فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الروايات والقصص > روايات و قصص الأعضاء

روايات و قصص الأعضاء تحميل قصص و روايات بأقلام كتاب و كاتبات مجلة الابتسامة



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #13  
قديم December 19, 2012, 09:50 PM
 
رد: خيوط النور - رواية من تأليفي

الحلقة السابعة:



بعنوان:

بأي ذنب؟؟

أنهت أسرة أحمد وجبة الغداء، بعد ذلك تعاون الجميع على تنظيف الطاولة والمطبخ.


ثم انتقلوا إلى غرفة الجلوس ينتظرون بشوق مناقشة موضوع الإعلام. وكل منهم لديه في جعبته الكثير من الاستفسارات والاستغراب والانتقادات.
افتتحت الأم جلسة النقاش، فبسملت وحمدت الله ثم بدأت تمهد للموضوع والجميع ينظر إليها باهتمام.
فتحدثت عن أهمية الإعلام في حياة الأمة والتناقض الكبير الذي يعيشه. ودوره الجوهري في بناء شخصية الفرد وقناعاته ومفاهيمه.
وبالتالي أثره على تفاصيل حياته ثم مررت الكلمة للأب لكي يفصل قليلا في هذه المسألة مستعملا أسلوبه المعتاد مع أولاده، وهو أسلوب "إياك أعني واسمعي يا جارة". فهو يعرف مفتاح كل واحد منهم ويود أن ينبههم لسموم الإعلام وكيف يتعاملون معها.
وكان يعلم أن أبناءه بما فيهم عائشة الصغيرة ذات التسع سنوات، يتابعون بنظرة متفحصة ما يجري في وسائل الإعلام.
كيف لا وقد تربوا في أحضان الفكر العميق والثقافة الواسعة؟ وتعلموا مسؤولية إعمال عقولهم منذ نعومة أظافرهم لكي يواجهوا بأمان فتن الشهوات والشبهات وابتلاءات الحياة.
واعتمد الوالدان في تربيتهم على قيم الإسلام وترسيخ رقابة الله عز وجل، وأن لا عز إلا به وأن لا خوف إلا منه. لكي يضمنا بذلك حماية أولادهم من الهلاك في غمرة البحر اللجي المتلاطم الأمواج، والريح الشديدة التي تعصف بالقشور، وتذر الإيمان أقوى وأشد قدرة على حفظ صاحبه.
بعد ذلك فتح أحمد باب النقاش وبدأ باليمين هذه المرة بعمر.
فقال مقطبا جبينه:
- صدقت يا أبي في كل كلمة، لكني أفاجأ يوما بعد يوم بالكم الهائل من رسائل الإعلام الهدامة، التي ما فتئت تعرض عبر الفضائيات وشبكة العنكبوت وعبر الإعلانات في التلفاز وفي المجلات وفي الشارع.
فينقبض قلبي وأتساءل:
ما الحل؟ ما السبيل لإنقاذ قيم الحق والفضيلة من عولمة الرذيلة التي تغزونا كل يوم وتتعدد أشكالها وتنفث سمومها في عقول الناس وقلوبهم؟
فسأله أحمد: كيف يا بني؟ أعطنا أمثلة من تلك الرسائل ليتوضح الأمر لنا أكثر، فقال عمر وهو ينظر للجميع:
- حسنا يا أبي. أخطر تلك الأساليب امتهان المرأة واحتقارها واستغلال جسمها لتمرير رسائل تهدم الأخلاق، بينما كرمها الإسلام ورفع قدرها عن أن تكون سلعة رخيصة. حتى أصبحوا يظنون أنهم لن يبيعوا عود ثقاب إلا بوضع صورة امرأة على العلبة.
وبعضها إعلانات تستخف بعقل المتلقي، مثل مساحيق الغسيل الخارقة التي تراها الدهون فتذوب مستسلمة لقدرها فهي لا تعرف المستحيل. تخضع الأوساخ أمامها للأمر الواقع. فتتشتت وتخلي الديار طوعا أو كرها، خصوصا مع المادة الفعالة التي يستحيل تماما وبتاتا أن تصمد أمامها مهما كانت متمكنة من أنسجة الملابس.
والشكولاتة السحرية التي تنقلك إلى الجزر الساحرة مع فتاة جميلة لتعيش أحلى الأحلام وتشعرك بسعادة لا متناهية...
والشيبسالذي يقف بالمرصاد للجوع وقد انتفخت أوداجه ليرديه قتيلا. ثم يرقص فرحا بالنصر عليه، ويخبرك بأنه ترك لك الطعم المثالي الذي يظل في الفم إلى ما شاء صاحب الشركة.
أما الشامبو القاضي على العنوسة،
وقاهر القشرة،
وضامن اللمعان والتألق في سماء النجوم.
فيجعل الشعر سببا لاهتمام الآخرين وجلب العرسان والثقة في النفس....
ابتسم أحمد فخورا بفهم ابنه العميق وبادره قائلا:
- معك حق يا بني تمتهن المرأة كثيرا في تلك الإعلانات والمجلات ومسابقات ملكات الجمال، أسأل الله عز وجل أن يأتي يوم لا تقبل فيه امرأة في بلاد المسلمين أن تسقط في حبائل المتاجرين بكرامتها وحيائها.
وقد أصبت كبد الحقيقة يا ابني الحبيب فأصحاب الإعلانات لا يهمهم إلا تشجيع المادية والاستهلاك، والهدف الأول والأخير هو كسب المال، بغض النظر عن جودة السلعة أو ضررها. ولو على حساب تشويه المفاهيم وتقزيم الأمنيات والإغراق في إشباع الشهوات دون اتزان. والمصيبة أن الكثيرين يتصرفون تجاهه بعقول قد غابت عنها البوصلة.
ثم التفت إلى يوسف وطلب منه أمثلة عما يرى.
فقال: ماذا أقول يا أبي؟ الشاشة تزخر ب" الفن " الرخيص والدعاية لفصل الدين عن أمور الحياة. وخالج الأسى فؤادي حين تمعنت في دور كثير من الأفلام والمسلسلات، فوجدت التي تقزم الدين وتحصره في جماعة متطرفة.

وتغير المفاهيم على أساس أن هذا هو الدين السليم. وتصور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطريقة الإسلام منها براء. فتدعو الناس ألا يتدخلوا في حريات الآخرين. ولا يقدموا لهم النصح وان كل واحد له رب يحاسبه.
وكأن الحرية هي أن يفسد المرء ويفسد من حوله، وأن تخرج الفتاة بلباس خادش للحياء، ويتمايل الشباب بأغاني الحب والهيام والاهتمامات التافهة. لنظل دائما في حفرة الجهل والهوان والضياع.
وأعجب للبرامج التي تدس السم في العسل، وتطالب بتقنين الإعلام، وهم أنفسهم أداة هادمة فيه، وصدق الله عز وجل حين قال في سورة الكهف:
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
لاحظ أحمد انفعال يوسف وغيرته لما يجري لإعلام يفترض فيه أن يبني ولا يهدم، فقاطعه بلطف قائلا:
- يا بني ستنتصر الفضيلة لا محالة إن وجدت لها رجالا مثلك يخدمونها ويعملون من أجل عولمتها فرسالة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم جاءت رحمة للعالمين. وما تعيشه المجتمعات التي عولمت وشجعت الرذيلة من تفكك وانحلال أسري وانتحار بسبب الشذوذ والانحراف عن الفطرة السليمة يجعلها في حاجة لمن ينقذها بمنهج الحكيم العليم رب العالمين الذي خلق الإنسان ويعلم الأصلح له. ولكنه تدافع الحق والباطل والله مدبر أمر خلقه. لكن من واجبنا بذل الأسباب المطلوبة لانتشال الناس من تشويه الفكر وتفاهة الاهتمام واتخاذ قدوات مصطنعة لا تمت لقيمه بصلة.
هنا استطردت نور مراقبة ردات فعل فلذات كبدها:
- معك حق يا أبا عمر، يا أبنائي العبرة بالعمل للخروج من هذا المأزق وتوفير مناخ أفضل للأجيال القادمة وهذه حرب شعواء بين الخير والشر في أرض الله. وواجبنا نشر الخير والسعي لتقزيم الشر ما استطعنا لذلك سبيلا.
فقالت مريم: نعم يا أمي صدقت، أنا لا ألوم يوسف على حرقته، ولا عمر على غيرته، لكن لابد أن نوقد شمعة بدل أن نلعن الظلام.
فأردفت فاطمة:
- نعم يا مريم. فلا يسعنا أن نقف مكتوفي الأيدي. لأجلنا أولا ثم لأجل أولادنا والأجيال القادمة. فنحن الرابحون إن أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر بشتى السبل المتاحة وكما أمر الله عز وجل كل انطلاقا من دوره وموقعه.
ويقينا سيلبي أبناؤنا بإذن الله النداء فيعم الخير الأجواء ونتنفس عبير حلمنا وهو يجوب الأرجاء. ونرضي رب السماء، فنلقاه بإذنه راض ونعيش في هناء رفقة حبيب رب السماء وما أروعه من جزاء.
فابتسمت نور قائلة: وقد غلب السجع أميرة الشعراء، فضحك الجميع.
واستمرت جلسة النقاش في جو مفعم بالحنان والمحبة ورفع المعنويات. وهذا ما يميز أسرة أحمد. خاصة أن كثيرا من الأسر - بقصد أو عن غير قصد- تتفنن في تحطيم معنويات أبنائها كأمراض فقدان المناعة الذاتية، حين تهاجم الجسم فترديه مريضا هزيلا وضعيفا. ثم تتساءل بعد ذلك عن أسباب فشلهم.
ثم انفض الجمع للقيلولة بعد أن اتفقوا على زيارة بيت جدهم بعد صلاة العصر. وعم السكون البيت وخلد الجميع إلى الراحة. لكن هذا الصمت لم يدم طويلا.
فقبل أذان العصر بلحظات، اهتز الباب حتى عاد الصدى للجدران. هب أحمد إلى الباب فزعا. وما أن فتح الباب حتى جحظت عيناه في ذهول، فقد وجد جاره سعيد لدى الباب.
فابتدره قائلا: ماذا تريد منا؟ ألم يكفك ما فعلته بتلك المسكينة.
فأجابه سعيد والشرر يتطاير من عينيه والغيظ يكاد يشق أسنانه والغدر يطل من وجهه. كالقرش حين يضمر الانتقام ممن أذاه آنفا:
- أنتم السبب في تخريب حياتي وإقناع سوسن برفع دعوى خلع. لهذا سأخلع جذوركم جميعا.
قال هذا وهو يحمل خنجرا في يده ويمسكه باحترافية، استعدادا لغرسه في صدر أحدهم.
فتصدر له أحمد بلطف محاولا تهدئته ونور وراءه، وقد اجتمع الأبناء وراءها بعد سماع صوته المألوف لديهم.
وبعد هنيهة حاول عمر الخروج إليه، لكن نور أمسكت بذراعه، وأمرته أن يتراجع.
فصرخ سعيد في وجوههم وسب الدين ولعن أمهم وانطلق لسانه بفحش الكلام والشتم.
فاندفع أحمد نحوه ولكزه ثم سدد إليه ضربة لعله يفقد توازنه، فيسقط الخنجر من يده. ولكن للأسف خاب ظن أحمد وسبق القدر السبب.
وفجأة وعلى حين غرة، سدد إليه طعنة قاتلة في صدره، وقع على إثرها غارقا في دمائه، وفر هاربا والخنجر يقطر غدرا.
صرخت نور بقلب مكلوم وعيناها تتفقد وجه أحمد ويداها تتفقد نبضه:
- أحمد أحمد... يا رب احفظه ياااااااا رب.
وسارع عمر إلى الهاتف كي يطلب الإسعاف.
بينما التف الجميع حول أبيهم ودموعهم تنهمر حزنا على أبيهم الطيب. وحناجرهم تعلو بالدعاء الخاشع لله ألا يفارق أبوهم الحياة. أبوهم الذي ضحى بنفسه لأجل حماية عائلته. أما عائشة الصغيرة فقد انخرطت في بكاء حار يتفطر له الفؤاد. وعثمان يلثم وجه أبيه ويقول: لا تمت يا أبي، إننا في حاجة إليك.
أما يوسف فقد شل تفكيره تماما في بداية الأمر لحبه الشديد لأبيه. لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه ورفع كفيه متضرعا إلى الله عز وجل لعل الله يرفع عنهم المصيبة التي نزلت بهم.
كفكفت فاطمة دموعها وهي تدعو الله تضرعا وخفية وسارعت لإسعاف والدها وإيقاف النزيف بمساعدة إخوتها، لكن الجرح كان بليغا وغائرا.
وما لبثت أن وصلت سيارة الإسعاف فنقلت أحمد بسرعة إلى مستشفى خاص ومعه نور وعمر وفاطمة. وظلت مريم في البيت تهدئ الجو رغم توترها الداخلي مستعينة بذكر الله وطلب العون منه، كيف لا والله سبحانه يقول في محكم التنزيل:
الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) سورة الرعد.
الصدمة كانت قوية جدا على كل الأسرة، خاصة أنها كانت مفاجئة. لكنها أسرة مؤمنة بقدر الله تعلم أن الدنيا دار بلاء.
نقل أحمد إلى المستشفى وأدخل بعد معاينة حالته إلى العناية الفائقة.
شرح الطبيب الوضع لفاطمة، فأخبرت والدتها وعمر أن الحالة حرجة جدا وأن الرجاء في الله وحده. فجلسوا جميعا ينتظرون فرج الله. ثم أوصت نور عمر بملازمة باب مصلحة الإنعاش ريثما تذهب هي وفاطمة لمسجد المستشفى حتى تصليا ركعتين تتضرعان فيهما إلى الله أن ينقذ أحمد. وكانت قلوب الجميع تخفق خوف كارثة تحوم في الأفق
يتبع بعون الله.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم December 19, 2012, 09:54 PM
 
رد: خيوط النور - رواية من تأليفي

الحلقة الثامنة:

بعنوان

طيف الذكريات

عادت نور وفاطمة وقد ملأت قلبيهما الطمأنينة والأمل بعد صلاة خاشعة ودعاء من قلب مضطر، وكيف لا تغمرهما السكينة وقد قال تعالى:أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)

سورة النمل.

ذهب عمر بدوره إلى المسجد للاستعانة بالصبر والصلاة، بينما جلست نور وفاطمة ترتقبان أخبار الغالي على قلبيهما أحمد.

توالت طيور الذكريات أمام ناظري نور، وكأنها رحلت من أوكار الزمن لتحلق من جديد في مخيلتها، فتنثر حبات السلوى على فؤادها، وتشعرها بأن الرحيل قدر مؤقت، وأن رحلة الخلود تبدد كل الأحزان بجوار العلي الودود، فتنهدت بعمق وكأنها تستنشق نسيم الجنة التي تتوق إليها، وتسأل الله أن يجمعها فيها بأسرتها وأهلها. وبدأت الطيور تتراءى تباعا، فهذا طير أول لقاء للرؤية الشرعية، حين سلك أحمد دائرة طويلة ليخبرها بأنه يود الزواج بها. فأخبر صديقه المقرب الذي بدوره أخبر أخته، التي طلبت من زميلتها أن تخبر نور بحكم قربها منها. ابتسمت نور لهذا الطيف من الذكرى وتوردت وجنتاها حياء وكأنها تعيش الحدث لتوها بعد ثلاثة وعشرين عاما من الحياة الطيبة في كنف الله.

تذكرت يوم الخطبة، ونظرات أحمد التي كانت تلمع فرحا بقدومها، فتعثرت وأسقطت طبق الحلوى من شدة الارتباك والحياء. تذكرت ابتسامة حماتها الحانية حين أخذت بيدها وأجلستها بجوارها لتدارك الموقف. تذكرت كل ذلك وكأنه حدث بالأمس القريب.

أما طائر العرس فحلق بها على مشارف حياتها الجديدة التي بدأتها بعرس يرضي الله ورسوله، كانت سمته الأبرز البساطة في كل شيء، راضية قانعة وموقنة أن السعادة في القلوب، وليست في البذخ والتبذير. ابتسمت نور فرحا بتلك الأيام التي كانت أول أيام سعادتها الزوجية...

تذكرت استشعارها وزوجها الحبيب أحمد لمعاني المودة والألفة والرحمة في الآية الكريمة:

وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) سورة الروم

خاصة أنهما ومنذ الأيام الأولى للخطبة، قررا أن يكاشفا بعضهما بالعيوب قبل المزايا حتى يكملا بعضهما ويبنيا حياتهما على صدق المشاعر والصراحة والوضوح والثقة المتبادلة، وذلك لبناء أسرة سوية المنشأ قوية العقيدة متينة الترابط، وأن يجعلا من بيتهما جنة غناء يغمر قلبيهما فيها الحب والوئام والمودة والعشرة الطيبة. والأهم التسابق فيها إلى رضا الله عز وجل والمنافسة في حبه. فتسدل ظلالها الوارفة عليهما لتظلهما وذريتهما، وتقيهم لهب الفتن، وتمتد بهما بإذن الله تعالى إلى جنة عالية قطوفها دانية لا نصب فيها ولا وصب...

ومر طير أول فرحة حين حملت بعمر، فكان أحمد يصر على إطعامها التمر بيده، بعد أن علم أهمية ذلك للمرأة الحامل من أمر الله عز وجل لمريم عليها السلام أن تهز جذع النخلة لتسقط الرطب حين ولدت نبي الله عيسى عليه السلام. وكان يوصيها بالإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن الكريم. فولد عمر حليما لطيف المعشر، وحفظ القرآن بسهولة ويسر بفضل الله في سن مبكرة.

وها هو طير الخلافات العابرة بينهما، حين كانا يتسابقان إلى الاعتذار لينالا ثواب البدء بالصلح. والإحساس الرائع بقيام الليل الذي يؤلف بين قلبيهما ويسقيهما بالمودةوالحب كالوادي الجاري الذي يذهب بالزبد ويبقي حب الله صافيا نقيا يوحد مسارهما، ويرسل نوره على بصيرتهما، فتتنحى أشواك الابتلاء وتنبت أزهار الأجر والثواب، تتطلع برأسها مؤذنة بموعد قطافها.

مر السرب الضيف على ذاكرة نور فاستسلمت لخيالها، أما عمر فقد كان يقرأ القرآن في ركن من غرفة الانتظار، وقد بدأت الآيات تفك أسر دموعه، لتنهال محررة أوجاعه وأحزانه. أما فاطمة فقد وجدت في الذكر والاستغفار والدعاء ضالتها.

لم تتنبه نور إلا إلى صوت حماتها، التي يبدو أنها اتصلت ببيت أحمد فأخبرها الأولاد بمصابهم في أبيهم، فجاءت متلهفة إلى المستشفى وقلبها ضارع إلى الله أن ينقذ ابنها من الموت.

حضنتها نور بحرارة وقبلت يديها، حتى تخفف من نظرة عتاب كانت في عينيها. لكون نور آثرت عدم إخبارها نظرا لحالتها الصحية التي لا تحتمل نبأ سيئا مثل خبر طعن أحمد. لكن قلب الأم دلها فجعلها تتصل لتسأل عن فلذة كبدها.

كادت أم أحمد أن تفقد جلدها وصبرها وبدأت الدموع تنهمر على وجنتيها ونور تبذل جهدا مضاعفا لتبقى متماسكة وتهدئ من روعها.

وفي هذه اللحظات، خرج الطبيب من غرفة العمليات الطارئة وهو يجفف عرقه الغزير، فانطلق صوبه الجميع مستفسرين وابتدرته فاطمة قائلة :

- خيرا يا دكتور؟

أجابهم بعد تنهيدة قوية:
- الحمد لله .. فالطعنة كانت أسفل الضلع الأيسر والأخير مباشرة مما أدى إلى تمزق الطحال. وهذا ما سبب النزيف الكبير الذي جعلنا نقوم بنقل الكثير من الدم له، كما اضطررنا لاستئصال هذا الطحال بشكل كامل إنقاذا لحياته.
بإذن الله سيسترد عافيته تماما ويعود أفضل مما كان.. ومن حسن قدره أن الطعنة لو ارتفعت قليلا لأصابت القلب مباشرة.. فالحمد لله على كل حال.

تنفس الجميع الصعداء، وكأن صخرة أفسحت الطريق للهواء، بعد طول كتم للمشاعر، والأنفاس، فسجدوا شكرا لله على هذه البشرى، وابتهج قلبا الأم والزوجة وأرسلت عيونهما الدموع وكأنها تفترشها للفرح المحرر، وتحركت شفاههما بالحمد والشكر لله اللطيف العليم، وتهللت الأسارير وانطلقت الضحكات، وعادت الحياة للغرفة ورحلت خيام الحزن بعد اقتلاع أوتادها،وسكن الأمل والسرور محلها.

فما أروع حسن الظن بالله، فمنعه عطاء، وفضله ابتلاء، وحبه للعباد يظهر بجلاء، فما أشد ظلمة الوجود بدونه، وما أحلك الأفئدة لولا نور الإيمان، وما أتعس البشرية لولا الأمل في ربهم سبحانه.

يتبع بعون الله
رد مع اقتباس
  #15  
قديم December 19, 2012, 10:06 PM
 
رد: خيوط النور - رواية من تأليفي

الحلقة التاسعة بعنوان:


الصدمة


فرح الجميع بخبر نجاح عملية الأب والزوج الحنون، ودبت الحيوية من جديد في شرايين الأسرة، بعد أن احتقنت فيها دماء الحزن. وعاد الجميع إلى حياته الطبيعية نسبيا، بعد أن اطمأنت القلوب وهدأت الجوارح.

وفي صباح اليوم التالي، ذهبت مريم كعادتها إلى المدرسة بجد، مسرعة الخطى، تغض من بصرها وتقصد في مشيها.

وحين وصولها، وجدت صديقتها ريم على باب المدرسة، تجلس في ركن ووجهها ينطق حزنا، فذهبت إليها مسرعة وألقت التحية:

- السلام عليكم ورحمة الله وبركاتهيا صديقتي ريم الجميلة.

ردت عليها ريم باقتضاب: وعليكم السلام يا مريم.

أثار ردها قلقها لأن من عادتها المرح، فبادرتها مستفهمة: كيف حالك يا ريم؟ إن شاء الله بخير.

ريم بوجه شاحب وعينين ذابلتين: الحمد لله على كل حال.

مريم بتمعن: ما بك يا ريم؟ هل هناك شيء يزعجك؟

تنهدت ريم تنهيدة عميقة وقالت: ماذا أقول لك يا مريم، كدت أضيع البارحة لولا لطف الله.

مريم بقلق وتوجس: خيرا؟ أقلقتني، ماذا جرى؟

فقالت ريم بصوت مرتعش، وأسنان تقضم الأظافر:

- أرسلتني أمي أمس لشراء بعض المواد الغذائية... لكن ما أن شارفت على الوصول إلى دكان العم سليم البقال، حتى فاجأني شاب كالثور الهائج، اقترب مني بسرعة وبدأ يتحرش بي.

حاولت أن أصرخ لكنه نهرني وهددني ثم امسك بذراعي وطلب مني الذهاب معه، فرفضت لكنه جرني بقوة، فصرخت وناديت العم سليم لعله يسمعني لكن دون جدوى. فتملكني الفزع من هول ما يمكن أن أتعرض له، فازدادت مقاومتي له...

ومن حسن الحظ، أن أخاك يوسف وبعض رفاقه مروا حينها من الزقاق. فلما سمعوا صراخي هجموا على الشاب فأشهر في وجوههم سكينا، وبدأ يلوح به بيد ويمسك ذراعي بالأخرى، وأنا أصرخ من الألم، ألم القبضة وألم الخوف الذي يعتري قلبي.

فأمسك شاب منهم يده ببراعة وتمكن من انتزاع السكين من يده بعد جهد جهيد. ثم رافقني أخوك وأحد أصدقائه إلى البيت وانصرفوا بعد أن اطمأنوا أني في أمان.

فيم بقي الآخرون مع الشاب ولا أعلم بماذا انتهى الأمر.

وجمت مريم لهول ما سمعت وارتعدت فرائصها، وكأنها هي التي عاشت الموقف، ثم قالت بنبرة حزينة يشوبها غضب عارم:

- لا حول ولا قوة إلا بالله، والله يا ريم لا أجد كلمات أصف بها مدى حزني وخوفي من هذه الظاهرة. فقد أصبحت تهددنا جميعا... شباب ضائع وجائع وبنات عرضة للخطر.

قاطعتها ريم بصوت خنقته العبرات:

- وما الحل؟ ألا تقولون أن الإسلام هو الحل؟

ثم جلست القرفصاء ووضعت يدها على خدها كالتائه في فلاة.

فأمسكت مريم يدها برفق وقالت:

- سامحيني أختي الغالية ريم على هذه الكلمات، لكننا تعودنا أنا وأنت على الصراحة... ألا أقول لك دائما إن الزي الشرعي الذي أمرنا الله به، إنما هو لحفظنا من الأعين الخائنة والنفوس المريضة؟ وأنت يا أختي لباسك ليست له ملامح يكشف أكثر مما يستر.

فماذا تتوقعين من شباب يتصفحون ليل نهار المواقع الساقطة والقنوات الهابطة وأفلام الرذيلة التي أعلنت حربها على العفة والحياء والفضيلة ؟؟؟ أمثال هؤلاء يا أختي وقعوا فريسة للشيطان ولم تعد لديهم غيرة لا على عرض ولا على أرض.

خفضت ريم رأسها في شرود وقالت:

- هذا ليس مبررا، ألا يغتصبون الأطفال؟ أي عري في الأطفال؟ هذا هراء. أنا الآن يلزمني حل سريع وفعال يا مريم، لا مجال للتأنيب الآن. ماذا أفعل لأتجنب الرعب الذي عشته البارحة، أجيبيني ؟ وانفجرت باكية. والتلاميذ - الواقفون غير بعيد - يلتفتون إليها ويتساءلون عما يحدث.

نظرت إليها مريم وقد امتلأت عيناها بالدموع وقالت:

- لست وحدك من تعرضت لهذا، ولكن هناك فعلا حلول تحول بينك وبينه.

فنظرت إليها ريم في استغراب ثم قامت فحضنتها وقالت:

- والله لم أقصد أن أسبب لك أي ألم. وتعلمين أنك أفضل صديقة لي وأقربهن إلى قلبي، لكني فعلا ما زلت تحت وقع صدمة حادث البارحة، وقلبي يرتجف وجوارحي ترتعش ويغشى الخوف كياني من مصيري بعد اليوم. لم أكن أنوي المجيء اليوم إلى المدرسة مخافة أن يعترض سبيلي ذلك الوحش ثانية انتقاما مني. أو أن أتعرض لموقف آخر، وهذا ما لا أطيق فأعصابي لم تعد تحتمل.

كفكفت مريم دموعها قائلة:

- سأبوح لك بسر لا يعلمه إلا الله ثم أبي وأمي، لأنه علمني الكثير وأرشدتني أمي إلى الحلول الناجعة لمثل هذه المشاكل بفضل الله تعالى.

لهذا ترين أني دائما مطمئنة في الطريق وفي المدرسة، وهذا فضل من الله ونعمة.

فأجابتها ريم بشوق ولهفة: وما هو يا مريم؟

أسندت مريم يدها إلى الجدار القريب منها وشردت بعينيها بعيدا، وكأنها تستدعي حادثا قديما من ذاكرة الزمن. وقالت وقد حضرت الذكرى فجلبت معها ألمها ومرارتها:

- حين كنت طفلة في السابعة من عمري، أرسلتني أمي يوما إلى بيت جارتنا، لأقدم طبق حلوى لزوجها في العيد، كونها كانت مسافرة وهو وحيد بالبيت.

طرقت الباب، فلما خرج، طلب مني الدخول مرحبا بي وقال أني أذكره بابنته.

وكانت أمي قد نبهتني أن أعطيه الطبق عند الباب ثم أعود.

لكني خجلت من رفض طلبه، خصوصا وأنه قال لي أني مثل ابنته، وطلب مني أن أشاركه طبق الحلوى لأنه وحيد في العيد، فدخلت بعد تردد. وفجأة بدأ يخلع ملابسه، فقلت في نفسي ربما لأن الجو حار، لكني فوجئت به بعد لحظات يتقدم نحوي.... فذهلت لهول المنظر وصرخت بأعلى صوتي وجريت مسرعة نحو الباب لكنه تبعني، صرخت بكل ما أوتيت من قوة.

ومن لطف الله، أن العمارة التي نقطنها جدرانها ناقلة للصوت، وبما أن شقته مجاورة لشقتنا، سمعتني أمي، خصوصا أني تأخرت قليلا. فجاءت مهرولة، تطرق الباب بقوة وقد خرج الجيران من بيوتهم، حينها فقط اضطر لفتح الباب، فخرجت واحتميت بأمي.

بينما هو لم ينطق بكلمة، وقد بدا عليه الارتباك والخزي. وما كان من أمي إلا أن قالت له:

- اتق الله، حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى الأطفال لم يسلموا من مرضى النفوس، وانصرفنا إلى البيت.

ثم خفضت مريم رأسها، وأجهشت بالبكاء كالطفل التائه عن أمه واسترسلت:

- كانت تجربة مريرة على طفلة صغيرة مثلي حينها ولولا الله الذي لطف بلطفه، لا أعلم ماذا كان سيكون مصيري.

وبعد هذا الحادث الأليم، علمتني أمي كيف أتجنب مثل هذه المواقف، وكذا أبي الذي قام بالكثير بعد هذا الحادث. فقد اعتبره صفارة إنذار له لتقصيره في توعية الجيران وأهل الحي، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة.

أردفت ريم مستفسرة:

- وما هي إرشادات أمك لك؟ وماذا فعل أبوك؟

يتبع بعون الله.
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حيآكة النور من خيوط الضوء ملووووكة المواضيع العامه 0 August 2, 2011 02:40 AM
رواية خيوط الماضي,تحميل رواية خيوط من الماضي ألاء ياقوت كتب الادب العربي و الغربي 0 November 2, 2010 07:42 PM
رواية ظلم ذوي القربى - رواية حقيقية من تأليفي أبومحمد الفارس روايات و قصص منشورة ومنقولة 1 September 15, 2009 03:38 PM


الساعة الآن 09:15 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر