الموضوع: شجرة الصفصاف
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم September 3, 2009, 05:13 PM
 
Lightbulb شجرة الصفصاف


كنا بعد أن نعود من المدرسة, نبدل ملابسنا ونتناول وجبة الغداء علي عجل, ونذهب أنا وأخي, الذي كان يكبرني بعامين فقط, إلي "الغيط" ونحمل معنا طعام الغداء لأبي, وكنا نقطع المسافة من المنزل الي الغيط سيرا علي الاقدام, وكانت تلك الرحلة بالنسبة لي ممتعة الي درجة لا يمكن وصفها, حيث كان الطريق من منزلنا الي الغيط طريقا ترابيا مرتفعا يشبة الجبل في علوه وشموخة, وهذا الطريق ليس طريقا طبيعيا ولكنه تكون علي مر السنين نتيجة لحفر وتنظيف الترعة التي تجاوره مباشرة , حيث كانت "الكراكات" تقوم بتنظيف الترعة وتوسعتها كل عام,
و كانت تلقي بالطين الذي كانت تستخرجه من الترعة خلفها بطول الترعة, وبمرور السنين تكون هذا الجبل الترابي, وكنت شاهدا علي تكون جزء من هذا الجبل, حين كنت التف انا وأقراني من أطفال القرية حول "الكراكة" وهي تقوم بعملية الحفر هذه, وكنا في قمة الفرح والسعادة وكأننا نلتف حول ساحر وهو يعرض اعماله السحرية ونحن مبهورون بما يقوم به,وكنا نعرف معاد قدوم الكراكة الي قريتنا, حيث كانت تأتي حين كان "يربط الوابور" أي يتم غلق المياه عن أراضي القرية لمدة خمسة عشرة يوما في العام, وكانت تستغل تلك الفترة في تنظيف الترع والمصارف, وكانت بالنسبة لنا نحن معشر الاطفال هي مولد الفرحة والسعادة واللهو والمرح حول تلك الكراكة, وكانت بالنسبة لرجال القرية هي الموسم الذي يعم فيه الخير علي كل القرية, وذلك حين "يربط الوابور" كانت تقل المياة في الترع والمصارف حتي تكاد تصل الي درجة جفافها, حينئذ تكشف تلك الترع عن خباياها وكنوزها من الاسماك, ويتباري رجال القرية في صيد الاسماك بغزارة, وفي تلك الايام القليلة كان لا يخلو منزل من منازل القرية من صوت شواء الاسماك وروائحه النفاذة, وتتساوي الرؤوس فلا فرق بي غني وفقير فالنار توقد في كل بيت.
وحين كان أخي الاكبر مغرم بصعود الجبل وهو يمتطي "صهو الحمار" وكأنه فارس من فرسان العصور الوسطي,كنت اهوي صعود الجبل مشيا علي الاقدام, فقد كنت احس بنشوة غريبة وانا اعلو ظهر هذا الجبل,وكنت اري قريتي بكاملها من فوق الجبل ببيوتها الجميلة ونسائها اللواتي كن يقفن فوق اسطح المنازل, كما كنت اهوي الجلوس فوق اعلي قمة فوق هذا الجبل الترابي اشاهد العربات التي تجري علي الطريق السريع, علي الجهه المقابلة للقرية, فكنت اعشق منظر العربات وهي تجري بسرعة, وكانت هذا العادة في الغالب تكلفني علقة سخنة من والدي, وذلك لانني كنت اتاخر في الوصول الي الغيط,خاصة وان أخي كان يصل قبلي بزمن .
ورغم انني كنت اعرف مغبة هذه الرحلة فوق ظهر الجبل , الا انني لم افكر يوما في التخلي عنها, وحين كنت اصل الي الغيط اجد ابقي راقدا علي ظهره متوسدا عصاه وشاله, فيبادرني قائلا" ما لسة بدري.. ما كنت قعدتلك شوية في الطريق!!ثم تبدأ وقائع العلقة السخنة, وكنا انا واخي بعد ان ينجز كل منا ما اوكل الية من عمل في الغيط, ويأوي أبي الي "التاية" -وهي غرفة صغيرة من الطين ومغطاة بأفرع الصفصاف والقش,,- ليأخذ قيلولته- نجري الي شجرة الصفصاف المزروعة علي راس الغيط وهي اكبر اشجار الصفصاف التي كانت موجودة علي امتداد الغيط في منظر بديع. فكنا نربط حبل بأحد فروعها وفي اسفلة نضع قطعة من الخشب ونصنع "طلطيحة" أي "المرجيحة" ونعتلي المرجيحة بالتناوب, ونلهو بها في سعادة بالغة, وبعد أن ننتهي من لعبنا بالطلطيحة, كان اخي يصعد شجرة الصفصاف ويقطع منها بعض الافرع الصغيرة, لنصنع منها سيوفا , ثم نتبارز سويا, وبعد ان يدركنا التعب كنا ننام في ظلها, مستمتعين به, وبالهواء النقي الذي يداعب فروعها, التي كانت بدورها تداعب وجوهنا ونحن نغط في نوم عميق, حتي فيق علي ايادي ابي وهي تهز أجسادنا الصغير, لنستيقظ من نومنا فقد حان موعد اذان العصر, وكنا نتوضأ من جدول المياة"او الفحل" كما كان يطلق علية, وهو علي مقربة من شجرة الصفصاف, واسفل الشجرة كان أبي يقيم الصلاة ونصلي مقتدين به, وبعد أن نفرغ من الصلاة كان أبي يحب أن يروي لنا قصصاً , قد تكون حقيقة حدثت له بالفعل أيام صباه,أو حدثت لأشخاص اخرين,أو السيرة الهلالية,التي كان مغرما بها,وقبل غروب الشمس بقليل كنا نعد حزما من البرسيم لناخذها معنا الي البيت, وبعد ان ننتهي من ذلك كنا نفك البهائم من مربطهم علي رأس الغيط. ونصطحبهم سائرين في تباطؤ عائدين الي البيت.
وبعد مرور عدة سنوات إمتلأت حياتنا فيها بالذكريات الجميلة مع الجبل الترابي وشجرة الصفصاف,فوجئت وأنا في طريقي الي الغيط ذات يوم بالعديد من الجرافات, واللوادر تنهب تراب الجبل نهبا, وتقوم بتحميله علي عربات ضخمة, وقفت متسمرافي مكاني وانا اشاهد هذا المنظر المؤلم,كان الالم يعتصرني عصرا, وهم يقتلعون الجبل الترابي, ويحملونه علي العربات الضخمة, لا يعرفون أنهم وهم يفعلون ذلك يقتطعون ذكرياتي ومواطن صباي, ومصادر بهجتي ومتعتي, يحملون تراب الجبل الذي يحمل ابتساماتي, واثار اقدامي الصغيرة وانا أجري فوق صدره,
وما زادني ألما انهم اقتلعوا في طريقهم اشجار الصفصاف التي كانت مصطفة في شكل جميل علي امتداد الغيط, اقتلعوا شجرة الصفصاف الام, تلك الشجرة التي كانت ملعب صباي, ولهوي البرئ, وحطموا لعبي الجميلة التي كنت أخبئها داخلها بعد الانتهاء من اللعب.وتسائلت لماذا؟ لماذا يفعلون هذا بجبلي, بشجرتي؟ وقالوا انهم يريدون ان يقيموا طريقا اسفلتيا يربط القرية بالبندر فكان لابد من ازالة الجبل واشجار الصفصاف.
يا الهي كيف لنا ان نزيل الحلم والذكريات وملاعب الصبا لنزرع مكانهم اسفلتا اصم ؟!!!!!
__________________
رد مع اقتباس