فيسبوك تويتر RSS


  #43  
قديم February 1, 2012, 07:42 PM
 
رد: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (رحلة ابن بطوطة)

صفحة : 85

فنزلنا بها رباط مالك بن دينار، وكنت رأيت عند قدومي عليها على نحو ميلين منها بناء عاليا مثل الحصن، فسألت عنه، فقيل لي: هو مسجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكانت البصرة من اتساع الخطة وانفساح الساحة بحيث كان هذا المسجد في وسطها. وبينه الآن وبينها ميلان ، وكذلك بينه وبين السور الأول المحيط بها نحو ذلك، فهو متوسط بينهما. ومدينة البصرة إحدى أمهات العراق الشهيرة الذكر في الآفاق الفسيحة الأرجاء المونقة الأفناء، ذات البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة، توفر قسمها من النضارة والخصب، لما كانت مجمع البحرين: الأجاج والعذب، وليس في الدنيا أكثر نخلا منها، فيباع التمر في سوقها بحساب أربعة عشر رطلا عراقية بدرهم، ودرهمهم ثلث النقرة. ولقد بعث إلى قاضيها حجة الدين بقوصرة تمر، يحملها الرجل على تكلف، فأردت بيعها، فبيعت بتسعة دراهم، أخذ الحمال منها ثلثها عن أجرة حملها من المنزل إلى السوق. ويصنع بها من التمر عسل يسمى السيلان، وهو طيب كأنه الجلاب.
والبصرة ثلاثة محلات: احداها محلة هذيل، وكبيرها الشيخ الفاضل علاء الدين بن الأثير، من الكرماء الفضلاء، أضافني وبعث إلي بثياب ودراهم، والمحلة الثانية محلة بني حرام، كبيرها السيد الشريف مجد الدين موسى الحسنى، ذو مكارم وفواضل، أضافني وبعث إلي التمر والسيلان والدراهم، والمحلة الثالثة محلة العجم، كبيرها جمال الدين ابن اللوكي. وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق وإيناس للغريب وقيام بحقه، فلا يستوحش فيما بينهم غريب. وهم يصلون الجمعة في مسجد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الذي ذكرته، ثم يسد فلا يأتونه إلا في الجمعة. وهذا المسجد من أحسن المساجد، وصحنه متناهي الانفساح مفروش بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع، وفيه المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي الله عنه يقرأ فيه لما قتل، وأثر تغييره الدم في الورقة التي فيها قوله تعالى: فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم .
حكاية اعتبار
شهدت مرة بهذا المسجد صلاة الجمعة، فلما قام الخطيب إلى الخطبة وسردها، لحن فيها لحنا كثيرا جليا، فعجبت من أمره، وذكرت ذلك للقاضي حجة الدين. فقال لي: إن هذا البلد لم يبق به من يعرف شيئا من علم النحو. وهذه عبرة لمن تفكر فيها. سبحان مغير الأشياء ومقلب الأمور. هذه البصرة التي إلى أهلها انتهت رياسة النحو، وفيها أصله وفرعه، ومن أهلها إمامه الذي لا ينكر سبقه، لا يقيم خطيبها خطبة الجمعة على دؤوبه عليها. ولهذا الجامع سبع صوامع، إحداها الصومعة التي تتحرك بزعمهم، عند ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه. صعدت إليها من أعلى سطح الجامع، ومعي بعض أهل البصرة، فوجدت في ركن من أركانها مقبض خشب مسمرا فيها، كأنه مقبض مملسة البناء. فجعل الرجل الذي كان معي يده في ذلك المقبض، وقال: بحق رأس أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، تحركي، وهز المقبض، فتحركت الصومعة، فجعلت أنا يدي في المقبض وقلت له، وانا أقول: بحق رأس أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحركي، وهززت المقبض فتحركت الصومعة فعجبوا من ذلك. وأهل البصرة على مذهب السنة والجماعة، ولا يخاف من يفعل مثل فعلي عندهم، ولو جرى مثل هذا بمشهد الحسين، أو بالحلة، أو بالبحرين، أو قم، أو قاشان، أو ساوة، أو آوة، أو طوس، لهلك فاعله، لأنهم رافضة غالية. قال ابن جزي: قد عاينت بمدينة برشانة من وادي المنصورة من بلاد الأندلس حاطها الله صومعة تهتز من غير أن يذكر لها أحد من الخلفاء أو سواهم، وفي صومعة الجامع الأعظم بها، وبناؤها ليس بالقديم. وهي كأحسن ما أنت راء من الصوامع، حسن منظر واعتدالا وارتفاعا، لا ميل فيها ولا زيغ. صعدت إليها مرة، ومعي جماعة من الناس، فأخذ بعض من كان معي بجوانب جامورها وهزوها فاهتزت، حتى أشرت إليهم أن يكفوا فكفوا عن هزها.
ذكر المشاهدة المباركة بالبصرة


