فيسبوك تويتر RSS


  #1  
قديم August 2, 2010, 12:44 PM
 
بدر الدين بن جماعة للدكتور حذيفة الخراط

تراثيات
مجلة المعرفة العدد185المربي بدر الدين بن جماعة .. وينبغي أن يعتني الأستاذ بمصالح الطالب ويعامله بما يعامل به أعز أولاده..
بقلم : د. حذيفة أحمد الخراط 2010-07-31 19 /8 /1431 تأتي العناية بالناشئة، وصقل شخصيتهم، وبذل الجهد الصادق في تعليمهم، في مقدمة اهتمام علماء الفكر والتربية على مر العصور، إذ يهدف هؤلاء إلى إنشاء جيل صاعد نما وتسلح بالعلم النافع المفيد، واتخذه ركنًا أفاد منه في بناء أمته وحضارته، وفق معايير عالية من الجودة والإتقان.
وقد حفظت لنا كتب التاريخ، فضل علماء السلف الصالح في تأسيس قواعد علوم التربية ووضع أركانها، فقد قام القوم بشأن العملية التعليمية خير ما أمكنهم من قيام، ونثروا بذورًا سخية، آتت أكلها مع الجيل الناشئ، فأثمر ما بذل من ذلك الجهد، وظهرت أشبال شبّت عن الطوق سريعًا، فإذا بها أسود تستأسد، وتسود الزمان والمكان.

وقد امتلأ تراثنا الإسلامي المجيد، بالكثير من نماذج المعالم التربوية المضيئة، التي برهنت على استيعاب سلفنا الصالح لأبعاد التعليم المنهجية، وما تحتويه من أسس وقواعد، فترسخت بذلك نظريات تربوية أصّلت فلسفة الفكر والتربية، ودفعت بعجلتها نحو الأمام بخطوات واثقة، وفاح لأجلها عبير من الرقي والإبداع.
ومما لا شك فيه، أن التعليم واحد من أهم مستلزمات بناء الحضارات، واتساع آفاق الذهن، وبناء العقول التي ستخدم أبناء الأمة، وتقدم لأجل النهوض بها ما غلي ونفس، وما أحوج أبناء اليوم لمعرفة حال سابقينا من أهل السلف، حين تناولوا أبعاد الفكر الحضاري، وما أجدرنا ونحن نستقي صورًا من حياتهم العلمية والعملية، علّها تساعدنا فتدب روح من الحياة الجديدة في أوصال مؤسساتنا التعليمية، فنرث بعضًا من مجد الأمة الرفيع وعزها التليد.
سنعمد هنا إلى تسليط بعض الضوء، على باقة من المعالم التي تضيء طريق أستاذ اليوم وطالب العلم المعاصر، وما أعظمهما إن حرصا على اقتفاء أثر من سبقهما واتباع سننه، وما أحوج مدارسنا لتطبيق تلك الدقائق الأدبية، في وقت تتضح فيه معالم قصور الكثير من المثل والقيم والآداب، مما قد ينذر بانهيار دعائم العملية التربوية، وما يترتب على ذلك من الضرر الذي لا يخفى على أحد، وحينها لا نملك إلا أن نقول: لات ساعة مندم.
تعد إقامة العلاقة الوثيقة المتوازنة بين الطالب والأستاذ، إحدى أهم ركائز عملية التدريس الناجحة، فهما - بلا خلاف - طرفا الموضوع اللذان يمثلان حجر الأساس في عملية البناء الفكري المتطور، وتكفل هذه العلاقة إعطاء كل ذي حق حقه، كما تفرض على هذين الشريكين واجبات يتحتم القيام بها دون أيما تقصير، وسندرس الأمر عن كثب في صورة نقاط توفي زواياه المختلفة.
ما للطالب من حقوق على الأستاذ
تضرب لنا كتب التاريخ أمثلة رائعة، في سعي المربي القديم إلى توثيق أواصر المودة والرحمة، خلال التعاون المتبادل بين أستاذ الحلقة وطلابها، بغية تحقيق أكبر قدر من الفائدة المرجوة من العملية التعليمية، فهذا ابن جماعة مثلاً يصف الحال المثلى لتلك العلاقة الفريدة فيقول: «وينبغي أن يعتني الأستاذ بمصالح الطالب، ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة والإحسان إليه، والصبر على جفاء ربما وقع منه، ونقص لا يكاد يخلو الإنسان منه، وسوء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بحسب الإمكان، ويوقفه على ما بدر منه بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف، قاصدًا بذلك حسن تربيته، وتحسين خلقه، وإصلاح شأنه»(1).
ويقول في مقام آخر: «وكذلك ينبغي على الأستاذ أن يترحّب بالطلبة إذا لقيهم، وعند إقبالهم عليه، ويكرمهم إذا جلسوا إليه، ويؤنسهم بسؤاله عن أحوالهم وأحوال من يتعلق بهم، وليعاملهم بطلاقة الوجه وظهور البشر وحسن المودة وإعلام المحبة وإضمار الشفقة» (2).
إذن يكاد المعلم هنا وفق هذه الرؤية، أن يبلغ منزلة الأب الحقيقي، الذي يحرص على العناية بمصالح أبنائه، مع خفضٍ في الجناح ولين في الجانب، وبذل للمشاعر الحانية، ونراه حافظًا لحق الصحبة، مظهرًا لصادق التودد وحسن الخلق تجاه أبنائه الطلاب، وهو أيضًا لا يتردد في التماس العذر لتلميذه إن هو قد نسي أو أخطأ، في أجواء تخيم عليها النصيحة المبشّرة لا المنفّرة.
ويزيد ابن جماعة في وصف حالة الاستقرار والصفاء التي تسود الحلقة العلمية فيقول: «فإن كان الطالب مريضًا عاده، وإن كان في غمّ خفض عليه، وإن كان مسافرًا تفقد أهله وسأل عنهم، وتعرض لحوائجهم، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد عليه ودعا له»(3).
لا شك أن الارتقاء الرفيع بالعلاقة بين الأستاذ وتلميذه، ينمي أطيب المشاعر نحو ما يقدمه الأول من الدروس العلمية، ولا شك أن في ذلك تنمية لآفاق التلميذ وملكاته، مما يدفعه إلى بذل المزيد من جهد الطلب والتحصيل، وهذا لا شك عامل أساس في تحقق الغايات التعليمية وأهدافها السامية المطلوبة.
ويمضي معلم الأمس ابن جماعة، فيوصي الأستاذ بعدم تحميل تلميذه ما لا يطيقه من الفروض والواجبات، ونراه عن ذلك متحدثًا ويقول: «إذا سلك الطالب في التحصيل فوق ما تحمله طاقته، وخاف الشيخ ضجره، أوصاه بالرفق بنفسه، والأناة والاقتصاد في الاجتهاد، وكذلك إذا ظهر منه سآمة أو ضجر، أمره بالراحة وتخفيف الاشتغال، ولا يشير على الطالب بتعلم ما لا يحتمله فهمه أو سنّه»(4).
ما أحوج مدارس اليوم إلى فكر تربوي راق كهذا، تسمو به أجواء من العلاقة الوثيقة بين الأستاذ والتلاميذ، حين تظلهم سحائب التراحم، في جو غلبت عليه سيماء التعاطف والتواد، فتصبح حلقة الدرس أشبه بالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له الأعضاء الأخرى بالحمى والسهر.
وماذا عن حقوق الأستاذ؟
على الجانب المقابل من الضفة الفكرية، نرى أن سلفنا من المربين لم يهضموا الأستاذ حقوقه، بل نراهم وهم قد حفظوها كاملة في أجواء متوازنة تعطي صاحب الحق حقه، وهم بذلك ضمنوا لكل طرف ما له عند الطرف الآخر، وكان ذلك سببًا في أن تسود روح العلاقة المثالية المتبادلة في فضاء العملية التعليمية.
ونرى ابن جماعة هنا وهو يقول للتلميذ وهو يعظه: «وينبغي أن ينقاد التلميذ لشيخه في أموره، ولا يخرج عن رأيه وتدبيره، فيشاوره فيما يقصده، ويتحرى رضاه فيما يعتمده، ويتقرب إلى الله بخدمته، ويعلم أن ذلّه لشيخه عزّ وتواضع له ورفعة»(5).
وها هو يوصيه مرة أخرى فيقول: «وأن يعرف للأستاذ حقه، ولا ينسى له فضله، ويعظّم حرمته، ويرد غيبته، ويغضب لها، وينبغي أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه، أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته»(6).
ونراه يقول في مقام آخر، مشجعًا على تحلي التلميذ بأحسن الخلق مع أستاذه: «وينبغي ألا يدخل على الشيخ في غير المجلس العام إلا باستئذان، ويدخل كامل الهيئة متطهّر البدن والثياب نظيفهما، وإذا حضر فلم يجد الشيخ انتظره لكيلا يفوت على نفسه درسه، فإن كل درس يفوت لا عوض له، ولا يطرق على الشيخ ليخرج إليه، وإن كان نائمًا صبر حتى يستيقظ، أو ينصرف ثم يعود، وينبغي أن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب، أو متربعًا بتواضع وسكون، ويصغي إلى الشيخ ناظرًا إليه ويُقبل بكليته عليه، متعقلاً لقوله، ولا يلتفت من غير ضرورة، ولا ينظر إلى يمينه أو شماله أو فوقه أو قدامه بغير حاجة، ولا يعطي الشيخ جنبه أو ظهره، ولا يعبث بشيء من أعضائه، ولا يكثر كلامه من غير حاجة، ولا يضحك لغير عجب، فإن غلبه تبسّم تبسمًا من غير صوت»(7).
إن التزام طلاب مدارس اليوم ومعاهده بتعليمات رائدة كتلك، يدفع بخطى وئيدة عجلة التعليم نحو الأمام، فهذا يُعلي من شأن الأستاذ ويرفع من قدره، مما سينعكس بالتأكيد في صورة المزيد من الإخلاص والتفاني في تقديم الشيخ لما في جعبته من علوم ومعارف، وبذلها بكل ما أوتي من رحابة الصدر، ولنا أن نتخيل ما ستصير إليه الحال لو هُضم المدرس حقه من الاحترام والتقدير، وما سيصدر عن ذلك من إهماله اللاحق للتحضير والتلقين، نتيجة التفريط في أداء ما فرضته المدرسة الفكرية على الطلاب من واجبات تجاه أساتذتهم.
وفي واقعنا المعاصر هذه الأيام، نلمس جانبًا من تقصير بعض التلاميذ في أداء حقوق أساتذتهم، ولا يخفى على أحد ما في ذلك من آثار سلبية ترتبت على ذلك، مما أخّر سير عجلة العملية التعليمية، ولن ترجع الأمور إلى سابق عهدها القويم، إلا حينما نعيد للأستاذ كامل حقوقه التي كفلتها له المحافل التربوية والتعليمية.
حق الزميل على الزميل
لزملاء الفصل الواحد طاقة من الحقوق التي يفرضها التفاعل التربوي المثالي، فللزميل في نظر ابن جماعة مثلاً، على زميله حق أدب المعاملة وحسن المعايشة، فعلى تلميذ الصف أن يتأدب مع زملائه من الحاضرين في مجلس الأستاذ، فهم قبل كل شيء رفقاؤه، وعليه أيضًا أن يوقر أصحابه ويحترم زملاءه وأقرانه، وألا يجلس وسط الصف ولا أمام أحد إلا لضرورة، وعليه أيضًا ألا يفرق بين رفيقين أو متصاحبين إلا بإذنهما، وإن جاء قادم ما رحب الزملاء به، ووسعوا له لأجله في مجالسهم، وأكرموه بما يُكرم به مثله(8).
لا شك أن التزام جانب الأدب والاحترام المتبادل بين تلاميذ الصف الواحد، يؤثر بصورة إيجابية ملموسة في إثراء العملية التربوية والنهوض بشأنها، فالفصل الدراسي سيسير بسلاسة واضحة، وقد خيّم عليه الهدوء والسكينة، فخُلُق الاحترام متبادل، ومعاني الإيثار واضحة، والتأدب مع الغير ظاهر، وبذلك تمضي الحلقة العلمية محفوفة بأجنحة الملائكة، وقد ذكر الله طلابها فيمن عنده.
أما إن ساد نقيض ذلك، فظهرت في فضاء الصف الدراسي علامات مضادة لتلك الأخلاق الفاضلة، فإن الفصل ستسوده مشاعر من الضغينة والبغضاء، وستضعف ما تجنيه الأهداف التربوية حتى تذوب شيئًا فشيئًا، وستصبح العملية التعليمية جسدًا بلا روح، مما ينتج عنه ظهور جيل تنقصه علامات فضائل الأعمال ومحاسن الأخلاق.
العناية بالكيف على حساب الكم
حرص سلفنا الصالح على تقديم الفائدة المرجوة في صورة خلاصة مركزة، تحمل في طياتها جوهر المادة العلمية، وذلك اعتمادًا على إعطاء قدر يسير من المعلومات المتسمة بالعمق والوضوح، وتقديم ذلك بتأنٍ وروية بغية الوصول إلى نتائج علمية مليئة بالفائدة والجدوى.
وقد اهتم أستاذ الماضي بشأن الإتقان وضبط الجودة، فأخذ بالعزائم وبذل قصارى الجهد في تحسين الأداء، وصرف النظر عن التوسع الزائد في تلقين المادة العلمية، وأعرض عن حشو عقلية التلاميذ بسيل المعلومات من غير التيقن من استيعابها والإحاطة بفقهها ومكنوناتها.
ولاهتمام المعلم القديم بتنمية قدراته الفكرية والتربوية، دور هام في التمكن من المادة العلمية والإحاطة بالكم الأكبر من أسرارها، ولا شك أن في ذلك بذلاً للمزيد من العطاء المقدم، وسيصبح الأستاذ حينها محط إعجاب التلاميذ وتقديرهم.
ولذلك التثقيف المستمر الذي يبذله الأستاذ، وعدم تكبّره عن طلب العلم، واشتغاله بالتصنيف والتأليف ومتابعة الفنون والعلوم، أثر فاعل في إثراء العملية التربوية، وتحقيق أسمى أهدافها وغاياتها، ويبرز حينها الاهتمام الصادق في ترقية الذات، والإعلاء من شأن الكيف على حساب الكمّ.
يترتب على عاتق المدرس الكفء في نظر ابن جماعة، الكثير من المسؤوليات، فهو قدوة حسنة تترك بصمات واضحات في المجتمع، فهو بذلك لا يجعل العلم وسيلة يصل بها إلى الأغراض الدنيوية من جاه أو مال أو سمعة أو شهرة، ونراه أيضًا يتنزه عن دنيء المكاسب ورذيلها، ويتجنب مواضع التهم والريبة(9).
والأستاذ الكفء أيضًا، بعيد كل البعد عما قد يطعن في مروءته، وهو بذلك لا يعرض نفسه للتهمة، أو يوقع الآخرين في ظنون مكروهة، وهو أيضًا ينهض في مصالح المسلمين، ويأخذ نفسه بأحسن الأفعال الظاهرة والباطنة، ونراه وقد عامل الناس بمكارم الأخلاق، واتضحت في هديه أخلاق حسنة نحو كظم الغيظ وإفشاء السلام والإيثار وترك الاستئثار والسعي في قضاء الحاجات.
ويكمل ابن جماعة وصفه للمدرس المثالي، فنراه يصفه بالابتعاد عن التنافس في الدنيا والمباهاة بها، ويذم المداهنة وحب المدح بما لم يفعل، ويشتغل عن عيوب الخلق بعيوب نفسه، ويترك الحمية والعصبية لغير الله(10).
ويولي ابن جماعة في الجانب الآخر، اهتمامًا واضحًا ورعاية خاصة بالطالب النجيب الذي أظهر ذكاءً واضحًا سبق به أقرانه، فنراه يوصيه بتطهير قلبه من ذميم الصفات مثل الغش والخلق السيئ وسوء العقيدة، وينصحه بتصحيح النية والمبادرة إلى التحصيل، وعدم الاعتياد على حياة التسويف والتأميل، وأن يكون له خطة واضحة يقسّم فيها أوقات ليله ونهاره، وأن يستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه، وألا يخرج عن رأي شيخه وتدبيره، ويحفظ له حقه ولا ينسى له فضله، ونراه أيضًا يركز على حضور الذهن الدائم، وتصحيح القراءة المتقن قبل الحفظ النهائي، وفي ذلك امتلاك لناصية الموضوع، والتقليل من نسيانه(11).
وقد أولى ابن جماعة لعلو الهمة أهمية خاصة، فنراه يوصي الطالب النبيه بعدم الاكتفاء بالقليل من العلم مع إمكان أخذ كثيره، وعدم التأخر عن تحصيل الفوائد، واغتنام أوقات الفراغ والنشاط والعافية ونباهة الخاطرة، ونراه يحثه إن أشكل عليه شأن ما، فيسارع بسؤال الشيخ عنه بتلطف وحسن خطاب.
الاهتمام بالجوانب العملية والتطبيقية
يتفق المتخصصون التربوين، على أهمية التطبيق العملي لما يتلقنه الطالب من معلومات نظرية صرفة، فهذا التطبيق يعمل في تثبيت تلك المعلومات، ووصلها بالمادة العلمية، وقد شاعت في مدارس اليوم عادة حفظ كم ضخم من المعلومات النظرية، التي يضن الأستاذ بدعم جانبها التطبيقي العملي، فنشأت لدى التلاميذ علامات الضعف العلمي الملموسة، التي تتضح معالمها بحفظ المادة العلمية من غير إدراك لاستعمالاتها أو فقه لمكنوناتها، مما يعني سرعة نضوب المعلومات لاحقًا، ويعود ذلك إلى الاهتمام بالجانب النظري البحث، وإهمال التطبيق العملي، والتساهل بمراجعة ما تم تلقينه من معلومات.
ولابن جماعة في هذه الجزئية التربوية كلام نفيس، إذ يقول: «إذا فرغ الشيخ من شرح درس فلا بأس بطرح مسائل تتعلق به على الطلبة يمتحن بها فهمهم، وضبطهم لما شُرح لهم، ومن لم يفهمه تلطف في إعادته له بطرح المسائل، لأن الطالب ربما استحيا من قوله: لم أفهم»(12).
ودعمًا لذلك ينصح ابن جماعة المعلم الناجح، بأن يطالب تلاميذه بإعادة ما أملاه عليهم من العلوم، وامتحان استيعابهم لما قدم لهم من القواعد والمسائل، وفي ذلك ضبط للنص المحفوظ من أفواه الطلاب، وسبر لما لديهم من معلومات، والتأكد من تثبيتها في أذهانهم، وهذا تعويد للفكر على التنظيم والتحليل، وتحقيق لأهداف الربط والاستنتاج.
إن تحول عملية التعليم إلى مسارح صمّاء تعتمد أسلوب الإملاء والتلقين، مع ضعف لهجة الحوار والتبادل البنّاء للآراء بين الطالب وأستاذه، يحول الحلقة التعليمية إلى وسط يغلب عليه طابع الجفاف والتصحر، وتغطيه أجواء الملل والرتابة، وستغدو المحصلة النهائية لا شك ضعيفة باهتة.
مراعاة اختلاف القدرات الذهنية
بين طالب وآخر
على المعلم الناجح أن يلقي عظيم البال تجاه الفروقات الفردية بين طلاب الصف الواحد، فاختلاف القدرات والملكات أمر ملموس لابد منه، وليس للطالب ذي الذكاء الأقل أو الفطنة الأدنى ذنب في ذلك، وهذا يوجب علينا ألا نوحد ميزان التعامل مع الجميع، فأمام الأستاذ عدد كبير من الطلاب، ولا يعقل أن يكون جميعهم في مستوى واحد من قدرة الاستيعاب أو سرعة الفهم أو حاضرة البديهة، وهذا يتطلب من المدرس بذل المزيد من الجهد والأناة والتروي وسعة الصدر، فقد يحتاج البعض إلى إعادة شرح مسألة أشكل فهمها على بعض التلاميذ.
والأستاذ هنا وهو يراعي هذا الجانب، غدا والدًا عطوفًا عرف إمكانات ولده الذهنية وقدراته الاستيعابية، وهو بذلك يتعامل مع كل تلميذ بحسب معطيات شخصيته وملكاته، وهو أيضًا لا يتردد في إعادة الشرح، ولا يمل مع التكرار، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
يقول ابن جماعة في ذلك: «وينبغي أن يحرص الأستاذ على تعليم تلميذه وتفهيمه ببذل جهده وتقريب المعنى له من غير إكثار لا يحتمله ذهنه، ويوضح لمتوقف الذهن العبارة، ويحتسب إعادة الشرح له وتكراره، وإذا علم أنه لا يفلح في فن أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فيه فلاحه»(13).
الاهتمام بالتشجيع والثواب
تُظهر نتائج الدراسات التربوية، الأثر الإيجابي الذي تتركه عملية تشجيع الطالب والثناء عليه أمام أقرانه، الأمر الذي يدفعه إلى بذل المزيد من تقديم الجهود، والحرص على الاستزادة من طلب العلم، ونرى هنا ابن جماعة وهو يبث روح الثناء والمديح في نفوس طلابه، فيقول: «فمن رآه مصيبًا في الجواب، شكره وأثنى عليه بين أصحابه، ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد، ومن رآه مقصرًا ولم يخف نفوره حرضه على علو الهمة ونيل المنزلة في طلب العلم»(14).
ومن المؤسف ما نلاحظ في بعض مدارس اليوم، من ذيوع ظاهرة اللوم وتوجيه مطارق من التوبيخ والتأنيب وعبارات التثبيط، التي تجري على لسان بعض الأساتذة تجاه الطالب المقصر، ولا يخفى على أحد ما في ذلك من تأثيرات سلبية، فهو يضعف دوافع التعلم، وقد يدفع بالتلميذ إلى التمرد والإعراض عن متابعة التعليم، ويبقى إذن تقديم النصح بالحكمة والموعظة الحسنة، حجر الأساس في برنامج الوقاية الناجح من آثار تعليمية ضارة كتلك.
أهمية الأمانة العلمية
تعنى الأمانة العلمية بالتناول الجاد لوسائل العلم، والتدقيق في موارده المختلفة، والحرص على نيله من مصادره الصحيحة، وأدائه أداءً دقيقًا مع تحري ألفاظه ونصوصه.
وقد حقق طلبة السلف الصالح أهداف الأمانة العلمية تلك، وعنوا بتطبيقها، فنراهم وقد كتبوا عن الشيخ، ثم أخذوا بتصحيح ما كتبوه بعرضه على الشيخ نفسه للتأكد من صحة ما استقوه من المعلومات.
وتستدعي الأمانة العلمية بذل جهد مضاعف في تحضير المادة العلمية، وفي ذلك إحاطة للعلم بالمزيد من العناية والإتقان، ويقول في ذلك ابن معين: «إني لأحدّث بالحديث فأسهر له، مخافةً أن أكون قد أخطأت فيه»(15).
ومن مظاهر الأمانة العلمية الأخرى، ما نراه من اعتماد المحدثين على الكتب أكثر من اعتمادهم على الذاكرة في تلقين ما بجعبتهم من علوم، وعدم نشرهم للمصنفات إلا بعد تهذيبها وتحريرها وتنقيحها.
وما أعظم أستاذ اليوم، وهو يحقق شروط الأمانة العلمية في تدريس مقرراته المنهجية، فيحضر الدرس بتدبر وإخلاص قبل إلقائه على مسامع طلابه، ونراه يعود إلى أمهات الكتب والمراجع، فيستزيد منها ما يفيده من معلومات تعطي الدرس حقه من الإجادة والإتقان.
العلم للجميع
تملي واجبات العملية التربوية على الأستاذ، نشر العلم والثقافة إلى أكبر عدد ممكن من الطلاب، والمساهمة في تضييق دائرة الجهل في المجتمع، ونرى تطبيق علماء السلف الصالح لذلك الهدف النبيل واضحًا، فهاهو عطاء الخراساني إذا لم يجد من يحدثه يأتي المساكين فيملي عليهم، وهاهو وكيع يمضي في الحر فيحدث السقائين وهو يقول: «هؤلاء قوم لهم معاش لا يقدرون أن يأتوني»، فيحدثهم يتواضع بذلك(16).
ونرى من ذلك أيضًا، الوليد بن عتبة يلوم تلميذًا له دأب على التأخر عن حلقة الدرس، فلما علم أنه رجل معيل يخشى أن يفوته معاشه، أوقفه عن حضور الحلقة، وصار يمشي بنفسه إليه يقرأ له ما فاته من علوم في دكانه، لما رأى من حرصه وتوخيه لطلب العلم(17).
إن حرص الإنسان المثقف على نشر ما أوتي من العلم في المحيط من حوله، خُلُق قويم وفضل من الله عظيم، وهو من أعظم الصدقات الجاريات، والامتناع عن هذه السنة يفوّت على المتعلمين كثيرًا من فرص العلم، وما أجلّ أستاذ اليوم وهو يجود بعلمه على من حوله، وما أعظم ما يخدم به مجتمعه الذي هو بأمسّ الحاجة إلى مثل تلك التعليمات والإرشادات.
أهمية الترفق ولين الجانب
يجمع علماء الفكر والتربية، على أنه ما مزجت الشدة مع شيء إلا شانته، ولا شك أن ذلك ينطبق أيضًا على سير العملية التعليمية، فالشدة الزائدة على طلاب العلم مضرة بهم، واتباع أسلوب اللوم والتوبيخ والضرب والتعنيف، حاجز تتعثر معه التربية القويمة، ويؤثر سلبًا في الكيان الإنساني، ويبعد الأهداف العلمية عن مسارها التربوي الصحيح، فتتأخر هنا النتائج المرجوة، وهذا سيدفع بالمتعلم إلى اتباع أساليب الكذب والمكر والخديعة خوفًا من تسلط المعلم، وسيظهر بذلك جيل ذو خلق سيئ منحرف، وقد كسلت نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل.
يقول ابن خلدون معلقًا على حال حلقات العلم التي طغت عليها أجواء الحزم الزائد والشدة: «ومن كان مرباه بالعسف من المتعلمين، سطا به القهر، وضيّق عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعا إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقًا»(18).
ومما يحزن من واقع حال بعض مدارسنا اليوم، ما نراه من وسائل الشدة والقمع المستخدمة من قبل بعض الأساتذة، وتوظيفهم لوسائل القهر والإذلال والجور تجاه طلابهم، ولا يخفى على أحد ما نتج عن ذلك من مشكلات تربوية ونفسية واجتماعية، كان لها وقع مؤلم في أسماعنا وقلوبنا على حد سواء.
الجد والمواظبة في طلب العلم
بلغت أهمية الجد وحضور الذهن المتقد والحرص على جني الفائدة العلمية، شأنًا عظيمًا لدى سلفنا من علماء المسلمين، فنراهم يولون الأمر عناية خاصة، تحث طالب العلم على بذل عظيم الجهد والاستفادة من أقصى ما أوتي من طاقة وقدرة لنيل أكبر قدر من المعارف والعلوم.
وطالب العلم في نظر الإمام الزرنوجي مثلاً، ما يبرح يسهر الليالي ويكرر ما أخذه عن الشيخ في أول الليل وآخره، وهو أيضًا يغتنم أيام الحداثة وعنفوان الشباب، ويستفيد منها بأكبر قدر ممكن من بذل الطاقة والجهد(19).
وينصح الزرنوجي طالب العلم بالأخذ بالجد والهمة ما استطاع إليهما سبيلاً، ويصفه بالتلميذ الفطن النبيه الذي لا يتردد في حضور مجالس أهل العلم، لعلمه أن ما ينفعه من العلوم يتوزعه هذا وذاك، ولذلك فإنه يستفيد في جميع الأحوال والأوقات، وينهل من جميع الأشخاص دون استثناء.
والتلميذ المثالي في نظر الزرنوجي لا يفتر ولا يكل ولا يمل، ويأخذ العلم منه جل وقته، وهو يستعين بالله دائمًا، ويتدرع بالصبر والهمة والمتابعة، ويتحلى بالطموح وينشد الترقّي(20).
ختامًا، فإن ما ذُكر من معالم فكرية وآفاق تربوية، ما هو إلا غيض من فيض، واهتمام السلف الصالح بأبعاد الموضوع أكبر من أن يحصر، وما تلك إلا نقطة من كأس، سدنا وارتقينا إن نحن شربناه، وما أحرانا نحن أساتذة اليوم وطلابه، أن نستشعر دومًا كلامًا قيّمًا كهذا، لنستفيد منه في واقعنا التعليمي ومستقبلنا العلمي، وليس من الحكمة المرور على تلكم المواقف بسرعة أو قلة تدبر، من غير أن نطبق ما حملته بين طياتها من أخلاق وآداب تفيد منها مؤسساتنا التربوية القائمة، فتقيل من عثرتها وتنتشلها مما وصلت إليه من تأخر وتخلف.
إن ارتقاء علماء سلفنا الصالح وتقدمهم العلمي الذي شهدت لهم به الحضارات المختلفة، ما كان إلا بفضل ما بذلوه من جهد تربوي صادق، هذبوا به أنفسهم وتعاهدوه، وكان أن رفع الله بالعلم من شاء من هؤلاء حين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من البذل والعطاء في سبيل النهوض بالفكر والعلم والثقافة.
المراجع:
1- تذكرة السامع في أدب العالم والمتعلم: بدر الدين بن جماعة، دار الكتب العلمية، بيروت.
2- تعليم المتعلم في طرق التعلم: برهان الدين الزرنوجي، دمشق.
3- مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار الكتب العلمية.
4- الجامع لأخلاق الراوي والسامع: الخطيب البغدادي، الرياض.

الهوامش:
1- تذكرة السامع والمتكلم، ص49.
2- المرجع السابق، ص65.
3- المرجع السابق، ص62.
4- المرجع السابق، ص55.
5- المرجع السابق، ص87.
6- المرجع السابق، ص91.
7- المرجع السابق، ص96، 97.
8- المرجع السابق، ص152.
9- المرجع السابق، ص16.
10- المرجع السابق، ص23، 26.
11- المرجع السابق، ص67، 70.
12- المرجع السابق، ص53.
13- المرجع السابق، ص91.
14- المرجع السابق، ص54.
15- الجامع لأخلاق الراوي والسامع، ج2.
16- المرجع السابق، ج1.
17- المرجع السابق، ج1.
18- مقدمة ابن خلدون، ص540.
19- تعليم المتعلم في طرق التعلم، ص59.
20- المرجع السابق، ص85.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم September 5, 2010, 08:06 PM
 
رد: بدر الدين بن جماعة للدكتور حذيفة الخراط

يسلمو وبارك الله فيك
رزقك الله الجنة
احترامي
__________________
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
إدوار الخراط , إختناقات العشق والصباح , قصص , حصريا من معرفتي معرفتي كتب الادب العربي و الغربي 6 March 31, 2014 05:16 PM
سلسلة أرسم حياتك للدكتور محمد فتحي-كتاب الطريق إلى الربانية للدكتور مجدي الهلالي- كتيب فن دعوة الخالدين أرشيف طلبات الكتب 5 November 18, 2012 07:37 PM
موقع شيق لتشريح وفيزيولوجيا النبات للدكتور حسام الدين خلاصي hussam59 كتب العلوم الطبيعية 8 June 12, 2012 04:08 PM
إدوار الخراط ،أمواج الليالي ، متتالية قصصية معرفتي الروايات والقصص العربية 6 November 27, 2011 07:56 PM


الساعة الآن 12:06 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر