قبل أن يَتسع ثقب قلبي , سأتحدث .

كان و لا زال يحب السفر .. يعشق التنقل من مكان لآخر كما يعشق العصفور الصغير الطيران بين أنواع الشجر .. يسافر .. يعود .. يهاجر .. يعود .. يغيب طويلا و لكنه لا بد أن يعود من حيث أول مرة انطلق .. لديه حنين للبدايات لا يجد له تفسيرا ..
في بحثه الذي لا يتوقف عن مكان واحد يستقر به .. يتسع لطموحاته الكبيرة .. التي تبدأ بالحب و تتنقل هنا و هناك .. بين النجاح و السعادة و أحلام بعدد الأماكن التي زارها .. و في النهاية يعود للبداية .. يكتفي بالحب .. لو وجده .. و ما أصعب على رجل مزاجي مثله أن يجد حبا يرضيه .. حبا يغنيه عن بقية أنواع الحب .. التي أصبحت مثل الأكلات السريعة .. شهية التقديم .. قاتلة بكل ما فيها من أمراض متخفية وراء الزينة .. و لأنها سريعة في زمن اللحظة .. تعجب الكثير من الناس أمثاله لفترة قصيرة ثم تتبخر .. فهي أكلات لا ذاكرة لها .. مجرد مسكن وهمي لجوع البعض لأسطورة الحب المتواصل ..
في بحثه عن ذلك المكان الحلم له و لكل رجل .. حيث تضع حروبنا مع أرواحنا أوزارها .. و نعلن عيدنا الشخصي للاستقلال من كل العادات السيئة .. و يومنا المشهود للسلام النفسي ..
وجد نفسه ذات مساء لا تاريخ له .. هناك في مركز الحدث الذي يمثل خط البداية لنهاية مثل سبق صحفي .. امرأة لا تشبه غيرها من الأماكن التي عرفها قبلها .. أو استهلكها في سفره مع أحد المشروبات المجهولة الاسم القوية التأثير على حاسة الاختيار السليم و حسن الذوق لدى البشر .. توقف عندها مبهورا .. كمن يرى كائنا خرافيا انقرض منذ قرون .. غرس بقلبها وتد علمه الذي يحمل اسمه إلى الأبد .. كما شاهد أول رائد فضاء يفعل عندما وضع قدمه على سطح القمر .. لكن ذاك قمر ميت .. و قمره هو ينبض بالجمال و حب الحياة ..
لم تبخل عليه بأي شيء .. أعطته حبها دون أن يسأل .. كانت بالنسبة له ذلك الوطن .. الذي يحمي و يغذي و يربي و يدلل .. ثم لا يطالبك بأن تموت من أجله ليضع مستبدا غيرك على كرسي عرشه .. كانت أرضا خصبة بالحب لم يكتشفها قبله أحد من قراصنة القلوب .. وطنا لا أعداء له ..
وضع حقائبه كلها عن كاهله .. و بدأ رحلة سفره في وطنه الجديد .. تنقل من قلبها .. إلى كل ذرة في كيانها و وجدانها .. وصل أخيرا إلى عينيها .. غرق في بحرهما فترة الصيف كاملة .. حتى أقبل عليه الخريف و الشتاء دثرته بحضنها .. هناك أغمض عينيه و ذاق طعم الأمان لأول مرة في حياته المتقلبة .. و لما يشعر الرجل بالأمان .. تتفتح شهيته للوعود .. فتح كيس الأماني و أغدق عليها .. أمطرها بالأحلام على كل لون .. إلا اللون الأسود .. ادخره لرفع الستار ..
عندما أقبل الربيع .. تذكر أنه عصفور مهاجر .. تركها تعيد حساباتها و معادلات الربح و الخسارة .. و انطلق في سفره إلى الهاوية بعدها .. لم تكن تستطيع أن تطلب مساعدات خارجية للكوارث الغير طبيعية .. التي سببها رحيله في قلبها .. لأنها كانت بدون أعداء خافت من شماتة الأصدقاء .. فاكتفت بالأنين و الدعاء ..
علمها أن على كل وطن مهما كان طيبا مسالما .. يجب أن يكون له عدو .. ليهبه دروسا مستمرة في الحذر .. اتخذته عدوها اللدود .. بعد أن كان حبيبها الودود .. و لأنها تعرف نقطة ضعفه .. لم يطل حزنها عليه .. فحين يأكله حنينه للبدايات .. سيعود إليها ذليلا .. و ستذيقه كل عذابات الخدمة العسكرية .. في وطن مجروح .. هو قلب امرأة لم تجرب غدر الرجال من قبل ..

حسين حمدون