مجلة الإبتسامة

مجلة الإبتسامة (https://www.ibtesamah.com/)
-   النصح و التوعيه (https://www.ibtesamah.com/forumdisplay-f_89.html)
-   -   فوائد عظيمة في سورة الإخلاص- والمعوذتين-------سبحان الله (https://www.ibtesamah.com/showthread-t_254007.html)

عيسى سالم سدحان January 8, 2011 09:28 PM

فوائد عظيمة في سورة الإخلاص- والمعوذتين-------سبحان الله
 

الإهداء
أهدي هذه السلسلة المباركة لجميع المسلمين، وبخاصة طلاب العلم الشرعي، وأخص منهم أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وكل من ينشد السعادة ويستلهم الرشد والهداية من كتاب الله عز وجل.
والله أسأل أن يعم بنفعه، وأن يضاعف أجره لي ولوالدي ووالديهم، ولكل من استفدت منهم من علماء المسلمين في التفسير وغيره، وكل من كان عونًا لي – ولو بالتشجيع - على هذا العمل، وأن يبارك في ثوابه لأهلي وأولادي وإخواني وأخواتي وجميع أقاربي وجيراني، ومن أحبني في الله، ومن أحببته في الله، ومشائخي وزملائي وطلابي، وجميع إخواني المسلمين؛ فإن فضله - عز وجل - عظيم، وكرمه واسع، وجوده عميم.
أخي الكريم: هذا العمل جهد المقل، ولا يخلو من تقصير؛ كغيره من أعمال البشر، وكما قيل:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه


المؤلف
القصيم – بريدة
ص.ب 23440

المقدمة
الحمد لله الذي أنزل القرآن، وجعله للذين آمنوا هدى وشفاء، يشفي بإذن الله عز وجل أمراض القلوب والأبدان، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعـد:
فإن أعظم مصائب المسلمين اليوم بعد كثير منهم عن دينهم، وعن منهج التلقي الصحيح: كتاب الله وسنة رسوله ?؛ مما كان سببًا في ضعف عقائدهم، واهتزاز شخصية كثير منهم، وتلاعب شياطين الإنس والجن فيهم.
وإن مما يندى له جبين كل مسلم غيور على معتقد الأمة ما أصيب به كثير من المسلمين اليوم من ضعف في اليقين والتوكل على الله، حتى أصبح بعض منهم بسبب ذلك تنتابه المخاوف على مستقبله، فتارة يخاف من العين، وتارة من السحر، وتارة من الجن، وتارة منها كلها، ومع أن هذه الأعراض كلها حق دل عليها الكتاب والسنة فإن من ضعف اليقين وضعف التوكل على الله أن يستسلم المسلم لوساوس شياطين الإنس والجن، فبمجرد ما يحس بعض الناس بأي ألم في جسمه يوسوس له الشيطان أن هذا عين أو سحر أو كذا وكذا، وسرعان ما تنقلب هذه الوساوس والأوهام إلى مسلمات وحقائق لدى سفهاء الأحلام وضعاف الإيمان عندما يؤكدها شياطين الإنس من الدجالين والسحرة والمشعوذين وغيرهم ممن لا خلاق لهم ولا دين يردعهم، وممن جعلوا هذا العمل وسيلة للكسب والتجارة، فلعبوا في عقول كثير من الناس، بل وفي عقائدهم، فخرجوا بهم من الحقيقة إلى الوهم والخيال، بما توسوس لهم به شياطين الجن؛ شعروا بذلك أو لم يشعروا، فعلى كل من أراد سلامة دينه الحذر منهم وعدم تصديقهم، وإن ظهر على أيديهم ما يوهم صدقهم أحيانًا، ابتلاءً واختبارًا لهم ولغيرهم، فلا يغتر بهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وعلامة هؤلاء الشياطين دخولهم في دعوى علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فإذا جاءهم المريض – ولو توهما – قالوا: فيك كذا وكذا؛ رجمًا بالغيب والعياذ بالله، وقد قال الله عز وجل {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}( )، فكم اتهموا من بريء، وكم روجوا من فرية، ففرقوا عياذًا بالله بهذا الدجل بين الأقارب والجيران، والأخوات، والإخوان، بل بين الآباء والأبناء، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكيف يحصل هذا وكتاب الله بين أظهرنا فيه الشفاء التام من جميع الأمراض والأسقام، وما حالنا إلا كما قيل:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول

وقد جمعت في هذا الكتاب كلام أهل العلم من المفسرين وغيرهم على سورة الإخلاص والمعوذتين والتي في تدبرها بإذن الله عز وجل قراءة وفهمًا وتطبيقًا واعتقادًا الوقاية والشفاء بإذن الله عز وجل، والاستغناء التام عن دجل الدجالين وشعوذة المشعوذين، مع معرفة ما هم عليه من الحدس والتخمين والضلال المبين، وقد سميت هذا الكتاب: «الحرز الأمين في تدبر سورة الإخلاص والمعوذتين». والله أسأل أن ينفع به جميع إخواني المسلمين، وأن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
المؤلف
* * *
سورة الإخلاص
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.
سبب نزول هذه السورة:
عن أبي بن كعب ? قال: «إن المشركين قالوا للنبي ?: انسب لنا ربك. فأنزل الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}( ).
وعن جابر بن عبد الله ?: «أن أعرابيًا جاء إلى النبي ?، فقال: انسب لنا ربك. فأنزل الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخرها»( ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جاءت اليهود إلى النبي ?، منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، فقالوا: يا محمد صف لنا ربك، الذي بعثك، فأنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ} فيخرج منه شيء {وَلَمْ يُولَدْ} فيخرج من شيء»( ).
ومحصل هذه الروايات بمجموعها أن المشركين من أهل مكة ومن أهل الكتاب سألوا النبي ? أن ينسب ويصف لهم ربه فأنزل الله هذه السور.
فضل هذه السورة:
سورة الإخلاص سورة عظيمة من أعظم سور القرآن الكريم؛ لما اشتملت عليه من الدلالة على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات ( )؛ ولهذا سميت سورة الإخلاص.
وقد وردت أحاديث عدة في فضلها، وفضل قراءتها في الصلاة وخارجها، وفي أدبار الصلوات، وفي الصباح والمساء، وعند النوم والقيام منه، وللاستشفاء بها، وفي أنها تعدل ثلث القرآن إلى غير ذلك. منها ما يلي:
أ- ما ورد في فضل قراءتها وفضل حبها وحب قراءتها:
عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي ? بعث رجلاً في سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ?، فقال: سلوه، لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي ?: «أخبروه أن الله تعالى يحبه»( ).
وعن أنس بن مالك ? قال: «كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك، حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى. فقال: ما أنا بتاركها؛ إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي ? أخبروه الخبر، فقال: «يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه في كل ركعة؟ قال: إني أحبها، قال: «حبك إياها أدخلك الجنة»( ).
وعن أبي هريرة ? قال: أقبلت مع النبي ? فسمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقال رسول الله ?: «وجبت. قلت: وما وجبت؟ قال: الجنة»( ).
وعن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله ? قال: «من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرًا في الجنة»، فقال عمر: إذن نستكثر يا رسول الله؟ فقال رسول الله ?: «الله أكثر وأطيب»( ).
ب- ما ورد في أنها تعدل ثلث القرآن:
عن أبي سعيد الخدري ? أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي ?، فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، فقال النبي ?: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن»( ).
وفي رواية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ? لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟» فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: «{اللَّهُ الصَّمَدُ} ثلث القرآن»( ).
وفي رواية عن أبي سعيد ? قال: بات قتادة بن النعمان يقرأ الليل كله بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فذكر ذلك للنبي ? فقال: «والذي نفسي بيده لتعدل نصف القرآن، أو ثلثه»( ).
وعن أبي هريرة ? قال: قال رسول الله ?: «أحشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن». فحشد من حشد، ثم خرج النبي ?، فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله ?: «فإني سأقرا عليكم ثلث القرآن، إني لأرى هذا خبرًا جاء من السماء»، ثم خرج نبي الله ?، فقال: «إني قلت سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن»( ).
جـ- ما ورد في فضل قراءتها مع المعوذتين في الصباح والمساء:
عن معاذ بن عبد الله بن خبيب ? أن رسول الله ? قال له: «قل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء»( ).
وعن عقبة بن عامر ? قال: لقيت رسول الله ? فابتدأته، فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله بم نجاة المؤمن؟ قال: «يا عقبة: أخرس لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك»( ). قال: ثم لقيني رسول الله ? فابتدأني فأخذ بيدي فقال: «يا عقبة بن عامر: ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم؟» قال: قلت: بلى، جعلني الله فداك. قال: فأقرأني {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم قال: «يا عقبة، لا تنسهن، ولا تبت ليلة حتى تقرأهن»، قال: فما نسيتهن منذ قال: «لا تنسهن»، وما بت ليلة قط، حتى أقرأهن. قال عقبة: ثم لقيت رسول الله ? فابتدأته، فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال. فقال: «يا عقبة، صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك ( )»( ).
د- ما ورد في قراءتها مع المعوذتين عند النوم:
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي ? كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثم يمسح ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات»( ).
هـ- ما جاء أن فيها اسم الله الأعظم:
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه ? أنه دخل مع رسول الله ? المسجد فإذا رجل يصلي يدعو، يقول: «اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد». قال: «والذي نفسي بيده لقد سأله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعى به أجاب»( ).
معاني المفردات والجمل:
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
قوله: {قُلْ}: أمر للنبي ? ولكل من يصلح له الأمر والخطاب من أفراد أمته، قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى ( ): «أي: قل قولاً جازمًا به، معتقدًا له، عارفًا بمعناه».
قوله: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}: «هو»: ضمير الشأن مبتدأ، وخبره «الله أحد» والجملة من المبتدأ وخبره في محل نصب مقول القول، وكذا ما بعدها.
ولفظ الجلالة «الله» معناه المألوه المعبود محبة وتعظيمًا.
وقال: (أحد)، ولم يقل: الأحد؛ لأنه ليس في الموجودات ما يسمى أحدًا في الإثبات مفردًا غير مضاف سواه سبحانه وتعالى؛ بخلاف النفي وما في معناه؛ كالشرط والاستفهام؛ فإنه يقال: هل عندك أحد، وما جاءني أحد ( ).
وقوله: (أحد): أي الواحد الأحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولهذا قال بعده: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.
قال ابن كثير ( ) رحمه الله تعالى: «يعني هو الواحد الأحد، الذي لا نظير له، ولا وزير، ولا نديد ولا شبيه، ولا عديل. ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عز وجل؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله».
وقال السعدي ( ): «{هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}: أي: قد انحصرت فيه الأحدية؛ فهو الأحد المنفرد بالكمال الذي له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا، والأفعال المقدسة، الذي لا نظير له، ولا مثيل».
قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل رفع خبر ثان لـ «هو».
وأدخل «ال» على الصمد؛ لأن المستحق لوصف الصمدية على الكمال والتمام هو الله وحده لا شريك له؛ بخلاف المخلوق؛ فهو وإن سمي صمدًا من بعض الوجوه فلا يقال له: «الصمد» بالصمدية المطلقة؛ وإنما يقال له «صمد» بمطلق الصمدية ( ).
و {الصَّمَدُ} المقصود في جميع الحوائج، المستغني عن كل ما سواه، والذي كل ما سواه محتاج ومفتقر إليه ( )، الذي تصمد وتتجه إليه الخلائق، وتقصده في طلب قضاء حوائجهم ومسائلهم الدينية والدنيوية، قال تعالى: {إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}( ).
وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}( ).
وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}( ).
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}( ).
والصمد: السيد الذي قد كمل في سؤدده، والذي بلغ من كل وصف مما يوصف به غاية كماله ونهايته، سؤددا وشرفًا وعظمة وحلمًا وعلمًا وحكمة وحكما، الحي القيوم الذي لا زوال له، والذي لم يلد ولم يولد، والصمد الذي لا جوف له، وقيل غير ذلك( ).
قال ابن تيمية ( ) بعدما ذكر الأقوال في معنى «الصمد» - قال: «قلت: الاشتقاق يشهد للقولين جميعًا؛ قول من قال: إن الصمد الذي لا جوف له، وقول من قال: إنه السيد، وهو على الأول أدل؛ فإن الأول أصل الثاني».
وقال ابن كثير ( ) بعد سياق كثير من الأقوال في معنى «الصمد»: «وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني في «كتاب السنة» له بعد إيراده كثيرًا من هذه الأقوال في تفسيره «الصمد»: وكل هذه صحيحة، وهي صفات ربنا عز وجل، هو الذي يصمد إليه في الحوائج، وهو الذي قد انتهى سؤدده، وهو الصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خلقه. وقال البيهقي نحو ذلك».
قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} أي: لم يكن له ولد، كما قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}( )، وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا}( ).
وقال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}( ).
وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}( ).
وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}( ).
وقال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}( ).
{وَلَمْ يُولَدْ } أي: لم يتولد من غيره، فيكون محدثًا؛ بل هو القائم بذاته، القيوم أزلاً وأبدا ( ).
لأن (الولد): ما تولد من شيء أو شيئين كآدم، خلق وتولد من التراب، وحواء خلقت وتولدت من آدم، وعيسى تولد من مريم، أنثى بلا ذكر، وسائر الخلق تولدوا من ذكر وأنثى.
وعلى هذا فالولد محدث مخلوق بعد أن لم يكن كما قال عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}( )؛ أي: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا.
وما كان محدثًا مخلوقًا؛ فهو يفنى؛ كما قال عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}( ).
والله عز وجل هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية؛ كما قال عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}( ).
قال الزمخشري ( ): «لم يلد لأنه لا يجانس حتى يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا».
قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}: أي: لم يكن له مكافئ، ولا مماثل، ولا شبيه، ولا نظير؛ كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}( ).
قال ابن كثير ( ): «أي: هو مالك كل شيء وخالفه، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه، تعالى وتقدس وتنزه».
وقال السعدي ( ): {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}: لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله تبارك وتعالى؛ فهذه السورة مشتملة على توحيد الأسماء والصفات».
الفوائد والأحكام:
1- أن الرسول ? إنما هو مبلغ عن الله عز وجل؛ لقوله (قل)، وفي هذا الرد على من يزعم من أهل البدع أن الرسول ? اختلف القرآن، وأن هذا النظم كلامه ابتدأ به؛ كما أن في هذا الرد على الغلاة الذين يرفعونه ? إلى مقام الربوبية؛ فهو ? عبد لا يعبد ونبي ورسول لا يكذب.
2- إثبات العبادة لله تعالى وحده دون سواه؛ لقوله: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ لأن معنى لفظ الجلالة (الله): المألوه المعبود محبة وتعظيمًا.
3- إثبات الوحدانية لله عز وجل، وأنه الواحد الأحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ لقوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ بل كل هذه السورة دليل على إثبات توحيد الأسماء والصفات له عز وجل.
4- إثبات ربوبيته عز وجل وحاجة الخلائق كلهم إليه عز وجل وغناه سبحانه وتعالى عمن سواه؛ لقوله {اللَّهُ الصَّمَدُ}؛ أي: الذي تصمد إليه الخلائق وتتجه إليه وتقصده بطلب قضاء الحوائج؛ إذ الخير كله بيديه؛ لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
5- نفي الولد والمجانس والقريب المداني له عز وجل؛ لقوله {لَمْ يَلِدْ}( ) كما قال عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}( )، وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا}( ).
6- الرد على أهل الشرك من أهل الكتاب وغيرهم في نسبتهم الولد إلى الله عز وجل، وقول اليهود عزيز ابن الله، وقول النصارى المسيح ابن الله، وزعم المشركين أن الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ}( ).
وقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}( ).
وقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}( ).
وعن أبي هريرة ? عن النبي ? قال: «قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ( ). وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا. وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد»( ).
وعن أبي موسى الأشعري ? أن رسول الله ? قال: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم»( ).
7- إثبات أنه عز وجل الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية لقوله {وَلَمْ يُولَدْ}؛ لأن ما تولد من غيره محدث، ونهايته إلى الفناء، والله عز وجل منزه عن ذلك كله، قال عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}( ).
8- تنزيه الله عز وجل عن المكافئ والشبيه والمثيل والنظير؛ لقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}؛ فلا مكافئ له ولا شبيه، ولا مثيل، ولا نظير؛ بل هو الواحد الأحد، في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}( )، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}( ).
9- وجوب الإقرار والاعتراف ظاهرًا وباطنًا، بنطق اللسان وتصديق القلب، وانقياد الجوارح بألوهية الله عز وجل ووحدانيته وصمديته وربوبيته، وتنزهه عن الولد والوالد والمكافئ؛ لقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}... إلى آخر السورة.

* * *

سورة الفلق
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
كان النبي ? قبل نزول هذه السورة وسورة الناس يتعوذ من الجان وعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما»( ).
اسم السورة:
تسمى هذه السورة: سورة الفلق، وتسمى مع السورة التي بعدها {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} بالمعوذتين؛ قال ابن القيم ( ): «فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات، وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيون التي أصلها كلها الوسوسة».
سبب النزول:
روي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما، أن هذه السورة مع سورة الناس نزلتا في سحر اليهود للنبي ?( ).
فضل المعوذتين:
عن عقبة بن عامر ? قال: قال رسول الله ?: «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}»( ).
وفي بعض الروايات عند أحمد وأبي داود وغيرهما أن الرسول ? قال لعقبة بن عامر ?: «ألا أعلمك سورتين من خبر سورتين قرأ بهما الناس؟» قلت: بلى يا رسول الله. فأقرأني: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم أقيمت الصلاة فتقدم رسول الله ? فقرأ بهما ثم مر بي، فقال: «كيف رأيت يا عقيب! اقرأ بهما كلما نمت، وكلما قمت»( ).
وعن عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول الله ? أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة»( ).
وعن ابن عابس الجهني أن النبي ? قال له: يا ابن عابس «ألا أدلك - أو قال: ألا أخبرك - بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} هاتين السورتين»( ).
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي ? كان يقرأ بهما وينفث في كفيه، ويمسح بهما رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، وما بلغت يداه من جسده»( ).
قال ابن القيم رحمه الله ( ): «والمقصود: الكلام على هاتين السورتين، وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرًا خاصًا في دفع السحر والعين وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس».
معاني المفردات والجمل:
قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}.
قوله: {قُلْ} الأمر فيه للرسول ? ولكل فرد من أفراد أمته ممن يصلح له الخطاب؛ فلا يدخل فيه المجنون والصغير ونحوهما؛ لقوله ?: «رفع القلم عن ثلاثة؛ النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ»( ).
وعن أبيّ بن كعب ? قال: «سألت رسول الله ? عن المعوذتين؟ فقال: «قيل لي»، فقلت: فنحن نقول كما قال رسول الله ?»( ).
وجملة {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وما بعدها إلى نهاية السورة في محل نصب مقول القول.
ومعنى {أَعُوذُ}: أعتصم وألتجئ وأستجير وأتحصن وأتحرز وألوذ ( ) وهذا هو الركن الأول من أركان الاستعاذة، وهو نفس «التعوذ».
قوله: {بِرَبِّ الْفَلَقِ}: (برب): جار ومجرور متعلق بقوله: (أعوذ)، وهذا هو الركن الثاني من أركان الاستعاذة، وهو: المستعاذ به، وهو رب الفلق. والباء: للاستعانة، و(الرب): لغة: مأخوذ من التربية والتنمية للشيء والقيام عليه وإصلاحه.
قال تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}( )، أي: اللاتي تربونهن في حجوركم. وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}( )، أي: القيوم على كل شيء سبحانه.
والرب: هو الخالق المالك المدبر؛ فرب الفلق خالقه ومالكه ومدبره.
ويأتي «الرب» بمعنى المعبود؛ كما في قوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}( )؛ أي: أآلهة.
ويأتي بمعنى «الصاحب»؛ كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}( )؛ فالمعنى هنا: صاحب العزة ( ).
و (الرب) بالتعريف لا يطلق إلا على الله.
و «رب كذا» بالإضافة يطلق على الله وعلى غيره، فيقال: رب الدار، ورب الناقة، قال تعالى: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ}( ).
وربوبية الله عز وجل لخلقه تنقسم إلى قسمين:
ربوبية عامة لجميع خلقه بمعنى: خالقهم ومالكهم ومدبرهم، كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}.
وربوبية خاصة بأوليائه بتوفيقه لهم للطريق المستقيم في الدنيا، وفي الآخرة إلى الجنة، كما في قول المؤمنين {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}( ).
و(الفلق): الخلق، والشق، وكل ما انشق عن شيء فهو فلق( )؛ فالصبح والحب فلق ( )، قال تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}( )، وقال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}( ). أي الذي خلق وشق الحب والنوى فأخرج منه النبتة فأخرج من الحبة السنابل الكثيرة المشتملة على مئات الحبات كما قال عز وجل: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ}( )، وأخرج من النواة النخلة؛ بل العدد من النخيل المثمرة؛ كما قال عز وجل: {وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}( ).
وخلق وشق الصبح وضياءه من ظلام الليل الدامس البهيم، وفي الحديث: «أنه ? ما رأى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح»( ).
وكل ما انفلق وانشق عن غيره من نبات، وحيوان وغير ذلك فهو فلق ( ).
قال ابن تيمية رحمه الله ( ): «وإذا قيل: الفلق يعم ويخص، فبعمومه للخلق استعيذ من شر ما خلق، وبخصوصه للنور النهاري – يعني الصبح – استعيذ من شر غاسق إذا وقب».
وقال ابن القيم رحمه الله ( ): «واعلم أن الخلق كله فلق، وذلك أن فلق «فعل» بمعنى «مفعول» كقبض وسلب وقنص بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص. والله عز وجل (فالق الإصباح) و (فالق الحب والنوى) وفالق الأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأجنة، والظلام عن الإصباح، ويسمى الصبح المتصدع عن الظلمة «فلقا وفرقا» يقال: هو أبيض من فرق الصبح وفلقه.. يفرق ظلام الليل بالإصباح.. ومنه فلقه البحر لموسى، وسماه «فلقًا».
قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
في هذه الآيات: الركن الثالث من أركان الاستعاذة، وهو المستعاذ منه، وهو أمور أربعة؛ الأول منها: ذكره الله عز وجل بقوله:
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}: فهذا هو المستعاذ منه الأول في هذه السورة. وقوله: {مِنْ شَرِّ}: جار ومجرور متعلق بـ (أعوذ)، و(ما) موصولة، وهي تفيد العموم( )، لكنه عموم تقييدي وصفي لا عموم إطلاقي؛ أي: أعوذ برب الفلق من شر جميع المخلوقات التي فيها شر؛ سواء من شرور الدنيا أو الآخرة، من شر شياطين الإنس والجن، وشر السباع والهوام، وشر النار وغير ذلك، وليس المراد الاستعاذة من شر كل ما خلقه الله، وإن كان مما ليس فيه شر؛ بل هو خير محض كالجنة والملائكة، وكذا الأنبياء؛ فإنه خير محض؛ بل الخير كله حصل على أيديهم( ).
فدخل تحت قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} الاستعاذة من كل شر، في أي مخلوق قام به الشر: من حيوان أو غيره، إنسيًا كان أو جنيًا أو هامة أو دابة أو ريحًا أو صاعقة، أو أي نوع كان من أنواع البلاء والشرور( ).
وقد روي أنه ? إذا سافر فأقبل الليل، قال: «يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد»( ).
قال ?: «من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. لم يضره شيء حتى يرتحل منه»( ).
وفي الحديث الآخر: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن»( ).
والشر: هو الآلام الحسية والمعنوية، الجسدية والنفسية، وما يسببها من الكفر والشرك والمعاصي؛ فما من ألم نفسي أو معنوي، جسدي أو نفسي إلا سببه الكفر والمعاصي، قال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}( ).
قال ابن القيم رحمه الله ( ): «الشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه؛ فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع لذة، لكنها شرور؛ لأنها أسباب للآلام ومفضية إليها كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها، فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة وعلى الذبح، والإحراق في النار، والخنق بالحبل، وغير ذلك من الأسباب التي تكون مفضية إلى مسبباتها ولابد، ما لم يمنع من السببية مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه... وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته؛ فإن الله إذا أنعم على عبد نعمة حفظها الله عليه، ولا يغيرها حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}( ).
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}( ).
ومن تأمل ما قص الله في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال الله نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عاقبة عواقب الذنوب كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها
فإن المعاصي تزيل النعم

وحافظ عليها بشكر الإله
فإن الإله سريع النقم ( )

فما حفظت نعمة لله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد نعمة بمثل معصيته لربه، فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس، ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له.
وأما كون مسبباتها شرورًا فلأنها آلام نفسية وبدنية، فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسي ألم الروح بالهموم والغموم والأحزان والخسران، ولو تفطن العاقل اللبيب لهذا حق التفطن لأعطاه حقه من الحذر والجد والهرب، ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً؛ فلو تيقظ حق التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من الله، وإنما يظهر هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم والإشراف والاطلاع على عالم البقاء؛ فحينئذ يقول {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}( )، {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}( ).
ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها كانت استعاذات النبي ? جميعها مدارها على هذين الأصلين؛ فكل ما استعاذ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو إما مؤلم، وإما سبب يفضي إليه؛ فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع، وأمر بالاستعاذة منهن، وهي: «عذاب القبر، وعذاب النار»؛ فهذان أعظم المؤلمات، «وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال»، وهذان سبب العذاب المؤلم؛ فالفتنة سبب العذاب... فعادت الاستعاذة إلى الاستعاذة من الألم والعذاب وأسبابه، وهذا من آكد أدعية الصلاة...».
وقال ابن القيم أيضًا ( ): «والشر المستعاذ منه نوعان: أحدهما: موجود، يطلب رفعه، والثاني: معدوم، يطلب بقاؤه على العدم، وأن لا يوجد؛ كما أن الخير المطلق نوعان: أحدهما: موجود، فيطلب دوامه وثباته، وأن لا يسلبه، والثاني: معدوم، فيطلب وجوده وحصوله؛ فهذه أربعة هي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين، وعليها مدار طلباتهم.
وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}؛ فهذا الطلب لدفع الشر الموجود؛ فإن الذنوب والسيئات شر، كما تقدم بيانه، ثم قال: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}؛ فهذا طلب لدوام الخير الموجود - وهو الإيمان - حتى يتوفاهم عليه؛ فهذان قسمان، ثم قال: {رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ}؛ فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه، ثم قال: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}( )؛ فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم، وهو خزي يوم القيامة؛ فانتظمت الآيتان المطالب الأربعة أحسن انتظام، مرتبة أحسن ترتيب، قدم فيها النوعان اللذان في الدنيا، وهما المغفرة ودوام الإسلام إلى الموت، ثم أتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة؛ وهما أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله، وأن لا يخزيهم يوم القيامة».
قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}: هذا هو المستعاذ منه الثاني في هذه السورة، وهو والمستعاذ منه الثالث والرابع كلها داخلة ضمن المستعاذ منه الأول، وهو قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} من باب التخصيص بعد التعميم ( ).
والغاسق هو الليل وظلمته؛ يقال غسق الليل وأغسق الليل إذا أظلم ( )، ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}( ).
وقوله: {إِذَا وَقَبَ} أي: إذا أقبل ودخل في كل شيء، والوقوب: الدخول، وهو دخول الليل بغروب الشمس ( ).
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «أخذ النبي ? بيدي، فنظر إلى القمر فقال: «يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا؛ فإن هذا هو الغاسق إذا وقب»( ).
فالقمر غاسق إذا وقب، أي: إذا غاب، والليل غاسق إذا دخل بظلمته كل شيء( ).
وقيل: المراد بغسق الليل: برودته ( ).
قال ابن القيم ( ): «ولا تنافي بين القولين؛ فإن الليل بارد ومظلم، فمن ذكر برده فقط، أو ظلمته فقط اقتصر على أحد وصفيه».
والأظهر من القولين القول الأول؛ أن المراد بالغاسق الليل إذا أقبل ودخل بظلامه، ومنه القمر إذا وقب.
قال ابن القيم ( ) بعد كلامه السابق قريبًا: «والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة؛ فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي في الليل، ولهذا استعاذ برب الفلق، الذي هو الصبح والنور، من شر الغاسق الذي هو الظلمة، فناسب الوصف المستعاذ به المعنى المطلوب بالاستعاذة».
وإنما أمر الله بالاستعاذة من شر الغاسق إذا وقب وهو الليل إذا أقبل بظلمته ودخل في كل شيء؛ لأن الليل هو محل الظلام وفيه تتسلط وتنتشر شياطين الإنس والجن والهوام وغيرها من الأرواح الشريرة والخبيثة المؤذية والمفسدة.
ولهذا قال ?: «إذا أقبل الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم، وأغلق بابك، واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله، وخمر إناءك واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه شيئًا»( ).
وفي حديث آخر: «فإن الله عز وجل يبث في ليله من خلقه ما يشاء»( ).
فالشياطين من الإنس والجن والحيوانات تتسلط في الليل لأنه محل الظلام ما لا تتسلط بالنهار؛ لأن النهار نور، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة، وعلى أهل القلوب المظلمة بالكفر والمعاصي، الخالية من ذكر الله ونوره ( ).
قال ابن تيمية ( ) بعدما ذكر القولين في معنى «غاسق»، قال: «فالقمر أحق ما يكون بالليل بالاستعاذة، والليل مظلم، تنتشر فيه شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسحر والسرقة والخيانة والفواحش، وغير ذلك؛ فالشر دائمًا مقرون بالظلمة، ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم؛ لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار، ويتوسلون بالقمر وبدعوته، والقمر وعبادته، وأبو معشر البلخي له «مصحف القمر» يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه».
وقال ابن القيم ( ): «روي أن سائلاً سأل مسيلمة: كيف يأتيك الذي يأتيك؟ فقال: «في ظلماء حندس» وسئل النبي ?: «كيف يأتيك؟ فقال: «في مثل ضوء النهار». فاستدل بهذا على نبوته، وأن الذي يأتيه ملك من عند الله، وأن الذي يأتي مسيلمة شيطان.
ولهذا كان سلطان السحر إنما هو بالليل دون النهار؛ فالسحر الليلي عندهم هو السحر القوي التأثير، ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين وبيوتهم ومأواهم والشياطين تجول فيها وتتحكم، كما يتحكم ساكن البيت فيه، وكلما كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع، وهو فيه أثبت وأمكن.
ومن ههنا تعلم السر في الاستعاذة برب الفلق في هذا الموضع؛ فإن الفلق هو الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور، وهو الذي يطرد جيش الظلام، وعسكر المفسدين في الليل فيأوي كل خبيث وكل مفسد وكل لص، وكل قاطع طريق إلى سرب أو كن أو غار، وتأوي الهوام إلى أجحرتها، والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها.
فأمر الله عباده أن يستعيذوا برب النور، الذي يقهر الظلمة ويزيلها، ويقهر عسكرها وجيشها، ولهذا ذكر سبحانه في كل كتاب: أنه يخرج عباده من الظلمات إلى النور، ويدع الكفار في ظلمات الكفر، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}( ).
وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}( ).
وقال في أعمال الكفار {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}( ).
وقال عز وجل في وصف نوره ونور الإيمان: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}( )».
قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}: هذا هو المستعاذ منه الثالث في هذه السورة، وهو: شر النفاثات.
و «النفاثات»: جمع نفاثة، وهن السواحر اللاتي يعقدن وينفثن على كل عقدة، حتى ينعقد ما يردن من السحر، والنفث: هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل، وهو مرتبة بينهما. والعقد: عقد الخيوط التي يعقدنها وينفثن فيها ( )؛ قال ?: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه»( ).
والنفاثات: السواحر اللاتي يرقين وينفثن في العقد ( ).
والمراد بالنفاثات: الأنفس الخبيثة السواحر، فيشمل جميع الأنفس السواحر الخبيثة، من الذكور والإناث.
وقيل: المراد النساء السواحر، وخص النساء بالذكر لأن السحر فيهن أكثر؛ لضعف عقولهن ودينهن.
قال ابن القيم ( ): «والجواب المحقق أن النفاثات هنا: هن الأرواح والأنفس النفاثات؛ لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح لشريرة، وسلطانه إنما يظهر منها، ولهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث، دون التذكير، والله أعلم».
وقال أيضًا ( ): «والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقد نفخًا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى، مقترن بالريق الممازج لذلك، وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور، فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري، لا الأمري الشرعي».
قال الزمخشري ( ): «وعرف النفاثات لأن كل نفاثة شريرة، ونكر غاسق لأنه ليس كل غاسق فيه الشر؛ إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر، ورب حسد محمود وهو الحسد في الخيرات».
والسحر من صفات اليهود؛ فهم أسحر الناس؛ قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}( ).
قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}: هذا هو المستعاذ منه الرابع والأخير في هذه السورة، وهو شر الحاسد إذا حسد.
قال الزمخشري ( ): «فإن قلت: قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} تعميم في كل ما يستعاذ منه فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟ قلت: خص شر هؤلاء من كل شر لخفاء أمره، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم».
والحاسد: هو الذي يكره الخير للغير، وربما سعى بمنع ذلك عنهم بما يستطيع من الأسباب بفعله بيده، أو بقوله بلسانه، أو بتمني زوال النعمة عنهم، وربما سعى في زوالها عنهم بما يملك من الأسباب.
وهكذا ذكر ابن القيم ( ) للحسد المذموم مرتبتين: الأولى: تمني زوال النعمة عن الغير، والثانية تمني استصحاب عدم النعمة، قال: «فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله، من جهله، أو فقره، أو ضعفه، أو شتات قلبه عن الله، أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب، فهذا حسد على شيء مقدر، والأول حسد على شيء محقق، وكلاهما حاسد، عدو نعمة الله، وعدو عباده، وممقوت عند الله وعند الناس».
وإبليس أول الحاسدين، حسد أبانا آدم ? على شرفه وفضله، وأبى أن يسجد له حسدًا وكبرًا؛ وعلى هذا فالحسد يكون من شياطين الجن وشياطين الإنس، وهذا النوع من الحسد من كبائر الذنوب، وهو المراد بقوله {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} وفي الحديث: «إياكم والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب»( ).
وإنما حرم الحسد وعد من كبائر الذنوب لما فيه من الاعتراض على قضاء الله وقدره في قسمته الأرزاق بين عباده كما قيل:
سبحان من قسم الحظوظ فهذا
يتغنى وذاك يبكي الديارا

وأيضًا لما فيه من أذية المحسود بلا ذنب منه ولا جرم، وغير ذلك( ).
ويدخل في الحاسد: العائن الذي يؤذي المحسود بنفسه
وعينه، وإن لم يؤذه بيده ولسانه، كما قال عز وجل
عن المشركين: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ}( )،
قال ابن كثير( ): «أي: ليَعينونك بأبصارهم، بمعنى: يحسدونك لبغضهم إياك، لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم، وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة».
وعن أبي سعيد الخدري ? في رقية جبريل للنبي ? قوله: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك»( ).
فقد أعاذ جبريل ? النبي ? من شر عين كل حاسد ( ).
قال ?: «العين حق، لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا»( ).
فالعائن حاسد، لكنه حاسد خاص، وهو أضر من الحاسد، ولهذا – والله أعلم – إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن، لأنه أعم، فكل عائن حاسد ولابد، وليس كل حاسد عائنًا، فإذا استعاذ من شر الحاسد دخل فيه العائن ( ).
وقوله: {إِذَا حَسَدَ} أي: إذا أظهر حسده وحققه وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود بقوله، أو فعله، أو إتباعه لنفسه ما عند المحسود من نعمة، وفي الحديث: «إذا حسدت فلا تبغ»( )؛ لأنه إذا لم يظهر الحسد، ولم يظهر أثر ما أضمره فلا ضرر منه يعود على المحسود.
قال ابن القيم ( ): «ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسدًا إلا إذا قام به الحسد كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك؛ ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود لاهٍ عنه، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قِبَله إليه، وتوجهت إليه سهام الحسد من قلبه، فيتأذى المحسود بمجرد ذلك، فإن لم يستعذ بالله، ويتحصن به، ويكن له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله، والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولابد، فقوله تعالى: {إِذَا حَسَدَ} بيان لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل».
وقال أيضًا ( ): «ومعلوم أن عينه – أي الحاسد – لا تؤثر بمجردها؛ إذ لو نظر إليه نظر لاهٍ ساهٍ عنه كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثر فيه شيئًا، وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة، وانسمت واحتدت، فصارت نفسًا غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة، فأثرت في المحسود تأثيرًا بحسب صفة ضعفه وقوة نفس الحاسد...».
قال القرطبي ( ): «والحسد أول ذنب عُصي الله به في السماء، وأول ذنب عُصي الله به في الأرض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل، والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون، ولقد أحسن من قال:
قل للحسود إذا تنفس طعنة
يا ظالمًا وكأنه مظلوم»

فضرر الحاسد إنما يعود على الحاسد لاغتمامه بسرور غيره، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: «لم أر ظالمًا أشبه بالمظلوم من حاسد»( ).
وهو من أكبر الكبائر، ومحبط للأعمال.
وفي الحديث: «إياكم والحسد، فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو العشب»( ).
وقال ?: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء»( ).
فهو مع الكبر الذي حمل إبليس على ترك السجود لآدم والكفر والخروج من ملكوت السموات والأرض وطرده وإبعاده وتخليده في النار، كما قال عز وجل عنه أنه قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}( )، وقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}( )، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}( ).
وهو الذي حمل أحد ابني آدم على قتل أخيه لما تقبل الله قربانه دونه، كما قال عز وجل {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}( ).
وهو من صفات اليهود؛ فهو الذي حملهم على رد رسالة الحق، رسالة نبينا محمد ?، كما قال الله عز وجل عنهم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}( ).
وقال عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}( ).
وهو الذي حمل ثمود على تكذيب نبيهم صالح، ورد دعوته، كما قال الله عز وجل عنهم أنهم قالوا: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ}( ).
وهو الذي حمل كفار قريش على تكذيب الرسول ?، ورد دعوته، كما قال الله عز وجل عنهم أنهم قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}( ).
والحسد داء عضال، ومرض عام ومنتشر، لا يكاد يسلم منه أحد، إلا من عصمه الله، وقد قيل: «ما خلا جسد من حسد لكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه».
وقيل للحسن البصري رحمه الله: «أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك إخوة يوسف»( ).
قال ابن القيم رحمه الله ( ): «وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله {إِذَا حَسَدَ}؛ لأن الرجل قد يكون عنده حسد، ولكن يخفيه ولا يترتب عليه أذى بوجه ما، لا بقلبه ولا بلسانه، ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئًا من ذلك، ولا يعامل أخاه إلا بما يحب؛ فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله؛ لكن الفرق بين القوة التي في قلبه من ذلك، وهو لا يطيعها، ولا يأتمر بها؛ بل يعصيها طاعة لله وخوفًا، وحياء منه، وإجلالاً له أن يكره نعمه على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله وبغضًا لما يحبه الله، ومحبة لما يبغضه؛ فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها بالدعاء للمحسود، وتمني زيادة الخير له؛ بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسده، ورتب على حسده مقتضاه؛ من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا الحسد المذموم، هذا كله حسد تمني زوال النعمة».
وقال أيضًا ( ): «فهذه السورة من أكبر أدوية الحسد؛ فإنها تتضمن التوكل على الله والالتجاء إليه، والاستعاذة به من شر حاسد النعمة؛ فهو مستعيذ بولي النعمة وموليها؛ كأنه يقول: يا من أولاني نعمته وأسداها إلي أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها مني ويزيلها عني، وهو حسب من توكل عليه، وكافي من لجأ إليه... قال تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}( )».
وقال ابن القيم أيضًا ( ): «فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم، وتضمنت شرورًا أربعة يستعاذ منها: شرًا عامًا، وهو شر ما خلق، وشر الفاسق إذا وقب، فهذان نوعان، ثم ذكر شر الساحر والحاسد، وهما نوعان أيضًا، لأنهما من شر النفس الشريرة، وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده وهو الساحر.
والنوع الثاني: من يعينه الشيطان وإن لم يستعن به، وهو الحاسد؛ لأنه نائبه وخليفته؛ لأن كليهما عدو نعم الله ومنغصها على عباده».
الفوائد والأحكام:
1- حاجة الرسول ? كغيره من البشر إلى الاعتصام بالله واللجوء إليه، وأنه قد تصيبه العوارض التي أمر في هذه السورة بالاستعاذة من شرها، وأنه ? لا يملك جلب الخير لنفسه، ولا دفع الضر عنها، وكذا غيره من الخلق من باب أولى لا يملكون شيئًا من ذلك، وإنما المالك لذلك كله هو الله عز وجل؛ لقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، وهذا أمر له ? ولأفراد أمته، وفي هذا رد على الذين يغلون بالنبي ?، ويصرفون له شيئًا من أنواع العبادة، مما لا يجوز صرفه إلا لله، ومما لا يقدر عليه إلا الله، كالذين يطلبون منه ? كشف الكروب، ودفع الخطوب، ونحو ذلك، ولهذا لما سأل أُبَيٌّ بن كعب رسول الله ? عن قوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} قال: «قيل لي»( ).
2- أن الرسول ? إنما هو مبلغ عن الله عز وجل؛ لقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، كما قال عز وجل: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}( )، وقال عز وجل: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}( ). وفي هذا رد على من يقول من المشركين والجهمية والمعتزلة ومن سلك طريقهم: إن هذا القرآن العربي وهذا النظم كلام الرسول ابتدأ به( )، كما أن فيه الرد على الغلاة الذين يرفعونه ? إلى مقام الربوبية.
3- إثبات الربوبية العامة لله عز وجل؛ لقوله: {بِرَبِّ الْفَلَقِ}: فهو الذي فلق وخلق جميع الخلق، وهو مالكهم ومدبرهم.
4- مشروعية الاستعاذة برب الفلق من جميع شرور الخلق؛ لقوله {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}.
5- إثبات كمال قدرته عز وجل؛ لقوله: {بِرَبِّ الْفَلَقِ}؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ): «وفلق الشيء عن الشيء هو دليل على تمام القدرة، وإخراج الشيء من ضده، كما يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، وهذا من نوع الفلق؛ فهو سبحانه قادر على دفع الضد المؤذي بالضد النافع».
6- أن المستعاذ به هو الله وحده {رَبِّ الْفَلَقِ}؛ فهو الذي يعيذ ويعصم من استعاذ به من جميع الشرور؛ بخلاف من سواه؛ فلا قدرة لهم على ذلك؛ بل لا يزيدون من استعاذ بهم إلا خوفًا ورهقًا؛ كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}( ).
7- أن عامة المخلوقات قد لا تخلو من الشر لقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} و «ما» ههنا موصولة تفيد العموم لكنه عموم تقييدي لا إطلاقي؛ أي: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} مما فيه شر كشياطين الإنس والجن والنار والهوام وغير ذلك، ولا يدخل في هذا ما هو خير من المخلوقات كالجنة والملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
8- أن الشر ليس إلى الله؛ لقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}؛ فالشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى الخالق سبحانه؛ فالشر في مخلوقاته، وفي مفعولاته، لا في فعله عز وجل كما قال ?: «والشر ليس إليك»( ).
قال ابن القيم رحمه الله ( ): «فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى؛ فإن ذاته لها الكمال المطلق، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق، والجلال التام، ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما، وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة، لا شر فيها أصلاً، وما يفعله من العدل بعباده وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض؛ إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون شرًا بالنسبة إليهم؛ فالشر وقع في تعلقه بهم وقيامه بهم؛ لا في فعله القائم به تعالى، ونحن لا ننكر أن يكون في مفعولاته المنفصلة؛ فإنه خالق الخير والشر؛ ولكن هناك أمران ينبغي أن يكونا منك على بال؛ أحدهما: أن ما هو شر ومتضمن للشر فإنه لا يكون إلا مفعولاً منفصلاً لا يكون وصفًا له، ولا فعلاً من أفعاله.
الثاني: أن كونه شرًا هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان هو من أحدهما خير وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى، خلقًا وتكوينًا ومشيئة، لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها.
ثم مثل ابن القيم - رحمه الله – بقطع يد السارق فهو شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس؛ لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرًا وحكمًا، لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عمومًا بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم، فهو محمود على حكمه بذلك وأمره به، مشكور عليه، يستحق عليه الحمد من عباده، والثناء عليه، والمحبة له.
ومثل أيضًا بقتل الصائل عليهم في دمائهم وحرماتهم... إلى أن قال: «وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه، ومن قام به، كقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}( )، وكقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}( )، وتارة بحذف فاعله، كقوله حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}( ). فحذفوا فاعل الشر ومريده، وصرحوا بمريد الرشد إلى غير ذلك من الأمثلة التي ذكرها رحمه الله( ).
9- مشروعية الاستعاذة برب الفلق من الليل إذا أقبل بظلامه ودخل في كل شيء؛ لقوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}، وهذا من عطف الخاص على العام؛ لأنه داخل تحت عموم قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}، وإنما خص هذا بعد العموم؛ لأن الليل وظلمته محل سلطان الأنفس والأرواح الشريرة والخبيثة ووقت انتشارها للسعي بالفساد، من شياطين الإنس والجن والهوام، وغير ذلك.
10- مشروعية الاستعاذة برب الفلق من شر السواحر؛ لقوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}، وهذا أيضًا كسابقه من عطف الخاص على العام؛ فإنه داخل تحت عموم قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}، وإنما خص شر السواحر – كما خص قبله شر الغاسق – لعظيم خطر السحر، وشدة شر السواحر.
11- إثبات حقيقة السحر وتأثيره بإذن الله الكوني ( ) لقوله {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ولقوله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}( ). وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}( ).
وعن زيد بن أرقم قال: سحر النبي ? من اليهود فاشتكى لذلك أيامًا. قال: فجاءه جبريل فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك؛ عقد لك عقدًا في بئر كذا وكذا، فأرسل إليها من يجيء بها، فبعث رسول الله ? عليًا ? فاستخرجها، فجاء بها، فحللها قال: فقام رسول الله ? كأنما نشط من عقال، فما ذكر ذلك لليهودي، ولا رآه في وجهه قط حتى مات»( ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ? سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن – قال سفيان بن عيينة: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا – فقال: «يا عائشة، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال مطبوب. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، رجل من بني زريق حليف ليهود، وكان منافقًا. قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاقة. قال: وأين؟ قال: في جَفِّ طلع ذكر، تحت راعوفة في بئر ذروان، قال: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال: هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء( )، وكأن نخلها رؤوس الشياطين. قال: فاستخرج، فقلت: أفلا – أي: تنشرت؟ قال: «أمَّا الله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًا»( ).
قال ابن القيم( ): «وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث، متلقى بالقبول بينهم، لا يختلفون في صحته، وليس في هذه الأحاديث الثابتة في أنه ? سحر تصديق لقول المشركين: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}( )، وكما قال قوم صالح: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}( ) وكذا قال قوم شعيب له {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}( )؛ لأن الذي أصابه – كما دلت عليه هذه الأحاديث مرض من الأمراض يصيب غيره، ولا يمنع من اتباعه ?؛ وهذا بخلاف ما زعمه المشركون، وكذا ما قاله قوم صالح وقوم شعيب لهما فإنهم يقصدون بأن هؤلاء الرسل سحروا فزالت عقولهم حتى أصبحوا لا يدري الواحد منهم ما يقول كالمجانين.
كما قال الله تعالى عنهم: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}( )، وهم يقصدون بذلك تحذير سفهائهم من اتباع الرسل ( ).
وقد أنكر تأثير السحر وأن له حقيقة طائفة من أهل الكلام من المعتزلة والعقلانيين وغيرهم، وقالوا: إنه لا تأثير للسحر البتة، لا في مرض، ولا قتل، ولا حل ولا عقد، وقولهم هذا لا مستند له إلا تحكيم عقولهم القاصرة، وهو باطل بدلالة الكتاب والسنة وخلاف ما عليه عامة علماء الأمة، بل وخلاف ما يدل عليه الواقع.
قال ابن القيم( ) بعد ما ذكر هذا القول: «وهذا خلاف ما تواتر به الآثار عن الصحابة والسلف، واتفق عليه الفقهاء، وأهل التفسير والحديث، وما يعرفه عامة العقلاء...».
12- أن السحر من أعظم الذنوب، بل هو من أكبر الكبائر، لأن الله أمر بالاستعاذة من السواحر، بعد الأمر بالاستعاذة من جميع شرور الخلق مما يدل على خطره وعظيم جرمه وشدة ضرره وشره، وفي حديث أبي هريرة ? قال: قال رسول الله ?: «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر منهن «السحر»( ).
ولهذا كانت عقوبة الساحر القتل حدًا كما قال ?: «حد الساحر ضربة بالسيف»( ).
وعن جندب بن عبد الله ? قال: كتب لنا عمر: «أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر»( ). وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها؛ قال الإمام أحمد: «صح عن ثلاثة من أصحاب النبي ? قتل الساحر»؛ يعني: عمر وحفصة وجندب بن عبد الله ?( ).
13- مشروعية الاستعاذة برب الفلق من شر الحاسد إذا حسد؛ لقوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}، وخصه بالذكر مع أنه داخل تحت قوله {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} كشر الغاسق إذا وقب وشر النفاثات في العقد؛ كل ذلك من باب ذكر الخاص بعد العام ( ) تنبيها وتوكيدًا على عظم خطر وضرر هذه المخصوصات.
14- أن الحسد إنما يؤثر إذا أظهره الحاسد وحققه وعمل بمقتضاهن من بغي الغوائل للمحسود بقوله، أو فعله، أو إتباعه لنفسه ما عند المحسود من نعمة، وفي الحديث: «إذا حسدت فلا تبغ»( ). وذلك لأن الحسد لا يكاد يخلو منه أحد، ويكثر الحسد بين الأقران الذي يزاولون أعمالاً وحرفًا متشابهة؛ كأصحاب المحلات التجارية والبيع والشراء، وأصحاب الأعمال المهنية، وأرباب الأعمال الوظيفية والمناصب الذين يحصل بينهم التنافس، وكذا كثير من طلاب العلم؛ بل والعلماء، إلا من عصمه الله من ذلك، ولهذا يجب الاحتراس والحذر كل الحذر من ذلك، وتعاهد القلب وإصلاحه والنأي به عن هذا المرض الخطير والداء الوبيل؛ فإن القلوب عليها مدار صلاح الأعمال؛ قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}( ). وقال ?: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»( ).
15- أنه لا واقي ولا كافي ولا حافظ ولا معيذ من جميع شرور الخلق ومن شر الغاسق والسحر والحسد وغير ذلك إلا الله وحده؛ لأن الله أمر بالاستعاذة به سبحانه من جميع هذه الشرور وقد قال عز وجل: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}( )، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}( ). وقال ? لابن عباس رضي الله عنهما: «احفظ الله يحفظك» الحديث( ).
وفي حديث أنس بن مالك ? أن من قال حين يخرج من بيته: «بسم الله آمنت بالله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، أجابه الملك بقوله: كفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان»( ).
فائدتان:
الفائدة الأولى: أسباب تحريم الحسد:
وإنما حرم الله الحسد، ونهى عنه، وأمر بالاستعاذة من شر الحاسد لأسباب عدة، منها ما يلي:
أولاً: أن الحسد فيه اعتراض على قضاء الله وقدره وحكمته في تقسيمه الأرزاق بين عباده ( ).
ثانيًا: أنه سبب لرد الحق وعدم قبوله كما ذكر الله عز وجل عن أهل الكتاب؛ قال عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}( ).
ثالثًا: أنه من نواقض عرى الإيمان الموجبة لمحبة الخير لأخيه المسلم، وقد قال ?: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»( ).
رابعًا: أن فيه اعتداء على المحسود بغير جرم منه، إلا أن الله أعطاه من فضله، وقد قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}( ).
خامسًا: أنه لا يعود على الحاسد إلا بالهم والكمد والأسى. وقد قيل: «لله در الحسد ما أعد له عاد على صاحبه فقتله».
وقال الشاعر:
دع الحسود وما يلقاه من كمده
يكفيك منه لهيب النار في كبده

سادسًا: أن الحاسد مبغض ممقوت عند الله وعند الناس؛ لأنه عدو نعمة الله، وعدو عباد الله.
قال ابن القيم ( ): «فالحاسد عدو نعمة الله وعدو عباده، وممقوت عند الله وعند الناس، ولا يسود أبدًا، ولا يواسى؛ فإن الناس لا يُسَوِّدون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يُسَوِّدونه باختيارهم أبدًا، إلا قهرًا؛ يعدونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم الله بها؛ فهم يبغضونه وهو يبغضهم».
سابعًا: أن الحاسد بدل أن يسعى ويعمل ينشغل بمتابعة ما عند الآخرين، وما أعطاهم الله من فضله، والواجب عليه أن يبذل السبب في السعي والعمل، ويسأل الله من فضله، قال تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}( ).
ثامنًا: أن الحسد سبب لإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس؛ لأنه يحمل الحاسد على الاعتداء على المحسود، ومنع حقه، وجحد فضله؛ مما يوغر الصدور، ويشعل نار العداوة بين الناس.
تاسعًا: أنه كبيرة من كبائر الذنوب، ومن صفات إبليس لعنه الله؛ فهو الذي حسد آدم لشرفه، وأبى أن يسجد له حسدًا وكبرًا، وهو من صفات اليهود المغضوب عليهم.
عاشرًا: أنه مرض قلبي من أخطر أمراض القلوب ومحبط للأعمال، قال ?: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»( ). وفي الحديث: «إياكم والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب». أو قال: «العشب»( ).
الفائدة الثانية: الأسباب التي بها يندفع شر الحاسد بإذن الله عز وجل:
يندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب ذكرها ابن القيم رحمه الله ( ): ألخصها فيما يلي:
أحدها: التعوذ بالله من شره، والتحصن به واللجوء إليه، وهو المقصود بهذه السورة.
السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه؛ فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}( ).
وقال النبي ? لعبد الله بن عباس ?: «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك»( )؛ فمن حفظ الله حفظه ووجده أمامه أينما توجه، ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف؟! وممن يحذر؟!
السبب الثالث: الصبر على عدوه، وألا يقاتله، ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً، فما نُصِرَ على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه، والتوكل على الله، ولا يستطيل تأخيره وبغيه؛ فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندًا وقوة للمبغي عليه المحسود، يقاتل به الباغي نفسه، وهو لا يشعر؛ فبغيه سهام يرميها من نفسه إلى نفسه، ولو رأى المبغي عليه ذلك لسره بغيه عليه؛ ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي، دون آخره ومآله، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}( ).
وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}( ).
السبب الرابع: التوكل على الله؛ فمن يتوكل على الله فهو حسبه، والتوكل على الله من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبه، أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع لعدوه؛ فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له ربه مخرجًا من ذلك وكفاه ونصره.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له؛ فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية، ومن أقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره؛ فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه، فإذا لم يتعرض له، ولا تماسك هو وإياه، بل انعزل عنه، لم يقدر عليه، فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه حصل الشر، هكذا الأرواح سواء.
السبب السادس: الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه محل خواطر نفسه وأمانيها؛ قال تعالى حكاية عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}( ).
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}( ).
وقال عن يوسف الصديق، {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}( ).
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه؛ فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}( ).
وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}( ).
فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما عمله أضعاف ما يذكره، وفي الدعاء المشهور: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم»؛ فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب.
ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له، ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت، ثم أخرج إليك، فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب، وأناب إلى ربه، ثم خرج إليه، فقال له ما صنعت؟ فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي. وليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها؛ فليس للعبد إذا بغي عليه، وأوذي، وتسلط عليه خصومه شيء أنفع من التوبة النصوح.
وعلامة سعادته: أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها، وبإصلاحها، وبالتوبة منها؛ فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به؛ بل يتولى هو التوبة، وإصلاح عيوبه، والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولابد، فما أسعده من عبد، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فما كل أحد يوفق لهذا، لا معرفة به، ولا إرادة له، ولا قدرة عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه؛ فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، ودفع العين، ودفع الحسد، ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى به؛ فما تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة؛ فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته عليه من الله جُنة واقية وحصن حصين.
وبالجملة: فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببًا لزوالها، فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله، وهو كفران النعمة وهو باب إلى كفر النعم.
فالمحسن المتصدق يستخدم جندًا وعسكرًا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه.
السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشرًا وبغيًا وحسدًا ازددت له إحسانًا، وله نصيحة، وعليه شفقة، وما أظنك تصدق بأن هذا يكون، فضلاً عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قول الله عز وجل: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}( ).
وقال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}( ).

وكان ? يسلت الدم عنه ويقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»( ).
فجمع في هذه الكلمات الأربع مقامات من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه؛ أحدها: عفوه عنهم، والثاني: استغفاره لهم، والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، والرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه؛ فقال: «رب اغفر لقومي».
وكما تحب أن يعفو الله عن تقصيرك وإساءتك فاعف أنت عمن قصر في حقك، وآذاك، وأساء إليك، فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباد الله يفعل الله معك.
وفي هذا نزل في شأن الصديق ?: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}( ).
وفي الحديث: «وليأت للناس الذي يحب أن يؤتى إليه»( ).
فمن تصور هذا وشغل به فكره هان عليه الإحسان لمن أساء إليه مع ما يحصل له من نصر الله ومعيته الخاصة؛ كما قال ? للذي شكا إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم وهم يسيؤون إليه، قال: «لا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك»( ).
هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلهم معه على خصمه؛ فإن كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير وهو مسيء إليه وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء، وذلك أمر فطري، فطر الله عليه عباده، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرًا لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه إقطاعًا، ولا خبزًا؛ هذا مع أنه لابد له من عدوه وحاسده من إحدى حالتين: إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد إليه ويذل له.. وإما أن يفتت كبده، ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه، ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة.
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}( ). وقال النبي ? لابن عباس رضي الله عنهما: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك»( ).
فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلاً واشتغالاً به عن غيره والله يتولى حفظه والدفع عنه؛ فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، وبحسب إيمان العبد يكون دفع الله عنه؛ فإن كمل إيمانه دفع الله عنه أتم دفع، وإن مزج مزج له، وإن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة، كما قال بعض السلف: «من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة، ومن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة».
فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين. قال بعض السلف: «من خاف الله خافه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه كل شيء»( ).
قال ابن القيم ( ) رحمه الله بعد أن ذكر هذه الأسباب: «هذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفع من التوجه إلى الله، وإقباله عليه وتوكله عليه وثقته به، وألا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده، ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحده، فلا يعلق قلبه بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه، ومتى علق قلبه بغيره ورجاه وخافه وُكِلَ إليه، وخذل من جهته؛ فمن خاف شيئًا غير الله سلط عليه، ومن رجا شيئًا سوى الله خذل من جهته، وحرم خيره، هذه سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً».
سورة الناس
قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}.
معاني المفردات والجمل:
قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}: الأمر للنبي ?، وهو أمر له، ولأمته، بل لكل فرد من أفراد أمته، وهكذا كل أمر أو خطاب في القرآن الكريم له ? فهو له ولأمته، ما لم يدل دليل على خصوصيته ? بذلك، كما في قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}( ) فلا يصح لامرأة أن تهب نفسها لغيره ?.
وجملة: {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وما بعدها في محل نصب مقول القول. وقوله {أَعُوذُ}: هذا هو الركن الأول من أركان الاستعاذة، وهو «التعوذ».
ومعنى {أَعُوذُ} أي: اعتصم وألتجئ وأستجير ( ).
وقوله: {بِرَبِّ النَّاسِ}: هذا هو الركن الثاني من أركان الاستعاذة، وهو المستعاذ به، وهو: رب الناس.
وقوله: {بِرَبِّ} جار ومجرور متعلق بـ {أَعُوذُ}، والباء للاستعانة.
و «الرب» هو الخالق المالك المدبر؛ فرب الناس خالقهم ومالكهم ومدبرهم، الذي يربيهم بقدرته ومشيئته وتدبيره، وهو رب العالمين كلهم، فهو الخالق للجميع ولأعمالهم ( ).
والناس: أصله: «أناس» ثم زيدت فيه الألف واللام؛ قال الشاعر:
إن المنايا يطلعن
على الأناس الآمنينا ( )

وهو على هذا مشتق من «أنس»؛ فالناس كالإنسان كل منهما مشتق من الأنس، لأنهم يأنس بعضهم ببعض، أو هو مشتق من «النوس» وهو الحركة المتابعة، وسمي البشر ناسًا، لأنهم ينوسون، أي: يتحركون حركة ظاهرة وباطنة، وصحح هذا ابن القيم ( ).
أو أن الناس وكذا الإنسان كل منهما مشتق من الإيناس: وهو الرؤية والمشاهدة، كما قال تعالى: {آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}( )، أي: رآها وشاهدها. وقال تعالى: {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}( )؛ أي: أبصرتموه ورأيتموه.
فسمي البشر «ناسًا» من هذا المعنى؛ لأنهم يُرَون ويُشاهدون، بخلاف الجن، فهم مستترون لا يشاهدون. وسمي الإنسان: إنسانًا، لأنه يُؤنس، أي: يُرى بالعين ( ).
وقيل أنهما مشتقان من النسيان؛ كما قال أحدهم:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه
ولا القلب إلا أنه يتقلب

وقد رد هذا ابن القيم، وقال: «لو كان الإنسان مشتقا من النسيان لقيل: «نسيان» ولم يُقل: «إنسان»( ).
قال الزمخشري ( ): «وإنما أضاف الرب هنا إلى الناس خاصة؛ لأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس؛ فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلههم ومعبودهم».
قوله تعالى: {مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ}: عطف بيان من قوله (رب الناس) وكرر المضاف إليه، وأظهره في الموضعين؛ لأن عطف البيان للبيان فكان مظنة للإظهار دون الإضمار ( ).
و {مَلِكِ النَّاس}: مالكهم ومدبرهم الذي يأمرهم وينهاهم( )، وكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكًا.
قوله: {إِلَهِ النَّاسِ} أي: معبودهم الذي يتوجهون إليه في جميع عباداتهم، إذ لا معبود لهم بحق سواه.
قال ابن القيم ( ): «وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب وأخر الألوهية لخصوصها، لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده، واتخذه دون غيره إلهًا، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه؛ ولكن المشرك ترك إلهه الحق، واتخذ إلهًا غيره باطلاً، ووسط صفة الملك بين الربوبية والإلهية؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره؛ فهو المطاع إذا أمر، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكه من كمال ربوبيته، وكونه إلهم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها، فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق، خلقهم بربوبيته، وقهرهم بملكه، واستعبدهم بألوهيته».
فالمستعاذ به هو: رب الناس، ومالكهم ومعبودهم، وكرر الاسم الظاهر «الناس» دون الضمير؛ فلم يقل: «رب الناس وملكهم وإلههم»؛ تقوية للمعنى؛ وهو أنهم إنما يستعيذون بمن له هذه الصفات العظيمة، وهو كونه: رب الناس، ومالكهم وإلههم، والمقصود: الاستعاذة بمجموع هذه الصفات، حتى كأنها صفة واحدة ( ).

وتتضمن هذه الصفات الثلاث جميع قواعد الإيمان، ومعاني أسماء الله الحسنى؛ فالرب هو القادر الخالق الباري... وأما الملك فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمور عباده كما يحب، ويقلبهم كيف يشاء.. وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، ولهذا يدخل في هذا الاسم «الله» جميع الأسماء الحسنى؛ فهو جامع لجميع أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ( ).
قال ابن القيم ( ): «وإذا كان وحده هو ربنا وملكنا وإلهنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره؛ فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلى عليه».
قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}: هذا هو الركن الثالث من أركان الاستعاذة وهو المستعاذ منه، وهو: {شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}، و«شر» مفرد مضاف إلى «الوسواس» وهو معرف بأل فيفيد الاستعاذة من جميع شرور الوسواس.
والوسواس: هو الشيطان. وأصل الوسوسة هي الحركة والصوت الخفي.
قال الأعشى ( ):
تسمع للحلي وَسْواسًا إذا انْصَرفت

كما استعان بريح عِشْرقٌ زَجِل

فالوسواس: الإلقاء الخفي في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت، كما يوسوس الشيطان إلى العبد.
والمراد بالوسواس هنا: الشيطان، وهو ذات لا مصدر ( )، وأصله: الشيطان الوسواس، فحذف الموصوف هنا وأقيم الوصف مكانه؛ لغلبة هذا الوصف على الشيطان، فصار كالعلم عليه، وجرى مجرى الاسم، فحسن حذف الموصوف، كما يقال: المسلم والكافر، ونحو ذلك ( ).
قال ابن كثير ( ): «وهو الشيطان الموكل بالإنسان؛ فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزين له الفواحش، ولا يألوه جهدًا في الخبال، والمعصوم من عصمه الله. قال ?: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه». قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «نعم، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير»( ).
ووصف الشيطان وسمي بالوسواس لدقة وخفاء مداخله ومجاريه من الإنسان كما قال ?: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»( ).
والوسواس من جنس حديث النفس؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}( )؛ أي: ما تحدث به نفسه. وقال ?: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به»( )، وهو نوعان: خبر إما عن ماض يذكره به، وإما عن مستقبل يحدثه بفعله أو يخوفه وقوعه، ونحو ذلك من الأماني والمواعيد الكاذبة. والنوع الثاني: إنشاء وهو إما أمر أو نهي أو إباحة»( ).
قوله {الْخَنَّاسِ}: هذه الصفة الثانية للشيطان. و{الْخَنَّاسِ}: صفة مشبهة أو صيغة مبالغة على وزن «فعال» من خنس يخنس، إذا توارى واختفى بعد ظهوره كما قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ}( )، وهي النجوم تخنس وتختفي بالنهار وتظهر وتبدو في الليل ( ).
ومنه قول أبي هريرة ?: «لقيني النبي ? في بعض طرق المدينة، وأنا جنب فانخنست منه»( ): أي: اختفيت.
وهو أيضًا مأخوذ من معنى الرجوع والتأخر ( )، كما في الحديث: «إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، فإذا ثُوِّب بها أدبر، فإذا قضي أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه، فيقول اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر – حتى لا يدري أثلاثًا صلى أم أربعًا»( ).
وهكذا حال الشيطان مع العبد؛ فإن غفل العبد عن الذكر أقبل عليه الشيطان بخيله ورجله وجثم على قلبه، وبذر فيه أنواع الوساوس، من تزيين الأعمال السيئة وغير ذلك، وإذا ذكر العبد ربه، واستعاذ بالله من الشيطان انخنس الشيطان وتوارى وتصاغر واختفى وتراجع وتأخر، وفي الحديث: «ما رُئي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رئي يوم بدر...» الحديث ( ).
ولهذا جاء بصيغة المبالغة «خناس» لبيان شدة هروبه، وعظم نفوره عند ذكر الله، وأن هذا دأبه وعادته دائمًا وأبدًا إذا ذكر الله هرب وخنس، وإذا غفل العبد عاوده بالوسوسة ( ).
قوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}: هذه صفة ثالثة للشيطان؛ فوصفه أولاً بالوسوسة، ثم وصفه ثانيًا بالخناس، ثم وصفه ثالثًا بكونه يوسوس في صدور الناس.
والصدور: جمع صدر، وهو ساحة القلب وبيته، فتجتمع فيه هذه الوساوس والواردات، ثم تلج إلى القلب، قال الله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}( )، وقال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}( ).
وشرور الشيطان كثيرة لا تحصى، وأعظم صفاته وأشدها شرًا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا الوسوسة، لهذا وصفه الله عز وجل بها، وهي أصل كل شر يقع في الأرض من ترك للواجبات، أو تقصير بها، أو انتهاك للمحرمات، ومن ظلم للنفس والغير، وغير ذلك.
قال ابن القيم ( ): «ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا، وهي الوسوسة، التي هي مبادئ الإرادة؛ فإن القلب يكون فارغًا من الشر والمعصية، فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خياله حتى تميل نفسه إليه، فيصير إرادة، ثم لا يزال يمثل له، ويخيل ويمني ويشهي، وينسي علمه بضررها، ويطوي عنه سوء عاقبتها، فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مددًا لهم وعونًا، فإن فتروا حركهم، وإن ونوا أزعجهم – إلى أن قال: فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة، فلهذا وصفه الله بها؛ لكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضًا». وقال أيضًا ( ): «ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها، فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه، يمنعه بجهده أن يسلكه، فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه وعوقه ووشوش عليه بالمعارضات والقواطع، فإن عمله وفرغ منه قيض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته».
وسوسة الشيطان للإنسان على أنواع ودرجات:
فمن وسوسته تزيين الكفر والشرك:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}( ).
وقال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}( ).
وقال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}( ).
ومن وسوسته تزيين المعاصي:
قال تعالى عن الأبوين عليهما السلام: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}( ).
وقال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}( ).
وقد جعل الله للشيطان سلطانًا على قلوب أهل الكفر والنفاق، كما جعل له نفوذًا على أهل الغفلة والمعاصي، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}( ).
وقال ?: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»( ).
ومن وسوسته ما جاء في حديث أبي هريرة ? عن النبي ? أنه قال: «يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته»( ).
وفي رواية أن أصحاب رسول الله ? قالوا يا رسول الله: إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به. قال: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»( ).
ومن وسوسته أيضًا: أن يشغل القلب بحديثه ووساوسه فيوقعه في نسيان ما أراد فعله أو قوله من أمر ديني أو دنيوي كما قال تعالى حكاية عن صاحب موسى ? أنه قال: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}( ) وتقدم في الحديث: «أنه يخطر بين المصلى وبين قلبه، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعًا»( ).
ومن وسوسته أنه يوهم الإنسان ويخوفه من الأمور المستقبلة ويحمله على التشاؤم دائمًا، ويجعل الحياة مظلمة في عينيه فتنتابه المخاوف على المستقبل، والمخاوف من الأعداء، ومن العين، ومن المرض، ومن الموت، ونحو ذلك وكل ذلك من الشيطان أخزاه الله.
وعلاج ذلك قوة الإيمان بالله والتوكل عليه واطراح هذه الوساوس، قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}( ).
وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}( ).
ومن وسوسته: أن يوحي إلى أعوانه من شياطين الإنس بأن يقول أحدهم أو يفعل ما فيه ضرر على العبد المسلم؛ فكم دبر الشيطان من مكيدة للمؤمنين على أيدي أعوانه من شياطين الإنس بسفك دم، أو انتهاك عرض، أو شتم وسب، أو مقالة سوء، أو نجوى، يريد بها الشيطان إلحاق الضرر والأذى والحزن بالمؤمنين ونحو ذلك، كما قال عز وجل {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}( ).
وخلاصة القول:
أن وسوسة الشيطان على أنواع لا تكاد تحصى كثرة، وهي سبب لكل بلية وكل معصية تقع في الأرض من ترك للواجبات أو انتهاك للمحرمات، وهي على مراتب:
فهو يأتي الإنسان فيدعوه إلى الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله ليكون من جنده ومن أعوانه على الشر.

فإن أيس منه، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه دعاه إلى المرتبة الثانية من الشر، والتي هي باب من الكفر والشرك، وهي البدعة، وحببها إليه لعظم ضررها في الدين، وكون ضررها متعدٍ، وشدة تمسك صاحبها بها لا يكاد يتوب عنها، كما دلت على ذلك الآثار، وكما هو حال أهل البدع.
فإن عجز عن إيقاعه في هذه المرتبة، وكان ممن وفق إلى السنة ومعاداة أهل البدع والضلال دعاه إلى المرتبة الثالثة من الشر وهي الوقوع في الكبائر على اختلاف أنواعها.
فإن عجز عنه دعاه إلى المرتبة الرابعة، وهي الوقوع في الصغائر والاستهانة بها، وهي إذا اجتمعت أهلكت صاحبها، وفي الحديث: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه»( ).
وقال ?: «يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبًا»( )، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار»( ).
فإن عجز عن إيقاعه في هذه المرتبة دعاه إلى المرتبة الخامسة وهي الانشغال بالمباحات من المآكل والمشارب وتزجية الأوقات بالنزه في المصايف والاستراحات والسياحة هنا وهناك لا لقصد ديني، ولا لقصد ديني دنيوي، وإنما لقصد دنيوي محض واتباعًا للشهوات ورغبات النفس، وبهذا ضاعت كثير من أعمار الخلق والله المستعان.
بل أدى ذلك بالكثير إلى التقصير في الواجبات، والتفريط في حق الله وحقوق الخلق، كالوالدين والزوجة والأولاد والأقارب والجيران والتفريط في حق النفس، وعدم أخذها بالحزم في أداء الواجبات عمومًا، والانتهاء عن المنهيات، والنظر في كتاب الله، وفي سنة رسوله ? الذي هو الغذاء الروحي للنفس، والذي لا تحيا القلوب بغيره.
ولعمر الله لقد خرج الناس بهذه المباحات عن الحد حتى ضاعت أعمار وأعمال وأموال.
وقل لي بربك ما حال من يقضي جل نهاره وأكثر ليله في هذه الاستراحات والتجمعات هل سيؤدي الصلاة كما يؤديها في مسجد الحي ومع جماعة المصلين، كلا بل سيؤديها في الغالب وحده أو مع واحد أو اثنين وربما نقرها نقر الغراب، مع ترك الأذكار بعدها والسنن الرواتب قبلها وبعدها، وماذا بقي للعبد إذا اختل أمر صلاته والله المستعان. فلينتبه لهذا من بلي بمثل هذه المجالس؛ فالصلاة أعظم حقوق الله تعالى بعد الشهادتين وما دونها من حقوقه عز وجل سيختل من باب أولى والله المستعان.
فإذا فرط فيها كان التفريط بما دونها من الواجبات من باب أولى، والله المستعان.
وقل لي بربك هل من كانت هذه حاله سيؤدي حقوق العباد من الوالدين والزوجة والأولاد والأقارب والجيران، وما يتعلق به من مصالح الأمة في عمله الوظيفي على الوجه المطلوب؟ كلا والله إلا من رحم ربك، وقليل ما هم، فكم من والد مقعد على أحر من الجمر يتمنى أن يرى أولاده معه على مائدة طعام؛ غداء أو عشاء أو إفطار، أو أن يكون بجانبه أحد أولاده لتهيئة القهوة له أو لضيوفه ولكن هيهات، الأولاد كلهم مشغولون بلا شغل في الفلوات والخلوات والاستراحات والذهاب يمينًا وشمالاً وهنا وهناك والمحصلة صفر – والله المستعان.
وكم من زوجة تنتظر زوجها بفارغ الصبر إلى ساعة متأخرة من الليل ولو حرك الهواء أحد الأبواب أو مر بها قط وهي غافلة طار عقلها خوفًا وفزعًا وزوجها مشغول خارج البيت بلا شغل، ولو جاء وهي نائمة لقال لها: لماذا تنامين يا بنت الذين... إلخ، إن لم يضربها أو يهددها بالضرب والطلاق.
وكم من أولاد هم فلذات الأكباد ليس لهم نصيب من جلوس والدهم بينهم وتربيته لهم وحنانه عليهم، بل ربما ليس لهم نصيب من رؤيته إلا النزر القليل يأتي إلى البيت وهم نائمون ويخرج في الصباح إلى العمل، وإذا جاء من العمل تناول غداءه على وجه السرعة ثم انطلق خارج البيت إلى هوى من الليل وهكذا.
وكم من أقارب وجيران وأخوات وإخوان أضحت حقوقهم في خضم النسيان بسبب ما ذكر.
وكم من مسؤوليات عامة أو خاصة ضُيعت وفرط فيها بسبب هذه الأحوال.
وكم من شخص صار قلبه خواء مظلمًا خربًا لخلوه من الغذاء الروحي؛ من الذكر وقراءة القرآن والسنة وتدبر ما فيهما من المعاني والأحكام بسبب انغماسه في هذه الأوحال وانشغاله بها. وصدق الله العظيم:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}( ).
وقال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}( ).
فإن عجز الشيطان عن شغل العبد بالمباحات دعاه إلى المرتبة السادسة، وهي الاشتغال بالمفضول عما هو أفضل منه، ليفوت عليه ثواب العمل الفاضل، ويزيح عنه الفضيلة ويقلل من فضله وثوابه، فيظن أن هذا الداعي من الله لاعتقاده أن هذا خير، وأن الشيطان لا يأمر بخير، فيقول: هذا الداعي من الله.
قال ابن القيم: «ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابًا من أبواب الخير؛ إما ليتوصل إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيرًا أعظم من تلك السبعين بابًا وأجل وأفضل...».
ومن أمثلة الاشتغال بالمفضول عن الفاضل أن يترك متابعة المؤذن بحجة أنه يقرأ القرآن ونحو ذلك، وأدهى من ذلك وأشد منه أن يترك الشخص العمل الذي يتقاضى عليه أجرًا كالأذان والإمامة أو العمل الوظيفي في مصالح المسلمين بحجة أنه ذاهب لعمل طاعة كالعمرة، أو حضور درس أو محاضرة، أو الخروج للدعوة ونحو ذلك؛ لأن هذا لا يعد من الاشتغال بالمفضول فحسب؛ بل إن هذا من الاشتغال بالسنة عن الواجب، ويا ليت كثيرًا ممن يتساهلون في مثل هذا يدركون ذلك وبخاصة الأئمة والمؤذنون الذين هم من أئمة المتقين؛ يالها من مكانة عظيمة ومنزلة عالية رفيعة لو عرفوا قدرها، والتي هي مطلب عباد الرحمن حقًا، كما قال عز وجل في صفاتهم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}( ).
وقال ?: «المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة»( ).
وقال ? في تعظيم مسؤوليتهما وعظم الأمانة الملقاة على عواتقهما: «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين»( ).
وإنني أعترف أنني أطلت في الكلام عن هاتين المرتبتين الأخيرتين وهما: الانشغال بالمباحات، أو بالمفضول عن الفاضل، وربما خرجت في ذلك من شيء إلى شيء؛ وذلك لمساس الحاجة في الوقت الحاضر إلى التأمل في خطر هذا الأمر؛ لتساهل كثير من الناس في ذلك واعتقادهم أن هذا إنما هو الأمور المباحة، أو المشروعة؛ غافلين عما يترتب عليه من تقصير في الواجبات أو ارتكاب للمنهيات، أو من تقديم للسنة على الواجب، أو المفضول على الفاضل ونحو ذلك، وكيف يعتقد من كان يتولى أمرًا من أمور المسلمين، من أذان، أو إمامة أو أي مسؤولية من مسؤوليات الأمة أنه يسوغ له ترك مسؤوليته بحجة الذهاب لأداء العمرة ونحو ذلك، وهل سيحصل له من الأجر على ذلك مثل أجر من احتسب وتحمل مسئوليته؛ كلا؛ بل إنه إلى التأثم أقرب، ولم يرد في كتاب ولا سنة جواز ذلك فضلاً عن أن يؤجر فاعله، ولم يقل بهذا أحد من علماء الأمة سلفًا وخلفًا، وإنما هذا من مداخل الشيطان وتقديم هوى النفس على حكم الله، وإني لأدعو المسلمين عمومًا وأرباب مسؤوليات الأمة خصوصًا من الأئمة والمؤذنين وعامة الموظفين والآباء والمربين وغيرهم إلى التنبه إلى هذا؛ فنحن أمة إسلامية ديننا الإسلامي دين الجد والعمل لا محل للفراغ في حياتنا، وقت المسلم بين المسجد والبيت والعمل، وساعة للترفيه والراحة عند الملل؛ فكل فرد منا على مسؤولية من مسؤوليات الأمة.
فهذا مؤذن، وهذا إمام، وهذا والد، وهذا مدرس، وهذا موظف، وكل منا على ثغر من ثغور الإسلام؛ فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله.
وإن من أكبر مصائب الأمة أن لا تدري أين مكمن الداء فيها؛ فتضل في حيرة من أمرها، أو ربما تظن الداء دواء لجراحاتها.
فما أكثر الذين يتباكون ويتلاومون على واقع الأمة؛ وكأنهم يدعون لأنفسهم الكمال، فإذا تأملت في واقعهم، وسبرت أحوالهم وجدت أن كثيرًا منهم من أكبر أسباب ضعف الأمة؛ بل العبء الأثقل على كاهل الأمة، شأنهم التلاوم والقيل والقال، والتنصل من مسؤوليات الأمة، وانتقاد الولاة والعلماء والدعاة والمصلحين والعاملين؛ مع التفريط والإضاعة؛ بل والخيانة فيما عليهم من مسؤوليات وواجبات في حق الله وحقوق الأمة، تفريط في حقوق الله، وفي حقوق الوالدين والأولاد، والأزواج والأقارب والجيران، وفي حقوق عامة المسلمين ومسؤوليات الأمة، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}( ).
فالأمة ليست بحاجة إلى الدعاوي الفارغة والحماس الأجوف؛ بل هي أحوج ما تكون إلى رجال لهم رصيد من الصدق مع الله وتقواه بأداء حقوقه وحقوق الخلق؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن لم يجاهد النفس والشيطان فلن يستطيع مجاهدة الأعداء، ومن خان حي على الصلاة خان حي الكفاح، ومن لم يقم أركان الإسلام وأهم واجباته فلن يقيم ما دون ذلك، ومن ترك الواجب لم ينتفع بالقيام بما دونه إن قام به.
ومجمل القول أن الأمة تحتاج إلى الرجل الراحلة الذي يتحمل مسؤولياته، ويملأ ويسد مكانه في الأمة؛ بأداء حقوق الله، وحقوق العباد، في البيت والمسجد والعمل الوظيفي والشارع، فهذا هو الجندي المجاهد، وما أقل هذا في الأمة، وصدق المصطفى ? حيث قال: «الناس كإبل مائة لا يوجد فيها راحلة»( ).
فالحاكم والأمير والقاضي والإمام والمؤذن والمدرس والموظف والتاجر والعامل وغيرهم ممن ائتمنوا على مسؤوليات الأمة كل منهم مثاب مأجور إذا قام بالعمل على الوجه الأكمل، مع حسن النية في أداء الواجب وخدمة الأمة.
ومما يؤسف له أن كثيرًا من الناس يتشبثون بفعل بعض النوافل والأعمال التطوعية مع تفريطهم في أهم الواجبات في حقوق الله وحقوق الأمة، ولا تقبل نافلة حتى تؤدى فريضة، وجاء رجل إلى النبي ? يسأل عن الإسلام فقال له النبي ?: «تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً». قال: يا رسول الله هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطَّوَّع». فقال الأعرابي: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فلما ولى قال ?: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا». وفي رواية: «أفلح إن صدق»( ).
وعودًا على ما سبق أقول مؤكدًا: إن الأمة أحوج ما تكون اليوم إلى الرجل الراحلة، الذي يسد مكانه في الأمة؛ أداءً الحقوق لله، وحقوق الأمة؛ مع محاسبة النفس محاسبة دقيقة في ذلك؛ إخلاصًا لله عز وجل ومتابعة للرسول ?، وحفاظًا على أوقات هذه الحقوق والواجبات، واجتهادًا في أدائها على الوجه الأكمل، براءة للذمة، ونصحًا لله ولرسوله ولكتابه.
وإنني أنادي الغيورين من أبناء الأمة رجالاً ونساءً من الآباء والأمهات والمربين والموجهين والمدرسين والخطباء والدعاة والواعظين إلى العودة بالأمة إلى هذا المنهج الصحيح؛ فإن به الضمان بإذن الله عز وجل لسعادة الأمة في دنياها وأخراها – والله المستعان.
وأخيرًا فإن الشيطان لا يقف بأذيته للعبد وتسلطه عليه عند هذا الحد، بل إنه إذا عجز عن إيقاعه في المراتب السابقة أو بعضها، وكان ممن هداه الله ووفقه وحفظه وعصمه من الوقوع في حبائل الشيطان سلط عليه حزبه من شياطين الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه، وقصْد إخماله وإطفائه؛ ليشوش عليه، ويشغل بحربه فكره، وليمنع الناس من الانتفاع به، فلا يزال المؤمن في حرب معه حتى يلقى الله ( ).
قوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}: من الجنة: جار ومجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً، والتقدير: كائنًا من الجنة والناس.
و «الناس»: معطوف على «الجنة»، وهو بيان للذي يوسوس؛ أي أن الذي يوسوس في صدور الناس نوعان: شياطين جن، وشياطين إنس؛ كما قال تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}( ).
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ? قال: «إن الملائكة تُحدِّث في العنان ( ) بالأمر يكون في الأرض فتستمع الشياطين الكلمة، فتقرها في أذن الكاهن، كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم»( ).
وعن أبي ذر ? أن رسول الله ? قال: «نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن»، قلت: أوللإنس شياطين؟ قال: «نعم شر من شياطين الجن»( ).
ومن وسوسة شياطين الإنس: وسوسة نفس الإنسان له كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}( )، وعنه ? قال: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به، أو تعمل به»( ).
وقيل: إن قوله {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيان للناس الموسوس في صدورهم. والمعنى: الذي يوسوس في صدور الناس، الذين هم من الجنة والناس؛ فالموسوس في صدورهم على هذا قسمان: جن وإنس؛ فالوسواس وهو الشيطان يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي( ).
والأظهر القول الأول ( )، وقد ضعف ابن القيم رحمه الله القول الثاني من وجوه عدة ( ): الأول: أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني، ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي ويجري فيه مجراه من الإنسي.
الثاني: أنه على هذا فاسد من جهة اللفظ أيضًا؛ فإنه قال: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} فكيف يبين الناس بالناس؟!
الثالث: أنه قسم الناس إلى قسمين: جنة وناس، وهذا غير صحيح؛ فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه.
الرابع: أن الجنة لا يطلق عليه اسم الناس بوجه، لا أصلاً، ولا اشتقاقًا، ولا استعمالاً، ولفظها يأبى ذلك، فإن الجنة إنما سمو جنًا من الاجتنان، وهو الاستتار، فهم مستترون عن أعين البشر.
الفوائد والأحكام:
1- أن الرسول ? إنما هو مبلغ عن الله عز وجل؛ لقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، وفي هذا الرد على من يزعم من أهل البدع أن هذا القرآن من نظمه ? ابتدأ به.
2- حاجة الرسول ? كغيره من البشر إلى الاعتصام بالله، واللجوء إليه، وأنه ? كغيره من البشر قد يصيبهم ما يصيبهم من الوساوس، وأنه لا يملك لنفيه دفع ضر أو جلب خير، وإنما المالك لذلك كله هو الله عز وجل؛ لقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} وفي هذا الرد على من يرفعونه ? إلى مقام الربوبية، فهو ? عبد لا يعبد ورسول لا يكذب.
3- إثبات الربوبية العامة لله عز وجل؛ فهو رب جميع الناس مؤمنهم وكافرهم لقوله: {بِرَبِّ النَّاسِ}؛ فهو خالقهم ومالكهم.
4- إثبات الملك العام لله عز وجل؛ فهو ملك الناس ومدبرهم، له الأمر والنهي بقسميهما الشرعي والكوني؛ لقوله {مَلِكِ النَّاسِ}.
5- إثبات الألوهية العامة لله عز وجل؛ فهو إله الناس ومعبودهم الحق، ولو عبد بعضهم غيره، فليس لهم في الحقيقة معبود سواه؛ لقوله {إِلَهِ النَّاسِ}.
قال تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}( ).
6- مشروعية الاستعاذة برب الناس وملكهم وإلههم من شر الشيطان ووساوسه؛ لقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، إلى قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ}.
7- عظيم خطر الشيطان ووساوسه؛ فهو أصل الشر كله، وأصل كل كفر وفسوق وعصيان؛ لأن الله أمر بالاستعاذة به سبحانه والاعتصام بجنابه من الوسواس.
8- أن من طبيعة الشيطان أنه يوسوس عند الغفلة عن ذكر الله ويخنس ويختفي ويتراجع ويتأخر ويتصاغر عند ذكر الله عز وجل؛ لأن الله وصفه بقوله {الْخَنَّاسِ}.
9- أن الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس على نوعين: شياطين جن وشياطين إنس؛ لقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} كما قال عز وجل: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}( ).
فائدة:
ذكر ابن القيم رحمه الله ( ) قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز به منه، وذلك عشرة أسباب ألخصها فيما يلي:
1- الحرز الأول: الاستعاذة بالله من الشيطان؛ كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}( ).
وعن سليمان بن صرد ? قال: «استب رجلان عند النبي ? ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد أحمر وجهه، فقال النبي ?: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي ? فقال: «إني لست بمجنون»( ).
2- الحرز الثاني: قراءة المعوذتين؛ فقد كان النبي ? يتعوذ بهما في كل ليلة، وقال ?: «ما تَعوذ متعوذ بمثلهما»( ). وأمر عقبة بن عامر أن يقرأ بهما دبر كل صلاة ( ).
وقال ?: «إن من قرأهما مع سورة لإخلاص ثلاثًا حين يمسي، وثلاثًا حين يصبح كفته من كل شيء»( ).
وقد تقدم ذكر كلام ابن القيم في أن حاجة الإنسان إلى التعوذ بهاتين السورتين أشد من حاجته إلى الطعام والشراب واللباس والنفس فتأمل هذا.
3- الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي، كما في حديث أبي هريرة ? قال: «وكلني رسول الله ? بحفظ زكاة رمضان، فأتى آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ? فذكر الحديث إلى أن قال: فقال رسول الله ?: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح...»( ).
4- الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة. كما في حديث أبي هريرة ? أن رسول الله ? قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان»( ).
5- الحرز الخامس: قراءة خاتمة سورة البقرة، كما في حديث أبي مسعود الأنصاري ?، قال: قال رسول الله ?: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»( ).
وعن النعمان بن بشير ? عن النبي ? قال: «إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، فلا يقرأن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان»( ).
6- الحرز السادس، قراءة أول سورة «حم المؤمن» إلى قوله «إليه المصير» مع آية الكرسي لحديث أبي هريرة ? قال: قال رسول الله ?: «من قرأ حم المؤمن إلى «إليه المصير» وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح»( ).
7- الحرز السابع: قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. مائة مرة؛ لحديث أبي هريرة ? أن رسول الله ? قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك»( ).
8- الحرز الثامن: كثرة ذكر الله عز وجل، وهو من أنفع الحروز وبه طمأنينة القلب، كما قال عز وجل: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}( ).
9- الحرز التاسع: الوضوء والصلاة، قال ابن القيم: «وهذا من أعظم ما يتحرز به، ولاسيما عند توارد قوة الغضب والشهوة؛ فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم... والوضوء يطفئها، والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله، وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه»( ).
10- الحرز العاشر: الإمساك عن فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الأنام، فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة – ويا صعوبة التخلص منها إلا على من وفقه الله؛ فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب، والاشتغال به، والفكرة في الظفر به.
وفي الأثر: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه».
وقد قيل( ):
كل الحوادث مبداها من النظر
ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والإمساك عن فضول الطعام:
فإن تتبُّع أطايب المأكولات وأنواعها سبب للغفلة عن ذكر الله وكون الإنسان بهيميًا همه بطنه، كما أن الإكثار من الأكل سبب للتخمة والكسل وثقل الجسم عن العمل، وفي الحديث:
«ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»( ).
والإمساك عن فضول الكلام:
فإن الإكثار من الكلام فيما لا يعني سبب للوقوع فيما لا ينبغي، ولهذا أمر الإسلام بحفظ اللسان، قال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}( ).
وفي حديث معاذ بن جبل ?، أنه قال: فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به أو فيما نقول بألسنتنا؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»( ).
والإمساك عن فضول مخالطة الأنام:
فإن فضول مخالطة الأنام من أعظم أسباب الشرور والآثام؛ فيجب أن تكون مخالطة العبد للناس على قدر الحاجة.
والناس في هذا أربعة أقسام: القسم الأول: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة – وهم العلماء بالله وأمره، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
القسم الثاني: من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض، فما دام الشخص صحيحًا فلا حاجة له في مخالطتهم، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، فتكون مخالطتهم بقدر الحاجة.
القسم الثالث: من مخالطتهم كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه، وقوته وضعفه، فمنهم من تكون مخالطته ضررًا عليك في دينك ودنياك فهم كمرض الموت المخوف، ومنهم من تكون مخالطته كوجع الضرس يشتد فإذا فارقك سكن الألم، ومنهم من تكون مخالطته حمى الروح، وهو الثقيل البغيض، الذي لا تستفيد منه ولا يستفيد منك، لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها منزلتها، فمخالطة هذا النوع – وهم كل مخالف – حمى الروح، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف، حتى يجعل الله من أمره فرجًا ومخرجًا.
القسم الرابع: مَنْ مخالطتُه الهلك كله بمنزلة أكل السم كأهل البدع والضلال الصادين عن سنة رسول الله ?.
فالحزمَ كل الحزم؛ البعد عنهم، والحذر منهم، والتماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم.
وكما قيل:
لقد زادني حبًا لنفسي أنني
بغيض إلى كل امرئ غير طائل ( )


فائدة: في الفرق بين الموسوس والساحر والحاسد:
أمر الله عز وجل في سورة الناس بالاستعاذة من شر الوسواس، وأمر في سورة الفلق بالاستعاذة من شر الساحر والحاسد.
فأفرد الاستعاذة من شر الوسواس في سورة الناس، لأن الوسواس وإن كان بسبب من شياطين الجن والإنس كما قال تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} إلا أنه إنما يؤذي العبد من داخل بواسطة مساكنته له وقبوله منه، ولهذا يعاقب العبد على تماديه مع الوساوس، لأن ذلك بسعيه وإرادته بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه.
وقرن عز وجل بين الاستعاذة من الساحر والحاسد، لأن شر كل منهما خارج عن إرادة المسحور والمحسود فلا يعاقبان على ما يحصل لهما بل يؤجران إذا صبرا على ذلك.
وكل من السحر والحسد من شرور شياطين الإنس والجن، كالوسواس، إلا أن الحسد أخص بشياطين الإنس، لأنه يدل على شر النفس وطبعها، ليس هو شيئًا اكتسب من غيرها، وإن كان كغيره من المعاصي من تزيين الشيطان وتسويله، لكن لو لم تكن النفس خبيثة شريرة ومحلاً لذلك لما حصل الحسد.
أما السحر فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى كالاستعانة بالأرواح الشيطانية، والتقرب إلى الشيطان وعبادته من دون الله، والسجود له، ونحو ذلك ( ).
فائدة أخيرة:
لعلك أخي المسلم بعد تدبرك في كلام أهل العلم على هذه السور الثلاث اتضح لك ما فيها من الوقاية والحفظ والشفاء بإذن الله عز وجل لأمراض القلوب والأبدان، وخرجت بشخصية المسلم الحق، الذي يجمع بين فعل الأسباب والتوكل على الله، ولا يخاف بعد ذلك إلا الله، ولا يرجو إلا الله، ولا يعتمد إلى على الله، ولا يستعيذ إلا بالله. فهذا غاية العزة والسعادة والسؤدد والكرامة، وكما قيل:
سأعيش رغم الداء والأعداء

كالنسر فوق القمة الشماء

النور في جنبي وبين جوانحي

فعلام أخشى السير في الظلماء



ثبت المراجع
- بدائع الفوائد لابن القيم 751هـ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
- تفسير آيات الأحكام في سورة النساء، دكتور سليمان اللاحم.
- تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم م 327هـ الطبعة الأولى 1417هـ-1997م مكتبة نزار مصطفى الباز مكة – الرياض.
- تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير م 774هـ، طبعة دار الشعب، مصر.
- التفسير القيم، لابن القيم م751هـ، جمع محمد أويس، تحقيق محمد حامد الفقي، لجنة التراث العربي.
- تيسير الكريم الرحمن للسعدي م1376هـ تحقيق محمد زهدي النجار، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م.
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري من 310هـ تحقيق شاكر طبعة المعارف، والطبعة الثالثة 1388هـ-1968م، مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
- دقائق التفسير لابن تيمية، تحقيق محمد السيد الجليد، الطبعة الثانية 1404هـ-1984م.

- ديوان الأعشى، بتعليق محمد محمد حسين، الطبعة السابعة 1983م، مؤسسة الرسالة.
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي م671هـ، طبعة 1387هـ-1967م.
- سنن ابن ماجه م275هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة 1372هـ-1952م، دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي.
- سنن أبي داود 275هـ، تعليق عزت الدعاس، الطبعة الأولى 1388هـ-1969م.
- سنن الترمذي م279هـن تحقيق أحمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي – المكتبة الإسلامية.
- سنن النسائي م 303هـ.
- الصحاح للجوهري، الطبعة الثانية 1399هـ-1979م.
- صحيح البخاري مع فتح الباري تصحيح وتحقيق بإشراف الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
- صحيح مسلم م 261هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الثانية 1398هـ-1978م، دار الفكر العربي بيروت.
- الكشاف للزمخشري م 538هـ، دار المعرفة بيروت.
- لسان العرب لابن منظور م721هـ - دار صادر بيروت.
- اللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب، للدكتور سليمان اللاحم، الطبعة الأولى 1420هـ-1999م، دار المسلم، الرياض.
- مسند الإمام أحمد م 242هـ، الطبعة الثانية 1398هـ-1978م، المكتب الإسلامي بيروت، والطبعة الرابعة 1373هـ-1954م تحقيق أحمد شاكر، دار المعارف بمصر.
- الموطأ للإمام مالك، رواية محمد بن الحسن، الطبعة الثانية، 1399هـ-1979م.
- النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير م 606هـ.

* * *

فهرس الموضوعات
الإهداء 5
المقدمة 6
سورة الإخلاص 9
فضل هذه السورة 10
أ- ما ورد في فضل قراءتها وفضل حبها وحب قراءتها 10
ب- ما ورد في أنها تعدل ثلث القرآن 12
جـ- ما ورد في فضل قراءتها مع المعوذتين في الصباح والمساء 14
د- ما ورد في قراءتها مع المعوذتين عند النوم 15
هـ- ما جاء أن فيها اسم الله الأعظم 16
معاني المفردات والجمل 16
الفوائد والأحكام 22
سورة الفلق 26
اسم السورة 26
سبب النزول 26
فضل المعوذتين 27
معاني المفردات والجمل 28
الفوائد والأحكام 52
فائدتان 63
الفائدة الأولى: أسباب تحريم الحسد 63
الفائدة الثانية: الأسباب التي بها يندفع شر الحاسد بإذن الله عز وجل 65
سورة الناس 74
معاني المفردات والجمل 74
وخلاصة القول 87
الفوائد والأحكام 99
فائدة 100
فائدة: في الفرق بين الموسوس والساحر والحاسد 107
فائدة أخيرة 108
ثبت المراجع 109
فهرس الموضوعات 112

* * *


حــــور January 8, 2011 09:53 PM

رد: فوائد عظيمة في سورة الإخلاص- والمعوذتين-------سبحان الله
 
جزاكـ الله خييرا
وحرم أناملكـ عن النااار
موضوع يستحق الوقوف عليه
ويستحق التقيم
في انتظار جديدك
لكـ ودي وتقديري


الساعة الآن 10:18 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
المقالات والمواد المنشورة في مجلة الإبتسامة لاتُعبر بالضرورة عن رأي إدارة المجلة ويتحمل صاحب المشاركه كامل المسؤوليه عن اي مخالفه او انتهاك لحقوق الغير , حقوق النسخ مسموحة لـ محبي نشر العلم و المعرفة - بشرط ذكر المصدر