فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الموسوعة الإسلامية > سيرة و قصص الانبياء و الصحابة

سيرة و قصص الانبياء و الصحابة سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم , سيرة الصحابة , السيرة النبوية , حياة الرسل



 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم July 26, 2012, 07:03 AM
 
Present مشاهد من قصة يوسف عليه السلام

مقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد :
فإن من أعظم النِعم على العبد أن هداه الله سبحانه وتعالى للإسلام وأن وفقه لإتباع سنة خير الأنام محمد r وإنَّ مما يزيد الإيمان ويثبت الفؤاد التدبر والتأمل في القصص التي ذكرها عز وجل في كتابه العظيم قال سبحانه وتعالى [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] {الأنفال:2} وقال سبحانه وتعالى: [وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ] {هود:120}. ومن أحسن القصص في موضوعها قصة يوسف عليه السلام، قال سبحانه وتعالى: [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآَنَ] {يوسف:3} ومن هذا المنطلق جمعتُ هذه الورقات وسميتها مجتهداً: (مشاهد من قصة يوسف عليه السلام).
نسأل الله العلي القدير أن يخلص لنا أقوالنا وأعمالنا وأن يتقبل منَّا وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين([1])([2]).
كتبه الفقير إلى عفو ربه القدير
أبو خلاد ناصر بن سعيد بن سيف السيف
مشاهد من قصة يوسف عليه السلام
المشهد الأول :
ذهب يوسف الصبي الصغير لأبيه، وحكى له عن رؤيا رآها وأخبره بأنه رأىفي المنام أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين له واستمع الأب إلى رؤيا ابنه وحذَّرهأن يحكيها لأخوته. فلقد أدرك يعقوب عليه السلام بحسه وبصيرته أن ابنه انشغل بهذه الرؤيا وأن وراءها مستقبلاً مشرقاً وشأناً عظيماً خشية أن يكيدوا له ويحسدوه لأن الشيطان للإنسان عدوٌ مبين.

المشهد الثاني:
اجتمع أخوة يوسف ليتحدثوا في أمره [إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] {يوسف:8} أي نحن مجموعة قوية تدفع وتنفع، فأبونا مخطئ في تفضيل هذين الصبيين على مجموعة من الرجال النافعين! فاقترح أحدهم حلاً للموضوع: [اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا] {يوسف:9}. إنه تدخل الشيطانالذي ضخم حب أبيهم ليوسف وإيثاره عليهم حتى جعله يوازي القتل. أكبر جرائم الأرضقاطبة بعدالشرك بالله. وطرحه في أرض بعيدة نائية مرادف للقتل، لأنه سيموت هناك لامحالة. ولماذا هذا كله؟! حتى لا يراه أبوه فينساه فيوجه حبه كله لهم. ومن ثم يتوبونعن جريمتهم [وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ] {يوسف:9} فقال قائل منه: ما الداعيلقتله؟ إن كنتم تريدون الخلاص منه، فلنلقه في بئر تمر عليها القوافل.. ستلتقطهقافلة وترحل به بعيداً.. سيختفي عن وجه أبيه.. ويتحقق غرضنا منإبعاده([3]).
المشهد الثالث:
توجه الأبناء لأبيهم يطلبون منه السماح ليوسفبمرافقتهم. دار الحوار بينهم وبين أبيهم بعتاب خفي، وإثارة للمشاعر.. [مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ] {يوسف:11}..؟ أيمكن أن يكون يوسف أخانا، وأنت تخاف عليهمن بيننا ولا تستأمننا عليه، ونحن نحبه وننصح له ونرعاه؟ لماذا لا ترسله معنا يرتعويلعب؟ورداً على العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب عليه السلام ينفي -بطريقة غير مباشرة- أنه لا يأمنهم عليه، ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقهوخوفه عليه من الذئاب: [قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ] {يوسف:13}. ففندوا فكرة الذئبالذي يخاف أبوه أن يأكله.. نحن عشرة من الرجال.. فهل نغفل عنه ونحن كثرة؟ نكونخاسرين غير أهل للرجولة لو وقع ذلك.. لن يأكله الذئب ولا داعي للخوفعليه. وافق الأب تحت ضغط أبنائه.. ليتحقق قدر الله وتتم القصة كما تقتضيمشيئته!!

المشهد الرابع:
خرج الأخوة ومعهم يوسف، وأخذوه للصحراء واختاروا بئراً لا ينقطع عنها مرور القوافل وحملوه وهموا بإلقائه في البئر.. وأوحىالله إلى يوسف أنه ناج فلا يخاف.. وأنه سيلقاهم بعد يومهم هذا وينبؤهم بمافعلوه.
المشهد الخامس:
عند العشاء جاء الأبناء باكين ليحكوا لأبيهمقصة الذئب المزعومة. أخبروه بأنهم ذهبوا يستبقون، فجاء ذئب على غفلة، وأكل يوسف وكان التقاطهم لحكاية الذئب دليلاً على التسرع، وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس، وهم ينفونها. فلم يكن من المستساغ أنيذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذَّرهم أبوهم منه أمس! وبمثل هذا التسرعجاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان ونسوا في انفعالهم أن يمزقوا قميصيوسف.. جاءوا بالقميص كما هو سليماً، ولكن ملطخاً بالدم.. وانتهى كلامهم بدليل قويعلى كذبهم حين قالوا: [وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ] {يوسف:17} أيوما أنت بمطمئن لما نقوله، ولو كان هو الصدق، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقوله وهذا دليل على أنهم يضمرون في أنفسهم شيئاً عظيماً وقد أدرك يعقوب من دلائل الحال ومن نداء قلبه ومن الأكذوبة الواضحة، أن يوسف لميأكله الذئب، وأنهم دبروا له مكيدة ما، وأنهم يلفقون له قصة لم تقع، فواجههم أنه سيصبر متحملاً ومتجملاً لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو، مستعيناً بالله على ما يلفِّقونه من حيل وأكاذيب وهو يعلم ذلك ولم يتكلم بشيء يجرح مشاعرهم ولم يعاقبهم ولكن قال: [بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ] {يوسف:18}.
المشهد السادس :
أثناء وجود يوسف بالبئر، مرت عليه قافلةفي طريقها إلى مصر.. قافلة كبيرة.. سارت طويلاً حتى سميت سيَّارة.. توقفوا للتزودبالماء.. وأرسلوا أحدهم للبئر فأدلى الدلو فيه.. تعلَّق يوسف به.. ظن من دلاَّه أنهامتلأ بالماء فسحبه.. ففرح بما رأى.. رأى غلاماً متعلقاً بالدلو.. فسرى على يوسف حكمالأشياء المفقودة التي يلتقطها أحد.. يصير عبداً لمن التقطه.. هكذا كان قانون ذلكالزمان البعيد. فرح به من وجده في البداية، ثم زهد فيه حين فكر في همهومسئوليته، وزهد فيه لأنه وجده صبياً صغيراً.. وعزم على التخلص منه لدى وصوله إلىمصر.. ولم يكد يصل إلى مصر حتى باعه في سوق الرقيق بثمن زهيد، دراهم معدودة. ومنهناك اشتراه رجل تبدو عليه الأهمية. ثم يكشف الله تعالى عن مضمون القصة [وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف:21}.
المشهد السابع :
وها هو ذا يلقيمحبته على صاحبه الذي اشتراه.. وها هو ذا السيد يقول لزوجته أكرمي مثواه عسى أنينفعنا أو نتخذه ولدا. وليس هذا السيد رجلاً هين الشأن([4]).. فإنما هو رجل مهم.. رجل منالطبقة الحاكمة في مصر.. إنه وزير من وزراء الملك سماهالقرآن (العزيز)، وهكذا مكَّن الله ليوسف في الأرض.. ويتربى كصبي في بيت رجل يحكم. وسيعلمه الله من تأويل الأحاديث والرؤى.. وسيحتاج إليه الملك في مصر يوماً.. [وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] تم هذا كله من خلال فتنة قاسية تعرض لها يوسف؛ فإخوته يخططون على شيء والذي يقع شيء آخر. ثم يبين لنا المولى عز وجلكرمه على يوسف وبداية التمكين له فيقول: [وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ] {يوسف:22}.
المشهد الثامن:
تبدأ فتنة يوسف الثانية، يذكر الله سبحانه وتعالى هذه الفتنة في كتابه الكريم: [وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ] {يوسف:23-24} قالت امرأة العزيز لن تفر مني هذه المرة، وأغلقت الأبواب ومزقت أقنعةالحياء وصرحت بحبها وطالبته بنفسه.. ويقف هذا النبي الكريم في وجه سيدته قائلاً: [قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] {يوسف:23} أعيذ نفسي بالله أن أفعل هذا مع زوجة من أكرمني بأن نجاني من الجُب وجعل في هذهالدار مثواي الطيب الآمن. ولا يفلح الظالمون الذين يتجاوزون حدود الله، فيرتكبون ماتدعينني اللحظة إليهثم [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] {يوسف:24} اتفق المفسرون حول همها بالمعصية، واختلفوا حول همِّه والصحيح أن المراد بهمِّه خطرات حديث النفس حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق ثم أورد البغوي ههنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: (يقول الله تعالى : إذا همَّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها وإن همَّ بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإنما تركها من جرَّائي فإن عملها فاكتبوها بمثلها) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله ألفاظ كثيرة هذا منها. ويبدو أن يوسف عليه السلام آثر الانصراف متجهاً إلى الباب فاراً من موطن التهمة لأن فراره يقتضي تجنب أسباب الفتنة ولكن امرأة العزيز لحقت به لتمسكه، تدفعها الشهوة لذلك. فأمسكتقميصه من الخلف، فتمزق في يدها. وهنا تقطع المفاجأة. فتح الباب زوجها العزيز.
وهناتتبدى المرأة المكتملة، فتجد الجواب حاضراً على السؤال البديهي الذي يطرح الموقف. فتقول متهمة الفتى: [قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {يوسف:25} واقترحت هذه المرأة و بيَّنتللعزيز أن أفضل عقاب له هو السجن. بعد هذا الاتهام الباطل والحكم السريع جهر يوسفبالحقيقة ليدافع عن نفسه: [قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي] {يوسف:26} تجاوزالسياق القرآني رد الزوج، لكنه بيَّن كيفية تبرأة يوسف من هذه التهمةالباطلة [وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ(26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ(27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ]. {يوسف: 26-28}. ولا نعلم إن كان هذا الشاهد مرافقاً للزوج منذ البداية، أم أن العزيزاستدعاه بعد الحادثة ليأخذ برأيه... وهو لا يغير من الأمر شيئاً ومايذكره القرآن أن الشاهد أمرهم بالنظر للقميص، فإن كان ممزقاً من الأمام فذلك من أثرمدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها فهي صادقة وهو كاذب وإن كان قميصه ممزقاً منالخلف فهو إذن من أثر تملصه منها وتعقبها هي له حتى الباب، فهي كاذبة وهو صادق [فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ] {يوسف:28} فتأكد الزوج من خيانة زوجته عندمارأى قميص يوسف ممزق من الخلف ونسبما فعلته إلى كيد النساء عموماً وصرح بأن كيد النساء عظيم وبعدهاالتفت الزوج إلى يوسف قائلاً له: [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا] {يوسف:29} وأهمل هذا الموضوع.. ثم يوجه عظةمختصرة للمرأة التي ضبطت متلبسة بمراودة فتاها عن نفسها وتمزيق قميصه [وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئِينَ] {يوسف:29}.
المشهد التاسع:
بدأ الموضوع ينتشر.. [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِينَةِ امْرَأَةُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] {يوسف:30} وانتقل الخبر من فم إلى فم.. ومن بيت إلى بيت.. حتى وصل لامرأةالعزيز.. [فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ] {يوسف:31-32} عندماسمعت امرأة العزيز بما تتناقله نساء المدينة، قررت أن تعد مأدبة كبيرةفي القصر. وأعدت الوسائد حتى يتكئ عليها المدعوات. واختارت ألوان الطعام والشرابوأمرت أن توضع السكاكين إلى جوار الطعام المقدم ووجهت الدعوة لكل من تحدثتعنها. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف: [وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ] {يوسف:31} بهتنلطلعته، ودهشن [وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ] {يوسف:31} وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشةالمفاجئة. [وَقُلْنَ حَاشَ لله] {يوسف:31} وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيراً عنالدهشة بصنع الله.. [مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ] {يوسف:31} ورأتالمرأة أنها انتصرت على نساء المدينة، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجابوالذهول. فقالت قولة المرأة المنتصرة، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها، والتي تفتخر عليهن بأن هذا متناول يدها؛ وإن كان قد استعصم في المرةالأولى فهي ستحاول المرة تلو الأخرى لقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه لكنه استعصم، وإن لم يطعني سآمربسجنه لأذلَّه واندفع النسوة كلهم إليه يراودنه عن نفسه.. كل منهن أرادتهلنفسها.. ويدلنا على ذلك أمران. الدليل الأول: هو قول يوسف [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ] {يوسف:33} فلم يقل (ما تدعونيإليه).. والأمر الآخر : هو سؤال الملك لهن فيما بعد [قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ] {يوسف:51} أمام هذه الدعوات سواء كانت بالقولأم بالحركات واللفتات استنجد يوسف بربه ليصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن،خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه. دعى يوسفدعاء العبد العارف ببشريته، الذي لا يغتر بعصمته؛ فيريد مزيداً من عناية الله وحياطته، ويعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء. [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ] {يوسف:33} واستجاب له ربه وصرف عنه كيد النسوة([5]).
المشهد العاشر :
دخل يوسف السجن ثابتالقلب هادئ الأعصاب أقرب إلى الفرح لأنه نجا من إلحاح زوجة العزيز ورفيقاتها،كان السجن بالنسبة إليه مكاناً هادئاً يخلو فيه ولكن الواضح أن يوسف عليه السلامانتهز فرصة وجوده في السجن، ليقوم بالدعوة إلى الله عز وجل مما جعل السجناء يتوسمون فيه الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوكوانتهز يوسف عليه السلام هذه الفرصة ليحدث الناس عن رحمة الخالق وعظمته، وكان يقيم عليهم الحجة بتساؤلاته الهادئة وحواره الذكي وصفاء ذهنه، ونقاءدعوته.
المشهد الحادي عشر :
قَدِمَ على يوسف عليه السلام وهو في السجن.. سجينان يسألانه تفسير رؤياهما، بعد أن توسما في وجهه الخير. إن أول ما قام به يوسف عليه السلام هو طمأنتهما أنه سيؤوللهم الرؤى، لأن ربه علمه علماً خاصاً، جزاء على تجرده هو وآباؤه من قبله لعبادتهوحده، وتخلصه من عبادة الشركاء.. وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته علىتأويل رؤياهما. ثم بدأ بدعوتهما إلى التوحيد، وتبيانما هما عليه من الظلال وقام بكل هذا برفق ولطف ليدخل إلى النفوس بلامقاومة. بعد ذلك فسَّر لهما الرؤى وبيَّن لهما أن أحدها سيصلب، والآخر سينجو،وسيعمل في قصر الملك ولكنه لم يحدد من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيئتلطفاً وتحرجاً من المواجهة بالشر والسوء وأوصى يوسف من سينجو منهما أن يذكر حاله عند الملك ولكن الرجل لم ينفذالوصية... فلبث في السجن بضع سنين.
المشهد الثاني عشر :
فيقصر الحكم.. وفي مجلس الملك... يحكي الملك لحاشيته رؤياه طالباً منهم تفسيراً له [وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ] {يوسف:43} لكن المستشارينوالكهنة لم يقوموا بالتفسير وربما لأنهم لم يعرفوا تفسيرها، أو أنهم أحسوا أنهارؤيا سوء فخشوا أن يفسروها للملك، وأرادوا أن يأتي التفسير من خارج الحاشية التيتعودت على قول كل ما يسر الملك فقط وعللوا عدم التفسير بأن قالوا للملك أنها أجزاءمن أحلام مختلطة ببعضها البعض، ليست رؤيا كاملة يمكن تأويلها ووصل الخبر إلى الساقي الذي نجا من السجن وتداعت أفكاره وذكر رؤية الملك برؤيته التي رآه في السجن، وأسرع إلى الملك وحدثه عن يوسف. قال له: إن يوسف هو الوحيد الذي يستطيع تفسير رؤياك. وأرسل الملك ساقيه إلى السجن ليسأل يوسف وجاء الوقت واحتاج الملك إلىرأي يوسف.. [وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف:21}. سُئِلَ يوسف عن تفسير رؤيا الملك.. فلم يشترط خروجه من السجن مقابلتفسيره. لم يساوم ولم يتردد ولم يقل شيئاً غير تفسير الرؤيا... ولم يقميوسف عليه السلام بالتفسير المباشر المجرد للرؤيا. وإنما قدم مع التفسير النصحوطريقة مواجهة المصاعب التي ستمر بها مصر. أفهم يوسف رسول الملك أن مصر ستمر عليهاسبع سنوات مخصبة تجود فيها الأرض بالغلات. وعلى المصريين ألا يسرفوا في هذه السنواتالسبع. لأن وراءها سبع سنوات مجدبة ستأكل ما يخزنه المصريون، بهذا انتهت رؤيا الملك.. عاد الساقي إلى الملك. أخبره بما قال يوسف، دهش الملك دهشة شديدةمن هذا السجين..؟ إنه يتنبأ لهم بما سيقع، ويوجههم لعلاجه.. دون أن ينتظر أجراً أوجزاءً. أو يشترط خروجاً أو مكافأة. فأصدر الملك أمره بإخراج يوسف من السجن وإحضارهفوراً إليه. ذهب رسول الملك إلى السجن. ولا نعرف إن كان هو الساقي الذي جاءه أولمرة. أم أنه شخصية رفيعة مكلفة بهذه الشؤون. ذهب إليه في سجنه. رجا منه أن يخرجللقاء الملك.. فهو يطلبه على عجل. رفض يوسف أن يخرج من السجن إلا إذا ثبتت براءته. سأل الملك النساء عما فعلنه مع يوسف... فاعترف النساء بالحقيقة التي يصعب إنكارها [قُلْنَ حَاشَ لله مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ] {يوسف:51} وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف،التي يئست منه، ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به.. تتقدم لتقول كل شيءبصراحة [أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ] {يوسف:51} شهادة كاملة بإثمها هي، وبراءته وصدقه ومحاولة يائسة لتصحيح صورتها في ذهنه. لا تريده أن يستمر على تعاليهواحتقاره لها كخاطئة. تريد أن تصحح فكرته عنها: [ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالغَيْبِ] {يوسف:52}. لست بهذا السوء الذي يتصوره فيَّ. ثم تمضي في هذه المحاولةوالعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها [وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ] {يوسف:52} ويصدر الأمر الملكي بالإفراج عنه وإحضاره.
المشهد الثالث عشر :
بعد ما رأى الملك من أمر يوسف. براءته، وعلمه، وعدم تهافته علىالملك. عرف أنه أمام رجل كريم، فلم يطلبه ليشكره أو يثني عليه، وإنما طلبه ليكونمستشاره. وعندما جلس معه وكلمه، تحقق له صدق ما توسمه فيه. فطمئنه على أنه ذو مكانهوفي أمان عنده... قال يوسف: [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] {يوسف:55}. لم يكن يوسف في كلمته يقصد النفع أو الاستفادة. على العكس منذلك. كان يحتمل أمانة إطعام شعوب جائعة لمدة سبع سنوات.. وهكذا مكَّن الله ليوسف في الأرض.. صار مسؤولاً عن خزائن مصرواقتصادها.. وصار كبير الوزراء..
المشهد الرابع عشر :
جاء إخوة يوسف من البدو من أرض كنعان البعيدة يبحثون عن الطعام في مصر فقد اجتاح الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها. فاتجه إخوةيوسف إلى مصر. وقد تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنواتالسمان. فدخلوا على عزيز مصر، وهم لا يعلمون أن أخاهم هو العزيز [فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ] {يوسف:58}. ولكنا ندرك من السياق أنه أنزلهم منزلاً طيباً، ثم أخذ في إعداد الدرسالأول [وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ] {يوسف:59} .. فلما جهزهم بحاجات الرحلة قال لهم: إنه يريد أن يرى أخاهم هذا.. وقد رأيتم أنني أوفي الكيل للمشترين. فسأوفيكم نصيبكم حين يجيء معكم ورأيتم أنني أكرم النزلاء فلا خوف عليه بل سيلقى مني الإكرام المعهود: [أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ المُنْزِلِينَ] {يوسف:59} ولما كانوا يعلمون كيف يضن أبوهم بأخيهم الأصغر وبخاصةبعد ذهاب يوسف فقد أظهروا أن الأمر ليس ميسوراً، وإنما في طريقه عقبات من ممانعةأبيهم، وأنهم سيحاولون إقناعه، مع توكيد عزمهم على الرغم من هذه العقبات علىإحضاره معهم حين يعودون: [قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ] {يوسف:61}.

المشهد الخامس عشر:
ندع يوسف في مصر ولنشهد يعقوب وبنيه في أرضكنعان. رجع الأخوة إلى أبيهم.. وقبل أن ينزلوا أحمال الجمال ويفكوا متاعهم، دخلواعلى أبيهم. قائلين له بعتاب: إن لم ترسل معنا أخانا الصغير في المرة القادمة فلنيعطينا عزيز مصر الطعام. وختموا كلامهم بوعد جديد ليعقوب عليه السلام [وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {يوسف:63} ويبدوا أن هذا الوعد قد أثار كوامن يعقوب. فهو ذاتهوعدهم له في يوسف! فإذا هو يجهز بما أثاره الوعد من شجونه [قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] {يوسف:64} واستمر حوارهم مع الأب.. أفهموه أن حبه لابنه والتصاقهبه يفسدان مصالحهم، ويؤثران على اقتصادهم، وهم يريدون أن يتزودوا أكثر، وسوف يحفظونأخاهم أشد الحفظ وأعظمه.. وانتهى الحوار باستسلام الأب لهم.. بشرط أن يعاهدوه علىالعودة بابنه، إلا إذا خرج الأمر من أيديهم وأحيط بهم.. نصحهم الأب ألا يدخلوا وهمأحد عشر رجلا من باب واحد من أبواب مصر.. كي لا يستلفتوا انتباه أحد.. وربما خشيعليهم أبوهم شيئا كالسرقة أو الحسد..
المشهد السادس عشر :
عاد إخوةيوسف الأحد عشر هذه المرة [وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {يوسف:69} ولا ريب أن هذا لم يحدث فور دخول الإخوة على يوسف، وإلا لانكشفت لهمقرابة يوسف، إنما وقع هذا في خفاء وتلطف، فلم يشعر إخوته... ها هو ذا يوسف يدبر شيئاً لإخوته.. يريد أن يحتفظ بأخيه الصغيرمعه.يعلم أن احتفاظه بأخيه سيثير أحزان أبيه، وربما حركت الأحزان الجديدةأحزانه القديمة، وربما ذكره هذا الحادث بفقد يوسف.. يعلم يوسف هذا كله.. وها هو ذايرى أخاه.. وليس هناك دافع قاهر لاحتفاظه به، لماذا يفعل ما فعل ويحتفظ بأخيههكذا!؟ إن يوسف يتصرف بوحي من الله.. يريدالله تعالى أن يصل بابتلائه ليعقوب إلى الذروة.. حتى إذا جاوز به منطقة الألمالبشري المحتمل وغير المحتمل، ورآه صابراً رد عليه ابنيه معاً، ورد إليهبصرهأمر يوسف عليه السلام رجاله أن يخفوا كأس الملك الذهبية في متاعأخيه خِلسة.. وكانت الكأس تستخدم كمكيال للغلال.. وكانت لها قيمتها كمعيار في الوزنإلى جوار قيمتها كذهب خالص. أخفى الكأس في متاع أخيه.. وتهيأ إخوة يوسف للرحيل،ومعهم أخوهم.. ثم أغلقت أبواب العاصمة.. [ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ] {يوسف:70} كانت صرخة الجند تعني وقوف القوافلجميعاً.. وانطلق الاتهام فوق رؤوس الجميع كقضاء خفي غامض.. أقبل الناس، وأقبل معهم إخوة يوسف.. [مَاذَا تَفْقِدُونَ] {يوسف:71}؟هكذا تسائل إخوة يوسف.. قال الجنود [نَفْقِدُ صُوَاعَ المَلِكِ] {يوسف:72}.. ضاعت كأسه الذهبية.. ولمن يجيء بها مكافأة.. سنعطيهحمل بعير من الغلال.قال إخوة يوسف ببراءة: لم نأت لنفسد في الأرض ونسرق! قال الحراس: وأي جزاء تحبون توقيعه على السارق؟قال إخوة يوسف: في شريعتنا نعتبر من سرق عبداً لمن سرق قالالحارس: سنطبق عليكم قانونكم الخاص.. لن نطبق عليكم القانون المصري الذي يقضي بسجن السارق. كانت هذه الإجابة كيداً وتدبيراً من الله تعالى، ألهم يوسف أن يحدِّثبها حراسه.. ولولا هذا التدبير الإلهي لامتنع على يوسف أن يأخذ أخاه.. فقد كان دينالملك أو قانونه لا يقضي باسترقاق من سرق. وبدأ التفتيش وكان هذا الحوار علىمنظر ومسمع من يوسف، فأمر جنوده بالبدء بتفتيش رحال أخوته أولاً قبل تفتيش رحل أخيه الصغير. كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش. اطمأن إخوة يوسف إلى براءتهم منالسرقة وتنفسوا الصعداء، فلم يبق إلا أخوهم الصغير. وتم استخراج الكأس من رحله. فأمر يوسف بأخذ أخيه عبداً، قانونهم الذي طبقه القضاء على الحادث.
أعقب ذلكمشهد عنيف المشاعر.. إن إحساس الإخوة براحة الإنقاذ والنجاة من التهمة، جعلهميستديرون باللوم على شقيق يوسف [قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ] {يوسف:77} إنهم يتنصلون من تهمة السرقة.. ويلقونها على هذا الفرع من أبناءيعقوب..سمع يوسف بأذنيه اتهامهم له، وأحس بحزن عميق.. كتم يوسف أحزانه فينفسه ولم يظهر مشاعره.. قال بينه وبين نفسه [أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ] {يوسف:77}. سقط الصمت بعد تعليق الإخوة الأخير.. ثم انمحى إحساسهم بالنجاة،وتذكروا يعقوب.. لقد أخذ عليهم عهداً غليظاً، ألا يفرطوا في ابنه. وبدءوا استرحاميوسف: أيها العزيز.. أيها الملك.. [إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ] {يوسف:78} قال يوسفبهدوء: كيف تريدون أن نترك من وجدنا كأس الملك عنده.. ونأخذ بدلاً منه إنساناً آخر..؟هذا ظلم.. ونحن لا نظلم... كانت هي الكلمة الأخيرة في الموقف. وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء، فانسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج أمام أبيهم حينيرجعون.
المشهد السابع عشر :
عقدوا أخوة يوسف مجلساً يتشاورون فيه وذكرالقرآن قول كبيرهم إذ ذكَّرهم بالموثق المأخوذ عليهم، كما ذكرهم بتفريطهم في يوسف منقبل. ثم يبين قراره الجازم: ألا يبرح مصر، وألا يواجه أباه، إلا أن يأذن أبوه، أويقضي الله له بحكم، فيخض له وينصاع. وطلب منهم أن يرجعوا إلى أبيهم فيخبروه بأن ابنه سرق، فَاُخِذَ بما سرق. وإن كان في شك منقولهم فليسأل أهل القرية التي كانوا فيها -أي أهل مصر- وليسأل القافلة التي كانوافيها، فهم لم يكونوا وحدهم، فالقوافل الكثيرة كانت ترد مصر لتأخذالطعام وفعل الأبناء ما أمرهم به أخوهم الكبير، وحكواليعقوب عليه السلام ما حدث. واستمع يعقوب إليهم وقال بحزن صابر، وعين دامعة [قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ(83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ] {يوسف: 83-84} لاحظ أبناؤه أنه يبكي على يوسف، وهاجموه في مشاعره الإنسانية كأب.. حذروه بأنه سيهلكنفسه [قَالُوا تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] {يوسف:86} ردهمجواب يعقوب إلى حقيقة بكائه.. إنه يشكو همه إلى الله.. ويعلم من الله ما لايعلمون.. وقال [يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ] {يوسف:87} إنه يكشفلهم في عمق أحزانه عن أمله في روح الله.. إنه يشعر بأن يوسف لم يمت كما أنبؤوه.. لميزل حياً، فليذهب الإخوة بحثاً عنه.. وليكن دليلهم في البحث، هذا الأمل العميق فيالله سبحانه وتعالى.
المشهد الثامن عشر:
تحركت القافلة في طريقها إلى مصر.. إخوة يوسففي طريقهم إلى العزيز.. تدهور حالهم الاقتصادي وحالهم النفسي.. إن فقرهم وحزن أبيهمومحاصرة المتاعب لهم، قد هدت قواهم تماماً.. ها هم أولاء يدخلون على يوسف.. معهمبضاعة رديئة.. جاءوا بثمن لا يتيح لهم شراء شيء ذي بال.. وعندما دخلوا على يوسفعليه السلام رجوه أن يتصدق عليهم [فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا العَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ] {يوسف:88} انتهى الأمر بهم إلى التسول.. إنهم يسألونه أن يتصدق عليهم.. ويستميلون قلبه، بتذكيره أن الله يجزي المتصدقين...[قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ(89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ(90) قَالُوا تَالله لَقَدْ آَثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ]. {يوسف}وقال يوسف لهم: [لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] {يوسف:92}.. دعا الله أن يغفر لهم.. وهونبي ودعوته مستجابة.. ها هو ذا يوسفينهي حواره معهم بنقلة مفاجئة لأبيه.. يعلم أن أباه قد ابيضت عيناه من الحزن عليه.. يعلم أنه لم يعد يبصر.. خلع يوسفقميصه وأعطاه لهم [اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ] {يوسف:93}. وعادت القافلة من مصر إلى فلسطين.
المشهد التاسع عشر :
خرجت القافلة من مصر، حتى قال يعقوب عليهالسلام لمن حوله في فلسطين: إني أشم رائحة يوسف، لولا أنكم تقولون في أنفسكم أننيشيخ خرِف لصدقتم ما أقول. فرد عليه من حوله.لكن المفاجأة البعيدة تقع. ووصلت القافلة، وألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب عليهما السلام فارتدّ بصره. هنا يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه [قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لَا تَعْلَمُونَ] {يوسف:96} فاعترف الأخوة بخطئهم، وطلبوا من أبيهمالاستغفار لهم، فهو نبي ودعاءه مستجاب. إلا أن يعقوب عليه السلام قال [سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {يوسف:98}.
المشهد العشرون :
بدأتقصته برؤيا.. وها هو ذا الختام بتأويل رؤياه [فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ(99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ] {يوسف: 99-100}تأمل هذه المشاعر.. فهذا الموكب النبوي الملكي دخلوا على يوسف وقد اعتلى سرير ملكه وخروا له سجداً تحيةً وإكراماً وسجد الحضور وسائر الحاشية كعادة الأكابر فحينها لم يملك يوسف بعد سجود أبويه وأخوته غلا أن يتذكر رؤياه ويدعو ربه فيقول: [رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ] {يوسف:101}..
@@@
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني
اللهم اغفر لي جدِّي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي
اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
اللهم انفعني بما علَّمتني وعلِّمني ما ينفعُني وارزقني علماً ينفعُني وزدني علماً
والحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار
سبحانك اللهم وبحمدك أشهدُ أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الفقير إلى عفو ربه القدير
أبو خلاد ناصر بن سعيد بن سيف السيف
غفر الله له و لوالديه وجميع المسلمين
25/12/1430ه‍

([1]) نشكر فضيلة الشيخ: عايد بن حافظ الخيبري حفظه الله تعالى على مراجعة هذه الورقات والتعليق عليها فجزاه الله خير الجزاء والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
([2]) نشكر الأخ: محمد بن أحمد العسيري حفظه الله تعالى على جهده في ترتيب هذه الورقات، نسأل الله العلي القدير أن يسدده ويوفقه والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
([3]) قال فضيلة الشيخ عايد بن حافظ الخيبري حفظه الله تعالى: (هذا القائل نقل الأخوة من المفسدة الكبرى ألا وهي القتل إلى المفسدة الصغرى ألا وهي إلقاؤه في البئر ويتحقق غرضهم بإبعاده عن أبيه فعصم الله جل وعلا يوسف عليه السلام [فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] {يوسف:64}.
([4]) قال فضيلة الشيخ عايد بن حافظ الخيبري حفظه الله تعالى: (روي عن عبدالله بن مسعود t أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: [أَكْرِمِي مَثْوَاهُ] {يوسف:21}. الثاني: بنت شعيب في فراسة موسى حين قالت: [إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ] {القصص:26} الثالث: أبو بكر الصديق حين ولَّى عمر قال: ولَّيت عليهم خيرهم). رواه ابن جرير بسند حسن.
([5]) قال فضيلة الشيخ عايد بن حافظ الخيبري حفظه الله تعالى: (العبد مأمور بفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور مع الاستعانة بالملك الرحمن الغفور).
 

مواقع النشر (المفضلة)




الساعة الآن 11:42 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر