عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم February 13, 2012, 08:42 PM
 
شعر الرثاء الذاتي بقلم الدكتور عبد القدوس أبو صالح

شعر الرثاء الذاتي
كتب د.عبدالقدوس أبو صالح ▪مجلة الأدب الإسلامي العدد13

"قال أبو عبيدة: سألت أعرابياً: ما أجود الشعر عندكم؟ فقال: ما رَثَيْنا به آباءنا وأولادنا، وذلك أنا نقولها وأكبادنا تحترق". على أننا إذا استعرضنا شعر الرثاء في الأدب العربي، رأينا فيه نمطاً من المراثي عالياً جداً، ما يكاد يتعلق به شيء من الشعر، ذلك هو رثاء الشعراء لأنفسهم، حين يُحسّون دبيب الموت إلى أوصالهم، وحين يشعرون أن خفقات قلوبهم باتت خافتة وئيدة معدودة .
وأول ما يلفت النظر في هذا الرثاء أنه شعر مرتجل غالباً، وأنه مقطعات قِصار، وربما لا يزيد بعضها عن البيتين أو الثلاثة، وكأن الشاعر يختلسها من الموت المتربص به، فإذا بها ومضة فنية سريعة، أشبه بتوهج الشمعة قبل أن تنطفئ.
ومع ذلك فإن بعض الشعراء انفسح لهم الأجل قليلاً فرثوا أنفسهم بقصائد مطولة كعبد يغوث الحارثي ومالك بن الريب، أو أتيح لهم أن ينظموا عدة مقطعات في ذلك كما عهد في ديوان أبي العتاهية وأبي نواس.
وقد تنوعت نماذج الرثاء الذاتي حتى استطاعت أن تصور النفس الإنسانية ومواقفها المتباينة أمام الموت. فمن الشعراء من واجهوا مصيرهم بصبر عجيب واستهانة لا حد لها، وعلى رأس هؤلاء شهداء العقيدة، وأولهم خُبَيْب بن عديّ رضي الله عنه. قال ابن هشام: "ثم خرجوا – يعني كفار قريش– بخبيب بن عدي حتى إذا جاؤوا به إلى التنعيم ليصلبوه قال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا. قالوا: دونَك فاركع. فركع ركعتين أتمَّهما وأحسنَهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طَوَّلت جزعاً من القتل لاستكثرت من الصلاة". وكان مما نسب إليه قوله قبل أن يُصْلَب:
إلى الله أشكو غربتي ثم كُرْبتي وما أَرْصَدَ الأحزاب لي عند مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يُبارِكْ على أوصال شِلْو مُمَــزَّع(1)
ولست أبالي حين أُقْتَلُ مسلمـاً على أيِّ جنب كان في الله مصرعي
وممن صَبَّر نفسه للموت رجولة وبسالة جعفر بن علبة الحارثي وكان من قوله في السجن قبل أن يقتل:
هوايَ مع الركب اليمانين مُصْعِدٌ جَنيبٌ وجثماني بمكَّةَ مُوثَـقُ
فلا تحسبي أني تخشَّعتُ بعدكُـمْ لشيء ولا أني من الموت أَفْرَقُ(2)
ولا أن قلبي يزدهيه وعيدُهُـمْ ولا أنني بالمشي في القيد أَخْرَقُ(3)
ولما أخرج للقود انقطع شِسْع نعله فوقف فأصلحه، فقال له رجل: أما يشغلك عن هذا ما أنت فيه!؟ فقال :
أَشُدُّ قِبالَ نَعْلي أن يراني عدوِّي للحوادث مُسْتكينا
وكان بعض الشعراء أقرب إلى طبيعة النفس الإنسانية فعبروا عن جزعهم من الموت، ومن هؤلاء عبيد بن الأبرص ودرّاج بن زرعة بن قطن الذي كان من قوله في السجن قبل أن يقتل:
ولما دخلتُ السجن أيقنت أنـــه هو البينُ لا بَيْنُ النوى ثم يجمعُ
وما السَّوطُ أبكاني ولا السجن شفَّني ولكنني من رهبة الموت أجزعُ(4)
وقد كثر في العصر العباسي وما بعده أولئك الشعراء الذين أسرفوا على أنفسهم حتى إذا كانوا على شفا الموت مضوا يذكرون ذنوبهم، ويشفقون من لقاء ربهم فيبكون على أنفسهم ويعلنون التوبة والاستغفار، حتى انقلب رثاؤهم لأنفسهم مواعظ شجية مؤثرة، فمن ذلك قول أبي نواس:
ذَهبَتْ جِدَّتي بطاعة نفسي وتذكَّرتُ طاعةَ الله نِضْوا(5)
لَهْفَ نفسي على ليال وأيا م تملَّيتُهُنَّ لعباً ولهــوا
قد أسأنا كل الإساءة فاللـــــــــهمَّ صفحاً عنا وغفراً وعفوا
ومن الشعراء من وصف حفرة قبره كما فعل أبو ذؤيب الهُذَلي، ومنهم من تخيل ما سيفعله الناس بعد موته، كيزيد بن خذاق، وقيل: إنه أول من بكى على نفسه من الشعراء، فقال:
قد رَجَّلوني وما بالشَّعْرِ من شَعَثٍ وألبســوني ثياباً غيرَ أَخْلاقِ(6)
وطيَّبوني وقالوا: أيُّما رجــل وأدرجوني كأني طَيّ مِخْـراقِ(7)
وأرسلوا فتية من خيرهم حسباً ليسندوا في ضريح القبر أطباقي
وقسَّموا المال وارفضَّتْ عوائدُهُمْ وقال قائلهـم: مات ابن خَذَّاقِ
ولعل أجمل ما قيل في رثاء الذات ما كان صاحبه شاباً في عنفوان الشباب، أو فارساً أثخنته الجراح، أو أسيراً يندب نفسه في ظلام السجن قبل أن يصير إلى ظلام القبر، أو غريباً هَدَّه الحنين إلى الوطن والأهل، ولم يجد حوله من يبكي عليه. فمن ذلك أن علي بن الجهم خرج مع القوم إلى الجهاد فاعترضت سبيلهم جماعة من أعراب بني كلب وأصابته طعنة نافذة بعد أن أبلى بلاء حسناً، فلما حان المساء أحس بالموت فجعل يقول:
أَزيدَ في الليل ليلُ أم سال بالصبح سَيْلُ
يا إخوتي بِدُجُيل ٍ وأين مني دُجَيْــلُ(8)
فأبكى كل من كان في القافلة، ولما نزعت ثيابه بعد موته وجدت معه رقعة فيها:
وارحمتا للغريب في البلد النَّا زح ماذا بنفسه صنعـــا
فارق أحبابه فما انتفعــوا بالعيش من بعـده ولا انتفعا
يقول في نَأْيِهِ وغربتـــه عدلٌ من الله كل ما صنعـا
ولما حمل أبو فراس إلى حلب مثخناً بالجراح ودَّع ابنته الوحيدة قائلاً:
أبنيتي لا تجــزعـي كل الأنـــام إلى ذهابْ
نوحي علي بحســرة من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلَّمْتِنـــي وعييتُ عن رد الجـواب
زين الشباب أبو فــرا س لم يُمَتَّعْ بالشبــاب
على أن رائعة الشعر العربي في رثاء الذات هي قصيدة مالك بن الريب، إذ اجتمعت فيها خصائص هذا الفن جميعاً من عمق الشاعرية وأصالتها، وصـدق العاطفة
وتأثيرها، ومن روعة الحنين، ورهبة الموت، ووحشة القبر، ومن صمود الرجولة، وأصداء الحماسة والبطولة، ومن ضعف الإنسان وعجزه أمام الأجل المحتوم!. وجمعت إلى ذلك كله تلك الهزة الشعورية التي لا نحسُّها إلا في الشعر الإنساني الخالد. وكان من أمر مالك بن الريب أنه خرج مع سعيد بن عثمان بن عفان مجاهداً في أقصى خراسان، وعندما كان في بعض الطريق لدغته الأفعى فلما أحس الموت أنشأ يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلـــةً بجنب الغَضا أُزْجي القلاصَ النَّواجيا(9)
فليت الغَضا لم يقطع الركبُ عرضَهُ وليت الغَضا ماشى الركـابَ لياليا
أقول لأصحــابي ارفعـوني فإنه يَقَرُّ لعيني أن سُهَيْلٌ بدا ليــــا(10)
فيا صاحبَيْ رَحْلي دنا الموت فانزلا برابيـــة إنّي مقيـم لياليـــا
وخُطَّا بأطراف الأسنَّة مضجعـي ورُدَّا على عينيَّ فضلَ ردائـــيـا
ولا تحسداني – بارك الله فيكمـا- من الأرض ذات العرض أن تُوسعا ليا
خُذاني فَجُرّاني ببردي إليكمــا فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديــا
تفقَّدتُ من يبكي عليّ فلـم أجد سوى السيف والرمح الردينيِّ باكيا
يقولون: لا تَبعدْ وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيـــا(11)
ـــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) الشِلْو: العضو وبقية الشيء. والمُمَزَّع: الممزَّق.
(2) تخشَّعت: خضعت. أفرق: أخاف.
(3) الخرَق: الدَّهش من الخوف.
(4) شفّه: أضعفه.
(5) النِّضو: الهزيل.
(6) الترجيل: تسريح الشعر. الشعث: التفرق. الأخلاق: الرثّة.
(7) أدرجوني: لفوني بالكفن. المخراق: المنديل الذي يُلفُّ به.
(8) دجيل: فرع من نهر دجلة.
(9) الغضا: شجر من الأثل. القلاص: النوق السريعة.
(10) سهيل: نجم ملتمع، طلوعه في بلاد العرب في أواخر الصيف.
(11) لا تبعد: لا تمت .
رد مع اقتباس