صفحة : 86

فمنها مشهد طلحة بن عبد الله أحد العشرة رضي الله عنهم، وهو بداخل المدينة وعليه قبة وجامع وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر. وأهل البصرة يعظمونه تعظيما شديدا وحق له، ومنها مشهد الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته رضي الله عنهما، وهو بخارج البصرة، ولا قبة عليه، وله مسجد وزاوية فيها الطعام لأبناء السبيل. ومنها قبر حليمة السعدية أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة رضي الله عنها، وإلى جانبها قبر ابنها رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها قبر أبي بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعليه قبة، وعلى ستة أميال منها بقرب وادي السباع قبر أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل لزيارته إلا في جمع كثيف لكثرة السباع وعدم العمران، ومنها قبر الحسن ابن أبي الحسن البصري سيد التابعين رضي الله عنه، وقبر عتبة الغلام رضي الله عنه، وقبر مالك ابن دينار رضي الله عنه، وقبر حبيب العجمي رضي الله عنه، وقبر سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه. وعلى كل قبر منها قبة مكتوب فيها اسم صاحب القبر ووفاته. وذلك كله داخل السور القديم. وهي اليوم بينها وبين البلد نحو ثلاثة أميال. وبها سوى ذلك قبور الجم الغفير من الصحابة والتابعين والمستشهدين يوم الجمل. وكان أمير البصرة حتى ورودي عليها يسمى بركن الدين العجمي التوريزي، أضافني فأحسن إلي. والبصرة على ساحل الفرات والدجلة، وبها المد والجزر، كمثل ما هو بوادي سلا، من بلاد المغرب، وسواه، والخليج المالح الخارج من بحر فارس على عشرة أميال منها. فإذا كان المد غلب الماء المالح على العذب، وإذا كان الجزر غلب الماء الحلو على الماء المالح، فيستسقي أهل البصرة ماء غير جيد لدورهم. ولذلك يقال: إن ماءهم زعاق. قال ابن جزي، وبسبب ذلك كان هواء البصرة غير جيد، وألوان أهلها مصفرة كاسفة، حتى ضرب بهم المثل. وقال بعض الشعراء وقد أحضرت بين يدي الصاحب أترجة:
للـه أتـرج غـدا بـينـنـا معبرا عن حال ذي عبـره
لما كسى الله ثياب الضـنـا أهل الهوى وساكني البصره ثم ركبت من ساحل البصرة في صنبوق، وهو القارب الصغير إلى الأبلة. وبينها وبين البصرة عشرة أميال، في بساتين متصلة ونخيل مظلة عن اليمين واليسار. والبياعة في ظلال الأشجار يبيعون الخبز والسمك والتمر واللبن والفواكه. وفيما بين البصرة والأبلة متعبد سهل بن عبد الله التستري. فإذا حاذاه الناس بالسفن تراهم يشربون الماء مما يحاذيه من الوادي، ويدعون عند ذلك تبركا بهذا الولي رضي الله عنه. والنواتية يحرفون في هذا البلاد، وهم قيام. وكانت الأبلة مدينة عظيمة يقصدها تجار الهند وفارس فخربت. وهي الآن قرية بها آثار قصور وغيرها، دالة على عظمها: ثم ركبنا في الخليج الخارج من بحر فارس في مركب صغير لرجل من أهل الأبلة يسمى بمغامس، وذلك فيما بعد المغرب، فصبحنا عبادان، وهي قرية كبيرة في سبخة، لا عمارة بها، وفيها مساجد كثيرة ومتعبدات ورباطات للصالحين. وبينها وبين الساحل ثلاثة أميال. قال ابن جزي: عبادان كانت بلدا فيما تقدم، وهي مجدبة لا زرع بها، وإنما يجلب إليها، والماء أيضا بها قليل. وقد قال فيها بعض الشعراء:
من مبلغ أنـدلـسـا أنـنـي حللت عبادان أقصى الثـرى
أوحش ما أبصرت لكـنـنـيي قصدت فيها ذكرها في الورى
الخبـز فـيهـا يتـهـادونـه وشربة الماء بها تـشـتـرى

صفحة : 87

وعلى ساحل البحر منها رابطة، تعرف بالنسبة إلى الخضر وإلياس عليهما السلام. وبإزائها زاوية يسكنها أربعة من الفقراء بأولادهم يخدمون الرابطة والزاوية، ويتعيشون من فتوحات الناس وكل من يمر بهم يتصدق عليهم. وذكر لي أهل هذه الزاوية، أن بعبادان عابدا كبير القدر ولا أنيس له، يأتي هذا البحر مرة في الشهر، فيصطاد فيه ما يقوته شهرا، ثم لايرى إلا بعد تمام شهر. وهو على ذلك منذ أعوام. فلما وصلنا عبادان لم يكن لي شأن إلا طلبه، فاشتغل من كان معي بالصلاة في المساجد والمتعبدات، وانطلقت طالبا له. فجئت مسجدا خربا فوجدته يصلي فيه، فجلست في جانبه، فأوجز في صلاته. ولما سلم أخذ بيدي وقال لي: بلغك الله مرادك في الدنيا والآخرة، فقد بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا، وهو السياحة في الارض، وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما أعلمه، وبقيت الأخرى. والرجاء قوي في رحمة الله وتجاوزه وبلوغ المراد من دخول الجنة. ولما أتيت أصحابي أخبرتهم خبر الرجل وأعلمتهم بموضعه، فذهبوا إليه فلم يجدوه، ولا وقعوا له على خبر. فعجبوا من شأنه، وعدنا بالعشي إلى الزاوية فبتنا بها، ودخل علينا أحد الفقراء الأربعة بعد صلاة العشاء الآخرة. ومن عادة ذلك الفقير أن يأتي عبادان كل ليلة فيسرج السرج بمساجدها، ثم يعود إلى زاويته. فلما وصل إلى عبادان وجد الرجل العابد فأعطاه سمكة طرية وقال له: أوصل هذه إلى الضيف الذي قدم اليوم. فقال لنا الفقير عند دخوله علينا: من رأى منكم الشيخ اليوم ? فقلت له: أنا رأيته. فقال: يقول لك هذه ضيافتك. فشكرت الله على ذلك، وطبخ لنا الفقير تلك السمكة، فأكلنا منها أجمعون، وما أكلت قط سمكا أطيب منها. وهجس في خاطري الإقامة بقية العمر في خدمة ذلك الشيخ، ثم صرفتني النفس اللجوج عن ذلك، ثم ركبنا البحر عند الصبح بقصد بلدة ماجول. ومن عادتي في سفري أن لا أعود على طريق سلكتها ما أمكنني ذلك. وكنت أحب قصد بغداد العراق، فأشار علي بعض أهل البصرة بالسفر إلى أرض اللور، ثم إلى عراق العجم، ثم إلى عراق العرب. فعملت بمقتضى إشارته، ووصلنا بعد أربعة ايام إلى بلدة ماجول، على وزن فاعول وجيمها معقودة، وهي صغيرة على ساحل الخليج الذي ذكرنا أنه يخرج من بحر فارس، وأرضها سبخة لا شجر فيها ولا نبات، ولها سوق عظيمة من أكبر الأسواق. وأقمت بها يوما واحدا، ثم اكتريت دابة لركوبي من الذين يجلبون الحبوب من رامز إلى ماجول، وسرنا ثلاثا في صحراء يسكنها الأكراد في بيوت الشعر. ويقال: إن اصلهم من العرب، ثم وصلنا إلى مدينة رامز، وأول حروفها راء وآخرها زاي وميمها مكسورة ، وهي مدينة حسنة ذات فواكه وأنهار نزلنا بها عند القاضي حسام الدين محمود، ولقيت عنده رجلا من أهل العلم والدين والورع، هندي ألأصل، يدعى بهاء الدين، ويسمى إسماعيل، وهو من أولاد الشيخ بهاء الدين أبي زكريا الملتاني، وقرأ على مشايخ توريز وغيرها. وأقمت بمدينة رامز ليلة واحدة، ثم رحلنا منها ثلاثا في بسيط فيه قرى يسكنها الاكراد. وفي كل مرحلة منها زاوية فيها للوارد الخبز واللحم والحلواء، وحلواؤهم من رب العنب مخلوط بالدقيق والسمن.
وفي كل زاوية الشيخ والإمام والمؤذنون والخادم للفقراء والعبيد يطبخون الطعام. ثم وصلت مدينة تستر، وهي آخر البسيط من بلاد أتابك، وأول الجبال مدينة كبيرة رائقة نضرة، وبها البساتين الشريفة والرياض المنيفة، ولها المحاسن البارعة والأسواق الجامعة، وهي قديمة البناء افتتحها خالد بن الوليد. ووالي هذه المدينة ينسب إلى سهل بن عبد الله ويحيط بها النهر المعروف بالأزرق، وهو عجيب في نهاية من الصفاء شديد البرودة في أيام الحر، ولم أر كزرقته إلا نهر بلخشان. ولها باب واحد للمسافرين يسمى دراوزة دسبول، والدراوزة عندهم الباب. ولها أبواب غير شارعة إلى النهر. وعلى جانبي النهر البساتين والدواليب. والنهر عميق، وعلى باب المسافرين منه جسر على القوارب كجسر بغداد واحلة. قال ابن جزي: وفي هذا النهر يقول بعضهم:
أنظر لشاذروان تستر واعجب من جمعه ماء لري بـلاده
ككمي قوم جمعت أمـوالـه فغدا يفرقه علـى أجـنـاده

صفحة : 88

والفواكه بتستر كثيرة، والخيرات متيسرة، ولا مثل لأسواقها في الحسن وبخارجها تربة معظمة يقصدها أهل تلك الأقطار للزيارة، وينذرون لها النذور. ولها زاوية بها جماعة من الفقراء. وهم يزعمون أنها تربة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان نزولي في مدينة تستر في مدرسة الشيخ الإمام الصالح المتفنن شرف الدين موسى ابن الشيخ الصالح الإمام العالم صدر الدين سليمان، وهو من ذرية سهل بن عبد الله. وهذا الشيخ ذو مكارم وفضائل، جامع بين العلم والدين والصلاح والإيثار، وله مدرسة وزاوية، وخدامها فتيان، له أربعة أولاد: سنبل وكافور وجوهر وسرور أحدهم موكل بأوقاف الزاوية، والثاني متصرف فيما يحتاج إليه من النفقات في كل يوم، والثالث خديم السماط بين أيدي الواردين ومرتب الطعام لهم، والرابع موكل بالطباخين والسقائين والفراشين. فأقمت عنده ستة عشر يوما، فلم أر أعجب من ترتيبه، ولا أرغد من طعامه. يقدم بين يدي الرجل ما يكفي الأربعة من الأرز المفلفل المطبوخ في السمن والدجاج المقلي والخبز واللحم والحلواء. وهذا الشيخ من أحسن الناس صورة وأقومهم سيرة، وهو يعظ الناس بعد صلاة الجمعة بالمسجد الجامع. ولما شاهدت مجالسه في الواعظ صغر لدي كل واعظ رأيته قبله بالحجاز والشام ومصر، ولم ألق فيمن لقيته مثله.
حضرت يوما عنده ببستان له على شاطئ النهر، وقد اجتمع فقهاء المدينة وكبراؤها، وأتى الفقهاء من كل ناحية، فأطعم الجميع، ثم صلى بهم صلاة الظهر، وقام خطيبا وواعظا، بعد أن قرأ القراء أمامه بالتلاحين المبكية والنغامت المحركة المهيجة، وخطب خطبة بسكينة ووقار، وتصرف في فنون العلم من تفسير كتاب الله وإيراد حديث رسول الله والتكلم على معانيه، ثم ترامت عليه الرقاع من كل ناحية. ومن عادة الأعاجم أن يكتبوا المسائل في رقاع، ويرموا بها إلى الواعظ، فيجيب عنها. فلما رمي إليه بتلك الرقاع جمعها في يده، وأخذ يجيب عنها واحدة بعد واحدة بأبدع جواب وأحسنه. وحان وقت صلاة العصر فصلى بالقوم وانصرفوا. وكان مجلسه مجلس علم ووعظ وبركة وتبادر التائبون فأخذ عليهم العهد وجز نواصيهم، وكانوا خمسة عشر رجلا من الطلبة قدموا من البصرة برسم ذلك، وعشرة رجال من عوام تستر.
حكاية لما دخلت هذه المدينة أصابني مرض الحمى، وهذه البلاد يحم داخلها في زمان الحر، كما يعرض في دمشق وسواها من البلاد كثيرة المياه والفواكه. وأصابت الحمى أصحابي أيضا. فمات منهم شيخ اسمه يحيى الخراساني، وقام الشيخ بتجهيزه من كل ما يحتاج إليه الميت، وصلى عليه. وتركت بها صاحبا يدعي بهاء الدين الخشني، فمات بعد سفري. وكنت حين مرضي لا أشتهي الأطعمة التي تصنع لي بمدرسته، فذكر لي الفقيه شمس الدين السندي من طلبتها طعاما فاشتهيته، ودفعت له دراهم وطبخ لي ذلك الطعام بالسوق وأتى به إلي فأكلت منه. وبلغ ذلك الشيخ فشق عليه، وأتى إلي وقال لي: كيف تفعل هذا وتطبخ الطعام في السوق ? وهلا أمرت الخدم أن يصنعوا لك ما تشتهيه. ثم أحضر جميعهم وقال لهم: جميع ما يطلب منكم من أنواع الطعام والسكر وغيره فأتوه به، واطبخوا له ما يشاء. وأكد عليهم في ذلك أشد التأكيد، جزاه الله خيرا.
ثم سافرنا من مدينة تستر ثلاثا في جبال شامخة. وبكل منزل زاوية، كما تقدم ذكر ذلك. ووصلنا إلى مدينة إيذج وضبط اسمها بكسر الهمزة وياء مد وذال معجم مفتوح وجيم ، وتسمى أيضا مال الأمير، وهي حضرة السلطان أتابك. وعند وصولي إليها اجتمعت بشيخ شيوخ العالم الورع نور الدين الكرماني، وله النظر في كل الزوايا، وهي يسمونها المدرسة. والسلطان يعظمه وبقصد زيارته، وكذلك أرباب الدولة وكبراء الحضرة، يزورونه غدوا وعشيا، فأكرمني وأضافني وأنزلني زاوية تعرف باسم الدينوري، وأقمت بها أياما، وكان وصولي في أيام القيظ، وكنا نصلي صلاة الليل، ثم ننام بأعلى سطحها، ثم ننزل إلى الزاوية ضحوة. وكان في صحبتي اثنا عشر فقيرا، منهم إمام وقارئان مجيدان وخادم، ونحن على أحسن ترتيب.

ذكر ملك إيذج وتستر


صفحة : 89

وملك إيذج في عهد دخولي إليها السلطان أتابك افراسياب بن السلطان أتابك أحمد وأتابك عندهم سمة لجميع من يلي تلك البلاد من ملك. وهي تسمى بلاد اللور. وولي هذا السلطان بعد أخيه أتابك يوسف، وولي يوسف بعد أبيه أحمد، وكان احمد المذكور ملكا صالحا، سمعت من الثقات ببلاده أنه عمر أربعمائة وستين زاوية ببلاده، منها بحضرة إيذج أربع وأربعون، وقسم الخراج أثلاثا: ثلث لنفقة الزوايا والمدارس، وثلث لمراتب العسكر، وثلث لنفقته ونفقة عياله وعبيده وخدامه، ويبعث منه هدية لملك العراق في كل سنة، وربما وفد عليه بنفسه، وشاهدت من أثاره الصالحة ببلاده أن أكثرها في جبال شامخة، وقد نحتت الطرق في الصخور، وسويت ووسعت، بحيث تصعدها الدواب بأحمالها. وطول هذه الجبال مسيرة سبعة عشر في عرض عشرة، وهي شاهقة متصل بعضها ببعض، تشقها الأنهار، وشجرها البلوط، وهم يصنعون من دقيقه الخبز، وفي كل منزل من منازلها زاوية يسمونها المدرسة، فإذا وصل المسافر إلى مدرسة منها أتي بما يكفيه من الطعام والعلف لدابته سواء طلب ذلك أو لم يطلبه فإن عادتهم أن يأتي خادم المدرسة فيعد من نزل بها من الناس، ويعطي كل واحد منهم قرصين من الخبز ولحما وحلواء، وجميعم من أوقاف السلطان عليها. وكان السلطان أتابك أحمد زاهدا صالحا كما ذكرناه، يلبس تحت ثيابه مما يلي جسده ثوب شعر.
حكاية
قدم السلطان أتابك أحمد مرة على ملك العراق أبي سعيد، فقال له بعض خواصه إن أتابك أحمد يدخل عليك وعليه الدرع، وظن ثوب الشعر الذي تحت ثيابه درعا، فأمره بإختبار ذلك على جهه من الانبساط ليعرف حقيقته، فدخل عليه يوما فقام إليه الأمير الجوبان عظيم الأمراء العراق، والأمير سويته أمير ديار بكر، والشيخ حسن الذي هو الآن سلطان العراق، وأمسوكوا بثيابه كأنهم يمازحونه، فوجدوا تحت ثيابه ثوب الشعر، ورآه السلطان أبو سعيد وقام إليه وعانقه وأجلسه إلى جواره وقال له: سن أطا بالتركية، ومعناه أنت أبي، وعوضه عن هديته بأضعافها، وكتب له اليرليغ، وهو الظهير، أن لا يطالبه بهدية بعدها هو ولا أولاده وفي تلك السنة توفي وولي ابنه أتابك يوسف عشرة أعوام، ثم ولي أخوه افراسياب. ولما دخلت مدينة إيذج أردت رؤية افراسياب المذكور فلم يتأت لي ذلك، بسبب أنه لا يخرج إلى يوم الجمعة لإدمانه على الخمر وكان له ابن هو ولي عهده، وليس له سواه فمرض في تلك الأيام، وفي إحدى الليالي أتاني أحد خدامه، وسألني عن حالي فعرفته، وذهب، ثم جاء بعد صلاة المغرب، ومعه طيفوران كبيران: أحدهما بالطعام والآخر بالفاكهة، وخريطة فيها دراهم، ومعهم أهل السماع بآلاتهم، وقال: اعملوا السماع حتى يهزج الفقراء، ويدعون لابن السلطان فقلت له: إن اصحابي لا يدرون بالسماع ولا بالرقص، ودعونا للسلطان ولولده وقسمت الدراهم على الفقراء. ولما كان نصف الليل سمعنا الصراخ، وقد مات المريض المذكور وفي الغد دخل علي شيخ الزاوية وأهل البلد وقالوا: إن كبراء المدينة من القضاة والفقهاء والأشراف والأمراء قد ذهبوا إلى دار السلطان للعزاء، فينبغي لك أن تذهب في جملتهم فأبيت، فعزموا علي، فلم يكن لي بد من المسير، وسرت معهم، فوجدت مشوار دار السلطان ممتلئا رجالا وصبيانا من المماليك، وأبناء الملوك والوزراء والأجناد قد لبسوا التلابيس، وجلال الدواب، وجعلوا فوق رؤوسهم التراب والتبن، وبعضهم قد جز ناصيته وانقسموا فرقتين فرقة بأعلى المشور، وفرقة بأسفله وتزحف كل فرقة إلى الأخرى، وهم ضاربون بأيديهم على صدورهم قائلين خوند كارما، ومعنا مولاي أنا، فرأيت من ذلك أمرا هائلا ومنظرا فظيعا لم أعهد مثله.
?حكاية
ومن غريب ما اتفق لي يومئذ أني دخلت فرأيت القضاة والخطباء والشرفاء، قد استندوا إلى حيطان المشور، وهو غاص بهم من جميع جهاته، وهم بين باك ومتباك ومطرق، وقد لبسوا فوق ثيابهم ثيابا خامة من غليظ القطن غير محكمة الخياطة بطائنها إلى أعلى ووجوهها مما يلي أجسادهم، وعلى رأس كل واحد منهم خرقة أو مئزر أسود، وهكذا يكون فعلهم إلى تمام أربعين يوما وهي نهاية الحزن عندهم، وبعدها يبعث السلطان لكل من فعل ذلك كسوة كاملة.
__________________



تِكرَار { الحمدُ لله } .. عِلآج نَفسيّ يَجلبَ لكَ السَعَاده♥ !







رد مع اقتباس
  #44  
قديم February 14, 2012, 10:25 PM
 
رد: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (رحلة ابن بطوطة)

جزاك الله خير اخي


فعلا مجهود تشكر علية


موضوع شامل لرحالة رائع


الله يسعدك
__________________






رد مع اقتباس
  #45  
قديم February 24, 2012, 10:04 PM
 
رد: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (رحلة ابن بطوطة)

مشكوووووووور.
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تحميل كتاب رحلة ابن بطوطة - خمس مجلدات كاملة في ملف واحد بو راكان كتب السيرة الذاتية والرحلات 82 October 30, 2016 01:31 AM
تحميل كتاب نزهة النظار في قضاة الأمصار وردة الثلج كتب منوعه و أخرى 0 December 16, 2011 02:39 PM
رحلة ابن بطوطة**2** salh22 النصح و التوعيه 0 October 15, 2009 09:06 PM
رحلة ابن بطوطة**1** salh22 النصح و التوعيه 0 October 15, 2009 08:58 PM


الساعة الآن 04:12 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر