم ويعقوب صنوع والقرداتي والحكاء الشعبي .
الحياة الشعبية تقبل الآخر لاتنفيه ، هي أكثر تسامحاً وقادرة باستمرار علي الاحتواء والتجاور والحوار مع معطيات الواقع .
فى مرحلة تالية من رحلة الكتابة بحثت عن شرائح المهاجرين إلي هوامش المدن . كتبت نصاً كاملاً عن حي شعبي يرزح تحت كاهل الفقر والعوز . الديوان هو " حارة معري " كان الذهاب إلي الجهادية والتسطيح فوق عربات القطار هو الخيط الرفيع الذي يسري داخل رقائق النص ، اكتشفنا الأبنودى فى " الأرض والعيال " وسيد حجاب فى " صياد وجنيه" وكان صلاح جاهين بأغانيه الوطنية أشهر من أن نتجاهله ، لكن خفة دمه كانت تغلب تقنياته ، الشئ الذي يختلف فيه شاعر رائع غرقنا فى منمنماته ومقرنصاته الشعرية وأعنى به فؤاد حداد .
كانت الكتابة جزءاً من الحياة وليست بديلاً عنها ، وكانت ثمة إزاحة ضمنية لثقافة المكان ، لصالح ثقافة رسمية متعجرفة أكثر من اللازم . اللغة هي قطعة الصلصال الحي الذي نشكل بها أفكارنا ولكي يصبح لها شكل متماسك علينا أن نعرضها للنار المقدسة الكون كله يحتفظ بتلك الحكمة ، ولأن لكل مكان عبقرية فقد كان علي جماعتي وأصدقائى من شباب الكتاب بدءاً من عام 1971 أن نجوب كل الأمكنة التى نري فيها صورة لوطننا ، ربما لذواتنا : رحلات عديدة إلي الجزر الصغيرة فى بحيرة المنزلة ، زيارات إلي شاطئ " قلابشو " وانكماش داخل الأعشاش المقامة علي ساحل المتوسط ، أما الحارة الدمياطية التى تشبه " الجيتو " فى قوانينها الصارمة فقد كنا ندرك أسرارها أكثر من أي شئ آخر .
الحكى لا يعادي الإيقاع هذا هو القانون الذي اكتشفته مبكراً ، ربما قبل أن يصبح أمراً عمومياً وسامحت نفسي مرات عديدة وأنا أنفلت من الشعر إلي القص ، ثمة وشائج وصلات أحسها بقلبي .
ذرة من الضوء تتغلغل فى أعماقى ، وأنا أقرأ تشيخوف ومكسيم جوركى ، باستمرار يتجدد الصراع داخلي . لكن الغريب أن من يحسمه هو القلم ذاته ، وتنشر لي صباح الخير " فى البدء كانت طيبة " وكان عمرى وقتها 23 عاماً بمقدمة ضافية لمنير عامر وتتوالى قصص " النحيب " ، " سقط في الثانية صباحاً " ، كيف يحارب الجندي بلا خوذة ؟ أضع يدي علي قلبي وأنا أقرأ قصة أرسلتها لإبراهيم عبد المجيد بالبريد لينشرها دون معرفة سابقة فى العدد الثاني من " إبداع "، أشعر أن ثمة صوت داخلي يدعوني إلي التسامح وعدم الانزعاج فليست هناك خصومة تاريخية بين الشعر والنثر ، بين الإيقاع والسرد ، وانشطر ليلاً مع نفس المشهد القديم لفتى يصعد شجرة التوت ، إنه يسقط قبل أن يقدر علي التحليق ، وكان القلم قادراً كل مرة علي أن يمرر حبره لاختيار جانب السرد أو الإيقاع ، كل مرة كنت أصعد مرتبكاً وشاعراً بمرارة الانقسام .

-5-

لا أعرف لماذا ارتبطت كتاباتى بالجندية والحرب وعفار المعارك ، لم أشارك فى أية حرب لكني جندت فى أواسط عام 1974 ، والتحقت بسرية الهاون 82 بالكتيبة 18 مشاة ثم 16 مشاة فيما بعد ، قضيت بالجبهة حوالي عامين إلا ثلاثة أشهر ، وكانت هذه الفترة كافية لأن أظل أسير المشاهد الصعبة التى رأيتها . هل لي أن أنسي منظر هبوب الرياح لساعات طويلة كى تكشف عن جثث الشهداء فى آخر الحروب التى خاضتها مصر ؟
مناظر أوجعت القلب وزلزلت الروح وتركت جرحاً لا يندمل رحت أسأل نفسي ثانية عن معني الموت وضراوة الحرب وهو نفس سؤالى الذي راح يتجدد طالباً إجابة شافية . ولأن المشاهد لم تكن وحدها هي التى استغرقتني لكن الوعي الذي ظل يشقيني عن حقيقة أن المقاتلين يدفعون الثمن حين تصعد أرواحهم إلي بارئها ولا يجني الثمرة غالباً إلا المترفين فى المدن الآمنة ، هل أتحدث بعيداً عن الشعر ؟
بالتأكيد ، كان هذا السؤال يؤرقني ، وكنت أري أجهزة الإعلام تقدم لي نموذجاً مشوهاً لمحارب أقرب ما يكون إلي " الدمية " كنت أنصت إلي الكلمات المصنوعة التى تتغني بهذا المقاتل الناعم بينما زاملت عشرات المحاربين الأصلاء الذين خاضوا الحرب فعلاً ، وينتظر بعضهم اجراءات الرفت بعد خوض قتال مرير مع العدو الصهيوني ، لقد حملت معهم أجزاء المدفع فى المناورات ، ومشاريع التدريب . أنهم منهكون بالفقر والمرض وانكسار الروح لكنهم رغم كل شئ قدريون يلفهم رضا غريب ، وإيمان هائل ، لم أفهم التناقض إلا بعد أن تقدمت بي السنون فعذرتهم وفهمت الدوافع .
لقد فطن الشاعر داخلي إلي كم الزيف الذي يحول المقاتل الصلب إلي نموذج غير متحقق فى الواقع . أنه يخلصه من جذوره ، ويقدمه فى صورة براقة فيما يكون الوجه الحقيقي الأصيل مغيباً أو متوارياً خلف ركام من عبارات فجة ضحلة المعنى .
الشعر هنا لا يخون إنه الأقرب إلي الحقيقة الناصعة ، استحضر علي الفور من " شرنقة النار" التى نشرها محمد عفيفي مطر فى "سنابل" وأدرك ثانية أن الشعر يخترق كل المحظورات ليقدم لنا المعني الكامن والإحساس الصادق وربما الحقيقة المحضة فى أنقى صورها .
بين حين وآخر يزورني طيف صديق أو ملمح زميل فى سرية ال " م / د " وبشكل متقطع استسلم لإيقاع السرد . أهجر إيقاع الشعر السري متوسلاً بسحر الحكاية وركام التفصيلات . هي مناطق تصدر دمدمة مكتوبة . علي أن أتوقف مؤقتاً عن الإنشاد ولأجمع شظايا البشر . أنصت لبوجهم المكتوم .
أعرف أن سيرة المتنبي فيها سرد ما يغذي الروائي كما أن الطيور المجهدة الآتية من الشمال ترف فى حبور وهي تستمع إلي موعظة القلب لا انقسام فى واقع الأمر بل تكامل خفى .
حين أسقط فى هذه المنطقة أمسك بالقلم وأواجه البياض المرعب . لحظة أقرب ما تكون للمواجهة ، نصف حكيم ينتظر السحر الغامض الملتف بألم شفاف ، احتجاج مضمر علي بؤس الواقع ، إنه دحض للموت بصيغة الكلام .
هكذا كتبت عشرات القصص " قرنفلة للرحيل وخوذة " وأحزان الولد شندي " والعصا والخوذة وأيام الزهو الرمادية و 24 ساعة وسقط فى الثانية صباحاً وجندي الإشارة ونوبات للراحة ورائحة بارود قديم ونشرت القصص فى حينها بمعظم المجلات المصرية والعربية المتخصصة .
وتوجت تلك المرحلة برواية " رجال وشظايا " التى كتبتها عام 1984 ونشرت بعد ذلك عام 1990 ولكنني عدت ثانية إلي ساحة الشعر بعد أن فقدت جزءاً غالياً من غنائيتي ، ومنذ لحظة النشر بدأت روحي تتماسك وتزداد صلابة ولم يعد القلب يضطرب كالماضي أعرف أن قصائدي فى " الخيول " وندهة من ريحة زمان " كانت مشحونة بطاقة درامية خفية لكن قصائد المرحلة التالية باتت أقدر علي التخلص من النبرة العالية والمباشرة الفجة لصالح الخيوط السرية الحاكمة للنص وفى هذه المرحلة أذكر بمزيد من التقدير والاحترام أعمال أمل دنقل والطيب صالح وبهاء طاهر ثم العبقري الفريد يوسف إدريس الذي قدمت له كتاب القصة فى دمياط عام 1990 فطواه بعناية داخل جيب معطفه ، ومضى فى امتنان ، وكنت قد التقيت قبلها بعبد الحكيم قاسم بعد أن أسرني بروايته " أيام الإنسان السبعة " ورأيته يقاوم المرض ، وهو يمضى معنا فى الاتيليه إلي نادي القصة بالقصر العيني لمناقشة مجموعة الزميل مصطفي الأسمر فى 24 فبراير 1988 وكان قد شاركنا قبلها مؤتمر دمياط الأدبي الأول الذي اقترحته علي محافظ دمياط كمهرجان ثقافى ، ووافق الدكتور جويلي علي الاقتراح ونفذه الزملاء بتكاتف حقيقي وإخلاص غير مسبوق فى 26 فبراير 1985 .
وهكذا انفتحت علي الحركة الأدبية فى دمياط وعلي التجمعات الأخرى فى كافة المحافظات وازدهرت ظاهرة " الماستر " وصدرت مجلة عروس الشمال ورواد والشارع وإصدارات الرواد .
وتعرفنا علي أصوات إبداعية عالية القيمة هنا وهناك ، وبالنسبة لي فإن " إبداع " فى عهد رئيس تحريرها عبد القادر القط قد ساهمت فى نشر عشرات القصص لي ، وبالمثل فعلت " أدب ونقد " و " الثقافة الجديدة " إلا أنني بدأت أتريث فى نشر قصائد العامية خاصة ولدينا نماذج باهرة مثل عم السيد الغواب الذي ينجح تماماً فى التفاعل مع جمهوره بينما لا يحقق هذا القدر من النجاح مع النشر ، نفس الشئ لاحظته مع شاعر رائد سبق جيلنا هو السيد الجنيدى .
علي أية حال سوف تمكنني تلك المقارنة من إدراك أهمية الدراما فى أي نص سواء شعري أو سردي أذكر بهذه المناسبة ديوان الخيول حين تحول إلي عرض مسرحي ناجح أعده الكاتب المسرحي محمد الشربيني وأخرجه الفنان شوقي بكر ، لقد تعرض للإيقاف رغم الاقبال المتزايد من الجمهور بسبب التقارير التى قدمت وقتها لأجهزة الأمن إلا أن الموقف المبدئى للدكتور أحمد جويلي وتفهم محمد عبد المنعم إبراهيم مدير الثقافة وقتها أدي إلي تمديد العرض لأسبوعين متتالين .
يقول هاملت بطل شكسبير " الوقت خارج الوحدة " وعلينا دائماً أن نضبط بوصلة الإبداع علي التوقيت المناسب هذا ما يجعل قصائد صلاح عبد الصبور تبقي حتى الآن فيما تتبدد فى الهواء عشرات التجارب التى تحاول الغش والخداع . هناك حدس داخلي غامض لدي المبدع يمضي متتبعاً إياه فى فطنة وتيقظ عليه أن يغمض عيناً ويبقي الأخري يقظة . أليس الأمر أقرب إلي عمل الصياد .
نعم إنه قنص للحظة المتأبدة ، يفشل الكاتب إذا أغلق عينيه الاثنين ويكرر الفشل إن هو حملق بهما فى ذات اللحظة لابد من المراوحة بين الحلم واليقظة ، أما المكافأة فهي اقتناص النص البديع .

-6-

ليست الحرب وحدها ولا الرمال التى ضمت رفات الشهداء هناك أشياء أخري جعلت إيقاعي الشعري متسارعاً ولحوحاً .
فى أول انتخابات حزبية شهدتها مصر اعتقدنا أن علي الكاتب أن يعلن انحيازه إلي تيار تقدمى مثله المناضل الراحل محمد عبد السلام الزيات وكان علي أن أجوب معه قري الدائرة التى رشح لها لأحاول أن أعبر من خلال القصيدة الشعرية عن موقفى .
كان الزيات يحظي بعداء علني من الرئيس السادات وكان الاختيار الذي أعلنته قد سبب لي كثيراً من المتاعب والاستدعاءات الأمنية وأظن أن العام كان 1977 وفى مواجهة غير متكافئة كان الزيات الخطيب المفوه يعري النظام ولعله صاحب المصطلح الشهير
( القطط السمان ) وربما كان علىّ أن أبحث عن مفردات وطرائق أداء تمس وجدان الجماهير وفى هذا الصدد أذكر أنني تعلمت الكثير من خطبة نارية ارتجلتها الأدبية الراحلة الدكتورة ( لطيفة الزيات ) لقد هز خطابها العميق والبسيط فى آن جموع الحاضرين بقاعة قصر الثقافة وهي تربط بين مشروعها النضالي الذي بدأته مع لجنة الطلبة والعمال عام 1946 وبين الحرص علي أن يبقي لمصر وجهها التقدمى فى أواخر السبعينات، لقد تسرب إلي خطابى الشعري ذلك القدر من الوضوح والبساطة ، والقدرة علي التأثير . عرفت وأنا أصيغ السمع لكلمات الدكتورة لطيفة أن الكلمة لها تأثير السحر علي الآخرين عندما تخرج من القلب بكل صدق وعفوية . وحين تعددت زياراتي لمنزل الدكتورة لطيفة بالدقي حرصت علي أن أسمعها قصائد لي فى مراحل التكوين وكانت ملاحظاتها لماحة وذكية .
إذن لقد صار الشعر سلاحاً فى المعركة الانتخابية ولأننا صدقنا أن الاختلاف حق إنساني مشروع وأن الرأي لا يمثل لصاحبه قيداً وعقوبة فقد كانت صدمتنا مخيفة ، ونحن نبعد عن وظائفنا ونتوجه إلي أعمال مكتبية حرصاً علي الصالح العام كما جاء بنشرة النقل ، بعد أن نجح حمدي عاشور ممثلاً للسلطة وراح يلوح بالعصا فى وجه خصومه ، وهنا أفقنا من الوهم متأخرين أظن أن الشعر أحس بالأزمة ودفع وحده الثمن ، ثمن أن يكون إعلامياً تابعاً حتي لو كان ذلك فى سبيل قضية عادلة .. الشعر يجب أن يقود دائماً وعليه أن يحرر نفسه من كل تبعية ، وألا يكرس جهده فى خدمة شئ إلا الشعر عليه ألا يكون توشية وزخارف وعليه ألا يقع فى فخ التحريض والخطاب المباشر .
علي الأوراق البيضاء ثمة مغامرة دائمة وبالإنصات إلي ضجيج العالم أوصمته تتشكل القصيدة ، ربما أحس بالقلق فى الأوقات التى أشارك فيها زملائى ندوة شعرية ، فالحضور أقل من المأمول أستعيد إذن أمسيات أيام حرب الاستنزاف وطائرات الفانتوم والميراج تمرق فى السماوات المفتوحة ودفعات ال م / ط تقاوم فى استبسال ، والقصيدة تعانق صمود هذا الشعب المكلوم ، أقارن حالة الانفضاض التى أرقبها حائراً فى العاصمة أو فى المدن الأخري ، أقول لنفسي أن الأحلام يمكن تحديدها بمدي عمقها وأنا أحلم بتلك القصيدة الحية التى تعيد وهج الكتابة وتعود بنا إلي الدهشة الأولي ، وتتقلب بين الظهور والإخفاء ونحن نعيش زمناً صعباً بالفعل وكثيراً ما أفكر فى عدم جدوي الكلمات وهو بالمناسبة عنوان قصيدة لصديقي الدكتور عيد صالح – وأكاد أقترف إثم الصمت التام واتهيأ للركون إلي اليأس ، ولكنني فى لحظة صدق مع الذات ، أطرح السؤال علي هذا النحو : إذا كان العالم كله قد انصرف عنك فلماذا لا تنشد قصيدتك لذاتك ؟ أو لهذا الصمت والانقضاض ، وأسأل نفسي ثانية : هل هي أغنية البجعة الأخيرة ؟ لا أظن . إذ ما من ندوة أحضرها إلا وأعثر فى جزء من قصيدة ما ، ربما فى مقطع صغير علي الحياة العارمة لا يمكن محوها أو نسيانها ، تصدعت قصائد كثيرة وفى المقابل نهضت قصائد أكثر ، واللغة – كأي كائن حي فى الدنيا – تجدد ذاتها وتحرر نفسها من أوهام كثيرة ، لا تخضع للأحكام النهائية الصارمة ، دائما ما تكون هناك مساحة للتأويل والغبار الذي يملأ السماوات المفتوحة من حولنا بسيل من الصور الملونة المثيرة هو نفسه الذي يمنحنا الأمل فى أن نجدد لغتنا ونعود إلي قصيدتنا بنفس الحماس القديم ربما بروح أكثر شاعرية .
وأعتقد أنني فطنت مبكراً لضرورة دفع السأم واعتيادية الإنشاد بالتراسل بين مختلف أنواع الفنون فعلت ذلك مبكراً حين حولت قصة يفتل الحبل للقاص محسن يونس إلي عرض مسرحي هو " صهيل فى البحيرة " من إخراج رأفت سرحان وبعد سنوات طويلة أخرجت من صندوق القصص السحري للراحل يوسف القط نصين ومزجت بينهما وقدمت " إطار الليل " لهاشم المياح مخرجاً وفى التجربتين شعرت أني كنت مخلصاً تماماً مع روح النص القصصى حين اكتشفت مكامن الدراما فيه ، لقد ظل الطائر الخرافى يضرب وجهي ليسأل متتالية قبل أن تخلع الجوقة الصامتة أقنعتها فى عرض يوسف القط أما فى صهيل فى البحيرة فقد رجتني ايقاعات الدفوف التى ظللت مناطق الحزن فى نص محسن يونس .
وحين أسند إلي كتابة نص مسرحي عن حياة المجاهد الوطني الكبير علي الغاياتي اكتشفت خصوصية ما فى مفردات الدراما : أنت ناجح بالقدر الذي يمكنك خلاله اكتشاف أسرار الشخصية وملامحها النفسية لذلك بكت ليلي الغاياتي ومالت برأسها فى نشيج حزين وهي تتابع مشاهد العرض وحدث نفس الشئ للدكتورة بنت الشاطئ حين حضرت مع الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم ( أبو همام ) وعبد العليم عيسي حفل تأبين طاهر أبو فاشا ، لقد تضافرت الأشعار مع الدراما في نص " راهب الليل " بصورة تؤكد أنه لا توجد قطيعة بين الأجناس الأدبية ، ربما مسنا قدر من الإحباط ونحن نتابع تردي أجهزة الثقافة ومؤسساتها فى الأقاليم بالقدر الذي يعاد فيه تدشين العاصمة كمركز أبدي للتألق الثقافي بهذا الفهم أشعر بمدي الظلم الواقع علي الأديب فى اقليمه ، إنه يعيش فى عوز تنويري صارخ حيث لا معارض فنية ولا مسارح مضاءة وحسب المثل الشعبي " فإن ما نبات فيه نصبح فيه " بمعني أنه لا يوجد محفزات للإبداع . بهذا أفسر الهجرة إلي القاهرة . كنت دائما ما أمر علي محل الفنان الراحل حامد أبو يوسف فيشكو لي هذا الظلم البين ، هذا الرجل كان من أوائل من غزوا برامج الأطفال وتعامل مع ( أبله فضيله ) وغنت له صفاء أبو السعود طفلة ، وذلك خلال تواجده بالقاهرة فلما عاد إلي دمياط حاصره الصمت من كل ناحية والنموذج يتكرر دائما وأبداً .
تحدثت عن تراسل الفنون وعن ذلك الضوء الخافت الذي يشع من النص الأصيل . أنت كاتب متحقق بالقدر الذي يمكنك من خلاله أن تقتنص حكمة الحياة فى إيقاعها الخفي ، وهي لا تتيح نفسها إلا للمصلحين والمتصوفة . وأهل الطريقة .
أهل الطريقة في الإبداع الأدبي هم أولئك الذين يثقون فى قدرة الإنسان ، يبتهجون لفرحه ، ويبتئسون لألمه وهم التواقون لفك شفرة المخفي فى أعماق النفس البشرية الكتابة بتعبير موجز هي ولادة وخصام مع المعلن .

-7-

كان أول خروج لي من مصر عام 1991 فور هبوطي سلم الطائرة قابلني صهد رهيب لم أر مثله من قبل كنا فى آخر يوم من شهر أغسطس وفيما أنا ألملم ذاتي بحثاً عن سؤال حائر عن المصير جاءت سيارة مدرس مصري هو يحيى السرجاني فحملنا من مطار الظهران إلي بلدة تقع مباشرة علي الخليج العربي هي " القطيف " رائحة اليود وزفارة السمك وأشجار النخيل ذكرتني بقرية عزبة البرج كانت الصدمة هائلة أن أنخلع فجأة من جذوري بالقرب من المتوسط لأجدني وحيداً فى أقصي الشرق .
الكتابة هي التى حلت المعضلة . فبعد أيام قلائل أتعرف علي حركة أدبية ناهضة ، وأزور شعراء الدمام فى بيوتهم ، وكانت مصادفة مدهشة حقا ان تنشر لي " أدب ونقد " ملفاً هاماً ظل عند حلمي سالم قرابة السنتين كانت دراسة عنوانها " من أصوات الحداثة فى السعودية " وفى جريدة اليوم ، أتعرف علي حداثة شعرية رائعة يمثلها جيل جديد يعمل بفاعلية للخروج من الأقبية المظلمة .
جيل رائد منه : محمد العلي ، وعلي الدميني ، ومحمد عبيد الحربي، وعبد العزيز مشرى ثم جيل أحدث يكتب شعر التفعيلة منه أحمد الملا وغسان الخنيزى وحسن السبع وأحمد كتوعة وأحمد بوقري وعبد الوهاب العريض وتبرز حركة نقدية رائعة من أقطابها الدكتور عبد الله الغذامى والدكتور معجب الزهرانى والدكتور سعد البازعى ثم اشترك معهم فى تحرير مجلة " النص الجديد " وتصدر من عمان لتقدم وجها مشرقاً للثقافة العربية وأتعرف علي شباب غض يبحث عن التجديد : عبده خال ، وعبد الله حسين وعبد الله السفر وسعد الدوسرى وأكتشف أن الأسئلة واحدة وأن الصواعق يمكنها أن تنطق فى أي سماء ملبدة بالسحب فى جريدة " اليوم " .
يرشحني رئيس تحريرها الأسبق خليل القريع كي أساهم فى إعادة الملحق الثقافي وكان قد توقف بعد غزو العراق للكويت وتكون فرصة لأن أحترف الصحافة وتصبح حجرتي المشتركة مع الفنان التشكيلي عبد الرحمن السليمان والشاعر حسن السبع بمثابة بيت للمبدعين فى المنطقة الشرقية وأخوض معارك ضارية للدفاع عن الوجه الجديد للأدب وبالطبع لم أكن وحدى ، كنت ضمن كتيبة أفلتت من شوفينية مقيتة تلمستها فى مطبوعات أخري أتعرف فى الغربة على الروائي عبد الوهاب الأسواني وعلي الناقد الأكاديمي محمد نجيب التلاوى والشاعر المصري الكبير محمد مهران السيد وأبدأ فى سلسلة مقابلات بالقاهرة مع أبرز الروائيين والمسرحيين والشعراء العرب . تعلمت منها الكثير ما زلت أذكر مقابلتى مع بلند الحيدري قبل رحيله وممدوح عدوان وسميح القاسم وحنا مينه ولقائي بعبد الرحمن منيف وإبراهيم الكونى ، ويمنى العبد وروجر ألن ومحمد برادة وايزابيلا كاميرا وعشرات الأسماء الأخرى .
اعترف أن هذه المقابلات أمدتنى برصيد هائل من فهم آليات الكتابة كان سؤالى المحوري يتجه إلي اللحظة الفارقة التى بموجبها يمسك الأديب قلمه ليواجه بياض الورق كثيرون تهربوا من الإجابة بإعتبار الأمر سراً لا ينبغى الإعلان عنه ، لكن آخرين تخلصوا من خوفهم واستعادوا لحظات الخلق البديعة .
هناك دائماً ذلك الإحساس الشفيف بالنبوءة وخفة الجسد ، واستعارة روح النبي ، وتصاعد ذرات الألم إلي الذروة هناك يكمن السر المقدس .
فى تلك المرحلة قرأت لفوكوياما ، واسترعى انتباهى منطقه المثالي وانخرطت فى دولاب العمل ، وزرت مدناً عديدة منها مكة والمدينة والطائف والخبر والجبيل والإحساء والعيون ، وظلت الدمام هي مركز الحركة وفى جمعية الثقافة والفنون عقدت أول ندوة لشعر العامية المصري قدمني فيها الزميل أحمد سماحه وبان لي الوجه الجميل للصحبة المثقفة وكان جسر البحرين هو الذي يغذينا علي الدوام بأحدث الإصدارات وهناك تعرفت علي قاسم حداد وعلوي الهاشمى وعشرات المثقفين الذين يرون فى القاهرة كعبة ثقافية وأجهدني بعض المثقفين العرب فقد كانت لديهم مرارة من حقيقة سطوع الثقافة المصرية ولذلك كان هناك ترويجاً للنموذج البيروني لقصيدة النثر ، وللنقد البنيوي فى تراجمه المغربية وظلت الصحف هناك ساحة للصراع المعلن حول من يرث الدور المصري .
أعترف أنني لم أكن أتحمس لأم كلثوم كمطربة ، كنت أفضل عليها ليلي مراد تارة وفيروز تارة أخرى ، فإذا بكاتب كويتى يهاجم أم كلثوم هجوماً شرساً متهما إياها بالخيانة ، وبتردي الذوق وتهم أخري معيبة ، تخففت من غلوائي ورحت أستمع إلي أعمالها من جديد واكتشفت أنها مغنية محترمة ، فقط لو أنها تخلصت من كلمات أحمد رامي ومرحلة تلحين محمد عبد الوهاب لها .
فى الغربة يحاصرك الموت أكثر من أي شئ هكذا رأيته جهماً قاسياً نعيت الشيخ أمام ورثيت خالد عبد المنعم وإبراهيم فهمى والدكتور أنس داود وطفرت الدموع من عيني وأنا أرثي الشيخ الجليل يحي حقى ، أتذكره جالساً بعصاه فى مكتب مدير الثقافة بدمياط الذي كان يقضي أجازته ، وصادفته مشكلة خاصة بعقد إيجار عشة " فى رأس البر كنت أهبط وصديقي محسن يونس السلم حين فوجئنا بالرجل الطيب صحبناه وانجزنا معه ما يريد لا أنسي حنوه الأبوي وصوته الخفيض وهو يحدثنا ثم وهو يطوى مجلتنا الصغيرة ويضعها فى جيب السترة الداخلي . كتبت مقالاً عن تلك المقابلة جعلت عنوانه " 30 دقيقة مع يحي حقى " وطيلة أربع سنوات كان قلبي معلقاً بالوطن ، كنت أخشي أن يجف الإبداع بداخلي ، ثمة صراع هائل خضته لأمارس تدريبات شعرية منحنتي ديوان " ريحة الحنة " وهي بالأصل قصائد متفرقة كنت أرسلها إلي مصر بالبريد العادي .
فى الغربة سألت نفسي أكثر من ذي قبل عن سطوة الموت وهل تكون الكتابة هي الرد الفعلي والمستمر لقوة الروح ؟ كل إنسان يحمل الخير كما يحمل الشر ، الكتابة محاولة صادقة لإثراء الجانب الخير فى النفس ، ثمة تمرد وعصيان دائم داخل الكتابة ، إنه لا يريد أن يستسلم لحكمة الحياة ، وأنا لا أدعو أي كاتب أن يفعل " عليه فقط أن يحدث التناغم بين تمرده ورضاه ، أن يزاوج بين نزقه وحكمته . هكذا الأمر .. وكأني أصعد شجرة التوت القريبة من مقام المظلوم أحاول أن أسمو بروحي وأن أصعد أكثر ، أشارك الطيور تحليقها فى الأعالي . هذا ما تحاول أن تفعله الكتابة مرة بعد مرة نصعد ونسقط ، نعلو ونهبط . تظللنا دائماً حكمة خالدة تسري فى مسارب الكون كله النقص يدعو إلي الاكتمال والاكتمال يعني الموت ، ولن يكف الإنسان عن الصعود .
رد مع اقتباس
  #2  
قديم July 13, 2008, 03:26 PM
 
رد: كتابة الشخصية الذاتية Cv

انا ما بعرف اكتب سيرة ذاتية بدي مساعدة منكم وشكرا
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الذاتية, الشخصية, كتابة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كتاب ( التربية الذاتية ) سـمــوري كتب الادارة و تطوير الذات 9 March 10, 2018 04:39 PM
موسوعة دروس في التنمية الذاتية بو نايف علم البرمجة اللغوية والعصبية NLP وإدارة الذات 71 November 10, 2013 11:14 PM
كيفية كتابة السيرة الذاتية >>>موضوع مهم لكل واحد فينا وليف الطير وظائف شاغرة 33 October 30, 2010 04:27 PM


الساعة الآن 04:54 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر