عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم October 6, 2011, 12:51 AM
 
قصة أصحاب الجنة

قصة أصحاب الجنة


بسم الله الرحمن الرحيم

مقـدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فهذه الرسالة الموجزة إحدى رسائل القصص القرآني، ذلكم القصص المبارك الذي ينمي جوانب الخير، ويحذر من الشرور والآثام، وقبل فإنه يصحح الاعتقاد ويخلص النوايا من الشوائب والأكدار ويقوم الأخلاق ويهذب النفوس ويحذر وينذر، ويطمئن ويبشر ويواس ويذكر، ويهون الخطوب ويصبر.
نسوقها ضمن سياقنا لهذا القصص الكريم رسالة بعد رسالة سائلين الله أن ينفعنا بها والمسلمين، مبينين شيئًا من الحكم والعبر المستفادة منها. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصل اللهم وسلم وبارك على رسول الله.


كتبـه
أبو عبد الله مصطفى بن العدوي
مصر – الدقهلية – منية سمنود

بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي القصة المباركة
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم قصصًا منوعة كثيرة تؤخذ منها العبر وتستفاد منها العظات، وتطمئن بها قلوب أهل الإيمان، تطمئن قلوبهم إلى أن الإيمان بالله عز وجل وتوحيده وطاعته وامتثال أمره وطاعة رسله صلوات الله وسلامه عليهم، وشكر نعمه بالإحسان لخلقه، كل ذلك من أسباب دوام النعم، وازديادها وكثرتها ونموها والبركة فيها فضلاً عما أعد لأهل الإيمان في الآخرة كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
وفي المقابل فإن الكفر بالله وجحود نعمه ومخالفة أمره وعصيان رسله، والإساءة إلى خلقه وظلمهم كل ذلك من أسباب زوال النعم وحلول النقم في الدنيا فضلاً عن العذاب الشديد المعدِّ في الآخرة للظالمين.
قال تعالى: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
وقد يكون هذا العذاب الشديد في الدنيا بسحق النعمة وإزالتها...
وقد يكون بمحو آثارها في النفوس، فيكون الشخص في نعم عظيمة ولكنه مكتئبٌ على الدوام مهموم مغموم في كل حال، جشع وطماع وحريص.
وقد يدخر العذاب الشديد إلى الآخرة عياذًا بالله من العذاب وسوء المصير.
* فهذه المفاهيم التي ذكرت تتجلى وتتضح وتظهر وتتجسد في القصص القرآني المبارك الكريم وها هي قصة من قصص هذا الكتاب المبارك الميمون كتاب الله عز وجل الذي يحمل دومًا الخير والبركات والبشارة والعظات...
إنها:

قصة أصحاب الجنة
قال تعالى:
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17-33].
* فها نحن بين يديها، وها هي بين أيدينا إنها قصة يواس الله بها نبيه r، ويذكر بها القرشيين ويحذرهم من مغبة أمرهم الذي هم فيه من شرك وضلال، وكفر وعناد إنها قصة أصحاب الجنة الذين ابتلاهم الله بالخيرات والنعم، فقد تكون الابتلاءات بالخيرات والنعم، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168].
وكما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
لقد ابتلى الله سبحانه وتعالى قريشًا بالخيرات والنعم كما ابتلى أصحاب الجنة بالخيرات والنعم، فكان من أمر قريش ما كان من أمر أصحاب الجنة، لقد قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً([1]) كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى ما آل إليه أمر أصحاب الجنة الذين لم يقدموا شكرًا لنعم الله عليهم، وإلى ماذا سيؤول إليه أمر هؤلاء الكفار من أهل مكة الذين لم يقدموا لله شكرًا على بعثة النبي r فيهم ومنهم وبلسانهم.
قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ}.
فوجه الشبه بين ابتلاء القرشيين، وبين ابتلاء أصحاب الجنة من ناحية كونه ابتلاء بالنعم فأصحاب الجنة ابتلاهم الله ببستان أثمر من كل زوج بهيج فلم يقدموا لذلك شكرًا، فذهب الله بثمرته ودمره تدميرًا.
وأهل مكة ابتلاهم الله ببعثة النبي محمد r فيهم هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وابتلاهم بالقرآن، وابتلاهم أيضًا بما أنعم به عليهم من المال والجاه والولد والسيادة، فلم يقدموا لذلك شكرًا فانتقم الله منهم أيضًا، وحل بهم من البلاء ما حل يوم بدر.
وحل بهم ما حل من الجوع ونقص الثمرات ما حل، كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وهذه سنة لله مطردة في العباد في كثير من الأحيان يبتليهم بالسراء لعلهم يشكرون، فإذا لم يقدموا شكرًا ابتلاهم بالضراء والعكس أيضًا كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وكما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168].
وكما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 94، 95].
وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]. والله أعلم.
* ها نحن بين يدي قصة قصيرة من القصص القرآني حملت معاني كثيرة عظيمة تبين عاقبة سوء النوايا، وعاقبة حرمان الفقراء والمساكين تبين عاقبة الجشع والطمع والشح والبخل، ثم التلاوم والندم والاعتراف بالخطأ والطغيان.
* ها هي قصة أصحاب الجنة، أصحاب الحديقة والبستان إنهم قوم وسع الله عليهم ورزقهم([2])، فأينعت ثمرة جنتهم وجاء وقت حصادها واقترب.
فماذا كان من أمر هؤلاء (أصحاب الجنة) الذين وسع الله عليهم؟ وماذا كان موقفهم من الفقراء والمساكين؟!!
لقد قابلوا نعم الله بالشح والبخل والعزم على حرمان الفقراء والمساكين! لقد أضمروا نوايا خبيثة:
{إِذْ أَقْسَمُوا} فيما بينهم وتعاهدوا وتعاقدوا.
{لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ليقطعن ثمرها في الصباح الباكر.
ذلك لئلا يعلم بهم فقير ولا يمر بهم سائل ولا مسكين!! ذلك ليتوفر ثمرها كله لهم ولا يتصدقوا منه بشيء.
{وَلَا يَسْتَثْنُونَ} إنهم أقسموا ولم يستثنوا.
لم يقولوا إن شاء الله، لم يخرجوا للفقراء حقوقهم! لقد عقدوا العزم على ذلك وخفيت عليهم أمور:
* لقد غفلوا عن أن الله يسمع سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب.
* لقد غاب عنهم وعن أذهانهم أن الله يتلف أموال الممسكين وأن الله يخلف على المنفقين.
نعم فما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبتيها ملكان، أحدهما يقول: اللهم أعط منفقًا خلفًا، والآخر يقول: اللهم أعط ممسكًا تلفًا.
* فحق ما قاله ربنا: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
* وحق ما نقله نبينا r عن ربنا سبحانه وتعالى: «أنفق يا ابن آدم أنفق عليك»([3]).
* وحق ما قاله نبينا r: «يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف»([4]).
* لقد خفي على هؤلاء القوم أن الله سبحانه ينظر إلى القلوب والأعمال، ويجازي على حسن النوايا بالحسنى ويجازي على سيئها السوأى ويعاقب على ذلك أشد العقاب!!
لقد خفي هذا على أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين!!
غاب عنهم مثل قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [ البقرة: 225].
فلما غاب عنهم هذا العلم وتناسوه أضمروا الشر وعزموا على حرمان الفقراء والمساكين، وأقسموا ليصرمنها مصبحين.
جاءهم من ثم العقاب سريعًا عاجلاً غير آجل فهم يبيتون ما لا يرضي الرب، والله يكتب ما يبيتون.
* إنهم يرتبون ويدبرون ويخططون لحرمان الضعفاء والمساكين ولكن كما هو معلوم فالجزاء من جنس العمل فمن أكرم الناس أكرمه الله، ومن حرمهم حرم، ومن منعهم الخير منع! فجزاء سيئة سيئة مثلها!
وأيضًا فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!!
إن القوم أضمروا الشر وعزموا على البخل، فأتاهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون:

{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ}

لقد خفي على هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى يثيب على النوايا ويعاقب!! يثيب ذوي القلوب الطيبة والنوايا الحسنة ومن في قلوبهم رقة ورأفة ورحمة للمؤمنين، ويرحم الله من عباده الرحماء ويثيبهم!
نعم يثيبهم الله وينزل عليهم السكينة!!
* فهؤلاء أصحاب النبي r الكرام، لما علم الله ما في قلوبهم من خير وإيمان وتقى وإحسان ماذا كان؟!
كان كما قال الله تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 18، 19].
* وها هم الأسرى الذين أسروا يوم بدر يذكر بعضهم أنه كان مسلمًا بل ومؤمنًا، فيقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70].
* وها هي طائفة تنال عظيم الأجر وجميل الثواب لنواياها الحسنة وإن حبسها عن فعل الخير حابس.
قال النبي r: «إن المدينة لرجالا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم» - وفي رواية: «إلا شركوكم في الأجر – حبسهم العذر» وفي رواية: «حبسهم المرض»([5]).
* وأيضًا فإن النبي r قد قال: «المرء مع من أحب».
ففي الصحيحين من طريق أبي وائل عن عبد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله r: «المرء مع من أحب»([6]).
ولنرجع فنقول ماذا كان من أمر هؤلاء (أصحاب الجنة)؟!! ماذا كان من أمرهم لما أضمروا الشر وعزموا على حرمان المساكين؟!! ما الذي حدث لجنتهم وبستانهم وحديقتهم؟
إنهم أضمروا الذي أضمروه {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} لقد حل بها شيء من عند الله، شيء عظيم! هل هي نار أحرقتها؟! أم برد شديد أحرقها أيضًا؟! أم طارق طرقها فدمرهها، أم بلاء حل بها فذهب بثمارها كل ذلك قد يكون، وبكل من ذلك قد قال بعض أهل العلم.
والحاصل أن الله عاقبهم في حديقتهم عقوبة شديدة، مؤلمة موعدة {فَأَصْبَحَتْ} حديقتهم من شدة الأخذ الذي أخذت به من أليم البلاء الذي حل بها {كَالصَّرِيمِ} كالليل الأسود شديد الظلمة، وكالرماد الأسود.
أصبحت جنتهم كالبستان الذي صرم ثمره وقطع، كل ذلك، وهم لا يشعرون، بل ما زالوا مع بعضهم يبيتون، يبيتون ما لا يرضي ربنا من القول، ويعزمون على ما لا يرضي ربنا من الفعل فأصبحوا يتنادون {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} ينادي بعضهم بعضًا في الصباح الباكر، حيث لا يراهم أحد، ولا يشعر بهم أحد.
يتنادون فيما بينهم {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} اخرجوا إلى جنتكم صباحًا مبكرين {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} إن كنتم تريدون اجتناء الثمر، فخرجوا جميعًا تصاحبهم نواياهم السيئة، ومكرهم الذي مكروا!!.
{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} وبعضهم يحدث بعضًا في السر والخفاء حتى لا يسمع بهم أحد، انطلقوا فرحين مسرورين مستبشرين يوصي بعضهم بعضًا {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ}!.
الآن سنجتني ثمرة جنتنا ونستحوذ عليها!! الآن لن يشاركنا فيها أحد!!
{وَغَدَوْا} انطلقوا في الصباح الباكر {عَلَى حَرْدٍ} على جد وحرص وتعمد لحرمان الفقراء والمساكين.
لقد غدوا والغيظ يملؤهم على هؤلاء المساكين الذين يخشون أن يشركونهم الثمرة.
{قَادِرِينَ} قادرون بزعمهم وفي ظنهم على اجتناء الثمرة، ظانين أنه لن يحول بينهم وبين مرادهم حائل.
{فَلَمَّا رَأَوْهَا} لما سلكوا الطريق، طريق جنتهم، ووجدوها قد حل بها ما حل، ونزل بها ما نزل، ظنوا أنهم أخطأوا الطريق، وأن هذه الجنة ليست بجنتهم.
{قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} إنا لتائهون لقد أخطأنا الطريق، ولكنهم أعادوا النظر وأعادوا.. فإذا بالطريق هو الطريق، وإذا بالجنة هي جنتهم وقد احترقت، وقد حل بها ما حل، فاستفاقوا فقالوا:

{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}

فالجنة جنتنا ولكنا حرمنا لعزمنا على حرمان الفقراء المساكين، فالجزاء من جنس العمل.
ومحتمل أيضًا أن يكون بعضهم قد قال: {إِنَّا لَضَالُّونَ} فأجابه آخر بقوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}.
فحينئذ {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} تكلم أعقلهم وأعدلهم وأفضلهم وأرجحهم عقلاً، تكلم كلامًا يرشدهم به إلى ما هو أنفع، ويذكرهم بما هو أجدى، فقال مذكرًا: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} ألم أذكركم من قبل بقولي لكم: {لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} هلا قلتم إن شاء الله، هلا نزهتم الله عز وجل عن الظلم الذي ظننتموه به لما فرض للمساكين حقًا، إن الله عز وجل ما ظلمكم ولا بخسكم حقكم لما أمركم بإخراج حق المساكين، فالرزق رزقه والعطاء عطاؤه، والعباد عباده، يأمر من يشاء بما يشاء!.
هلا نزهتم ربكم عما لا يليق به، ومن ذلك ظنكم أنكم تقدرون على جني ثمرتكم وتستطيعون ذلك بمعزل عن إرادة ربكم؟!!
بمثل هذا ذكرهم أوسطهم وأعقلهم!.
فحينئذ امتثلوا الأمر فـ {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي تنزيهًا لربنا عن الظلم، فربنا ما ظلمنا لما أمرنا بإخراج حق الفقراء وحق المساكين، بل نحن الذين ظلمنا أنفسنا ببخلنا، وظلمنا الفقراء والمساكين بمنعهم حقهم.
ودائمًا عند الجد وعند العقاب يتنصل كل صاحب من صاحبه، ويفر كل خليل من خليله، ويلوم كل صديق صديقه، إلا أهل التقى والإحسان والإيمان.
فلما كان من أمر القوم ما كان، ولما آل أمر جنتهم إلى ما آل إليه من البوار والخسار {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} كل يلقي بالتهمة واللوم على الآخر، كل يعاتب الآخر.
ولكن الجميع اجتمعوا على قول قالوه {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} كأنهم نادوا الويل، كأنهم تعال يا ويلنا، فهذا وقت حضورك وهذا وقت حلولك.
ووجه آخر، أن المعنى يا شدة ما حل بنا ويا عِظَم مصابنا {إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} فاعترفوا بعد نزول العذاب، واعترفوا بعد حلول النقم بقولهم: {إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} متجاوزين الحد في الظلم، لما عقدنا العزم على ما عقدناه من حرمان الفقراء والمساكين.
ولكنهم اتجهوا إلى الله وسألوه ورغبوا فيما عنده بعد ندمهم على صنيعهم، فقالوا: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} أي خيرًا من تلك الجنة التي أبيدت بسبب ذنوبنا {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} أي لاجئون إليه راغبون فيما عنده طامعون في فضله {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أي هكذا يعاقب الله عز وجل من بخل واستغنى!.
هكذا يعاقب الله عز وجل من حاد عن طريقه.
هكذا يعاقب الله عز وجل في الحياة الدنيا من أضمر الشر ونوى السوء، وبيت المكروه والمحرم!!
وليست هذه هي العقوبة وحدها، ليست هذه العقوبة فحسب بل:

{وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}

فلو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن عقوبة الله عز وجل لأهل الشرك به أكبر من عقوبته لهم في الدنيا؛ لارتدعوا وتابوا وأنابوا، ولكنهم بذلك جهال لا يعلمون.
بهذا ختمت الآيات المتعلقة بهؤلاء القوم وبيان ما حل بهم وإلى ماذا آل أمرهم!!
* وبعدُ فقَد يطرح سؤال ألا وهو:
هل أصحاب الجنة هؤلاء من أهل النار أم من أهل الجنة؟
فجوابه: الله أعلم بهم وبمآلهم، والظاهر: أنهم تابوا إذ قالوا: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} والتوبة تجب ما قبلها وتقبل من العبد ما لم يغرغر.
وهذا سياق الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى للقصة نورده بطوله ملتزمين التعقيب على الأحاديث المرفوعة فقط وبيان ما فيها، أما الآثار غير المرفوعة إلى رسول الله r فلا نتعقبها لكثرتها وتباينها.
قال ابن كثير رحمه الله:
هذا مثل ضربه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعمة الجسيمة وهو بعثة محمد r إليهم، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة ولهذا قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} أي اختبرناهم {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أي حلفوا فيما بينهم ليجذن ثمرها ليلاً لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} أي فيما حلفوا به؛ ولهذا حنثهم الله في أيمانهم فقال تعالى {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} أي أصابتها آفة سماوية.
[(قلت): لو ترك ابن كثير رحمه الله السياق على ما هو عليه فطاف {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} لكان خيرا]
{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قال ابن عباس: أي كالليل الأسود، وقال الثوري والسدي: مثل الزرع إذا حصد أي هشيمًا يبسًا.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن أحمد بن الصباح أنبأنا بشر بن زاذان عن عمر بن صبيح عن ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن سابط عن ابن مسعود قال: قال رسول الله r: «إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقًا قد كان هيئ له» ثم تلا رسول الله r: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قد حرموا خير جنتهم بذنبهم.
[(قال مصطفى): هذا الحديث ضعيف بهذا السند فشيخ ابن أبي حاتم لمن يسمَّ، وعمر بن صبيح الذي يبدو لي أنه عمر بن صبح وهو متروك، وليث بن أبي سليم ضعيف مختلط]
ثم قال ابن كثير رحمه الله:
{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} أي: لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجَذَاذ أي القطع {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} أي تريدون الصرام.
قال مجاهد: كان حرثهم عنبًا {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} أي يتناجون فيما بينهم بحيث لا يُسمعون أحدًا كلامهم، ثم فسر الله سبحانه وتعالى عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به فقال تعالى: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} أي يقول بعضهم لبعض: لا تمكنوا اليوم فقيرًا يدخلها عليكم قال الله تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} أي قوة وشدة، وقال مجاهد: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} أي جد، وقال عكرمة: على غيظ، وقال: الشعبي {عَلَى حَرْدٍ} على المساكين، وقال السدي {عَلَى حَرْدٍ} أي كان اسم قريتهم حرد فأبعد السدي في قوله هذا.
{قَادِرِينَ} أي عليها فيما يزعمون ويرومون {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أي فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها وهي الحالة التي قال الله عز وجل قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء مدلهمة لا ينتفع بشيء منها فاعتقدوا أنهم قد أخطاوا الطريق ولهذا قالوا {إِنَّا لَضَالُّونَ} أي قد سلكنا إليها غير الطريق فتهنا عنها قاله ابن عباس وغيره، ثم رجعوا عما كانوا فيه وتيقنوا أنها هي فقالوا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي بل هي هذه ولكن نحن لا حظّ لنا ولا نصيب {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد ابن كعب والربيع بن أنس والضحاك وقتادة: أي أعدلهم وخيرهم {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} قال مجاهد والسدي وابن جريج {لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} أي لولا تستثنون، قال السدي: وكان استثناؤهم في ذلك الزمن تسبيحًا، وقال ابن جرير: هو قول القائل إن شاء الله، وقيل معناه {قَالَ أَوْسَطُهُمْأَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}؟ أي هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أتوا بالطاعة حيث لا تنفع وندموا واعترفوا حيث لا تنجع ولهذا قالوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} أي يلوم بعضهم بعضًا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ.
فما كان جواب بعضهم لبعض إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أي اعتدينا وبغينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} قيل: رغبوا في بذلها لهم في الدنيا، وقيل: احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة والله أعلم.
ثم قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن، قال سعيد بن جبير: كانوا من قرية يقال لها ضروان على ستة أميال من صنعاء، وقيل: كانوا من أهل الحبشة، وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة فكان ما يستغل منها يرد فيها ما تحتاج إليه ويدخر لعياله قوت سنتهم ويتصدق بالفاضل فلما مات وورثه بنوه قالوا لقد كان أبونا أحمق إذ كان يصرف من هذه الأشياء للفقراء ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأس المال والربح والصدقة فلم يبق لهم شيء، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أي هكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ومنع حق المسكين والفقير وذوي الحاجات وبدل نعمة الله كفرًا {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم وعذاب الآخرة أشق.
وقد ورد في حديث رواه الحافظ البيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده أن رسول الله r نهى عن الجذاذ بالليل والحصاد بالليل.
[قلت (القائل مصطفى): وهذا الإسناد فيه كلام فإن كان الجد جد جعفر هو علي بن الحسين فيكون الإسناد مرسلاً، وإن كان الجد جد محمد أي الحسين بن علي ففي سماع محمد من الحسين كلام، والله أعلم]
* * *
بعض المستفاد من هذه القصة
* اتضح لنا من قصة أصحاب الجنة أمور ننوه على بعضها ونذكر به ونجليه، لعل متذكرًا أن يتذكر ومعتبرًا أن يعتبر، ومتدبرًا أن يتدبر.
* اتضح لنا من هذه القصة أن المرء عليه أن يحسن النوايا ولا يضمر الشر فالرب سبحانه وتعالى مطلع على ما في القلوب ويثيب على حسن النوايا، ويعاقب على سيئها.
* أنبأت هذه القصة المباركة الكريمة عن خلق ينبغي أن يتقى وأن يهجر، وأن يبتعد عنه المرء ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إنه خلق مذموم، وداء متعوذ منه.
خلق من أخلاق أهل النار، وسبب من أسباب ولوجها والعياذ بالله.
خلق يتسبب في نفاق القلوب والتيسير للعسرى، ولعمل أهل الشقاوة عياذًا بالله!
* خلق تدعو الملائكة على أهله كل صباح، فضلاً عما يجلبه لأهله من اللوم والحسرة في الدنيا، فضلاً عن أليم العقاب في الآخرة.
إنه خلق سيئٌ، وداءٌ ومن شرِّ الآدواء:
ألا وهو داء البخل
وصدق رسول الله r إذ قال:
«وأي داء أدوأ من البخل؟!!».
قال ذلك النبي r لبني سلمة، فعند البخاري في الأدب المفرد([7])، بسند صحيح عن جابر t قال: قال رسول الله r: «من سيدكم يا بني سلمة؟» قلنا: جد بن قيس على أنا نبخله. قال: «وأي داء أدوأ من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح».
إن هذا الخلق الذميم قد تعوذ منه النبي r بل وأكثر من التعوذات.
* ففي الصحيحين([8]) من حديث أنس بن مالك t قال: كان رسول الله r يتعوذ يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من البخل».
* وفي صحيح مسلم([9]) من حديث زيد بن أرقم قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله r يقول كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، وعذاب القبر. اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها».
* بل وقد كان النبي r يتعوذ من هذا الخلق دبر كل صلاة:
أخرج الترمذي([10]) بسند صحيح من طريق مصعب ابن سعد وعمرو بن ميمون قالا: كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المكتب الغلمان ويقول: إن رسول الله r كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: «اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر».
* وقد كان النبي r يبتعد غاية الابتعاد عن هذا الخلق الذميم ولا يحب أن يوصف به بحال من الأحوال.
فعند البخاري([11]) من طريق محمد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم أنه بينما هو يسير مع رسول الله r ومعه الناس مقفلة([12]) من حنين فعلقت([13]) الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة([14]) فخطفت رداءه، فوقف النبي r فقال: «أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العضاه نعمًا لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوبًا ولا جبانًا».
* وعند مسلم([15]) من حديث عمر بن الخطاب t قال: قسم رسول الله r قسمًا فقلت: والله يا رسول الله لغير هؤلاء كان أحق به منهم، قال: «إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني فلست بباخل».
*أما البخل المصحوب بنقض العهود وإخلاف الوعود مع الله عز وجل فمصيبته عظمى، وبليته كبرى!!
إن ذلك يتسبب في ولوج النفاق إلى القلوب، وهذا نفاق لا يزول إلى أن يلقى العبد ربه يوم القيامة!
قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75-77].
قال الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره:
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم {مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} يقول أعطى الله عهدًا {لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} يقول: لئن أعطانا الله من فضله ورزقنا مالاً ووسع علينا من عنده {لَنَصَّدَّقَنَّ} يقول: لنخرجن الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربنا {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} يقول: ولنعملن فيها بعمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم به وإنفاقه في سبيل الله.
يقول الله تبارك وتعالى: فرزقهم الله وآتاهم من فضله {فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} بفضل الله الذي آتاهم فلم يصدقوا منه، ولم يصلوا منه قرابة، ولم ينفقوا منه في حق الله {وَتَوَلَّوْا} يقول وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عنه {فَأَعْقَبَهُمْ} الله {نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} ببخلهم بحق الله الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله، وإخلافهم الوعد الذي وعدوا الله، ونقضهم عهده في قلوبهم {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} من الصدقة والنفقة في سبيله {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} في قيلهم وحرمهم التوبة منه لأنه جل ثناؤه اشترط في نفاقهم أنه أعقبهموه إلى يوم يلقونه وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا. انتهى.
* وفضلاً عن ذلك فإن البخلاء لا يحبهم الله ولا يكرمهم، ولا يرضى صنيعهم.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 36، 37].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد: 23، 24].
فالله لا يحب البخلاء، ولكنه يحب كل مؤمن كريم، محسن بار متصدق ورحيم!!
* أما وقد ذكرنا أن الملائكة تدعو على البخيل الممسك:
فلما في الصحيحين([16]) من حديث أبي هريرة t أن النبي r قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا».
* إن هذا البخل يدمر التركات ويذهب بالثروات فالملائكة تدعو على البخلاء، والرب سبحانه وتعالى لا يحبهم.
* إن أصحاب الجنة حل بجنتهم ما حل، ومن أسباب ذلك بخلهم.
* وها هما اثنان من بني إسرائيل بخلوا بما آتاهم الله من فضله فصيرهما الله إلى ما كانا فيه من فقر وقلة ومهانة ومرض.
أخرج البخاري ومسلم([17]) من حديث أبي هريرة t أنه سمع النبي r يقول: «إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكًا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل (أو قال: البقر، شك إسحاق) إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر: البقر، قال: فأعطي ناقة عشراء([18]) فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب عنه. وأعطي شعرًا حسنًا قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. فأعطي بقرة حاملاً؛ فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم فأعطي شاة والدًا([19]) فأنتج هذان وولد هذا. قال: فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال([20]) في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرًا أتبلغ عليه في سفري. فقال: الحقوق كثيرة.. فقال له: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرًا فأعطاك الله؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر([21]) فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت.
قال: وأتى الأقرع في صورته فقال له: مثل ما قال لهذا. ورد عليه مثل ما رد على هذا. فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت.
قال: وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري؛ فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم شيئًا أخذته لله، فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك».
* إن الله عز وجل سائل البخلاء عن بخلهم:
أخرج مسلم في صحيحه([22]) من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟!! قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟!! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟!! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي».
* إن البخيل ملوم من الخلق والخالق، قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29].
* أما البخيل المنان فهو من الثلاثة الذين يبغضهم الله عز وجل:
فعند الإمام أحمد([23]) من حديث أبي ذر t قال رسول الله r: «... وثلاثة يبغضهم الله عز وجل..» فذكر الحديث وفيه: «والبخيل المنان».
* وشر ما في رجل شح هالع وجبن خالع كما قد أخبر رسول الله r([24]).
* وقد أهلك الشح أقوامًا ممن كانوا قبلنا.
أخرج مسلم في صحيحه([25]) من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله r قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».
* أما من بخل بالزكوات الواجبة فهذا مصيره الجحيم والعياذ بالله.
أخرج مسلم في صحيحه([26]) من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: سمعت رسول الله r يقول: «ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر من كانت قط وقعد لها بقاع قرقر([27]) تستن عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ليس فيها جماء ولا منكسر قرنها، ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع يتبعه فاتحًا فاه فإذا أتاه فر منه فيناديه: خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني، فإذا رأى أن لا بد منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل».
* وعند البخاري([28]) من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثّل([29]) له يوم القيامة شجاعًا([30]) أقرع له زبيبتان يطوقه([31]) يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه – ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك» ثم تلا {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية [آل عمران: 180].
* إن هؤلاء البخلاء سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة، سيكون كنز أحدهم شجاعًا أقرع يحيط برقابهم.
قال الله تبارك وتعالى:
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].
* قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تأويل هذه الآية (7/431):
ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال فلا يخرجون منه حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات هو خيرًا لهم عند الله يوم القيامة بل هو شر لهم عنده في الآخرة.
* وقال ابن كثير رحمه الله (1/432):
ألا لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه، وربما كان في دنياه ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة فقال: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
وقال البغوي رحمه الله (1/378):
ولا يحسبن الباخلون البخل خيرًا لهم {بَلْ هُوَ} يعني البخل {شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ} أي سوف يطوقون {مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني يجعل ما منعه من الزكاة حية تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فوق إلى قدمه، هذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي.
* ومما استفدناه من القصة أيضًا قول: إن شاء الله عند إرادة عمل من الأعمال، فأصحاب الجنة لما أضمروا الشر وتركوا قول إن شاء الله([32])، حل بجنتهم ما حل.
هذا، وقد قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24].
* ثم يبين الله سبحانه وتعالى أن هذا الذي قد أصاب أصحاب الجنة، وإن كان عذابًا مؤلمًا في الدنيا قد يؤخذ بمثله كل ظالم في الدنيا.
كما قد قال تعالى في شأن ما أصيب به قوم لوط من أحجار {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] أي أن إرسال مثلها ليس بعزيز علينا ولا ببعيد عن الظالمين، ولكن ومع شدة هذا العذاب الدنيوي {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، فهذا المذكور من العذاب في الدنيا لا يقارن، ولا يكاد يقارن بعذاب الآخرة.
ففي الصحيح، واللفظ لمسلم([33]) من حديث أنس ابن مالك قال: قال رسول الله r: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة([34]) ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط».
* وفيها من الفقه أيضًا كراهية إخفاء الحصاد وإخفاء الحلب أيضًا.
وفي الصحيح([35]) من حديث أبي هريرة t قال: قال النبي r: «تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط فيها حقها تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، - قال: ومن حقها أن تحلب على الماء([36]) – قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد بلغت، ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول: يا محمد، فأقول لا أملك لك شيئًا قد بلغت».
* ومن الأحكام الفقهية المأخوذة من القصة، حكم الاستثناء في اليمين:
ومفاد ذلك أن الشخص إذا أقسم وأتبع القسم يقول: «إن شاء الله» لم يحنث في يمينه، أي إذا لم يمض الشيء الذي أقسم على فعله فلا كفارة عليه.
وقد أخرج البخاري ومسلم([37]) من حديث أبي هريرة t قال: «قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كل تلد غلامًا يقاتل في سبيل الله. فقال له صاحبه: - قال سفيان: يعني الملك – قل: إن شاء الله، فنسي فطاف بهن فلم تأت امرأة منهن بولد إلا واحدة بشق غلام». فقال أبو هريرة يرويه قال: «لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركا لحاجته» وقال مرة: قال رسول الله r: «لو استثنى»([38]).
* وأخرج الترمذي([39]) بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله r قال: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فقد استثنى فلا حنث عليه».
* وعند البيهقي([40]) بسند حسن عن ابن مسعود t قال: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فقد استثنى».
* ومن الفوائد مشروعية التذكير بأحوال أهل الظلم والنوايا السيئة فإن ذلك يُحَفِّز على العمل الصالح، ويحمل كذلك على اتقاء الظلم، ويحمل على إصلاح النوايا.
* وفي القصة تنبيه على أمر هام، وهو:
تنصل كل صاحب من صاحبه وكل شريك من شريكه – إلا أهل الإيمان – عندما تسوء العاقبة.
وقد دلت على هذا أدلة متعددة، منها:
قول الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27-29].
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [ق: 27].
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37].
وقوله تبارك وتعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
وقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101].
وقوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
وقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166].
وقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67، 68].
وهذا الأخ الأوسط يقول لإخوانه: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}.
وها هم جميعًا يندمون فيقولون: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم: 31].

* * *

الخاتمــة
وبهذا القدر نكتفي سائلين الله سبحانه وتعالى أن يحسن نوايانا وأن يخلص أعمالنا لوجهه الكريم، وأن ينفعنا والمسلمين بما في كتابه من الآي والذكر الحكيم، وبالقصص القرآني الكريم، وكذا بسنة محمد r فصلوات ربي وسلامه على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

* * *
فهرس

مقـدمة5
بين يدي القصة المباركة6
قصة أصحاب الجنة7
بعض المستفاد من هذه القصة23
ألا وهوتداء البخل. 23
البخلاء لا يحبهم الله ولا يكرمهم ولا يرضى صنيعهم.27
الخاتمــة39
فهرس.. 40

* * *
([1])وهذه القرية عند أكثر المفسرين هي مكة.
([2])من العلماء من قال: إنهم كانوا قومًا من أهل اليمن وكان أبوهم صالحًا، وكان يعمل في حديقته بأمر الله ويتقي الله في ثمرته، فلما مات اجتمع أبناؤه وعزموا على حرمان الفقراء والمساكين.
قلت: أما كونهم من أهل اليمن وكون أبيهم كان يعمل فيها بالصلاح؛ فلم أقف له على شيء مسند صحيح من سنة رسول الله r وعلى كل فالعبرة مأخوذة من القصة بلا شك.
([3])أخرجه البخاري (مع الفتح 9/497)، ومسلم (993).
([4])أخرجه مسلم (حديث 1036).
([5])البخاري (حديث 443)، ومسلم (حديث 1911) من حديث أنس t.
([6])البخاري (6169)، ومسلم (حديث 2640).
([7])البخاري في الأدب المفرد (297).
([8])البخاري (مع الفتح 11/179)، ومسلم (مع النووي 17/29).
([9])مسلم (مع النووي 17/41).
([10])الترمذي (3567).
([11])البخاري (مع الفتح 6/35).
([12])مقفله: أي عند رجوعه.
([13])تعلق به الناس يسألونه.
([14])سمرة: أي شجرة.
([15])مسلم (مع النووي 7/146).
([16])البخاري (مع الفتح 3/304)، ومسلم (7/95).
([17])البخاري (حديث 3464)، ومسلم (حديث 2964).
([18])ناقة عشراء: هي الحامل القريبة الولادة.
([19])شاة والدا: أي وضعت ولدها، وهو معها.
([20])انقطعت بي الحبال: هي الأسباب. وقيل: الطرق.
([21])إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر: أي ورثته من آبائي الذين ورثوه من آبائهم، كبيرًا عن كبير، في العز والشرف والثروة.
([22])مسلم (مع النووي 16/125).
([23])أحمد في المسند (5/176) وسنده صحيح لشواهده.
([24])أخرجه أحمد في المسند (2/302) من حديث أبي هريرة t بسند صحيح.
والشح: البخل مع حرص.
والهالع: الذي يجزع فيه العبد ويحزن، كما يقال: يوم عاصف.
([25])مسلم (مع النووي 16/134).
([26])مسلم (مع النووي 7/70).
([27])هو: المكان المستوي من الأرض، الواسع.
([28])البخاري (مع الفتح 3/268).
([29])مثل له: أي صور له.
([30])الشجاع: الحية الذكر.
([31])أي يصير له الثعبان طوقًا.
([32])وهذا كما بينا أحد الوجوه في تفسير قول الله تعالى: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ}.
([33])مسلم (حديث 2807).
([34])يصبغ صبغة أي: يغمس غمسةً.
([35])البخاري (مع الفتح 3/267).
([36])وذلك حتى يشهدها الفقراء والمساكين فيعطون منها، فمن ثم يبارك لأصحابها، ويواسى أهل الفقر والمسكنة كذلك.
([37])البخاري (حديث 6720)، ومسلم (مع النووي 11/121).
([38])قال النووي في شرح مسلم (11/118، 119):
ذكر في الباب حديث سليمان بن داود u، وفيه فوائد منها: أنه يستحب للإنسان إذا قال: سأفعل كذا، أن يقول: إن شاء الله تعالى، لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.
ومنها: أنه إذا حلف وقال متصلاً بيمينه: إن شاء الله تعالى، لم يحنث بفعله المحلوف عليه، وأن الاستثناء يمنع انعقاد اليمين لقول النبي r في هذا الحديث: «لو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان دركًا لحاجته...». انتهى.
([39])أخرجه الترمذي (1531) وقد روي موقوفًا على عبد الله بن عمر وصحح بعض العلماء الوجهين، وجه الرفع ووجه الوقف، والله أعلم.
([40])البيهقي في السنن الكبرى (10/46).