فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الحياة الاجتماعية > نبض مواطن > من اجل فلسطين

الإهداءات



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم November 28, 2013, 10:39 AM
 
لمن اراد فهم قضيّة فلسطين : سلسلة قضيّة فلسطين

سلسلة قضية فلسطين


قضية فلسطين هي قضية عسكرية بالدرجة الأولى، بينما تسطّرت في أذهان الكثيرين في هذا الزمن على أنها قضية سياسية بحتة، ومن هنا حدث خلل في عرضها وفي فهم سياقها العام، وفي تحليل الأحداث المرتبطة بها، وفي تخطيط الأعمال التي تقود لحلّها، وفي كيفية حشد الأمة لتحريرها، ولذلك كان لزاما على المنخرطين في ميدانها السياسي، والناشطين على ساحتها من فهم سياقها التاريخي، ومن الوعي على تطورها خلال عقود القرن الماضي، وعلى ما آلت إليه خلال العقد الأول من هذا القرن.

وتأتي هذه السلسلة من المقالات كعمل توثيقي وتأصيلي لهذه القضية مبنيا على أساس النظرة السياسية من زاوية العقيدة الإسلامية، من أجل المساهمة في إعادة صياغتها في الوعي العام للأمة على أنها قضية عسكرية ذات أبعاد سياسية، وعلى أنها قضية أمة لا قضية شعب أو مجموعة من الفصائل تحركّت في فضاء الأنظمة العربية وفي ساحات العلاقات الدولية، فأدت إلى تشويه المفاهيم الأساسية لهذه القضية.



وهي مقسمة إلى قسمين:

تناول القسم الأول فيها عرض لمحة تاريخية لتداول الأمم والحكام على فلسطين، ثم عرضاً لتطور الرؤى الدولية لما أسموه "حل القضية الفلسطينية"، مبينا تآمر الأنظمة العربية وكاشفا دور منظمة التحرير الفلسطينية، وصولا إلى إنشاء السلطة الفلسطينية.

أما القسم الثاني فعرض مشهد القضية خلال السنوات الأخيرة من الجعجعة الفصائلية، ومن التنافس على تلك السلطة الهزيلة التي هي دون مستوى الممالك التي تصارعت عليها ضعاف النفوس في التاريخ الإسلامي، ومن حشر القضية في نهج المفاوضات وفي المشروع الأمني والخدماتي، وذلك من أجل سحب البساط من تحت أرجل المضللين والمخادعين، وحتى تدرك الأمة أن الأعمال السياسية التي جرت خلال العقدين الأخيرين ظلّت بعيدة عما يقود للتحرير لأنها أعادت تصوير القضية على أنها قضية سياسية بحتة

رد مع اقتباس
  #2  
قديم November 28, 2013, 10:41 AM
 
رد: لمن اراد فهم قضيّة فلسطين : سلسلة قضيّة فلسطين

القسم الأول – تاريخ وتطور قضية فلسطين


قضية فلسطين-1

فلسطين أرض قبل التاريخ ... وجغرافيا قبل سايكس بيكو





يأتي هذا المقال (المطوّل) ضمن سلسلة من المقالات التأصيلية حول قضية فلسطين من أجل المساهمة في إعادة صياغتها في الوعي العام للأمة الإسلامية على أنها قضية عسكرية ذات أبعاد سياسية، وعلى أنها قضية أمة لا قضية شعب أو مجموعة من الفصائل التي تحركت في فضاء الأنظمة العربية، وفي ساحات العلاقات الدولية، فأدت إلى تشويه المفاهيم الأساسية لهذه القضية.

وضمن سياق التأصيل السياسي لقضية فلسطين، لا بد من لمحة تاريخية حول فلسطين وتعاقب الأمم والحكام عليها، لتوضيح علاقة فلسطين بما يحيط بها من جغرافيا وبلاد، وعلاقة التاريخ بدعاوى باطلة أو خاطئة في المحاججات السياسية الداخلية والخارجية، ومن ثم لتبيان سياق نشأة قضية فلسطين كحلقة في سلسلة متصلة من الحوادث والحروب، غائرة الجذور في التاريخ. وبالطبع ليس المقام مقام بحث تاريخي متخصص ومفصّل ومأصّل، وإنما هي "لمحة" تلقي بالضوء على أبعاد سياسية حاضرة.

يُرجع بعض المؤرخين وجود الإنسان على أرض فلسطين إلى مئات الألوف من السنين ضمن فترة العصر الحجري القديم، كما يدللون على ذلك من خلال بعض الشواهد "فقد اكتشفت بقايا هياكل في مغارة الزطية قرب قرية المجدل شمالي مدينة طبريا عام 1925، وقد عاش صاحبها قبل 200.000 سنة. كما اكتشفت بقايا هياكل في مواقع أخرى في كهوف الكرمل والناصرة تعود إلى قبل 100.000 سنة" (حسب جميل خرطبيل). بل يُنقل أنه "وجدت آثار الوجود البشري في منطقة جنوبي بحيرة طبريا، في منطقة تل العبيدية وهي ترقى إلى ما بين 600 الف سنة مضت وحتى مليون ونصف سنة مضت" (تاريخ فلسطين).

ثم إن الكنعانيين عمّروا فلسطين بين 3000 إلى 2500 قبل الميلاد. وبينما رفض بعض كتّاب التاريخ المعاصرين إقرار أي وجود لليهود على أرض فلسطين كما فعل مثلا جميل خرطبيل حتى قال أن "المؤرخين العرب القدماء كالطبري وغيره، فقد ارتكبوا أخطاء كبيرة" لدى سردهم حوادث بني إسرائيل في فلسطين، ينقل مؤرخون أن بني إسرائيل، في نحو 1250 قبل الميلاد، استولوا على أجزاء من بلاد كنعان الداخلية. ومن المعلوم أنه وردت نصوص قرآنية ذات إيحاءات متصلة، أما نصوص التوراة، فإن موقف الإسلام منها يتمثل في رفض ما عارض القرآن، وقبول ما وافق، والصمت عمّا لم يوافق ولم يعارض.

وبالطبع، تشير قصص الأنبياء إلى قدوم نبي الله إبراهيم إلى فلسطين وكانت تسمّى أرض كنعان، ويقدّر بعض المؤرخين أن ذلك حصل في حدود 1900 قبل الميلاد (الجزيرة نت)، ومن المقطوع به أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا، بل لم تكن الديانة اليهودية قد نزلت بعدْ، والنص القرآني القاطع المُفهم يُقرر: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ". وقد نزل إبراهيم في الخليل وهي مأهولة معمورة حيث اشترى مغارة من أهلها ليدفن فيها كما تفيد بعض الروايات. ومن ثم تعاقب من بعده فيها إبنه إسحق، ومن ثم إبنه يعقوب، عليهما السلام، ومن ثم كانت قصة إبنه يوسف عليه السلام ونشأته وتمكّنه في مصر، ودعوته لأهله للعيش فيها، حيث ظلّ بنو إسرائيل في مصر حتى ولد موسى، عليه السلام، وكان فرعون يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، إلا أن تم خروج بني إسرائيل من مصر.

ووردت قصة تِيْه بني إسرائيل في سيناء، وورد في القرآن خطاب موسى عليه السلام لبنى إسرائيل في قوله "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ"، وقد أورد الطبري في تفسيره أن أهل التأويل اختلفوا في الأرض التي عناها هنا، فقال بعضهم هي الطور وما حوله، وقيل هي أرض أريحا، وقيل هي "دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن"، ويخلص الطبري إلى أنه ليس ثمة قطع بالمقصود من هذه الأرض، إلا أنها لا تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع جميع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك، أما معنى "التي كتب الله لكم" أي التي أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن ومنازل دون الجبابرة التي فيها. ومن ثم كانت فترة لأنبياء الله داود وسليمان وغيرهما، وفي هذا السياق يدّعي اليهود أحقيتهم التاريخية بفلسطين.

والعاقل المنصف يدرك أن يهود قد عادوا أنبياء الله، ومكروا لقتل المسيح عليه السلام، ولا يمكن أن يكونوا خلفا لسلف من الأنبياء الأطهار، بل إن بعض المؤرخين قد شكك حتى في وجود علاقة نسب (بيولوجي) بين يهود أوروبا (الذين احتلوا فلسطين) وبين بني إسرائيل الذين عاصروا الأنبياء، ولهذا تحرص بعض الأبحاث البيولوجية لدي اليهود على موضوع الجينات وترابطها وتسلسلها التاريخي.

ثم عبر مئات السنين التي تلت، تعاقب على الأرض الآشوريون والبابليون، وإسكندر الأكبر، ومن ثم تناوب عليها البطالسة المصريين والسلوقيون السوريين، والأنباط، وفي عام 63 قبل الميلاد تم ضمّ فلسطين إلى الإمبراطورية الرومانية، ثم كانت بعثة المسيح عليه السلام في فلسطين، وما حصل من تآمر اليهود عليه، وظلت فلسطين تحت الحكم الروماني حتى فتحها خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام 637 ميلادي الموافق 16 للهجرة. وبعد الفتح الإسلامي للقدس، سمح الخليفة عمر لليهود بزيارة القدس وممارسة شعائرهم الدينية فيها.

وقبل الفتح ارتبط الدين الخاتم ببيت المقدس حيث كان أول قبلة توجّه إليها المسلمون في الصلاة، وتمت رحلة الإسراء من مكة لبيت المقدس حسب النص القطعي الذي هو أقوى من كل روايات التاريخ، وسميت سورة من القرآن الكريم باسم تلك الرحلة، التي استهلت بقول الله تعالى "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ"، وهي آية تُقرّر أن فلسطين أرض مباركة، وهي بذلك جزء من عقيدة المسلمين. وظلّت فلسطين ضمن دولة الخلافة زمن الأمويين والعباسيين، وشيّد الخليفة الأموي الخامس عبد الملك، مسجد قبة الصخرة، ثم شيّد الوليد بن عبد الملك المسجد الأقصى، وذلك في القرن الهجري الأول.

وبعد منتصف القرن الثالث الهجري، طرأ على دولة الخلافة ضعف، استمر وتزايد في ظل نزاعات على السلطة والحكم، ولا شك أن تلك الظروف السياسية من التمزق، قد حركت أطماع الصليبيين، فأشعلت الحروب الصليبية، وتم احتلال فلسطين بعد تسيير عدة حملات عديدة للفرنجة، وتمت إقامة مملكة القدس اللاتينية في الفترة ما بين 1099 و 1187 للميلاد، بعد ارتكاب جرائم صليبية وحشية: من إحراق وذبح لآلاف من المسلمين العزّل من الرجال والنساء والاطفال.

ثم انبرى القائد عماد الدين زنكي بن أقسنقر لجهاد الصليبيين، واستمرت جهود زنكي في توحيد قوى المسلمين لمحاربة الصليبيين، ووّحد العديد من مدن الشام تحته، وحاول في سنة 534 هـجري الاستيلاء على دمشق مرتين دون جدوى، "فقد كانت دمشق المفتاح الحقيقي لاسترداد فلسطين من جهة الشام" (فلسطين في التاريخ الإسلامي). وقُتل -رحمه الله- غدراً بينما كان يحاصر قلعة "جعبر"، فتبعه في الجهاد ابنه نور الدين محمود، الذي تولى حلب وما يتبعها، وكان شخصية إسلامية فذة وورعة، وظل يستهدف تحرير فلسطين واسترداد بلاد المسلمين، وتوحيدها تحت راية الإسلام.

وتمكن نور الدين زنكي من إكمال مسيرة أبيه: ففتح دمشق عام 549 هجري (1154م)، ومن ثم ضم العديد من مدن وقلاع الشام وأخضعها لسلطانه، وأدرك أن تحرير فلسطين واقتلاع الاحتلال الصليبي يقتضي السيطرة على مصر وتوحيدها مع الشام من أجل وضع الصليبيين بين فكّي كمّاشة. وبالفعل تمت السيطرة لنور الدين على مصر بعد ثلاث حملات أرسلها لمصر من أجل ذلك الغرض، وفي العام 564 هجري (1169م) تولى صلاح الدين "الوزارة" في مصر

تحت الخلافة الفاطمية، ثم أسقط الخلافة الفاطمية ووحد مصر مع الشام في العام 567 هجري (1171م)، بأمر من نور الدين زنكي. وكانت إستراتيجية نور الدين زنكي تقوم على توحيد الشام ومصر مع الموصل واليمن وتشكيل جبهة إسلامية من العراق إلى الشام فمصر واليمن تمهيدا للتحرير الكامل لفلسطين. وفيما كان نور الدين يجهّز لتحرير بيت المقدس وفلسطين، وكان قد جهز منبرا جديدا للمسجد الأقصى، وبينما كان متوجها لمصر من أجل ترتيب أمورها والتحرك لفلسطين، توفّي رحمه الله عام 570 هجري (1174م).

ثم جاء من بعده صلاح الدين الذي جهّز جيشه للمعركة الفاصلة، واجتاز صلاح الدين نهر الأردن، وفي العام 583 هجري الموافق 1187 ميلادي انتصر جيش صلاح الدين في معركة حطين التي كانت إحدى المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي وتاريخ فلسطين، حيث فتحت الطريق أمام المسلمين لتحرير معظم أرجاء فلسطين، وتم خلال أيام قليلة تحرير العديد من مدن فلسطين، ومن ثم تتوج ذلك العام المبارك بالنصر وتحرير القدس في منتصف رجب، وعادت بيت المقدس لحكم الإسلام بعد 91 سنة هجرية (88سنة ميلادية) من الحكم الصليبي.

واستمر صلاح الدين في مسيرة تحرير كافة مدن الشام مثل اللاذقية والكرك ثم صفد. إلا أنّ الصليبيين الذين سقطت مدنهم وقلاعهم تجمعوا في صور وحشدوا مزيدا من القوى، ومن ثم هاجموا مدينة عكا عام 585 هجري الموافق 1189 ميلادي، وتحصنوا هنالك حتى جاءتهم إمدادات الحملة الصليبية الثالثة التي دعا إليها البابا أوربان الثاني، وقادها ثلاثة من ملوك أوروبا (ألمانيا وانكلترا وفرنسا)، وعاد الصليبيون ليكون لهم موطئ قدم جديد في فلسطين.

واستمر الصراع العسكري الدموي بين المسلمين والصليبيين، ورابط صلاح الدين حول عكا سبعة وثلاثين شهراً، حتى اضطر لعقد هدنة الرملة مع ريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا، عام 588 هجري الموافق 1192 ميلادي، وكانت محددة بثلاث سنوات وثلاثة أشهر، رغم أنه كان مصّرا على مواصلة الجهاد ورفض الهدنة، إلا أن أمراءه ومستشاريه أصروا عليه من أجل قبول الهدنة، بحجة خراب البلاد، ومن أجل استراحة المحارب والتحضير للحرب، بعد إرهاق الجند والناس، وتحت ضغط قلة الموارد، وألحّوا عليه بالهدنه على اعتبار أن الفرنجة لا يوفون بعهودهم ولا يلبثون أن يتفرقوا. ومن المقرر في التاريخ أن تلك الهدنة لم تتضمن أي اعتراف للصليبيين بأيّ حق لهم على أرض فلسطين، واقتصرت على عدم القتال على ما انتزعوه من أرض فلسطين حتى تنتهي الهدنة. وتوفي صلاح الدين –رحمه الله- بعد ستة أشهر من توقيع تلك الهدنة.

وفيما عادت الصراعات على السلطة بين خَلَف صلاح الدين، وقَوِيت شوكة المملكة الصليبية في عكا، وأعادوا احتلال القدس عام 626 هجري الموافق عام 1229 ميلادي، ثم عام 638 هجري (1240م) ضمن حالة من النزاعات كانت فيها القدس ورقة مفاوضات وملفا ضمن صفقات التحالفات، حتى تم تحريرها نهائيا من الصليبين في العام 642 هجري (1244م)، وظلت كذلك حتى نهاية الدولة العثمانية.

وآل حكم مصر من بعد الأيّوبيين للمماليك عام 647 هجري (1250م)، وقد خاضوا معارك الجهاد ضد المغول والصليبيين، وتوّجوا ذلك بمعركة عين جالوت التي وقعت عام 658 هجري (1260م)، والتي تعد أخت حطين في طبيعتها الفاصلة في التاريخ الإسلامي، حيث انتصر فيها المسلمون انتصارا ساحقا على المغول، وأدت لانحسار نفوذ المغول في بلاد الشام وخروجهم منها نهائيا، وقد وقعت في منطقة تسمى عين جالوت بين مدينة جنين والناصرة وبيسان، في شمال فلسطين. وكان المماليك هم من طهر فلسطين من آخر الصليبيين عام 1291 ميلادي في قيساريا وعكا.

وفيما كان اسم المنطقة "جند فلسطين"، فقد قُسّمت إلى ستة أقضية هي غزة وقاقون، والقدس، والخليل ونابلس، وكانت جميعها تابعة للشام. وكذلك الحال تحت الخلاقة العثمانية، قسمت فلسطين إلى خمسة مناطق سميت سناجق، وهي سنجق القدس وغزة وصفد ونابلس واللجون، وكانت جميعها تابعة لولاية دمشق، وبالطبع لم تكن هنالك فواصل محددة ولا حدود ثابتة تعرّف فلسطين كمنطقة جغرافية قائمة بذاتها طيلة القرون السابقة ضمن مراحل الخلافة الإسلامية، وتشير بعض المراجع (فلسطين ) إلى أن اسم فلسطين يمكن أن ينطبق على "المنطقة الممتدة من نهر الليطاني في لبنان شمالا إلى رأس خليج العقبة جنوبا، ومن البحر الأبيض المتوسط غربا إلى الضواحي الغربية للبادية السورية في الأردن شرقا. ويمكن أيضا اعتبار صحراء النقب جزءا طبيعيا من شبه جزيرة سيناء وعدم شموله بمنطقة فلسطين جغرافيا".

ومع تفاقم أزمات اليهود واضطهادهم في المجتمعات الأوروبية (وخصوصا الشرقية منها حيث سكن اليهود) خلال الثمانينات من القرن التاسع عشر وما تلاها، تبلورت عند اليهود قضية إقامة دولة يهودية، وكان احتلال فلسطين هو الطريق لذلك مستندين إلى عقيدتهم.

وفيما بدأت مرحلة الاستعمار الأوروبي وتمزيق دولة الخلافة، كانت بريطانيا تُعد لاستغلال تحقيق حلم اليهود من أجل مصالحها الاستعمارية، وكانت الحكومات الأوروبية تشجع الهجرة اليهودية إلى فلسطين للتخلص منهم. وفي ظل ضعف دولة الخلافة العثمانية تعاظمت تلك الهجرة على إثر دعوات من الحركة الصهيونية، والتي أدت إلى تأسيس تجمعات يهودية جديدة في فلسطين، خاصة في منطقة السهل الساحلي، حول القدس وفي مرج بن عامر.

وحاول اليهود الاتصال بالسلطان عبد الحميد لإقناعه بتأسيس وطن قومي لليهود، واستغل زعيمهم هرتزل ضائقة الخلافة المالية فحاول إغراء السلطان عبد الحميد بالمال، وأجرى اتصالاته تلك برعاية من الدول الاستعمارية الأوربية عام 1901. ولكنّ ردّ السلطان عبد الحميد كان تاريخيا وبقي محفوظا ومحفورا في قلوب وعقول المسلمين (كما هو مسطر في رسالته الشهيرة لشيخه محمود أفندي أبي الشامات)، وشهد على ذلك الرد حكماء صهيون في بروتوكولاتهم، وهرتزل في مذكّراته، حيث ذكر هرتزل في سياق مقابلته للسلطان: "ونصحني السلطان عبد الحميد بأن لا أتخذَ أية خطوة أخرى في هذا السبيل، لأنَّه لا يستطيع أن يتخلى عن شبرٍ واحد من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكًا له، بل لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها، وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني بأن يحتفظ اليهود بملايينهم وقال: إذا تجزّأت إمبراطوريتي يومًا ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حيٌّ فإنَّ عمل المِبْضَعِ في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتي، وهذا أمر لا يكون" (السلطان عبد الحميد الثاني في الميزان).

وأدرك اليهود في النهاية أن السلطان عبد الحميد يظلّ معرقلا لمشروعهم، وأنَّ حلمهم بإنشاء وطن قومي لهم لن يتحقق طالما ظل خلفية للمسلمين، لذلك شارك اليهود في التآمر لعزله ومن ثم للقضاء على دولة الخلافة، ودفعوا تلك الأموال التي رفضها –رحمه الله- للمتآمرين من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي الذي كان معظمهم من الماسونيين، فخانوا الأمة ونفّذوا مؤامراة عزل السلطان والقضاء على الخلافة الإسلامية، التي ألغاها أتاتورك نهائيا عام 1924.

وشارك قادة ما سميّت "الثورة العربية الكبرى" بالمؤامرة ضد الخلافة، ومهّدوا لاحتلال فلسطين، وهو ما تأكد فيما تم كشفه في مراسلات الشريف حسين ونائب ملك بريطانيا مكماهون، حيث جاء في جواب مكماهون في 24 أكتوبر من العام 1915 حول طلب الشريف حسين تحديد الحدود ما يشير إلى نيّة بريطانيا المبيّتة في فلسطين، "إن ولايتيّ مرسين واسكندرونة وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام وحمص وحماة وحلب لا يمكن أن يقال أنها عربية محضة. وعليه يجب أن تستثنى من الحدود المطلوبة".

والتقت مصالح بريطانيا، مع حلم اليهود، ولذلك تبنّت بريطانيا مشروع إقامة دولة يهودية منذ مطلع القرن الماضي، إذ قدّم الوزير البريطاني اليهودي هربرت صاموئيل سنة 1908 مذكرة اقترح فيها تأسيس دولة يهودية في فلسطين تحت إشراف بريطانيا شارحا الفوائد الاستعمارية التي ستجنيها بريطانيا، ووافق العديد من سياسيي بريطانيا على تلك المذكرة (مشاريع سياسية أحدثت النكبة وأخرى كرّستها).

وكانت بريطانيا تخطط مع القوى الاستعمارية (فرنسا على وجه التحديد، وبإطلاع وموافقة روسيا) على تدويل فلسطين، كما تم في المعاهدة السرية لاقتسام تركة الخلافة العثمانية فيما بين بريطانيا وفرنسا، المعروفة بمعاهدة "سايكس بيكو" والموقعة عام 1916 (معاهدة سايكس بيكو)، حيث نصّت المادة الثالثة منها على ما يلي: "تنشأ إدارة دولية في المنطقة السمراء (فلسطين) يعين شكلها بعد استشارة روسيا بالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة"، وكانت الغاية الاستعمارية من تأسيس منطقة دولية في فلسطين تكوين قاعدة للدول الغربية الكافرة، وجسر للاستعمار في أهم بقاع الارض استراتيجية من أجل تمزيق دولة الخلافة، وكي يضمنوا عدم عودتها مرة ثانية.

ولما أفشت روسيا سر تلك المعاهدة (بعد الثورة الشيوعية سنة 1917)، احتج زعماء اليهود على المعاهدة وفكرة تدويل فلسطين لدى الحكومة البريطانية، حيث أنها تتنافى مع فكرة الوطن القومي اليهودي، فأكدت لهم بريطانيا أن التدويل هو مجرد خطوة مرحلية تكتيكية نظرا لأطماع فرنسا وروسيا بفلسطين، وأن بريطانيا ستعمل على إلغاء التدويل (فلسطين تاريخها وقضيتها، مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2003). ومن ثم تجرأت بريطانيا على إصدار "وعد بلفور" في كانون ثاني من العام 1917، وقد جاء في سياق طمأنة اليهود بعد إفشاء سر معاهدة سايس بيكو، وقد نص الوعد على: "إن حكومة صاحب الجلالة ترى بعين العطف تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية"، ومن ثم أقرته فرنسا وإيطاليا عام 1918، وتلتهما أمريكا في عام 1919، مما يشكف عن تآمر غربي قديم مسيّر بالعقلية الصليبية نحو نزع فلسطين من المسلمين، سواء عبر التدويل أو عبر إنشاء وطن قومي لليهود.

ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى (1918)، كانت بريطانيا قد احتلت فلسطين حتى تسهل لليهود هجرتهم إلى فلسطين، ولما دخل الجنرال البريطاني ألنبي القدس وقف على جبل الزيتون فيها وقال جملته الشهيرة التي تكشف عن مكنون العقلية الصليبية: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، وهي صدى لمقولة الجنرال الفرنسي "غورو" عندما دخل دمشق ووقف على قبر صلاح الدين –رحمه الله- وركله بقدمه "ها قد عدنا يا صلاح الدين". وفي عام 1920 أعاد الاستعمار البريطاني تشكّله تحت مسمى الإدارة المدنية، وتم تعيين الوزير اليهودي البريطاني صاموئيل –صاحب المذكرة أعلاه- كأول مندوب سامي على فلسطين.

وحتى بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين، لم تكن هنالك حدود "تاريخية" ثابتة تعرّف فلسطين على وضعها الحالي المسمى "حدود فلسطين التاريخية"، نظرا لارتباط تاريخ فلسطين بما يحيطها من بلدان، وحيث أن الخلافة الإسلامية لم تعرّف حدودا ثابتة بين ولايتها، بل مرت الإشارة –أعلاه- إلى جند فلسطين وأقضيتها وسناجقها خلال الخلافة، وظلت فلسطين جزءاً متصلا من بلاد الشام. وعبر التاريخ، كان تحديد أرض فلسطين يضيق ويتسع باختلاف العصور المتعاقبة عليها، ولم تتحدد ما تسمى "حدود" فلسطين على ما هو متعارف عليها في هذا الزمن إلا خلال فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، ولذلك فإن الحدود المشار إليها اليوم "كحدود فلسطين التاريخية" هي نتيجة سلسلة من المفاوضات والاتفاقيات بين الإمبراطوريات والقوى الاستعمارية مطلع القرن العشرين، وإن الحديث عن "كيان فلسطيني" مبتور عن محيطه ارتبط بالاحتلال البريطاني وبالصراع على النفوذ وبفكرة إنشاء وطن قومي لليهود.

واستمرت الهجرة اليهودية تحت الرعاية البريطانية والتسهيل الأوروبي، وانتفض الناس في فلسطين عدة مرات ضد المآمرة البريطانية والهجرة اليهودية، منها ثورة يافا (عام 1919)، ثورة البراق (عام 1929). وحصلت الهجرات اليهودية على عدة مراحل: كانت الموجة الأولى في الفترة 1882-1903، ولحقتها الموجة الثانية حتى عام 1914، ثم كانت الموجة الثالثة في الفترة من 1919-1923، ثم الرابعة في الفترة 1924-1928. وكانت عصابة الهاغانا قد تأسست عام 1921 كمنظمة عسكرية صهيونية، ورغم أنها كانت سرية وغير مشروعة إلا أن الإنتداب ساعدها وغض الطرف عن نشاطاتها، فيما كان تطبيق القوانين صارماً ضد الفلسطينيين فيما يتعلق بحيازة الأسلحة، وتشكلت بعدها عصابات يهودية أخرى مثل عصابة شتيرن عام 1939، وفي الفترة ما بين 1940-1945 واصلت عشرات الألوف من اليهود الهجرة والدخول بشكل غير رسمي، واستمرت على تلك الحال بعد ذلك (تسلسل التاريخ الفلسطيني منذ العصور الأولى حتى عام 1949).

وبدأت قضية فلسطين بالتبلور كقضية عسكرية للتخلص من الاحتلال البريطاني، وهو ما أدركه المجاهد عز الدين القسام -رحمه الله- الذي خاض الجهاد ضد بريطانيا بعدما كان قد جاهد ضد الاحتلال الفرنسي لسورية عام 1920، ولمّا طارده الفرنسيون انتهى به المطاف في فلسطين، وأسس فيها حركة جهادية ضد الاحتلال الانجليزي لفلسطين، ونفّذت عمليات فدائية ضد المستوطنات اليهودية، بهدف إحباط الهجرة إلى فلسطين، إلى أن استشهد على يد الاحتلال البريطاني عام 1935 (الشيخ عز الدين القسّام).

وفي المقابل كانت هنالك توجهات مبكرة لتسييس قضية فلسطين بعيدا عن قتال الإنجليز قادها الحاج أمين الحسيني، الذي ترأس الهيئة العربية العليا، التي أنشئت عقب استشهاد عز الدين القسام عام 1935، وضمّت مختلف التيارات السياسية الفلسطينية (وتعتبر من الجذور التي أنبتت منظمة التحرير لاحقا)، وحرّكت ما عرف بثورة 1936، ومن المعروف أن الحسيني كان يؤيد الجهود السياسية لحل القضية الفلسطينية (الحاج أمين الحسيني).

وتحددت رؤية بريطانيا بصدور الكتاب الأبيض لسنة 1939 (مشروع الكتاب الأبيض، White Paper of 1939)، والمعروف أيضاً بكتاب مكدونالد الأبيض نسبة لوزير المستعمرات البريطاني، الذي رفض فكرة الدولة اليهودية وفكرة الدولة العربية، فيما نص على "أن هدف الحكومة البريطانية هو أن تشكل حكومة فلسطينية مستقلة خلال عشر سنوات، ترتبط مع بريطانيا بمعاهدة ...، يشارك العرب واليهود في حكومتها ..."، وأبقى باب الهجرة لليهود مع تحديد أعداد المهاجرين، وحدد المشاركة في الحكومة بناء على نسبة كل منهما لإجمالي سكان فلسطين في سنة 1949.

وتعاظمت العصابات اليهودية، التي تآمرت مع بريطانيا من أجل أن تتسلم الأراضي الفسطينية (الممسمّاة الآن 1948)، وأخذت قضية فلسطين تتبلور بشكل قوي على الساحة الدولية: ففي نيسان عام 1947 أحالت بريطانيا ملف القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة، معلنة أنها ستنهي انتدابها في 15 أيار من العام 1948. وفي 29/11/1947 عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اجتماعا، تم فيه التصويت على قبول مشروع كان قد قدم مسبقا بشأن تقسم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين رقم 181، وكانت أمريكا ممن شجع إصدار ذلك القرار. وكانت حرب 1948 كانطلاقة لدولة اليهود، وسارعت دول الغرب بالاعتراف بدولة يهود، وتم قبولها كعضو في الأمم المتحدة في 28-3-1948. وهكذا تبلورت القضية الفلسطينية كقضية سياسية على الساحة الدولية.

وأمام هذه الوقفة التاريخية لا بد من بلورة مجموعة من النقاط التي تنعكس على واقع قضية فلسطين الحالي، منها:

• التاريخ ليس مصدرا لإقرار الأحقية بالبلاد، فهي أرض معمورة قبل التاريخ وقبل ظهور اليهود الأصليين، ثم إن اليهود المحتلين لفلسطين قد فقدوا الصلة الشرعية ببني إسرائيل من أتباع موسى عليه السلام، بل إن بني إسرائيل أنفسهم قد فسقوا خلال الديار زمن الأنبياء وقتّلوا الرسل. وفوق ذلك، فإن هؤلاء المحتلين لفلسطين ممن يحملون العقيدة اليهودية قد فقدوا صلة النسب ببني إسرائيل، ولذلك ليس ثمة من قيمة للحديث عن الأحقّية التاريخية، ولا عن وعد الله لأمثالهم، بل هنالك توعّد لله سبحانه للمجرمين منهم، وهذه اللفتة هي فقط من أجل سحب البساط من تحت أقدام أصحاب الدعاوى اليهودية وممن يتحدث عن أباطيل المستشرقين. ولا قيمة لكل محاولات التزوير التاريخي الذي يمارسه اليهود.

• إن فسطين مرتبطة بعقيدة المسلمين وبتاريخهم الممتد لثلاثة عشر قرنا من الخلاقة، وقد ظلت محل أطماع الصليبين، وساحة جهاد للمسلمين على فترات متعددة من تاريخهم.

• إن احتلال فلسطين ظل في كل مرة مرتبطا بتشرذم المسلمين وبفرقتهم وبضعف الخلافة أو تمزقها أو القضاء عليها، فيما كان تحريرها مرتبطا بالعمل على وحدة البلاد وتوحّد العباد، وكان دائما مستندا إلى عمقها في مصر والشام، ولذلك فإن التعامل مع القضية كشأن داخلي فلسطيني، والتعامل مع الشام ومصر كدول شقيقة يخالف الحقائق التاريخية عدا عن مخالفته للأحكام الشرعية.

• إن الحديث عن "حدود فلسطين التاريخية" كجغرافية محددة تفصل فلسطين عن محيطها في الشام هو تضليل تاريخي وتزييف للحقائق، إذ لم تتحدد تلك الحدود إلا خلال فترة الاحتلال البريطاني وضمن مسيرة المؤامرات الاستعمارية، ولم تكن فلسطين منفصلة عن الشام بل ظلّت خلال قرون طويلة تابعة لولاية دمشق والشام.

• ظلت عقلية الحروب الصليبية مسيطرة على الممالك في أوروبا قديما، وعلى الدول الأوروبية حديثا، ولا يمكن أن تزول هذه العقلية من ساحة الصراع، بل هي تتجلى اليوم في صراع حضارات كوني، وما فلسطين إلا ساحة من تلك الساحات الدموية.

• ليس ثمة من تشابه بين الهدنة التي عقدها صلاح الدين وبين أية اتفاقية تعقدها الفصائل الفلسطينية مع الاحتلال اليهودي، فقد كانت من قبل حاكم مسلم لوقف مؤقت للقتال دون اعتراف بالاحتلال، على خلاف أية اتفاقية دائمة توقعها قادة فصائل معترفة بالاحتلال.

• لقد كان تحرير فلسطين دائما قضية عسكرية تتعلق بالجهاد، ولذلك فإن حصرها بالقضية السياسية لا يؤدي إلى تحريرها، وإن التحالفات مع الصليبيين ومع قوى الاستعمار الأوروبي قد أدت دائما للاحتلال، ولا يمكن أن تكون طريقا للتحرير.

• لم تخض الأمة حربا حقيقية مع كيان يهود، وتحاول دولة يهود الإفادة من الحرب المسرحية عام 1948 لتخلق صورة ذهنية لها بأنها قوة لا تغلب، وذلك تزييف للواقع، لأن انتصار عصاباتها كان نتيجة تآمر الأنظمة العربية.

• لقد سطر التاريخ صحائف مشرقة لأبطال الأمة الذين حرروا فلسطين أو رفضوا التنازل والتآمر عليها، فيما سطّر أيضا سجلات عار مخزية لمن تآمر عليها، ولذلك فإنّ ما يجري على الساحة الفلسطينية من تآمرات حاليا ستلقي بأصحابها في مزابل التاريخ، ولا يمكن أن تضعهم الأمة في خانة عمر وصلاح الدين والسلطان عبد الحميد.

• لقد كانت الثورة العربية الكبرى خنجرا في صدر الأمة، وممهدا لاحتلال فلسطين، ولذلك من المهم أن تعي الأمة على ما خلف الشعارات "الثورية" من مؤامرات، وأن لا تنخدع بمن ينسّق مع الغرب تحت إطار العلاقات الدولية، فذلك التنسيق لا يمكن إلا أن يؤدي لتحقيق برامج الغرب ومصالحه.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم December 9, 2013, 01:38 PM
 
رد: لمن اراد فهم قضيّة فلسطين : سلسلة قضيّة فلسطين

قضية فلسطين 2: نشأة الحلول السياسية حسب رؤى استعمارية

ضمن سلسلة "قضية فلسطين"، يتناول هذا المقال (المطول الثاني) المراحل الأولى لتطور قضية فلسطين كقضية سياسية ضمن الصراع الرأسمالي على المصالح، ويكشف أن تحركات الأنظمة العربية ظلت دائما ضمن تلك السياقات من الصراع الدولي، وأن فصائل العمل الوطني "تتغافل" عن تلك الخلفية في تبنيها "لحل إقامة الكيان الفلسطيني"!



يتضح من خاتمة العرض التاريخي السابق، أن قضية فلسطين انبثقت عندما قررت بريطانيا سحق الخلافة في الحرب العالمية الأولى خلال صراعها العسكري والسياسي مع دولة الخلافة العثمانية. وبعدما فشل اليهود في إغراء السلطان عبد الحميد لإقناعه بتأسيس وطن قومي لهم، التقت تطلّعاتهم مع مصالح بريطانيا، وبدأت بوادر ذلك التوافق منذ صياغة مذكرة الوزير البريطاني (اليهودي) صاموئيل سنة 1908 لتحقيق وطن قومي لليهود يحقق مصالحت بريطانيا.

وكانت الرؤية الأساسية للقوى الاستعمارية الفاعلة في ذلك الوقت، تتمثل في إيجاد كيان دولي في فلسطين، وذلك ضمن مشروع تمزيق الخلافة، كما نصت معاهدة "سايكس بيكو" الموقعة عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا باطلاع روسيا، ولما أفشت روسيا سر تلك المعاهدة بعد ثورتها عام 1917، تم إصدار "وعد بلفور" عام 1917 من قِبَل بريطانيا لطمأنة اليهود، وأقّرته فرنسا وإيطاليا عام 1918، ثم أمريكا عام 1919.

ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، احتلت بريطانيا فلسطين حتى تسهّل لليهود هجرتهم إلى فلسطين، وذلك كي تتخلص أوروبا منهم ومن مشاكلهم وحقاراتهم وإفسادهم، ولتجعلهم بريطانيا أداة متقدمة في يدها، ولتشغل المنطقة بصراع مرير مع اليهود لصرفهم عن استعادة الخلافة.

وتم تعريف فلسطين على وضعها الحالي ضمن ما يسمى "حدود فلسطين التاريخية"، نتيجة سلسلة من المفاوضات والاتفاقيات بين القوى الاستعمارية مطلع القرن العشرين. وفيما استمر تدفّق الهجرات اليهودية إليها وتشكّل عصاباتهم، صدر عن بريطانيا الكتاب الأبيض لسنة 1939، الذي حدد رؤية بريطانيا بتأسيس دولة فلسطينية مستقلة تكون محكومة من قبل العرب الفلسطينيين واليهود بشكل طائفي حسب نسبة كل منهما. وهو ما يعتبر توثيقا رسميا مبكرا لما يُعرف بحل الدولة الواحدة الذي ظلت أصداؤه طيلة العقود التي تلت، كرؤية بريطانية لحل القضية الفلسطينية.

ومع أن أمريكا كانت تعيش في عزلة دولية حتى الحرب العالمية الثانية، إلا أن بداية تدخّلها بالقضية الفلسطينية ترجع إلى عام 1919 لدى موافقتها على وعد بلفور بعد صدوره بعامين. ولما خرجت أمريكا من عزلتها بعد الحرب العالمية الثانية بدأت أطماعها بالظهور كدولة استعمارية، وتقدمت نحو بلاد المسلمين لكي تبسط هيمنتها وترث خيراتها عن بريطانيا، ولذلك نشأ صراع قوي على المصالح وعلى النفوذ السياسي بين الدولتين، وكانت فلسطين ساحة من ساحته.

وكانت الجامعة العربية حلبة التآمر على القضية الفلسطينية منذ نشأتها في العام 1945، وقد كانت تلك النشأة حلقة في صراع الغرب ضد الأمة الإسلامية، حيث كانت بريطانيا وراء ذلك التأسيس، ودفعت الملك فاروق وحزب الوفد في مصر لحضانتها، لتكون مظلة وحدة صورية تسد تطلعات الأمة للوحدة الحقيقية، إضافة لترسيخها الحدود بين الكيانات التي نشأت عن معاهدة سايكس بيكو، وما تلاها في سان ريمو، وظلّت غطاء للمؤامرات الدولية على فلسطين طيلة عقود.

وبينما دارت معظم الأحداث ذات الصلة بالقضية الفلسطينية في النصف الأول من القرن الماضي حول محور بريطانيا، بدأ تأثير أمريكا بالبروز مع منتصف القرن الماضي، وسارعت لاحتضان الكيان اليهودي في فلسطين وصارت تعمل على تولّيه دوليا واقتصاديا, ثم أصبحت أحرص دولة في العالم على احتضان دولة اليهود وحمايتها, وصار مشروع الكيان اليهودي جزءا من سياستها الخارجية: لتكون "إسرائيل" قاعدة لها في الشرق الأوسط ضد المسلمين، بالتوازي مع تأسيس قاعدة دولية في القدس، تكون سندا لذلك الكيان، وجاهزة للتدخل والتصدي في حالة عدم قدرة دولة اليهود على الصمود أمام المسلمين، فتمنع بذلك المسلمين من استرجاع القدس, ومن القضاء على دولة اليهود.

وفي 18/3/1948، أي قبل إعلان الدولة اليهودية في حرب "النكبة" بشهرين تقريبا، استقبل الرئيس الأمريكي ترومان الزعيم اليهودي حايم وايزمان سراً وتعهد له بالاعتراف بالدولة اليهودية في 15 أيار من العام نفسه (تسلسل التاريخ الفلسطيني منذ العصور الأولى حتى عام 1949). ولما أحالت بريطانيا ملف القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة عام 1947 حتى لا تأخذ على عاتقها وحدها إنشاء الدولة، رفضت لجنة فلسطين الدولة المتحدة في 25/11/1948، وأيدت مشروع التقسيم (النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود)، وصدر قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية في 29/11/1948 (رقم 181)، حيث تضمن نصه أنه: "تؤسس في فلسطين دولتان مستقلتان: واحدة عربية وأخرى يهودية. تؤسس في القدس إدارة دولية خاصة..."، وأعطى مشروع التقسيم ما نسبته 56.5% من فلسطين لليهود، وتضمن تشكيل الاتحاد الاقتصادي الفلسطيني للدولتين العربية واليهودية (نص قرار التقسيم رقم 181). وكانت أمريكا ممن دفع نحو صدور ذلك القرار. ووافقت ثلاثة من الدول العظمى في ذلك الوقت (روسيا وأمريكا وفرنسا) على القرار، فيما امتنعت بريطانيا عن التصويت، ومارس عدد من السياسيين ورجال الأعمال الأمريكيين الضغوط على الدول المترددة التي كانت مرتبطة بالولايات المتحدة اقتصاديا، ويُنقل عن وزير الدفاع الأمريكي آنذاك جيمس فورستل في مذكراته تعليقا على هذا الموضوع قوله: "إن الطرق المستخدمة للضغط ولإكراه الأمم الأخرى في نطاق الأمم المتحدة كانت فضيحة"، مما يمكن اعتباره بداية انطلاق التدخل الأمريكي في القضية الفلسطينية. وشكّل القرار نواة حل الدولتين، مع مشروع تدويل القدس، وصارا معلمين من معالم الحل الأمريكي للقضية الفلسطينية.

ومن المعلوم أن بريطانيا كانت قد أسست علاقات قوية مع قادة اليهود، وكان لها نفوذ بين ساسة يهود الأوائل، ومنهم الذين أسسوا وقادوا حزب العمل الذي حكم دولة اليهود لمدة 30 عاماً منذ تأسيسها، من أمثال "بن غوريون" وكانوا من معارضي التقسيم: وكان بن غوريون قد أعلن منذ عام 1938 أمام قيادة الوكالة اليهودية معارضته لفكرة التقسيم، وظل معارضا لها، ولدى صدور القرار رقم 181 صرّح بيغن ببطلان شرعية التقسيم.

وعشية حرب عام 1948، أعلنت قادة العصابات اليهودية إقامة دولتهم، دون تحديد حدود الدولة في الإعلان، واكتفت بتعريفها "دولة يهودية في إيرتس يسرائيل" أي "أرض إسرائيل"، وسارع الرئيس الأمريكي هنري ترومان للاعتراف بدولة اليهود بعد دقائق من إعلانها يوم 14-5-1948، ولدى تقدّم دولة اليهود للعضوية في الأمم المتحدة، حصل جدل سياسي في أروقتها يعكس تباين الرؤى الدولية:

تقدمت الحكومة المؤقتة "لإسرائيل" في نهاية عام 1948 بطلب انضمامها للأمم المتحدة، وفي الجلسة التي عقدها مجلس الأمن لمناقشة الطلب احتدم الجدل "القانوني" بين المندوب السوري من جهة ومندوب الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى حول مدى انطباق شروط العضوية على "إسرائيل"، حيث انبرى المندوب الأميركي للدفاع عن "جدارة إسرائيل" بالعضوية، ومن المعروف أن أمريكا وروسيا كانتا متحمستين في جلسة 2/12/1948 للتوصية بالقبول، فيما كان رأي بقية الدول الأعضاء في المجلس أن ذلك القبول سابق لأوانه، ولما أحال المجلس الطلب إلى "لجنة قبول الأعضاء الجدد فيه"، لم تبت بقرار، وقرر مجلس الأمن تحويله للتصويت، ففشل مشروع القرار الذي أيدته أمريكا وروسيا، فيما امتنعت عن التصويت عليه (فرنسا وبريطانيا والصين). فأعادت "الدولة اليهودية" التقدم بطلب ثان في شباط 1949، وعند إجراء الاقتراع في مجلس الأمن في 4/3/1949، امتنعت بريطانيا عن التصويت مرة أخرى، وأصدر مجلس الأمن توصية بالقبول، وعارضت مصر ذلك القبول (وكانت رجالاتها بريطانية الولاء). ولما أحيلت توصية مجلس الأمن هذه إلى الجمعية العامة للنظر فيها، تجدد الجدل القانوني والسياسي، وفي النهاية صدر قرار الجمعية العامة رقم 273 (3) بتاريخ 11/5/1949، الذي قرر شرعية دولة "إسرائيل" (دور الولايات المتحدة الأميركية في قبول (إسرائيل) عضواً بالأمم المتحدة).

ومع منتصف القرن الماضي، قررت أمريكا أن تلقي بثقلها على الساحة الدولية، وأن تتفرد بمعالجة القضايا الساخنة، ويعتبر الاجتماع الذي عقده وكيل وزارة الخارجية الأمريكية جورج ماغي بالسفراء والممثلين الأمريكيين في المنطقة، في مؤتمر استانبول عام 1950، نقطة فاصلة في تحرك أمريكا نحو الدخول بثقل في ملف القضية الفلسطينية، وقد تبلورت عن الاجتماع توصية (إستراتيجية) تم رفعها للبيت الأبيض تقضي بضرورة فصل السياسة الأمريكية عن السياسة البريطانية في منطقة الشرق الأوسط. وتمخض عن ذلك الاجتماع تشجيع هيئة الأمم المتحدة على تنفيذ مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، مما يمثّل الرؤية الأمريكية الثابتة لحل القضية الفلسطينية.

وفيما عملت بريطانيا على متابعة القضية كصراع بين الدول العربية "وإسرائيل"، قامت إستراتيجية أمريكا نحو القضية الفلسطينية على حصرها بين "عرب فلسطين" واليهود، وعلى تقرير حالة عدم التكافؤ بين الطرفين, مما يُسهل الوصول لتحقيق الهدف الأمريكي. ومن ثم مارست أمريكا سياسة العصا والجزرة ودفعت الدول العربية التابعة لها في ذلك الوقت (مصر والسعودية والعراق) لأن ترفع أيديها عن القضية الفلسطينية، وأن تحصر مسئولية "تحريرها" في أهل فلسطين، فيما يقتصر دور الدول العربية على "الدعم والتمويل"، وهو ما يؤدي لحالة يأس لدى أهل فلسطين، ومن ثم يجعلهم يستسلمون للحل الأمريكي.

وبعد العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا بمشاركة دولة يهود على مصر عام 1956، أعلنت أمريكا "مبدأ إيزنهاور" الذي حدد أسس تحركاتها وتدخلاتها العالمية، حيث أصدرته تحت دعوى وقف التوسع السوفياتي في المنطقة، فيما كانت غايته ملء الفراغ الذي تركه زوال نفوذ بريطانيا وفرنسا من الشرق الأوسط بعد هجومها على مصر، وكشف خطاب الرئيس الأمريكي ايزنهاور، في بيانه أمام الكونغرس بتاريخ 5/1/1957، عن تطلعات أمريكا لان تحل محل بريطانيا في منطقة الشرق الأوسط، لتأمين المصالح الأمريكية التي انتشرت في نواحي المنطقة، ولتوسيع التحركات الحيوية الأمريكية فيها، ويتضمن ذلك بالطبع إرساء دعائم "إسرائيل" كدولة غربية قوية. وكان الخطاب قد ركّز على عدم الاستقرار والقلاقل التي اجتاحت المنطقة بسبب وجود "إسرائيل". وبالطبع تشجعت أمريكا على تفعيل سياستها تلك في ظل خنوع الأنظمة العربية وسذاجتها، فكان "مبدأ إيزنهاور" إعلانا لسياسة استعمارية عدوانية.

وبدأت خطوات أمريكا العملية لمحاولة تنفيذ الحل تتزايد، وبدأت تفصيلات رؤيتها بالتبلور أواخر حكم أيزنهاور خلال عامي 1959-1960، على أساس حل الدولتين، حيث تبنّى الرئيس الأمريكي آيزنهاور توصيات مؤتمر استانبول (تطبيق سياسة منفصلة عن السياسة البريطانية)، وأخذ يحثّ الزعماء العرب على إقامة كيان فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة مع تدويل القدس. وكانت الغاية من ذلك أن تستولي أمريكا على القدس تحت شعار تدويلها، ولتكون قاعدة بيدها لضرب المسلمين، مع إجبار بقية الدول على حمايتها كونها دولية، وتحقق إقامة كيان فلسطيني يفصل بين دولة اليهود والأردن, لرفع يد اليهود عن الأردن وفصلهم عنها، حيث تأصّل الأردن كقاعدة سياسية لبريطانيا في المنطقة، وتضمنت رؤية أمريكا لحل مشكلة اللاجئين إعادة قسم ضئيل منهم, وتعويض الأكثرية الساحقة، وتوطينهم خارج المنطقة المغتصبة (منطقة 1948 في ذلك الوقت) أو في البلاد العربية. ثم ترجم الرئيس الأمريكي كيندي تلك الرؤية الأمريكية أو أكّدها ضمن خطابات رسمية أرسلها للحكام العرب (في مصر والسعودية والعراق والأردن ولبنان) عام 1961، متعهدا فيها بتمويل قضية اللاجئين وبحل مشكلة المياه.

وهكذا تبلورت سياسيا أطروحتان دوليّتان حول القضية الفلسطينية تمثلتا بحل الدولة الواحدة كرؤية بريطانيا، وحل الدولتين (مع تدويل القدس) كرؤية أمريكية، وظل هنالك صراع سياسي حول الرؤيتين، انعكس في تحركات الأنظمة العربية وحكامها الذين توزّعوا في ولاءاتهم بين القوتين الاستعماريتين، واختلفوا في أعمالهم وبرامجهم السياسية بناء على ذلك. ومع ذلك ظلّت الدولتان العظميان تتنافسان على تثبيت دولة اليهود ورعايتها رغم تباين مصالحهما بشأنها وتباين طرقهما في تسخيرها وتشكيلها.

وهنالك محاولات معاصرة لدى بعض الكتّاب والإعلاميين لإنكار حالة ذلك الصراع على المصالح والنفوذ، وإنكار وجود التآمر الغربي على الأمة الإسلامية تحت شعار رفض "نظرية المؤامرة"، وهو يقوم على منطق سطحي: إذ العالم يتحرك حسب المصالح، وكيف به عندما تكون دوله الفاعلة رأسمالية نفعية تتأصل في بواطنها مشاعر صليبية دفينة؟ ثم إن دراسة تطور الأحداث والتصريحات بموضوعية وبتوثيق يكشف بجلاء تلك المؤامرة وذلك الصراع، وهذا ما تبرزه هذه المراجعة.

وبدأت محاولة إقامة الكيان الفلسطيني على يد أيزنهاور، عندما دفع جمال عبد الناصر في مصر نحو البدء بتنفيذ المشروع، ودفع حاكم العراق آنذاك عبد الكريم قاسم لمساندته سياسيا من خلال الدعوة إلى الجمهورية الفلسطينية، إضافة إلى تحريك الملك سعود نحو تلك الغاية (وكانوا ثلاثتَهم من رجالات أمريكا):

كان جمال عبد الناصر في مصر عرّاب الرؤية الأمريكية، فيما كان الملك حسين في الأردن عرّاب الرؤية البريطانية: وتحرك عبد الناصر لإقامة الكيان الفلسطيني، ودعا لإيجاد الاتحاد القومي للفلسطينيين، وأخذت وسائل الإعلام تدعو له في مصر وسوريا (المتحدتين في ذلك الوقت)، ومن ثم تبنته السعودية علنا وعرضته على الجامعة العربية في اجتماعها الذي عقدته في القاهرة سنة 1959، فيما عارضته الأردن في ذلك الاجتماع بشده، مما عطل مسيرة نجاح المشروع الأمريكي.

وتصاعد الضغط الأمريكي على الأردن، وعقدت الجامعة العربية سلسلة اجتماعات ولقاءات لتلك الغاية في شتورة بلبنان سنة 1960, ولما رضخ هزّاع المجالي رئيس وزراء الأردن للموافقة على الكيان الفلسطيني تحت الضغط الأمريكي، وأرسل تعليمات الموافقة لوفد الأردن في شتورة برسالة مستعجلة من عمان، وافق مؤتمر شتورة على الكيان الفلسطيني في اللحظة الأخيرة بالإجماع، فتم اغتيال المجالي بعد أسبوع من المؤتمر. وظل الملك حسين يبدي المعارضة الشديدة للكيان الفلسطيني وتدويل القدس.

ثم تحركت رجالات أمريكا في المنطقة من جديد على إثر رسائل الرئيس الأمريكي كيندي للحكام العرب عام 1961، فتم عقد مؤتمر الجامعة العربية في القاهرة في 10/6/1961، ومارست أمريكا سياسة العصا والجزرة على الأردن، وكادت أن تؤتي أُكلها، حيث يُنقل الحديث عن صفقة بين السفير الأمريكي في عمان وبين بهجت التلهوني رئيس وزراء الأردن حينئذ، أحبطها الملك حسين خلال ساعات، كما كشفت مذكرة حزب التحرير للملوك والرؤساء في 1962.

ثم تحركت أمريكا عبر ملعب الأمم المتحدة، واستغلت لجنة الأمم المتحدة للتوفيق بشأن فلسطين عام 1961 حول قضية اللاجئين، وأرسلت اللجنة المبعوث الأمريكي جونسون سنة 1961 لجولة على الدول العربية، تحت مسمى مبعوث خاص لبحث بعض الوسائل العملية لتحقيق تقدم بشأن مشكلة اللاجئين العرب الفلسطينيين (الإطار النظري-مشاريع التوطين)، فيما كان يسعى لدفع المشروع الأمريكي، وصار جمال عبد الناصر يدعو علنا لتحكيم لجنة التوفيق وتفعيلها، كأداة للضغط على الأردن للموافقة على الكيان الفلسطيني وعلى تدويل القدس، حسب الرؤية الأمريكية. وحقق جونسون تجاوبا من قبل الحكّام إلا في الأردن، حيث أعلن التلهوني رئيس وزراء الأردن أن الأردن لا يقبل من جونسون التدخل في القضية إلا في نطاق مهمته وهي تتعلق بتصفية اللاجئين، حيث بدا أن جونسون سعى لمشروع تدويل القدس وإيجاد الكيان الفلسطيني، فاخفق جونسون في مهمته الأولى.

ثم عاود جونسون الكَرّة مرة ثانية في العام 1962: ومكث في "إسرائيل" يفاوض ساستها الذين عارضوا التدويل والكيان الفلسطيني، حيث كان الوسط السياسي فيها مرتبطا بالبرامج السياسية البريطانية. واستعانت أمريكا بالملك سعود على إقناع ملك الأردن للموافقة على التدويل وعلى الكيان الفلسطيني، ونشط معه أحمد الشقيري (الفلسطيني) الذي كان يشغل منصب وزير الدولة في السعودية، وقد نقلت الأوساط السياسية، كما كشفت مذكرة حزب التحرير للملوك والرؤساء في 1962، عن الشقيري قوله "غسّلوا أيديكم من فلسطين ومن القدس فإنها ستدول"، وسئل عن عودة اللاجئين فقال: "هذا كلام، ما لهم إلا التعويض".

ولما حصل بعض التجاوب من الأردن، وجرت لقاءات بين كل من الملك حسين، ورئيس وزراءه مع أعضاء "الهيئة العربية العليا لفلسطين" (التي كانت قد تشكلت بموجب قرار من الجامعة العربية عام 1946 كجهة سياسية فلسطينية)، تسرّب حديث عن الاتفاق على تدويل القدس وإنشاء حكومة فلسطينية, وجيش فلسطيني مربوط بالأردن ماليا، مما بدا فيه أن أمريكا حينها تحصل على موافقة الدول العربية وممثلي الفلسطينيين على مشروعها. ولكن بريطانيا سارعت لعرقلة التقدم، وعاد الوضع في الأردن إلى ما كان عليه من المعارضة، وبتاريخ 21/5/1962 عقد وصفي التل مؤتمرا صحفيا في الأردن كشف فيه أن الأردن يتعرض لضغط شديد لتدويل القدس, وأعرب أنه لن يدوّل القدس، ثم أكّد الملك حسين في لقاء مع ضباط الجيش أنه لن يُدوّل القدس، كما كشفت مذكرة حزب التحرير للملوك والرؤساء في 1962.

وبالطبع ارتبطت مؤامرة تدويل القدس بالعقلية الصليبية وأطماع الهيمنة عليها، وقد سبق ما كان من كلام الجنرال البريطاني عند دخول القدس: "الآن انتهت الحروب الصليبية": وبسبب الأطماع الصليبية في القدس، كان موقف الفاتيكان جليا في رفض فكرة الدولة اليهودية عندما زار هرتزل البابا بيوس العاشر من أجل إقناعه بفكرة قيام دولة صهيونية، وكان رد البابا في حينه لهرتزل (لا نستطيع أن نقبل هذه الحركة... القدس يجب أن لا تكون بيد اليهود). وفي عام 1943م أرسل (الفاتيكان) مذكّرةً إلى الحكومة الأمريكيّة عبّر فيها عن معارضته لإنشاء دولة يهوديّة (أسرار الاختراق الصهيوني للفاتيكان وتهويد الكنيسة).

ومن هذا المنطلق أيضا، شن البابا حملة من أجل نزع القدس من أيدي المسلمين وتدويلها: ففي سنة 1961 أرسل بطريك الموارنه في لبنان، بولس المعوشي، وفدا إلى الأردن لإقناع الملك حسين بتدويل القدس، وتواصل البابا مع زين الشرف والدة الملك حسين بشأن تدويل القدس. ثم ازداد نشاط النصارى فيها من أجل شراء الأراضي حتى أصبحت غالبية أراضي القدس بأيديهم. واستهدفت زيارة البابا بولس السادس للقدس وبيت لحم عام 1962 الضغط على الأردن لقبول تدويل القدس كقضية صليبية مرتبطة بأطماع الصليبين القديمة بالقدس، وعملت أمريكا من خلال البابا على تدويل القدس لانتزاعها من يد المسلمين، مما يعتبر امتدادا للحروب الصليبية ولكن على شكل معركة سياسية. وقد مرّ أن معاهدة سايكس بيكو نصّت على تدويل فلسطين كلها في سياق تمزيق الخلافة وممانعة استعادتها. وبالطبع تكمن خطورة فكرة التدويل على المسلمين في أنها تفرض عليهم محاربة العالم أجمع لدى تحريرها، ‎لذلك فإن النظرة الواعية تقتضي محاربة أي فكرة للتدويل في بلاد المسلمين (التدويل للقدس أو بلد إسلامي) وهو من أفظع ما يتصوره المسلمون.

وهكذا تطور الصراع السياسي حول القضية الفلسطينية، وكان حلقة في صراع سياسي بين بريطانيا وأمريكا على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط, حيث كانت أمريكا تعمل على تصفية بريطانيا من المنطقة ووضعها تحت نفوذها، فيما حاولت بريطانيا الاحتفاظ بنفوذها، مع قبول اقتسامها بينها وبين أمريكا، إلا أن الأخيرة ظلت تصرّ على تصفية بريطانيا.

واشتد الصراع السياسي بين الطرفين واستغلّا رجالاتهما في المنطقة، ورغم إدعاءات أمريكا بمواجهة روسيا (مبدأ إيزنهاور)، إلا أنها حددت خصمها الفعلي في بريطانيا. وضمن ذلك الصراع الانجلو-أمريكي، جنّدت أمريكا في صراعها جمال عبد الناصر وحزب البعث في سوريا، والرئيس الجزائري بن بيلا، فيما جنّدت بريطانيا الملك حسين والرئيس التونسي بورقيبة وحزب الشعب والحزب الوطني في سوريا وسياسيي لبنان. وكان الصراع في الحقيقة صراع تنافس لا صراع إلغاء وجود.

وفي تلك الأجواء من الصراع على النفوذ، تكونت بذرة "الفصائل الفلسطينية"، وفي مطلع العام 1964 أصدرت الجامعة العربية قرارا بتكليف أحمد الشقيري، بوصفه ممثل فلسطين في الجامعة، إجراء اتصالات مع الفلسطينيين حول إنشاء الكيان الفلسطيني، وقدم الشقيري تقريره إلى مؤتمر القمة العربي الثاني في 5/9/1964، وتم اعتماد إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية برئاسته (صفحة أحمد الشقيري). ومن الواضح أنها كانت في سياق "مشروع الكيان الفلسطيني" الذي هو ضمن الرؤية الأمريكية، ولذلك تبنّى جمال عبد الناصر إنشاءها، ووافق الملك حسين على إنشائها "بحذر"، إذ ظل معارضا لفصل الضفة الغربية في كيان فلسطيني، وأصر على وجود دولتين هما "إسرائيل" والأردن يجمعهما نظام اتحادي. وتم عقد مؤتمر القمة العربي الثاني ذاك في أجواء التفاعل السياسي، مع تعديلات أضافتها أمريكا على مشروعها عام 1964، والمتمثلة في إقامة ثلاث دول هي "إسرائيل" وفلسطين والأردن يجمعها نظام اتحادي، ومن أجل تلك الغاية كانت قد دعت كل من الملك حسن وايشكول رئيس وزراء "إسرائيل" إلى واشنطن، وبدت في حينها بوادر موافقة بريطانيا على المشروع الأمريكي المعدل.

ولقد كان واضحا للواعين أن الغاية من إنشاء المنظمة هي فصل الضفة الغربية عن الأردن من أجل تنفيذ المشروع الأمريكي بإقامة كيان مستقل فيها، كما حذّر حزب التحرير بتاريخ 19/12/1964 من تلك الخطورة. وفي إطار تلك الصراعات: أُعلن عن انطلاق حركة فتح مطلع عام 1965، فيما كانت قياداتها تتحرك منذ الخمسينات، ورغم مشاركة 20 ممثلا عنها في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني عام 1964، احتجت حركة فتح –في حينه- على تأسيس منظمة التحرير "باعتبارها أداة للدول العربية أقيمت لاستباق صحوة الشعب الفلسطيني" (الموقع الرسمي لحركة فتح).

ومن ثم أطلق بورقيبة مشروعه عام 1965 الذي غلفه بتصريحات متشابكة وتعبيرات متداخلة، منها قوله في زيارته للقدس (من الممكن للعرب واليهود أن يتعاونوا معا على أساس من الاحترام المتبادل)، وقوله (هذه البلاد فيها المجال الكافي لكي تعيش كل الطوائف بعضها بعضا، وبالتعاون والتفاهم يتكون الأساس الحقيقي للسلم)، ومع أن البعض فهم من تصريحات بورقيبة المتداخلة رؤية لكيان فلسطيني، إلا أن حزب التحرير كشف في تعليق سياسي بتاريخ 20/3/1965 بأن مشروع بورقيبة يتلخص بأن تُبنى على أساس "التوازن الطائفي"، مما يعني "إقامة لبنان ثانية في فلسطين, تقوم على أساس توازن طائفي وتهضمها المنطقة كما هضمت لبنان"، وهو يدفع بذلك الرؤية البريطانية أمام تقدم المشروع الأمريكي، فيما تضمن مشروع بورقيبة عودة جميع اللاجئين كتعديل في تلك الرؤية (قضايا سياسية).

واستمرت الأحداث حول ذلك، وتم تجديد صياغة الحل الأمريكي –على أساس الدولتين- في نهاية الستينات تحت عنوان "مشروع روجرز". وفي سياق تلكما الرؤيتين، تم طرح تفاصيل أخرى في بعض المناسبات، منها مثلا وحدة الكيانات الثلاثة أو الاثنين (حسب الحل)، ثم مشروع بورقيبة المعدل الذي جعل الأردن جزء من فلسطين (في سياق لاحق ضمن مقال لاحق).

إن هذه المراجعة لانبثاق الرؤى الاستعمارية لحل القضية الفلسطينية تكشف عن العقلية الصليبية التي كانت طاقة كامنة خلف التحركات الغربية، وتظهر أن أطروحات الحل التي تعددت ما بين التدويل لكل فلسطين أو لمنطقة القدس، وما بين حل الدولة الواحدة وحل الدولتين كانت كلّها حلقات ضمن مسلسل متصل ومتشابك من التآمر الغربي (الذي سخّر اليهود) على المسلمين وعلى قلب بلادهم فلسطين. وأن القضية ظلت لدى أمريكا وبريطانيا قضية إقامة قاعدة ضد المسلمين تحول دون إعادة الخلافة، وتواصل بلاد المسلمين الجغرافي، وفي إطار الصراع الحضاري مع الإسلام. وهما إذ تلتقيان على ذلك، فإنما تختلفان على تفاصيل الرؤى وكيفية تسخير الكيان اليهودي لمصالحهما الرأسمالية، وهما إذ طرحتا رؤيتين مختلفتين، ظلّتا تتنافسان عليهما ،وتتقاربان حولهما أحيانا حسب مستجدات الأحداث ومناخ الأمة وحسب مستوى تقبّلها لوجود دولة اليهود، ولم تكن رؤى مبدئية لا يمكن التنازل عنها.

وأمام هذه الوقفة التاريخية للمراحل السياسية الأولى والرؤى الدولية لحل القضية الفلسطينية يتبين أن ما بات يُعرف بالمشروع الوطني والتوافق الوطني على دولة في حدود عام 1967 ما هو إلا انخراط في تنفيذ الرؤية الاستعمارية الأمريكية القديمة لحل قضية فلسطين، وإن بعض الصرخات التي تنطلق هنا وهناك بين الفينة والأخرى حول الدولة الديمقراطية الواحدة التي تجمع اليهود والفلسطينيين ما هي إلا استجابة لطرح الحل البريطاني، ثم إن التصريحات التي تصدر عن القيادات السياسية حول استجلاب قوات دولية (لحفظ الأمن) ما هي إلا سباحة في مستنقع فكرة التدويل الاستعمارية التي بلورها الاستعمار بعد الحروب الصليبية.
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مقالان حول قضيّة الدكتورة عافية صدقي يكشفان عوار الرّاسمالية العفنة eyouba مقالات الكُتّاب 1 September 30, 2010 06:37 PM


الساعة الآن 04:47 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر