فيسبوك تويتر RSS



العودة   مجلة الإبتسامة > الروايات والقصص > روايات و قصص منشورة ومنقولة

روايات و قصص منشورة ومنقولة تحميل روايات و قصص منوعة لمجموعة مميزة من الكتاب و الكاتبات المنشورة إلكترونيا



إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم June 11, 2009, 06:59 PM
 
قصة عصفور من الشرق لتوفسق الحكيم

عصفور من الشرق


( الفصل الأول )


مطر غزير، قد ألجأ الناس إلى مظلات المشارب والحوانيت، وإلى الحيطان وأفاريز البيوت ومداخل المترو... ولم يبق في ميدان "الكوميدي فرانسيز" غير مياه تتدفق من الميازيب، وسيارات تخوض في شبه عباب... آدمي واحد ثبت لهذا المطر، وجعل يسير الهوينى، غير حافل بشيء؛ عيناه الواسعتان تتأملان نافورة الميدان، وهي زاخرة بالماء، وفمه ذو الشفاه العريضة يلوك شيئاً كالبلح، ويلفظ شيئاً كالنواة، ويده اليمنى كالرسول الأمين – من جيبه إلى فمه – تواتيه بالمدد في غير انقطاع... هذا الآدمي فتى نحيل الجسم، أسود الثياب، على رأسه قبعة سوداء عريضة الإطار، في قمتها فجوة غائرة، كطبق الحساء، قد امتلأت بماء المطر!

وفرغ الفتى من تأمل النافورة، فغادرها إلى جانب آخر من الميدان ، يقوم فيه تمثال الشاعر "دي موسيه" وهو يستوحي عروس الشعر.. فوقف الفتى ينظر إليه – وقد نقش على قاعدته: "لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم!..." ثم تطلع إلى وجه الشاعر، فألفى قطرات المطر تتساقط من عينيه كالعبرات؛ فتحرك قلبه، وسكت فمه!... ثم همس مردداً كالمخاطب لنفسه:
- لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم!.. نعم!..

ومرت في رأس الفتى صور من ماض بعيد.. ثم همس:
حتى هنا أيضاً يعرفون هذا؟!..
وغرق في التفكير، وغرقت قبعته في الماء، حتى فاض فسال على وجهه.. وإذا صوت خلف ظهره يصيح به:
- أراهن، بمائة فرنك، أن لا مخلوق يقف هكذا أمام هذا التمثال إلا أنت!..
فاستدار الفتى سريعاً:
- أندريه؟!..
- قبل كل كلام، انج بي وبنفسك من هذا المطر؛ ليس هذا وقت النظر إلى التماثيل!..
- بل هذا وقته!.. تأمل يا أندريه!.. هذه الدموع في عيني الشاعر!..
- لو لم يكن هذا الشاعر من رخام، لولّى الساعة هارباً، هو وعروسه، إلى أقرب قهوة، وتركاك وحدك، وسط هذه المياة!..
ولم ينتظر الفرنسي جواباً من صاحبه، بل جذبه إلى مظلة قهوة "الريجانس" القريبة، ثم نظر في وجهه، فوجد فمه يتحرك:
- عجباً!.. ماذا في فمك؟..
فلم يجب الفتى.. ولفظ من فمه نواة، وقعت في الماء الجاري إلى البلاليع، فصاح به أندريه:
- تأكل بلحاً؟!..
- نعم.. وفي شوارع باريس!..
- آه أيها العصفور القادم من الشرق!..
- في مصر نسميه "عجوة"... هذا النوع من البلح.. إني أتخيل نفسي الآن في ميدان المسجد بحي السيدة زينب!.. وأتخيل هذه النافورة.. ذلك السبيل بنوافذه ذات القضبان النحاسية..
- كفى تخيلاً!.. تعال... لقد سكن المطر..
- إلى أين؟..
فلم يجب أندريه.. وأخذ ينظر إلى ملابس الفتى، ويتأمله؛ من قبعته السوادء، ومعطفه الأسود، ورباط عنقه الأسود، إلى حذائه الأسود، ثم قال:
- عظيم جداً..
- ما هو العظيم جداًَ؟!..
- إنك الآن خير من يصلح للذهاب..
- إلى فاتنتي الجميلة؟..
- بل إلى المدافن.. هلم معي؛ لتشييع جنازة زوج بنت مدام شارل!... إن عليك "طقم" حداد كامل.. لكأني بك دائماً على أتم استعداد لمثل هذه الطلبات!... إن ليسرني أن أصحب مثلك إلى هذه النزهة القصيرة..
- النزهة؟!..
قالها الفتى وهو ينظر إلى صاحبه شزراً؛ ولكن صاحبه تجاهل النظرة؛ وجذبه من يده؛ وقال:
- تعال نؤدي معاً هذا الواجب...
- نحو من؟...
- نحو الفقيد المرحوم زوج بنت مدام شارل!...
- ومن هي أولاً مدام شارل؟..
- هي والدة أحد زملائي في المصنع..
- وما ذنبي أنا؟...
- ذنبك أنك صديقي!... فلتتحمل ما أتحمل ... لا شيء يثقل على نفسي، مثل المشي صامتاً؛ خلف عربات الموتى!...
سنتحدث ، على الأقل سوياً؛ في شئوننا، بل في شؤونك أنت، إني أعدك وعداً صادقاً، بالحديث طول الوقت، عن فاتنتك ذات الأنف؛ الذي تقول أنه – في نظرك- غير المثل الأعلى للأنف الجميل.. وقلب في رأسك كل الصور والأوضاع؛ التي كنت قد تخيلتها للجمال!...
- نعم؛ نعم!.. لقد كنت أعتبر الجمال...

وانطلق الفتى يتكلم متحمساً.. ولم يفطن إلى أندريه وقد قاده من ذراعه؛ ونزل به إلى إحدى محطات المترو، وابتاع له تذكرة في الدرجة الثانية؛ وأركبه قطاراً مرق بهما في جوف الأرض مروق لسان محسن بذلك الحديث اللذيذ... وابتسم اندريه، آخر الأمر في خبث؛ ابتسامة من يقول في نفسه: "إن معي الآن مفتاح قياده؛ فلألوحن له "بها" يتبعني صاغراً؛ بغير أن يشعر؛ إلى أقاصي الأرض"!..

***

دقت نواقيس كنيسة "سان جرمان" احتفالا باستقبال الجثمان؛ ولم تكن الجنازة قد وصلت بعد؛ ولم يكن بباب الكنيسة أحد غير محسن؛ فقد تركه أندريه عند الباب، وذهب يشتري مظلة؛ يتقيان بها المطر في أثناء السير في الطريق من الكنيسة إلى المقبرة. وأبطأ أندريه على صديقه؛ وبدت طلائع الجنازة؛ واشتد دق النواقيس.. ثم فتح باب الكنيسة على مصراعيه؛ واقتربت عربة الموتى، تتهادى حاملة التابوت اثوياً تحت باقات الزهر، وخلفها المشيعون تحت مظلاتهم. ووقفت العربة، وحمل التابوت إلى داخل الكنيسة، ومرت أفواج المشيعين بمحسن، في ملابسه السوداء الكاملة، فانحنوا له حاسبين أنه من أهل الميت الأقربين!.. هنا أدرك الفتى حرج موقفه؛ فأسرع واندس في فوج الداخلين، قبل أن تقع عليه أعين أهل الميت الحقيقيين، والناس تنحني له، فيظنوا بشأنه الظنون...

دخل محسن الكنيسة، ولم يكن قد دخل كنيسة قط، ولا حضر صلاة ميت من أموات النصارى، ولا رأى ما يجري فيها من المراسيم، ولا ما يتبع من الطقوس؛ فأحس برهبة، وخيل إليه أنه باجتيازه العتبة قد ترك الأرض، وارتقى إلى جو آخر، له عبيره، وله نوره!.. هنا أيضاً عين الخشوع وعين الشعور، الذي كان يهز نفسه كلما دخل في القاهرة مسجد السيدة زينب!.. هنا أيضاً عين السكون، وعين الظلام في الأركان، وعين النور الضئيل الهائم كالأرواح في جو المكان!.. إن بيت الله هو بيت الله في كل مكان وكل زمان!..

وضع التابوت في الصدر، وأضيئت حوله الشموع، وأخذت أصوات الرهبان تعلو، مرتلة الصلاة على أنام الأرغن، ثم تقدم الناس في صف طويل نحو التابوت يمرون به- الواحد تلو الآخر- ينضحونه بماء مقدس من "قمقم" فضي، ومشى محسن في الصف ذاهلاً خائفاً أن يحدث صوتاً على أرض الكنيسة. وانتبه قليلاً، فرأى القمقم في أيدي من أمامه في الصف، يرسم به الواحد علامة الصليب، وهو ينضح به الميت، ثم يسلمه في صمت إلى من خلفه، وراقب الفتى هذا الفعل يتكرر أكثر من خمسين مرة، وهو يحسب ألف حساب لنوبته. وأذهلته الرهبة، فما راعه إلا القمقم يسلم إليه ممن أمامه فتناوله بيد ترتجف، ولوح به نحو التابوت، راسماً في الهواء علامة، لا يدري من فرط اضطرابه: أدلت على صليب أم على هلال!.. ثم نضح التابوت على نحو خشى معه أن يكون قد أكثر فبلل الغطاء، ولكنه فرغ من مهمته على أي حال، فتنفس الصعداء، ومد يده بالقمقم يسلمه إلى من يليه، فلم يجد خلفه أحداً.. كان هو الأخير في الصف.. يا للكارثة!.. ما العمل؟!.. وحار وارتبك بهذا القمقم في يده لا يدري ما يصنع به، وقد اشتغل عنه القوم بتعزية أهل الميت الواقفين عند باب الخروج، وتصبب العرق بارداً من جبينه.. إ،ه يحمل في يده شيئاً مقدساً... كيف يتصرف إذن من تلقاء نفسه، في شيء مملوك لله داخل بيت الله؟!.. إنها لمسؤولية عظمى!.. ولمحه أحد القسيسين في هذا الموقف، فبادر إليه وحمل عنه العبء، فانصرف الفتى، وكأنه يقول في سذاجة: "ما أقوى كواهل أولئك الرجال الذين يتحملون كل تلك التبعات، في إدراة ممتلكات السماء!..". واسرع محسن إلى اللحاق بالصف، كي يعزي أهل الميت، فما كاد يتقدم إليهم في ملابسه السوداء حتى حملقوا فيه كانما هم يتذكرون أو يتساءلون عن هذا الصديق الحميم الذي أتى يشاركهم مصابهم في ثياب حداد كاملة، لم يرتد مثلها بعض أقارب الميت ولا ذووه!... وأعياهم التذكر، وفهم محسن ما يجول بخاطرهم، فلفظ سريعاً بضع كلمات غير مفهومة، وانطلق إلى الخارج.. فوجد أندريه واقفاً تحت مظلة جديدة، بين بقية المشيعين المنتظرين خروج التابوت!...

ورأى الفرنسي صديقه فابتدره محملقاً في وجهه:
- مالك أصفر الوجه؟!..
فلم يجب محسن بغير قوله:
- اذهب وادفن زميلك، أما أنا فإني أنتظرك في قهوة الدوم!...
واختفى سريعاً قبل أن يترك لأندريه وقتاً للكلام..

جلس محسن وصاحبه أندريه في قهوة الدوم بحي مونبارناس، وهي ملتقى أهل الفن: من مصورين ومثالين وشعراء وهي من أجل ذلك أصبحت ذات شهرة وصيت وهبط في ذلك العام سعر الفرنك الفرنسي، فهبط باريس سائحون كثيرون، أغلبهم من الأمريكان، انتشروا كالذباب في كل مكان!..
وطلب محسن قدحاً من عصير البرتقال، جعل يرشف منه في بطء من خلال ذلك العود المجوف من القش..

كان الجو خانقاً عصر ذلك اليوم، ورطباً ثقيلاً.. وأخذ محسن يتأمل لون الشراب الأحمر لحظة ، ثم ما لبث أن ارتعد جسمه فجأة..
لقد تذكر حلماً غامضاً رآه الليلة الماضية.. قد يكون كابوساً.. لا.. لم يكن بالضبط كابوساً، لأنه لم ير فيه شيئاًَ مزعجاً ، أو شيئاً مبالغاً فيه.. لقد كانت أحداثه طبيعية ، ومنطقية..
لقد رأى محسن نفسه متهماً بجريمة قتل، ورأى ضحيته رجلاً يجهل اسمه، وشخصيته..
أي سلاح استخدمه في جريمته؟!.. ولأي سبب كان كل هذا؟ .. هو لا يعلم شيئاً.. كل ما يعلمه، أنه كان متهماً، وأن يديه، كانتا ملطختين بالدماء، ومكبلتين بالأغلال... ثم رأى نفسه يستيقظ من نومه وهو يصيح؛ أنا بريء..! أنا بريء..!

كان الوقت لا يزال ليلاً.. قام فأضاء المكان ليرى يديه.. لمَ كان هذا الحلم؟.. هل هو قاتل حقاً؟ .. ثم ماذا؟!.. ألم يقم بأداء فريضة الصلاة قبل النوم؟..
إن منظر الدم كان شيئاً غير محتمل بالنسبة له.. إنه لم ينس قط بعض أيام الثورة.. ثورة سنة 1919.
لم يكن قد أكمل بعدُ عامه العشرين.. لقد كان أبوه المستشار يريده محامياً.. وكان هو يرى أن رغبته كانت تتجه ناحية الفن، والأدب..

ولذا كانت مهمته في أثناء الثورة تأليف الأغاني الوطنية التي كان يلحنها هو بنفسه، والتي كان يغنيها زملاؤه – شباب القاهرة- خلف قضبان السجن بحماسة، بينما كان هو لا يحمل سلاحاً غير سلاح الحماسة.. لم يكن يحمل – في وسط الزحام- غير قلب مشتعل، وأغان وطنية حماسية..

لقد رأى يوماً منظراً من قريب بقي أثره مدى الحياة.. رأى جندياً بريطانياً شاباً يقف وحده، وقد لمحه الثوار، فأحاطوا به وضربه واحد منهم بقضيب من حديد على رأسه، فشجه ووقع صريعاً.. الدم كان يملأ وجهه، وقد تناثر مخه في كل مكان.

لقد غشى الفتى محسن عليه واعترته دوخة، وكاد يغمى عليه.. وبينما ظهر الجنود البريطانيون مسلحين بالمدافع الرشاشة، تفرق الثوار في الحواري المظلمة، وبقي محسن وظهره إلى الحائط يحدق فيما يرى..
لقد كان من الصدفة أن الجنود لم تلمحه.. ولما تنبه طار مسرعاً يخطو فوق جثث القتلى في حواري مهجورة..

إن منظر الجندي الشاب المضرج بدمائه لم يترك مخيلته، لقد نسي أنه عدوه.. عدو وطنه.. إنه لم يعد يذكر إلا ذاك المنظر المحزن.. ذاك الموت الفظيع..
وعندئذ تخلص محسن من أحلامه، واستيقظ على صوت أندريه الضاحك..
وطلب اندريه كأساً من البرنو أخذ منه جرعة، ثم التفت إلى صديقه قائلاً:
- أتدري أين دفنوا زوج بنت مدام شارك؟..
- لا أريد أن أعرف أين دفنوه..
- لماذا؟..
فضاق محسن ذرعاً:
- وبعد؟ أخبرني بحق ربك، متى تعتقني من هذا المدعو زوج بنت مدام شارل؟!.. أما كفاك أني صليت على روحه في الكنيسة ونضحته من القمقم المقدس؟!.. آه!.. إن لن أغفر لك هذا التهاون منك.. إنك كنت تعرف أني داخل هذا الحرم المقدس ولا تقول لي حتى أعد نفسي!..
فابتسم اندريه وقال:
- أيها العصفور الشرقي!.. تعد نفسك لدخول الكنيسة؟! ما معنى هذا؟.. إنا ندخلها كما ندخل المقهى.. أي فرق؟!.. هناك محل عام، وهنا محل عام.. هناك الأرغن، وهنا الأوركسترا!..
فلم يلتفت إليه محسن وهمس كالمخاطب نفسه:
- بل هناك السماء!.. وليس من السهل على النفس الصعود في كل لحظة.. إنه لمجهود!..

فلم يَبْد على الفرنسي أنه فهم عن محسن، ولم يكلف نفسه عناء سؤاله . ورفع كأسه، وجرع جرعة أخرى، ثم أشار بطرفي عينيه على أمريكية حسناء، جالسة مع أسرتها على مقربة منهما، وهي لا تفتر عن النظر إلى من حولها من فنانين، ووقعت عيناها آخر الأمر على محسن في ثيابه السوداء، فغمزت من معها وهمست إليهم بكلام!..

ولحظ محسن نظراتها، فقال لأندريه في صوت منخفض:
- لماذا يرمقونني هكذا؟!..
- يحسبوك من أهل الفن، بهذه القبعة وهذه الملابس!..
- إنهم ينظرون إليّ كما ينظر الانسان إلى طائر غريب!.. أو لم يروا فنانا قط؟!.. يخيل إليّ يا أندريه أن هؤلاء الأمريكان قوم خلقوا من الأسمنت المسلح: لا روح فيهم، ولا ذوق، ولا ماضي!.. إذا فتحت صدر الواحد منهم وجدت في موضع القلب "دولاراً"!.. إنهم ليأتون إلى هذا العالم القديم، حاسبين أنهم بالذهب يستطيعون أن يشتروا لأنفسهم ذوقاً، ولبلادهم ماضياً!..
ولم يظهر على أندريه أنه أصغى إلى كلام صديقه كله؛ فلقد كانت عيناه تتبعان الأمريكية؛ فقال:
- أهذه بربك من الاسمنت المسلح؟!.
- لا تطل إليها النظر هكذا؛ وغلا قلت لزوجتك جرمين!..
فهز الفرنسي كتفيه ومضى في إظهار إعجابه:
- تأمل هاتين العينين الزرقاوين كأنهما في لون زرقتهما بحيرتان من بحيرات الجنة!..
- كلا.. بحيرات الجنة في لون الفيروز!..
- أيها المفتون!.. إنك لا ترى غير عيني فاتنتك التي لا تعرف اسمها!!..
فنظر محسن إلى الفضاء، باسماً سابحاً بخياله، ثم قال:
- أعرف صوتها؛ وهذا ليس بالقليل.. ليلة الأمس في الأوبرا...
- كنت في الأوبرا؟..
- اطمئن.. أعلى التياترو.. وسمعت صوتها.. أعني صوتاً كصوتها.. كل صوت جميل هو صوتها.. سمعته يغني:


"قلبي يتفتح لصوتك ، كما تتفتح الأزهار لقبلات الصباح"!

( الفصل الثاني )


جلس محسن كعادته كل صباح إلى مائدة المطبخ، في المنزل الذي يقطنه، آمناً شر البرد القارس في الطريق، مستعذباً نقر المطر على زجاج النافذة، كأنه نقر أطفال على طبول صغيرة، وقد وضع على رأسه قلنسوة مصرية من الكستور، وفتح أمامه كتاب الجمهورية للفيلسوف أفلاطون، وأمسك سكيناً جعل يقشر بها بصلا، وبين آن وآن يلتفت إلى طفل في الرابعة، يلعب في أحد الأركان متقلداً سيفاً زائفاً مما يلعب به الأطفال، ومصوباً مدفعاً صغيراً من الصفيح نحو أعداء وهميين من الألمان. وكان الطفل يثرثر ويصيح، موجهاً الكلام: تارة إلى أعدائه، وتارة إلى جدته العجوز الواقفة أمام النار، تهيئ مرقاً من لحم البقر، وهي لاهية عنه وعما يقول.. وأخيرا التفت إليه وسألته:

- ألست جوعان يا جانو؟..
- نعم.. إني أحارب البوش.
فقالت جدته في تحمس:
- نعم!.. قاتل البوش يا جانو!... ولا تبق منهم أحداً على وجه الأرض!...
فرفع محسن رأسه مستغرباً هذه الكلمة، وقال:
"البوش"؟!... من هم "البوش"؟...
فابتسمت العجوز وقالت:
- هم الألمان.. نحن – عامة الفرنسيين- نطلق عليهم هذا الاسم!...
وصاح جانو:
- نعم هم الألمان.. جدتي!... لماذا هم يسمون بالبوش؟...
فتفكرت المرأة قليلاً ، ومل يسعفها علمها المحدود، وقالت:
- لست أدري!..
وأسرعت فغيرت مجرى الحديث ناظرة إلى محسن مبتسمة لانهماكه في عمله:
- برافو يا مسيو محسن!.. إنك لبارع حقاً في تقشير البصل!..
فقال محسن دون أن يبدو في نبراته تهكم أو تلميح:
- براعتك يا سيدتي في الغناء والعزف على البيانو!..
فابتسمت، ولم تدرك مراده وقالت:
- يا لك من فتى متملق!..

وأخفى محسن في نفسه ابتسامة لذكرى ذلك اليوم الذي هبط فيه هذا المنزل فقد أرادت هذه المرأة أن تدخل على نفسه السرور، وتملأ المنزل بهجة ومرحا؛ فأرسلت في طلب جرمين، زوجة ابنها، وأجلستها إلى البيانو وأخذت هي في الغناء بصوت لم يعرف له محسن أصلاً من الأصول! وإذا الغناء ينتهي بصيحة، ظنها محسن داخلة في تركيب النغم!.. ولكنها كانت صيحة شجار، دب فجأة بين الحماة وزوجة ابنها، واستفحل أمر الخلاف بينهما إلى حد أزعج الفتى، فما راعه إلا غطاء البيانو يغلق في عنف.. وزوج الابن تقوم إلى قبعتها ومعطفها، فتضعها عليها وضعاً في غضب، وتذهب نحو الباب تريد الانصراف. وانقلب المنزل في لحظة شر منقلب، وامتلأ – لا بالمرح والبهجة والسلام- ولكن بالكدر والكرب! وما من سبب ظاهر استطاع محسن أن يستخلصه لكل هذا... منذ ذلك اليوم ومحسن يحسب حساباً لعزف العجوز وغنائها.. وإذا عزفت مرة أو غنت رفع عينيه إلى السماء، وسأل المولى حسن الختام!..

الفتت العجوز مرة أخرى إلى محسن وإلى البصل، ثم قالت باسمة:
- لا بأس!... لك عندي ثمن عملك هذا يا مسيو محسن!.. أتدري ما هو الثمن؟.. سأعزف لك أغنية على البيانو!...
فلم يملك محسن نفسه وقال:
- أتسمين هذا ثمناً؟!.
ثم استدرك وقال سريعاً:
- أية أغنية؟.. ينبغي أن نتفق على الأغنية أولاً..
فقالت المرأة:
- الأغنية التي تحبها، تلك التي قلت لي إنك سمعتها في دار الأوبرا...
فاهتز محسن في كرسيه، وأنشد على الفور مطلع أغنية "سان ساينس":
"قلبي يتفتح لصوتك كما تتفتح الأزهار لقبلات الصباح!..".
فنظرت إليه المرأة في عجب:
- ما أشد حبك للموسيقى!...
- إنها في دمي!..

قالها محسن في بساطة تنم عن حقيقة عميقة، وفي لهجة تشير عن غير قصد – إلى ماضيه بأكمله!... ثم تناول السكين، واستأنف تقشير البصل، وهو يصغي في أعماق نفسه إلى أنغام تلك الأغنية ليلة أنشدتها "تينون فالان" الشهيرة، في أوبرا باريس منذ شهرين... ليلة جميلة عجيبة لا ينساها محسن، فقد رأى فيها ما لم ير من قبل، وسمع ما لم يسمع! ولقد أراد في تلك الليلة أن يتشبه- لأول مرة- بالموسرين، فاستأجر مقعداً في صفهم، وهو لا يعلم أن ذلك يستلزم لبس ثياب السهرة الرسمية، ونبهته العجوز، فحار في شأنه؛ إذ ليس لديه هذا اللباس. ورأى آخر الأمر أن يلجأ إلى الحيلة؛ فاشترى صدر قميص أبيض منشى، ربطه على صدره رباطاً وثيقاً، بخيوط "الدوبارة"، ثم أتى بأكمام منشاة ربطها كذلك حول معصميه.. وارتدى ملابسه العادية السوداء فوق هذا كله والعجوز تنظر إليه وتقول: "لو أنه حدث الليلة حادث استدعى خلع ملابسك لوجدوا فيك عجباً: إنساناً مربطاً بالخيوط من الداخل "كطرد البريد!.." وحان الوقت، ودخل محسن الأوبرا، فما تمالك أن وقف مشدوهاً: أية عظمة وأي ثراء يشعران بالدوار؟!.. وأي أنوار؟!..

عندئذ أدرك من فوره معنى مجسماً لكلمة "الحضارة الغربية الكبرى" التي بسطت جناحيها على العالم!...
نعم، ما كل هذا البذخ والإغراق في الترف، إلى حد الكفر والفجور والاستهتار؟ لكأنما جاء القوم- وأغلبهم من سراة الأمريكان- إلى هذا المكان يتساجلون الغنى والسعة وكبرياء المال، أكثر مما جاءوا يلتمسون لذة التطهر والخضوع في حضرة الفن، أو لذة العودة إلى الإنسانية والروح على يد الموسيقى!.. وصعد محسن سلّم الأوبرا المشهور، وهو يتصبب خجلاً بين الصاعدين من أصحاب الفراء الثمين، والقبعة العالية، والقميص المنشى الحقيقي، والسيدات الأنيقات في أثواب الليل البراقة، والحلي المتألقة؛ كانهن الشموس في عالم الماس.. وخيل إلى محسن أنه قد دخل بين هؤلاء القوم بالغش والتدليس، وأن هذا السلم الشهير يأنف من حلمه وقد مرت عليه السنون، وهو يحمل الجاه والمال في العالم قاطبة. ولعله المكان الوحيد الذي لا شك قد وطئَته أقدام جميع الملوك، فليس ببعيد أن يغضب السلم في هذه اللحظة ويزلزل ب محسن صائحاً: "لم يبق على آخر الزمان إلا أن يطأني، بنعله القديم، مثل هذا الصعلوك القادم من الشرق!..". وتصور محسن أن خيوطه قد تحل لسبب من الأسباب، فيسقط الصدر المنشى على الرخام ، وسط أولئك القوم المترفين فتكون الفضيحة!..

كانت ليلة أحس فيها الحرج والمذلة، وعلم أن ثمرات الفن إنما هي أيضاً حق ووقف على طبقة الأغنياء، وأن الطريق إلى الاستمتاع الروحي ينبغي أيضاً أن يفرش بالذاهب. وتمثلت له تلك الجمهورية الجميلة التي تخيلها الشعراء والفلاسفة في كل زمان: جمهورية لا تعرف الفقر ولا تعرف الغنى لأنها لا تعرف الذهب، وتعرف السلام لأنها لا تعرف الجشع.. الكل فيها مثل فرد واحد.. الكل فيها يعمل، والكل يأكل، والكل يقرأ وينعم، والكل يلعب ويمرح.. أما الذهب، فإنهم يصنعون منه مصابيح الطرقات وحوافر الجياد.. يا للسماء!... أوَ مستطاع لمثل هذا الحلم الجميل أن يتحقق يوما، على هذه الأرض؟!..

وتنبه محسن قليلاً، وترك تأملاته، ورفع رأسه؛ فألفى السكون قد هبط على هذا المنزل الريفي الصغير، ولم يسمع إلا صوت لغط الدجاج في الحديقة، وصياح الديكة وهرج الإوز، ثم ثرثرة جانو مخاطباً لعبه بين آن وآن... وكأنما سئم جانو اللعب آخر الأمر، فنهض ودنا من المرأة صائحاً في لهجته الصبيانية:
- جدتي!.. الدجاجة الحمراء تبيض اليوم..

فأجابت جدته في تقطيب:
- جانو!.. إني لا آذن لك في الذهاب إلى الدجاج بمفردك..
- سأذهب مع مسيو محسن..
- لن تذهب اليوم!.. إن المطر ينهمر في الخارج والبرد شديد!...
- وماذا أصنع الآن؟..
- حارب البوش!..
- حاربتهم..
- قص على مسيو محسن كيف أراد الألمان أن يدمروا باريس!.. ألا تذكر ما قلته لك عن هذا؟..
- نعم.. إني أريد أن أعود إلى منزلنا!..
- منزلكم خاو الان، وليس به أحد.. أنت تعلم أن أباك وأمك لا يرجعان من المصنع قبل الغروب!..

ودمدم الطفل وتبرم في صوت كالبكاء، ثم مشى في بطء إلى حيث يجلس محسن، وجعل ينظر إليه، ثم مد يده الصغيرة إلى الكتاب المفتوح فوق المائدة، وطفق يقلب صفحاته باحثاً عن صورة فيه. ولم يتحرك محسن؛ فقد كان عقله مشغولاً، ونظراته جامدة، لا تتجه إلى شيء بعينه؛ إنما كان يتساءل في أعماق نفسه:

أليس في كل فرنسا أمهات يلقن أطفالهن كراهية الألمان؟... ومن يدري؟.. لعل كل نساء ألمانيا يعلمن أطفالهن كذلك بغض الفرنسيين!.. ولتكن الأسباب ما تكون.. بأي حق تستطيع أم أن تنشئ ولدها على العداوة والبغضاء؟...

ولكنه هو أيضاً نُشِّئ على الكراهية.. كراهية الإنجليز.. أنه لن ينسى قط صورة أبيه الشاحبة حين دخل البيت – ذات مساء- مضطرباً، متأثراً...
كان محسن يسمع المستشار من فتحة الباب يخاطب زوجه، ويقول : إما التخلي عن الوظيفة.. وإما التخلي عن ضميري كقاض.. إن أكل العيش أصبح مهدداً..

كانت أم محسن عملية، متيقظة، فأحست بانتفاضة.. كانت طبيعتها متغيرة، متناقضة.. فهي شجاعة، ومع ذلك تراها خائفة.. وهي رحيمة وقاسية.. قوية وضعيفة.. وهي تحب العظمة إلى أبعد الحدود، ولكن العظمة التي لا تكلف صاحبها شيئاً كثيراً، والتي لا تتطلب التضحية، ولا التي تهدد الحياة، ولا حتى الأرزاق..

كانت تفهم معنى الكلمات الرنانة مثل: الضمير – الحكمة – الشجاعة...
وحالما علمت أن ضمير زوجها القاضي، كان ألعوبة، لم تتردد في أن ترتفع بأفكارها .. ناسية في هذه اللحظة ما يترتب على فقدان المركز، فأعلنت رأيها لزوجها قائلة: إن ضمير القاضي وشرفه قبل كل شيء...

لقد كانت تعلم كل ما يدور حول هذا الموضوع... والناس يتكلمون عن قضية في الاستئناف... والهمس يدور في كل مكان.. "إن القضية مؤامرة من مؤامرات الإنجليز" ضد مدير أحد أقاليم الدلتا الذي اتهموه بالكبرياء...

وكان المدير ابناً لإحدى الأسر الغنية في الوجه القبلي، تلقى علومه في "أكسفورد"، وعاش مدة كبيرة في أنجلترا، وكان يحبها مثل ما يحب بلاده، بل كان يحب كل ما هو إنجليزي..
وجاء إلى بلده، فكان يرسل ملابسه مرتين في الشهر إلى إنجلترا لغسلها وكيّها... ثم عين يوماً مديراً لإحدى محافظات الوجه البحري- وهناك اكتشف لأول مرة وجه الانجليزي الحقيقي..

لم يكن ذلك الجنتلمان الذي عرفه في إنجلترا "رجلاً محبوباً وشريفاً". لقد أصبح كائناً آخر، ذا خلق يتعارض مع مثيله الإنجليزي في بلاده.. إنه الحاكم الذي يفرض سلطانه، ويصدر أوامره على أكبر الشخصيات المصرية... إنه لأمر عادي أن يستقبل المدير – وهو موظف كبير- أي موظف إنجليزي صغير يمر بالمحافظة...

وكان هذا المدير – صديق الإنجليز- غير جاهل هذا التقليد المهين، ولكن الشيء الذي كان يجهله أن ذاك الإنجليزي المحتل لا يقر صداقته للمصري... إن قاموسه لا يحوي غير كلمتي "سيد وعبد"...
إن المدير، كان قد قرر الاستقالة، ولما علم الإنجليز بذلك لفقوا له تهمة.. فاتهموه ظلماً بأنه عذب بعض المتهمين في قضية للحصول على اعترافات منهم، وهذا عمل غير مشروع في قوانين الإنسانية، والقوانين المدنية!!...

لقد كانت عمليات ظاهرها الرحمة، وباطنها الانتقام من شخص أرادوا إذلاله.. فباسم الإنسانية يهاجمون أعداءهم ويحاكمونهم... هذه كانت طريقة الإنجليز التي يتقنونها...
وكان – في الحقيقة – مديرنا يجهل كل هذا التدبير.. إن الجناة يبرّءون، والأبرياء يصبحون جناة، وهم في كل ذلك لا يعدمون الوسائل..

وكان أبو محسن مكلفاً بالنطق بالحكم في هذه القضية. وبعد أن حقق القضية جيدا، ورأى الجروح المفتعلة في أجسام المصابين، وعلم حقيقتها.. خافوا ألا تكون هذه أدلة قاطعة ، فجاءوا إليه بمن يسر في أذنه ويقول له: "يجب أن يكون حكمك مديناً للمدير، وإلا..".

وكان القاضي يعلم يقيناً ببراءة المدير، كما كان الرأي العام يعرف ذلك..
وجاءت الوعود بعد التهديد لعلها تفيد... فقد لمحوا له بالإنعام عليه بالرتب والنياشين في غداة الحكم..
فماذا عساه يفعل...؟
لذلك، كانت أم محسن تتغلب على نزعتها، وطبيعتها وتقول لزوجها: احكم بحسب ضميرك يا عزيزي، وليكن ما يكون...
وحكم القاضي بالبراءة... ولكن هذا لم يمنع المعتدين من أن يجدوا نصاً قانونياً عاونهم على تحويل القضية إلى قاض آخر يتعاون معهم على إدانة المدير، والذي أصبح بعد تلك القضية زعيماً من زعماء الثورة المصرية...
.............
وتنبه محسن من تأملاته وذكرياته... فقد انتشرت في المكان رائحة شواء شهي، فرفع بصره، فألفى المرأة تخرج من الفرن فخذاً من لحم البقر، أخذت تدهنه بالزبد وهي تقول:
- سيحضرون هذا المساء في الساعة السابعة للعشاء!..
فقاطعها جانو صائحاً في فرح:
- وهل جيزيل ستحضر أيضاً يا جدتي؟..
فابتسمت المرأة والتفت إلى محسن غامزة بعينها:
- بالطبع ستحضر جيزيل مع والديها!..
فتهلل وجه الطفل، وطفق يثرثر كالببغاء، وابتسم محسن متذكراً أيام الطفولة الأولى!..
................
دقت الساعة الواحدة في مصانع كوربفوا القريبة، فأسرعت المرأة إلى قاعة الأكل وجعلت تهيئ مائدة الغداء، وسمع صرير مفتاح في الباب الخارجي، ثم بدا في الدار شيخ، ما كاد جانو يسمع صوت نعله وسعاله حتى انطلق نحوه يجري ويصيح:

- جدي حضر...! جدي حضر...!
ودخل الرجل المطبخ، ونشر مظلة في يده بللها ماء المطر، ومد يده إلى النار، وهو يحادث زوجه في شؤون المعاش بعبارات يقطعها سعال عنيف.. وأصغت إليه المرأة حتى فرغ من حديثه، فقالت له في صوت اليائس:
- صفوة القول، ليس لنا أن نأمل في عمل بأحد المصانع، أليس الأمر كذلك؟..
- الوقت عسير يا عزيزتي، والمصانع لا تريد أن تمنح أمثالنا القوت ، لأن لديها حاجتها من العمال.. من أولئك العمال المساكين الذين تسخرهم طول اليوم من أجل لقمة كالعبيد!..

- وماذا نصنع نحن إذن؟... ينبغي أن تذكر أو ولديك أندريه ومارسيل لن يستطيعا بعد اليوم إمدادنا بالمال فلقد اعتزم اندريه إلحاق جانو بمدرسة داخلية وفي هذا باب جديد للنفقات سيتكلفه المسكين، كذلك مارسيل يتكلف الباهظ من المال منذ عام في الإنفاق على تعليم جيزيل!..
فأطرق الرجل ملياً.. ثم قال:

- صدقت!.. ليس لنا إذن من مورد إلا..
والتفت يمنة ويسرة باحثاً عن محسن بعينين خابيتين تحت المنظار.. وأدركت المرأة مراده، والتفتت إلى مكان محسن من مائدة المطبخ فوجدته خالياً فقالت:
- عصفور الشرق صعد إلى حجرته من غير شك، كي يضع كتابه ويتهيأ للغداء... نعم ليس لنا من مورد إلا ما يدفعه هذا الشاب..
صمت الرجل لحظة متفكراً، ثم قال:
- أترى تطول إقامته بيننا؟..
- من يدري؟.. لقد قال لي ذات يوم إنه سيمكث عامين أو ثلاثة.. آمل ألا يسأم حياة الريف، ويفر على باريس!..
فظهر القلق على وجه الشيخ، ثم نظر مفكراً إلى النار المتأججة في الوجاق، وقال كمن يدخل على نفسه الاطمئنان:
- كلا ؛ إنه فيما يبدو لي، شاب لا يميل إلى اللهو كسائر الشبان!...
- حقيقة، إنه لا يحب سوى المطالعة والتأمل والموسيقى، لكن من يدري إن كان يلبث فينا كل مدته؟.. ليس لنا إلا نأمل!..
هز الرجل رأسه وأطرق صامتاً، ثم دس يده في جيبه، وأخرج لفافة تبغ، وجاء جانو يجري وقفز إلى ساق جده فامتطاها، كما يمتطى الحصان، وطفق يحدثه بمجيء جيزيل المنتظر!..

( الفصل الثالث )


فرغوا من الغداء، وانصرفت المرأة إلى الأواني والأطباق تغسلها في المطبخ وتتأهب للعشاء، وجلس زوجها على مقربة منها يدخن ويطالع جريدة الأومانيتيه – الانسانية- المنتشرة في طبقة العمال وأهل الفاقة...

وخلا جانو إلى لعبه ومدافعه وحربه الضروس، وأغلق محسن حجرته عليه، ووضع كتابه أمامه وقرأ صفحتين، ثم جمدت عيناه على الكتاب، ولم يعد يقرأ أو يبصر شيئاً؛ فقد ترك الحجرة، وغادر الأرض وضل في بحار التأملات!...

وأقبل المساء أخيراً، ورن جرس باب الحديقة، فترك جانو لعبه وأسرع نحوه، ثم لم يلبث أ، صاح في فرح:
- ماما حضرت!.. بابا حضر!..

وظهرت امرأة في مقتبل العمر، جذابة الوجه، تعلق بها جانو، وهي تدفعه عنها في رفق، وخلفها زوجها أندريه، وعليهما هما الاثنان- مظاهر التعب والقوى المنهوكة. ومسحت العجوز يديها في فوطة المطبخ التي ترتديها، وأقبلت على زوج ابنها تعانقها، وتتأمل وجهها وتقول في حسرة متصنعة:

- إنك متعبة منهوكة القوى يا جرمين!...
فأجابت الزوجة وهي تنظر إلى زوجها الشاب:
- إننا لم نخرج من المصنع إلا الساعة!..
واتجهت العجوز إلى ابنها تعانقه، وتصيح في حرارة حقيقية:
- وأنت أيضا يا أندريه!... ما كل هذا الشحوب؟!...
- إننا يا أماه نعمل ثماني ساعات في النهار!..

قالها أندريه وهو ينظر إلى أبيه، وكان أبوه قد طرح الصحيفة من يده واتجه إلى جرمين وجانو يباسطهما. فلما سمع قول أندريه صاح في حدة:
- يا لها من وحشية!.. إن هذا لم يعد يسمى عملاً، إنما هو الاسترقاق... الرق لم يذهب من الوجود... لقد اتخذ شكلاً آخر يناسب القرن العشرين... ها هي ذي جيوش من العبيد يسخرها أفراد معدودون من السادة الرأسماليين!..

ورفع جانو بصره إلى جده، ولم يدرك سبباً لحدته!..
وحانت من أندريه التفاتة إلى الصحيفة الملقاة على الأرض ، فابتسم وقال:
- أهذا ما قرأته اليوم في الأومانيتيه يا أبتاه؟...
فأجاب الرجل في جِد وحدة:
- نعم أوليس هذا هو الحق؟!..
- من غير شك هذا هو الحق، ولكن ماذا نصنع نحن الفقراء؟..
- ينبغي أن تنقص ساعات العمل على الأقل، حتى تستردوا بعض حريتكم، وبعض وقتكم، وحتى تنقذوا ما بقي لكم من صحتكم، وحتى نجد لنا – نحن العاطلين – عملاً وكسبا نسد به الرمق!..
- إنك تجهد نفسك في الكلام يا أبتاه!. لقد قلت الحقيقة: نحن عبيد القرن العشرين، ومتى كان للعبيد حق الاعتراض أو حتى الاقتراح؟!..
وأراد الشيخ أن يجيب، ولكن جانو تململ ونظر إلى والديه وإلى جدته وصاح:
- لماذا أبطأت جيزيل؟...

وجعل الطفل يجذب ثياب أمه ملحاً في السؤال ، فضربت الأم على يده الصغيرة في لطف، وخلصت ثيابها منه. وأرادت جدته أن تقصيه فقالت له:
- اذهب وجيء بمسيو محسن؛ فقد أزف ميعاد العشاء!..
وتنبه أندريه فسأل على الفور:
- أين عصفور الشرق؟.. لقد فاتني أن أسأل عنه ساعة دخولي؟!..
- في حجرته!..
فاتجه أندريه نحو سلم الدار، ثم عاد يقول:
- لست أرى نوراً في حجرته!..
فأجابت الأم العجوز، وهي تقطع رغيفاً طويلاً من الخبز:
- إنه في حجرته.. جالس إلى مكتبه. وطالما يفاجئه المساء، وهو أمام كتابه بلا حراك، وكثيراً ما أدخل حجرته فأجد الظلام مخيماً عليه، وهو جالس جامد كالتمثال؛ فأدير له مفتاح الكهرباء!..
- إنه غريب الأطوار!.. إني أعرفه حق المعرفة!..
وعندئذ دق جرس الباب الحديدي، فمرق جانو من بين الجميع إلى الباب، وهو يصيح كالعصفور الصغير:
- جيزيل!..
.............
اجتمع الكل حول المائدة، وكانوا قد انتهوا من العشاء منذ قليل، ولبثوا في مقاعدهم يتحدثون عن الاشتراكية، وقد فشا أمرها في باريس، وأمست بدعة من البدع يتبعها الناس مقلدين.. إن الحياة أمست عسيرة، وإن سعر الفرنك هوى إلى الحضيض، وإن فرنسا الآن فريسة أصحاب المال الأمريكيين، وإن هؤلاء الأمريكان قد بلغ من عتوهم واعتدادهم بثرائهم أن الواحد منهم لا يوقد سيكارة إلا بورقة مالية مشتعلة، تحت أنظار الشعب الفرنسي الفقير!.. هنالك صاح زوجها الشيخ في غيظ:

- يا لهم من أنذال!!..
ثم استطردت العجوز فجأة، وكأنها استكشفت شيئاً:
- لا ريب في أنهم السبب في غلاء أسعار الخضر واللحم والفاكهة!..
وألقت نظرة استفهام على الحاضرين، فإذا هي ترى جانو وابنه عمه جيزيل قد جلسا متلاصقين يأكلان الجاتوه ولا يكفان عن الكلام!..

ونفذ نصيب جانو فجعل بنظر إلى جيزيل التي تكبره بعامين، وهي تأكل في تؤدة وكياسة. وفطنت الطفلة على فمه العاطل، وإلى نظراته الطامعة، فما ترددت، وتقدمت إلى صديقها بكل ما بقي لها... ولم يأب عليها جانو، وقبل منها هديتها، وطفق يلتهم ما أعطته إياه، وهو ينظر إليها بعينين باسمتين، كلهما اعتراف بالجميل، كلنه لم يقل شيئاً.. هنالك تجهمت له جدته وصاحت به:

- جانو!.. ألا تقول لها شيئاً؟!..
فالتفت الطفل إلى جدته في سذاجة:
- أقول ماذا؟..
- تقول ماذا؟.. تقول ما يقول الناس عندما يتقبلون شيئاً من الغير؟..
- ماذا يقول الناس؟..
- يقولون: شكراً، ولقد علمتك ذلك ألف مرة...

ثم التفتت إلى والدي الطفل في قنوط:
- لم يبق لي جلد على تهذيب هذا الغلام، وإني أصارحكما القول: هذا ليس عملي، إنما هو من عمل الأبوين، وما دمتما تتركان لي ابنكما طول النهار، وتنصرفان إلى المصنع، فلا أمل في أن ينشأ ولدكما على الخلق القويم!..
فأجاب أندريه في غير اكتراث:
- وهل تظنين يا أماه أن هذا من عملنا نحن؟.. هذا من عمل المدرسة، وسندخله المدرسة؛ أما نحن فلدينا عمل آخر كما تعلمين!..
- نعم .. المصنع!..
فقال الشيخ في تهكم:
- بالطبع .. المصنع!!..
فهزت جرمين كتفيها، فقالت العجوز في حدة:
- لا تهزي كتفيك يا جرمين!.. إياك أن تنسى لحظة أهمية تأثير البيت.. في زماننا كان البيت هو كل شيء!.. آه لقد ذهب كل شيء طيب بذهاب زماننا!...
فقال أندريه وأخوه مارسيل في وقت واحد:
- أين هو البيت اليوم يا أماه؟..
فتأملت العجوز قليلاً هذا القول منهما، ثم أجابت:
- صدقتما، لم يعد هنالك بيت واأسفاه! ولم تعد هنالك أسرة... الرجل والمرأة في المصنع طوال النهار!.. يا له من زمن عجيب!...
فقال الشيخ في قوة واقتناع:
- قلت لكم هذا عصر العبيد قد عاد من جديد!..

وانتبه محسن لهذه العبارة، فلمعت عيناه ببريق غريب، ثم لم يلبث أن استأذن من الحاضرين في الصعود إلى حجرته، فأذنوا له باسمين، فصعد وجلس إلى مكتبه في الظلام، وهو يهمس:
-" نعم، لن يذهب الرق من الوجود.. لكل عصر رقه وعبيده!...

( الفصل الرابع )
لم يمكث محسن طويلاً غارقاً في تأملاته؛ فقد ضُرب عليه الباب فانتبه، وإذا بصديقه أندريه وزوجته جرمين يصيحان به:
- عصفور الشرق وحيد في القفص!...
فقال محسن كالمخاطب نفسه:
- إني دائماً في قفص!..
فقال أندريه في ابتسامة خبث:
- في قفص الحب سجين أيها المسكين!..
- نعم سجين!..
- أتعترف بهذه السهولة؟...
- وما فائدة الانكار؟...
- ولماذا لا تنطلق حراً مغرداً في فضاء الحب؟...
فأسرع أندريه قائلاً:
- إنك تطلبين المستحيل.. إنه سيظل دائماً هكذا.. أنه حتى الآن لم ينجح حتى في الوصول إلى معرفة اسمها...
فقالت جرمين في ضحكة خفيفة:
- لم يعرف بعد اسمها؟!.. حقاً إنه لمحب خائب!..
فاتخذ وجه محسن لون الجد الصارم، وقال في هدوء وموافقة واقتناع:
- أما أني محب خائب، فهذا صحيح، ولا محل للجدل فيه، وقد أعيتني هذه الخيبة في كل زمان ومكان!..
فقال أندريه سائلاً:
- ألم ترها اليوم؟..
- لم أرها منذ أسبوع، ولم أنصرف إلى غير مطالعاتي.. إن الكتب تستطيع أن تشغل رأسي حقيقة، لكن هل الرأس هو كل شيء في حياة إنسان؟.. آه!.. إن أجمل لحظاتي ساعة أقف أمامها أنتظر، وأنا أعلم أنها لن تلقي إليّ بكلمة تسر خاطري.. مرة واحدة نبذت إليّ عفواً بنظرة، وقالت لي:
أما تزال واقفاً هنا؟!.. أي مخلوق أنت؟!..
- وما قصدها من هذا؟..
- لست أدري!.. فسر هذه الجملة كما تشاء.. أما أنا فقد فسرتها طبعاً لمصلحتي.. إني أحب هذه العبارات المبهمة التي أتخيل معناها كما أشاء!..
- إنك رجل خيالي ، وهذه مصيبتك!..
قالها أندريه وهو ينظر إلى جرمين، فأمنت على قوله برأسها وأضافت:
- من غير شك، لا سبب عندي لفشل محسن غير أنه خيالي أكثر مما ينبغي؛ والمرأة لا تقنع بالخيال، بل بالحقيقة...
فلم يعترض محسن وقال في إذعان:
- واين هذه الحقيقة؟.. دلاني على هذه الحقيقة التي أكسب بها عطف المرأة؟!..
فقالت جرمين:
- أتريد أن تعلم أين تجد هذه الحقيقة؟..
- نعم أخبريني أين هي، وأنا لا أنسى لك أبداً هذا الجميل!..
- إنها تشترى بالثمن!...
- كم الثمن؟.. كل حياتي فيما أعتقد!..
- بل عشرون فرنكا فقط...
- أتمزحين؟..
- بل أقول جداً.. عشرون فرنكا فقط تشتري بها من حانوت شارع هوسمان زجاجة عطر هوبيجان صغيرة وتقدمها إلى صاحبتك في الصباح... هذه هي كل الحقيقة... فهمت؟...
فحلق محسن في الفضاء؛ كأنما قد كشف عنه حجاب، ثم التفت إلى جرمين وقال:
- أحقاً ما تقولين؟..
فابتسمت جرمين وقالت في صوت المتعجب:
- يدهشني أن فتى ذكياً مثلك يجهل هذا!..
- قارورة "هوبيجان" فقط؟!... ثمنها عشرون فرنكا!.. إنك تبالغين يا سيدتي!.. إنها لجديرة بأن أضع تحت شباكها قلبي كله!..
- شباكها؟!..
- لن أقدم إليها شيئاً زهيداً من هذه الأشياء!..
- أين صاحبتك يا محسن؟..
فأجاب أندريه في الحال عن صديقه باسماً:
- قلت لك يا جرمين إنه لا يعرف من هي، ولا يدري عنها شيئاَ!..
فقال محسن، دون أن يخرج عن هدوئه:
- هذا صحيح!..
وازداد عجب جرمين فقالت تسأل الفتى:
- يا للغرابة!.. وأين تراها إذن؟!..
فأجاب محسن:
- أراها في شباكها، تشرف على الناس بعينين من فيروز، وهم يمرون أمامها الواحد تلو الآخر، من كل جنس ومن كل طبقة، فيهم الفقير مثلي، وفيهم الموسر مثل ملك من الملوك.. فيهم الجميل والقبيح، وفيهم العجوز والشاب، وفيهم السعداء والتعساء، وفيهم الأخيار والأشرار، وفيهم الشجعان والجبناء، وفيهم الجريء والخجول... نعم!.. يمر بين يديها كل يوم هذا الموكب، وهي تبسم من شباكها بين آن وآن دون أن يعرف أحد سر قلبها!..
فنظرت جرمين إلى محسن ملياً، ثم قالت:
- أهذه المرأة في باريس؟.. أم في كتاب ألف ليلة وليلة؟!..
وقال أندريه ضاحكاً:
- وهذا الشباك أين هو؟... في أي قصر سحري؟!...
وأردفت جرمين ضاحكة:
- وهل توجد حقاً في باريس تلك المرأة التي يمر بين يديها الناس وهي في الشباك؟!..
فأجاب محسن في هدوء:
- في شباك التذاكر!..
فصاحت جرمين وقد فهمت مراده:
- آه!.. هي عاملة في شباك تذاكر...
- تياترو الأوديون!...
قالها محسن كالحالم، وضحكت جرمين ، وضحك أندريه ثم قال:
- أتسمه نصيحتي يا محسن؟..اذهب غداً وقدم إليها طاقة من الزهر، ثم ادعها إلى العشاء في مطعم من المطاعم!...
فتفكر محسن قليلاً ثم قال:
- وإذا لم تقبل مني طاقة الزهر؟!..
فقالت جرمين من فورها:
- لا يوجد امرأة في باريس ترفض طاقة من الزهر!..


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عصفور الحزن......... Nay-zain الترحيب بالاعضاء الجدد ومناسبات أصدقاء المجلة 11 November 13, 2009 03:35 PM
عصفور الشمال adhamhero2008 روايات و قصص منشورة ومنقولة 3 March 8, 2009 01:21 AM
الحصان الحكيم abeer_elroh الاسرة والمجتمع 0 December 13, 2008 07:29 PM
الحكيم وليد الحكيم الترحيب بالاعضاء الجدد ومناسبات أصدقاء المجلة 4 June 14, 2008 11:41 AM


الساعة الآن 06:49 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر